رواية المنزل
الفصل السادس
كانت ملامح فرح مختلفة قليلاً عن تلك الطفلة المرحة التي رأتها سالي لأول مرة، الهالات السوداء البشعة تحيط بعيونها الجميلة، واليأس والندم يلمعان في مقلتيها، وكفيها الرقيقين يشكلان باتحادهما قبضة مرتعشة. أدركت سالي بسرعة السبب لوقوف فرح أمام غرفتها في مثل تلك الساعة، ودون أن تنبس ببنت شفة فتحت الباب وتنحت جانباً، فدخلت فرح بصمت تحت صوت إغلاق الباب وبعد أن تفحصت سالي الطرقة وتأكدت من عدم وجود أحد فيها. جلست المراهقة بصمت على السرير وأزاحت كمها لتُري معصمها للطبيبة الشابة التي جلست بجوارها وهي تتنهد وتمسك المعصم النحيف وتتفحصه بتركيز، وعندما تأكدت أن الفتاة لم تؤذ نفسها بشكل خطير عقمت الجروح الكثيرة والتي ستترك على المدى البعيد أثراً على جلدها الرقيق، ضمدته سالي بعناية، وبعد انتهائها تأملت فرح ذات الملامح الرقيقة، كان شعرها مبلولاً ولم يتم تجفيفه بصورة كاملة، فنهضت وسحبت منشفة من الدولاب وألقتها بخفة على شعر الفتاة وهي تقول:
- "استديري سأسرح لك شعرك".
جففت سالي شعر فرح ثم التقطت فرشاة الشعر الخاصة بها، وأمسكت الشعر الطويل الناعم بخفة لتسرحه، ولم تمض دقائق قليلة وتحركت شفتا سالي وهي تغني بصوت خافت:
[زينه.. زينة.. زينة.. زينه غالية علينا
زي ضي عينينا.. يا زينة.. يا زينة.. زينة.. زينة.. زينة
والله زينة والله تشتهيها العين
لولا خوفي من الله لأقطف الخدين
اللي نورهم خلا حر قلبي ضلة
والصحارا جنينه، زينه والله زينه].
قاطعتها فرح:
- "ما هذه الأغنية؟".
ابتسمت سالي والذكريات تعاودها:
- "أغنية من فيلم قديم، ماما تعودت أن تغنيها لأختي زينة وهي تسرح لها شعرها حتى لا تبكي".
قالت فرح بصوت خافت:
- "أغنية جميلة".
اتسعت ابتسامة سالي أكثر فأكثر:
- "كانت تنتابني الغيرة من أختي كلما رأيت ماما تغني لها تلك الأغنية، وفي يوم من الأيام ظللت أبكي طوال اليوم لأنه لا يوجد أغنية باسمي".
سألتها فرح وهي تضحك بخفة:
- "هل أنت لارا؟".
ضحكت سالي بتشبيه فرح لها بلارا المزاجية. سألتها فرح:
- "كم كان عمرك؟".
- "سبع سنين".
لم تفارق الابتسامة سالي وتتذكر تصرفها الطفولي:
- "في اليوم التالي أحضرت ماما حنة للشعر، كانت تضع الحنة على شعري وهي تغني قطر الندى".
- "ما هذه الأغنية أيضاً؟".
غنت سالي بصوتها الذي لم مبهراً، ولكنه لطيف وخافت:
[الحنة يا حنة يا حنة يا قطر الندى
يا شباك حبيبي يا عيني جلاب الهوى].
رددت فرح الاغنية مع سالي وكان صوتها جميل ودافئ، قالت بابتسامة مرحة:
- "هذه الأغنية أجمل من الأخرى، أعتقد أن والدتك مبدعة".
قالت سالي وصوتها يعلو بضحكة:
- "ولكني أيضًا بكيت!".
التفت لها فرح متسائلة:
- "لماذا!".
- "لأن اسمي لم يكن ندى!".
ضحكت الاثنتان بصوت عال، وقالت لها فرح بصوت مرح جميل:
- "أنت كئيبة جداً يا دكتورة".
سألتها سالي مُدعية الصدمة:
- "والآن؟!".
قالت فرح وهي تخفض رأسها للأسف وقالت وعيناها تشردان:
- "بالعكس، أنا أحب وجودك والحديث معك".
جدلت سالي شعر فرح بصمت ثم مسحته بكفيها لتسيطر على الخصلات المتمردة، وأمسكت ذراع المراهقة لتلتفت إليها:
- "فرح، أنا سعيدة جداً لأنك أتيت اليوم".
لمحت فرح الصدق في ابتسامة سالي، فقالت:
- "ألا تشمئزين مني؟".
صدمت سالي من السؤال، ولكنها استجمعت أفكارها وقالت:
- "هذا غير صحيح، أنت إنسانة شجاعة، لقد وقعتي في فخ ليس من السهل النجاة منه، وعلى الرغم من ذلك كانت لديك الشجاعة للاعتراف به".
أشارت سالي إليها ببساطة:
- "وأتيت الآن وأخبرتني كما اتفقنا".
لم تستجب الفتاة فأكملت سالي مُشجعة:
- "فرح، خلق الإنسان ليتعلم، وأفضل وسيلة للتعلم هي ارتكاب الأخطاء ثم إدراكها ومحاولة تصحيحها، من منا لم يقع في أخطاء كبيرة كتلك؟ أتذكر عندما كنت في سنك لم يكن لدي يوماً هذه الشجاعة لارتكاب الخطأ والاعتراف بها".
اهتزت عيون الفتاة المراهقة وكأن هناك ما انفجر داخل قلبها بعد تلك العبارة، وقالت بيأس:
- "ما أفعل حتى أقلع عن تلك العادة؟".
سكتت سالي أمام يأس المراهقة، ثم تحدثت بعد ثوان:
- "أن تقتنعي أن هذا ليس أنت، غيري رأيك في نفسك، وسلطي الضوؤ عليه في عقلك على الدوام، أسألي نفسك هل هذا الشخص الذي تحبين أن تكوني عليه؟".
نفت فرح برأسها، فنظرت سالي إليها بدقة وتصميم وأشارت بأصبعها ليلامس كتف فرح:
- "إذاً هذا يعتمد عليك أنت في الأساس، لا أحد سينقذك إلا نفسك".
صرحت فرح بهدوء:
- "حسن رآني".
ادعت سالي الجهل:
- "حقا؟، ماذا كان رد فعله؟".
هزت فرح كتفيها بلا مبالاة:
- "أخبرني أنه لن يحكي لأحد بشرط ان أكف عن ذلك".
ردت سالي بصوت هامس وهي تحرك جديلة فرح بخفة:
- "مممم علينا أن نتصرف قبل أن نثير أعصاب هذا الفتى".
سألتها بعد ثوان من الصمت:
- "أخبريني كيف تشعرين بعد هذا التصرف".
ردت فرح بتلقائية:
- "بالندم".
سالي وهي تشعر بالحيرة:
- "ليس الخوف؟".
بكل بساطة الخوف هو الرد الطبيعي من مراهقة في سن فرح، هذا ما تعودت عليه سالي والتي كانت كلما اقترفت خطأ تشعر بالخوف من والدتها حتى لا تعاقبها، وعقاب والدتها كان لا يستهان به. التفتت فرح وأعطت سالي ظهرها مخفيةً مشاعرها، ثم تحدثت موضحة:
- "أخاف فقط من نفسي، أعتقد أنني لست شخصاً جيداً"
كانت فرح مؤخراً تشعر بأن الحقد يشتعل داخلها تجاه زميلاتها، وهذا كان مُخيفاً لأنها ولأول مرة تختبر مثل تلك المشاعر المريبة. قالت الفتاة بحزن:
- "أخاف أن تحزن مني ماما وخالد وإخوتي إن علموا أنني لست شخصاً صالحا كما يظنون".
تأملت سالي ظهر فرح التي لم تخف من العقاب بقدر خوفها من أن تجرح أحباؤها وتتسبب في أذيتهم، رأت أمامها مجرد طفلة، طفلة خائفة، ربما تصرفها الطائش ينبع من مشاعر خاصة مدفونة داخلها، مشاعر من الصعب التوصل إليها مع فتاة مراهقة في مثل هذا السن، ولكن على سالي أن تكتشفها لتكون جزءاً من الترياق. احتضنت سالي فرح بشدة وللغرابة تشبثت أصابع فرح بها وكأنها كانت في حاجة إلى ذلك العناق. ضمت سالي الفتاة إليها أكثر وهي تتساءل إلى أي مدى مشاعر الإنسان معقدة وصعبة الفهم، وما الذي يحتاجه الإنسان حتى يطمئن ويهدئ باله، أليس الحب يكفي أم هناك أكثر وأهم من الحب. فكرت في هذا التحدي التي وضعت أمامه فجأة، كان عليها أن تعلم السبب الحقيقي لتصرف فرح في أقرب وقت، عليها أن تستنتج دوافعها والأسباب التي أدت إلى ذلك. قالت سالي بحب:
- "سيغفرون لك أخطائك لأنهم يحبونك، وسيمهدون لك الطريق لتخطيها، أعتقد أن عائلتك عائلة محبة"
صمتت فرح، فغيرت سالي الموضوع واقترحت عليها:
- "ما رأيك أن تنامي بجواري اليوم؟".
نظرت الفتاة إلى سالي باستغراب:
- "ألن أضايقك؟".
- "بالطبع لا، اعتدت أنا وزينة أختي على النوم بجوار بعضنا البعض والتحدث طوال الليل".
حركت سالي إصبعها بوعيد:
- "ولكن لا حديث في الليل فأمامك يوم مدرسي طويل غداً، هيا استلقي وسأغطيك".
سألتها فرح وهي تستلقي:
- "ألن تنامي؟".
سحبت سالي الغطاء حتى وصل إلى عنق فرح:
- "بالطبع، أشعر بالإرهاق بعد هذا اليوم المتعب، إخوتك كادوا أن يتسببوا في توقف قلبي اليوم".
ضحكت فرح:
- "أنت لم تري شيئاً بعد".
قالت سالي بتنهد:
- "شكراً لك على هذا التنويه".
***
جلست أنيسة تحت نافذتها، بجوارها إضاءة خافتة، وبين يديها النحيفتين المجعدتين رسالة تقرؤها وعيونها ترتعش، حتى انتبهت لصوت الطرق على باب غرفتها، فطوت الخطاب بسرعة ودفعته خلف ظهرها بسرعة وقالت وهي تعدل من جلستها لأخرى أكثر راحة:
- "تفضل".
كان خالد هو الطارق الذي دخل بمشيته البطيئة المرتاحة واتخذ مقعداً مقابلاً لها وهو يسألها:
- "لماذا لم تنامي؟".
تأملت أنيسة هذا الشاب الرائع بعيون معجبة:
- "كيف أنام وأنا أعرف أنك ستأتي".
ابتسم خالد برقة على ردها، مُضيقاً عينيه تأمل هذه المرأة التي لم يرها في حياته تفعل شيئاً إلا انتظاره، أصبحت الآن امرأة مسنة ضعيفة، وهذا أيقظ غصة في قلبه، فنظر حوله ونهض ليلتقط شالها المعلق خلف الباب، ووضعه على كتفيها كما أعتاد أن يفعل دوماً، فقالت أنيسة باعتراض:
- "لكن لا أشعر بالبرد".
قال لها بصوته المتسلط:
- "لا تخلعيه".
سكنت المرأة أمام سلطته التي تقبلتها برحابة صدر، فقد كانت تلك الحركة هي أحد أساليب خالد للتعبير عن الحماية.
فكرت المرأة:
- 'ما زالت طباع هذا الفتى كما هي'.
تأملت ملامحه التي أصبحت أكثر قسوة عن قبل، فسألته:
- "حبيبي أنت مرهق، ألا تستطيع أخذ إجازة؟".
رد عليها خالد وهو يفكر في كم المسؤوليات على عاتقه:
- "العمل لن ينتظرني، المكتبة تشغل كل وقتي".
ردت أنيسة وهي تشعر بالشفقة على هذا الولد الصلب:
- "لكننا ننتظرك".
ابتسم خالد أمام هذا الرد الحنون، ولم يجد الرد المناسب عليها، فسألته المرأة:
- "ماذا ستفعل مع حسن؟".
لم يرد خالد، لتبتسم أنيسة وهي تقول:
- "أظنك تفهم الآن ما كنت تفعله بي في مراهقتك".
عاودته الذكريات وهي تكمل حديثها مُلتقطة نفساً عميقاً براحة:
- "كنت جامحاً أيها الولد، لطالما قضيت الليالي وأنا أبكي بسببك".
انسابت أنيسة في تلك الذكريات وتأملت الرجل أمامها:
- "ولكنك الآن تغيرت، لا أعلم إن كنت خالد الذي ربيته أم لا، أصبحت قليل الكلام، وبات من الصعب سبر أغوار نفسك، هذا الولد حسن صار يشبهك كثيراً، كلما رأيته أشعر كما لو أنني أنظر إليك".
تحدث خالد بعد مدة من الصمت:
- "ماما، أصبحت كثيرة القلق مؤخراً، مرة لارا، ومرة حسن، ثم أنا".
تنهدت المرأة وهي تقر بذلك:
- "أعتقد ذلك، ولكنكم صرتم متعبين".
ابتسم خالد وهو يتحدث:
- "لا تقلق على حسن، قريباً سنراه يلعب في البطولة".
سألته أنيسة بلهفة:
- "هل تحدثت معه؟".
اتسعت ابتسامة خالد:
- "ألم تقولي أنه صار يشبهني؟".
تفاجأت أنيسة من رده وتذكرت خالد المراهق الذي لطالما هددها بالرحيل وفي النهاية يعود بتكبر وعند بالكاد يحافظان على ماء وجهه، فابتسمت وهي تمد يدها وتمسح على كتفه الصلب بحنان، ثم قالت وهي تسحب كفها:
- "أتعلم ما سيجعلني مطمئنة أكثر عليك؟".
نظر إليها منتظراً الإجابة، فقالت بشغف الأم:
- "أن تتزوج، أنت تحتاج رفيقة تشاركك حياتك عزيزي".
نظر إليها متأملاً:
- "تلك أول مرة تتطرقين فيها إلى مثل هذا الموضوع".
- "لطالما كان هذا الأمر في خاطري، وعلى لساني في كثير من الأوقات، ولكن الآن هو الوقت المناسب لمثل هذه الخطوة".
- "ما الذي تغير حتى تعتقدي أن هذا الوقت المناسب؟".
اهتزت ملامح المرأة لوهلة ثم تنفست براحة وقال:
- "الأولاد يا حبيبي، مسؤولياتهم صارت ثقيلة عليك ويوماً وراء الآخر أراك تنعزل في واجباتك وتزداد وحدة".
قال خالد:
- "أنت هنا".
كان خالد يفكر في أمر آخر، وهو أنه لا توجد امرأة عاقلة قد تقبل بمثل هذا الوضع الغريب، ولكنه لم يعرض تلك الفكرة على المرأة المسنة التي تجلس أمامه حتى لا تصاب بالإحباط. لم يكن الأمر أنه لا يريد الزواج، ولكنه لم حتى الآن الوقت المناسب لذلك ولا المرأة التي قد تقبل مثل تلك التضحية، رجل في عاتقه خمسة عشر طفلاً تخللوا حياته وامتزجوا بها فصار بالنسبة لهم كل شيء وهم أيضاً صاروا حياته، لا يستطيع أن يتشتت عنهم. قالت أنيسة وهي تتأمل الفراغ والحزن يكسو ملامحها:
- "لا أشعر أنني ما زلت الأم في نظرهم، هؤلاء الأطفال يكبرون ويستوعبون أحوال الحياة بسرعة، وسرعان ما سيدركون أنهم في سعادة مزيفة، ما الذي ستقدمه امرأة عجوز مثلي لتلك النباتات اليافعة التي تحتاج أكثر من وجود أم بالاسم فقط".
شعر خالد بأن هناك خطب فسألها:
- "هل أنتي بخير؟".
تهربت المرأة من نظراته وقالت:
- "الوزارة تواصلت معي، يقترحون تسليم بعض الأولاد للكفالة".
اتسعت عيون خالد في صدمة:
- "كيف هذا، الأطفال مكفولين بالفعل".
ابتسمت المرأة بحسرة:
- "يبدو أنهم يتعاملون معنا كدار".
شعر خالد بالغضب يلتهب داخله:
- "متى تواصلوا معك؟".
- "منذ شهرين".
- "لماذا لم تخبريني؟".
نظرت المرأة إلى الشاب الغاضب بعذر:
- "حبيبي أنا المسؤولة وليس أنت، أنا من كفلهم جميعاً".
هدر غاضباً ونهض من مقعده:
- "ماذا تعتقدينني؟ هؤلاء الأطفال مسؤوليتي معك، وإلا لم أكن لأوافق على وجودهم من الأساس".
ظهرت الدموع في مقلتي المرأة، فصدم خالد وعاد إلى وعيه وتمسك بهدوئه مرةً أخرى وهو يتقدم إليها ويحتضنها:
- "أعتذر".
قالت المرأة وهي تربت على ظهره:
- "لا بأس عزيزي، أنا أتفهم غضبك، ولكن ماذا أفعل؟، لا أريد أن أثقل من أحمالك ومسؤولياتك".
قال خالد بهدوء:
- "الأطفال ليسوا أحمالاً، لقد قررنا بكامل إرادتنا أن يتواجدوا في حياتنا، علينا تحمل مسؤولية هذا القرار".
نحبت المرأة:
- "لا أستطيع فراقهم يا خالد".
ضم الشاب المرأة العجوز إليه بقوة وهو يقول:
- "لا أحد على وجه الأرض يستطيع أخذ طفل واحد من هذا المنزل".
***
فتحت سالي عينيها، ونظرت إلى فرح التي تنام إلى جوارها، بعد أن تأكدت أنها تنام بعمق، نهضت والتقطت هاتفها، كانت الساعة الواحدة صباحاً، تفحصت رسائلها، لتجد رسالتين الأولى كانت رسالة صوتية من شقيقتها والأخرى من رقم غريب، فتحت رسالة شقيقتها أولاً وسمعت صوتها المرتبك:
- "سالي لماذا لم تتصلي بي، بابا زارنا اليوم في المنزل، وانتهى الأمر بشجار مع ماما عندما علم أنك سافرت بمفردك".
تنهدت شقيقتها:
- "لا أعلم كيف أقول هذا، ولكنه جاء ليقترح على ماما أن تتزوجي أحد معارفه، ماما بالطبع رفضت، ولكنه مصر على التواصل معك، في النهاية حاول أن يأخذ العنوان منا، ولكن ماما رفضت، ولكنها أعطته رقم هاتفك بعد إلحاح، أرجوك إن حاول الاتصال بك لا تردي عليه".
شعرت سالي أن الهاتف بين يديها صار ثقيلاً، ثلجت يديها وفرغ ذهنها من الأفكار إلا الكلام الذي سمعته للتو من تسجيل شقيقتها. كانت هناك بالفعل مكالمات كثيرة لم ترد عليها من أختها ووالدتها ورقم غريب بالتأكيد لوالدها، ولكنها لم تتوقع أن يصل الأمر إلى هذا الحد، زواج؟، لقد قطعت صلتها مع هذه الفكرة بعد تجربة الحب الفاشلة التي مرت بها، ولم تفكر في هذا الاقتراح مرةً أخرى، ويأتي الآن والدها ليقتحم حياتها ببرودة قلب دون أن يعلم ما مرت به ابنته في غيابه خلال تلك السنين الماضية. فتحت الرسالة الثانية الواردة من رقم غريب كانت تحتوي على جملة وحيدة:
- "سالي كيف حالك؟ أنا والدك قابليني غداً في كافيه....أمام النيل، لا تتأخري عن التاسعة".
أصابتها قشعريرة خلال جسدها، لا تعلم هل هي بسبب الرسالة الباردة من والدها، أم سببها لمسة برد خفيفة مرت في تلك الثواني على الرغم من اعتدال الجو. التفتت إلى فرح التي تنام بسلام، وأشفقت أن تسحب جزءاً من الغطاء حتى لا تقلق الفتاة النائمة بسلام، فنهضت من السرير بخفة، وجلست على مكتبها، وتحت إضاءة خافتة صادرة من مصباح صغير على مكتبها، أمسكت قلمها وبدأت تدون مذكراتها.
***
في الصباح الباكر استيقظت فرح لتجد سالي بالفعل مستيقظة وترتدي ملابسها، فسألتها:
- "إلى أين أنت ذاهبة؟".
قالت سالي بغموض:
- "سأقابل صديق".
شعرت فرح بشعور غريب تجاه سالي التي كانت منغلقة كثيراً في حديثها، لكنها لم يكن لديها نية التطفل عليها فاستأذنتها للذهاب إلى غرفتها والاستعداد لمدرستها. وعلى الفطور استأذنت سالي من السيدة أنيسة للذهاب إلى موعدها تحت انتباه من الجميع.
قالت أنيسة مُفكرة:
- "هذا المكان يبعد عن هنا ساعة، ربما أدعو السائق...".
قبل أن تكمل حديثها قال خالد مُقاطعاً:
- "لا مشكلة، أستطيع اصطحاب الدكتورة معي".
قالت سالي بسرعة وهي تشعر بالتوتر:
- "لا حاجة لذلك، ربما أعطلك".
قالت خالد بهدوء وهو يقطع الخبز لنصفين:
- "هذا طريقي على كل حال".
نظرت سالي إليه بقلق، وسمعت أنيسة تسأله:
- "ألن يأتي محمود ليصحبك؟".
- "سأترك له رسالة أن يذهب إلى المكتب مباشرةً، والسيارة الأخرى موجودة".
نظر إلى إسراء ابنة أخت ذكية وأمرها بهدوء:
- "من فضلك أخبري عم حمدي أن يجهز السيارة".
لبت اسراء طلب خالد بسرعة، ووجدت سالي نفسها في السيارة وحيدة مع هذا الرجل الذي تشعر بالتوتر في حضوره، كانا صامتين طوال النصف الأول من الطريق، ولم يكن هناك فقط إلا سؤال وحيد عن العنوان الذي شرحته سالي باختصار. كان خالد يقود طوال الطريق بتركيز، ولكنه لاحظ أن الطبيبة الشابة تفرك يداها بتوتر، وشعر خالد بتلك الطاقة الموترة التي تصدر من الشخص الذي يجلس بجواره، فسألها:
- "لا يبدو أنك جاهزة لموعدك".
نظرت سالي إلى بحيرة:
- "ماذا تقصد؟".
نظر إليها لجزء من الثانية ثم أشار برأسه إلى يديها:
- "أنت متوترة وهذا واضح للعيان".
تأملت سالي يديها التي شكلتهما في قبضة قوية لتمنع ارتعاشهما وقالت:
- "كل ما في الأمر، أنني لم أر هذا الشخص منذ سنين".
سألها خالد بصوته الثقيل الدافئ:
- "هل هو شخص مهم؟".
قالت سالي والحزن يخيم على ملامحها:
- "من المفترض أن يكون كذلك".
لم يعلق خالد والتزم الصمت طوال الطريق بعد هذا الحديث القصير جداً. وقفت السيارة أمام الكافيه المحدد والذي يباشر على النيل، ترددت قبل أن تفتح الباب، ولكنها شددت من عزيمتها وفتحت الباب وهي تنظر إلى خالد بصدق:
- "شكراً لك مستر خالد، وأعتذر إن أخذت من وقتك".
قال لها خالد بهدوء وهو يومأ برأسه:
- "لا بأس، تفضلي يا آنسة، بالتوفيق".
خرجت سالي أمام مرمى بصر خالد الذي وقف لثوان يتأمل مشيتها، كان من الواضح عليها أنها قد تطلق ساقيها للريح في أي وقت وتهرب من هذا المكان.
***
كان وقت الفسحة في المدرسة، جلست فرح بمفردها في الفصل، تتأمل الطلاب في ملعب المدرسة من النافذة، شعرت بالكآبة وهي ترى السحب تتحرك وتحجب أشعة الشمس التي كانت في أوجها منذ ثوانٍ، وبينما وهي على هذا الحال أحست بحركة قادة من الخلف فالتفتت لتجد زميلاتها يقفن أمام باب الفصل وينظرون إليها بتوتر، تقدمت دينا التي أهانتها منذ عدة أيام بخطواط مترددة، ووقفت أمامها وهي تقول بصوت مهتز:
- "فرح كيف حالك؟".
نظرت إليها فرح وهي تخفي مشاعرها المجروحة ولم ترد عليها، فبادرت الفتاة:
- "أعلم أنني جرحتك، صدقيني لم أقصد ذلك، كنت فقط خائفة أن يتم الإفشاء بسرنا".
فكرت فرح بسخرية وهي تتذكر كل مرة كان يتم فيها التنويه عن خلفيتها. لم تجد الفتاة رد من فرح الصامتة، فجلست على المقعد أمام سالي ونظرت إليها باستعطاف ثم قالت:
- "أنا آسفة، أرجوك سامحيني".
كانت باق الفتيات يقفن ويتابعن المشهد بفضول فتقدمت إحداهن وهي تقول:
- "فرح سامحي دينا، ولنفتح صفحة جديدة".
نظرت دينا إلى فرح بإلحاح:
- "أنا أعتذر منك، لن أكرر ذلك".
لم تجد الفتاة استجابة، فقالت بحماس:
- "هل تعلمين أن الدفعة تجهز لعشاء جماعي، ما رأيك أن نذهب معاً؟".
نظرت فرح بفضول إليها، فتلألأت عيون الفتاة بالأمل وهي تقول:
- "سنستمتع وسنلتقط الكثير من الصور والفيدوهات التي نستطيع نشرها".
أمسكت الفتاة بكف فرح وشدت عليه بإلحاح، فقالت فرح بعد ثوان من الصمت:
- "متى ستكون؟".
قالت الفتاة بحماس:
- "الأسبوع القادم".
فكرت فرح لم تذهب من قبل لمثل هذه التجمعات، وكانت تلك تجربة لا تريد أن تفرط فيها، القت على زميلاتها نظرة غامضة ثم سألت:
- "حسناً، سأرافقكم".
***
جلست سالي أمام حضور والدها، وكفيها على ركبتيها تفركهم بقوة، تأملها الرجل بهدوء:
- "كيف حالك؟".
ردت ابنته بهدوء:
- "بخير، وأنت؟".
تنهد وقال:
- "أنا أيضاً بخير".
اكتفت سالي بنظرة هاربة إلى ملامح والدها التي تغيرت عن آخرة مرة رأته فيها، كان الشيب قد غزا شعره بغزارة، والتجاعيد وجدت طريقاً إلى بشرته الخشنة السمراء، وأصبح رجل في بداية العقد السابع من عمره. تحدث الرجل:
- "تفاجأت الأمس بغيابك عندما زرتكم في المنزل، ولكن علمت أنك تعملين في دار أيتام، اعتقدت أنك توظفت في مستشفى".
قالت سالي مدعية الهدوء:
- "بالفعل، ولكن استقلت منها".
ظهرت المفاجأة على ملامح والدها:
- "لماذا؟".
- "لدي أسبابي".
ضيق عينيه أمام ردها الجاف والمختصر:
- "من حقي كوالدك أن أعرف ما هي أسبابك".
نظرت إليه سالي بتلقائية وهي تشعر بعبثية تلك الجملة، ولكنها اكتفت بالصمت، فسألها الرجل:
- "أين تعملين الآن؟".
- "في دار أيتام".
كذبت سالي عليه، واعتذرت من الأطفال في سرها.
- "ما اسمه؟".
- "المنزل".
كانت صادقة في هذا الرد، تأمل والدها إصبعها، ثم سألها:
- "ألم تكونِ مخطوبة؟".
نظرت سالي إلى إصبع الخطوبة بتلقائية وقالت:
- "لم أعد الآن".
كانت تشعر بالسخرية منه، فهذا الأب لا يعلم مثل هذه الأمور عن ابنته، وهذا جعلها تتذكر عندما دعته إلى خطوبتها، ولكنه لم يكلف نفسه عناء الحضور أو إرسال مباركة على الأقل. تنفس الرجل براحة أكثر وقال:
- "خير، لم يكن هذا نصيبك".
تسارعت نبضات قلب الشابة عندما علمت إلى أين سيأخذها هذا الحديث، وكانت الجملة التالية تأكيداً على إحساسها:
- "بما أننا تطرقنا إلى هذا الموضوع، جئت اليوم لأعلمك أن نجل صديقي تقدم لخطبتك، وقد وافقت مبدئياً".
نظرت سالي بذهول عندما نطق والدها تلك الكلمات ببرودة وقالت بغباء:
- "ماذا؟".
لم يرد الرجل عليها فقالت:
- "من هذا، هل يعرفني؟، وأنت وافقت؟".
- "وهل يجب أن يعرفك ليطلب يدك؟، المهم الآن أنك لست مرتبطة بشخص آخر".
نظرت سالي إليه بشك، وقالت:
- "ماذا تعني؟".
لم تجد الرد على كلامها فردت هي بالنيابة عنه:
- "هل تعني أنني لو كنت حتى مخطوبة كنت ستأتي وتعرض علي الأمر بصرف النظر عن الوضع أو مشاعري؟"
أغمض الرجل عينيه بشدة وكأنه يعرف ما المقبل عليه، ولكن في سبيل مصلحته تنهد قائلاً وهو يسبقها في الحديث:
- "أعلم فيما تفكرين الآن، ليس لدي الحق بعد كل تلك السنين".
وجهت سالي لوالدها نظرة موافقة على كلامه، فأكمل هو:
- "ولكن أنا والدك بطبيعة الحال، وبالتأكيد لن أتسبب في ضررك".
لم ترد سالي أيضاً عليه، الأمر لم يكن وكأنه لا شيء لديها لتقوله، بل كثر الكلام داخلها جعلها تخاف أن تنفجر وتتسبب في موقف غير لائق، تأمل الرجل ملامح ابنته التي تتموج وقال في محاولة لاستمالتها:
- "عزيزتي، ما رأيك أن نبدأ من جديد، ولطالما رغبت في رؤيتكما أنت وشقيقتك، ولكن.."
انفجر الغضب أخيراً داخل سالي التي قاطعته مُدعية الهدوء:
- "ولكن ماذا؟ ما الذي منعك؟".
نظر الرجل بصدمة إلى ابنته التي تحدثت أخيراً، كان رأسها مطأطأ للأسفل ولم يستطع تحديد أية أمارات عليه. قالت وهي تطبق أسنانها بشدة وتشد قبضتها على ركبتيها:
- "أية بداية جديدة تتحدث عنها".
ضحكت بسخرية:
- "وكأنه كان هناك بداية من الأساس".
نظرت إليه والدموع تغرق مقلتيها:
- "أنا حتى لا أتذكر ملامحك، وأنت أيضاً في أغلب الظن لا تتذكر ملامحي".
اتسعت ملامحها الساخرة وهي تسأله:
- "لماذا أتيت الآن؟".
قال الرجل بتلقائية ونظراته فيها بعض التوتر:
- "لأجل مصلحتك".
ضحكت سالي ونظرت حولها بذهول، وهي لا تصدق ما تسمعه أذناها:
- "مصلحتي؟ هل تمزح معي؟".
رمقته بنظرة أخرى ساخرة وهي تقول باستيعاب:
- "أعتذر لا أعلم إن كنت تمزح أم لا، فأنا لم أرك في حياتي سوى مرات قليلة لأعرف طبعك".
ظهر الغضب على وجه الرجل وقال لها:
- "تأدبي، هل هذا ما علمتك إياه أمك؟ أن تسخري من والدك!".
نظرت سالي إليه بعجز، وهو يتحدث بصوت منخفض وحشي ويظهر جانبه المظلم أخيراً:
- "انظري إلي بانتباه وتأدبي في كلامك، واستمعي جيداً لما أقوله، لقد قطعت تلك المسافة الطويلة من محافظة لأخرى لأراك، ولن أسمح لأن يكون هذا الأسلوب هو ما ينتظرني منك في النهاية، إن كنت قد أخطأت فأنت أيضاً أخطأت لعدم محاولتك للتواصل مع والدك وبرك به، وعن نفسي فمجيئي اليوم هو بمثابة اعتذار، إن كنت ستقابلينه بتلك الطريقة غير المهذبة، فلن أسمح لك بذلك".
رفع سبابته وإبهامه أمام أنظارها قائلاً:
- "سأمهلك أسبوعين لتستقيلي وتعودي إلى المنزل".
كان الناس من حولهم قد انتبهوا لصوت والدها الذي ارتفع قليلاً، فنهض وأخذ ما يخصه من الطاولة وترك الحساب أمامها وهو يقول:
- "لا تختبري صبري فلن تري مني خيراً إن لم تعيري كلامي الانتباه اللازم، مع السلامة".
ترك الرجل ابنته ورحل ببرودة قلب وتركها تكرر آخر جملة في ذهنها:
- 'مع السلامة، مع السلامة'.
نظرت إلى ظهر والدها الذي يبتعد بذهول، وتساءلت نفسها:
- 'هل هذا اللقاء تختمه بهذه الكلمة؟'
كان هناك صمت في المكان، وكفيها الواضحين في مجال رؤيتها فجأة أصبحا ضبابيين، وشعرت بقطرات دافئة تسقط على يدها المستندة على ركبتيها، كانت دموعها الساخنة تسيل بصمت على خديها والنادل يقف بالقرب منها وعلى وجهه الشفقة. بعد دقائق التقطت حقيبتها وخرجت من الكافيه، لتجد السماء ضبابية والمطر يتساقط لأول مرة منذ حلول الخريف، رفعت رأسها إلى السماء وتلقت المطر على وجهها، فأغلقت جفونها بشدة لتطرد دموعها التي سالت مُختلطة بقطرات المطر الذي هطل بعنف عليها لعله يمسح هذا الحزن الكامن داخلها والذي استيقظ بظهور والدها المفاجئ. وبعد ثوان كانت تبحث بعيونها عن سيارة أجرة تعيدها إلى المنزل، لمحت السيارات التي تسير أمامها بسرعات مختلفة وتذكرت آخر كلمة قالها والدها "مع السلامة"، دققت النظر إلى السيارات وسرح بها خيالها في اتجاه مظلم، ولكن سرعان ما هدئت من نفسها وكبحت جماح أفكارها المظلمة اليائسة، وبدلاً عن الذهاب إلى المنزل، عبرت الطريق ومشت بموازاة النيل تحت المطر الذي بللها، وهي تسترجع حديث والدها الذي اقتحم حياتها فجأة، تساقطت الدموع مرةً أخرى، وبعبث أخذت تمسحها بكفها كالطفلة الصغيرة. وقفت أمام نهر النيل البديع تتأمله وتُهدأ من أعصابها، في الواقع لم يكن هذا تخيلها عن اللقاء الذي سيجمعها بوالدها بعد سنين، على الرغم من أنها كانت مدركة للحقيقة، ولكن كان لديها آمال عالية أن يخيب ظنها وأن يلتقطها والدها بين يديه ويحتضنها، ولكن لم يحدث ذلك ولم تتفاجأ من خيبة الأمل، لكن خيبة الأمل تظل خيبة أمل، شعور يكسر القلب ويحطم الآمال ولا يترك إلا الحزن والأسى اللذان تشعر بهما سالي الآن. تساءلت، لماذا عاد بتلك الطريقة وأحيا تلك المشاعر التي اعتقدت أنها دفنتها منذ زمن بعيد، تساقط دموعها وهي تتوصل إلى النتيجة الصادمة، فما زالت شخصاً ضعيفاً هشاً يحتاج إلى والده ويبدو أنها لن تجده أبداً. مسحت دموعها وسارت على غير هدىً في هذا العالم الكبير الملبد بالغيوم.
***
في الخامسة والنصف وقبل غروب الشمس، كانت السيدة منى وذكية يجلسان مع الأطفال أمام التلفاز بعد الغداء، عندما سمعوا الباب يتم إغلاقه بهدوء، خرجت السيدة ذكية لترى من القادم، لتجد الآنسة سالي التي دخلت وملابسها مبتلة وغير مرتبة تحت أنظار الجميع، لم توجه كلمة لأحد وصعدت إلى غرفتها، حاولت السيدة ذكية طرق الباب عدة مرات ولكن سالي لم تستجب، وبعدها بساعة المساء عاد خالد والذي كان على غير عادته أيضاً، كانت ملابسه أيضاً غير مرتبة ومبتلة بسبب المطر الذي هطل طوال اليوم، وبدا عليه التوتر على غير عادته مما أثار استغراب الجميع، حتى أنه رفض تناول غدائه، وصعد إلى شقته ليأخذ حماماً دافئاً.
في غرفتها جلست سالي على سريرها، تضم ساقيها، شعرت أنها وقعت مرةً أخرى في هوة سوداء، وعليها أن تكافح لتخرج منها ككل مرة سابقة، مر غضبها اليوم أمام والدها مرور العاصفة ولم يبق لديها إلا اللوم واليأس العميق، والحزن والشفقة على النفس، وفي النهاية كان الاحتياج، كلها مشاعر التبست ببعضها البعض لطالما حاربتها بمفردها وعليها أيضاً هذه المرة أن تقف في مواجهتها وحيدة، في الواقع لقد سئمت من كل ذلك، كرهت حتى أن ترفع رأسها وتستعد لمواجهة تلك الحياة المظلمة مرةً أخرى. ظلت سالي على حالها لمدة ثلاث ساعات، لم ترفع رأسها ولو مرة، يتلقفها البكاء والغضب والندم حتى شعرت لو أنها ظلت بمفردها ستموت، رفعت رأسها أخيراً ونظرت إلى هاتفها الذي كاد ينفجر من مكالمات والدتها، ولكنها تأملت الساعة التي كانت التاسعة ثم أغلقته، لم يكن لديها طاقة أخرى لاسترجاع ما حدث اليوم. فكرت بيأس:
- 'أعتقد أنهم تناولوا العشاء'.
أخذت حماماً وظلت تحت الماء البارد طويلاً لعله يمسح عن قلبها الألم والحزن اللذان يعتصرانه، ثم نزلت لعلها تلحق بالباقين قبل أن يصعدوا إلى غرفهم، ولكنها لم تجد إلا ذكية ونور في المطبخ، نظرت إليها ذكية بشك وهي تتفحص ملامحها المتورمة بسبب البكاء، ولكنها لم تعلق، وأكتفت بسؤالها:
- "هل أجهز لك الطعام عزيزتي"؟.
كانت نبرة المرأة حنونة جداً، وعند ذكر الطعام هاجت معدة سالي الجائعة ووافقت بخجل، فقالت نور بحماس وابتسامة خجولة:
- "أنا سأجهزه لك الطعام".
نظرت سالي إلى الطفلة الكفيفة باستعجاب، ثم إلى ذكية التي أومأت برأسها إليها، فقالت بتعثر:
- "آه، نعم يا نور سأحب ذلك".
ابتسمت الطفلة برضا وقالت:
- "ماذا تحبين؟".
نظرت سالي مرةً أخرى إلى ذكية ثم إلى نور:
- "أي شيء من اختيارك".
قالت الطفلة:
- "كنت أعد شوربة المشروم ما رأيك؟".
لم تذقها سالي يوماً ما، ولم ترغب في اثقال الطفلة بطلب آخر فقالت بتردد:
- "سأحب ذلك".
جلست ذكية بيأس على مقعد بعيد وهي تتثاءب، كان نور طفلة غريبة تتحمس في أوقات غريبة، عليها الآن انتظارها لتعد الطعام للآنسة الجائعة ثم أخذها إلى غرفتها، نادت بصمت:
- 'أحمد أين أنت؟ أنقذني'.
لاحظت سالي ذكية تتثاءب من حين إلى حين، فقالت لها بصوت منخفض:
- "ست ذكية اذهبي أنت ونامي، وأنا سأظل بجوارها".
نظرت المرأة إليها بأمل:
- "هل أنت متأكدة؟".
أومأت سالي بابتسامة باهتة، فشكرتها المرأة بصوت منخفض:
- "شكراً لك، لن أنسى لك هذا يا عزيزتي".
ابتسمت سالي بصدق، وتابعت بنظرها المرأة التي ودعت نور ثم ذهبت لتنام، وبعد ثوان قالت نور هي تقطع المشروم:
-"يبدو أنني ضايقت ست ذكية".
نظرت سالي بحذر إلى يد الطفلة التي تتمسك بالسكين الحادة، وقالت:
- "لا أعتقد ذلك".
بعد ثوان أنهت الطفلة أول حبة مشروم وقالت وهي تتحسس وتلتقط حبة أخرى:
- "أنا أحب الطبخ، ولكني لا أجد الوقت لذلك"
كان هناك لمسة من الحزن في نبرتها، فنظرت سالي إليها تتأمل عينيها الشاردتين وتراقبها وهي تتحدث:
- "ولن يتركني الكبار أقوم بذلك بمفردي".
كانت سالي مُستنفذة عاطفياً ولم تجد رداً مناسباً على الطفلة، فسألتها:
- "لماذا الطبخ تحديداً".
استمعت الطفلة للسؤال ثم ابتسمت بحب:
- "إنه الشيء الوحيد الذي أحسسته منذ فقداني بصري".
كانت تلك مفاجأة كبيرة لسالي، فهذه الطفلة لم تكن كفيفة من قبل.
قاطعت نور أفكارها:
- "هي الشيء الوحيد الذي أستطيع استخدام جميع حواسي السليمة معه، الشم، والتذوق، اللمس".
سكتت الطفلة بخجل وقالت:
- "ستضحكين علي، ولكن عندما أؤذي نفسي بالسكين أو الحرق، على الرغم من الألم لا أكون حزينة، بل سعيدة لأن هذا يشعرني بأنني طبيعية كالجميع".
صدمت سالي من كلام الطفلة الصغير التي تبلغ من العمر 13 عاماً، كيف لطفلة في مثل هذا العمر أن تتحدث بهذه الحكمة، وفي مثل هذا الوقت الذي تمر به سالي بصدمة عاطفية، اجتمعت المشاعر المختلفة داخل قلب سالي وشكلت غصة تصاعدت بالدموع إلى عينيها، لم تكن تلك الدموع على تلك الطفلة بشكل أساسي بقدر ما كانت استكمالاً لوجعها هي، هبطت الدموع وتذكرت لقاءها مع والدها، فأخفضت رأسها وانسدل شعرها الأسود المجعد مخفياً ملامحها الحزينة، وحاولت أن تحافظ على صمتها كي لا تسمعها الطفلة. كان صوت تقطيع المشروم، هو الصوت الوحيد في المطبخ، وسالي التي تبكي بصمت تمسح دموعها التي لا تنتهي بكفها من حين إلى حين. تلك الطفلة أيقظت مشاعر الحزن والقهر داخلها، وها هي الآن حتى لا تستطيع البكاء بوضوح حتى لا تؤذيها، بعد دقائق شعرت سالي بيد صغيرة تمسح يدها برقه، وصوت الطفلة الجميل الهادئ:
- "أشعر أنك حزينة، أتمنى ألا تكوني مشفقة على حالي، هذا يضايقني".
لم تتفاجأ سالي تلك المرة من كلام نور، بل صدر صوت تنهد خفيف منها وقالت:
- "هذه الدموع لأنني بالفعل حزينة يا نور".
احتضنت سالي الطفلة الهزيلة وهمست:
- "أنت طفلة قوية، أقوى مني".
خجلت الطفلة ومسحت على ظهر سالي بخفة وقالت:
- "أبيه خالد قال لي من قبل، أنني أستطيع أن أكون قوية لو قررت ذلك بالفعل، وأنا قررت أن أكون قوية".
أكملت الطفلة بعد ثوان:
- "ماما قالت لي أيضاً أنه لا بأس أحياناً أن نشعر بالضعف واليأس، فهذا جزء منا لا نستطيع أن نتخلص منه، ولكن علينا أن نتعلم كيف نتعامل معه".
كانت نور تردد ما تعلمته من خالد وأنيسة، كأنها رسالة إلهية أرسلها الله بواسطة تلك الطفلة ذات 13 عاماً. مسحت دموعها وابتعد عن الطفلة وهي تقول بابتسامة:
- "سأستمع جيداً لنصائح أبيه خالد وماما أنيسة، أخبريني الآن كيف علمت أنني حزينة".
قالت الطفلة بتلقائية:
- "صوت أنفاسك، كانت سريعة وواضحة، تعلمت هذا بمرور السنين، أحياناً أصيب وأحياناً أخيب".
مسحت سالي على رأس الطفلة الذكية، وقالت:
- "كنت صائبة".
نظرت إلى المشروم على الطاولة وقال:
- "هل تعلمين أنني لم أجرب يوماً المشروم؟، وسأكون سعيدة لو ذقته لأول مرة من يدك".
مسحت على بطنها وقال:
- "أنا جائعة جداً، ولم أذق أي طعام منذ الصباح".
اتسعت ابتسامة الطفلة ذات العيون الشاردة وقالت:
- "سأحضرها حالاً، أعدك أنها ستعجبك".
***
جلس خالد في الشرفة مُستغرقاً في أفكاره ومسترجعاً أحداث اليوم، مسح وجهه بقسوة، فهذه أول مرة منذ مدة طويلة يكون مضطرباً بهذا الشكل بسبب شخص ما غير الأطفال. استرجع أحداث هذا اليوم الغريب، فبعد أن ترك الآنسة سالي وحرك سيارته للذهاب إلى عمله، وجد نفسه يعود بالسيارة ليقف في مكان قريب من الكافيه، أراد انتظارها حتى تنهي لقاءها، لم يكن لذلك سبب إلا شعوره بالمسؤولية التي تعود عليها بسبب وجود الأطفال من حوله، كانت متوترة وخائفة دون ذكر سبب، ولذلك انتابه شعور ملح من اللياقة أن يكمل خدمته لها ويعيدها إلى المنزل، فأرسل رسالة لمحمود رسالة يعلمه أنه سيتأخر وجلس في السيارة منتظراً وهو يدقق النظر في التاب بين يديه ليتابع عمله، وفجأة لاحظ قطرات الماء تتساقط على الزجاج، نظر إلى السماء التي تلبدت فجأة بالغيوم، كانت هذه أول تمطر منذ حلول الخريف، وبينما وهو يغلق الزجاج، لاحظ سالي تخرج من الكافيه، كاد أن ينبهها ولكنه لاحظ أن هناك شيئاً مريباً بها، ملامحها كانت غريبة ويبدو أنها تبكي، لمحها تتفاجأ بقطرات المطر التي تسقط فوقها فرفعت رأسها إلى السماء بحيرة ثم إدراك سريع ، أغمضت عينيها لثوان ثم فتحتهما ومشت تحت المطر بجوار النيل، تابعها من بعيد وحرك سيارته ببطء خلفها، كانت بالفعل تبكي وتمسح دموعها بكفها وبصمت ودون أية تعابير عميقة على وجهها، رآها تقف أمام النيل تتأمله من فترة لأخرى، ثم تسير مرةً أخرى، كان من الجلي أنها لا تسلك وجهة معينة، فقط تمشي دون هدف. لم يكن يعلم ما هو التصرف المناسب معها وشعر بالحرج لو أقدم على التقدم ومفاجأتها وهي في ذلك الوضع، لذلك ظل يتبعها كالظل وقلقه يتفاقم بمرور الوقت، جلست أمام النيل لمدة ساعتين تتأمله دون حراك وكأنها لا تريد الذهاب إلى المنزل، فخرج من سيارته واقترب يتأملها عن قرب دون أن تلاحظه حتى بلله المطر، ثم عادت لتتجول في الشوارع على غير هدىً. وقبل الغروب أشارت سالي لسيارة أجرة، فتبعها بالسيارة دون أن تتم ملاحظته، وهدأت نفسه عندما وجد نفسه يسير في طريق المنزل، يبدو أنها قررت العودة إلى المنزل أخيراً، فأنتظر دخولها أولاً وبعد ساعة من الانتظار في الخارج دخل بهيئته غير المرتبة. فكر خالد، وهو يشعر بالغرابة من تصرفه هو أكثر من تصرفها هي، لم يكن من الطبيعي أن رجلاً يلاحق امرأة منذ الصباح حتى منتصف اليوم.
الدكتورة سالي اسم عابر سمعه من أمه وهي تخبره أنهم وظفوا طبيبة بديلة تقيم معهم في المنزل، وارتاح باله على الأطفال الذين يحتاجون لمراقبة صحية مستمرة بسبب كثرة عددهم. ومنذ أن رآها لأول مرة كانت خائفة ومتوترة، وكان من الواضح أنها تكذب وتخفي أمر ما بخصوص فرح، لم يرتح قلبه لها منذ ذلك اليوم، ولكنه اليوم رأى جانباً مختلفاً وغريباً منها، جانباً أربكه وهو يراها في مثل هذا الموقف العاطفي.
توسلت معدته بصوت عالٍ، فتأمل الساعة التي أشارت إلى العاشرة، لم يأكل منذ الصباح والجوع يعتصر معدته، فاتجه إلى المطبخ الصغير في شقته، ولكنه لم يجد ما يغريه، فقرر النزول إلى المطبخ الكبير لعله يجد ما يأكله، وعندما دخل القاعة سمع صوتاً في المطبخ، فاتجه إليه ثم تراجع خطوتان بسرعة عندما رأى موقفاً غريباً. رأى سالي تبكي ونور تمسح دموعها، فابتعد خطوة أخرى وهو يفكر بالذهاب بعيداً عندما سمع اسمه يصدر من نور، ليتراجع عن قراره ويقترب مرة أخرى من الباب، سمع الطفلة وهي تكرر لسالي النصيحة التي نصحها لها من قبل، فأبتسم بخفة وذهب بعيداً تاركاً إياهم وشأنهم، ومعدته تتلوى من الجوع. وبينما وهو يتجه إلى الغرفة صادف السيدة التي قالت:
- "مستر خالد لديك الوقت لنتحدث قليلاً؟".
لمعت عيون خالد بالإدراك وأشار لها أن تسبقه إلى المكتب:
ـ "بالتأكيد تفضلي ست منى في المكتب".
نهاية الفصل
***
لو بتقرأ المنزل عايزة أشكرك لو وصلت للفصل ده، وأتمنى أنك تكون وصلتله دون ملل، وبعتذرلك لو فيه تقصير في أي جزء أكيد مش مقصود، واتمنى أنك تشاورلي عليه وأنا هصلحه، أنا ببذل مجهود كبير فكري، وبتعب جداً في الكتابة لأني كمان بترجم الرواية للغة الإنجليزية دون مساعدة من أحد، ده غير شغلي الأساسي، فالمجهود كبير عليا جدا، وطبيعي يبقى فيه أخطاء ناتجة عن عدم تركيز.
وبس بشكركم جدا واتمنى أن الرواية تعجبكم واستنوا أحداث كتيرة أوي حلوة ومؤثرة، واسفة على أي أخطاء غير مقصودة بالتأكيد.
كاتبتكم ءَالَآء
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
TikTok: hakayaalaa للقص القصيرة
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالة، متأكدة انها هتعجبكم
رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق