السبت، 10 أغسطس 2024

رواية المنزل: مقدمة - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: مقدمة

رواية المنزل

ثورة صغيرة

سبحت الغرفة الكبيرة في إضاءة خافتة متلألئة، مضيفة جواً من الدفء والحميمية والراحة، وجهت لها المرأة التي تجلس قبالها نظرة ثاقبة من فوق النظارة الخاصة بها، ووضعت قلمها على الطاولة الصغيرة بجوارها، ثم شبكت أصابعها مُتحدثة بصوتها الرصين:

- "لنتحدث عن الاستقالة، أخبريني هل هي تمرد وحرية أم هروب؟".

تساءلت سالي بحيرة فلم يخطر على بالها أبداً هذا التعبير:

- "هروب من ماذا؟".

قالت المرأة بثبات وكأنها تتهمها:

- "من المسؤولية على سبيل المثال؟".

فكرت سالي وهي تجعد جبينها، وكأنه اتهام غير منطقي:

- "لم أهرب يومًا من المسؤولية، لطالما كنت شخصاً حريصاً على تأدية واجباته على قدر المستطاع، حتى لو عكس رغبتي".

سكتت قليلاً لتشحن أفكارها ثم أكملت:

- "ربما هي الحرية، ومُحاولة لبدأ حياة جديدة، لم أخبرك هذا الأمر من قبل، ولكن هذه أول مرة اتخذ قرارًا كبيرًا بنفسي، أول مرة أحاول فيها السيطرة على زمام الأمور في حياتي، حتى في مشاعري الخاصة، أريد أن أجازف وأتعدى حدود الخوف".

ختمت كلامها معترفة:

- "أريد أن أنتزع حريتي".

- "هل تستطيعين تحديد ما هي حريتك بالضبط؟".

فكرت سالي للحظات ثم اعترفت متنهدة:

- "حالياً لا أعلم، كل ما أعلمه أنه لا جديد في حياتي وهذا قيد في حد ذاته، أنا مجرد طبيبة تعمل باجتهاد وتنتظر الراتب من شهر إلى شهر، أقوم بواجباتي والتزاماتي دون تذمر، شخص لم يحقق أحلامه بقدر تحقيقه أحلام الآخرين، ولكن الآن لم تعد لدي الرغبة لأن أتقيد برغبات غيري، بل برغباتي أنا".

سكتت سالي ثم قالت بيأس شديد:

- "الوقت يمضي وأنا لم أصل يوماً إلى ما رغبت فيه بشدة، لم أشعر بهذا حتى عندما استلمت شهادتي الجامعية، استلمتها وأنا أشعر بأنها شهادة تبعدني عن نفسي أكثر فأكثر، ولكنني دفنت تلك الأفكار حتى عادت للانفجار الآنإلى الدرجة التي لا أستطيع السيطرة عليها".

تأملتها صديقتها وطبيبتها النفسية لثوان وهي تدرسها، ثم قالت:

- "أعتقد أن تلك الاستقالة ربما تكون خطوة أولى لعلاج هذا القلق الوجودي الذي تعانين منه، يعني أن تفرضي قرارك ودستورك الخاص على حياتك".

ختمت المرأة حديثها وهي تعدل من أوراقها ثم سألتها بعدها بلحظات:

- "بما أن استقالتك ليست هروب، أخبريني كيف تشعرين حيالها؟ أعتقد أن لديك المزيد من الأفكار التي لم تطلقي سراحها".

تأملت سالي صديقتها بابتسامة عادت للظهور محل اليأس، رداً على النظرات الثاقبة الموجهة إليها:

- "أفكاري مشوشة قليلاً، ليس لدي تعبير مُناسب يشرح دواخلي".

- "إذاً أغمضي عينيك وتحدثي من رؤية خيالك كما اتفقنا من قبل".

أغمضت سالي عينيها عاقدة حاجبيها وكأنها تقوم بعملية فكرية، ثم بدأت في نقل الصورة كما رسمها خيالها:

- "وكأنني ألقيت نفسي بتهور من سطح سفينة تمخر عباب البحر المتلاطم، على متنها جموع من الناس يشيرون بدهشة إلى هذه الفتاة المخبولة التي ترمي نفسها بين الأمواج المرتفعة المتلاطمة".

توقفت فجأة ثم تنهدت وأكملت تخيلها:

- "لا أعلم إن كان المصير المحتوم هو الغرق، أم أنني سأستطيع مواجهة الأمواج بنفسي والعثور على بر الأمان".

كان خداها متوردين خجلًا، فهي لم تتحدث بهذا العمق وبهذه الطريقة البلاغية من قبل، فتلقت سؤالاً آخر:

- "مشاعرك بشكل عام إيجابية أم سلبية؟".

فتحت عينيها بخجل وقالت:

- "لا أعلم، ولكن هل تفهمين إحساس الحياد عن القطيع؟، لا أعرف كيف أفسر هذا، ولكن بدأ يراودني إحساس قديم لم أشعر به منذ زمن، وكأن حل داخلي سكون عميق بعد معركة صاخبة استمرت طويلًا، أتذكر أنني كنت أشعر بهذا الشعور الجميل وأنا طفلة".

ترددت قليلاً وهي تشعر بأن مزاجها يتبدل، ثم قالت بحزن وهي تشد على كوب الشاي الساخن بين يديها:

- "ولكن على الرغم من ذلك ينتهي الأمر عند اقترابي من السرير، البعض يسقط حزنه وخوفه أمام السرير، أما أنا فأماني ينتهي بمجرد وصولي إليه، لا يزال الأرق مستمراً، إن نمت ساعة أو اثنتان استيقظ ولا أعود إلى النوم إلا بصعوبة، أنام والخوف والقلق بجواري يقيدانني، ما زالت أخاف، أخاف من الوحدة والظلام، أشعر أنهما يتغلغلان في نفسي من حين إلى حين، وهذا يؤلمني".

شعرت وكأن ألم الاحتراق الناتج من سخونة الزجاج بين يديها لا يضاهي ألم اللهيب داخل نفسها، فسألتها الطبيبة:

- "لماذا يؤلمك؟".

- "لأنه ليس أنا هذا الشخص، لم أكن يوماً هذا الشخص السوداوي الخائف والمرتبك، لم أكن يوماً شخصاً يعاني من الأرق، الآن أصبح الأرق رفيق كل ليلة".

- "ألم يتحرك الستار قليلاً؟".

كسا ملامح سالي سحابة من الظلام وتنهدت قائلة:

- "لا زالت مسدله لا أرى العالم من ورائها إلا كظل".

- "ألم تناوشها على الأقل نسمة من الهواء؟".

- "لا".

كان رداً قاطعاً صدمها هي وليس المرأة التي تحدثت:

- "ربما يحدث هذا قريبًا، خاصة بعد هذا التغير المحوري في حياتك، ربما تنقلب الموازين".

غيرت المرأة دفة الحديث قليلا وسألتها:

- "حسناً اخبريني كيف تعاملت والدتك مع هذا القرار؟".

- "مستاءة".

- "وشقيقتك؟".

- "كانت مرتابة في بداية الأمر، ولكنها تفهمت، قالت هذا أفضل إن كنت أشعر بالراحة، أما رؤسائي في المستشفى والإدارة حاولوا منعي عن اتخاذ هذا القرار، خاصةً دكتور نوفل".

ابتسمت نصف ابتسامة فيها شيء من المرح والشغب وأكملت:

- "اعتقد أنني أثرت ثورة صغيرة".

تنهدت طبيبتها وصرحت وهي تدقق النظر في أوراقها:

- "خطوة كهذه لن تمر مرور الكرام".

ثم غيرت دفة الحديث مرة أخرى بسؤال جديد:

- "والآن أخبريني ما هي خططك للمستقبل؟..".

عدلت نظارتها وهي تتأمل سالي وتغير سؤالها:

- "أو بالمعنى الأصح ما الذي رغبتي فيه بشدة ولكنك لم تحققيه؟".

سألت السؤال وأمسكت بقلمها مرة أخرى مستعدة لتدوين الملاحظات عن المستقبل الخاص بتلك الشابة التي تصغرها بخمس سنوات. حركت سالي كوب الشاي بين كفيها متأملة وهي تشعر بأن الحرارة تتسرب من كفيها:

- "سأقرأ أكثر وأتمرن على العود، وأعلم الموسيقى للأطفال الصغار، سيكون مصدر دخل جيد في البداية، بما أنني في مرحلة انتقالية".

- "هذا جيد، وماذا أيضا؟".

فكرت سالي قليلاً وسحبت بعض الهواء إلى رئتيها وهي تتحدث بخجل:

- "سأمارس النشاطات التي لم أمارسها من قبل، الرياضة، الطبخ، تعلم اللغات".

سكتت سالي فجأة وكأنها تذكرت أمراً ما، ثم قالت والخجل لازال يتملكها:

- "لطالما تمنيت أن أذهب إلى وادي الحيتان، أتمدد على الأرض وأسترخي، وارفع رأسي إلى السماء أتأمل الشهب والنجوم".

سألتها المرأة باهتمام:

- "هل أنت شغوفة بعلوم الفضاء؟".

لمعت حدقتا سالي بسعادة وهي تتذكر:

- "إلى حد ما، وأنا صغيرة كان من بين أحلامي الكثيرة أن أصير رائدة فضاء، شاهدت بعض الأفلام الوثائقية والقليل من القراءة آخرها كتاب تاريخ موجز للزمان لستيفن هوكينج".

- "لم تخبريني بهذا من قبل، أخبريني ما هو الكوكب الذي تحببينه في المجموعة الشمسية؟".

أجابت سالي بسرعة ودون تفكير:

- "زحل".

لم تجد ردا من المرأة الصامتة لتشعر بالخجل ويسخن جسدها، فهي لم تتطرق لمثل هذه الأحاديث أبداً، أو بالأحرى هذه أول مرة يستمع أحد لهذا العبث ويناقشها فيه، لكنها أكملت:

- "أحب حلقاته، يشبه الملك المتوج بين باقي الكواكب".

سددت المرأة أنظاراً ثاقبة إليها:

- "قرأت مؤخرا في مجلة علمية أنه بدأ يفقد حلقاته".

ظهر الاستياء على ملامح سالي:

- "هذا سيء، كأن الملك يفقد تاجه".

- "هذا أحد مصاير الملوك".

صرحت سالي بإخلاص:

- "سأظل معجبة به على أية حال"

تأملتها المرأة بنظرات ثاقبة:

- "سالي أخبريني عن رسائلك؟ هل ما زلت تكتبينها؟"

- "... "

Follow me:

Instagram

Instagram

X

TikTok

TikTok

رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق