رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل التاسع والعشرون
كان يومًا مشمسًا بنسمة باردة تتسلل برفق، مما دفع سالي إلى لف شالها حول كتفيها. داخل الدفيئة، جلست تحتسي كوبًا من الشاي الدافئ، وأخذت رشفة صغيرة منه بينما عيناها تراقبان أنيسة التي كانت منهمكة في تقليم الورود التي قطفتها لتوها. على الرغم من مرض المرأة، إلا أنها كانت هذا اليوم تحاول التحامل على نفسها حتى تبدو طبيعية أمام أطفالها، الذين كانوا يحاولون معرفة سر ذهابها الدائم إلى المستشفى.
قطعت سالي الصمت بصوت هادئ متردد:
"ست أنيسة، أريد أن أطلب منك شيئًا".
رفعت أنيسة رأسها ونظرت إلى الشابة بتساؤل صامت، مما دفع الأخيرة لتصفية حنجرتها قبل أن تكمل:
"الأمر يتعلق بعبدالله.. إنه يعتني بقطة صغيرة خلف شجرة البرتقال".
ارتسمت على وجه أنيسة ابتسامة دافئة، وقالت بهدوء:
"أعلم".
اتسعت عينا سالي في دهشة، وسألتها بفضول:
"أتعلمين؟ هل أخبرك بذلك؟".
هزت أنيسة رأسها نافية، وردت بابتسامة خفيفة:
"لا، لم يخبرني. لأنه يعلم أنني أرفض إدخال الحيوانات إلى المنزل. مع ذلك، إسراء أخبرتني منذ مدة أنه يعتني بقطة صغيرة في صندوق كرتوني هناك".
أومأت سالي بتفهم وهي تحرك أصابعها على كوب الشاي، ثم رفعت عينيها بقلق وسألت:
"ولكن، لماذا ترفضين دخول الحيوانات إلى المنزل؟ أليس وجود حيوان لطيف سيسعد الأولاد؟".
ابتسمت أنيسة بخفة، وكأنها تسترجع ذكرى مضحكة رغم سوادها، وقالت:
"لطيف؟ آه يا ابنتي، أنت لا تفهمين، أنا أخاف على الطفل والحيوان في نفس الوقت، اسمعي هذه الحكاية.. منذ ثلاث سنوات اشتريت عصفورين صغيرين، وضعت قفصهما على نافذة المطبخ لأضفي جوًا من الحياة. لكن..".
توقفت للحظة وهي تبتسم بأسى، ثم أضافت بنبرة أقرب إلى المزاح الحزين:
"بعدة عدة أيام، رأيت مشهداً عجيباً، ليان تركض نحوي بسعادة غامرة، وفي قبضتيها العصفوران.. تمسكهما من رقبتيهما وكأنها فازت بغنيمة!".
قالت المرأة بانفعال عاطفي ممزوج بضحكة:
"مات العصفوران مختنقين يا سالي!".
اتسعت عينا سالي من الصدمة، وكادت أن تسقط فنجان الشاي من يدها:
"يا إلهي! هل حدث هذا حقًا؟".
هزت أنيسة رأسها بأسف وتابعت:
"بالطبع ليان لم تكن تقصد إيذاءهما، فهي كانت مجرد طفلة صغيرة تبلغ من العمر 5 سنين، ولا تدرك. لكنها تسببت بموت كائنين بريئين. قضينا أيامًا طويلة نحاول مواساة الأطفال، خاصة ليان، التي كانت الفاعلة الأساسية. ومنذ ذلك اليوم، قررنا منع الحيوانات تمامًا من دخول المنزل، ليس فقط خوفًا على الحيوانات..".
توقفت للحظة، ثم أكملت بتنهد حزين:
"بل أيضًا حتى لا يضطر الأطفال إلى مواجهة مشاعر الفقد.. إنهم ما زالوا صغارًا جدًا يا ابنتي".
عجزت سالي عن الرد أمام تعليق المرأة الأخير، فقالت المرأة وملامحها تتبدل إلى ضحكة طريفة مستعيدة ذكرى بعيدة:
"كان يومًا عجيبًا حقًا. تخيلي، ليان التي خنقت العصفورين كانت تصرخ وتبكي على الأرض وكأن العالم انهار! حتى خالد حاول تهدئتها، لكنه فشل تمامًا. كانت شرسة معه كقطّة صغيرة غاضبة".
ضحكت سالي برقة وهي تتخيل المشهد: خالد، الرجل البالغ يحاول تهدئة طفلة في الخامسة من عمرها تصرخ وتبكي. تسلل دفء لطيف إلى قلبها وهي تتصور ملامحه المتحيرة آنذاك، لكنها سرعان ما انتبهت لصوت أنيسة التي قطعت أفكارها بنظرة متفحصة:
"إذن.. هل تريدين مني أن أوافق على دخول القطة؟"
رفعت سالي رأسها بابتسامة محرجة، وقالت:
"شيئًا من هذا القبيل..".
نظرت أنيسة إليها بتمعن، وأردفت:
"إجابتك تعني أن هناك أمورًا أخرى يجب توضيحها".
تنهدت سالي قليلاً قبل أن ترد بتردد:
"نعم.. في الحقيقة.. لقد تحدثت مع عبدالله. هذا الولد يشعر بشيء من الغربة بين إخوته".
أخفضت أنيسة رأسها بحزن عميق دون أن تنطق بكلمة، فتابعت سالي:
"عبدالله طيب القلب، ولطيف جدًا، لكنه حساس للغاية، يا ست أنيسة. وسط العدد الكبير من الإخوة، يبدو أنه يجد صعوبة في الشعور بالانتماء. وربما لهذا السبب ينجذب إلى الحيوانات، لأنها تمنحه ملاذًا آمنًا".
هزت أنيسة رأسها بتفهم، فواصلت سالي حديثها:
"هو يحبكم جميعًا، لكنه يعاني الوحدة، ومع الأسف لديه مشكلة في التعبير عن مشاعره أو التواصل معكم بشكل واضح. أعتقد أنه بحاجة لشعور أكبر بالطمأنينة، ومن الضروري أن يجد مساحة ليشعر أنه مقبول ومفهوم".
اعترضت أنيسة بلهجة دافعة، قائلة:
"أنا لا أهمله يا سالي!".
بادرت سالي بهز رأسها بسرعة لتطمئنها، وقالت بلطف:
"أعلم ذلك، وأنا متأكدة من حبك الكبير له. ولكن المشكلة تكمن في التواصل العاطفي، يا ست أنيسة. إنه يختزن مشاعره ولا يشاركها مع أحد، وهذا دليل على وجود فجوة بينكم. إذا استطعتِ الحديث معه وإظهار مزيد من الاهتمام بما يشعر به، فقد يُحدث ذلك فرقًا كبيرًا".
تأملت أنيسة حديث سالي بصمت لثوانٍ، ثم رفعت حاجبيها وسألتها بنبرة جادة:
"إذاً، ماذا تقترحين؟".
نظرت سالي إليها برجاء واضح، وقالت:
"رجاءً، أخبريه بنفسك أنك موافقة على دخول القطة إلى المنزل. سأساعده ليعبر لك عن رغبته بوضوح. أعتقد أن ذلك سيكون بداية لطيفة لتعزيز التواصل العاطفي لديه، ومعك..".
تجولت عينا سالي بتوتر في الأرجاء للحظات، ثم أضافت بتردد:
"وأيضاً.. مع مستر خالد، أنتم أولياء أمره".
هزت أنيسة رأسها ببطء وقالت:
"حسناً.. أنا موافقة".
ارتسمت ابتسامة رقيقة خجولة على وجه سالي، ثم قالت بتردد:
"هناك أمر آخر.. في الواقع، لقد وعدته أنني سأصحب القطة إلى الطبيب. هل تسمحين لنا بذلك؟ القطة صغيرة ولطيفة جداً، وأعتقد أن الأولاد سيحبونها. سأحرص على تلقيها التطعيمات المناسبة قبل إدخالها إلى المنزل".
تنهدت أنيسة وأجابت بابتسامة نصف جادة:
"أنا فقط خائفة على القطة".
تبادلت السيدتان نظرات مليئة بالتفاهم، ثم انفجرتا في ضحكة خفيفة بعد أن تذكرتا قصة ليان والعصافير المضحكة. قطعت أنيسة تلك اللحظة بابتسامة دافئة وهي تتأمل سالي بحب:
"هل أستطيع أن أفتح قلبي لك؟ أشعر براحة كبيرة عندما أتحدث معك".
أجابت سالي بتلقائية:
"بالتأكيد، تفضلي".
ترددت أنيسة للحظة، متجنبة النظر مباشرة إلى سالي، ثم قالت بصوت خافت:
"في الحقيقة، أنا أيضاً لدي طلب.. أتمنى أن تحققيه لي".
نظرت أنيسة حولها إلى الدفيئة المليئة بالزهور والنباتات، ثم التفتت إلى سالي:
"أريد منك أن تعتني بالدفيئة نيابة عني، في الأوقات التي لا أستطيع فيها ذلك".
اتسعت عينا سالي بدهشة، وقالت بارتباك:
"أنا؟ لكن.. ليس لدي خبرة في مثل هذه الأمور".
ابتسمت أنيسة برفق أمام ترددها وقالت بنبرة مشجعة:
"وأنا أيضاً لم تكن لدي خبرة في البداية، لكن مع الوقت، وبعض النصائح من المزارعين، تعلمت. لا داعي للقلق، سأكون بجانبك، لماذا أنت مرتبكة هكذا؟".
ضحكت أنيسة بلطف، ثم تبدلت ملامحها إلى شجن وهي تضيف:
"كما تعلمين، صحتي لم تعد كما كانت، ويصعب عليّ الاهتمام بالدفيئة كما اعتدت. ويؤلمني أن أتركها مهمَلة. أريد أن أسلمها لشخص أثق به.. مثلك".
اعترضت سالي بخجل:
"لكن هناك الكثيرون في المنزل يمكنهم القيام بذلك".
هزت أنيسة رأسها بحزم، وقالت بثقة:
"لا أحد هنا أصدق منك، سالي. أحتاج لشخص عاطفي وحنون، مثلك تمامًا".
تفاجأت سالي من كلماتها، واحمر وجهها بخجل، فلم تجد ما تقوله. وضعت أنيسة يدها على يد سالي برفق وأردفت:
"هذا رجاء، يا عزيزتي".
ترددت سالي، ثم سألت بقلق:
"ولكن.. ماذا لو قررت الرحيل يومًا ما؟".
ابتسمت أنيسة ابتسامة غامضة وهي تتأملها:
"إذا حدث ذلك، فسلميها إلى خالد، وسيتولى الأمر. مع أنني متأكدة أنه لن يكون بقدر مسؤوليتك".
مرّت لحظة من الصمت، تخللتها نظرات متوسلة من أنيسة. تنهدت سالي أخيرًا وقالت:
"حسنًا، سأحاول. لكن هذا عبء كبير، ولا أعرف إن كنت سأستطيع تحمله".
شدّت أنيسة على كفها بابتسامة مطمئنة وقالت بحزم:
"ستكونين قادرة على ذلك، أنا واثقة".
***
بعد المدرسة تناول الأطفال غداءهم، وطلبت أنيسة من عبدالله أن يرافقها إلى غرفتها، وبعد نصف ساعة خرج الفتى وعينيه تفيضان بالسعادة وقال لسالي هامساً بفرح حتى لا يسمع أحد سرهما الصغير:
"لقد وافقت ماما على أن تدخل القطة إلى المنزل!".
أجابته سالي بنفس الحماس:
"إذاً لنأخذها إلى الطبيب! هيا اذهب واستأذن ماما قبل أن تبدل ملابسك".
ركض الفتى بسرعة ولم تمض ربع ساعة وسمعت سالي طرقاً على باب غرفتها، بعد أن ارتدى الفتى ملابسه في وقت قياسي، واصطحبته سالي هو وقطته إلى عيادة بيطرية حتى يفحصها الطبيب، بالطبع كانت القطة مليئة بالبراغيث وتحتاج إلى تطعيمات لازمة، حتى يستطيع البشر والأطفال خاصة التعامل معها بأمان.
وفي المنزل أثار الأطفال حفلاً صاخباً بمناسبة القطة الصغيرة والفرد الجديد في المنزل، كان الصغار سعداء ومتحمسون وهم يلعبون مع القطة الذهبية الجميلة من بعيد، ولكن عندما تحطم حاجز الأمان بينهم وبين القطة حدث ما خافت منه أنيسة، فؤاد ولارا وسارة ويحيى تعاملوا مع القطة وكأنه لعبة، كان الصغار يرمون القطة على الأرض. حتى ماريا التي تقترب من عمر السنة والتي بدأت تأخذ خطوات على قدميها، كانت تشد القطة من ذيلها وأذنها. حتى صرخت أنيسة عليهم جميعاً وهي تحمل القطة المرعوبة:
"والله! لو رأيت أحداً يضربها سأضربه كما يضربها، هل كلامي مفهوم!".
نظرت إلى ماريا التي تجلس على الأرض بحيرة، ثم نظرت إلى الجميع:
"واحرصوا ألا تقترب منها ماريا، فهي مازالت صغيرة لا تفهم شيئاً".
ضحكت ماريا فور سماعها اسمها، واتجهت إلى أنيسة بهمة وعزم بخطواتها المتعثرة، وتعلقت بساقيها وهي تشير إلى القطة المذعورة من هؤلاء الوحوش الصغار، فقالت أنيسة بصرامة:
"لا يا ماريا!".
قالت أنيسة بصوت عالٍ:
"ليحمل أحدكم ماريا حتى أنزل القطة".
حملت سالي ماريا بسرعة بين ذراعيها، بينما أنزلت أنيسة القطة برفق. ما إن لامست القطة الأرض حتى ركضت تختبئ في أحد الأركان البعيدة، ليبدأوا الأطفال بمطاردتها بحماسة، مما أضفى صخبًا مرحًا على أرجاء المنزل. تبادلت أنيسة وسالي نظرة مليئة بالمرح، ثم انفجرتا في ضحكة خفيفة، حيث عادت إلى ذهنهما ذكريات قصة ليان والعصفور.
قطعت ليلى الصخب بصوتها قائلة:
"لكن، ألن نطلق عليها اسمًا؟".
ردت فرح بحماس:
"صحيح، ما رأيكم باسم لي لي؟ فهي أنثى، أليس كذلك؟"
لكن ليلى اعترضت بصوت مرتفع:
"لا، أنا من سيختار الاسم!".
بدأت الفتيات في الجدال، وكل واحدة منهن تصر على رأيها، إلى أن قاطعتهم أنيسة بحزم ولكن بابتسامة:
"ولا واحدة منكن ستسميها!"
التفتت بحب نحو عبدالله، الذي كان يراقب القطة بصمت، وقالت:
"عبدالله هو من سيختار الاسم، فهو من عثر عليها. ما رأيك يا عزيزي؟ أي اسم ستختاره لها؟"
نظر عبدالله إلى القطة التي كانت تراقب الجميع بحذر، ثم قال بتردد:
"أنا أناديها بـ نوْ نوْ - بتسكين الواوين - لأنها كثيرة المواء". ملاحظة في مصر نطلق على مواء القطة بالنونوة، لذلك أطلق عليها عبدالله أسم نونو
ضحكت أنيسة وهي تمسح على رأسه بحنان:
"اسم مضحك، لكنه لطيف. أنا متأكدة أننا سنتعود عليه".
ارتسمت على وجه عبدالله ابتسامة خجولة، تأثرًا بكلام أمه. كان الأطفال غارقين في السعادة بفضل القطة التي أدخلت إلى المنزل أجواءً مليئة بالبهجة والمرح. وكأن البيت، الذي خيمت عليه الكآبة لأيام طويلة، استعاد في هذا اليوم حيويته وتألقه. حتى أنيسة، على غير عادتها، بدت متألقة، تضحك من أعماق قلبها. تأملتها سالي مليًا؛ بدت جميلة للغاية، وكأن هالة من نور غمرت وجهها، حتى إنها لم تعد ترى تلك التجاعيد التي ألفتها.في ذلك اليوم، احتضنت أنيسة أطفالها جميعًا، تضمهم بقوة بين ذراعيها وتغمرهم بقبلاتها. أما الأطفال، فقد كانوا يمرحون من حولها كأنهم ملائكة صغيرة. كان المشهد مفعمًا بالجمال ويحمل أثرًا عميقًا، أشبه بلوحة تمزج بين حكايتين مختلفتين: الأولى حكاية امرأة مكافحة حنونة، ينبض قلبها بعاطفة صادقة لا حدود لها، والثانية حكاية أطفال أيتام، وجدوا في دفء عاطفتها ملاذًا وسندًا. كانت تلك المشاعر النقية كفيلة برسم حياة كريمة ومشرقة لهم، حياة تضاهي ما يستحقه أي طفل طبيعي في هذا العالم.
ولكن للأسف، لم تستمر تلك السعادة طويلاً. ففي أعقاب هذا اليوم، بدأت صحة أنيسة تتدهور شيئًا فشيئًا، وأصبحت زياراتها إلى المستشفى عادة يومية، إلى أن أعلن خالد في أحد الأيام أن أنيسة ستبقى في المستشفى.
***
في ذلك اليوم الذي أعلن فيه خالد بقاء أنيسة في المستشفى، دعا إلى اجتماع طارئ في غرفة المكتب، طلب فيه حضور جميع الموظفين والعاملين في المنزل، بمن فيهم سالي.
الساعة الحادية عشر صباحاً، تجمع الجميع في غرفة المكتب. كان صوت المطر يتساقط بغزارة، يتخلل صمت الغرفة المشحون بالتوتر والترقب. تبادل الحاضرون النظرات بين بعضهم البعض، ثم ركزوا أنظارهم على خالد، الذي كان يجلس خلف مكتبه، منتظرًا اكتمال الحضور.
دخلت الست منى أخيرًا بعد أن حرصت على تطمين الأطفال الصغار، وأغلقت الباب بهدوء خلفها. تركزت العيون على خالد، الذي بدا عليه التعب وجبينه يحمل لاصقًا طبيًا أصغر من السابق.
شبك خالد أصابعه وتأملها ببطء، وكأنّه يبحث عن الكلمات المناسبة ليبدأ حديثه. رفع رأسه بعد لحظة من الصمت، وقال بنبرة هادئة لكنها مشبعة بجديّة تُثقل الأجواء:
"ربما الموقف غريب عليكم، ولكن أتمنى منك أن تستعدوا لما ستستمعونه الآن. في الحقيقة جمعتكم اليوم، لأن أخبركم أن أمي تعاني من ورم خبيث، وهي للأسف..".
ترددت الكلمات في الهواء كصدى ثقيل. سكت خالد فجأة، وكأنّ الحروف التالية علقت في حلقه. حاول السيطرة على غصة في حلقه بدت واضحة، ثم قال بصوت متحشرج بالكاد يسمع:
"للأسف.. هذه أيامها الأخيرة".
ساد الغرفة صخب مكتوم، ما بين أصوات شهقات وتنهدات، وبكاء الست ذكية العجوز التي خدمت العائلة لسنوات طويلة، بدأت تبكي بحرقة وهي تحتضن وجهها بين يديها. كانت سالي تقف بجوار الباب، وعلى الرغم من معرفتها بالحقيقة الحزينة، ارتعشت ساقيها وهي ترى خالد يصرح بالخبر المفجع بهذا الحزن والشجن. تماسكت وأغمضت عينيها لثوانٍ تكافح حتى لا تنهمر دموعها.
طرق خالد بكفه على المكتب ليعيد الانتباه إليه. كان صوته ثابتًا لكنه مشحون بالألم:
"من فضلكم اهدأوا قليلاً، وانتبهوا لكلامي جيداً، الأطفال لا يعلمون شيئًا بعد، وسأخبرهم بنفسي قريبًا، ماعدا الصغار الخمسة، لكن أطلب منكم رجاءً ألا تتحدثوا معهم في هذا الأمر أبدًا. تعاملوا معهم كما لو أن شيئًا لم يتغير. أريد منكم أن تواصلوا أداء واجباتكم وأشغالكم دون زيادة أو تقصير. وكأن ماما هنا، تراقبنا جميعًا".
توقف للحظات، خفض رأسه قليلًا، وكأنّ ثقلاً لا يُحتمل يحيط به. سالي أقسمت في تلك اللحظة أنّ شفتيه كانتا ترتعشان، لكنّه سرعان ما رفع رأسه بقوة، وأكمل بصوت أكثر حزمًا:
"حياتكم وعملكم هنا، مرتباتكم كما هي، والزيادة السنوية ستُصرف مع بداية العام كما هو معتاد. رجاءً، لا تخيبوا ظن أمي بكم. إنها تتعهد بالمنزل والأطفال إلينا جميعاً. لقد وثقت بكم دائمًا، وأتمنى أن تكونوا على قدر هذه الثقة والسؤولية والأمانة في غيابها كما كنتم دائماً".
قطع حديثه صوت الست ذكية وهي تقول بصوت متحشرج بالبكاء:
"أريد أن أراها يا بني".
رد خالد بلطف لكنه حاسم:
"أعتذر يا ست ذكية، علينا الانتظار قليلًا حتى تستقر حالتها. أعدك أن أدعوك بنفسي لرؤيتها في الوقت المناسب".
تعالت أصوات أخرى تطلب نفس الشيء:
"وأنا أيضًا يا أستاذ خالد..".
"وأنا كذلك، أريد زيارتها".
كانت الأصوات من حوله تتصاعد برجاء، انتظر خالد بصبر حتى هدأت، ثم قال بصوت منخفض يحمل رجاءً:
"سأحرص على أن تزوروها جميعًا في الوقت المناسب. لكن الآن.."
تنهد بعمق، وكأنّ كل كلمة تسرق منه جزءًا من قوته، ثم أضاف:
"رجاءً، لا تنسوها من دعواتكم. فهي في أمسّ الحاجة إليها".
أنهى كلامه ونهض من مكانه بهدوء، ناظرًا نحو الأرض وكأنه يهرب من نظراتهم. قال بصوت خافت:
"استأذنكنم".
تحرك نحو الباب، مارًا بجوار سالي التي كانت تلف شالها حول كتفيها. كأنه روح ضائعة تبحث عن مأوى. خرج دون أن يلتفت، تاركًا خلفه صمتًا ثقيلًا يلف المكان.
شعرت سالي ببرودة مروره من جوارها، تأملت النافذة التي انساب عليها المطر برفق، كأن السماء تبكي بصمت، وسرت قشعريرة خفيفة في جسدها، فشدّت الشال حول كتفيها بحركة لا إرادية، تحاول أن تستمد منه دفئًا افتقدته في تلك اللحظة. كانت تكتم دموعها بصعوبة، شفتيها مرتجفتين وعيناها معلقتين بقطرات المطر.
قالت ذكية وهي تطلق تنهيدة عميقة:
"يا حبيبتي يا ست أنيسة، كان الله في عونك.. يا رب اشفيها".
بادرت إحدى المربيات بسؤالها بصوت خافت:
"المرض الخبيث؟ هل كانت تعاني منه منذ مدة؟"
"يبدو كذلك".
علقت أخرى بدهشة:
"ولكنها لم تظهر أبدًا هذا الأمر".
"كان واضحًا عليها، ألم تلاحظن إرهاقها الشديد خاصة في الفترة الأخيرة؟".
"نعم، ذلك اليوم الذي فقدت فيه الوعي.. كان علامة".
أضافت أخرى بنبرة حزينة:
"يبدو أنها كانت تتألم بصمت، يا لها من امرأة قوية".
تدخلت إحدى المربيات بقلق:
"لكن الأطفال.. كيف سيكون حالهم الآن؟"
"مساكين، بالتأكيد مستر خالد لن يستطيع تحمل كل هذه المسؤولية وحده".
"ربما سيقبل باقتراح الوزارة، في النهاية هم أيتام، ومن الممكن أن تتكفل بهم عائلات أخرى".
"الأمر ليس بهذه السهولة.. يبدو أنه متمسك بهم بشدة".
"يا له من مسكين، من الواضح أنه منهار، كان ذلك جلياً على ملامحه التعيسة".
دار هذا الحديث في الغرفة، متصاعدًا ومتشابكًا، لكن سالي كانت تسمعه بلا اهتمام. كأن الكلمات تدخل من أذن وتخرج من الأخرى. وحين شعرت أنها اكتفت من تلك الثرثرة، استدارت وغادرت الغرفة.
بينما كانت تتجه نحو السلالم، لفت انتباهها من نافذة المنزل مشهداً حزيناً. كان خالد يقف تحت المطر أمام الدفيئة، ساكنًا، بلا حراك. وقفت سالي في انتظاره للحظات على أمل أن يدخل إليها، لكنه ظل واقفًا فقط، ولدقائق طويلة، وكأن المطر الغزير الذي ينهال على رأسه لا يعنيه.
تجمدت سالي في مكانها، تتأمل المشهد بألم، شعرت أن وقفته تلك تحمل حزنًا عميقًا لا يمكن تجاهله. بدا خالد وكأنه في عالم آخر، ساكن وثابت بشكل يثير الحيرة.
مسح وجهه بيده المبللة، والتفت ببطء نحو الملحق. تساءلت سالي في صمت:
'هل كان يبكي؟ هل امتزجت دموعه مع المطر لتخفي ألمه؟'.
ربما.. ولكن المشهد ترك في قلبها شعورًا ثقيلًا، لم تستطع التخلص منه.
***
أمسى خالد تلك الليلة وحيدًا، غارقًا في أفكاره المثقلة بالعذاب. مع حلول الساعة السابعة، وبينما كان مستغرقًا في دوامة أحزانه، سمع طرقًا على باب الملحق. في البداية، تجاهل الصوت، غير راغب في الحديث مع أحد. لكن مع استمرار الطرق، انتفض قلبه قلقًا، يخشى أن يكون الأمر متعلقًا بالصغار. نهض وفتح الباب. هناك، أمامه، وقفت السيدة منى، تنظر إليه بنظرة تحمل شيئًا من التردد والقلق:
"مستر خالد، استأذنك لنتحدث قليلاً".
قالتها السيدة منى بنبرة تجمع بين التردد والرجاء، بينما كانت عيناها تتفحصان وجهه البائس الذي بدا عليه الإرهاق والحزن. بقي خالد صامتًا لوهلة، وكأنّه يقيم الموقف. ثم تنحى جانبًا وأشار لها بالدخول بصمت. دخلت المرأة بخطوات هادئة، وهي تفرك ذراعيها محاولة التغلب على البرد الذي اخترق جسدها، وهمست برفق:
"إن الجو حقًا بارد الليلة".
بعد لحظات، التفتت السيدة منى نحو خالد وسألته بنبرة هادئة لكن حازمة:
"لنجلس ونتحدث قليلاً".
تقدم خالد كأنّه إنسان آلي، خطواته بطيئة وثقيلة، ثم جلس بهدوء على أقرب كرسي. جلست منى في مواجهته، ظهرها مستقيم ونظراتها ثابتة. لوهلة، ساد الصمت بينهما، قبل أن تقطعه هي بصوت قوي لا يحتمل التردد، وهي تنظر إليه مباشرة، عيناها تمتلئان بالإصرار والتحدي:
"سأدخل في الموضوع مباشرةً. لقد قررت أن أخبر حسن بالحقيقة".
كانت كلماتها جريئة وواضحة، تحمل نبرة من الحسم لا تقبل النقاش. لكن خالد، رغم توقعه لهذه اللحظة منذ أن اكتشف مرض أمه، لم يُظهر أي انفعال. رد ببرود، عينيه تضيقان وكأنّه يزن كلماته:
"ومن اتخذ هذا القرار؟"
"أنا، بصفتي أمه".
قالتها السيدة منى بثبات، ثم أكدت ببطء، وكأنها تريد أن تزن كل كلمة:
"والدته الحقيقية.. التي أنجبته".
صمت خالد للحظات، عيناه معلقتان بالفراغ، وكأنه يبحث عن كلمات. وأخيرًا، قال بصوت خافت لكنه محمل بالحدة:
"إذاً، اذهبي وأخبريه بالحقيقة كاملة. أخبريه كيف بدأت القصة، وكيف تخليتِ عنه في الملجأ، واعملي على إعطائه مبررات حقيقية ومنطقية تقنعه".
احمر وجه السيدة منى من الغضب، وردت بضيق واضح:
"مستر خالد، هذا ليس شأنك. الطريقة التي أخبره بها تخصني وحدي، وأنت تعلم جيدًا أن لدي أسبابي".
تقدم خالد قليلاً في مقعده، عاقدًا ذراعيه أمام صدره، وقال بنبرة لم تخلُ من السخرية:
"أخبريه إذًا، يا ست منى. لكن لا تنسي أن حسن، إن أصغى لك، لن يقتنع إلا بمبررات منطقية، والأهم حقيقية".
حدقت فيه منى بغضب وهي تفهم تلميحه، وصوتها يرتفع قليلاً:
"أنت تتجاوز حدودك معي!".
أجاب خالد ببرود مشوب بالانفعال المكبوت:
"أنا لا أتجاوز حدودي، ولكنك مصرة على استفزازي في وقتٍ كهذا. لا تكتفين باستفزازي فقط، بل تستفزين الولد أيضًا، الولد الذي لا يعلم أن أمه على فراش المرض".
ارتفع صوت منى فجأة، وكأنها تريد أن تثبت موقفها بأي ثمن:
"أنا أمه!".
أجاب خالد بحزم، وشيء من الوجع في صوته:
"لكنه لا يعرف إلا أن أمه هي أنيسة".
"مهما حدث، يجب أن يعرف الحقيقة في يوم من الأيام، هذا حقه وحقي".
رد خالد بنبرة منخفضة لكنها تحمل قوة دفينة:
"ربما. لكن اختاري التوقيت بعناية، لأن الحقيقة أحيانًا تكون أقسى من أن تُقال في الوقت الخطأ".
صاحت السيدة منى بغضب متزايد، صوتها يرتجف بين الانفعال والمرارة:
"أنت! لماذا تماطل؟ لماذا أشعر أنك لا ترغب في إخباره؟ ما أجبرني على البقاء هنا هو حسن، حتى أكون قريبة منه. لماذا لا تمنحني حقي في أن يناديني أمي؟".
تنهد خالد بعمق، وأطرق رأسه قليلاً. نعم، كان يماطل، لكنه لم يكن منعدم السبب. كان خائفًا. خائفًا على حسن، خائفًا من أن الحقيقة التي تحاول منى فرضها قد تكون عبئًا ثقيلًا على قلب ذلك الفتى الحساس، الذي وإن بدا متماسكًا وباردًا أحيانًا، إلا أن داخله هش جدًا. عرف خالد أن حسن لن يقبل الحقيقة دون أن يطالب بمبررات. والمبررات التي تملكها منى.. مخجلة. مخجلة لدرجة لا تليق بطفل مراهق في هذه المرحلة الخطرة من حياته.
قال خالد بنبرة هادئة لكنها حازمة، وكأنه يحاول إغلاق النقاش:
"ست منى، هناك صفحة تُغلق في حياة حسن والأطفال، أرجوكِ، دعي هذه الصفحة تُغلق بسلام".
لكن منى لم تهدأ، صوتها ارتفع مرة أخرى بشيء من العناد:
"وما شأني أنا؟ إنه ابني. عليه أن يوجه مشاعره لي، وليس لغيري!".
رمقها خالد بنظرة باردة، وقال بلهجة ثقيلة جداً لكنها حملت الكثير من المعاني:
"إذاً أنتِ خائفة، أليس كذلك؟ خائفة أن ترينه يعبر عن مشاعر تجاه أم أخرى ليست أنت".
ارتبكت منى للحظة، لكنها اعترفت:
"نعم، خائفة. لكن هذا لا يعني أنني أحقد على الست أنيسة. أنا احترمها وأقدرها كثيرًا لأنها اعتنت بطفلي وكانت أمًا بديلة له. ولكن..".
قاطعها خالد بحزم، وكأنه يضع حدًا لكل أعذارها:
"ولكن.. أليست تلك هي الحقيقة؟ ألم تكن أنيسة أمه طوال السنوات السبع الماضية؟ ألم توفر له منزلًا وأمانًا وكانت له أمًا في غيابك؟ ابنك لم يعرف أماً غيرها. تخيلي لو كنت مكانه، وأتت امرأة غريبة فجأة لتخبرك أنها أمك وتطالبك أن تمنحيها نفس المشاعر والأحاسيس. هل تعتقدين أن الأمر سيكون سهلاً عليك؟".
صمتت منى للحظة، وكأنها تفكر في كلامه، لكنها استجمعت قوتها وقالت بإصرار:
"لا، ليس سهلاً. لكنه حقي. وأنت تشارك في حرماني منه! وإن لم يعلم ابني بالحقيقة قريبًا، سأذهب إلى المحكمة. وسأقاضيك يا مستر خالد".
رفع خالد رأسه ببطء، ونظر إليها بعيون لم تحمل سوى البرود، وقال بلهجة صارمة:
"أخبريه، أو اذهبي إلى المحكمة، كما تشائين. فهذا الأمر لا يخصني. ما يخصني هو حماية حسن، ولكن عليك أن تفهمي أن الحصول على ود ابنك ليس بهذه السهولة، وما تفعلينه لن يزيد الأمر إلا تعقيداً".
ردت السيدة منى بصوت مشحون بالانفعال، نبرة تحدي ممزوجة بألم:
"لم يعد هذا يهمني! سأحصل على ابني بأي طريقة. لقد انتظرت كثيراً، كثيراً جداً، وأنا أرى طفلي ينادي امرأة أخرى بكلمة ماما. هذا حقي أنا، وليس حق غيري!".
نظرت إلى خالد بعينين تملؤهما القهر، صوتها ينكسر للحظة لكنها سرعان ما تستعيد قوتها:
"إلى متى سأظل أدفع ثمن أخطاء الماضي؟ هذا يكفي! لقد بلغ ابني من العمر 16 عاماً. إلى متى سأنتظر حتى أخبره؟ أخبرني! ألست رجلاً صالحاً يعتني بـ15 يتيماً في منزله؟ هل من العدل أن تجعلني أتوسل إليك وأشعر بالذل وأنا أطلب حقي؟"
أغمض خالد عينيه لبرهة، وكأنه يحاول كبح غضبه المتصاعد، ثم فتحهما ببطء وقال بصوت متحشرج لكنه حازم:
"ست منى، أنا لست في مزاج للجدال الآن، ولكن دعيني أكون واضحاً. الأمر ليس مجرد حق تطالبين به. هناك حياة، وطفل، ومشاعر معقدة. حسن ليس لعبة يمكنك استردادها عندما ترغبين، وكأن شيئاً لم يكن".
كررت منى كلامها بحنق:
"لكنني أمه! أنا من أنجبته، وأنا من يملك هذا الحق!".
رفع خالد يده ليوقفها، واستطرد بنبرة أكثر جدية:
"لا أحد ينكر أنك أمه الحقيقية. أنا لا أحاول منعك من ابنك، ولكنني أحاول أن أحميه من صدمة قد تغير حياته للأبد. كل ما أطلبه هو التفكير بحكمة، وليس من خلال الغضب أو الشعور بالظلم".
تراجع خالد قليلاً، وكأنه منحها مساحة للتفكير. لكنه في داخله كان يعلم أن هذا النقاش لن ينتهي بسهولة. منى، التي ظلت حبيسة مشاعر الذنب والرغبة في التعويض لسنوات، لم تكن مستعدة للانتظار أكثر. أما هو، فلم يكن مستعداً للتنازل عن حماية حسن مهما كلفه الأمر.
تنفست منى بعمق في محاولة لتهدئة نفسها، ثم قالت:
"لم أعد افهم كلامك المُبهم، وهذا يعني أنني سأتصرف بنفسي، أرجو منك ألا تضايق من أي موقف أو إجراء سأتخذه".
نهض خالد من مقعده فجأة، وسار بهدوء إلى باب الملحق. فتحه وأشار بيده نحو الخارج، في إشارة واضحة بأنها غير مرحب بها. للحظة، تأملت السيدة منى خالد بذهول، ثم احمر وجهها بغضب وهي تنهض بعصبية. جسدها كان يرتجف، وتتمتم بكلمات غير مفهومة وهي تغادر.
أغلق الباب خلفها بهدوء، لكن قلبه لم يكن بنفس الهدوء. ظل مستغرقًا في التفكير للحظات، ثم، وكأن ثقله لم يعد يحتمل، خرج من الملحق متجهًا نحو المنزل، خطاه تحمل أعباءه الثقيلة معه.
***
كانت سالي تجلس على الأرض، تحتضن القطة الصغيرة "نو نو" بين يديها وتقربها بحذر إلى ماريا، التي تملأ ضحكاتها الغرفة وهي تمد يديها الصغيرة لتحاول الإمساك بالمخلوق البريء، الذي يشبهها في براءته. بضحكة لطيفة، قربت سالي القطة فجأة من ماريا ثم سحبتها برفق، مما أثار حماسة الطفلة، التي حاولت النهوض للوصول إلى غنيمتها.
ولكن تلك اللحظة اللطيفة قُطعت فجأة بصوت باب المنزل وهو يُغلق بقوة. انتفض الجميع للحظة وهم ينظرون نحو مصدر الصوت. مرت السيدة منى أمام باب غرفة المعيشة بخطوات سريعة، وجهها يشع انفعالاً وغضباً واضحين.
تابعوا بسمعهم حركتها وهي تصعد السلم بخطوات عالية مترددة في أرجاء المنزل. ساد الصمت، وبدأت نظرات القلق تتبادل بين الموجودين. المربيات تبادلن همسات خافتة، الأطفال توقفوا عن اللعب، وحتى الست ذكية التي كانت تتابع المشهد بهدوء، همست بريبة وبصوت مسموع إلى ابنتا أخيها:
"ماذا بها؟".
نظرت سالي نحو السلم حيث اختفت السيدة منى، وضمّت القطة برفق وهي تحاول كتمان قلقها، ولكن مشاعر التوتر بدأت تسري في الغرفة.
ولم تمر دقائق وسيطر الصمت على الأطفال وجميع من في الغرفة مرةً أخرى، وكأن الجميع قد تجمد في مكانه بعد مرور السيدة منى. شعرت سالي بوجود شخص خلفها، فاستدارت ببطء لتجد لارا، تقف خلفها تمسك بشعرها بيدها الصغيرة وتنظر بخوف نحو الباب المفتوح.
عندما التفتت سالي لتلحق بنظرات لارا، وقع بصرها على خالد واقفاً عند الباب. كان وجهه مشدوداً بملامح متجهمة، وعيناه تمسحان وجوه الجميع بهدوء. تحدث بصوت منخفض، لكنه مشبع بالصرامة والجدية:
"مساء الخير".
لم تكد كلماته تصل حتى ركضت سارة نحوه بحماس، تهتف بصوت طفولي مشرق:
"أبيه!".
انحنى خالد وحملها بين ذراعيه، لتطبع قبلة سريعة على خده وهي تقول بدلال:
"اشتقت إليك كثيراً".
رسم خالد ابتسامة مرهقة على وجهه، وقال بنبرة دافئة رغم علامات التعب التي كانت واضحة:
"وأنا أيضاً يا سارة، اشتقت إليكم جميعاً".
ألقى نظرة متفحصة على من في الغرفة، وعينيه تتنقلان بين الوجوه قبل أن تقع على سالي، التي كانت لا تزال تمسك بالقطة الصغيرة. حول نظره مجدداً إلى الأطفال وقال:
"كيف حالكم يا أولاد؟"
خطت فرح خطوة نحوه، قائلة بقلق وفضول:
"نحن بخير يا أبيه، ولكن.. أين ماما؟ ألم تأتِ معك؟".
مرت لحظة صمت، ثم أجاب خالد وهو يضم فرح بيده الأخرى، نبرة صوته تحمل مزيجاً من الحنان والجدية:
"لا، لم تأتِ معي يا فرح. الطبيب طلب أن تبقى في المستشفى اليوم".
ارتسم القلق على وجه نور، التي بادرت بسؤال بصوت خافت:
"هل مريضة جداً؟"
لم يجد خالد إجابة يخفف بها قلقها، فظل صامتاً للحظة قبل أن يضع سارة على الأرض. رفع رأسه نحو الست ذكية:
"ست ذكية، دكتورة، والجميع، من فضلكم. أحتاج للتحدث قليلاً مع الأولاد. أرجو أن تأخذوا الأطفال الصغار معكم، وليذهب أحدكم لاستدعاء أحمد وأميرة وليان".
نظرت إليه الست ذكية بعينيها الممتلئتين بالشفقة، ثم حولت نظرها إلى الأولاد الجالسين في حيرة واضحة. نهضت بهدوء وهي تشير للمربيات وابنتي أخيها أن يصطحبن الأطفال الصغار إلى الخارج. التقطت سالي ماريا بين ذراعيها، فيما كانت القطة الصغيرة "نو نو" تقفز نحو عبدالله، الذي ضمها إلى صدره بحب كعادته. أما لارا، فاختبأت خلف سالي، ممسكة بطرف فستانها، تنظر نحو خالد بعينين مرتعبتين.
لاحظ خالد تلك النظرة الغريبة من لارا، لكنه آثر تجاهلها، مركزاً على ما هو قادم. وقف في صمت، متابعاً خروج الجميع من الغرفة بصبر حتى تبقى فقط المجموعة التي أراد الحديث معها: حسن، فرح، أحمد، نور، رحيم، ليلى، أميرة، عبدالله، وليان.
جلسوا جميعاً في دائرة في أرجاء الغرفة، وكل واحد منهم يتأمل خالد وكأنهم ينتظرون منه إعلاناً سيغير كل شيء. تبادلوا النظرات بحيرة وقلق، حتى قاطع خالد ذلك الصمت الثقيل بصوته الحازم، الذي بدا كأنه يحمل عبئاً ثقيلاً:
"يا أولاد، أريدكم أن تصغوا إلي جيداً".
أخذ خالد نفساً عميقاً، وكأنه يجمع شتات كلماته قبل أن يواصل:
"منذ دخولنا جميعاً من هذا الباب..".
وأشار إلى الباب، ثم أكمل بنبرة هادئة:
"عشنا كعائلة كبيرة ومترابطة، ليس فقط أمام الآخرين، بل أمام أنفسنا. حسن، فرح، أحمد، نور، عبدالله، ليلى، ليان، والصغار، وصولاً إلى ماريا... وأنا كنت أولكم".
"أنا، يا أولاد، لم أعتبر نفسي يوماً أباً لكم، بل كنت دائماً أخاً أكبر، مثلكم تماماً. وما كان يجمعنا لم يكن مجرد جدران هذا المنزل، بل إنسانة حنونة وعظيمة، كرّست حياتها لنا وقدمت كل ما امتلكته، مادياً ومعنوياً وعاطفياً. هذه الإنسانة هي ماما أنيسة، التي كانت وما زالت أماً لنا جميعاً.
دخلنا هذا المنزل أيتاماً، لكنها جعلتنا ننسى شعور اليُتم. لقد أغدقت علينا بحنانها ورعايتها، لدرجة أننا لم نشعر للحظة بأننا فقدنا شيئاً.الآن..".
صمت للحظات وأكمل:
"بصفتي أخوكم الأكبر، حملتني ماما مسؤولية مشاركتها في رعايتكم، لأنكم كنتم تحتاجون دعماً إضافياً بجانبها، وهي وثقت بي".
"ومع تقدمها في العمر، كان عبء رعاية خمسة عشر طفلاً أمراً كبيراً، لكنها لم تشتكِ يوماً. بل على العكس، كان وجودكم يزيدها قوة وسعادة. إن ماما احتاجت إلينا بقدر ما كنا نحتاج إليها. أفضالها علينا لا تعد ولا تحصى، ومهما حاولنا ردّ الجميل، لن نتمكن من الوفاء بحقها. لذلك، علينا أن نقدر ونحترم كل ما قدمته لنا. ولأنني اثق بكم جميعاً، وماما كذلك تثق بكم.. الآن، أحتاج منكم أن تصغوا لي جيداً..".
تنهّد خالد، وحاول أن يبقي صوته ثابتاً وهو يضيف:
"ما سأخبركم به الآن سيُغيّر الكثير في حياتنا. هو أمر لا مفر منه، وعلينا مواجهته معاً، كأخوة وأبناء لهذه العائلة".
نظر إلى وجوههم واحداً تلو الآخر، ثم قال ببطء شديد:
"ماما أنيسة مريضة. في الحقيقة، لقد كانت تعاني من المرض منذ فترة طويلة، لكنه ازداد سوءاً في الأيام الماضية، ولهذا السبب انتقلت إلى المستشفى".
شعر الأطفال بالصدمة، ونظروا إليه بعيون مليئة بالأسئلة. تابع خالد:
"أعلم أنكم شعرتم بالحيرة في الفترة الأخيرة، وراودتكم العديد من الأسئلة التي لم أجب عليها. أشكركم على صبركم، وأعتذر لأنني تأخرت في الحديث معكم عن هذا الأمر..".
رفع عينيه إلى السقف، وكأنه يبحث عن كلمات تخفف وقع الخبر، ثم قال بصوت ثقيل:
"حالتها حرجة جداً. لم يكن هناك وقت مناسب لأخبركم، أو ربما كنت أخشى الحديث عن الأمر".
خفض صوته وهو يضيف، وكأن كلماته تحمل اعتذاراً مؤلماً:
"أعتذر".
همست فرح بخوف:
"أبيه.. ماذا تعني؟".
أجابها خالد بنبرة هادئة لكنها ثقيلة:
"أعني أن تستعدوا لما هو قادم، وأن تحاولوا أن تكونوا أقوياء".
تردد صوت فرح وهي تهمس بالبكاء:
"لا! هذا غير ممكن. أبيه، مما تعاني ماما؟".
قال خالد بوضوح، وإن كان صوته محملاً بالألم:
"إنه المرض الخبيث في القولون".
بدأت شهقات الأطفال ترتفع تدريجياً. قالت أميرة بصوت متهدج:
"لا أصدق.. ماما؟".
بينما نهضت فرح وأمسكت بذراع خالد متوسلة:
"أبيه، أرجوك.. قل إن هذا غير صحيح! ماما ليست مريضة".
شعرت بيد حسن تربت على كتفها، فالتفتت إليه لترى تأثره التي حاول جاهداً أن يخفيه. هز رأسه فنظرت إليه برجاء وقالت:
"لكنه يقول إن ماما ستموت!".
اقترب خالد منها ووضع يديه على كتفيها بلطف:
"اهدئي يا فرح".
همست بصوت مخنوق:
"أرجوك يا أبيه، هل هناك أمل؟".
لم يرد خالد، لكنه اكتفى بالنظر إليها بعينين تحملان حزناً عميقاً، وكان صمته الجواب الذي لم تستطع تقبله. اقتربت ليلى منه وقالت بنبرة متوسلة:
"أبيه، أريد أن أراها.. أرجوك".
أجابها خالد بحنان وهو يقربها منه:
"سترونها جميعاً، ولكن عندما تستقر حالتها".
جلس خالد على أقرب أريكة بجانب نور، التي كانت دموعها تنساب بصمت. مسح دموعها بحنان محاولاً مواساتها، بينما تجمع باقي الأطفال حوله، تغلبهم الدموع والبكاء. رفع خالد رأسه بنظرات مثقلة بالحزن ليرى حسن واقفاً بثبات، يضع يده على كتف فرح ليواسيها، رغم أن عينيه كانتا تعكسان حزناً عميقاً. حتى أحمد ورحيم، على صمتهم، لم يستطيعا إخفاء تأثرهما. تنهد خالد، ثم بدأ يتحدث ببطء، محاولاً تهدئة الأجواء وجذب انتباه الأطفال:
"أعرف أن الخبر قاسٍ، وأن الحزن الذي تشعرون به الآن لا يحتمل. البكاء والضعف أمر طبيعي، فلا أحد يلومكم على ذلك. لكن... نحن العائلة التي جمعتها أنيسة، العائلة التي زرعت فينا القوة والمحبة. وهذا هو ما سيمنحنا الصمود في مواجهة هذه الأوقات الصعبة".
توقف خالد للحظة، مسح وجهه بيده وكأن الكلمات تخنقه، ثم أكمل بصوت متماسك:
"أعلم أن كل واحد منكم يشعر بالخوف الآن، وأنا أيضاً لست مستثنى. ولكن ماما بحاجة إلينا أكثر من أي وقت مضى. نحن هنا لندعمها ونقف بجانبها".
تقدم عبدالله بخطوات صغيرة حاملاً قطته التي وافقت أنيسة على إحضارها سابقاً، وعندما جلس بجوار خالد، بدا جسده الصغير يرتجف من القلق. انحنى خالد نحوه وربت على كتفه بحنان، وقال بصوت مطمئن:
"مهما حدث، ماما ستظل دائماً معنا. في قلوبنا وفي ذكرياتنا. نحن نعيش بفضل حبها ورعايتها، وهذا الشيء لن يزول أبداً".
بينما حاول الجميع استيعاب كلماته، همست ليان وهي تكافح كبح دموعها:
"هل يمكننا أن نكتب لها رسائل؟ لنخبرها كم نحبها وكم نفتقدها؟".
ابتسم خالد بصعوبة وقال:
"بالطبع. ماما ستحب أن تقرأ رسائلكم. وأعدكم أنكم سترونها قريباً، إنها تشتاق إليكم كثيراً".
لم يعد هناك شيء يمكن قوله، فقد أصبح البكاء هو اللغة الوحيدة التي تعبر عن الصدمة التي اجتاحت قلوب الأطفال. كان الحزن والمواساة يملئون الغرفة، وكل واحد منهم يغرق في بحر من الدموع، يشعر بالعجز أمام ما يحدث. لا كلمات قادرة على أن تخفف عنهم، فقط كان الصمت يحيط بهم إلا من صوت أنفاسهم المتهدجة ودموعهم التي تساقطت بلا توقف.
ورغم الألم الذي خيّم على أرجاء المنزل، لم يستطع خالد إلا أن يشعر بالذهول مما يشهده الآن. إن عاطفة الحب هي أعجب العواطف على الإطلاق. تلك العاطفة التي، بمجرد أن تتأصل بين الأرواح، تصبح مصدراً مزدوجاً للفرح والحزن. بالحب نبتسم وتتلون حياتنا بالسعادة، وبسببه أيضاً قد تنهار قلوبنا وتضيع أرواحنا.
إن السيدة أنيسة، بالنسبة لهذا المنزل، كانت تجسيداً حيّاً للحب. كانت هي النبع الذي تدفقت منه السعادة التي غمرت حياة هؤلاء الأطفال. واليوم، بسببها أيضاً، يغرقون في الحزن وينهارون تحت وطأة الفقد القادم.
اقترب خالد من الأطفال، يضمهم ويواسيهم واحداً تلو الآخر. لكنه أدرك، وهو يحاول بث الطمأنينة في قلوبهم، أن كلماته تتلاشى أمام قوة الحب الحزين الذي يملأ الغرفة. كان يظن أنه الوحيد الذي يحمل تلك العاطفة الجياشة تجاه أنيسة، لكنه اكتشف الآن أنه كان مخطئاً. فقد شاركه في هذا الحب خمسة عشر طفلاً، عاشوا مع أنيسة تفاصيل حبها النقي. لكنهم عبّروا عن مشاعرهم بشكل مباشر، خالٍ من تعقيدات الكبار ونضجهم الذي يُثقل العواطف.
هذا الصفاء في حبهم جعل خالد يدرك أن هؤلاء الصغار هم الأكثر احتياجاً للدعم الآن. عليه أن يضع أحزانه جانباً، ويقف بجانبهم بكل قوته. هذا دوره، واجبه الذي لم يتخلَّ عنه يوماً.
لقد أشعلت أنيسة شعلة الأمل داخل قلوب هؤلاء الأطفال، وأصبح خالد مسؤولاً عن الحفاظ على هذا النور حيّاً. لن يسمح له بأن يخبو أو ينطفئ. سيبقى هذا الأمل، الذي زرعته أنيسة، منارةً في قلوبهم، وسيحرص خالد على أن يستمر في تأجيجه بكل ما يستطيع.
***
نظرت سالي إلى الساعة، كانت تشير إلى التاسعة مساءً. شعرت بقلق شديد على الأطفال، وقد ازدحمت داخلها تساؤلات لا تنتهي. هل أخبرهم خالد عن مرض أنيسة؟ كيف كان وقع الخبر عليهم؟ هل استطاعوا تقبله بلطف أم أن الصدمة كانت أكبر من طاقتهم؟ تمنت من أعماقها أن يمر الأمر بسلام على قلوبهم.
بعد دقائق، سمعت أصوات حركة صاخبة قادمة من الطابق العلوي، استمرت للحظات قبل أن يعم السكون مرة أخرى، وتُغلق أبواب الغرف فوقها. أدركت أن الأطفال قد عادوا إلى غرفهم. لكنها لم تجد الجرأة الكافية للخروج من الحضانة. ماذا يمكنها أن تفعل في موقف كهذا؟ كيف لها أن تواجه عيونهم البريئة المحملة بالحزن؟ ارتجف قلبها وهي تتخيل انهيارهم. لا، لم تكن قادرة على ذلك... لم تكن لديها الشجاعة.
نظرت إلى يحيى الذي غفا بين ذراعي المربية، فطلبت منها أن تأخذه إلى سريره. كان علي وماريا قد سبقاه، ولم يبقَ سوى التوأم وسارة، الذين كانوا لا يزالون مليئين بالطاقة. خاطبتهم بلطف:
"يا أولاد، حان وقت النوم".
صاحت لارا بابتسامة مشاكسة:
"لا أريد! أريد أن ألعب قليلاً، قليلاً جداً".
أشارت بأصابعها الصغيرة وهي تميل رأسها بلطافة، فابتسمت سالي رغماً عنها، مترددة في رفض طلبها. لكنها لاحظت احمراراً غير طبيعي على وجنتيها، فاقتربت منها بحذر، وضعت يدها على جبينها، وشعرت بارتفاع طفيف في حرارتها. حاولت طمأنة نفسها بأنه بسبب اللعب، لكنها لم تستطع تجاهل الأمر. انحنت على مستواها وسألتها:
"لارا، ما رأيك أن تأتي معي لأقيس حرارتك؟".
ردت لارا ببراءة:
"لماذا؟ أنا لست مريضة".
"مجرد تأكد، وإذا فعلتِ، سأعطيكِ البسكويت الذي تحبينه."
سمع فؤاد العرض وتحمس قائلاً:
"وأنا أيضاً! هل سأحصل على البسكويت؟"
تدخلت سارة متحمسة هي الأخرى. نظرت سالي إلى الأطفال بعجز، لكنها أجابت بابتسامة صغيرة:
"حسناً، من يوافق على قياس حرارته سيحصل على البسكويت".
بمهارة الطبيبة التي تعرف كيف تتعامل مع الأطفال، استطاعت إقناعهم. اصطحبتهم إلى العيادة، وكما توقعت، كانت حرارة لارا مرتفعة قليلاً، بينما الطفلان الآخران كانا بخير.
بعد أن نجحت سالي أخيرًا في إقناع لارا بشرب خافض الحرارة بعد دقائق طويلة من الإلحاح، جلست لتعقم الترمومتر بهدوء والأطفال من حولها يلعبون. لم تدم لحظات السكون تلك طويلاً، إذ سمعت صوت خطوات تقترب من باب العيادة. التفتت ببطء وحذر، لتجد خالد يدخل الغرفة، وملامح القلق واضحة على وجهه. توقف عند الباب وسأل:
"ما الذي يحدث هنا؟"
جال بعينيه في الغرفة، فرأى الأطفال يقتسمون البسكويت فيما بينهم. نظر إلى سالي وسألها بقلق:
"هل هناك خطب مع الأطفال؟".
ركضت لارا وتشبثت بفستان سالي للمرة الثانية، بينما ردت الأخيرة بارتباك:
"لا، كنت فقط أقيس درجة حرارتهم".
سأل مجددًا:
"هل هم بخير؟"
أجابت سالي وهي تنظر إلى لارا بحنو:
"لارا حرارتها مرتفعة قليلاً، أما البقية فبخير".
تراجعت لارا خلف سالي، محتمية بجسدها من نظرات خالد التي استقرت عليها. عقد حاجبيه وقال للطفلة بلهجة جادة:
"لارا، تعالي هنا".
لكن الطفلة لم تتحرك. تشبثت أكثر بفستان سالي، حتى بدا وكأنه سيتمزق من قبضتها. كرر خالد نداءه بصوت أكثر صرامة:
"لارا!".
صرخت الطفلة بذعر:
"لا! أنا خائفة!".
بدأ جسد لارا برتجف، مما دفع سالي للانخفاض إلى مستواها بسرعة، محاولة تهدئتها:
"لارا، ماذا تقولين لأبيه؟ كان هذا حلم سيئ، لا أكثر".
لكن لارا هزت رأسها بعنف وهي تصرخ مجددًا:
"لا!".
دهشت سالي من حالة الطفلة واحتضنتها بحنان، قائلة بهدوء:
"اهدئي، يا لارا. لا تخافي، أنا هنا معك".
اقترب خالد بخطوات مترددة وهو يهمس بصدمة:
"ما الذي يحدث؟ لماذا هي خائفة؟".
رفعت سالي عينيها نحوه بتوتر، ولم تجد كلمات لشرح الموقف. في تلك الأثناء، اقترب فؤاد من شقيقته بحزن وربت على كتفها قائلاً:
"لا تبكي يا لارا".
حتى سارة اقتربت من خالد، وقد بدا عليها التوتر الذي طغى على أجواء الغرفة.
وقف خالد مذهولاً أمام رد فعل لارا. كان ذعرها مبالغًا فيه، وتصرفها حياله غريبًا للغاية. نظر إلى الطفلة التي تجنبت حتى النظر إليه، ولم يقطع الصمت سوى نحيبها المتواصل. انتظر بصبر حتى هدأت بين أحضان سالي، التي كانت تمسح على ظهرها برفق.
هدأت الطفلة وهي تدفن وجهها في كتف سالي التي حملتها بين ذراعيها، واستدارت نحو خالد قائلة بصوت منخفض:
"لقد رأت حلمًا سيئًا. من وقتها وهي تشعر بالخوف".
نظر خالد إلى لارا التي كانت تتشبث بسالي كأنها حبل نجاتها. شعر بوخزة غيرة، وهمس:
"هل تخاف مني؟".
هزت سالي رأسها ببطء وقالت:
"نعم. في حلمها، رأتك بشكل مخيف".
تأمل خالد الطفلة بحيرة. بينما نظرت سالي إلى فؤاد وسارة اللذين بديا متوترين بدورهما. وتنهدت وهي تقول بنبرة يملؤها العجز:
"الأطفال متوترون جدًا".
نظر خالد إلى الطفلين اللذين تبادلا نظرات حائرة، ثم اقترب فؤاد وسأل بخوف:
"أبيه، ماذا يحدث؟".
ابتسم خالد ابتسامة باهتة ووضع كفه على رأس فؤاد بلطف، مجيبًا:
"لا شيء يا فؤاد، لا تقلق".
تدخلت سالي بلطف وهي تحاول تهدئة الموقف:
"فؤاد وسارة، أختكم لارا خائفة... ما رأيكم أن تواسوها قليلاً؟".
امسكت سارة قدم لارا، وسألت بحماس:
"لماذا أنت خائفة؟ تعالي نلعب قليلاً معًا".
لكن لارا رفضت، هزت رأسها بعناد وهي تلتصق بسالي أكثر. جلست سالي على أقرب كرسي، واحتضنت لارا على ساقيها بحنان، ثم همست بلطف:
"لارا، عزيزتي.. انظري إلى أبيه خالد، هل يبدو لك عفريتًا كما رأيته في الحلم؟".
ولكن لارا لن تدع الأمر يمر بسلام، نظرت إلى خالد من بين دموعها بخوف، وعندما اقترب منها محاولاً مد يده لطمأنتها، صرخت بانفعال:
"ابتعد عني!".
تجمد خالد في مكانه، بينما شعرت سالي بجرح عميق لكلمتها، لكنها أخفت مشاعرها وهمست لنفسها بصوت لا يُسمع:
'لارا.. أنت حقًا قاسية'.
نظرت سالي إلى خالد بشفقة، وهو يقف متحيرًا أمام خوف الطفلة وارتباكها. حاولت تهدئة الموقف بقولها:
"لارا، هذا عيب.. إنه أبيه خالد الذي يحبك".
اقترب خالد بخطوات هادئة، وجلس على مستوى الطفلة وهو يقول بنبرة دافئة:
"لارا، انظري إلي، لا تخافي. أنا لن أؤذيك. أخبريني، لماذا أنت خائفة مني؟".
ترددت الطفلة للحظات، متشبثة بسالي، ولكن مع إصرار وتشجيع من كليهما، رفعت عينيها أخيرًا لتنظر إلى خالد، وهمست بصوت خافت مليء بالرهبة:
"أنت تريد أن تؤذيني".
تجمد خالد في مكانه من وقع كلماتها، وشعر بالقلق والصدمة، لكنه رد بلطف:
"أنا أحبك جدًا يا لارا، كيف يمكنني أن أؤذيك؟"
لم تجب الطفلة، لكنها بدت أقل توترًا مما كانت عليه قبل قليل. لاحظ خالد ذلك، فألح عليها برفق:
"لارا، حبيبتي، تحدثي معي.. أريد أن أفهم ما يزعجك".
نظرت لارا إلى سالي التي أومأت لها مشجعة بابتسامة مطمئنة. استجمعت الطفلة شجاعتها، ثم قالت:
"أنت تركت لارا بمفردها في الملحق".
حدق خالد بها بحيرة، ثم نقل نظره إلى سالي، التي همست له موضحة:
"إنها حزينة لأنها حاولت التحدث معك، لكنك لم تنتبه لها. شعرت أنك تجاهلتها، وظلت تنتظرك طويلاً. عندما لم تأتِ، نامت هناك ورأت كابوسًا".
صمت خالد، وقد بدأ يدرك أن خوف الطفلة لم يكن إلا انعكاسًا لشعورها بالإهمال والوحدة، فشعر بوخزة ألم في قلبه. ابتسم بقلة حيلة، وقد حاول استرجاع تلك التفاصيل لكنه لم يفلح. نظر إلى لارا برفق، ومد يده يمررها على شعرها الناعم قائلاً:
"أعتذر يا لارا. لم أكن أعلم أنك كنتِ تنتظرينني في الملحق يومها. لو كنت أعلم، لجئت إليك فورًا. سامحيني".
ثم أضاف بابتسامة مطمئنة:
"والآن، انظري إليّ. هل أبدو مثل العفريت الذي رأيته في حلمك السيئ؟".
ردت سارة ببراءة، قبل أن تتمكن لارا من الإجابة:
"لا، أبيه ليس عفريتًا!".
نظرت لارا إلى خالد بتمعن، ثم هزت رأسها نافية، فابتسم خالد قائلاً:
"إذاً، لا داعي للخوف مني بعد الآن".
مدّ يده نحوها برفق قائلاً:
"تعالي هنا".
ترددت لارا، وتشبثت بسالي، التي دفعتها بلطف وهي تقول مشجعة:
"اذهبي إليه يا عزيزتي، إنه يحبك كثيرًا".
أبت الطفلة في البداية، فتنهد خالد وسالي بيأس في نفس اللحظة. عندها تدخل فؤاد بحماس قائلاً:
"أنا أريد أن تحملني!".
أجاب خالد بهدوء:
"يجب أن أصالح لارا أولاً".
وبعد دقائق أخرى من الإلحاح والمشجعات، وافقت لارا أخيرًا. حملها خالد براحة، وقبّل رأسها بحنان. وضعت الطفلة رأسها على كتفه بخمول. نهضت سالي قائلة بصوت عالٍ وهي تمدح الصغيرة:
"لارا طفلة مهذبة ولطيفة جدًا، أليس كذلك يا أطفال؟".
هتف فؤاد وسارة معًا بحماس:
"نعم! ونحن أيضاً".
تابعت سالي مبتسمة وهي تنظر إليهما:
"إذاً لأنكم مهذبون ولطيفون، هذا موعد نومكم، هيا إلى السرير".
قبل أن يغادر الأطفال الغرفة، تدخل خالد بصوت هادئ موجهًا حديثه لسالي:
"دكتورة، إذا سمحتِ، أحتاج لبعضٍ من وقتك. أريد أن أتحدث معك بشأن أمر مهم".
***
رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: سالي
عزيزتي بيسان، كيف حالك؟ أفتقدك كثيرًا وأنتظر رسائلك بفارغ الصبر. لا تغيبين عن بالي أبدًا، لذا أرجوك، لا تنسيني حين تعود خدمة الاتصال.
مع خالص الحب لك
سالي].
نهاية الفصل التاسع والعشرون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء..
مستمتعين بالقراءة؟ أتمنى أكون على قد المسؤولية. مستنية ارائكم على الفصول والرواية، وبابي مفتوح لأي مناقشة هنا.
ولو حابين تتابعوني عن قرب تابعوني على الانستا، انا نشطة عليه أكتر ❤️
كاتبتكم ءَالَآء
سؤال الفصل: يا ترى خالد عايز ايه من سالي؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق