رواية المنزل
ثورة صغيرة
ثورة صغيرة
سبحت الغرفة في إضاءة خافتة متلألئة، تلامس الجدران بنعومة وتُضفي جوًا من الدفء والحميمية.
رفعت المرأة الجالسة قبالة سالي نظرها من فوق نظارتها، تأملتها بعين دقيقة ومتسائلة، ثم وضعت القلم جانبًا فوق الطاولة الصغيرة بجوارها، وشبكت أصابعها ببعضها، وتحدثت بنبرة رصينة تليق بطبيبة نفسية:
"لنتحدث عن الاستقالة... أخبريني، هل هي تمرد وحرية؟ أم مجرد هروب؟"
قطبت سالي حاجبيها ببطء، بدا عليها التردد. لم يخطر ببالها أبدًا أن يُنظر لقرارها بهذه الطريقة. تمتمت وهي تحاول الفهم:
"هروب؟ هروب من ماذا؟"
أجابت المرأة بثقة:
"من المسؤولية، على سبيل المثال."
ظهرت علامات الاستياء على وجه سالي، وشدت حاجبيها وكأنها تدفع تهمة لم ترتكبها. أجابت بنبرة دفاعية لكن هادئة:
"لم أهرب يومًا من المسؤولية. لطالما كنت حريصة على تأدية واجباتي قدر المستطاع، حتى عندما كانت تخالف رغبتي."
ساد صمت خفيف، ثم أخذت سالي نفسًا عميقًا، وكأنها تغوص داخل أفكارها، تبحث عن مفردات لما تشعر. قالت أخيرًا، بصوت أقل حدة:
"ربما... ربما هو بحث عن حرية. محاولة لبداية جديدة."
ثم التفتت نحو المرأة بعينين متوهجتين بإصرار خافت:
"لم أخبرك بهذا من قبل، لكن هذه أول مرة في حياتي أتخذ فيها قرارًا كبيرًا وحدي. أول مرة أشعر أني أمسكت زمام أموري، حتى مشاعري... أريد أن أختارها، لا أن أخضع لها. أريد أن أجازف... أن أقتحم حدود الخوف."
بدت كلماتها كأنها تنهيدة من أعماق سنين. نظرت نحو الأرض، ثم رفعت عينيها بثبات:
"أريد أن أنتزع حريتي."
رفعت المرأة حاجبًا باهتمام:
"هل تستطيعين تحديد ما هي حريتك بالضبط؟"
صمتت سالي للحظات. كان الصمت ثقيلاً، لكن وجهها بدأ يتبدل، كأنها تسمع السؤال يتردد في رأسها للمرة الأولى. قالت بتنهيدة تعبٍ:
"حالياً؟ لا أعلم."
نظرت أمامها بشرود وهي تتابع:
"كل ما أعلمه أن لا شيء جديد يحدث في حياتي، وهذا وحده كافٍ ليشعرني بالقيد. أنا فقط طبيبة، أعمل باجتهاد، أستلم راتبي كل شهر، أؤدي واجباتي والتزاماتي بلا تذمر. شخص اعتاد أن يحقق أحلام غيره، لا أحلامه."
شردت بعينيها في زاوية الغرفة، وكأنها تتأمل جرحًا قديمًا لا تراه المرأة أمامها، ثم قالت بصوت منخفض لكنه واضح:
"لكن الآن؟ لم أعد أحتمل هذا القيد، لا أريد أن أعيش تحت رغبات الآخرين. أريد أن أعيش برغباتي أنا، فقط."
سكتت لثوانٍ، لكن وجهها بدأ يذبل شيئًا فشيئًا، وقالت أخيرًا بصوتٍ متهدج يخنقه الإحباط:
"الوقت يمضي... وأنا لم أصل يومًا لما رغبت فيه حقًا. حتى عندما استلمت شهادتي الجامعية، لم أشعر بالفخر... شعرت فقط أنها شهادة تُبعدني أكثر عن ذاتي."
وضعت كفها على صدرها وكأنها تحاول تهدئة شيء ما ينبض بقلق في أعماقها:
"دفنت تلك الأفكار، حاولت. لكن يبدو أنها كانت تدفنني معها، حتى انفجرت الآن، في لحظة لم أعد قادرة فيها على السيطرة على شيء."
تأملتها صديقتها وطبيبتها النفسية لثوانٍ وهي تدرس ملامحها المتغيرة، ثم قالت بنبرة هادئة متأنية:
"أعتقد أن تلك الاستقالة ربما تكون الخطوة الأولى لعلاج هذا القلق الوجودي الذي تعانين منه. أن تفرضي قرارك ودستورك الخاص على حياتك، هذا بحد ذاته شفاء."
عدّلت من وضع أوراقها على الطاولة، ثم رفعت نظرها نحو سالي مجددًا وسألت بلطف:
"وبما أن استقالتك ليست هروبًا، أخبريني، كيف تشعرين حيالها؟ أعتقد أن لديك المزيد من الأفكار التي لم تُطلق سراحها بعد."
تأملت سالي صديقتها بنظرة امتنان وابتسامة خفيفة بدأت تزهر محل اليأس:
"أفكاري مشوشة قليلاً، لا أملك تعبيرًا مناسبًا يشرح دواخلي."
ابتسمت المرأة وقالت بصوتٍ يشبه التشجيع:
"إذن أغمضي عينيك وتحدثي من رؤية خيالك، كما اتفقنا من قبل."
أغمضت سالي عينيها ببطء، عاقدة حاجبيها كأنها تغوص في الأعماق، ثم قالت بصوت خافت وكأنها تسرد مشهدًا من حلمٍ حي:
"وكأنني ألقيت نفسي بتهور من سطح سفينة تمخر عباب البحر المتلاطم... وعلى متنها جموع من الناس يشيرون بدهشة إلى هذه الفتاة المخبولة التي ترمي نفسها بين الأمواج المرتفعة المتلاطمة."
توقفت لوهلة، تنهدت وكأنها تراقب مصير تلك الفتاة من بعيد، ثم أكملت:
"لا أعلم إن كان المصير المحتوم هو الغرق... أم أنني سأتمكن من مواجهة الأمواج بنفسي، والعثور على بر الأمان."
احمرّ خداها خجلًا، فقد خرجت الكلمات منها بطريقة لم تعتدها، بهذا العمق، بهذه البلاغة. قطعت الطبيبة صمت اللحظة بسؤال جديد:
"مشاعركِ... بشكل عام، هل تبدو لكِ إيجابية أم سلبية؟"
فتحت سالي عينيها ببطء، وفي نظرتها بقايا حيرة ممتزجة بالهدوء، ثم قالت:
"لا أعلم... ولكن، هل تفهمين إحساس الحياد عن القطيع؟"
سكتت للحظة ثم تابعت بصوت بدا وكأنه قادم من زمن بعيد:
"لا أعرف كيف أفسر هذا... لكن بدأ يراودني إحساس قديم، لم أشعر به منذ زمن. كأن داخلي امتلأ بسكون عميق بعد معركة صاخبة... كأنني عدت فجأة إلى إحساس جميل كنت أملكه في طفولتي."
بدت كأنها تنزلق نحو مزاج آخر، أهدأ، لكن حزين. شدّت على كوب الشاي الساخن بين يديها، وهمست:
"لكن... على الرغم من ذلك، ينتهي كل شيء عندما أقترب من الفراش."
رفعت عينيها للحظات ثم عادت تنظر إلى الكوب وكأنها تهرب من الاعتراف:
"البعض يسقط حزنه وخوفه أمام السرير، أما أنا... فأماني ينتهي لحظة وصولي إليه. لا يزال الأرق مستمرًا، وإن نمت ساعة أو اثنتين... أستيقظ، ولا أعود إلى النوم إلا بصعوبة."
صمتت قليلاً، ثم ختمت بصوت مهتز:
"أنام والخوف والقلق بجانبي... يقيدانني. ما زلت أخاف. أخاف من الوحدة والظلام... وأشعر أنهما يتسللان إلى داخلي من حين لآخر... وهذا يؤلمني."
شعرت سالي وكأن ألم الاحتراق الناتج عن سخونة الزجاج بين يديها لا يضاهي أبدًا لهبًا داخليًا يتأجج في أعماقها. لاحظت الطبيبة النفسية انكماش ملامحها، فسألتها بصوت هادئ:
"لماذا يؤلمك؟"
همست سالي بصوت مخنوق وهي تتأمل فنجانها:
"لأنه ليس أنا هذا الشخص... لم أكن يومًا هذا الشخص السوداوي، الخائف، المرتبك. لم أكن أبدًا ممن يعانون من الأرق... لكن الآن، الأرق أصبح رفيقي كل ليلة."
أمالت الطبيبة رأسها قليلًا وسألت بنبرة تأمل:
"ألم يتحرك الستار قليلًا؟"
ارتسم ظل حزن على ملامح سالي، وساد صمت للحظة قبل أن تنطق بتنهيدة بطيئة:
"لا زالت الستائر مسدلة... لا أرى العالم من ورائها إلا كظل باهت."
سألتها المرأة بلطف، كأنها تحاول بث بعض الأمل:
"ألم تناوشها نسمة من الهواء؟"
هزّت سالي رأسها ببطء وهمست:
"لا."
كان الرد قاطعًا، صادمًا حتى لها هي، أكثر مما فاجأ المرأة التي جلست قبالتها. ابتسمت الطبيبة برفق، وأجابت:
"ربما يحدث هذا قريبًا... خاصة بعد هذا التغير المحوري في حياتك. ربما تنقلب الموازين، بطريقة لم تتوقعيها."
ثم غيرت دفة الحديث قليلًا، وسألتها بنبرة مهتمة:
"حسنًا، أخبريني... كيف تعاملت والدتك مع قرار الاستقالة؟"
ردّت سالي دون تردد، وقد لمعت في عينيها لمحة وجيزة من الانزعاج:
"كانت مستاءة."
سألتها المرأة:
"وشقيقتك؟"
قالت سالي بصوت خافت، وكأنها تسترجع لحظة بعينها:
"كانت مرتابة في البداية... لكنها تفهمت. قالت أن هذا القرار أفضل إن كنت أشعر بالراحة."
ثم تابعت، وقد بدأت نبرتها تميل إلى المرح:
"أما رؤسائي في المستشفى والإدارة... فقد حاولوا منعي من اتخاذ هذا القرار، خصوصًا دكتور نوفل."
ارتسمت على شفتيها نصف ابتسامة، تجمع بين المرح والمكر، وأضافت:
"أعتقد أنني أثرت ثورة صغيرة."
تنهدت طبيبتها النفسية، وصرحت وهي تدقق النظر في أوراقها:
"خطوة كهذه لن تمر مرور الكرام."
ثم رفعت رأسها، وقد غيّرت دفة الحديث بسؤال بدا مدروسًا:
"والآن، أخبريني... ما خططك للمستقبل؟"
عدّلت نظارتها، وأمعنت النظر في ملامح سالي المتأملة، ثم غيّرت السؤال بنبرة أكثر عمقًا:
"أو بالأحرى... ما الشيء الذي رغبتِ فيه بشدة، ولم تحققيه بعد؟"
طرحت السؤال وأمسكت قلمها، استعدادًا لتدوين الملاحظات.
حرّكت سالي كوب الشاي بين كفيها، تتأمل سطحه، وهي تحاول أن تستشعر فيه شيئًا من الدفء. قالت بنبرة هادئة:
"سأقرأ أكثر... أتمرّن بانتظام على العود... وأُعلّم الموسيقى للأطفال. سيكون مصدر دخل جيد في البداية، طالما أنني في مرحلة انتقالية."
أومأت الطبيبة بإيجاب:
"هذا جيد. وماذا أيضًا؟"
فكرت سالي قليلًا، سحبت نفسًا بطيئًا، وقالت بخجل طفولي:
"سأمارس النشاطات التي لم أُجربها من قبل... الرياضة، الطبخ، تعلّم اللغات..."
ثم سكتت فجأة، كأن شيئًا ما طفا على سطح ذاكرتها، قبل أن تهمس والخجل لا يزال يتملك صوتها:
"لطالما حلمت أن أذهب إلى وادي الحيتان... أتمدد على الأرض، أسترخي... أرفع رأسي نحو السماء وأتأمل الشهب والنجوم."
سألتها المرأة باهتمام صادق:
"هل أنتِ شغوفة بعلوم الفضاء؟"
لمعت عينا سالي بسعادة مفاجئة، كأن هذا السؤال أيقظ حلمًا نائمًا:
"إلى حدٍ ما... وأنا صغيرة، كان من بين أحلامي أن أصير رائدة فضاء. شاهدت بعض الأفلام الوثائقية، وقرأت القليل، آخرها كان تاريخ موجز للزمان لستيفن هوكينج."
ابتسمت الطبيبة بدهشة لطيفة:
"لم تخبريني بهذا من قبل... أخبريني، ما هو الكوكب المفضل لديكِ في المجموعة الشمسية؟"
أجابت سالي بسرعة ودون تفكير:
"زحل."
لم تجد ردًا من الطبيبة، التي اكتفت بالصمت والتأمل. شعرت سالي بالخجل، وسخن جسدها قليلًا، لكنها قررت أن تُكمل، وقد تفتحت في داخلها نافذة لم يُفتح مثلها من قبل:
"أحب حلقاته... يشبه الملك المتوّج بين الكواكب."
رفعت الطبيبة بصرها نحوها، وقالت بنبرة تأملية:
"قرأت مؤخرًا في مجلة علمية أنه بدأ يفقد حلقاته."
تغيرت ملامح سالي، ظهر عليها الاستياء كأنها تلقت خبرًا حزينًا:
"هذا سيء، كأن الملك يفقد تاجه."
ردت المرأة بنبرة هادئة، فيها فلسفة غامضة:
"هذا أحد مصاير الملوك."
قالت سالي بإخلاص، وعينيها معلّقتان بشيء أبعد من السقف:
"سأظل معجبة به على أي حال."
تأملتها المرأة بنظرة طويلة، ثم سألت:
"سالي... أخبريني عن رسائلك. هل ما زلتِ تكتبينها؟"
ساد الصمت.
نظرت سالي إلى الفراغ، واهتزت شفتاها قليلًا، لكن الكلمات لم تخرج.
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
Follow me:
X
TikTok
رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق