رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الحادي والخمسون
فضلاً، متنسوش الvote.
"كان المفروض ده يبقى الفصل الأخير، بس حسيته طويل في الأول فاضطريت أضيف فصل جديد، والاتنين دلوقتي متاحين للقراءة."
***
فضلاً، متنسوش الvote.
متنسوش تتابعوني على الانستا واليوتيوب والتيكتوك.
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
YouTube: alaatareks
***
[رسالة واردة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: بيسان
إلى صديقتي في المراسلة، سالي.
عزيزتي سالي،
كيف حالك؟
أنا بيسان، لقد مضت شهور طويلة دون أن أتواصل معك. ما زالت الحرب قائمة علينا، معاناة كبيرة يعانيها شعبنا في لحظة. وقد طالني القصف مع عائلتي كاملة. فقدت أبي وأمي وأربعة من إخوتي، ولم يتبقَ سواي أنا وأختي الصغيرة. بُترت ساقي اليمنى، وعشت شهورًا طويلة من المعاناة مع هذا التحول المفاجئ في حياتي.
لطالما أردت أن أراسلك، لكنني كنت غارقة في اليأس وقلة الحيلة. أما الآن، فأنا أحاول التأقلم من جديد. أردت أن أخبرك أنني خرجت من القطاع من أجل إجراء عملية جراحية في ساقي. فكرت أن أراك بما أننا على الأرض ذاتها، لكنني تراجعت...
أريد أن ألقاكِ وأنا في كامل صحتي. لا أريدك أن تريني بهذا الشكل الذي قد يثير الشفقة.
سأسافر قريبًا إلى ألمانيا لإجراء العملية، وبعدها سأقرر أين سأستقر. أريد أن أدرس الصحافة، يا سالي... أريد أن أفعل شيئًا لأجل وطني. سأعود لأكون صوته، هذا وعد.
أخبريني، كيف حالك؟
كنت أخشى أن تنسيني كما نسي الجميع حكايتنا ومعاناتنا. لكن عندما رأيت رسائلك الكثيرة، بكيت من الامتنان. أنتِ حقًا إنسانة طيبة ولطيفة القلب.
أتمنى أن تكوني بخير دائمًا، وأشكرك من قلبي على سؤالك واهتمامك المستمر.
راسليني عندما تقرئين رسالتي، في أقرب وقت ممكن.
محبتك دائمًا،
بيسان].
***
غابت سالي عن الوعي في الأيام التالية، فلم يبقَ في ذاكرتها سوى مشهد الجنازة.. ثم الفراغ. كان المرض قد استشرى في جسدها بفعل الإهمال والإرهاق النفسي، فاضطروا إلى نقلها إلى المستشفى حيث رقدت لأيام، لا تدري ما حولها. كانت زينة، شقيقتها، لا تفارقها لحظة، تبكي بحرقة؛ على والدتهما التي رحلت، وعلى أختها التي لا تزال تصارع الألم تحت أنفاس الأكسجين الصناعي.
ساد الغرفة صمت ثقيل لا يكسره سوى صوت جهاز التنفس. دخل خالد بخطوات هادئة، يرتدي كمامته ويتبع كل احتياطاته حرصاً من العدوى، لكن الخوف الأكبر كان من أن يراها بهذا الضعف.
سحب كرسيًا وجلس بجانبها، يراقب وجهها الشاحب. أغمض عينيه لحظة وهو يتذكر أمه أنيسة في أيامها الأخيرة، وكيف كان يحدق في الفقد كل يوم.. ثم فتح عينيه مجددًا ليواجه واقعه: سالي، تلك القوية، مستلقية الآن في وهن لا يشبهها.
كان الأمر مفاجئًا، انهيارها على سطح المستشفى بعد وفاة والدتها بدا وكأنه سقوط من هاوية بلا قاع. حتى في العزاء، لم تكن هناك. كانت جسديًا موجودة، لكن روحها بعيدة، منزوعة عن العالم، تجلس في أحد الأركان، غارقة في صمتٍ ثقيل، تحدّق في الفراغ بعينين غائمتين، لا حياة فيهما. لم تجب على أحد، كانت فقط تومئ برأسها وهي تستقبل العزاء.
نظر إليها مطوّلًا، يتأمل وجهها الشاحب المائل إلى البياض، وجسدها الهزيل الذي بدا كأنّه يذوب بصمت تحت وطأة المرض. اقترب قليلًا، ثم همس بصوتٍ يكاد يختنق بالكلمات:
"أخبريني.. لماذا أنتِ دائمًا هكذا؟ تبتعدين فجأة، دون إنذار."
صمت لحظة، وصوته يرتجف، ثم أردف:
"تبتعدين بقسوة، دون أن تلتفتي إلى الخلف.. وكأنّ لا أحد هناك."
تذكر تلك اللحظات التي التفتت فيها وابتعدت عنه، خفض عينيه للحظة، ثم عاد يرفعها إليها وقد انعكست فيها مرارة الاعتراف:
"أنا فقط.. كل أملي في هذه الحياة هو أنت. لقد أحببتك يا سالي، بصدق.. دون زيف، دون أقنعة، كما كنتِ تظنين."
مدّ يده ببطء نحو يدها، وأمسك بها برفق أولًا، ثم بقوةٍ يائسة، كأنّه يحاول أن ينقل إليها شيئًا من دفء قلبه، من حياته التي قد ترحل منه إن هي ابتعدت. انحنى قليلًا، وهمس بقربها:
"لا ترحلي... أرجوك، ابقي. لا أعرف كيف سأكمل من دونك."
ابتسم بمرارة، وتابع:
"أتدرين؟ لقد استعدت الأولاد... حكم لي القاضي بعودتهم إلى المنزل. لكنني... أحتاجك بجواري، أحتاجك كي أستطيع أن أكون الأب في هذا المنزل. لا منزل يا سالي بدونك، لا دفء، لا حياة."
ثم صمت برهة، وكأن كل كلمة بعدها كانت سكينًا في قلبه، وأضاف بصوت خافت:
"لكن إن لم ترغبي في رؤيتي مرة أخرى... لا بأس."
رفع يدها النحيلة المرتجفة، قبلها بهدوء، كأنّه يعتذر عن كل شيء لم يُقل، وكل لحظة لم يُعش.
ثم تمتم، وقد التصق صوته بدموعه:
"سأظل بجوارك، لن أفارقك أبدًا... حتى تستيقظي. فقط استيقظي، وسأرحل. لن تريني إلا إذا طلبتِ أنتِ ذلك."
ظلت ساكنة كتمثال، لا صوت ولا رمشة، فقط رعشة خفيفة عبرت جفنيها المغمضين.
ربما كان سيشعر بالراحة لو أنها استيقظت ورفضته، لو صرخت في وجهه، أو أبعدت يده، لكنه الآن يقف عاجزاً أمام السكون الثقيل.
شدّ على يدها مرة أخرى بيئس، وهو يفكر: 'الصمت أكثر قسوة من الرفض، وأكثر ألمًا من الغياب.'
***
خرج خالد من الغرفة بخطوات بطيئة، ليجد والد سالي جالسًا على أحد المقاعد في الممر، متقوقعًا على نفسه، يعقد ذراعيه أمام صدره وعيناه شاردتان في الفراغ.
اقترب خالد بهدوء، وجلس إلى جواره دون أن ينطق. ساد بينهما صمت ثقيل، قبل أن يقطعه صوت الرجل الواهن:
"لم تستيقظ؟"
أجاب خالد بصوت خفيض:
"لا.. لكن دكتور نوفل يرى أن الأفضل أن تظل نائمة، على الأقل الآن."
أومأ السيد إيهاب برأسه، ثم سأل دون أن يلتفت:
"وحالتها.. كيف هي؟"
تنفس خالد بعمق وقال:
"تتحسن، هذا ما يقوله الطبيب. استيقظت قليلًا اليوم، وتحدث دكتور نوفل معها."
أغمض السيد إيهاب عينيه بتعبٍ ظاهر، ثم فتحهما ببطء وقال بصوت خافت وحزين:
"لم أتوقّع أن ترحل سهام بهذه الطريقة المفاجئة.. الأمر كان حقاً صادماً."
تنهّد بمرارة وهو يحدّق في الأرض، كأن الذكرى أثقلته فجأة، ثم أردف بصوت لا يكاد يُسمع:
"كان صادماً... للبنات أيضاً."
صمت لبرهة، كأنه يحاول العثور على كلمات تليق بما يشعر به، ثم همس:
"لا أعرف كيف أتصرف معهن الآن..."
بدت كلماته كأنها استغاثة مبطّنة، لا يطلب بها رأيًا بقدر ما يقرّ بعجزه، بانهياره المتأخر.
شعر خالد بانقباض في صدره، حاول أن يكظم غيظه، أن يضع حدًا لتلك المشاعر التي تضغط عليه منذ زمن. قبض على كفيه في حجره، وأخذ نفسًا عميقًا دون أن ينظر إلى الرجل، ثم أطلقه ببطء، يحاول أن يهدّئ الغليان داخله.
لقد أراد أن يواجهه، أن يصرخ في وجهه: "أين كنت حين كنّ يحتجن إليك؟"، لكنه اكتفى بالصمت... فالوقت ليس للعتاب.
قال السيد إيهاب بصوت منكسر:
"سالي.. تراني أسوأ أب في العالم، أليس كذلك؟"
لم يكد خالد يرد حتى استأنف الرجل حديثه، وهو يبتسم ابتسامة حزينة مشوبة بندم:
"وأظن.. أنها محقة. أنا بالفعل أسوأ إنسان في العالم"
نظر خالد إليه، يحمل في عينيه مزيجًا من الحذر والفضول، كأنما يحاول قراءة ما وراء هذا الوجه المنهك. التقط السيد إيهاب أنفاسه ببطء، ثم قال بنبرة ممتلئة بالأسى، دون أن ينظر إليه:
"إنها تظن أنني لا أحبّها.. أنني أستغلّها. هجرتها هي وأختها. ربما فعلت.. ربما استغللتها بالفعل، وهجرتهم. ولكنني لم أكرهها قط. أنا فقط.. لم أستطع أن أحبهم كما ينبغي."
اتسعت عينا خالد ببطء، ولم ينبس بكلمة. كان وقع الكلمات عليه كصفعة باردة، لم يتوقعها، ولم يستطع ردّها. التفت إليه السيد إيهاب بابتسامة باهتة، كشخص يعترف بجريمة يعرف أنها لا تُغتفر:
"أعلم أنك مصدوم.. لكنها الحقيقة."
ثم أدار وجهه للأمام مجددًا، وعيناه تغرورقان دون أن تنزل منهما دمعة:
"لكن ذلك لا يمنع أنني لا أطيق رؤيتها في هذه الحالة.. إنها ابنتي في نهاية الأمر."
ساد الصمت، لا شيء يُقال أمام صدق بهذا القدر من القسوة.
تنهد خالد بعمق، وقد اشتدّت قبضته على كفّيه حتى ابيضّت مفاصله. حاول أن يُبقي صوته ثابتًا، لكنه خرج مثقلًا بالغضب المكتوم:
"سيدي، لا جدوى من هذا الحديث الآن.. لستُ الشخص الذي ينبغي أن يسمع هذا الكلام، بل بناتك هنّ من يستحقن سماعه، أولئك اللواتي أهملتهنّ لسنين طويلة."
توقّف لحظة، ثم تابع بنبرة أكثر حدة، رغم محاولته التماسك:
"ربما لا أعرف الكثير عن تفاصيل حياتكم... فسالي فتاة كتومة، تحتفظ بأحزانها في الداخل، لكن ما بدا لي واضحًا أنك كنت غائبًا.. مقرًّا بتجاهلك لهن، حتى وإن حاولتَ تبريره الآن."
نظر إليه، ولم يكن في عينيه غضبٌ خالص، بل خليط من الحزن والخذلان. كان يتحدث عن ألمٍ لا يخصه، ولكن يشعر بوجعه في كل مرة ينظر فيها إلى سالي.
"لستُ في مكانك، ولا أملك مبرراتك، مهما كانت... لكن ما أعلمه جيدًا أن الأب يكون مسؤولًا منذ اللحظة التي قرّر فيها أن يُنجب طفلًا. حتى وإن كانت اختياراتك السابقة خاطئة، أو كانت حياتك آنذاك غير مناسبة، فأنت من اختار أن يُحضر هذا الطفل إلى العالم، بإرادة الله وقدره، لكن بإرادتك أنت أيضًا."
توقف للحظة، ونظر إليه بثبات، ثم أردف بنبرة صارمة تخالطها مشاعر عميقة:
"ولذلك... عليك أن تتحمّل المسؤولية حتى النهاية. هذا ما تربّيت عليه، وهذا ما أعيشه الآن."
نظر خالد إلى باب الغرفة، وقد علا وجهه شيء من الجدية الممزوجة بالألم، ثم أشار برأسه نحوه قائلاً:
"ابنتك هناك... في الداخل، تصارع المرض وحدها. ربما، لو كانت السيدة سهام لا تزال على قيد الحياة، لما تركتها لحظة واحدة... كانت ستبقى إلى جوارها حتى تستيقظ، تمسك يدها وتمنحها الأمان."
توقف قليلًا، كأنما يختار كلماته بعناية، ثم تابع بصوت أكثر عمقًا:
"لكنها للأسف... لم تعد هنا. وهذا، يا سيد إيهاب، هو دورك الآن. أنت من يجب أن يكون في مكان السيدة سهام. أظن أن أقل ما يمكن أن تقدّمه لابنتك... أقل اعتذار ممكن، هو أن تظل إلى جوارها في هذه المحنة."
نظر إليه للحظة، بعينين تملؤهما الصراحة الخالية من المجاملة، ثم أعاد بصره إلى الباب وكأنّه يضع أمامه خيارًا لا يقبل التردد.
***
في الغرفة المعقّمة، حيث يمتزج صمت الجدران بصوت الأجهزة، بدأت ترى من حولها كأشباح.. وجوهًا باهتة، أصواتًا بعيدة كأنها تصدر من قاع بئر. وكان هناك شخص.. يجيء إليها دائمًا، يجلس قربها ويتحدث، لكن كلماته تنزلق من ذاكرتها، لا تتشبث بشيء. ورغم كل ذلك الضباب، سُمِع شيء واحد بوضوح.. بكاء زينة.
لم يكن بكاءً عاديًّا، بل اجتاز جدران الغيبوبة واخترقت أعماقها. سالي لم تكن تملك أي رغبة في المقاومة، كانت مستسلمة، هادئة حد الانطفاء.. لكن دموع زينة، صوتها المرتجف، كان النداء الوحيد الذي أيقظ فيها ما تبقّى من حياة.
كانت تحتاجها.. زينة تحتاجها بشدة. لا يمكنها أن ترحل وتتركها وحيدة تمامًا في هذا العالم. لا يمكن.
هناك، وسط العتمة، بدأت تتشبث بخيط صغير من الضوء.. لم تكن مستعدة للرحيل بعد.
"سالي، استيقظي!"
كان الصوت يأتي من بعيد، يطفو فوق سطح وعيها كضوء خافت وسط ضباب كثيف. صوتٌ مألوف، تعرفه جيدًا... حاولت أن تتبعه، أن تميّزه وسط الصمت الثقيل، حتى سطعت الفكرة في ذهنها: 'دكتور نوفل. نعم، إنه هو.'
تردد الاسم داخلها، وأرادت أن تجيبه، أن تفتح عينيها، لكن الجفون بدت ثقيلة، وكأن أثقالاً فوقها. ومع ذلك، بدأت تتحرك ببطء، تتحدى سطوع الضوء الذي اخترق الجفون المغلقة كطعنة.
وأخيرًا، فتحت عينيها، نصف فتحة مرتبكة، تحمي نفسها من قسوة الإضاءة فوق السرير. عندها جاء صوته من جديد، دافئًا هذه المرة، مطمئنًا:
"برافو يا ابنتي... أنتي بخير."
كانت الكلمات حنونة. وبدا وجه دكتور نوفل واضحًا أمامها، مبتسمًا رغم القلق في عينيه. ظل يكرر عباراته المشجعة بصبر أبوي، حتى اتسعت عيناها أكثر، وبدأ الغمام ينقشع.
في الطرف الآخر من الغرفة، كان الطبيب المختص والممرضة يتابعان كل حركة لها، يراقبان تغيرات الأجهزة، دقات القلب، وسرعة التنفس.
أما دكتور نوفل، فجلس بجوارها، قرب رأسها، وبدأ يتحدث إليها بصوت هادئ، متزن، يحمل ما يكفي من الحنان والإصرار ليستعيدها من غيابها.
في البداية كانت أجوبتها شحيحة، مجرد همهمات أو إيماءات بالكاد تُلاحظ، لكن بمرور الوقت، بدأ التواصل يعود. أجفانها ترفّ، شفتيها تتحرك، وعيناها تتبعان مصدر الصوت.
ومع كل لحظة تمر، كانت تعود... ببطء، بثقل، لكن بثبات
***
بعد التأكد من خلو جسدها من الفيروس، تم نقل سالي إلى غرفة أخرى. كانت الشمس تميل إلى الغروب، وأشعتها الذهبية تتسلل بخجل من خلف الستارة البيضاء، تُلقي ظلالًا ناعمة على وجهها الشاحب.
لم تمضِ دقائق على وصولها حتى فُتح الباب فجأة، واندفعت زينة نحوها. لم تقل كلمة، بل ارتمت في حضن أختها، تحتضنها بقوة وكأنها تخشى أن تفلت منها مرة أخرى.
تفاجأت سالي في البداية، بقيت ساكنة لثوانٍ، ثم رفعت يدها المرتجفة لتضم شقيقتها الصغيرة، تلمس ظهرها برفق. تأملتها بعينين مبللتين بالحزن... كانت زينة كل ما تبقى لها من دمها، من ماضيها، من أمها.
همست سالي بصوت خافت مبحوح:
"أنا بخير يا زينة... لا تقلقي."
رفعت زينة وجهها، والدموع تلطخ خديها الشاحبين، وعيونها مكسورة بسبب غياب من تحبهم:
"أنتِ لا تعرفين... كيف مرت عليَّ تلك الأيام بدونك، كنتُ وحيدة يا سالي... وحيدة تمامًا."
عند تلك الكلمات، شعرت سالي بشيء ينكسر في أعماقها. اغرورقت عيناها بالدموع، وغص صوتها وهي تقول:
"لا يا زينة... أنتي لستِ وحيدة. سأظل معك، أعدك بذلك... فقط لا تبكي."
لكن زينة نظرت إليها برجاء، وتمتمت بصوت مختنق:
"ماما رحلت يا سالي وتركتنا... أرجوك، لا تتركيني أنتِ أيضًا."
انكمشت سالي على أختها تحتضنها، وقالت بصوت مرتجف:
"لن أتركك... أبدًا. أبدًا."
احتضنت سالي شقيقتها بكل ما أوتيت من قوة، رغم ضعف جسدها المرتجف بعد الأيام العصيبة التي قضتها في صراعٍ صامتٍ مع المرض.
رغم كل شيء، ما زالت تملك زينة... شقيقتها التي تشاركها ذات الدم، وذات الغصة، وذات الفراغ. ربما لم تعيشا الألم بنفس الشدة، لكنهما ذاقتا من نفس الكأس؛ الوحدة، الحرمان، وفقدان الأمان.
كيف تتركها الآن؟ وقد عرفت جيدًا كيف يمكن للفراغ أن ينهش القلب.
ضمّتها بقوةٍ أكبر، وكأنها تتشبث بها لا بالجسد فقط، بل بالحياة ذاتها، ثم همست في أذنها، بصوت خافتٍ محمّلٍ بالوعد والرجاء:
"لن أتركك أبدًا... سنظل معًا، دائمًا."
ومن بعيد، كان والدهما واقفًا عند عتبة الباب، يتابع المشهد دون أن يتقدم، عيناه غارقتان في ظلال غامضة، يراقب اللحظة بصمتٍ يحمل أكثر مما يقول، كأنّه يعترف في داخله بشيءٍ لم ينجح في حمايته.
***
نظرت سالي إلى والدها بطرف عينيها المتعبتين، تغمرها مشاعر مختلطة من الفضول والحذر.
منذ أن طلب من زينة الخروج لبعض الوقت بحجة رغبته في الحديث معها، لم ينطق بحرف واحد.
كان هذا الصمت مريب، ثقيل، ويضغط على صدرها أكثر من المرض ذاته.
ظلّت تنظر إليه بصمت، تراقب ملامحه التي بدت جامدة، مشوشة. ومرّت ثوانٍ طويلة، خُيّل لها خلالها أنه قد عدل عن الحديث. ثم تنهد الرجل أخيرًا بصوت ثقيل، وقال:
"كيف حالك الآن؟"
نظرت إليه سالي بوجه شاحب يكسوه اللا مبالاة، صوتها خرج خافتًا، جافًا:
"بخير... الحمد لله."
كانت إجابتها تشبه سؤاله، طائرة في الهواء، خالية من الروح.
ردّ عليها بصوت منخفض:
"الحمد لله على سلامتك."
صمت من جديد، قبل أن يرفع عينيه إليها ويتأمل ملامحها الذابلة. ثم تمتم:
"أنا سعيد... لأنك بخير."
لمعت شفتا سالي بابتسامة باهتة مشوبة بسخرية، وقالت بنبرة هادئة:
"شكرًا لك."
استقبل الرجل إجابة سالي الباردة بهدوءٍ غريب، كأنّه كان يتوقعها. وظلّ صامتًا للحظات، وعيناه تائهتان في الأرض، قبل أن ينطق أخيرًا:
"سالي..."
نظرت إليه دون أن تنطق، تنتظر حديثه الذي كانت تتمنى لو ينتهي قبل أن يبدأ. كان الصداع يضغط على رأسها، وثقل حضوره يزيد من ألمها.
قال الرجل بصوت منخفض:
"في البداية... أردت أن أعزيكِ في وفاة والدتك. لم أستطع فعل ذلك."
توقف قليلاً، ثم تابع بصراحة موجعة:
"أو بالأحرى... أنتِ لم تتركي لي فرصة لفعل ذلك. كنتِ طوال الوقت بعيدة، غارقة في عالمك، حتى لحظة فقدانك للوعي. لم أتمكن حتى من أن أقول لك... تعازيّ الصادقة."
شعرت سالي بشيء يغلي بداخلها، غيظٌ مكتوم، لكنها كبته. لم ترغب في فتح بوابات الغضب الآن. اكتفت بالنظر إليه نظرة باردة، جعلته يتردد قليلاً قبل أن يتابع:
"هناك الكثير من الكلام الذي أريد أن أقوله لك، أشياء عالقة منذ زمن... لكني لا أعرف كيف ستتلقينها. لذلك، لا أطلب منك سوى شيء واحد..."
نظر إليها مباشرة، وصوته يزداد جدية ورجاء:
"أن تمنحيني الفرصة لأتحدث. فقط... اسمعيني، يا سالي."
لم تجبه سالي، لكنّها لم تصرف نظرها عنه، وكان صمتها بمثابة إشارة واضحة إلى أنّها تُنصت.
أدرك الرجل ذلك، فتنفّس ببطء، ثم قال بنبرة هادئة حملت شيئًا من التردّد:
"لستُ هنا لأطلب منكِ أن تسامحيني يا سالي، فأنا أعلم تمامًا أنّكِ لن تفعلي. ما أراه في عينيكِ الآن، وما شعرتُ به طيلة تلك السنوات، يؤكّد لي أنّ الغفران بعيد."
سكت لحظة وهو يتأمل وجهها المنهك، كمن يبحث عن منفذ للكلام، ثم أردف:
"لكنّي لا أطلب الغفران، بل أطلب أن أشرح، ليتّضح لكِ ما خفي عنكِ. لعلّ ما سأقوله لن يغيّر شيئًا، ولكن ربما تنجلي الصورة قليلًا، فتفهمين، ولو جزئيًا، ما حدث."
خفض بصره لبرهة، ثم تابع بصوتٍ خافت:
"أنا ووالدتكِ... تزوّجنا عن حب، أو هكذا كنتُ أظن، ظننتُ أن الميل القلبي وحده يكفي ليُقيم بيتًا."
صمت قليلًا، كأنّه يستعيد ذكرى بعيدة، ثم قال:
"لكن حين أغلقنا الباب على أنفسنا، وبدأت الحياة الحقيقية، وجدتني فجأة أمام حقيقة لم أرغب في مواجهتها... لم أرَ نفسي بجوارها. لا أقول هذا تقليلًا من شأنها، فهي كانت طيبة، نقية القلب، ولكنها لم تلمس شيئًا بداخلي."
شدّ على يديه، كمن يحاول تمالك نفسه:
"لم أخنها يومًا، ولم أنظر إلى امرأةٍ غيرها، ولكنّي كنت تعيسًا... تعيسًا إلى حدٍّ قد لا تفهمينه."
"حاولت أن أعيش معها، وحاولت أيضًا أن أحبّها، لكنّ كل محاولة كانت تبوء بالفشل. وكلّما فشلت، كنت أكرهها أكثر... أعلم أنّ هذا قاسٍ، وربما لا يُغتفر، ولكن هذا ما كنت أشعر به حقًا."
تنهّد الرجل بعمق، كأنّه يُخرج من صدره اعترافًا أثقل كاهله لسنين، ثم تابع:
"مع مرور الوقت، بدأت أعاتبها على أبسط الأمور... أكره كل كلمةٍ تنطق بها، كل لمسةٍ منها. لم تكن المشكلة فيها، بل في داخلي... في العجز الذي كنت أحاول إخفاءه."
أكمل متردداً:
"حتى أنتم... لم أبتعد عنكم لأنني لا أحبكم، بل لأنني خفت. خفت أن يتحوّل ذلك النفور الذي كبر داخلي إلى كراهية تمتد إليكم... ولم أكن لأحتمل أن أكرهكم كما كرهت أمكم."
نظر إلى سالي بعينٍ مكسورة، وأضاف:
"وفي النهاية... ابتعدت. لم يكن هروبًا فقط، بل خوفًا... نعم، خفت منكم. خفت أن أراكم فأُجبَر على مواجهة هذا الجزء من حياتي الذي فشلت فيه... فتركته كما هو، دون أن أحاول إصلاحه."
أسند ظهره إلى الكرسي، وحدّق في الفراغ، وصوته يزداد انكسارًا:
"كنت أنام كل ليلة، حتى في أسعد ظروفي، ويعود طيفكم ليطاردني... وجه والدتكم، ضحكاتكم، تلك الذكريات التي ما زالت عالقة في ذهني ككابوسٍ ثقيل... كلّها كانت تضغط على صدري، تخنقني."
"حتى عندما جئتِ إليّ يومًا تطلبين مساعدتي في المصاريف، أنا فقط..."
توقّف الرجل، وكأن الكلمات خانته. ساد الصمت للحظة، ثم تنهد بيأس.
فقالت سالي بسخرية مريرة، وشفتيها تنطقان الجرح أكثر من الكلمات:
"لا تجد المبرر المناسب، أليس كذلك؟"
نظر إليها والدها بدهشة، وكأن طعنًا غير متوقّع باغته، ثم قال مدافعًا بصوت منخفض:
"لا... ليس الأمر كذلك. فقط... لم أكن أقدر على تحمّل مصاريف بيتين. صدّقيني، لم يكن لدي ما يكفي في ذلك الوقت."
توقف لحظة، تجنّب النظر في عينيها، ثم أضاف بنبرة أقرب إلى التبرير منها إلى الاعتراف:
"لاحقًا، نعم... امتلكت المال. هذا صحيح. لكن وقتها كنتم قد كبرتم، وتخرجتم من الجامعة، وأنتِ وجدتِ وظيفة بسرعة..."
تنهّد، وكأنه يفتّش عن مخرجٍ في منتصف حديثه، وقال:
"أتتذكرين ذلك الشاب الذي تقدم لخطبتك؟... كانت تلك محاولتي لتعويضك. كنتُ مستعدًا لتكفّل بكل تجهيزات العرس. أردت أن أرفع من قدرك، من قدرنا جميعًا. والده... كان مديري... كنت أضع كل مدّخراتي معه، كان يستثمر أموالي، أو هكذا أوهمني."
توقف للحظة، وكأن ما سيقوله أثقل من أن يُقال، ثم تابع:
"كنت تائهًا... لا أصدق ما حدث. ووقتها، لم يخطر ببالي أحد سواكِ. أنتِ... سالي، ابنتي الكبرى. الوحيدة التي رأيت صورتها في خيالي وكأنها تناديني. فجئت إليكِ."
تنهد، ومرر يده على وجهه كمن يحاول أن يمحو عجزه وهو يتذكر ما حدث بينهما، ثم أكمل:
"بعد لقائنا ذلك... وأنا أغادر المنزل، سمعت صوتًا يناديني من الخلف. كان خالد. تحدّثنا قليلاً، وبطريقة ما... شعر بورطتي. لم أسأله، لكنه عرض المساعدة. منحني بعض المال حتى أستطيع أن أبدأ من جديد... أبحث عن وظيفة... أعيد الوقوف على قدمي."
نظر إليها بتوتر، وقال بصوتٍ مرتبك:
"صدقيني يا سالي، لم أتعمد يومًا أن أؤذيكِ... وحتى إن فعلت، فوالله لم تكن نيّتي. أنا فقط... لا أريدك أن تظني أنني جرحتك عن قصد. لماذا أفعل ذلك؟!"
ثم سكت، وكأن الكلمات تخونه، أو كأنه ينتظر أن يرى ما إذا كان لأي من هذا معنى عند سالي.
ابتسمت سالي ابتسامة باهتة، مريرة، وهي تُصغي إلى كلماته حتى النهاية. وعندما ساد الصمت، قالت بهدوء يشوبه شيءٌ من الصرامة:
"من الجيّد أنك لا تنتظر مني أيّة مشاعر... هذا يمنحني الحريّة لأتحدث معك بصراحة، كما فعلت أنت."
ثم نظرت إليه نظرة حادة، عيناها لا تحملان ترددًا، وأردفت:
"أنا حقًا لا أفهمك! تقول إنك كرهت ماما رحمها الله؟ لا بأس، تلك مشاعرك لن أناقشك فيها ولو كانت غير مقنعة. لكن نحن؟ نحن أطفال! أطفالك! تقول إنك خفت أن تكرهنا؟ إذًا لماذا لم تحاول أن تحبنا، أن تفصل بين ما تشعر به تجاه ماما وبين مسؤوليتك تجاههنا، لمَ أنجبت؟ بل، لماذا أنجبت طفلتين بدلًا من واحدة؟"
توقفت لحظة، كأنها تمنح كلمتها التالية مساحة لتصفعه، ثم أكملت بنبرة أقسى:
"إن لم تكن لديك غريسة الحب، فأنت وحدك مَن وضع نفسه في هذه المسؤولية. لم يُجبرك أحد حتى أن تُنجبنا. هذه مشكلتك أنت، لا مشكلتنا. لكنني أظن أنك تملك تلك الغريزة، بدليل حرصك على علاج ابنتك الصغيرة، رغم إفلاسك."
ثم رفعت نظرها إليه، كأنها تغرسها في عمقه، وصوتها يرتفع شيئًا فشيئًا:
"ومع ذلك، لا بأس إن لم تكن تملك تلك المشاعر تجاهنا، لكن لا تحاول تبرير فشلك بإنكارها. اطلب المساعدة، تحدّث، واجه نفسك... افعل أيّ شيء، لكن لا تهرب! لا تترك كل شيء خلفك وتعيش بجبن لسنوات، ثم تعود الآن، وتظن أن بضع كلماتٍ ستبرر كل شيء."
أكملت بقسوة:
"كلّ ما قلته الآن لم يوضح لي شيئًا واحدًا فقط... وهو أنك، ببساطة، لا تملك أي مبرر حقيقي لما فعلته."
توقفت للحظة، ثم تابعت بصوتٍ مختنق:
"أتدري ما الذي حدث عندما رحلت؟"
تنهّدت بحرقة، وعيناها تمتلئان بذكريات لا ترحم:
"استيقظتُ صباح ذلك اليوم لأبحث عنك... كنتُ أحب أن تمسح على رأسي وتخبرني أنني فتاة شاطرة، كنت أحب ابتسامتك، وصوتك الذي كنت أراه دافئًا."
نظرت إليه طويلًا، ثم أضافت بمرارة:
"لم أكن أعلم أنك كنت تتجنّبنا... حتى لا تكرهنا؟ كنتُ طفلة، لا أعرف من هذا العالم شيئًا سوى كلمة 'بابا' و'ماما'."
ثم تابعت بصوت يرتجف:
"لم أكن أعلم شيئًا عن تعقيداتكم أنتم الكبار، ولا أمراضكم النفسية التي أسقطتموها على رؤوسنا نحن الصغار... دون أن نملك قدرة الفهم أو الدفاع."
"كلّ ما أعرفه... أنني كنت أحب أبي."
قالتها سالي بصوتٍ خافتٍ متهدّج. ثم تابعت، وعيناها لا تزالان عالقتين في ملامحه:
"استيقظتُ أبحث عنك ببراءة، كنتُ أسأل ماما عنك آلاف المرات، وكنتُ أصدقها دائمًا... كانت تتهرّب. تقول: بابا سافر... بابا يعمل... بابا جاء وأنتِ نائمة."
سكتت للحظة، ثم أردفت بنبرةٍ ممزوجة بالامتنان والمرارة:
"رغم ما فعلتَه، رغم كرهك لها... لم تتفوّه بكلمة واحدة تسيء إليك. ماما كانت نقية... طاهرة. سيدة تستحق كل الحب في هذه الحياة."
تلعثمت الكلمات على شفتيها، وسقطت دمعة حارقة من عينيها، تلتها أخرى، كأنها تُشيّع معها ذكرى والدتها التي رحلت بصمتٍ لم تستوعبه روحها بعد.
نظرت إليه من بين شهقاتها، وعيناها تفيضان بمرارة لم تعد قادرة على كتمانها، ثم قالت بصوتٍ متهدّج:
"تقول إنك أردت أن ترفع من شأننا؟ هل هذا ما كنت تظنه؟ هل رأيتنا حقًا بهذا الشكل؟ مجرد مشروع لتحسين صورتك أمام نفسك والناس؟"
ازدادت نبرتها حدة، وهي تتابع:
"حتى خالد، الرجل الذي أحببته أنا واخترته، لم تسلم مشاعري من تدخّلك. لم تفكر لحظة واحدة بما أحتاجه أنا. كل ما رأيته فيه هو فرصة... استغللته دون أن تفكر لحظة واحدة بمشاعري وكيف ستتأثر علاقتي به. لم تهتم يوماً بما أحتاج، بما أريد."
ارتجف صوتها، لكنها مضت وقد بلغت الكلمات حافة الانفجار:
"كلّ ما قلته لم يثبت لي سوى أمرٍ واحد... أنك أناني، لا ترى إلا نفسك. لا تهتم إلا بمصالحك، ولو كانت على حسابنا. كل خطوة، كل قرار، كل محاولة، كانت تصبّ في مصلحتك وحدك."
ثم تنهدت بألم، وأردفت وهي تحاول كبح دموعها المتدفقة:
"لا أعلم إن كنت نادمًا حقًا أم لا... لكن حتى هذا الندم يبدو أجوفًا، هشًّا، نابعًا من شفقتك علينا، لا من إحساسك بالذنب الحقيقي. تشفق علينا أنا وزينة، ولكن لا تستطيع أن تحبّنا."
أشاحت بوجهها جانبًا، كأنها ترفض أن يرى هشاشتها، وواصلت همسًا:
"طوال عمري اعتبرت نفسي يتيمة... لا أب لي. كنت أواجه أصعب المواقف بثباتٍ خارجي، بينما داخلي يصرخ... يصرخ بحاجتي إليك."
توقفت لبرهة، كأنها تستجمع شجاعتها لمواجهة ماضيها المؤلم، ثم أردفت:
"كنت أشعر بالوحدة من دونك. بينما أنت... كنت تعيش في بيت آخر، مع زوجتك وأولادك. تستيقظون معًا، تتناولون فطوركم على مائدة واحدة، تضحكون، تسافرون، تتقاسمون الأيام بحلوها ومرّها... عائلة كاملة، وأما نحن، فكنا على الهامش، لا نُذكر إلا عند نومك، حينما تؤرقك الذكريات."
نظرت إليه بحدة، وانكسارها يشتد:
"هل هذا ما كان يؤلمك؟ ذكرياتك أنت؟ هل كانت وحدتنا نحن، حاجتنا، عطشنا لحضنٍ نلجأ إليه... لا تعني لك شيئًا؟"
ثم استرسلت بصوت منخفض لكنه لاذع:
"أنت تزوّجت، أما ماما... فرفضت. لم تشأ أن تشتتنا أكثر. بقيت لأجلنا، ضحّت بسعادتها، بحياتها... أما أنت، فهربت."
همست كمن يُسدّد ضربة حاسمة:
"لو عقدنا مقارنة بينكما. صدّقني... ستكون مقارنة فاشلة، بامتياز."
نظرت إليه بعينين دامعتين وقالت بصوت خافت ولكنه حاد:
"وإن كنتَ هنا اليوم لأنك تشفق عليّ... لمجرد ذكراك في حياتي، فدعني أقولها لك بوضوح: أنا لم أعد بحاجة إلى شفقة أحد."
ثم أشاحت بوجهها عنه، وأردفت بصوت مختنق:
"لقد مررت بالكثير وحدي، وبقيت واقفة، فلا أحد يمنّ عليّ الآن بالحنو المتأخر."
أطرق والدها رأسه، وكأن كلماتها سقطت عليه كأثقال لا يقوى على حملها. للحظة بدا منهزمًا، ثم قال بصوت منخفض لكنه عميق:
"إن كنتِ تعتقدين ذلك... فلن أصحّح لك هذا الظن، لا الآن على الأقل. ولكن فكّري، فقط فكّري في كلماتي. ضعي نفسك مكاني، حتى وإن كنتُ مخطئًا... علاقتنا يا سالي لا بد أن تُصحَّح، رغم كل شيء. حتى وإن تمسّك كلٌّ منا بآرائه، فإن هذا الإصلاح لم يعد خيارًا، بل ضرورة... لأجلك، لأجل زينة، ولأجلنا جميعًا، يا ابنتي."
ثم نهض بهدوء، ساحبًا أنفاسًا متثاقلة كأنها تحمل خيبات عمر، وتوجّه نحو الباب. وضع يده على المقبض، وقبل أن يفتحه، توقّف فجأة، كأنه تذكّر شيئًا مهمًا.
استدار قليلًا، وقال بصوت يحمل نبرة وعد:
"سأترككِ الآن... لكنني سأعود، مرةً أخرى."
ثم خرج، وأغلق الباب خلفه بهدوء يشبه الخسارة.
ظلت سالي على حالها للحظات، جامدة، كأن كل ما قيل لم يُهضم بعد. ثم، وبلا سابق إنذار، انكسرت... أجهشت بالبكاء فجأة.
كانت تهمس لنفسها بين شهقاتها المرتجفة:
"هل يظن حقًا أنه يملك الحق؟ بعد كل هذه السنوات؟"
ارتجف جسدها وهي تعتصر ذراعيها حول نفسها، كأنها صارت طفلة صغيرة تُربّت على كتفيها بنفسها، فلم يعد في حياتها من يفعل ذلك، من تحبها وتثق بيدها التي تمسح على رأسها، قد رحلت.
صوت بكائها كان واضحًا، طاغيًا، يخرج من أعماق لا تُرى. صوت طفلة تُركت وحيدة في ظلمة باردة.
وفي الخارج، وقف خالد على مقربة من الباب، لا يتحرك. وقف كما وقفت هي بالقرب منه عندما توفيت أنيسة، والآن تبادلا الأدوار.
كان يستمع إلى بكائها المرتفع، وكل شهقة كانت كأنها تقطع شيئًا في داخله. شعر بألم عميق، ولكنه شعر بشيء أكبر من الألم: الخوف. خاف عليها من كل هذا الحزن المتراكم، من الانهيار، من العجز، من أن تستسلم مرةً أخرى.
رفع يده ببطء نحو مقبض الباب، تردد، ثم تركها تسقط، وأغمض عينيه قليلًا... لم يعرف إن كان يجب أن يدخل، أم أن الصمت الآن هو الخيار الوحيد. شيئًا في داخله أوقفه. ليس الآن. لا ينبغي أن يكون الآن.
لقد بدأت بالكاد تتعافى. لا يريد لحالتها أن تنتكس، لا يريد أن يكون الصدمة التالية في سلسلة آلامها المتتالية. عليها أن تُمنح الوقت، أن تُترك لتبكي، لتحزن، لتتفكك قليلًا قبل أن تبدأ بإعادة ترتيب نفسها.
فكر خالد في ذلك وهو يسير ببطء في طرقات المستشفى الصامتة. كانت أضواء النيون البيضاء تنعكس على الأرض اللامعة، وصوت خطواته الخافتة يتردد في الممر الفارغ.
كانت الصورة أمامه واضحة، لم يحن دوره بعد، لا مكان له في مشهد الحزن الذي تعيشه الآن. يجب أن تمر هي بكل ما بداخلها أولًا، أن تفرغ كل الألم، أن تترك الجرح ينزف بسلام حتى يبدأ في الالتئام... ثم سيعود.
نعم، سيعود إليها، بكل تأكيد. ولكن بعد أن تكون مستعدة لرؤيته، وسماع صوته، وفتح صفحة جديدة لا تمتلئ بالصراخ والدموع.
رفع عينيه نحو نافذة تطل على ساحة المستشفى الخلفية، حيث كانت الأشجار تلوّح بهدوء. تنهد بعمق، ثم همس في نفسه:
"فلتأخذ وقتها... سأنتظر."
***
في الأيام التالية، بدأت سالي تستعيد عافيتها ببطء. أصبح تنفّسها أكثر انتظامًا، وبدأت الحياة تعود إلى جسدها المنهك شيئًا فشيئًا، ومع كل يوم، كان لون وجهها يستعيد دفئه، وعيناها تستردّان شيئًا من بريقهما الخافت.
وبإصرار منها، خرجت من المستشفى وعادت إلى شقتها الصغيرة الخاصة بوالدتهما التي تقاسمها مع شقيقتها، رافضة البقاء يومًا إضافيًا رغم تردد الأطباء.
تلك الشقة لم تكن مجرد أربعة جدران وسقف، بل كانت ذاكرة حيّة لسنوات حياتها، بكل ما فيها من حب وخيبات وحنين.
تأمّلت سالي المكان بعينين حزينتين. لم تتغير الشقة الصغيرة كثيرًا منذ رحيل أمها. رغم بساطتها، كانت تحتفظ بدفءٍ خاص، كما لو أن أمها لا تزال تعيش فيها. ظلت رائحة عطرها عالقة في الوسائد والستائر المطرزة، وفي زوايا الغرف رائحة البخور الذي كانت تشعله صباح كل جمعة. الأثاث القديم بقي على حاله، كما تركته الأم، يشهد على حياة طويلة بذكرياتها السعيدة والأليمة.
وفي وسط الصمت، تذكّرت سالي اليوم الذي خرجت فيه والدتها من البيت للمرة الأخيرة. لم تكن تعلم وقتها أن تلك النظرة الأخيرة التي ألقتها الأم على المكان كانت نظرة وداع. بدت شاردة وهي تتأمل الجدران والأثاث، وكأنها تحاول حفظ كل تفصيلة للأبد.
استقرت الذكرى في قلب سالي بثقل، فجلست بهدوء على الكرسي قرب النافذة، حيث كانت والدتها تقضي وقتها، وأحست بفراغ لا يملؤه أحد.
وفي هذه الظروف القاسية والدها وزوجته لم يغادرا جانبها. كانت زوجة أبيها سيّدة حنونة، دافئة القلب، لم تأبه لخطر العدوى، بل كانت تقف إلى جوارها كأنها أمها، تساعدها على النهوض، وتُطعمها بيدها إن احتاجت.
ورغم إلحاح والدها على أن تنتقل مع شقيقتها للعيش معهم، رفضت سالي بشدّة. لم تكن مستعدّة بعد لاختلاط الحزن بالتعايش، ولا لأن تنخرط في حياة جديدة لم تشارك في صنعها. فاستقرّت مع شقيقتها في شقتهما الخاصة، لكن والدها وزوجته لم يبتعدا، كانا يأتيان للمبيت معهما في بعض الليالي.
وبقيت سالي صامتة... تجلس طويلًا تحدّق في الفراغ، وكأنها تنتظر شيئًا لا تعرفه. بريق عينيها تلاشى، والابتسامة هجرت وجهها. كان الخمول يغلف ملامحها، لا تعبًا جسديًا، بل هدوءًا مثقلاً بالوجع.
كانت سالي تتذكّر كل لحظة عاشتها مع والدتها، منذ طفولتها وحتى آخر لحظة جمعت بينهما في المستشفى. لم تسترجع خلافاتهما، بل تذكّرت قوتها، وكيف تحملت المسؤوليات الثقيلة دون أن تشتكي. تذكّرت قراراتها الصارمة، التي كانت تعارضها أحيانًا، لكنها الآن تدرك أنها لم تكن إلا محاولات لتمهيد طريق أفضل لها ولشقيقتها.
رغم أنها أجبرتها على السير في دروب لم تخترها بإرادتها، إلا أن تلك الدروب أوصلتها إلى مكان لم تكن تتخيّله، إلى حياة ربما كانت أفضل من غيرها. نعم، سالي أُنهكت تحت وطأة المسؤولية، شعرت بالوحدة والضغط، لكن الحقيقة أنها لم تكن تملك خيارًا آخر، وكان ذلك الخيار—بكل ما فيه من تعب—هو الأفضل في النهاية.
هو نفسه الطريق الذي قادها في نهاية المطاف إلى "المنزل"، إلى أنيسة، إلى خالد، إلى الأطفال... وإلى جزء من ذاتها كانت تجهله. لقد كانت والدتها أحد الأسباب الرئيسية التي دفعتها لدخول مجال الطب، تلك المرأة التي آمنت بها دون أن تقولها صراحة، والتي زرعت بداخلها القوة على طريقتها الخاصة.
كلما تذكّرت سالي لحظات الغضب والنقمة التي شعرت بها تجاه والدتها، اجتاحها شعور مؤلم بالأسف، وانسابت الدموع الحارقة على وجنتيها. لقد اشتاقت إليها كثيرًا... إلى تلك المرأة التي كانت تظنها بعيدة وغائبة بسبب مشاغل الحياة، لكنها كانت حاضرة في الظل، كالسند الخفي، تمدّها بالقوة والدعم دون أن تطلب.
تذكّرت سالي سعادة والدتها باقتراب موعد تقاعدها، كانت تحلم بقضاء وقت أطول معهم، أن تعيش أخيرًا حياة حقيقة تليق بها. لكن هذه الذكرى لم تأتِ وحدها، بل حملت معها سيلًا من الذكريات الأخرى... تذكّرت كيف ضحّت تلك المرأة بسعادتها من أجلهم، كيف كانت ترتدي أرخص الملابس لتوفّر لهم احتياجاتهم، كيف جعلت من التعب عادة ومن الصبر حياة.
انهمرت دموع سالي من أعماقها، وشعرت بمزيج مرير من الذنب والشفقة والحيرة... مشاعر اشتعلت في قلبها كالنار، نار لا تعرف الرحمة.
الآن فقط أدركت أن وجودها لم يكن ملموسًا بالكلمات، بل بالفعل، بالصبر، بالتضحية، بالحب الذي لم يظهر دائمًا في صورته التي كانت تتخيلها. رحلت أمها قبل أن تتمكن سالي من فهم كل ذلك، وقبل أن تحظى بفرصة الاعتذار.. أو حتى بقول "شكرًا".
باتت حياتها الآن أكثر فراغًا من ذي قبل بعد رحيل والدتها. لم يكن لديها خطة واضحة للمستقبل، بل بدا كأن تلك الستارة القديمة التي لطالما حجبت عنها الرؤية قد عادت لتغطي بصيرتها من جديد، وأسودّت الحياة أمامها أكثر.
وفي خضم هذا السكون الحزين، تذكّرته... خالد. تسلل صوته إلى ذاكرتها كهمسة بعيدة من حلم ضبابي، تذكّرت أنه كان بجانبها في المستشفى، يتحدث إليها بصوت دافئ يشبه النداء، يشبه العتاب، لكنها لم تتمكن من تذكّر الكلمات بوضوح. كل ما بقي منها كان الشعور... إحساس يده الدافئة حين أمسكت يدها برفق، تطلب منها أن تبقى.
بكت سالي بصمت، بدمع مرّ، وهي تستحضر ذلك الحنين. اشتاقت إليه، واشتاقت للأطفال الذين أحبّتهم كأنهم قطعة من قلبها. لكنها كانت منهكة... منهكة للغاية لتبدأ من جديد، أو حتى لتفكر في ذلك.
***
بعد أسابيع من رحيل والدتها، بدأت سالي تتأقلم مع حياتها الجديدة. لم تعد تخطط كثيرًا أو تنتظر شيئًا معينًا، كانت تذهب إلى عملها وتعود إلى البيت كعادتها. أصبح والدها يزورها باستمرار، يحاول أن يدخل حياتها وحياة زينة من جديد، وكأنه يريد تعويض ما فات، لكنها لم تشعر بأنها سامحته حقًا، فقط لم تعد تملك طاقة للرفض أو العتاب. قررت أن تترك الأمور تمضي بهدوء، دون مقاومة. لذلك استسلمت لما أراده القدر، وقررت أن تعيش في هدوء، بعيدًا عن المواجهات.
هي وزينة كانتا تحاولان أن تسندان بعضهما البعض. تقاسمتا كل شيء: السرير، الطعام، وحتى اللحظات الصغيرة التي قد تبدو تافهة للآخرين لكنها كانت تعني لهما الأمان. كانت زينة قد بدأت العمل في إحدى الشركات الصغيرة، وسرعان ما وجدتا إيقاعًا مشتركًا يعينهما على العيش. كانتا تدركان أن لا أحد سيبقى بجوارهما كما ستبقيان بجانب بعضهما البعض.
أما الأولاد فقد ظلوا يتواصلون مع سالي من حين لآخر، يرسلون لها رسائل مليئة بالبراءة والحنين. لكن الغريب أنهم لم يذكروا خالد أبدًا. لا إشارة، لا اسم، لا سؤال. وكأنهم اتفقوا فيما بينهم على محوه من الحديث. لم تسألهم، لكنها لاحظت ذلك. بدا كأنهم يتجنبون الحديث عنه متعمدين، كان ذلك يثير تساؤلًا خافتًا في قلب سالي، سؤالًا ظل بلا إجابة.
كانت تشعر بشيء ناقص. خالد لم يكن موجودًا، لكنها لم تعرف إن كان غيابه قرارًا منه... أم منهم... أم منها هي. ومع ذلك كانت تشعر أنه حاضر خلف كل هذا الصمت.
حتى جاء ذلك اليوم...
كانت سالي في إجازة، مستلقية على سريرها تقرأ كتابًا بهدوء. النسيم الخفيف يمر من النافذة، والأجواء ساكنة كعادتها. سمعت ضحكات وأصوات صاخبة من الشارع، لكنها لم تهتم، ظنّت أن الجيران كعادتهم يتركون أطفالهم يلعبون قرب المبنى.
مرت دقائق، وبدأت الأصوات تقترب أكثر. ثم سمعت صوت الباب يُفتح، وصوت أقدام صغيرة تركض وصيحات أطفال يملؤون المكان.
رفعت رأسها باستغراب، وضعت الكتاب جانبًا، وخرجت من غرفتها بفضول لترى ما يحدث. وقبل أن تنطق أو تسأل، اندفع طفل صغير نحوها واحتضن ساقيها بقوة، رفع رأسه نحوها:
"اشتقت إليك".
كان يحيى.
تجمّد جسدها للحظة، وذُهلت من المشهد. لم تكن تتوقع أن تراه... أو أن تراهم كلهم.
ركض الأطفال الصغار نحوها واحتضنوها جميعًا دفعة واحدة. فرح، أميرة، ليان، ليلى، عبدالله، التوأم... جميعهم هناك، أمامها.
لم تستطع قول شيء، عيناها امتلأتا بالدموع، وكان قلبها، ولأول مرة منذ شهور، يشعر بشيء يشبه الحياة.
نهاية الفصل الحادي والخمسون
***
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
شكراً على صبركم
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم وانتظروا الأفضل بإذن الله.
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق