رواية المنزل
الفصل السادس
فضلاً، متنسوش الvote.
***
كانت ملامح فرح مختلفة قليلًا عن تلك الطفلة المرِحة التي رأتها سالي لأول مرة، الهالات السوداء القاتمة تحيط بعينيها الجميلتين، واليأس والندم يلمعان في مقلتيها، أما كفّاها الرقيقان فكانا يشكّلان قبضة مرتعشة.
أدركت سالي بسرعة سبب وقوف فرح أمام باب غرفتها في مثل هذه الساعة المتأخرة، ففتحت الباب دون أن تنطق بكلمة، وتنحّت جانبًا. دخلت فرح بصمت، على وقع صوت إغلاق الباب، وبعد أن تفحّصت سالي الممر لتتأكد من خلوه، عادت وأغلقت الباب بهدوء.
جلست المراهقة بصمت على طرف السرير، ثم رفعت كمها لتُري معصمها للطبيبة الشابة، التي جلست بجوارها وهي تتنهّد وتُمسك بالمعصم النحيل، تتفحّصه بعناية. وعندما تأكدت أن الفتاة لم تؤذِ نفسها بشكل خطير، بدأت تُعقّم الجروح الكثيرة التي كانت كفيلة بأن تترك أثرًا دائمًا على جلدها الرقيق. ثم ضمّدتها سالي بعناية وهدوء.
بعد انتهائها، تأمّلت ملامح فرح الرقيقة، ولاحظت أن شعرها ما زال مبلولًا، ولم يُجفف جيدًا. نهضت سالي وسحبت منشفة من الخزانة، وألقتها بخفة على رأس فرح وهي تقول:
"استديري، سأُسرّح لكِ شعرك."
جفّفت سالي شعرها، ثم التقطت فرشاة الشعر الخاصة بها وأمسكت بالخصلات الناعمة الطويلة، وبدأت تسرّحه بلطف. لم تمضِ دقائق، حتى بدأت شفتا سالي تتحركان وهي تُغني بصوت خافت...
[زينه.. زينة.. زينة.. زينه غالية علينا
زي ضي عينينا.. يا زينة.. يا زينة.. زينة.. زينة.. زينة
والله زينة والله تشتهيها العين
لولا خوفي من الله لأقطف الخدين
اللي نورهم خلا حر قلبي ضلة
والصحارا جنينه، زينه والله زينه].
قاطعتها فرح:
"ما هذه الأغنية؟".
ابتسمت سالي مستحضرة الذكريات وأجابت:
"أغنية من فيلم قديم. كانت ماما تعودت أن تغنيها لأختي زينة وهي تسرح لها شعرها حتى لا تبكي."
همست فرح بصوت خافت:
"أغنية جميلة."
اتسعت ابتسامة سالي أكثر فأكثر وقالت:
"كانت تنتابني الغيرة من أختي كلما رأيت ماما تغني لها تلك الأغنية، وفي يوم من الأيام ظللت أبكي طوال اليوم لأنه لم تكن هناك أغنية باسمي."
ضحكت فرح بخفة ثم سألتها:
"هل أنتِ لارا؟"
ضحكت سالي على هذا التشبيه وأجابت:
"نعم."
"كم كان عمركِ آنذاك؟"
"كنت في السابعة من عمري."
ظلّت الابتسامة مرتسمة على وجه سالي وهي تسترجع تصرفها الطفولي، ثم أضافت:
"في اليوم التالي أحضرت ماما حنة للشعر، وكانت تضعها على شعري وهي تغني 'قطر الندى'."
سألت فرح بدهشة:
"ما هذه الأغنية أيضاً؟"
[الحنة يا حنة يا حنة يا قطر الندى
يا شباك حبيبي يا عيني جلاب الهوى].
غنت سالي الأغنية بخفوت. وشاركتها فرح وقد كان صوتها جميلاً ودافئاً.
"هذه الأغنية أجمل من الأخرى"
قالتها فرح بابتسامة مرحة.
ضحكت سالي بعلو صوتها وقالت:
"ولكني أيضاً بكيت!"
التفتت فرح إليها متسائلة:
"لماذا؟"
ضحكت سالي وأجابت:
"لأن اسمي لم يكن قطر الندى!"
ضحكت الاثنتان بصوت عالٍ، ثم قالت فرح بصوت مرح جميل:
"أنتِ كئيبة جداً يا دكتورة."
ادّعت سالي الصدمة وسألت:
"والآن؟!"
خفضت فرح رأسها للأسف، وشردت عيناها، ثم قالت:
"بالعكس، أنا أحب وجودكِ والحديث معكِ."
جدلت سالي شعر فرح بصمت، ثم مسحته بكفيها لتسيطر على الخصلات المتمردة، وأمسكت بذراع المراهقة لتلتفت إليها:
"فرح، أنا سعيدة جداً لأنكِ أتيتِ اليوم."
لمحت فرح الصدق في ابتسامة سالي، فقالت:
"ألا تشمئزين مني؟"
صُدمت سالي من السؤال، ولكنها استجمعت أفكارها وقالت:
"هذا غير صحيح، أنتِ إنسانة شجاعة، لقد وقعتِ في فخ ليس من السهل النجاة منه، وعلى الرغم من ذلك كانت لديكِ الشجاعة للاعتراف به."
أشارت سالي إليها ببساطة وقالت:
"وأتيتِ الآن وأخبرتِني كما اتفقنا."
لم تستجب فرح فأكملت سالي مُشجعة:
"فرح، خُلِق الإنسان ليتعلم، وأفضل وسيلة للتعلم هي ارتكاب الأخطاء ثم إدراكها ومحاولة تصحيحها. من منا لم يقَع في أخطاء كبيرة مثل تلك؟ أتذكر عندما كنتُ في سنكِ لم يكن لديّ يوماً هذه الشجاعة لارتكاب الخطأ والاعتراف به."
اهتزّت عينا الفتاة المراهقة وكأن شيئًا ما انفجر داخل قلبها بعد تلك العبارة.
"ماذا أفعل حتى أقلع عن تلك العادة؟"
سكتت سالي أمام يأس المراهقة، ثم تحدثت بعد ثوانٍ:
"أن تُقنعي نفسكِ أن هذا ليس أنتِ. غيّري نظرتكِ لنفسكِ، وسلّطي الضوء عليه في عقلكِ على الدوام. اسألي نفسكِ: هل هذا الشخص هو الذي تحبين أن تكوني عليه؟"
نفت فرح برأسها، فنظرت إليها سالي بدقة وتصميم، وأشارت بأصبعها ليلامس كتف فرح:
"إذاً الأمر يعتمد عليكِ أنتِ في الأساس. لا أحد سينقذكِ إلا نفسكِ."
صرحت فرح بهدوء:
"حسن رآني."
ادعت سالي الجهل:
"حقا؟ ماذا كان رد فعله؟"
هزّت فرح كتفيها بلا مبالاة:
"أخبرني أنه لن يحكي لأحدٍ بشرط أن أكف عن ذلك."
سالي ردت بصوتٍ هامسٍ وهي تحرك جديلة فرح بخفة:
"مممم... علينا أن نتصرف قبل أن نثير أعصاب هذا الفتى."
بعد ثوانٍ من الصمت، سألت سالي:
"أخبريني، كيف تشعرين بعد هذا التصرف؟"
ردت فرح بتلقائية:
"بالندم."
شعرت سالي بالحيرة وسألتها:
"أليس الخوف؟"
كان الخوف الرد الطبيعي لمراهقة في سن فرح، فهذا ما اعتادَت عليه سالي عندما تقترف خطأً فتخاف من معاقبة والدتها. التفتت فرح وأعطت سالي ظهرها مخفيةً مشاعرها، ثم تحدثت موضحةً:
"أخاف فقط من نفسي... أعتقد أنني لست شخصًا جيدًا."
كانت فرح تشعر مؤخرًا أن الحقد يشتعل داخلها تجاه زميلاتِها، وهذا الأمر أخافها لأنها ولأول مرة تختبر مثل هذه المشاعر المريبة. قالت بحزن:
"بصراحة، أخاف أن تحزن مني ماما، وأيضاً أبيه خالد وإخوتي إن علموا أنني لست شخصًا صالحًا كما يظنون."
تأملت سالي ظهر فرح، التي لم تخف من العقاب بقدر خوفها من أن تجرح أحبَّاءها وتتسبب في أذيتهم. رأت أمامها مجرد طفلة خائفة؛ ربما ينبع تصرفها الطائش من مشاعرٍ مدفونةٍ داخلها، يصعب التوصّل إليها مع فتاة في مثل هذا السن. ولكن على سالي أن تكتشفها لتكون جزءاً من الترياق.
احتضنت سالي فرح بشدّة، ولغرابة الأمر تشبّثت أصابع فرح بها وكأنها في حاجةٍ إلى ذلك العناق. ضمَّت سالي الفتاة أكثر وهي تتساءل: إلى أي مدى مشاعر الإنسان معقّدة وصعبة الفهم؟ وما الذي يحتاجه حتى يطمئن ويهدأ باله؟ أليس الحبُّ كافياً أم هناك ما هو أهم؟
فكرت سالي في هذا التحدي الذي وُضِع أمامها فجأة؛ كان عليها أن تعرف السبب الحقيقي لتصرّف فرح في أقرب وقت، وأن تستنتج دوافعها والأسباب التي أدّت إلى ذلك. ثم قالت لها بحنان:
"سيغفرون لكِ أخطاءك لأنهم يحبونك، وسيمهدون لكِ الطريق لتجاوزها. أعتقد أن عائلتك عائلة محبة."
صمتت فرح، فغيّرت سالي الموضوع واقترحت عليها:
"ما رأيكِ أن تنامي بجواري اليوم؟"
نظرت الفتاة إليها باستغراب:
"ألن أضايقكِ؟"
أجابت سالي مطمئنة:
"بالطبع لا. اعتدتُ أنا وزينة أختي على النوم معاً والتحدّث طوال الليل."
حركت سالي إصبعها بوعيد لطيف:
"ولكن لا حديث في الليل، لأنكِ يجب أن تخلدي للنوم مبركراً. هيا، استلقي وسأغطيكِ."
سألتها فرح وهي تستلقي:
"ألن تنامي أنتِ؟"
سحبت سالي الغطاء حتى وصل إلى عنق فرح:
"بالطبع. أشعر بالإرهاق بعد هذا اليوم المتعب، إخوتكِ كادوا أن يتسببوا في توقف قلبي."
ضحكت فرح:
"أنت لم تري شيئاً بعد."
تنهدت سالي بابتسامة خفيفة:
"شكراً لكِ على هذا التنويه."
***
جلست أنيسة تحت نافذتها، بجوارها ضوء خافت، وبين يديها رسالة رقيقة تقرأها وعيونها ترتعش. وفجأة انتبهت لصوت طرق على باب غرفتها، فطوت الخطاب بسرعة ودفعته خلف ظهرها، وعدّلت جلستها لتكون أكثر راحة ثم قالت:
"تفضّل."
دخل خالد بخطوات بطيئة مرتاحة، واتخذ مقعداً مقابلاً لها وسألها:
"لماذا لم تنامي؟"
تأملت أنيسة هذا الشاب الرائع بعيون معجبة وأجابت:
"كيف أنام وأنا أعلم أنك ستأتي؟"
ابتسم خالد برقة لمبادرتها، وضيق عينيه وهو يتأمل هذه المرأة التي لم يرها في حياته تفعل شيئاً إلا انتظار قدومه. أصبحت الآن امرأة مسنة ضعيفة، وأيقظ ذلك غصة في قلبه. نظر حوله ثم نهض ليلتقط شالها المعلق خلف الباب ويضعه على كتفيها كما اعتاد دوماً. اعترضت أنيسة:
"لكنني لا أشعر بالبرد."
قال لها خالد بنبرة حازمة:
"لا تخلعيه."
سكنت المرأة أمام سلطته التي تقبلتها برحابة صدر، فقد كانت تلك الحركة من أساليب خالد للتعبير عن حمايته لها. فكرت: ما زالت طباع هذا الفتى كما هي.
وعندما تأملت ملامحه التي أصبحت أكثر صلابة مما كانت عليه، سألت:
"حبيبي، أنت مرهق. ألا تستطيع أخذ إجازة؟"
رد عليها خالد وهو يفكر في مسؤولياته الكثيرة:
"العمل ينتظرني طوال الوقت... كما أن المكتبة تشغل كل وقتي."
شعرت أنيسة بالشفقة على هذا الشاب الصلب، فقالت:
"ولكننا ننتظرك."
ابتسم خالد أمام حبها، فلم يجد كلمة ترد بها، فتابعت:
"وماذا عن حسن؟"
بقي خالد صامتاً، فانطلقت أنيسة تبتسم قائلة:
"أظنك تفهم الآن ما كنت تفعل بي في مراهقتك."
عاودتهم الذكريات، وأكملت أنيسة وهي تلتقط نفساً عميقاً:
"كنتَ جامحاً... لطالما قضيت الليالي أبكي بسببك."
انسابت بها الذكريات، وتأملت الرجل أمامها قائلة:
"ولكنك الآن تغيرت. لا أعلم إن كنتُ أرى فيك خالدَ الذي ربيته أم شخصاً آخر. أصبحتَ قليل الكلام، وبات من الصعب سبر أغوار نفسك. وهذا الولد حسن صار يشبهك كثيراً؛ كلما رأيته شعرت كما لو أنني أنظر إليك."
تحدث خالد بعد مدة من الصمت:
"ماما، أصبحت كثيرة القلق مؤخراً؛ مرة لارا، ومرة حسن، ثم أنا."
تنهدت المرأة وهي تقرّ بذلك:
"أعتقد ذلك، ولكنكم صرتم متعبين."
ابتسم خالد وهو يتحدث:
"لا تقلقي على حسن، قريباً سنراه يلعب في البطولة."
سألته أنيسة بلهفة:
"هل تحدثت معه؟"
اتسعت ابتسامة خالد:
"ألم تقولي إنه صار يشبهني؟"
تفاجأت أنيسة من رده، وتذكرت خالد المراهق الذي لطالما هددها بالرحيل، ثم يعود بتكبّر، وعناد لا يكادان يُبقيان له ماء الوجه. ابتسمت وهي تمدّ يدها، تمسح على كتفه الصلب بحنان، ثم قالت وهي تسحب كفّها:
"أتَعلم ما سيجعلني مطمئنة أكثر عليك؟"
نظر إليها منتظراً الإجابة، فقالت بشغف الأم:
"أن تتزوج... أنت تحتاج رفيقة تشاركك حياتك، عزيزي."
نظر إليها متأملاً:
"تلك أول مرة تتطرّقين فيها إلى مثل هذا الموضوع."
أجابت بابتسامة خفيفة:
"لطالما كان هذا الأمر في خاطري، وعلى لساني في كثير من الأوقات، ولكن الآن هو الوقت المناسب لمثل هذه الخطوة."
سألها باستغراب:
"ما الذي تغيّر حتى تعتقدين أن هذا الوقت مناسب؟"
اهتزت ملامح المرأة لوهلة، ثم تنفّست براحة وقالت:
"الأولاد، يا بني. مسؤولياتهم صارت ثقيلة عليك، ويوماً بعد يوم أراك تنعزل في واجباتك، وتزداد وحدة."
قال خالد بهدوء:
"أنتِ هنا."
كان خالد يفكّر في أمرٍ آخر لم يبح به، وهو أن لا امرأة عاقلة قد تقبل بمثل هذا الوضع الغريب، لكنه لم يشأ أن يطرح هذه الفكرة أمام المرأة المسنّة التي تجلس قبالته حتى لا يصيبها بالإحباط.
لم تكن المشكلة في أنه لا يريد الزواج، بل في أنه حتى الآن لم يجد الوقت المناسب ولا المرأة التي تقبل مثل هذه التضحية.
رجل في عاتقه خمسة عشر طفلًا تخلّلوا حياته وامتزجوا بها، فصار بالنسبة لهم كل شيء، وهم أيضًا صاروا حياته... لا يستطيع أن يتشتت عنهم.
قالت أنيسة وهي تتأمل الفراغ، والحزن يكسو ملامحها:
"لا أشعر أنني ما زلت الأم في نظرهم. هؤلاء الأطفال يكبرون، ويستوعبون أحوال الحياة بسرعة، وسرعان ما سيدركون أنهم في سعادة مزيفة. ما الذي ستقدّمه امرأة عجوز مثلي لتلك النباتات اليافعة، التي تحتاج أكثر من وجود أمٍ بالاسم فقط؟"
شعر خالد بأن هناك خطبًا، فسألها:
"هل أنتِ بخير؟"
تهرّبت المرأة من نظراته، وقالت معترفة:
"الوزارة تواصلت معي... يقترحون تسليم بعض الأولاد للكفالة."
اتسعت عينا خالد بصدمة:
"كيف ذلك؟ الأطفال مكفولون بالفعل!"
ابتسمت المرأة بحسرة:
"يبدو أنهم يتعاملون معنا كدار."
شعر خالد بالغضب يتصاعد في داخله:
"متى تواصلوا معكِ؟"
"منذ شهرين."
"لماذا لم تخبريني؟"
نظرت إليه بعذرٍ:
"حبيبي، أنا المسؤولة، وليس أنت. أنا من كفلهم جميعًا."
هدر غاضبًا ونهض من مقعده:
"ماذا تظنينني؟ هؤلاء الأطفال مسؤوليتي كما هم مسؤوليتكِ، وإلا لما وافقت على وجودهم من الأساس!"
ظهرت الدموع في عيني المرأة، فصُدم خالد، وعاد إلى وعيه، وتمسّك بهدوئه من جديد، وتقدّم نحوها واحتضنها بلطف:
"أعتذر."
قالت المرأة وهي تربّت على ظهره:
"لا بأس، عزيزي. أنا أتفهّم غضبك. لكن ماذا أفعل؟ لا أريد أن أثقل أحمالك ومسؤولياتك."
قال خالد بهدوء:
"الأطفال ليسوا أحمالاً. لقد قررنا بكامل إرادتنا أن يتواجدوا في حياتنا، وعلينا تحمّل مسؤولية هذا القرار."
نحبت المرأة:
"لا أستطيع فراقهم يا خالد."
ضمّها الشاب بقوة، وقال:
"لا أحد على وجه الأرض يستطيع أخذ طفلٍ واحد من هذا المنزل."
***
فتحت سالي عينيها، ونظرت إلى فرح التي تنام إلى جوارها. وبعد أن تأكدت أنها تغطّ في نومٍ عميق، نهضت بهدوء والتقطت هاتفها. كانت الساعة الواحدة صباحًا. فتحت شاشة الرسائل، لتجد رسالتين؛ الأولى رسالة صوتية من شقيقتها، والأخرى من رقمٍ غريب.
فتحت رسالة شقيقتها أولًا، وسمعت صوتها المرتبك يقول:
"سالي، لماذا لم تتصلي بي؟ بابا زارنا اليوم في المنزل، وانتهى الأمر بشجار مع ماما عندما علم أنك سافرتِ بمفردك."
تنهّدت شقيقتها بقلق، ثم تابعت:
"لا أعلم كيف أقول هذا، لكنه جاء ليقترح على ماما أن تتزوجي أحد معارفه. ماما بالطبع رفضت، لكنه مصرّ على التواصل معكِ. في النهاية حاول أن يأخذ العنوان منا، ولكن ماما رفضت... ومع ذلك، أعطته رقم هاتفك بعد إلحاح. أرجوك، إن حاول الاتصال بكِ لا تردّي عليه."
شعرت سالي أن الهاتف بين يديها صار ثقيلاً، وشعرت بالبرد يتسلل إلى راحتيها. فرغ ذهنها من كل شيء، إلا من الصوت الذي تردّد في رأسها مرارًا. كانت هناك بالفعل مكالمات فائتة من أختها ووالدتها، ومن رقم غريب لا شك أنه لوالدها، ولكنها لم تتخيّل أن يصل به الأمر إلى هذا الحد... زواج؟
لقد قطعت صلتها بفكرة الزواج منذ تلك التجربة العاطفية الفاشلة، ولم تفكّر يومًا أن تعود لهذا الطريق ثانية. والآن، يأتي والدها ببرودٍ ليقتحم حياتها وكأن شيئًا لم يكن... دون أن يعرف، أو يهتمّ أن يعرف، ما مرّت به ابنته في غيابه الطويل.
فتحت الرسالة الثانية الواردة من الرقم الغريب، وكانت تحتوي على جملةٍ واحدة فقط:
"سالي، كيف حالك؟ أنا والدك. قابليني غدًا في كافيه.... أمام النيل. لا تتأخري عن التاسعة."
ارتجف جسدها. لا تدري هل ما شعرت به كان بسبب الرسالة الباردة من والدها، أم من لمسة بردٍ خفيفة مرّت على بشرتها رغم اعتدال الجو.
التفتت إلى فرح النائمة بسلام، وأشفقت أن تسحب الغطاء لتدفئ نفسها، حتى لا تقلق الفتاة في نومها. فنهضت من السرير بخفة، وجلست إلى مكتبها. وتحت ضوء خافت من مصباح صغير، أمسكت قلمها، وبدأت تدوّن ما في قلبها داخل مذكّراتها.
***
في الصباح الباكر، استيقظت فرح لتجد سالي مستيقظة بالفعل، ترتدي ملابسها وتبدو كأنها على وشك الخروج، فسألتها:
"إلى أين أنتِ ذاهبة؟"
قالت سالي بغموض:
"سأقابل صديقًا."
شعرت فرح بشيء غريب تجاه سالي، تلك الطبيبة التي كانت دائمًا منغلقة في حديثها ولا تتحدث أبداً عن نفسها. ورغم فضول فرح، لم تكن تنوي التطفل، فاكتفت بالاستئذان للذهاب إلى غرفتها والاستعداد لمدرستها.
وعلى مائدة الفطور، استأذنت سالي من السيدة أنيسة للذهاب إلى موعدها، تحت أنظار الجميع.
قالت أنيسة مفكرة:
"هذا المكان يبعد عن هنا 45 دقيقة... ربما أدعو السائق..."
لكن قبل أن تُكمل حديثها، قاطعها خالد:
"لا مشكلة، أستطيع أن أُوصِل الدكتورة معي."
ردّت سالي بسرعة وقد ارتبك صوتها قليلًا:
"لا حاجة لذلك، ربما أعطّلك."
قال خالد بهدوء وهو يقطع الخبز إلى نصفين:
"لا مشكلة، نصف ساعة لن تمثل مشكلة على كل حال."
نظرت إليه سالي بقلق، وسمعت أنيسة تسأله:
"ألن يأتي محمود ليصحبك؟"
أجاب خالد:
"سأرسل له رسالة ليذهب إلى المكتب مباشرةً، والسيارة الأخرى موجودة."
ثم نظر إلى إسراء، ابنة أخته الذكية، وقال بنبرة هادئة:
"من فضلك، أخبري عم حمدي أن يجهّز السيارة."
لبّت إسراء الطلب على الفور، وبعد لحظات، وجدت سالي نفسها في السيارة إلى جوار خالد، وحيدةً معه، وهو الرجل الذي يثير توترها في كل مرة تجلس فيها بقربه.
ساد الصمت النصف الأول من الطريق، لم يقطعه إلا سؤال خالد عن العنوان، الذي أجابت عنه سالي باختصار.
كان يقود بتركيز شديد، لكنه لم يغفل أن الطبيبة الشابة إلى جواره تفرك يديها بتوترٍ ظاهر. شعر خالد بتلك الطاقة المشحونة التي تنبعث منها، فسألها دون أن ينظر إليها:
"لا يبدو أنكِ جاهزة تمامًا لموعدك."
"عذرًا؟"
نظر إليها خالد لجزء من الثانية، ثم أشار برأسه نحو يديها:
"أنتِ متوترة، وهذا واضح للعيان."
تأملت سالي يديها، وقد شكّلتهما في قبضةٍ قوية محاولةً منع ارتعاشهما، ثم قالت بهدوء:
"كل ما في الأمر أنني لم أرَ هذا الشخص منذ سنين."
سألها خالد بصوته العميق الدافئ:
"هل هو شخص مهم؟"
أجابت والحزن يخيّم على ملامحها:
"من المفترض أن يكون كذلك."
لم يعلّق خالد، واختار الصمت بقية الطريق بعد هذا الحديث القصير.
وقفت السيارة أخيرًا أمام الكافيه المطلّ على النيل. ترددت سالي قبل أن تفتح الباب، ثم شدّت من عزيمتها، وفتحته، ونظرت إلى خالد بصدق:
"شكرًا لك، مستر خالد... وأعتذر إن أخذتُ من وقتك."
قال خالد بهدوء وهو يومئ برأسه:
"لا بأس، تفضّلي يا آنسة... بالتوفيق."
ترجّلت سالي من السيارة، وظل خالد يراقبها لثوانٍ وهي تمشي نحو الكافيه. كانت خطواتها مضطربة، وكأنها في أي لحظة قد تطلق ساقيها للريح وتهرب من هذا المكان.
***
كان وقت الفُسحة في المدرسة، جلست فرح بمفردها داخل الفصل، تتأمل الطلاب في ساحة المدرسة من خلال النافذة. شعرت بكآبةٍ تغزو صدرها وهي تراقب السحب تتحرّك ببطء، لتحجب أشعة الشمس التي كانت مشرقة قبل لحظات. وبينما هي على هذا الحال، أحسّت بحركة خفيفة خلفها، فالتفتت لتجد زميلاتها يقفن عند باب الفصل، ينظرن إليها بتوتر.
تقدّمت دينا، التي أهانتها منذ عدة أيام، بخطوات متردّدة، ووقفت أمامها تقول بصوتٍ مهتزّ:
"فرح، كيف حالك؟"
نظرت إليها فرح، تخفي مشاعرها المجروحة، ولم ترد. بادرت دينا فورًا، وكأنها خافت من الصمت:
"أعلم أنني جرحتك، صدّقيني لم أقصد ذلك... كنت فقط خائفة أن يُفشى سرّنا."
فكّرت فرح بسخرية، وهي تستعيد في ذهنها كل مرة تم فيها التلميح أو التنويه عن خلفيتها. لكنها لم تُجِب، ظلت ساكنةً وصامتة.
جلست دينا على المقعد المقابل لها، ونظرت إليها باستعطاف ثم قالت:
"أنا آسفة، أرجوكِ سامحيني."
وكانت باقي الفتيات ما زلن واقفات، يتابعن الموقف بفضول وشيء من الترقّب، فتقدّمت إحداهن وقالت بلطف:
"فرح، سامحي دينا... ولنفتح صفحة جديدة."
نظرت دينا إلى فرح بإلحاح حقيقي في عينيها:
"أنا أعتذر منكِ، ولن أكرّر ذلك أبدًا."
لم تجد استجابة، فحاولت أن تغيّر الموضوع بحماس:
"هل تعلمين أن الدفعة تُجهّز لعشاء جماعي؟ ما رأيك أن نذهب معًا؟"
نظرت فرح إليها بفضول، فتألقت عينا دينا بالأمل، وتابعت بحماس أكبر:
"سنستمتع كثيرًا! وسنلتقط صورًا وفيديوهات جميلة ننشرها معًا!"
مدّت يدها وأمسكت بكفّ فرح، وشدّت عليه بإلحاح. بعد لحظاتٍ من الصمت، قالت فرح بهدوء:
"متى سيكون؟"
ردّت دينا بسرعة، وقد تملكها الفرح:
"لم يُحدد الموعد بعد، ولكن سيكون يومًا رائعًا، يا فرح."
فكّرت فرح... لم تذهب من قبل إلى مثل هذه التجمّعات، وكانت تشعر أن تلك تجربة لا تُفوّت.
أرسلت نظرة غامضة إلى زميلاتها، ثم قالت بصوت هادئ:
"حسنًا... سأرافقكم."
***
جلست سالي أمام والدها، وكفّاها على ركبتيها تفركهما بقوة، بينما كان هو يتأملها بهدوء:
"كيف حالك؟"
ردّت ابنته بنبرة باهتة:
"بخير، وأنت؟"
تنهد وقال:
"أنا أيضًا بخير."
اكتفت سالي بنظرة هاربة إلى ملامح والدها التي تغيّرت كثيرًا عن آخر مرة رأته فيها. الشيب غزا شعره بغزارة، والتجاعيد رسمت طريقها على بشرته الخشنة السمراء، أصبح رجلًا في بداية عقده السابع.
قال وهو يحاول فتح باب الحديث:
"تفاجأت أمس بغيابك عندما زرتكم، لكن علمت أنك تعملين في دار أيتام. كنت أظن أنكِ توظفتِ في مستشفى."
قالت سالي مدّعية الهدوء:
"بالفعل، لكنني استقلت."
ظهرت الدهشة على ملامحه:
"لماذا؟"
"لدي أسبابي."
ضيق عينيه وهو يقول بنبرة جدّية:
"من حقي كوالدك أن أعرف ما هي أسبابك."
نظرت إليه سالي بعفوية وقد شعرت بعبثية تلك الجملة، لكنها لم تجبه. فسألها بعد لحظة:
"أين تعملين الآن؟"
"في دار أيتام."
كذبت عليه، واعتذرت في سرّها من الأطفال.
"ما اسمه؟"
"المنزل."
كانت هذه الجملة الوحيدة الصادقة.
تأمل والدها إصبعها، ثم سألها فجأة:
"ألم تكوني مخطوبة؟"
نظرت سالي إلى إصبعها بتلقائية، ثم قالت:
"لم أعد الآن."
راودها شعور ساخر، فهذا الأب لم يكن يعرف عن ابنه سوى القشور. تذكرت دعوته إلى خطوبتها التي تجاهلها كليًا، حتى دون رسالة تهنئة.
تنفّس الرجل براحة أكثر، ثم قال:
"خير، لم يكن هذا نصيبك."
تسارعت نبضات قلبها، فقد أدركت إلى أين يقود الحديث، ولم تُخطئ. جاءت الجملة التالية كتأكيد لشكوكها:
"بما أننا تطرّقنا إلى هذا الموضوع، جئت اليوم لأخبرك أن نجل صديقي تقدّم لخطبتك، وقد وافقت مبدئيًا."
نظرت إليه سالي بذهول، وقالت بغباء:
"ماذا؟!"
لم يُجب، فقالت بلهجة منفعلة:
"من هذا؟ هل يعرفني؟ وأنت... وافقت؟!"
رد بهدوء بارد:
"وهل يجب أن يعرفك ليطلب يدك؟ المهم أنكِ الآن غير مرتبطة."
نظرت سالي إليه بشك، وقالت:
"ماذا تعني؟"
ولم تجد من والدها ردًا، فتابعت هي بنبرة مستنكرة:
"هل تعني أنني، حتى لو كنتُ مخطوبة، كنتَ ستأتي وتعلن موافقتك، بصرف النظر عن وضعي أو مشاعري؟!"
أغمض الرجل عينيه بشدة، وكأنه يدرك تمامًا ما هو مُقبل عليه، ثم تنهد، وقال محاولًا أن يستبقها بالكلام:
"أعلم ما تفكرين فيه الآن... ليس لي الحق بعد كل تلك السنين."
نظرت إليه سالي نظرةً مباشرة، تؤكد صحة كلامه، فتابع بنبرة خافتة:
"ولكن، أنا والدك في نهاية المطاف... وبالتأكيد لن أتسبّب في ضررك."
لم ترد سالي، ليس لأنها لا تجد ما تقول، بل لأن الكلمات تزاحمت داخلها، تخشى أن تنفجر وتفقد السيطرة على أعصابها، فتتسبب في موقفٍ غير لائق.
تأمّل الرجل ملامح ابنته المضطربة، وقال في محاولة لاستعطافها:
"عزيزتي، ما رأيك أن نبدأ من جديد؟ لطالما رغبتُ في رؤيتكما، أنتِ وشقيقتك، ولكن..."
قاطعت سالي حديثه، والغضب مكتوم في نبرتها الهادئة:
"ولكن ماذا؟ ما الذي منعك؟"
نظر إليها مصدومًا من نبرتها المفاجئة. كان رأسها مطأطأ للأسفل، وصوتها لا يحمل انفعالًا صريحًا، لكن شدّة قبضتها على ركبتيها كانت كافية لتُظهِر ما بداخلها.
قالت من بين أسنانها:
"أيّة بداية جديدة تتحدث عنها؟"
ثم ضحكت بسخرية لاذعة:
"وكأن هناك بداية من الأساس!"
رفعت رأسها، والدموع تغمر عينيها، وقالت بنبرة مجروحة:
"أنا حتى لا أتذكّر ملامحك، وأنت، في الغالب، لا تتذكّر ملامحي."
اتّسعت ابتسامتها الساخرة، وهي تسأله بصوت متهكم:
"لماذا أتيت الآن؟"
أجاب الرجل تلقائيًا، وفي عينيه شيء من التوتر:
"لأجل مصلحتك."
ضحكت سالي، ثم نظرت حولها بذُهول، وكأنها تبحث عن عقل يصدّق ما سمعته:
"مصلحتي؟ هل تمزح؟!"
رمقته بنظرة ساخرة، وقد بدأت تستوعب العبث في كلماته:
"أعتذر، لا أعلم إن كنتَ تمزح أم لا، فأنا لم أرَك منذ سنوات طويلة، وبالطبع لا أذكر طباعك."
ظهر الغضب على وجه الرجل وقال لها:
"تأدّبي، هل هذا ما علّمتك إيّاه أمك؟ أن تسخري من والدك؟!"
نظرت سالي إليه بعجز، وهو يتحدث بصوت منخفض وحشي، ويُظهر جانبه المظلم أخيرًا:
"انظري إليّ بانتباه وتأدّبي في كلامك، واستمعي جيّدًا لما أقوله. لقد قطعت تلك المسافة الطويلة من محافظة لأخرى لأراك، ولن أسمح لأن يكون هذا الأسلوب هو ما ينتظرني منكِ في النهاية. عن نفسي، مجيئي اليوم هو بمثابة اعتذار، وإن كنتِ ستقابلينه بتلك الطريقة غير المهذّبة، فلن أسمح لكِ بذلك."
رفع سبابته وإبهامه أمام أنظارها وقال:
"سأمهلك أسبوعين لتستقيلي وتعودي إلى المنزل."
كان الناس من حولهم قد بدأوا ينتبهون لصوت والدها المرتفع، فنهض من مكانه، وأخذ ما يخصّه من الطاولة، وترك الحساب أمامها وهو يقول:
"أنا أحاول فتح صفحة جديدة معكِ، لذا فكّري جيّدًا في عرضي."
تأمّلها للحظات، وظهرت في عينيه لمحة شفقة سرعان ما تلاشت، ثم همس:
"مع السلامة."
ترك الرجل ابنته ورحل ببرودة قلب، وتركها تكرّر آخر جملة في ذهنها:
'مع السلامة، مع السلامة...'
نظرت إلى ظهر والدها الذي يبتعد بذهول، وتساءلت بينها وبين نفسها:
'هل هذا اللقاء يُختَتم بهذه الكلمة؟'
كان هناك صمت في المكان، وكفّاها الواضحان في مجال رؤيتها فجأة أصبحا ضبابيّين، وشعرت بقطرات دافئة تسقط على يدها المستندة إلى ركبتيها. كانت دموعها الساخنة تسيل بصمت على خديها، والنادل يقف بالقرب منها وعلى وجهه الشفقة.
بعد دقائق، التقطت حقيبتها وخرجت من الكافيه، لتجد السماء ضبابية، والمطر يتساقط لأول مرة منذ حلول الخريف. رفعت رأسها إلى السماء وتلقّت المطر على وجهها، فأغلقت جفونها بشدة لتطرد دموعها التي سالت مُختلطة بقطرات المطر الذي هطل بعنف عليها، لعله يمسح هذا الحزن الكامن داخلها والذي استيقظ بظهور والدها المفاجئ.
وبعد ثوانٍ، كانت تبحث بعيونها عن سيارة أجرة تُعيدها إلى المنزل. لمحت السيارات التي تسير أمامها بسرعات مختلفة، وتذكرت آخر كلمة قالها والدها: 'مع السلامة'.
دققت النظر إلى السيارات، وسَرَح بها خيالها في اتجاه مظلم، ولكن سرعان ما هدّأت من نفسها، وكبحت جماح أفكارها المظلمة اليائسة. وبدلاً من الذهاب إلى المنزل، عبرت الطريق ومشت بموازاة النيل تحت المطر الذي بللها، وهي تسترجع حديث والدها الذي اقتحم حياتها فجأة. تساقطت الدموع مرةً أخرى، وبعبث، أخذت تمسحها بكفّها كالطفلة الصغيرة.
وقفت أمام نهر النيل البديع تتأمله وتُهدّئ من أعصابها. في الواقع، لم يكن هذا تخيلها عن اللقاء الذي سيجمعها بوالدها بعد سنين. وعلى الرغم من أنها كانت مدركة للحقيقة، كان لديها آمال عالية أن يخيب ظنها، وأن يلتقطها والدها بين يديه ويحتضنها، ولكن لم يحدث ذلك، ولم تتفاجأ من خيبة الأمل.
لكن خيبة الأمل تظل خيبة أمل، شعور يكسر القلب، ويحطم الآمال، ولا يترك إلا الحزن والأسى اللذين تشعر بهما سالي الآن.
تساءلت: لماذا عاد بتلك الطريقة وأحيا تلك المشاعر التي اعتقدت أنها دفنتها منذ زمن بعيد؟
تساقطت دموعها وهي تتوصل إلى النتيجة الصادمة: فما زالت شخصاً ضعيفاً هشّاً يحتاج إلى والده، ويبدو أنها لن تجده أبداً. مسحت دموعها، وسارت على غير هدىً في هذا العالم الكبير الملبد بالغيوم.
***
في الخامسة والنصف، وقبل غروب الشمس، كانت السيدة منى وذكية تجلسان مع الأطفال أمام التلفاز بعد الغداء، عندما سمعوا الباب يُغلق بهدوء. خرجت السيدة ذكية لترى من القادم، لتجد الآنسة سالي قد دخلت، وملابسها مبتلّة وغير مرتّبة تحت أنظار الجميع. لم توجّه كلمة لأحد، وصعدت إلى غرفتها.
حاولت السيدة ذكية طرق الباب عدة مرات، ولكن سالي لم تستجب. وبعدها بساعة، عاد خالد، والذي كان على غير عادته أيضاً، كانت ملابسه مبتلّة وغير مرتّبة بسبب المطر الذي هطل طوال اليوم، وبدا عليه التوتر، مما أثار استغراب الجميع. حتى أنه رفض تناول غدائه، وصعد إلى شقته ليأخذ حماماً دافئاً.
في غرفتها، جلست سالي على سريرها، تضم ساقيها. شعرت أنها وقعت مرةً أخرى في هوّة سوداء، وعليها أن تكافح لتخرج منها ككل مرة سابقة. مرّ غضبها اليوم أمام والدها مرور العاصفة، ولم يبقَ لديها إلا اللوم، واليأس العميق، والحزن، والشفقة على النفس، وفي النهاية: الاحتياج. كلها مشاعر التبست ببعضها البعض، لطالما حاربتها بمفردها، وعليها أيضاً هذه المرة أن تقف في مواجهتها وحيدة. في الواقع، لقد سئمت من كل ذلك. كرهت حتى أن ترفع رأسها وتستعد لمواجهة تلك الحياة المظلمة مرةً أخرى.
ظلّت سالي على حالها لمدة ثلاث ساعات، لم ترفع رأسها ولو مرة. يتلقّفها البكاء، والغضب، والندم، حتى شعرت أنها إن ظلت بمفردها ستموت.
رفعت رأسها أخيراً ونظرت إلى هاتفها، الذي كاد ينفجر من مكالمات والدتها، ولكنها تأمّلت الساعة التي كانت التاسعة، ثم أغلقته. لم يكن لديها طاقة أخرى لاسترجاع ما حدث اليوم.
فكّرت بيأس:
'أعتقد أنهم تناولوا العشاء.'
أخذت حماماً، وظلت تحت الماء البارد طويلاً، لعله يمسح عن قلبها الألم والحزن اللذين يعتصرانه. ثم نزلت لعلها تلحق بالباقين قبل أن يصعدوا إلى غرفهم، ولكنها لم تجد إلا ذكية ونور في المطبخ.
نظرت إليها ذكية بشك، وهي تتفحّص ملامحها المتورّمة بسبب البكاء، ولكنها لم تعلّق، واكتفت بسؤالها:
"هل أجهز لكِ الطعام، عزيزتي؟"
كانت نبرة المرأة حنونة جداً، وعند ذكر الطعام هاجت معدة سالي الجائعة، فوافقت بخجل، لتتدخل نور بحماس وابتسامة خجولة:
"أنا سأُجهّز لكِ الطعام."
نظرت سالي إلى الطفلة الكفيفة باستعجاب، ثم إلى ذكية التي أومأت برأسها إليها، فقالت بتعثّر:
"آه، نعم يا نور، سأحب ذلك."
ابتسمت الطفلة برضا وقالت:
"ماذا تحبين؟"
نظرت سالي مرةً أخرى إلى ذكية، ثم إلى نور:
"أي شيء من اختيارك."
قالت الطفلة:
"كنت أعد شوربة المشروم، ما رأيك؟"
لم تذقها سالي يوماً ما، ولم ترغب في إثقال الطفلة بطلب آخر، فقالت بتردد:
"سأحب ذلك."
جلست ذكية بيأس على مقعد بعيد وهي تتثاءب، كان نور طفلة غريبة تتحمّس في أوقات غريبة. عليها الآن انتظارها لتُعدّ الطعام للآنسة الجائعة ثم أخذها إلى غرفتها. نادت بصمت:
'أحمد أين أنت؟ أنقذني.'
لاحظت سالي ذكية تتثاءب من حين إلى آخر، فقالت لها بصوت منخفض:
"ست ذكية، اذهبي أنتِ ونامي، وأنا سأظل بجوارها."
نظرت المرأة إليها بأمل:
"هل أنتِ متأكدة؟"
أومأت سالي بابتسامة باهتة، فشكرتها المرأة بصوت منخفض:
"شكراً لك، لن أنسى لكِ هذا يا عزيزتي."
ابتسمت سالي بصدق، وتابعت بنظرها المرأة التي ودّعت نور ثم ذهبت لتنام. وبعد ثوانٍ، قالت نور وهي تقطع المشروم:
"يبدو أنني ضايقت ست ذكية."
نظرت سالي بحذر إلى يد الطفلة التي تمسك بالسكين الحادة، وقالت:
"لا أعتقد ذلك."
بعد ثوانٍ، أنهت الطفلة أول حبّة مشروم، وقالت وهي تتحسّس وتلتقط حبّة أخرى:
"أنا أحب الطبخ، ولكني لا أجد الوقت لذلك."
كان هناك لمسة من الحزن في نبرتها، فنظرت سالي إليها تتأمّل عينيها الشاردتين وتراقبها وهي تتحدث:
"ولن يتركني الكبار أقوم بذلك بمفردي."
كانت سالي مُستنفَذة عاطفياً، ولم تجد ردّاً مناسباً على الطفلة، فسألتها:
"لماذا الطبخ تحديداً؟"
استمعت الطفلة للسؤال ثم ابتسمت بحب:
"إنه الشيء الوحيد الذي أحسسته منذ فقداني بصري."
كانت تلك مفاجأة كبيرة لسالي، فهذه الطفلة لم تكن كفيفة من قبل.
قاطعت نور أفكارها:
"هو الشيء الوحيد الذي أستطيع استخدام جميع حواسي السليمة معه؛ الشم، والتذوّق، واللمس."
سكتت الطفلة بخجل وقالت:
"ستضحكين عليّ، ولكن عندما أُؤذي نفسي بالسكين أو الحرق، على الرغم من الألم لا أكون متأثرة كثيراً كالآخرين، لأن هذا يشعرني بأنني طبيعية كالجميع."
صُدمت سالي من كلام الطفلة الصغيرة التي تبلغ من العمر 13 عاماً. كيف لطفلة في مثل هذا العمر أن تتحدث بهذه الطريقة؟ وفي مثل هذا الوقت الذي تمر به سالي بصدمة عاطفية، اجتمعت المشاعر المختلفة داخل قلبها وشكّلت غصّة تصاعدت بالدموع إلى عينيها.
لم تكن تلك الدموع على الطفلة بشكل أساسي، بقدر ما كانت استكمالاً لوجعها هي. هبطت الدموع وتذكّرت لقاءها مع والدها، فأخفضت رأسها وانسدل شعرها الأسود المجعّد مخفياً ملامحها الحزينة، وحاولت أن تحافظ على صمتها كي لا تسمعها الطفلة.
كان صوت تقطيع المشروم هو الصوت الوحيد في المطبخ، وسالي التي تبكي بصمت تمسح دموعها التي لا تنتهي بكفّها من حين لآخر. تلك الطفلة أيقظت مشاعر الحزن والقهر داخلها، وها هي الآن لا تستطيع حتى البكاء بوضوح حتى لا تؤذيها.
بعد دقائق، شعرت سالي بيد صغيرة تمسح يدها برقة، وصوت الطفلة الجميل الهادئ:
"أشعر أنك حزينة، أتمنى ألا تكوني مشفقة على حالي، هذا يضايقني."
لم تتفاجأ سالي تلك المرة من كلام نور، بل صدر صوت تنهد خفيف منها وقالت:
"أنا أبكي، ولكن لأنني بالفعل حزينة يا نور."
احتضنت سالي الفتاة الهزيلة وهمست:
"أنتِ قوية يا نور، أقوى مني."
خجلت نور ومسحت على ظهر سالي بخفة وقالت:
"أبيه خالد قال لي من قبل، إنني أستطيع أن أكون قوية لو قررت ذلك بالفعل، وأنا قررت أن أكون قوية."
أكملت بعد ثوانٍ:
"ماما قالت لي أيضاً، إنه لا بأس أحياناً أن نشعر بالضعف واليأس، فهذا جزء منا لا نستطيع أن نتخلص منه، ولكن علينا أن نتعلم كيف نتعامل معه."
كانت نور تردد ما تعلمته من خالد وأنيسة، كأنها رسالة إلهية أرسلها الله بواسطة تلك الطفلة ذات الـ13 عاماً. مسحت سالي دموعها وابتعدت عن الفتاة وهي تقول بابتسامة:
"سأستمع جيداً لنصائح أبيه خالد وماما أنيسة. أخبريني الآن، كيف علمتِ أنني حزينة؟"
قالت الطفلة بتلقائية:
"صوت أنفاسك، كانت سريعة وواضحة. تعلمت هذا بمرور السنين، أحياناً أصيب وأحياناً أخيب."
مسحت سالي على رأس الطفلة الذكية، وقالت:
"كنتِ صائبة."
نظرت إلى المشروم على الطاولة وقالت:
"هل تعلمين أنني لم أجرّب يوماً المشروم؟ وسأكون سعيدة لو ذقته لأول مرة من يدك."
مسحت على بطنها وقالت:
"أنا جائعة جداً، ولم أذق أي طعام منذ الصباح."
اتسعت ابتسامة الطفلة ذات العيون الشاردة وقالت:
"سأحضّره حالاً، أعدك أنها ستعجبك."
***
جلس خالد في الشرفة مُستغرقاً في أفكاره ومسترجعاً أحداث اليوم، مسح وجهه بقسوة، فهذه أول مرة منذ مدة طويلة يكون مضطرباً بهذا الشكل بسبب شخص ما غير الأطفال.
استرجع أحداث هذا اليوم الغريب، فبعد أن ترك الآنسة سالي وحرك سيارته للذهاب إلى عمله، وجد نفسه يعود بالسيارة ليقف في مكان قريب من الكافيه. أراد انتظارها حتى تنهي لقاءها، لم يكن لذلك سبب إلا شعوره بالمسؤولية التي تعود عليها بسبب وجود الأطفال من حوله، كانت متوترة وخائفة دون ذكر سبب، ولذلك انتابه شعور مُلح من اللياقة أن يكمل خدمته لها ويعيدها إلى المنزل، فأرسل رسالة لمحمود يعلمه أنه سيتأخر، وجلس في السيارة منتظراً وهو يدقق النظر في التاب بين يديه ليتابع عمله.
وفجأة لاحظ قطرات الماء تتساقط على الزجاج، نظر إلى السماء التي تلبدت فجأة بالغيوم، كانت هذه أول مرة تمطر منذ حلول الخريف. وبينما هو يغلق الزجاج، لاحظ سالي تخرج من الكافيه، كاد أن ينبهها ولكنه لاحظ أن هناك شيئاً مريباً بها، ملامحها كانت غريبة. كانت تبكي. لمحها تتفاجأ بقطرات المطر التي تسقط فوقها فرفعت رأسها إلى السماء بحيرة ثم إدراك سريع، أغمضت عينيها لثوانٍ ثم فتحتهما وسارت تحت المطر بجوار النيل.
تابعها من بعيد وحرك سيارته ببطء خلفها، كانت بالفعل تبكي وتمسح دموعها بكفها بصمت ودون أية تعابير عميقة على وجهها. رآها تقف أمام النيل تتأمله من فترة لأخرى، ثم تسير مرةً أخرى، كان من الجلي أنها لا تسلك وجهة معينة، فقط تمشي دون هدف.
لم يكن يعلم ما هو التصرف المناسب معها، وشعر بالحرج لو أقدم على التقدُّم ومفاجأتها وهي في ذلك الوضع، لذلك ظل يتبعها كالظل وقلقه يتفاقم بمرور الوقت. جلست أمام النيل لمدة ساعتين تتأمله دون حراك، وكأنها لا تريد الذهاب إلى المنزل، فخرج من سيارته واقترب يتأملها عن قرب دون أن تلاحظه حتى بلله المطر، ثم عادت لتتجول في الشوارع على غير هدى.
وقبل الغروب، أشارت سالي لسيارة أجرة، فتبعها بالسيارة دون أن تتم ملاحظته، وهدأت نفسه عندما وجد نفسه يسير في طريق المنزل، يبدو أنها قررت العودة إلى المنزل أخيراً. فانتظر دخولها أولاً، وبعد ساعة من الانتظار في الخارج دخل بهيئته غير المرتبة.
فكر خالد، وهو يشعر بالغرابة من تصرفه هو أكثر من تصرفها هي، لم يكن من الطبيعي أن رجلاً يلاحق امرأة منذ الصباح حتى منتصف اليوم.
رسمها خياله فجأة، الدكتورة سالي، اسم عابر سمعه من أمه وهي تخبره أنهم وظفوا طبيبة بديلة تقيم معهم في المنزل، وارتاح باله على الأطفال الذين يحتاجون لمراقبة صحية مستمرة بسبب كثرة عددهم. ومنذ أن رآها لأول مرة، كانت خائفة ومتوترة، وكان من الواضح أنها تكذب وتخفي أمراً ما بخصوص فرح، لم يرتح قلبه لها منذ ذلك اليوم، ولكنه اليوم رأى جانباً مختلفاً وغريباً منها، جانباً أربكه وهو يراها في مثل هذا الموقف العاطفي.
توسلت معدته بصوت عالٍ، فتأمل الساعة التي أشارت إلى العاشرة، لم يأكل منذ الصباح، والجوع يعتصر معدته، فاتجه إلى المطبخ الصغير في شقته، ولكنه لم يجد ما يغريه، فقرر النزول إلى المطبخ الكبير لعله يجد ما يأكله. وعندما دخل القاعة، سمع صوتاً في المطبخ، فاتجه إليه، ثم تراجع خطوتين بسرعة عندما رأى موقفاً غريباً.
رأى سالي تبكي ونور تمسح دموعها، فابتعد خطوة أخرى وهو يفكر بالذهاب بعيداً، عندما سمع اسمه يصدر من نور، ليتراجع عن قراره ويقترب مرة أخرى من الباب. سمع الطفلة وهي تكرر لسالي النصيحة التي نصحها بها من قبل، فابتسم بخفة وذهب بعيداً تاركاً إياهما وشأنهما، ومعدته تتلوى من الجوع.
وبينما هو يتجه إلى السلم صادف السيدة منى التي قالت:
"مستر خالد، لديك الوقت لنتحدث قليلاً؟"
لمعت عيون خالد بالإدراك، وأشار لها أن تسبقه إلى المكتب:
"بالتأكيد، تفضّلي ست منى في المكتب."
نهاية الفصل السادس.
وتستكمل القصة في الفصل القادم.
لا تنسوا الvote من فضلكم.
***
لو بتقرأ المنزل عايزة أشكرك لو وصلت للفصل ده، وأتمنى أنك تكون وصلتله دون ملل، وبعتذرلك لو فيه تقصير في أي جزء أكيد مش مقصود، واتمنى أنك تشاورلي عليه وأنا هصلحه، أنا ببذل مجهود كبير فكري، وبتعب جداً في الكتابة لأني كمان بترجم الرواية للغة الإنجليزية دون مساعدة من أحد، ده غير شغلي الأساسي، فالمجهود كبير عليا جدا، وطبيعي يبقى فيه أخطاء ناتجة عن عدم تركيز.
وبس بشكركم جدا واتمنى أن الرواية تعجبكم واستنوا أحداث كتيرة أوي حلوة ومؤثرة، واسفة على أي أخطاء غير مقصودة بالتأكيد.
كاتبتكم ءَالَآء
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
رواية المنزل:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق