الجمعة، 8 نوفمبر 2024

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل السابع والعشرون (الجزء الثالث)

سؤال مهم أتمنى منكم تجاوبوا عليه بصراحة، ونتناقش فيه مع بعض.

رأيكم ايه في القصة والحكاية؟ وايه اللي شايفينه أثر فيكم؟ وهل النوع ده من الروايات في نظركم ينفع يتنشر ورقي؟

أنا حقيقي مبسوطة بيكم وبتفاعلكم وعايزة نكون كلنا على تواصل. واللي عايز يقول رأيه يقوله بصراحة أنا شخص بيحاول يتقبل كل الآراء

يا رب مكونش خيبت توقاعتكم. ومتنسوش ال vote

***


"مستر خالد، للأسف الشديد. لقد تأكدنا من إصابة الست أنيسة بورم خبيث".

لثانية شعر خالد بالغباء فور سماعه تلك الجملة؛ لم يكن هذا الاحتمال واردًا بين أفكاره التي تشتت فجأة، وكأن بحرًا هائجًا انقلب في داخله. برد جسده فجأة، تسللت القشعريرة إلى أوصاله، وأحس وكأن حرارة الحياة تهرب منه ببطء. تضبب العالم أمام عينيه وغرق في ظلام كثيف، لا يرى سوى السواد ولا يسمع إلا طنينًا محمومًا. عاد صدى الكلمات يتكرر في ذهنه، يضرب كأمواج متلاطمة:

"لقد تأكدنا من إصابة الست أنيسة بورم خبيث".

لم تكن الكلمات متوازنة أو متوافقة مع بعضها البعض، وكأنها جمل مفككة عجز عقله عن ربطها. ظل لثوانٍ طويلة يحاول استيعاب ما قيل، عيناه تتعلقان بسالي بنظرة باهتة، أقرب للذهول. شعر بفراغ يبتلع أفكاره، وبنظرة تائهة، كأن كل محاولاته لفهم المعنى تتساقط أمامه بلا جدوى، وداخله يقاوم التصديق، رغم ثقل الحقيقة التي بدأت تتسلل ببطء إلى أعماقه.

كان صدى صوت سالي مازال يتردد في عقله، وكأنه يحاول إقناعه بمعنى الكلام. بينما خالد يقف أمام سالي كالصخرة الجامدة والتي لا حياة فيها.

لم ترَ سالي خالد في مثل هذه الحالة من قبل؛ هذا الرجل الذي اعتاد أن يكون هادئًا، واثقًا، وحكيمًا بدا الآن شاحب الوجه، يكاد يميل إلى البياض. عيناه تاهتا في الأفق، متجاوزتين وجودها، وكأنها أصبحت مجرد ظل شفاف أمامه، لا يراه ولا يشعر به. حلّ بينهما صمت ثقيل، كأن الفراغ ذاته قد تجسد صوتًا بينهما، يثقل الجو ويملأه بوحشة لا تطاق. شعرت سالي بضعف غريب يتسلل إلى جسدها، وكأنها فقدت السيطرة على تماسكها، متوقعة أن يكون رد فعله صدمة، لكن الفراغ الذي هيمن بينهما كان أقسى وأثقل مما تخيلت، أشد وطأة من أي انفعال قد يصدر عنه.

أخذ صدر خالد يرتجف ببطء، وكأن الهواء عاد إليه بعد انقطاع طويل. وأخيرًا، اتسعت أنفاسه وكأنه كان غائبًا عن الوعي للحظات، لحظات لم تدرك سالي طولها، أكانت ثوانٍ أم دقائق؟ تساءلت في سرها هل توقف عن التنفس فعلًا؟ لم تجد إجابة، قبل أن تبدأ شفتاه في التحرك ببطء، ثم خرج صوته أخيرًا، صوت مشوش يكاد يخلو من المعنى، وكأنه يعيد ترديد كلمات غريبة على مسامعه. وبغموض غارق في عدم التصديق، سألها:

"ورم؟ ماذا تعنين؟"

لم يكن خالد غبيًا ليعجز عن الفهم، ولكنه كان أشبه بشخص يقف على حافة هاوية ويرفض أن ينظر إلى الأسفل، متشبثًا بأمل خفيّ بأن ما سمعه لم يكن إلا محض وهم. بقي جزء منه يقاوم الحقيقة، رافضًا أن يدرك معنى كلمات سالي الصريحة والباردة، كأن عقله يرفض استيعاب تلك الجملة التي اخترقت مسامعه ولكنها لم تلامس عمق إدراكه بعد.

رددت سالي الكلمات رغماً عنها ولكن بصوت أقل ثقة عن الأول:

"الست أنيسة تعاني من ورم تم تشخيصه في منطقة القولون. ولكنه للأسف أنتشر. ولقد تلقت بالفعل أولى جلسات العلاج أثناء سفرك".

أنهت سالي كلامها القاطع والذي ينم عن مستقبل الحالة الميؤوس منها، وتوقفت للحظة تتأمل ملامح خالد الشاحبة التي تفيض بعدم التصديق. شعرت بنبض ندم يتصاعد في صدرها، وعيناها تهربان نحو الأرض. لامت أنيسة في سرها لوضعها في هذا الموقف؛ ألم يكن بوسعها أن تواجهه بنفسها؟ كيف تلقي عليها هذا الحمل الثقيل، لماذا تجد نفسها الآن مجبرة على مواجهة خالد بحقيقة صادمة تخص صحة أمه، تلك التي ربتّه وحملت له العالم؟ أغمضت عينيها بأسف للحظة، محاولة استجماع قواها وسط ثقل الموقف الذي يكاد يطغى على قدرتها على الكلام. ثم قالت، وما زال رأسها مطأطأً وصوتها خافتًا:

"في الواقع، السيدة أنيسة كانت تعلم منذ مدة بأمر مرضها، ولكنها فضلت الانتظار حتى تتأكد تمامًا. وبينما كنت بعيدًا، أجرت كل الفحوصات والتحاليل، وتم تشخيص حالتها. وكما أخبرتك، تلقت أولى جلسات العلاج في مستشفى دكتور رشدي".

واصلت سالي سرد القليل من التفاصيل التي لا بد أن يعرفها. كانت كلماتها تخرج كأحجار ثقيلة وهي تخفض رأسها في محاولة للهروب من نظراته، وتتدحرجت الحقائق نحو قلب خالد الذي تلقاها بوجه جامد. صامتًا، ثابتًا، يستمع لكل شيء بانتباه خطير، ووجه خالٍ من التعابير.

عندما أنهت سالي الحديث، بقي خالد لحظة صامتة ثم استدار بهدوء، بخطوات ثابتة، واتجه نحو السلالم. رفعت سالي رأسها، والدموع تتجمع في زوايا عينيها، لتراه يبتعد، وسؤال ملح يؤلمها: 'هل سترحل؟ سترحل هكذا دون أن تنطق بأي كلمة؟'.

وبصوت مرتجف قالت:

"مستر خالد، انتظر من فضلك".

شعرت بوخزة خوف تتسلل إلى قلبها عندما سمعت خطواته تبتعد عنها، وتملكتها رغبة مفاجئة في أن لا يتركها في هذا الصمت الجارح. كان هناك سيل من الكلمات المتناثرة داخلها، كلمات مبعثرة تبحث عن طريق للخروج. كانت تريد أن توضح له، أن تشرح له، أن تخفف وطأة هذه الصدمة على قلبه.

قالت بصوت متردد، وهي تبحث عن الكلمات المناسبة:

"تفهم الموقف.. ربما تتساءل لماذا لم أخبرك فور وصولك، لكن.. لكنها كانت حريصة على ألا يصل إليك الخبر بهذه الطريقة. كانت خائفة، خائفة من أن تهتز حياتك بسبب هذه الصدمة. لكن، في النهاية، أدركت أنه لا يمكن إخفاء الأمر عنك أكثر، وأنه يجب أن تعلم الحقيقة".

رفعت عينيها نحوه بتوسل خافت:

"أرجوك، يا مستر خالد، لا تلومها على خوفها.. لم ترغب في إخبارك إلا لأنها تحبك بشدة".

لم تتلقَ سالي أي رد سوى صمت ثقيل ومريب، صمت أشبه بفراغ يملأ المكان ويحيطها ببرودة غريبة. شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، وكأن الهواء من حولها صار أكثر كثافة، يكتم أنفاسها ويمتد ليُحاصرها. كانت تتوقع انفعالًا، كلمة، حتى لو كانت عتابًا أو غضبًا، لكنها لم تجد سوى هذا الصمت القاتل.

 همست بصوت منخفض ضعيف، مليء بالحزن وهي تحاول منع دموعها:

"أعلم أن الأمر صعب ومفاجئ، لكن أرجوك.. لا ترحل هكذا".

ظل خالد واقفًا دون أن يتحرك، وصدره يعلو ويهبط بصمت، لم ترَ سالي سوى ظهره المتصلب، كأنه جدار لا يخترقه شيء. بعد لحظات قصيرة، تحرك ببطء ونزل السلالم بخطوات ثقيلة وهادئة، كأنها خطوات تتعمد الابتعاد عنها بلا رجعة. كل خطوة تبعده كانت تُخلِّف فراغًا أكبر بداخلها، كأنها مسافة تتسع بينهما وتتعمق، وتتركها وحيدة أمام صدى كلماته العالقة في صدرها.

شعرت بألم يمزق قلبها، فليس هذا ما كانت تريده. لم تكن ترغب في أن ينتهي الموقف بصمت كهذا، بصمت يبتعد فيه ويتركها غارقة في فراغ لم تستطع أن تملأه بأي كلمات. ومرت دقائق وسمعت صوت السيارة هي تبتعد عن المنزل.

***


في غرفة أنيسة الهادئة، كانت المرأة مستغرقة في نوم عميق، بينما سالي ومنى تتناوبان العناية بها بصمت يشوبه الترقب. وقفت سالي أمام النافذة، تحملق في البوابة الحديدية للمنزل، ترقب عودة خالد الذي رحل منذ ثلاث ساعات ولم يبدُ له أثر. لم يعد الرجل بسرعة كما رحل بسرعة. رحيله السريع أظهر شدة صدمته، لكن ما لم تستطع سالي نسيانه كان ذلك التعبير الجارف على وجهه، الذي عكس قوة مشاعره تجاه السيدة التي كانت له بمثابة الأم.

استعادت في ذهنها تلك العبارة التي لطالما كانت أنيسة ترددها لها بأسى:

"ابني خالد بطبعه منطوي، لطالما أخذ ركناً بعيداً عن الناس".

في تلك اللحظة التي غادر فيها خالد المنزل، شعرت سالي وكأن شيئاً انكسر، وكأن أركان المنزل فقدت دفئها. كان المكان الذي اعتاد أن يضج بضحكات الأطفال وأصواتهم البريئة قد أصبح فجأة صامتاً، يلفه حزن ثقيل. أرسلت السيدة منى الأطفال إلى مدارسهم، محاولة أن تبعدهم عن هذا الجو المضطرب، بينما بقي الأصغر سناً في حضانتهم الصغيرة، يلهون دون أن يدركوا ثقل الهموم التي تحوم حولهم.

رفعت سالي رأسها نحو السماء الغائمة، تتطلع إلى انقشاع السحب، وكأنها تأمل أن يجلب نور الصباح دفئاً جديداً يملأ أرجاء المنزل ويمسح آثار هذا الحزن، علّ خالد يعود حاملاً معه بعضاً من الأمل الذي فقدته الأسرة في هذه الساعات القصيرة.

ومرت الساعات ببطء ثقيل، ومع مرورها كانت أفكار سالي تتشابك وتتزايد تشوشاً، حتى وصلت أعصابها إلى حافة الانهيار، وبدأ صداع متسلط ينبش في رأسها. رفعت يدها لتدلك عينيها المثقلتين بالقلق، وبينما هي على هذا الحال، سمعت صوت طرقات خفيفة على الباب. التفتت نحو الصوت واتجهت لتفتح الباب، لتجد أمامها فرح وأميرة وليلى يقفون عند المدخل، ملامح القلق بادية على وجوههم.

كانت قد سمعت أصواتهم قبل قليل في الطابق السفلي عندما عادوا من المدرسة، وها هم الآن يأتون إليها مباشرة. تقدمت فرح بخطى مترددة، وقالت بصوت هادئ يحمل في طياته بعض التردد:

"سالي، ماما.. هل هي بخير؟ ماذا بها؟ نريد أن نراها".

نظرت إليهم سالي بعينين مرهقتين، كان القلق بادياً على وجوه الأطفال بشكل جلي، خرجت سالي من الغرفة وهي تقول بهمس:

"إنها نائمة الآن يا بنات، سأخبركم فور استيقاظها".

"هل هي مريضة؟".

قالتها ليلى بعيون دامعة. فأخذت سالي نفساً عميقاً وهي تشعر بالشفقة على الطفلة، وقالت برفق وهي تضمها إليها:

"لا تقلقي يا ليلى ماما ستكون بخير، مجرد تعب بسيط".

"ولكني أشعر بالقلق عليها".

لم يكن في جعبة سالي كلمات أخرى تواسي بها الفتاة، ففضلت الصمت ونظرت إلى الفتاتين الأخريتن، ثم ضمتهم إليها بذراعها الأخرى، ضمتهم إليها بقوة، وهي تشعر بدفء حبها العميق لهم يغمرها ويمنحها صلابة لم تتوقعها. كانت تعتقد في البداية أن تلك العاطفة الجياشة ستجعلها تنهار تحت وطأتها، لكنها أدركت الآن أن هذا الحب المتقد لن يُضعفها، بل سيغذي إصرارها الذي نما بداخلها تجاههم. هؤلاء الصغار يحتاجون إلى حماية، إلى حضن يشعرهم بالأمان وسط غياب أنيسة عن الوعي وابتعاد خالد عن المنزل. لم يكن بمقدورها أن تتركهم يواجهون هذا الظرف القاسي دون غطاء نفسي يسندهم. همست سالي، وكأنها تعدهم بوعد صادق:

"أنا هنا معكم.. لن أترككم وحدكم أبدًا".

وبعد مرور بعض الوقت، استفاقت أنيسة من نومها العميق، تملؤها علامات الإرهاق والقلق. أول ما تلفظت به كان سؤالًا موجعًا عن خالد.  فجلست سالي إلى جانبها برفق، وأخذت تخبرها بكل ما حدث منذ لحظة إغمائها وحتى غياب خالد المفاجئ.

لم يظهر على أنيسة أي رد فعل قوي، فقط صمتت للحظات طويلة، ثم همست بنبرةٍ ملؤها الألم واليأس:

"هذا ما كنت أخشاه..".

***


كانت سالي تتجول في الحديقة، وحول كتفيها شال يحميها من برودة الجو المتزايدة مع دخول المساء. نظرت للمرة المئة نحو البوابة بعينين تملؤهما الأمل والترقب، لكن المكان ظل هادئًا، بلا حركة تلوح في الأفق. ألقت نظرة على الساعة في معصمها؛ كانت تقارب السادسة مساءً. ترددت في نفسها أفكارٌ قلقة، وتساءلت في صمت: 'متى سيعود؟' وهل ستظل تنتظره هكذا حتى يحل الصباح؟ وقد يأتي أو لا يأتي. إن الانتظار حقًا أمرٌ مرهق إذا كانت نهايته غير ما نتمناه في قلوبنا.

بدأت سالي تغوص في أفكارها، تتأمل في طبيعة الانتظار ذاته. فكرت كم من الناس يفنون حياتهم في انتظار شيءٍ ما، لعلهم لا يعثرون عليه أبدًا، فتكون صدمتهم أشد من طول الانتظار ذاته. كانت تشعر بأن انتظاره أثقل عليها من أي شيء آخر.

ثم جاءها سؤالٌ مباغت:

'لماذا أنتِ تنتظرينه حقًا؟'.

كانت تعرف أن ثمة مشاعر خفية دفينة، ولكنها رفضت مواجهة حقيقتها، هاربة من الإجابة كما يهرب المرء من ظلِّه. شعرت باضطراب في أعماقها، فهي تخشى أن تواجه في النهاية حقيقة لا تريد الاعتراف بها، حقيقة قد تفتح أبوابًا لم ترغب يومًا في الاقتراب منها. وهكذا بقيت أسئلتها ودواخلها مشتتة بلا إجابة شافية.

جلست على مقعد تحت العريشة، تتأمل الطبيعة من حولها بشرود بينما تلاشت أصوات الطيور تدريجيًا مع مرور الوقت. ومع مرور الدقائق، مال رأسها واستسلمت للنوم رغماً عنها.

لم تشعر إلا حينما أحست بالشال يُعاد برفق على كتفيها. التفتت بسرعة، وبعينين ناعستين، لترى حسن، الذي وقف هناك وقد وضع الشال حولها بعناية. قالت سالي بخفوت:

"حسن؟ ماذا تفعل هنا؟".

وفجأة، تذكرت السبب الذي جعلها تنتظر، فاستدارت بلهفة قائلة:

"هل عاد مستر خالد؟".

تأملها حسن قليلاً، وضيق عينيه قبل أن يرد بصوت هادئ وهو يجلس بجانبها:

"لا، لم يعد".

شعرت سالي بخيبة أمل خافتة تخمد ذلك البصيص من الأمل الذي كان يشع في عينيها. زفرت تأوهًا خفيفًا دون أن تنبس بكلمة، فحدّق حسن فيها لبرهة وسألها:

"لماذا تنظرينه بهذه اللهفة؟".

تملكتها المفاجأة من جرأة سؤاله، فاحمرّ وجهها بسرعة وقالت بصوت مرتبك:

"ماذا تقصد بسؤالك؟ أنت تسيء الفهم".

ظل حسن صامتًا، يغرق في أفكاره، بينما التفتت سالي إليه بنظرة قلقة، وكأنها شعرت بأنها أخطأت بشيء ما. أخيرًا، رفع بصره نحوها وسأل بصوت جاد:

"ما الذي يجعلك تنتظرينه حتى الآن؟".

حدقا ببعضهما للحظة دون أن ينطق أي منهما بكلمة، ثم أشاحت سالي بوجهها بعد تفكير وقالت:

"هناك أمر مهم يجب أن أتحدث معه بشأنه".

رفع حسن حاجبيه، ونظر إلى الشال الذي وضعه على كتفيها، ثم قال بنبرة استنتاجية:

"وهل الأمر مهم لهذه الدرجة لدرجة الانتظار حتى هذه الساعة رغم برودة الجو؟".

ترددت سالي للحظة، وأجابت:

"نعم، يستحق الانتظار".

ضيّق حسن عينيه وسألها بجدية وهو ينظر إليها مباشرة:

"لو سألتك سؤال، هل ستجيبين عليه بصدق ووضوح؟"

التفتت إليه سالي مستفهمة، وتأملته لبرهة قبل أن تقول بنبرة واثقة:

"أنا دائماً صريحة معك يا حسن".

لم يتردد حسن في طرح سؤاله، ونظر إليها بتركيز وسأل:

"ماما مريضة، أليس كذلك؟".

أحست سالي بانقباض في صدرها من سؤال حسن الصريح، وتجمدت للحظة. كانت تتوقع أي شيء، لكن ليس هذا السؤال. نظرت إلى الفتى الذي كان يحمل على وجهه تعبيرًا غريبًا، بين الشك والمعرفة. ترددت سالي، ثم قالت بصوت منخفض، وهي تحاول أن تحتفظ بهدوئها قدر الإمكان:

"حسن.. هذه أمور معقدة. ولكن.. نعم، والدتك تمر بمرحلة صعبة".

كان حسن ينظر إليها دون أن يطرف، كأن كلمتها الأخيرة علقت في الهواء. وكأنه ينتظر إجابة أخرى. فقالت سالي، وهي تخفض بصرها كأنها تتهرب من النظر في عينيه:

"الست أنيسة قوية، وأنت تعرف ذلك. هي فقط بحاجة لدعواتكم الآن".

حاولت أن ترسم ابتسامة مطمئنة، لكن حسن لم يبدُ مقتنعًا. سألها بشكل مفاجئ:

"لديها ورم؟".

شعرت سالي بالدهشة وتساءلت بقلق:

"أنت تعرف؟".

أجاب بهدوء:

"سمعتكم أنت والست منى تتحدثان يوم زيارة مسؤولي الوزارة".

وقبل أن  ترد عليه سالي قال مبرراً:

"سمعتكم بالصدفة، لم أتعمد التنصت، ولم أخبر أي أحد".

فوجئت سالي بمعرفته، وربما أكثر بالهدوء الذي كان يتعامل به مع الموضوع، خاصة عدم إخباره لخالد. تأملته بنظرة قلقة، متسائلة عما يشعر به في هذه اللحظة، لكنها لم تجد في ملامحه سوى البرود المعتاد. قالت بهدوء:

"ما سمعته صحيح يا حسن".

تنهد الفتى ونظر إلى الأرض بشرود، فقامت سالي بوضع يدها على كفه بحنان مواسي، وسمعته يسأل بصوت خافت:

"هل هناك أمل؟".

شدت سالي على كفه برفق قائلة:

"الله موجود، إذاً الأمل دائماً موجود".

لم يرد الولد عليها فقالت سالي بنبرة مشجعة:

"حسن، لا تسمح لخيالك أن يأخذك بعيداً إلى توقعات وتنبؤات لا فائدة منها، نحن جميعًا هنا لنقف بجانبها، وأنت وأخوتك جزء من هذا الدعم. فقط ثق أنها قوية، ونحن بجانبها".

كانت سالي تحاول جاهدة مواساة وبث الطمأنينة في نفس الولد الذي كان في العادة مُتماسكاً. لكنها شعرت بأن كلماتها لا تزال غير كافية لتبديد المخاوف العميقة التي بدت تتسلل إلى عينيه، وأن كلماتها تذوب في حضرة خوفه العميق، وبدا هذا الثبات المعتاد على ملامحه يتلاشى ويحل محله علامات الشحوب والقلق، حسن هذا الفتى المراهق الذي يسبق عمره، تحول الفتى في تلك اللحظة إلى طفل خائف وقلق، وكشف عن جانب طفولي هش لم تراه فيه من قبل.

لم يكن لدى سالي المزيد من الكلام الذي قد يرفع من معنويات الولد، لذا اكتفت بالصمت، وتركتهما الحيرة جالسين في هدوء ثقيل حتى قطع السكون صوت عالٍ قادم من المنزل:

"لارا! أين أنتِ؟".

في البداية، استغرقت سالي لحظة لتدرك مصدر الصوت، حتى تبيّن لها أنها السيدة منى، تنادي بلهفة وخوف:

"لارا! أين ذهبتِ؟ أرجوكِ، أجيبي علي!"

نهضت سالي بسرعة، وتبعها حسن بخطوات متسارعة نحو المنزل. كانت السيدة منى واقفة أمام الباب بوجه شاحب وعيون قلقة، وبمجرد رؤيتها لهما، هتفت بقلق متزايد:

"أرأيتما لارا؟ لارا ليست في المنزل!"

صرخت السيدة منى بذعر:

"لقد اختفت منذ مدة!".

حاولت سالي تهدئتها وقالت بنبرة هادئة لكنها حازمة:

"اهدئي يا ست منى، ربما تلعب في مكان ما بعيداً عن أنظارنا، هل بحثت في الحضانة وغرف الأولاد؟".

قالت السيدة منى بصوت مرتجف، وقد علت ملامحها القلق:

"بحثت عنها في كل مكان، في كل ركن من المنزل! الطفلة ليست هنا".

حينها سمعت سالي أصوات الأطفال من داخل المنزل ينادونها، وصوت فؤاد، توأم لارا، يرتفع بالبكاء ويزيد من حدة التوتر. حاولت سالي التماسك، وقالت للسيدة منى بنبرة مطمئنة:

"اهدئي من فضلك، سنبحث عنها معًا".

ثم نظرت إلى حسن وقالت له بجدية:

"حسن، لنبدأ بالحديقة، قد تكون اختبأت هناك".

تحركت سالي وحسن سريعًا إلى الحديقة، يتبادلان نظرات القلق، ويناديان بصوت يحمل مزيجًا من الأمل والخوف، باحثين عن أي أثر للارا بين أشجار الحديقة وظلال المساء. وهكذا بدأ جميع أفراد المنزل في البحث عن لارا بقلق متزايد، إذ لم ينتبه أحد لاختفائها حتى مرت فترة طويلة. كل دقيقة مضت دون العثور على الطفلة جعلتهم أكثر قلقًا وذعرًا. تجولت سالي بين الغرف والحديقة، تنادي باسم لارا بصوت مرتجف، بينما كانت منى تزداد اضطرابًا، تمسك بهاتفها وتحاول الاتصال بخالد. ولكن كلما حاولت، واجهت نفس النتيجة: هاتفه كان مغلقًا.

حتى السيدة أنيسة، رغم تعبها، نهضت من فراشها مستندة على ذكية، تنادي بصوت مرتجف على لارا. لم تستطع الانتظار أكثر، فقد كان قلبها يخفق بقلق لا يهدأ، وعينيها تجولان بلهفة في كل زاوية بحثًا عن طفلتها. كانت تنادي باسمها بصوت فيه رجاء وقلق، كأنها تأمل أن ترد عليها الطفلة من أحد أركان المنزل.سمعت سالي النداءات المبحوحة لأنيسة، فتقدمت منها، محاولة تهدئتها قائلة:

"اهدئي يا ست أنيسة، سنتعاون جميعًا حتى نجد لارا، ارتاحي أنت في فراشك، جسدك لن يتحمل".

لكن نظرة أنيسة كانت مليئة بالقلق والألم، وجسدها الضعيف لا يقوى على احتمال المزيد من الانتظار.

حاولت منى أيضاً أن تتماسك، لكنها بدأت تتحدث بلهفة وهي تقول:

"أين يمكن أن تكون؟! بحثنا في كل مكان، ولم نجد أي أثر لها".

اقتربت سالي منها، في محاولة لتهدئتها:

"سنجدها، لا تقلقي، قد تكون مختبئة في مكان ما".

لكن كلمات سالي لم تنجح في تخفيف توتر السيدتان أنيسة ومنى، خاصة مع مرور الوقت دون ظهور أي علامة على مكان الطفلة.

مرت ساعة والجميع في المنزل على أعصابه، يحاولون البحث دون جدوى عن الطفلة لارا التي اختفت فجأة. شعرت سالي أن الموقف يزداد سوءًا مع كل دقيقة، فترددت للحظات قبل أن تقرر الاتصال بمحمود. ردّ عليها بعد لحظات بصوت حائر:

"دكتورة؟".

قالت سالي بقلق واضح:

"مساء الخير مستر محمود، أين أنت الآن؟".

أجابها بصوت متسائل:

"أنا في البيت، هل هناك خطب ما؟".

ترددت سالي قليلاً، ثم سألته:

"ألم ترى مستر خالد اليوم؟".

أجاب محمود بنبرة قلق ازدادت عمقًا:

"لا، أنا في إجازة، وخالد قال إنه سيحصل على إجازة أيضًا.. ألم يقض اليوم معكم؟".

التزمت سالي الصمت للحظات، تحاول أن تجد الكلمات المناسبة، ثم سمعت صوت محمود يزداد قلقًا:

"دكتورة، هل هناك شيء مقلق؟".

ترددت سالي وهي ترى الأطفال الصغار يبكون والقلق يعم أرجاء المنزل. ثم قالت بصوت مرتجف:

"مستر محمود.. لدينا مشكلة. لارا.. لارا اختفت ولا نجدها في أي مكان".

بمجرد أن فهم الموقف، وصل محمود إلى المنزل في أقل من عشرين دقيقة، وانضم إلى الآخرين في البحث عن لارا. كان الجميع يفتشون بكل زوايا المنزل وساحاته. مسحوا الحديقة، وغرف التخزين، حتى المطبخ والأروقة، ولكن لارا لم تكن في أي مكان. وسألوا عم حمدي وزملاءه من الحراس مرارًا، لكنهم أكدوا أنهم لم يروا الطفلة تقترب من البوابة أو تغادر.

وبينما الجهد والقلق قد أرهقا الجميع، سمعوا صوت محمود ينادي من جهة ملحق خالد. هرعوا إلى هناك ليجدوه يخرج من باب الملحق، وعلى كتفه الطفلة الصغيرة، تغط في نوم عميق. ركضت منى باتجاهه، وصاحت بتوتر:

"هل هي بخير؟ ماذا حدث لها؟".

ابتسم محمود مطمئنًا:

"لا تقلقي، إنها نائمة فقط".

وضعت منى إصبعها برفق تحت أنف لارا، وتأكدت من أنفاسها المنتظمة، ثم أطلقت تنهيدة ارتياح عميقة، عانقت الطفلة برفق ودموع الراحة في عينيها.

***



جلست لارا على سريرها تدلك عينيها الناعستين، وتنظر بحيرة إلى وجوه أفراد العائلة المتجمعة حولها بقلق. شعرت بضغط أجواء الغرفة الثقيلة، فسألت بصوت ناعس وهي تنظر إلى شقيقها فؤاد:

"ما الذي يحدث؟".

انحنت منى نحوها، محاولةً إخفاء ارتباكها، وقالت بصوت مهدئ:

"لقد أقلقتنا يا لارا. بحثنا عنك في كل مكان ولم نجدك".

ارتسمت علامات الاستغراب على وجه لارا، وازدادت دهشتها حين لمحت أمها أنيسة واقفة على باب الغرفة، تتكئ على عصاها بوجه شاحب ونظرة محملة بالقلق. عادت بها الذاكرة إلى الصباح عندما شاهدت خالد ينزل السلالم مسرعاً؛ كانت الطفة تشعر بالصدمة مما حدث في الصباح ، ويبدو أنها حاولت أن تحدثه، لكنه لم يتوقف كعادته وغادر على عجل. أحست الصغيرة بصدمة وقلق، وتساءلت طوال اليوم إن كان أبيه خالد غاضباً منها لسبب ما. وفي وقت لاحق، دخلت الملحق على أمل أن تجده هناك، لكنها غلبها النوم وبقيت نائمة حتى اللحظة.

قالت لارا وهي تتذكر بحزن أن الجميع تجاهلوها اليوم:

"أنا فقط أردت من أبيه أن يحملني، ولكنه تركني ورحل".

"ولكن ما الذي جعلك تدخلين إلى الملحق؟".

هزت الطفلة كتفيها بحيرة وكأنها لا تجد إجابة، فاقتربت أنيسة منها واحتضنتها برفق، وتمتمت بصوت مفعم بالحنان:

"أهم شيء أنك بخير يا صغيرتي. لا تعيدي هذا التصرف مجددًا، لقد كنا خائفيين عليك".

نظرت لارا حولها، ثم أخفضت وجهها بخجل، فابتسم الجميع بتعبير من الارتياح، بينما قالت أنيسة بصوت واهن، لكن مليء بالعطف:

"هل أنتِ جائعة؟ هل تريدين أن تحضر لك ذكية الطعام؟".

هزت لارا رأسها بالموافقة، وابتسامة خفيفة على شفتيها، رأتها سالي وأدركت على الفور أن الطفلة ليست طبيعية.

***


لساعات، قاد خالد سيارته دون وجهة، منذ الصباح يتنقل بين الشوارع بلا إدراك للطريق في دوامةٍ من الحيرة، تائهاً، وكأن تروس عقله توقفت عند تلك الجملة التي قالتها سالي بصلابة وجدية:

"مستر خالد، لقد تأكدنا من إصابة الست أنيسة بورم خبيث".

تردد صدى الكلمة في رأسه آلاف المرات، يتكرر بلا هوادة، يعلو كضجيجٍ لا ينتهي، حتى بات يخشى أنه في لحظةٍ ما سيبلغ حد الانفجار. كان عاجزًا عن استيعاب وقع هذه الحقيقة المفجعة، ولم يستطع شيء أن يخرجه من دوامة الألم التي غمرته.

وفجأة مر شريط حياته كاملاً أمام عينيه، كموجة عارمة من الذكريات المتلاحقة، كتلك الأضواء التي تُضيء الشارع المُظلم أمامه على جانبي الطريق وتخترق بصره. ذكريات مضاءة بتلك المشاعر التي لم تبهت رغم مرور السنوات. رأى طفولته تتراقص أمامه، بدأً من تلك اللمحات المتفرقة التي كان يتذكرها بصعوبة، عن عائلة كانت بالكاد تخطر بباله، أم و إخوة بدا وكأنهم أشباح بعيدة في ذاكرته، غابت ملامحهم بمرور الوقت.

ثم تذكّر ذلك اليوم الذي فتح فيه عينيه، ووجد نفسه فيه وحيدًا في دار الأيتام؛ مكانٌ كانت جدرانه باردة، وصمته ثقيل. تذكر كيف كان يرتجف، صغيرًا وغريبًا، محاطًا بأوجه لا يعرفها. وبين كل تلك الوجوه، ظهرت هي - أنيسة. تلك المرأة التي مدّت له يدًا في عتمة مخاوفه الأولى، حاولت بصبر وإصرار أن تفتح نافذة في قلبه المكسور. لم تكن مجرد مسؤول في الدار، كانت شيئًا آخر، شيئًا أكبر من مجرد شخص بالغ يقف إلى جواره. كان يشعر، بعمق غريزي، أنها لم تنظر إليه كرقم، بل كطفل يحتاج إلى حضن ودعم، ويستحق الحب مثل أي طفل آخر.

ومع الوقت، أصبحت تلك المرأة له أكثر من مجرد منقذ، صارت سندًا وملجأً، ليتحول ذلك الرابط بينهما من علاقة متحفظة إلى علاقة دافئة تتحدى الصعاب. تذكر كيف أنه، على الرغم من تحدياتهما العديدة، كانا قادرين على بناء حياةٍ كانت تزهر بالمعاني وتثبت أمام الأزمات. كان يعلم أن حبها له أعمق وأصدق من مجرد فعل تبني، كان نوعًا من الحب يُنبت جذوره في القلب، حتى ولو لم يكن هناك رباط دم بينهما.

الآن، وقد علم بمرضها الخبيث الذي لا علاج له، شعر بشيء ثقيل يغرس في صدره. فكره ينفلت إلى تفاصيل صغيرة ومواقف قديمة، وكيف أنه لطالما اعتقد أنها ستكون موجودة دومًا، كأنها جزء لا ينفصل عن حياته. لم يصدّق بعد أنها سيكون عليها الرحيل، تاركةً إياه يصارع الحياة وحده. حاول التماسك، حاول أن يبقي قوته تلك التي اكتسبها بفضلها، لكنه شعر بفراغ يزداد اتساعًا في داخله، فراغ لم يعهده إلا في سنواته الأولى.

بدأ قلبه ينبض بخليطٍ من الألم والامتنان، ألم على خسارة لا يمكنه تصورها، وامتنانٌ لعمرٍ كامل أمضاه بجانبها، تعلم منها كيف يصمد ويقف على قدميه في وجه العواصف.

زاد خالد من سرعته على الطريق الهادئ، حتى فجأة سمع صوت أبواق سيارة تقترب من خلفه وكأنها تنبهه بالسرعة الغير مناسبة التي يقود بها على هذا الطريق. حاول أن يخفف من سرعته، لكنه لم يتمكن من تفادي الاصطدام بشجرة على جانب الطريق. السيارة انحرفت بشكل مفاجئ، وفقد خالد توازنه لحظة اصطدامها، ليطير رأسه نحو عجلة القيادة. ارتطم بشدة، ليشعر وكأن عقله انفصل عن جسده، وتوغل الظلام في ذهنه، حيث ظن للحظة أنه فقد وعيه تمامًا.

ابتسم خالد في تلك اللحظة، كأنما يتقبل مصيره بحالة من اللامبالاة، لكنه فجأة سمع أصوات الناس من حوله، وهو يتنفس بصعوبة. بدأت تلك الابتسامة تتلاشى تدريجياً، وأدرك أنه ما يزال في وعيه، ولكنه في مكان ما بين الوعي والغيبوبة.

الدماء الساخنة كان يتساقط على جبينه من جرح عميق، لكنه لم يشعر بألم الجرح. كان الألم أعمق من ذلك بكثير، كان صادراً من فؤاده، ألم يتغلغل في قلبه، كأنه فقد شيئًا في تلك اللحظة، شيء لا يمكن إصلاحه بسهولة.

أخرجه أحد الرجال من السيارة، وساعده على الوقوف بعدما لاحظ اضطراب خطواته وارتجاف يديه. دون تردد، قاده إلى سيارته بنية إيصاله لأقرب مستشفى، لكن خالد، بصوت خافت تتخلله أنفاسه المتعبة، همس باسم مستشفى أخرى بعيدة نسبيًا. لم تكن الأقرب في المكان، لكنها كانت الأقرب، حيث يمكنه أن يجد إجابات أكثر وضوحًا لما يتصارع بداخله من أسئلة.

***


كان دكتور رشدي قد عاد للتو إلى منزله. وقد علم بالفعل بواسطة رسالة أرسلتها له أنيسة بأن خالد علم أخيراً عن مرضها. وفجأة تلقى الرجل اتصالًا من المستشفى دفعه إلى ارتداء ملابسه على عجل والعودة إلى عمله مرة أخرى.

دخل الدكتور إلى قسم الاستقبال بعيون فاحصة، ليرى الرجل في منتصف الثلاثينيات يجلس شاردًا على مقعد في زاوية بعيدة من الغرفة، رأسه مُضمد وعيناه تحملان نظرة تائهة، تتجاوز حدود هذا العالم. أدرك الدكتور رشدي سبب هذا المشهد الحزين، فتقدم نحو خالد المتفرد بأحزانه بخطوات متأثرة آسفة، وعندما وصل إليه، قال:

"لم أتخيل أن أراك يومًا في هذه الحالة المؤسفة، انهض يا رجل".

انتظر الدكتور رشدي للحظات، منتظرًا ردًا من خالد الذي رفع رأسه ببطء، ليكشف مشهدًا أذهله. كان وجه خالد شاحبًا، وعيناه محمرتان، بينما ارتسمت على ملامحه صدمة وانكسار يسلبانه هدوءه وصلابته المعتادين. للحظات، عجز الدكتور رشدي عن إيجاد كلمات تليق بالموقف؛ فقد عقد الحزن لسانه. ثم بعد ثوانٍ قليلة، مد يده وأمسك بكتف خالد، مترددًا. وبصوت مليء بالحزن والرغبة في التخفيف عن خالد قال:

"انهض يا بني، وتعال معي، لنتحدث في مكان أكثر هدوءًا".

لم يكن خالد قادرًا على المقاومة أو حتى إظهار أي رد فعل. أمسكه الدكتور رشدي بلطف وسحبه من مقعده، وكأنه يسحب روحًا فقدت إرادتها، تغوص في أعماق حزنها بلا أمل. كانت خطوات خالد ثقيلة وكأنها تحمل معه أعباءً لا تُحتمل، وعيونه تائهة تنظر إلى اللاشيء، بينما يحاول الدكتور رشدي بصمت أن ينقل إليه بعضًا من الصبر والقوة، رغم علمه أن وقع الخبر لا يترك مجالًا لمواساة.

في مكتبه، جلس الدكتور رشدي قبالة خالد، يتفحصه بعينٍ حانية، ثم تنهد بعمق وقال ببطء، بنبرة تحمل مزيجًا من الحكمة والأسى:

"خالد، استمع لي أيها الشاب، قد لا تكون كلماتي قادرة على تخفيف وطأة الصدمة التي تمر بها، لكن بصفتي رجلاً عاش في هذه الدنيا عمراً طويلاً، وقضى هذا العمر يشاهد أحزان الناس وأفراحهم، سأقول لك ما أراه ضروريًا".

تنفس رشدي ببطء، وكأن كلماته تستجمع قوتها، ثم تابع:

"نحن بشر، نجهل الغيب، لكن نعرف أن الله هو رب المعجزات، وأن التمسك بالأمل والصبر، حتى في أحلك الأوقات، جزء لا يتجزأ من إيماننا. ولكن ما أريد أن أنبهك إليه يا خالد، أنك مازلت شاباً، والحياة ما زالت طويلة أمامك. بإذن الله. أنا أعلم أن هذا الألم ثقيل، وهذا السيناريو قاسٍ، لكن كان مقدرًا له أن يأتي بشكل أو بآخر. وجود أنيسة الغالية أو غيابها لا يغيّر من حقيقة أن الحياة تستمر، رغم كل شيء، وأنك مُجبر على عيشها بشكل جيد".

صمت الدكتور رشدي لبرهة، كأنما ليترك لخالد مساحة لتقبل كلماته، ثم أضاف بحنان:

"تذكّر، أن هناك خمسة عشر طفلًا وطفلة ينظرون إليك كأملهم الوحيد، كملجأهم وسندهم. هؤلاء الصغار يعتمدون عليك في كل شيء، ولن يجدوا في هذه الدنيا من يقف بجانبهم سواك. ربما هي مسؤولية ثقيلة، لكنها أيضًا رسالة، وربما ما تحتاجه الآن هو أن تجد فيهم الدافع لتكمل، لتظل قويًا من أجلهم".

ضيّق الدكتور رشدي عينيه، وكأن مشاهد من الماضي بدأت تظهر أمامه، ثم قال بصوت هادئ:

"أنيسة، تلك المرأة الصبورة، عاشت سنوات طويلة متحملة نفس الفقدان والألم. فقدت الرجل الذي أحبته في بداية شبابها، قبل أن تُزف إليه عروسًا، شابة جميلة ونضرة. تنتظر عريسها كمال في أوقات الحرب أن يعود إجازاته سليماً ودون أن تسمع خبر استشهادة، ولكن رحل كمال عنها بسبب الحرب، وعندما حدث ذلك، تجرعت ألم الفقد والانتظار معًا، لهذا السبب  فضلت ألا تُثقل كاهلك بالمعاناة ذاتها، لم ترغب أن تخبرك بمرضها؛ كانت تخشى أن تعيش ذات الانتظار المؤلم، أن تكون متأهبًا لسماع خبر لا تود سماعه، كما كانت هي تنتظر سماع خبر نجاة كمال في وقت الحرب، ثم انتهى الأمر باستشهاده".

توقف الدكتور رشدي لبرهة، متمعنًا في عيني خالد المتأثرة، ثم أكمل:

"ولذلك لم ترغب أن تعيش هذا الألم، خاصةً لو كنت أمام عينيها، لم ترغب في رؤيتك تتعذب لأجلها. كانت ترى فيك شابًا قويًا، معتدًا بنفسه، ودائمًا متماسكًا في نظرها. ربما كانت مخطئة في تقديرها، لكن أحيانًا تتغلب مخاوفنا علينا، وتسيطر على قراراتنا".

ثم قال بصوت يملؤه الدفء:

"دورك الآن أن تكون إلى جوارها، لقد حان الوقت لترد لها دين السنوات الطويلة من العطاء والحنان. قف بجوارها كما كنت دائماً؛ الشاب الصلب الذي تستمد منه قوتها".

نظر رشدي إلى الرجل المنهار بالفعل أمامه وأكمل:

"لا بأس من الانهيار يا بني، فهذا حقك الطبيعي. فقط، ليس أمامها، لأن حالتها لا تحتمل أن ترى ضعفك. وبما أنك أصبحت على علم بمرضها. من واجبي أن أطلعك على حقيقة حالتها كاملة".

لاحظ رشدي أن جسد خالد قد بدأ يرتجف قليلاً، كأنه يحاول بصعوبة تحمل وطأة الكلمات التي يسمعها، ويفرّ من مواجهة تلك الحقيقة التي توشك أن تُكشف أمامه. لكن هذا كان واجب الدكتور رشدي، صديق أنيسة الوفي، أو بالأحرى، صديق الشهيد كمال الذي ضحى بحياته لأجل وطنه. لقد ظلت العلاقة بين رشدي وأنيسة وطيدة طوال ما يزيد عن الأربعين عاماً، علاقة لم تكن تربطها المصالح أو المجاملات، بل أمانة حملها من صديقه الراحل، كان يستشعر ثقلها اليوم وهو يواجه خالد.

وبنفس النبرة الهادئة والحازمة التي استخدمتها سالي عندما كشفت جزءاً عن مرض أنيسة، قرر رشدي أن يكمل الحديث دون مواربة، ينقل له ما تحمله له الأيام، ولو كان ذلك أقسى ما يمكن قوله:

"أعلم أن ما سأقوله سيضيف إلى جراحك، ولكن واجبي كطبيب وصديق أن أكون صريحًا معك، بلا تزيين أو تخفيف. الفحوصات ونتائج العينة، يا خالد، تشير بوضوح إلى أن حالة أنيسة.. وصلت لمرحلة يصعب معها الأمل. انتشار المرض في مناطق متعددة جعل التفكير في أي تدخل جراحي غير ممكن، والآن المسألة ليست سوى مسألة وقت. العلاج الذي تتلقاه الآن ليس للشفاء، بل للتخفيف من آلامها فقط. وهنا يأتي دوركم جميعًا؛ أن تكونوا لها دعمًا ومعينًا في هذه الأيام القليلة المتبقية".

ثم نهض الدكتور رشدي بهدوء، ووضع يده على كتف خالد بحنانٍ ورفق في لفتة مواساة، وقال بصوت منخفض حانٍ:

"عد إلى المنزل يا بني، وكن بجوارها، فأنت أكثر من تحتاجه أنيسة  الآن، لتستمد منك القوة في هذا الوقت الصعب".

قال كلماته ببطء، ثم غادر المكتب، تاركًا خالد غارقًا في أفكاره التي لم يعد يرى منها سوى عالَم مظلم، ثقيل، ومعه الشعور بأن ما تبقى له هو القليل من الوقت.


***


كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساءً، وقلق سالي كان يتزايد، نظرت إلى الساعة مرة أخرى وهي ترفع كوب الشاي إلى شفتيها دون أن تشرب منه. كان الجميع في غرفة الاستقبال، محمود والسيدتان منة وذكية، ينتظرون بقلق عودة خالد الذي غادر منذ الصباح ولم يُسمع عنه شيء حتى الآن.

تأمل محمود وجه سالي المتوتر، متذكراً حديثها عن كل ما جرى منذ الصباح، بدءاً من سقوط أنيسة المفاجئ وانتهاءً بمغادرة خالد المتهورة. دقق النظر إليها وهو يحاول استنباط أمر ما غريب بها. حاول أن يفسر قلقها، لكنه لم يستطع أن يتجاهل شكوكه؛ شعر بشيء غريب ينمو داخله، خليط من القلق والغيرة، لم يستطع تفسيره تماماً. هل كانت مشاعره تجاه سالي هي السبب وراء هذا الشعور غير المريح؟ تساءل في نفسه: هل يمكن أن يكون قلقها على خالد يحمل دلالات أعمق؟ وأن سالي تشعر بشيء خاص تجاه خالد؟ هل يمكن أن يكون بينهما شيء لم يدركه؟ أغمض محمود عينيه سريعاً، محاولاً طرد هذه الأفكار من رأسه التي أبت الخروج، ووجد نفسه عاجزاً عن التخلص منها تماماً، وشعر بالغيرة تلسعه بصمت. أخذ نفساً عميقاً، محاولاً التركيز على قلقه تجاه خالد الذي لم يعد بعد. ثم همس لنفسه بأن قلق سالي ربما يكون طبيعياً نظراً للأحداث الأخيرة التي مروا بها.

فكر في رد فعل خالد تجاه مرض السيدة أنيسة؛ لم يعهد صديقه خالد إلا هادئاً، متماسكاً، وقادراً على التحكم بمشاعره في أصعب المواقف. بدا له أن مرض أنيسة أيقظ جانباً آخر في شخصيته، جانباً لم يسبق أن رآه. وفجأة، وجد محمود نفسه يفكر في كيفية التصرف إذا لم يعد خالد قريباً. بدأ القلق يزداد في قلبه، وهمَّ بالنهوض للبحث عنه، ولكنه حين همّ بذلك، انفتح الباب بصوت خفيف، مما جعل الجميع ينتفضون بلهفة عن مقاعدهم متوجهين نحو باب المنزل، وظهر خالد في المدخل، رأسه مضمد بعناية، وعلامات الإرهاق بادية على وجهه.

حدقت سالي ومحمود ومنة وذكية في خالد بصدمة وقلق، لكن خالد رفع يده مطمئناً إياهم، وقال بصوت متعب:

"لا تقلقوا، إنها مجرد إصابة بسيطة".

ثم تنفس بعمق، محاولاً أن يُخفي عنهم قلقه، قبل أن يبدأ في صعود السلالم ببطء، متكئاً على الدرابزين كأنما يحمل أثقالًا على كتفيه. كانت خطواته متثاقلة، تعكس ما يثقل قلبه، لكنه واصل الصعود، حتى وصل إلى باب غرفتها. طرق الباب بلطف، وانتظر لحظة قبل أن يسمع صوتها الحنون يدعوه للدخول.

"أدخل يا بني".

كانت أنيسة تشعر بعودة ابنها، فتهيأت له كما لو كانت تستعد للقاء طال انتظاره. ابتسمت أجمل ابتسامة، تلك التي تحمل بين طياتها حباً وحناناً امتدا عبر السنين، وجلسَت بثباتٍ على سريرها، وعيونها اللامعة تتسع لهذا اللقاء. وحينما وقع بصرها عليه، استعت عينيها بسبب مظهره.

***


[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: سالي

عزيزتي بيسان، كيف حالك؟ أترقب رسائلك بشوق، فقد أصبحت كلماتي عاجزة أمام ما أراه يوميًا من مشاهد القتل والتشريد، وصور الأطفال الأبرياء الذين يقتلون بوحشية لا تحتمل. رجاءً، قبلي كل طفل صغير هناك واحتضنيه عني، فأنا أبكي كل يوم على هؤلاء الصغار الذين يرون أسوأ ما في هذا العالم، بينما مكانهم الطبيعي هو حضن آبائهم وأمهاتهم، وبين جدران تحميهم من برد الشتاء القادم.الوضع أصبح لا يُحتمل، ولا ندري إلى متى سيستمر هذا الألم، خاصة مع وضوح نية الاحتلال في تهجير هؤلاء الأبرياء وسلبهم حقهم في حياة آمنة. كان الله في عونكم وعونهم.أخبريني عنك وعن عائلتك، أتمنى أن تكونوا بخير، وأن يكون حالكم أفضل من المشاهد التي أراها على وسائل التواصل.

مع خالص الاحترام لك

سالي].

***


نهاية الفصل السابع والعشرون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***


أهلاً أهلاً، الفترة الجاية إن شاء الله هنعرف قصة أنيسة بالتفاصيل. كل فصل بيخلص بنقرب للنهاية أكتر. لسة الخطة وعدد الفصول المتبقية للنهاية مش واضحة أوي. بس بكل تأكيد قربنا على نهاية القصة اللي عمرها دلوقتي بقى أكتر من سنة.

يارب أكون سبت فيكم أثر كبير. وده بحسه دور أي حد بيعمل عمل بيدخل بيوت وعقول الناس. السلبيات في الرواية موجودة ده شيء طبيعي بس يارب تكون إجابياتها أكثر من سلبياتها.

شكراً ليكم من كل قلبي.

وحباً في الرواية قررت اسجلها بصوتي باللغة العامية ونزلت منها الفصل لأول، أتمنى منك تدخلوا على قناة اليوتيوب وتسمعوها وبجد هتحبوها أوي أوي.

اعملوا سيرش بأسم alaatareks وهتلاقوا القناة.

وشكراً مرة تانية ليكم على دعمكم وصبركم عليا

بتمنى منكم تعملوا vote لو الرواية عجباكم علشان تساعدوا في انتشارها اكتر وتوصل لأكبر عدد من الناس. شكراً مقدماً

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصل: يا ترى سالي وخالد هتكون عاملة ازاي بعد ما عرف مرض مامته ؟

***


* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق