السبت، 10 أغسطس 2024

رواية المنزل: الفصل الثالث عشر (نهاية الجزء الأول) - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل الثالث عشر

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الثالث عشر (نهاية الجزء الأول)

فضلاً، متنسوش الvote.


[رسالة واردة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: مجهول

لديك قدرة هائلة على استخدام الخيال، وهذا شيء يثير إعجابي كثيرًا. لكن كيف يمكنني فعل ذلك، وأنا أشعر أنني لا أملك خيالاً خصبًا؟]

***

مرّت ليلتان على مرض سالي، وفي اليوم الثالث فتحت عينيها بوعي لأول مرة. تخللت أشعة الشمس الستائر حتى انتهت الرحلة على عينيها الناعستين، رمشت قليلاً ثم فتحتهما بهدوء. حاولت استيعاب العالم من حولها، لكن عقلها كان في حالة خمول ولم تستطع تحريك دوائره. ظلت على حالها لدقائق، حتى عاد للعمل أخيرًا وهو يحضر معه ذكريات قريبة من الأمس. كان آخر ما تذكرته هو محاولتها تخفيف حرارة جسدها بالكمادات، وما بعد ذلك كان كالحلم، حاولت أن تستحضره من ذاكرتها بصعوبة.

وضعت يدها على رأسها وجسدها، كانت الحرارة معتدلة وطبيعية. وضعت يدها على ظهرها لتشعر بأن أحدًا قد دهنه بمرهمٍ ملطّف. حاولت النهوض بصعوبة والجلوس على السرير بدلًا من الاستلقاء. نظرت إلى الساعة التي كانت تشير إلى العاشرة صباحًا، تأملتها ثم جلست على سريرها بهدوء. لم تتوقع أن تنهار بهذا الشكل المثير للشفقة، لقد فقدت الوعي وغابت عن الواقع تمامًا، لكنها هذه المرة لم تقاوم بمفردها، كان بجوارها من يعتني بها ويمرضها، فلطالما خاضت تلك التجربة الصعبة وحدها، وكان عليها دائمًا أن تستلقي في سريرها وتمرض نفسها بمفردها.

مرّت نصف ساعة تقريبًا وهي غارقة في أفكارها، حتى سمعت باب غرفتها يُفتح بهدوء. كانت الست ذكية التي تفاجأت باستيقاظ سالي، وضعت المرأة صينية الفطور على المكتب وقالت بلهفة وهي تضع يدها على جبين سالي:

"استيقظتِ يا ابنتي!"

سألت سالي بهدوء وهي تستشعر الدفء في يد ذكية:

"ست ذكية، هل طلبتم طبيبًا بالأمس؟"

قالت المرأة العاطفية:

"نعم، لقد كنتِ مريضة، وكانت حالة ظهرك صعبة جدًا، لماذا لم تخبرينا أن لديكِ مثل هذه الكدمة؟ عبدالله هذا الولد الشقي!"

"لماذا تكلفتم هذا العناء؟ إنها مجرد نزلة برد، كما أن ظهري بعد يومين سيكون بخير."

همست ذكية بحب وهي تعدل الوسادة خلف ظهرها:

"مستر خالد هو من أصر على إحضار الطبيبحسن أخبره أنك لم تكوني على ما يرام، فجاء إلى غرفتي وطلب مني أن أتفقدكحبيبتي، كنتِ تضعين الكمادات لنفسك؟!"

ابتسمت سالي بتواضع وهي تسمع أنفاسها المتسارعة ودقات قلبها:

"أنا متعودة على ذلكأشكركم على اعتنائكم بي."

"بالنظر إلى الظروف، الأسبوع الماضي كان صعبًا عليكِلقد كنتِ تعتنين بكل من في المنزل، من الطبيعي أن تنهاري حتى لو لم يكن عبد الله قد دفعك إلى الماءنحن بشر في النهاية."

اكتفت سالي بالصمت، فنهضت ذكية وهي تلتقط صينية الفطور قائلة:

"هيا، عليكِ أن تأكلي جيدًا، الطبيب قال إنك ضعيفة جدًا."

ولم تخرج ذكية من الغرفة إلا عندما تأكدت أن سالي أطاعتها وتناولت فطورها بأكمله، والأهم من ذلك أنها تناولت شوربة الدجاج الدافئة اللذيذة الخاصة بها.

تناولت سالي دواءها الموضوع بجوارها ومعه الروشتة التي كتبها لها الطبيب، وظلت في غرفتها على الرغم من تماثلها للشفاء وانخفاض الأعراض إلى أدنى حد. فالأطفال حسّاسون للغاية، وعددهم كبير، وهي لا ترغب في الاحتكاك المباشر بهم وإعادة الكرة مرة أخرى كطبيبة أو كمريضة. لذلك، فضلت البقاء في غرفتها واستغلت الوقت لترتيب إحدى حقائبها.

تفحصت هاتفها لتجد رسائل من والدها ووالدتها يستفسرون عن موعد وصولها، ورسالة من محمود فتحتها:

[آنسة سالي، كيف حالك؟ سمعت من خالد بمرضك وشعرت بالقلق الشديدأتمنى لك السلامة، وأن تكوني بخير في أقرب وقت].

أجابت سالي على رسالته باختصار:

[أنا بخير، شكرًا لك مستر محمود على اهتمامك].

حاولت اختصار الرد قدر الإمكان حتى لا تفتح بابًا لحديث جانبي.

وبينما كانت مستغرقة في ترتيب حقيبتها، سمعت طرقًا على باب الغرفة، ودخلت السيدة أنيسة بعد أن استأذنت.

سألت المرأة وهي تجلس على السرير وتنظر بدقة إلى سالي التي تجلس على الأرض ترتب حقيبتها:

"كيف حالك الآن؟"

"بخير، سيدة أنيسةأشكركم على اعتنائكم بي."

نظرت المرأة إلى الحقيبة قائلة:

"أراك تجهزين حقيبتك، متى ستذهبين؟"

"غدًا بإذن الله."

قالت المرأة بصدق:

"أتمنى ألا تتأخري، وتعودي إلينا بخير."

ابتسمت سالي بتواضع، وفي تلك اللحظة أدركت مدى خوفها من الذهاب، واحتمالية عدم العودة إلى هذا المنزل مرةً أخرى. حاولت نفض هذه الأفكار السلبية، وانتبهت إلى المزاج العام في الغرفة، الذي كان غريبًا عليها.

قالت أنيسة وهي تتأملها بطريقة أثارت استغراب سالي:

"لقد كنا قلقين عليكِ بالأمس، خاصةً خالد، كان حقا مستاءً بسبب حالتك التي تسبب فيها عبدالله."

همست سالي:

"آه..."

"لم يكن الأمر هكذا أبدًا."

نظرت إليها سالي مستفسرة، فقالت المرأة:

"أقصد أنني لم أره مستاءً بذلك الشكل منذ وقتٍ طويل، كما كان بالأمس."

لم يكن لدى سالي الرد المناسب على تلميحات المرأة التي فهمتها منذ البداية:

"...."

تاهت عينا المرأة في الفراغ، ثم قالت:

"أنا لم أحدثك أبدًا عن خالد منذ مجيئك إلى هنا، هذه أول مرة تقريبًا، ولكن أحيانًا إذا حاولت الحديث، أشعر بأن لساني يتجمد."

"ست أنيسة، أنا أسمعك، خذي راحتك في الحديث من فضلك."

قالت أنيسة بابتسامة:

"أنتِ لطيفة جدًّا يا سالي... وجودك بقربي، وحديثك معي، يبعثان الراحة في قلبي."

ساد الصمت للحظات، ثم تحدثت المرأة بتردد، متجنبة عيني سالي لأول مرة:

"أعتقد أنك تملكين من الذكاء وسرعة البديهة ما يجعلك تفهمين تلميحاتي."

كان هذا دور سالي لتتجنب نظراتها، وهي تسمع هذا الحديث:

"....."

"في الحقيقة، علاقتي بخالد تختلف عن باقي الأطفال، هذا طفلي الأولعندما رأيته لأول مرة في الدار، شعرت بصلة غريبة تربطني به."

ابتسمت المرأة إلى سالي:

"بالمناسبة، كنت أعمل مشرفة في دار أيتام، وخالد ابني كفلته مثل باقي الأطفال هنا في المنزل."

تفاجأت سالي بهذه المعلومة الصريحة، فابتسمت أنيسة أكثر وقالت:

"أثناء عملي في دار الأيتام، مر علي الكثير من الأطفال بمختلف الأعمارفي الحقيقة، لم أفكر يومًا في إنجاب طفل، ولا حتى التبني، حتى قابلت خالد لأول مرةإحساسي تجاه الفتى كان مرعبًا وصادمًا لي، حطّم كل المعايير والخطوط التي رسمتها في حياتي."

ضيقت أنيسة عينيها وهي تسترجع الماضي:

"كان الولد هزيلاً، ضعيفًا، ولا يتحدث مع أحدعلمت أنه كان في المستشفى بسبب حادث سير تعرض له، وتم نقله إلى الدار لأنه لم يتذكر أي أحداث سابقةاسمه أيضًا لم يتذكره، حتى نهض في يوم من الأيام وأخبرنا أن اسمه خالد."

وقع هذه التفاصيل كان صادمًا بشدة على سالي، وهي تتخيل هذا الرجل صاحب الحضور القوي كان يوماً ما طفلاً وحيداً ضعيفاً فاقداً للذاكرة، أكملت المرأة وهي تقطع أفكارها:

"كنتُ أعرف فقدان الذاكرة من الأفلام والدراما، ولكني لم أُصادف يومًا شخصًا تعرض لمثل هذه المشكلةعندما أخبرنا أنه تذكر اسمه، شعرتُ بالاطمئنان أن باقي ذكرياته ستعود، ولكن مرّت الأيام والشهور ولا جديد حدث، ظل الفتى كما هو، لا يتذكر سوى اسمه.

في تلك الفترة شعرت بالقرب منه، أو بشكل أدق كنتُ أتقرب أنا منهكان هادئًا ولكنه عنيد، ويرفض التعامل المريح مع الناس، حتى مع إخوته في الداريجلس في غرفته شاردًا، هادئًا، يتأمل النافذة وكأنه ينتظر شخصًا ما.

على الرغم من ذلك لم أيأس، تقرّبتُ منه، وجمعتنا الكثير من المواقف التي جعلته يسكن ويطمئن لي في البداية، حتى اتخذتُ القرار يومًا ما وقررتُ ترك العمل في الدار، وكفالة خالد."

تنهدت وقالت:

"وهكذا بدأ هذا الفصل الجديد من حياتي مع ابني الأول."

أنهت المرأة حديثها بابتسامة، ونظرت إلى سالي بحب:

"قليلون هم من يعرفون قصتي مع خالد، وأنتِ آخرهم."

"...."

"أعتقد أنكِ تتساءلين الآن لماذا أحكي لكِ هذه القصة."

"....."

"لأنني أريدكِ أن تكوني من القلائل الذين يعرفون حقيقة الأمرأعلم أنني أغش وأختصر الطريق الذي ربما لا يكون موجودًا من الأساس، ولكنني أريدكِ أنتِ أن تنظري إلى خالد بشكل مختلف عن الآن، والباقي سأتركه للقدر حتى يلعب لعبته ويختم الحكاية."

حاولت سالي البحث عن الكلمات المناسبة لترد على هذه المرأة التي تُبطن حديثها بكلام غير منطوق:

"لا أريد إحراجكِ يا حبيبتي، أو أن أضعكِ في موقف حيرةأنا فقط أُملي عليكِ آمالي وأمانيي، اعتبريه تلميحًا ضعيه في عين الاعتبار أو تجاهليه على راحتك، الأهم ألا تشعري بالضغط أو الإجبار على موقف ما."

تأملت سالي الفضاء لثوانٍ ثم قالت:

"سيدة أنيسة، لا أعلم كيف أجيب على كلامك..."

قاطعتها المرأة:

"لا أنتظر منكِ ردا يا حبيبتي على أي نقطة من حديثي، أنا كما أخبرتكِ، فقط أُملي عليكِ آمالي، ولا أنتظر منكِ سوى أن تُنصتي إليها، أما الباقي فهو متروك لأصحاب الشأن".

"...."

تنهدت أنيسة ونهضت قائلةً:

"أعتقد أنني أضعت وقتكِ، سأذهب الآن لأعتني بالدفيئة".

وقبل أن تخرج التفتت إليها:

"أرجوكِ لا تأخذي كلامي ذريعة للهرب، أتمنى تعودي بالسلامة، وأن أراكِ هنا بيننا الأسبوع المقبل".

خرجت أنيسة من الغرفة، وتركت سالي غارقة في بحر أفكارها، تائهة لا تعلم كيف تنجو من هذا الموقف الذي وضعتها فيه سيدة المنزل.

أخبرتها ألا تتخذ من هذا الكلام ذريعة للهروب، لكنها لم تكن تنوي ذلك أصلًا. ربما، لو كانت الظروف في هذا المنزل مختلفة لفعلت.

يا للغرابة، إنها المرة الأولى التي لا تفكر فيها بالهرب، ولا تشعر فيها بالخوف، بل بشجاعة غير معتادة، ورغبة لمواجهة كل التحديات، وكل الأمور المؤجلة حتى عودتها.

***


أغلقت أنيسة بوابة الدفيئة، والتفتت لتتفاجأ بإحدى المربيات تقف أمامها، والخجل يبدو على قسمات ملامحها. مال رأس أنيسة في حيرة وسألتها:

"لمَ تقفين هكذا؟ هل هناك مشكلة ما؟"

تململت الفتاة في وقفتها وقالت:

"سيدة أنيسة، أريد أن أخبركِ بشيء ما، ولكن... أنا...".

شعرت المرأة بالقلق وسألتها:

"ماذا حدث؟ هل الأولاد بخير؟"

قاطعتها المربية وهي تقول بسرعة:

"لا تقلقي، لا شيء حدث للأطفال".

أخرجت المربية من جيبها مظروفًا، كان الراتب الذي استلمته من السيدة أنيسة للتو:

"الراتب الذي استلمته منكِ اليوم، ينقصه مبلغ".

ازداد خجل المربية وقالت:

"هو صغير، ولكنني أردتُ إعلامكِ فقط".

نظرت أنيسة إلى المظروف بحيرة، ثم إلى المربية التي خافت أن تشك فيها المرأة العجوز:

"سيدتي، هل تشكين بي؟"

لم ترد أنيسة على المربية، وتنهدت قائلة:

"بالطبع لا، أعطيني المظروف، وسأستدعيكِ مرة أخرى".

أخذته أنيسة وتوجهت إلى غرفة مكتبها. وبالفعل، الراتب ينقصه مبلغ صغير. شعرت بالحيرة، فلم تكن شخصًا مهملاً في عد الرواتب أبدًا، ولكن من الوارد الخطأ... لمَ لا؟

وبينما كانت تصحح المبلغ، سمعت طرقًا على الباب، ودخلت السيدة منى ومعها موظفة أخرى:

"ست أنيسة، هل تسمحين لنا بالحديث معكِ؟"

وكانت نفس المشكلة: الرواتب ينقصها نفس المبلغ.

فتحت أنيسة باقي الرواتب التي لم تُسلم، وبالفعل معظمها ينقصه المبلغ. فكرت المرأة، من المستحيل أن تكون هذه صدفة، ربما يحدث الخطأ في راتب أو اثنين أو ثلاثة كحد أقصى، ولكن أكثر من سبعة رواتب؟ هذا بالفعل كثير جدًا.

وفجأة، خطر على بالها ذكرى منذ أربعة أيام، حين عثرت على المفاتيح على مكتبها. كانت متأكدة أنها لم تتركها على المكتب.
هل هناك أحد ما دخل المكتب دون علمها وفتح الرواتب وسرق منها تلك المبالغ؟ هذا وارد جدًا، بل يكاد يكون مؤكدًا.

مسحت أنيسة وجهها وقالت بصوت متعب:

"اذهبوا".

أمسكت هاتفها وأرسلت رسالة إلى خالد:

[متى ستعود؟]

[لن أتأخر، انتظروني على الغداء].

***


اجتمعت العائلة بأكملها على الغداء كعادتهم، وكان خالد بينهم، وبدت عيناه حائرتين بين طاولة الطعام وباب المطبخ، إلى أن قطع شروده سؤال أنيسة:

"هل يجب عليك السفر في مثل هذا الوقت؟"

"هل تعتبرين الذهاب إلى الإسكندرية سفرًا؟"

أجابت أنيسة بقلق:

"نعم، خاصةً في مثل هذا الوقت."

"إنه أمر يخص العمل، لا أستطيع تأجيله."

نظرت إليه المرأة بغموض وقالت:

"لماذا الإسكندرية؟"

ابتسم خالد وقال:

"أنتِ حقاً كثيرة القلق."

نظرت المرأة إلى طبقها بحيرة وقالت:

"ربما."

التفتت إليه مرةً أخرى وسألته:

"متى ستعود؟"

"هذا يعتمد على الطريق ومدة الاجتماع، لا تقلقي، لو تأخرت سأمضي ليلتي هنا."

نظرت المرأة إلى الساعة التي كانت تشير إلى الخامسة مساءً، وسألته:

"هل محمود سيرافقك؟"

"لا."

سألت المرأة بإلحاح:

"لماذا؟ هل ستقود بنفسك؟"

"هل أنا صغير لتقلقي عليّ بهذه الطريقة؟"

"لا أقول هذا، ولكنك لا تفضل القيادة في أغلب الأوقات."

"نعم، ولكنني مضطر."

سكتت أنيسة وهي تشعر بالقلق على ولدها، فسألها خالد قاطعًا أفكارها:

"هناك أمر أردتِ الحديث فيه، ماذا كان؟"

تذكرت المرأة، ثم نظرت حولها وهمست في أذنه:

"لنتحدث في المكتب بعد الغداء."

في غرفة المكتب، وبعد الغداء، جلست أنيسة أمام خالد الذي كان منهمكًا في عد الرواتب بتركيز. كانت الأرقام تتكرر أمام عينيه، لكن شكوكًا بدأت تراوده. بعد أن أنهى العد، رفع رأسه وسأل والدته بجدية:

"هل أنتِ متأكدة من أنكِ راجعتِ الرواتب بدقة؟"

أنيسة، التي بدت حائرة، أجابت بصوت هادئ لكن حازم:

"بالتأكيد، يا خالدهناك شيء غير صحيح هنا."

"إذًا هل تشكين في أحد ما؟"

أنيسة أغمضت عينيها للحظة ثم أجابت:

"لا أستطيع التفكير في شخص معينهذه الحادثة لم تحدث من قبل."

"حسنًا، المبلغ المفقود ليس كبيرًا إلى هذا الحددعينا نرجح أنكِ أخطأتِ في العد."

أنيسة بوضوح:

"أنا متأكدة أنني لم أخطئ في العد، يا خالدهذه ليست المرة الأولى التي أعد فيها رواتب الموظفين"

خالد أومأ برأسه بتفهم، وأضاف:

"أفهمكِ، ولكن في الوقت الحالي، ليس لدينا سوى خيار واحد، وهو أن نترك الأمر يمر وكأن شيئًا لم يحدثإذا كان هناك سارق بيننا، فلنجعله يطمئن أن السرقة لم تُكتشف بعدأنا متأكد أنه سيكررها إذا شعر بالأمان."

"هل تعتقد أنه سيكررها؟"

"ربما... هذا لو كان بيننا سارق بالفعل."

أنيسة، التي بدا عليها اليأس، قالت:

"أتمنى أن يكون الخطأ مني..."

قاطعها خالد بهدوء:

"هذا خطؤنا يا ماما، لأننا لم نركب كاميرات داخل المنزل."

ترددت أنيسة للحظات، ثم قالت:

"أردتُ الحفاظ على الخصوصية، ولكن يبدو أنني أخطأتنحتاج إلى وضع كاميرات، على الأقل في الأماكن الرئيسة في المنزل، كما أننا نُؤتمن على أرواح في منزلنا."

زفر خالد بضيق قائلاً:

"حسنًا، سأفعل ذلك."

بعد لحظات، قالت:

"حسنًا، أكمل النواقص حتى أسلم الرواتب مرة أخرى."

توقف خالد للحظة، ثم قال بصوت منخفض وهو يتجنب النظر إلى عينيها:

"أنا سأتولى تسليم الرواتباذهبي وارتاحي قليلاً، تبدين متعبة."

أنيسة نظرت إليه بامتنان وقالت:

"أنا حقًا متعبة، سأترك الأمر لك، ولا تنسَ راتب سالي فهي ستسافر غدًا."

وفجأة تبدلت ملامحها إلى الحيوية وغمزت له وهي تنهض بسرعة وتبتسم بخفة. نظر إليها خالد بصدمة ولم يتفوه بأية كلمة حتى خرجت من الغرفة، لتتركه وحيدًا يفكر في تصرفها الواضح. وضع يده على وجهه وابتسم بمرح على خفة ظل أمه. لم تكن هذه المرأة سهلة أبدًا. إنه حقًا يعشقها.

***


وقفت سالي أمام غرفة المكتب بعد أن أعلمتها ليان أن خالد ينتظرها، طرقت الباب وبالكاد سمعت همساً يأذن لها بالدخول، كانت خالد يجلس على المكتب عاقداً حاجبيه وعقله منشغل في مشكلة الرواتب الناقصة، رفع رأسه وأشار إليها لتجلس أمامه، ثم تأملها، كانت شاحبة جداً ويبدو أنها فقدت وزناً خلال اليومين الماضيين، سألها:

"هل تحسنت صحتك؟"

"حمداً لله، أنا بخير."

نظرت حولها لوهلة، ثم ثبتت بصرها عليه وقالت بهدوء:

"أشكرك على اهتمامك."

"لا شكر على واجب، كنتِ تعانين وكان لا بد من التصرف بسرعةهل ظهرك بخير؟ هل ترغبين في إجراء أشعة للاطمئنان؟"

"إنه أفضل بكثير، ولا أظن أن هناك حاجة للأشعةأنا متأكدة أنني بخير."

نظر خالد إلى يديها المتشابكتين:

"سمعت من ماما أنكِ غيّرتِ رأيك وقررتِ البقاء معنا، هل هذا قرار نهائي هذه المرة؟"

تأملها مباشرة، فقالت بثقة:

"نعم، مستر خالد... هذا قرار نهائي."

تطلع إليها برصانة، ثم قال بنبرة حاسمة:

"إذاً، لنمضِ عقدًا لمدة سنة."

نظرت إليه سالي باستغراب، فتدارك الأمر وأوضح:

"لا أحب أن تبقى أمور العمل دون حماية أو وضوحنحن نرتبط هنا بعمل، وهذا العقد وُجد ليضمن حقك قبل أن يضمن حقنا."

أخفضت رأسها قليلًا، وهمست:

"حسنًا..."

مرت لحظات قبل أن يسألها:

"أيضاً سمعت أنكِ ستسافرين غداً، متى سترجعين؟"

رفعت سالي رأسها وتأملته، فوجدت أن ملامحه الجادة والمسؤولة جعلته جذاباً:

"خلال أسبوع أو أقل."

تنهد خالد، ثم قال وهو يسحب مظروفًا من الدرج:

"حسنًا، هذا راتبك عن هذا الشهر، أما العقد، فستوقعين عليه الأسبوع المقبل."

التقطت سالي المظروف، وسمعته يقول:

"أعتذر مرةً أخرى، ربما واجهتكِ الكثير من المشاكل هذا الأسبوع، ولم أستطع الإيفاء بوعدي لكِ بالتخييم في وادي الحيتان."

تفاجأت سالي باعتذاره، فقد نسيت أمر التخييم من الأساس.

أكمل خالد قبل أن يتيح لها الفرصة للرد:

"وأعتذر مجددًا عما بدر من عبدالله، والذي أدى إلى ما حدث لكنحن ممتنون لأنكِ قررتِ الاستمرار في العمل معنا رغم ذلك التصرف غير المسؤول."

ابتسمت سالي قائلة:

"لا حاجة للاعتذار، مستر خالد، بصراحة، لم تكن لدي النية للاستمرار هنا لولا الأطفال."

رفعت رأسها، وعيناها الشاحبتان تلمعان بالدفء:

"ربما لم يمضِ على إقامتي معهم سوى شهر، ولكن الله يعلم كم أحببتهم وتعلقت بهم، أحببت طبيعتهم وحياتهم كما هي، وبالنسبة لعبدالله، فأنا من ضايقته أولاً، وعلي أن أعتذر له."

تفاجأ خالد، وقبل أن يرد عليها، قاطعته سالي وهي تبتسم:

"أرجوك، مستر خالد، سامحه وارفع عنه العقاب."

كانت تبتسم بنعومة، فشرد في ابتسامتها لوهلة، ثم قال بنبرة اعتراض هادئة:

"لكنّكِ لم تفعلي شيئًا يستحق الاعتذار، فلماذا تعتذرين؟"

قاطعته سالي مرةً أخرى:

"من فضلك، ارفع عنه العقاب، وأعطني فرصة لأحدثه وأتفاهم معه، أنا أستأذنك."

كان هناك إصرار في عينيها دفعه للصمت، ولم يستطع الرد عليها، لتكمل سالي حديثها:

"أعلم أنني مجرد طبيبة مقيمة، ودوري يقتصر فقط على صحة الأطفال، لا شيء أكثر من ذلك، ولكن بما أنني قررت أن أمضي معكم هنا سنة كاملة، فعلي إذًا أن أوطد العلاقات بيني وبين الجميعأريد من الجميع أن يتقبلني، خاصة الأطفال، لذلك اسمح لي أن تكون علاقتي بهم في إطار معقول أستطيع فيه التعامل معهم شخصيًا، لا مهنيًا فقط، سأحاول أن أكون على القدر الكافي من المسؤولية، أعدك بذلك."

استمع خالد إلى خطابها بهدوء وتأمل، كان متأكداً أن هناك أسرارًا بينها وبين بعض الأولاد، حاول من قبل أن يستفسر عنها، لكنه لم يستطع، وهذا يعني أن هناك علاقة مختلفة تجمعها بهم، وأنهم ربما يثقون بها.

إحساسه بالمسؤولية تجاه الأولاد كان يدفعه للقلق من أن يثقوا في غريب دونًا عنه هو أو أنيسة، ولكن يبدو أن الأوان قد فات، وعليه أن يسلم بالأمر الواقع مُراقبًا علاقتهم من بعيد.

تنهد قائلاً:

"حسنًا، دكتورة سالي، أتمنى أن تعتني بالأطفال طوال إقامتك هنا."

ابتسمت سالي أجمل ابتسامة لديها، كانت ابتسامة انتصار سحرته أكثر فأكثر:

"أشكرك، مستر خالد، سأبذل أقصى ما في وسعي."

حل الصمت في الغرفة للحظات، فنظرت حولها بحرج، ثم التفتت إليه وقالت:

"حسناً، أستأذنك الآن، سأذهب إلى عبدالله."

نهضت، وخالد ينبهها:

"آنسة سالي، راتبك."

رفع المظروف الذي كادت أن تنساه، فالتقطته وهي تقول:

"أشكرك، مستر خالد."

بعد خروج سالي من الغرفة، ظل خالد على حاله يتأمل الباب الذي أغلقته خلفها، وقد اجتاحته مشاعر غريبة أثناء الحديث معها، حتى تذكّر المهمة التي تنتظره.

نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى السادسة. كان عليه أن يذهب الآن، فأمامه طريق طويل إلى الإسكندرية، ولقاء مهم جدًا ينتظره منذ شهر.

***


جلس عبدالله على الأرض في غرفته، يشكل الأوراق على هيئة حيوانات وطيور بفن الأوريغامي، وبينما هو غارق في عمله، سمع صوت طرق على الباب. رفع الفتى رأسه بحيرة، فلو كانوا إخوته، لدخلوا دون طرق، بالتأكيد أحد البالغين هو من يطرق باب الغرفة. نهض الفتى بسرعة ونام على سريره، يغطي نفسه بالغطاء. وبعد ثوانٍ، سمع صوت سالي الرقيق:

"عبدالله، أنا سالي، هل تسمح لي بالدخول؟"

شعر الفتى بالغضب عندما سمع صوتها، كيف تتجرأ على القدوم إلى غرفته والحديث معه بعد فعلتها؟

سمعها تقول:

"عبدالله، أريد الحديث معك قليلاً."

لم يرد عليها، فقالت:

"هل تعلم؟ لقد أحضرت لك هدية تحبها، أريد أن أهديها لك قبل أن أرحل غداً، هل تسمح لي بذلك؟"

ثم تنهدت قائلة:

"أعتقد أنني لن أذهب حتى تفتح لي الباب، أنا جالسة الآن على الأرض بجوار غرفتك."

مرت دقائق، وشعر عبدالله بالتوتر والخوف من أمه وخالد لو علما أنه ترك الطبيبة تجلس على الأرض بجوار غرفته مُنتظرةً سماحه لها بالدخول.

كانت سالي تجلس على الأرض، وهي تشعر باليأس. هذا الفتى حقاً عنيد، وللأسف هذه معركة، المنتصر فيها سيكون الأطول نفساً. لكنها كانت تشعر بالإرهاق أمام نشاط هؤلاء الأطفال.

مرت نصف ساعة وصلت فيها سالي إلى قمة اليأس، حتى سمعت صوت الباب. التفتت لتراه يُفتح بهدوء، والفتى يخرج رأسه يتفحص الطرقة. تفاجأ الاثنان، وظلّا على حالهما لثوانٍ، يتأملان بعضهما البعض بصدمة.

جلست سالي على أحد الكراسي وهي تتأمل غرفة الأولاد، كان الفتى يجلس على سريره ويعطيها ظهره ولا يريد الحديث معها، ولكنه سمح لها بالدخول وهذه خطوة جيدة كبداية، وضعت سالي علبة صغيرة على مكتبه، وقالت:

"أحضرت لك هدية صغيرة لأصالحك بها، ألا تريد أن تراها؟".

"لا أريد شيئاً منكفقط اخرجي"

صدمت سالي من الرد، وبعد لحظات لمحت بعض الأوراق على الأرض التي كان عبدالله يشكلها، فأخذت ورقة وقالت:

"أنا في ذلك اليوم، كنت أحاول الحديث معك، فنحن لم نتحدث أبداً منذ وصولي، تمنيت أن نكون أصدقاء، ولم أتمنى أبداً أن تصل الأمور بيننا إلى هذا الحد".

تأملته سالي للحظات، ثم أخفضت نظرها إلى الورقة بين يديها وقالت:

"أفهم شعورك يا عبدالله، وأريدك أن تعرف أنني لم أقصد أن أغضبك."

أنصت الفتى إلى كلامها، وهو في نفس اللحظة يفكر في الهدية الصغيرة على المكتب، كان يشعر بشيء من التردد والفضول، لكنه لم ينطق.

تابعت سالي بحكمة وصبر:

"ولكن أريد أن أعرف سبب ذلك، ربما يجب أن تشرح لي، حتى نتفاهم ونحل الأمور بيننا."

تأملت الورقة بين يديها للحظات، ثم قالت:

"إن كنت لا تحبني لسبب ما، فأنا أعتذر عنه، ولكن أريدك أن تعرف أنني أحبك دون أسباب، فقط أحبك وأرغب أن نكون أصدقاء."

أخذت نفساً عميقاً وأضافت:

"كما أنني لستُ متضايقةً منك بسبب دفعي في النافورة، أعلم أنك كنت غاضبًا وفقدت السيطرة على أعصابك، ربما كان ذلك خطأ منك، ولكن كلانا متساويان الآن، أنا أخطأتُ في حقك، وأنت أخطأتَ في حقي، إذًا هذا وقت الهدنةما رأيك؟"

شبك عبدالله ذراعيه بعند وأبى أن يتحدث، فابتسمت سالي على تصرفاته الطفولية، وقالت:

"إذا لم تكن مستعداً للحديث الآن، فلا بأسلكن عندما تكون جاهزاً سأكون أنا أيضاً جاهزة لأستمع إليك ونتفاهم، غداً سأسافر في إجازة قصيرة، ولم أرغب في الرحيل دون أن أودعك، أتمنى أن تتغير الأمور عند عودتي، إلى اللقاء عبدالله."

تركت سالي هديتها على المكتب، وأمامها فراشة صغيرة وردية اللون، كانت قد صنعتها من تلك الورقة التي التقطتها في لحظة صمت. غادرت بهدوء، ولم يبق في الغرفة سوى الصمت يملأ الأركان.

تأمل عبدالله كلمات سالي بعمق، وشيئاً فشيئاً بدأت مشاعره تهدأ، وشعر بمدى الصبر والاحترام التي تعاملت بهما معه. التفت إلى الهدية بفضول، وبعد لحظات نهض من سريره واقترب منها، ثم أمسك بالفراشة الورقية بين أصابعه الصغيرة والتي صنعتها سالي بنفسها، ثم تناول العلبة وفتحها. وجد داخلها قطعة من البراونيز التي يحبها، وبطاقة صغيرة كُتب عليها:

[صنعت بحب إلى عبداللهسالي.]

توقف لحظة، نظر إلى الباب، ثم إلى الهدية، وشعر بالحيرة. كيف لها أن تكون لطيفة إلى هذا الحد رغم ما فعله.

جلس على سريره بعناد، محاولًا إقناع نفسه بأنها من بدأت واستفزته. لكن، حين وضع قطعة البراونيز في فمه، شعر بالخجل الشديد، كانت البراونيز لذيذة لأنها بالفعل صنعتها بحب. وهو شعر بأنه كان بالفعل مخطئاً.

***


ركن خالد سيارته بجوار أحد المنازل في مدينة الإسكندرية، وترجل منها متأملاً المبنى المصمم على طراز قديم يبرهن على عمره الطويل. وقف يتأمله للحظات بعيون خبيرة، ينظر إلى تفاصيله، نوافذه الخشبية العالية، والجدران التي بهت لونها بمرور الزمن.

ثم التقط مجموعة من أكياس الهدايا من المقعد الخلفي، أغلق سيارته بهدوء، وتقدم نحو البوابة الحديدية العتيقة، وضغط على الجرس بجانبها.

لم تمر لحظات حتى فُتح الباب الداخلي، وخرجت خادمة، حدقت فيه لثوانٍ قبل أن تقول:

"مستر خالد، مرحباً بك، تفضل."

تقدّمت الخادمة وفتحت الباب الحديدي العتيق، ودخل خالد تقوده المرأة إلى داخل المنزل، حتى انتهى به المطاف في غرفة الضيوف. وبينما كان ينتظر مضيفه، لمح من بعيد رأسًا صغيرًا ممتدًا من الباب، فابتسم خالد وقال:

"تعالي إلى هنا."

وفجأة، ركضت طفلة صغيرة جداً، تبلغ من العمر سنتين، ذات شعر أسود قصير وكثيف. ارتمت في حضنه، ورفعت إليه عينيها السوداوين الواسعتين كما تفعل ماريا. ابتسم خالد بحنان وقال:

"كيف حالك؟ هل تتذكرينني؟"

أومأت الطفلة التي كانت تمسك بدمية صغيرة ذات شعر أشقر. ما زالت تتذكره:

"أحضرتُ لكِ هدية."

التفتت الطفلة حولها تبحث عن الهدية، وقالت بكلمات مبعثرة ذكرته بأطفاله:

"أين هي؟"

التقط خالد أحد الأكياس التي جلبها معه، وأخرج منها دمية صغيرة ذات شعر أسود قصير:

"صُنعت خصيصاً لكِ، ما رأيك؟"

نظرت الطفلة إلى الدمية بانبهار، ثم إلى خالد، فقال:

"إنها تشبهكِ، واسمكِ محفور هنا."

قلَب خالد الدمية وأشار إلى باطن قدمها الذي حُفر عليه اسم "آسية". نظرت إليه آسية ببراءة، وهي لا تفهم معنى الكتابة، فقبل خالد رأسها بخفة.

وبينما كان يلاعب الطفلة اللطيفة، سمع صوت خطوات تقترب من الغرفة، ورأى رجلاً عجوزًا يستند إلى عصاه الخشبية في عقده الثامن، وخلفه امرأتان، الأولى كانت السيدة "زينب" ابنة الرجل العجوز، في الستينات من عمرها، والثانية حفيدته "سلمى" شابة في بداية الثلاثينات.

رأت الطفلة والدتها سلمى، فركضت إليها وهي ترفع دميتها الجديدة:

"ماما، دمية!"

رفعتها والدتها وقالت:

"إنها جميلة جدًا وتشبه آسية، هل قلتِ لعمكِ شكراً؟"

شعرت الطفلة بالطرب، وابتسمت وهي تشير إلى خالد، بما أنه من أهداها الدمية، وصاحت:

"شكراً!"

كان خالد في ذلك الوقت قد نهض واقفًا أمام الرجل العجوز الذي احتضنه بحب، وقال:

"مرحبًا بك يا بُني، كيف حالك؟"

"بخير يا عمي، كيف هي صحتك؟"

"بأتم عافية، حمدًا لله."

سلّم خالد على المرأتين، ثم جلس بعد أن أشار له العجوز بالجلوس. وبعد بضعة أحاديث جانبية معه، ومع ابنته وحفيدته، جلست الطفلة الصغيرة، والحفيدة الصغرى على ساق جدها الأكبر، وهي تؤرجح قدميها فرحة بدميتها الجديدة.

أربعة أجيال تتجسد أمامه على هيئة أشخاص.

قال الرجل العجوز بابتسامة معتذرة:

"أعتذر لك، فابني عزيز وعائلته لم يتواجدوا اليوم لأسباب خاصة."

ابتسم خالد قائلاً:

"لا بأس، عمي، أنا من فاجأكم بالموعد بسبب ظروف عملي."

قال الرجل بقلق:

"أتمنى ألا تكون زيارتك الشهرية لنا قد سببت لك تعقيدًا في مواعيدك."

"لا على الإطلاق، أنتم بمثابة عائلتي، وهذا واجبي."

بعد لحظات، مال الرجل قليلاً تجاه خالد، بعينين فضوليتين لامعتين، وقال بصوت مبحوح:

"أخبرني، كيف حالها؟ هل صحتها جيدة؟"

"هي بخير."

"هل أخبرتها عني؟ هل تعلم أنك هنا؟"

أومأ خالد بالنفي، وهو يشعر بأن قلبه يعتصر، فقال الرجل متنهدًا واليأس يملأ عينيه:

"هذا جيد."

تأمل خالد المشهد أمامه، كان من الواضح أن الرجل يواجه صراعًا نفسيًا بالنظر إلى ملامحه التي لا تعكس أية راحة، فقط ألمًا عميقًا يعلو ملامح وجهه. هكذا كانت علاقة الأخوين أسعد وأنيسة أصلان، أحفاد باشوات مصر الذين شتتتهم ظروف الحياة. أسعد، الأخ الأكبر، كان يشتعل شوقًا إلى شقيقته أنيسة، ويحلم بها ليل نهار، ولكنه في الوقت ذاته، كان مكبلًا بأحداث ماضية، تلك التي لم تترك له سوى الندم والحسرة، جراح لم تلتئم، وعذاب ممتد لسنين طويلة لا يفارقه.

كان خالد في مدينة الإسكندرية يجلس في منزل أسعد أصلان دون علم أنيسة، التي تفتقد بدورها أخاها العزيز.

العلاقة بين الشقيقين كانت غريبة، مليئة بالألم العميق، ومشاعر الحنين. كانت الحياة قد أبعدتهما عن بعضهما البعض لسنوات طويلة، تاركةً وراءها حكاية غير مكتملة.

المشهد أمام خالد عمق من الاستياء الذي سيطر على قلبه، فقال وعيناه تلمعان بالأسى:

"عمي، أريد أن أساعدك في لم الشمل بينكما."

نظر أسعد إلى خالد بملامح مكسورة، وأجاب بصوت منخفض ومليء بالحزن:

"بني، لقد مر وقت طويل جدًا، سنوات عديدة، بل عمر يفصلنا عن آخر لقاءلا أعتقد أن هناك أي فائدة في محاولة إعادة ما فقدناه."

سكت خالد للحظات أمام جدار اليأس الذي بناه أسعد في وجهه:

"لكن الأمل لا يزال موجودًاأنتم لم تفقدوا كل شيءمازالت هناك فرصة لإصلاح الأمور، لإعادة التواصل معهاصدقني، كل يوم أشعر بشوقها وحنينها إليك."

قال أسعد والشوق يتملكه، حتى وصل إلى عينيه:

"عزيزتي أنيسة، أنا أيضًا أشعر تجاهها بشوق لا يُصدق."

توقف لثوانٍ، ثم أكمل شارداً في الفراغ أمامه:

"لكن الحقيقة أن الوقت قد سرق منا كل شيء يا خالدماذا يمكنني أن أقول لها بعد كل هذه السنوات؟"

أجاب خالد وهو يحاول بصدق إعادة لم الشمل بين الأخوين:

"ليس الأمر يتعلق بما تقوله بقدر ما يتعلق بما تشعر بهومادامت المشاعر موجودة، إذًا ما المشكلة؟"

تأمل الرجل العجوز الضعيف، وأكمل:

"صدقني، مازال هناك وقت لتُصحح الأمور، لتُظهر لها أنك لم تنسَهاماما تشتاق إليك، ولديها أحلامها أيضًا بلقائكربما تكون هذه فرصتك لإعادة الاتصال وإعادة بناء العلاقة."

قال أسعد متمتمًا:

"لكن، ماذا لو رفضت؟ ماذا لو كانت قد تأقلمت مع حياتها الجديدة ولا تريد العودة إلى الماضي المؤلم؟"

وهنا ظهر العِرق التركي العنيد، الذي تسيطر عليه الكرامة وعزة النفس، والذي لطالما رآه خالد في أمه، فقال بإصرار:

"حتى لو كان هناك احتمال للرفض، فهو يستحق المحاولةالألم الذي شعرتَ به لا يمكن أن يختفي إلا بمحاولة إصلاح الأمورلا يمكن أن تعرف النتيجة دون أن تجربدعنا نحاول على الأقل."

ختم خالد حديثه:

"قد تكون هذه الخطوة التي تحتاجانها أنت وهي لتجدوا السلام."

قال أسعد بأسى وهو يرفع عينيه مُتأملًا خالد:

"بني، أنت شاب مليء بالأمل، لكن الحياة علمتني أن بعض الجروح لا تلتئم، وأن بعض الروابط لا يمكن استعادتهالا أمل في علاقة قُطعت منذ عمر طويل"

صمت الرجل قليلاً ثم أكمل:

"انظر إلي، أنا طاعن في السن، في أي لحظة قد لا أكون هنا بينكمألم يكن أولى لو كانت هذه الخطوة مبكرة قليلاً؟ لقد قصرت كثيرًا في حقها، هل تعتقد أنها قد تسامحني؟"

أصر خالد:

"يا عمي، أنا أرى خوفاً من المحاولة، أرجوك لا تدع اليأس يسيطر عليكقد تكون هذه الخطوة صعبة، لكنها قد تكون بداية جديدةما تقوله الآن دليل واضح على صدق مشاعرك، ماما ستلاحظ ذلك بكل تأكيد، إذا كنتَ مستعدًا للقيام بذلك، فأنا هنا لدعمك في كل خطوة."

مرت لحظات طويلة من التفكير العميق، شد أسعد على عصاه وقال بصوت خافت، متأملًا الأرض:

"نعم، ربما تكون هذه فرصتي الأخيرة."

شجّعه خالد:

"دعنا نحاول معًا."

نظر الرجل إلى خالد بحسرة وتأمله للحظات، ثم ابتسم ومسح على كتفه قائلاً:

"أعتقد أن قرار أنيسة في تربية رجل مثلك كان قرارًا صائبًا، لقد أفلحت حقًا في تربيتك يا بني."

ابتسم خالد بفخر. لم تكن أمه امرأة عادية، بل كانت دائمًا إنسانة مخلصة محبة. وبالفعل، هو ممتن لها لأنها اختارت أن تكون أمًا له.

تأمل خالد الرجل العجوز بعمق. كان متأكدًا أن الأخوة يشتاقون إلى بعضهم البعض، لكن العناد والكبر كانا دائمًا العائق بينهما طوال تلك السنين الماضية. كما أنه، في قرارة نفسه، أراد أن يسدد بعضًا من الدين الذي يحمله في رقبته تجاه المرأة التي التقطته وأنشأته حتى أصبح ما هو عليه اليوم. لو استطاع أن يهديها العالم كله، بسمائه وأرضه ونجومه، لفعل. ومع ذلك، لن يكفي كل هذا لسداد ذلك الدين العظيم.

أمضى خالد الوقت مع الرجل العجوز وأبنائه وحفيدته، وكانت الحفيدة الصغرى تجري في الأرجاء فرحة بدُميتها الجديدة. كانت عائلة مرحبة وودودة، ينساب من أجوائها دفء يشبه دفء أمه، وكان فيها من روحها الكثير، حتى إنه لم يشعر يومًا بأنه غريب عنهم.

عندما وصلته رسالة من أنيسة تطمئن عليه وتسأله عن موعد عودته، نظر إلى الساعة التي أشارت إلى منتصف الليل، فاستأذن. حاول أسعد إقناعه بالمبيت معهم تلك الليلة، لكن خالد اعتذر بلطف ووعدهم بالزيارة مرةً أخرى.

وبالفعل، قاد سيارته عائدًا إلى المنزل، وعقله منشغل بشخصٍ استولى على تفكيره في الأيام الماضية، وجعله تائهًا شاردًا يعيش منتظرًا أمرًا لا يعلمه. هكذا كان حاله، وهو لا يدري أنه يختبر مشاعر تستولي على قلبه لأول مرة منذ سنين المراهقة والدراسة الجامعية.

قاد السيارة على حاله من الشرود حتى وصل إلى المنزل بأمان عند الثانية والنصف فجرًا، ليجد أنيسة في انتظاره. كانت قد سقطت في النوم أثناء انتظارها له في غرفة الجلوس، وحيدة، وبجوارها إنارة خافتة سقط ضوؤها على وجهها، فرأى خالد ما كان غافلًا عنه أخيرًا. لقد كبرت أمه في السن، وصارت عجوزًا تملأ التجاعيد صفحة وجهها الذي لطالما كان جميلًا وجذابًا. صار وجهًا باهتًا شاحبًا، الحياة تكاد تفلت منه.

هل هكذا كانت أنيسة طوال الفترة الماضية؟ رجع بذاكرته إلى الوراء، ولم يستطع تذكر نقطة التحول. لطالما رآها جميلة، هانئة، والحياة تغزو وجهها. جلس بجوارها يتأملها عن قرب وهو يشعر بالخوف لأول مرة، حتى إنه خاف أن يعترف لنفسه مم يخاف. نفض أفكاره السوداوية، واقترب منها وهز كتفها برفق:

"ماما، استيقظي."

فتحت المرأة عينيها بسرعة ولهفة:

"خالد، هذا أنتلقد وصلت!"

"نعم، انهضي واذهبي الآن إلى فراشك."

نظرت أنيسة حولها وكأنها تائهة:

"كم الساعة الآن؟"

"إنها تقترب من الثالثةلماذا لم تخلدي إلى النوم؟"

نظرت إلى وجهه بعمق، وسرحت فيه قليلًا، ثم أجابت:

"كنت قلقة عليكأن تقود في مثل هذا الوقت المتأخر، جعلني لا يغمض لي جفن."

ابتسم خالد بحب ومد يده يمسح شعرها الأبيض قائلًا:

"حسنًا، أنا أمامك الآنهيا، سأساعدك لتذهبي إلى غرفتك."

ثم نهض ليساعدها، وعقله يقع على حقيقة مرة. كانت ثقيلة في الحركة، تستند إليه بثقلها، وكأنها لا تستطيع رفع جسدها. سألها:

"هل هناك مشكلة في قدمك؟ هل هناك منطقة في جسدك تؤلمك؟"

نظرت إليه المرأة بتوتر، وقالت وهي تسحب يدها عنه:

"أنا بخيرفقط جسدي كان خاملاً بسبب النوم."

سألها خالد بتردد:

"حسنًا، ما رأيك أن نجري بعض الفحوصات لنتأكد من سلامتك؟"

أغمضت المرأة عينيها بابتسامة محبة:

"هذا لو اشتكيتُ لك من أمرٍ ما، ولكنني لا أشتكي من أي ألم."

"أنتِ حقًا عنيدة، إنها فقط فحوصات دورية لا بأس بها."

سألته المرأة بابتسامة طريفة:

"وماذا لو أن فحوصاتي لم تكن سليمة؟ ماذا لو لم يكن لدي وقت؟ سأعيش باقي أيامي في خوف وتوتر."

لم تكن أنيسة مدركة لخطورة هذا السؤال ووقعه على خالد الذي وقف فجأة وسحب يدها ليوقفها هي الأخرى. نظرت المرأة إلى ابنها الذي أظلم وجهه، وتمتمت بحيرة:

"خالد..."

"ماذا تعنين بكلامك؟"

نظرت إليه بثبات وقالت:

"لا أعني شيئًا، أنا فقط أعلق على حديثك."

ثم مسحت على رأسه بحب وابتسمت:

"لا تخف علي يا بني، لن نهرب من المكتوب."

لم يكن لديه تفسير واضح للقلق الذي احتل قلبه فجأة. أكان يبالغ في توتره بسبب الصورة التي رآها عليها قبل قليل وهي مستغرقة في النوم؟ لم تُتح لأنيسة فرصة ليُكمل أفكاره، فقد شبكت ذراعها بذراعه وسحبته بلُطف، وهي تتحدث بمرح:

"هيا، عليك أن تخلد إلى النوم، حتى تستطيع الذهاب إلى عملك مبكرًا."

سار خالد بجوار أمه التي تثرثر، وعقله لا يزال مشغولًا بصورتها وهي نائمة. للأسف، لم يمضِ ما تبقى من تلك الليلة هانئًا، فملامحها الضعيفة لم تغب عن تفكيره.

***


في الصباح الباكر، وقفت سالي أمام باب المنزل، وإلى جانبها أنيسة وخالد الذي يحمل حقيبتها.

تقدّمت فرح واحتضنتها وهي تقول:

"لا تتأخري علينا، سأنتظرك."

ضمتها سالي:

"سأتواصل معك باستمرار."

جاءت لارا راكضة، ووقفت تميل برقة وطفولة:

"متى سترجعين؟"

مسحت سالي على شعر لارا بحب:

"بعد أسبوع."

تدخلت سارة وهي تحتضن ساق سالي:

"سأشتاق إليك."

انحنت سالي وهي تضمها، وعيونها تبحث عن شخص ما، لكنها لم تلمحه. تقدّم رحيم وقال:

"سنشتاق جميعًا إليك."

ثم جاء حسن، وكان يرتدي ملابس المدرسة للمرة الأولى منذ أسبوع، وقال ببرود:

"لا تقل جميعًا."

نظرت سالي إليه بطرافة وقالت:

"أتمنى ألا تثير المشاكل مرةً أخرى في المدرسة."

مدّت يدها إليه، فنظر إليها الفتى قليلاً ثم التقطها وقال:

"لا تتأخري."

كان جميع الأطفال مهذبين جدًا في وداع طبيبتهم الشابة، عدا عبد الله، الذي كان يجلس في غرفته يشعر ولأول مرة بأنه مذنب. أمسك بالفراشة الصغيرة الوردية اللون، وهو يسمع أصوات إخوته في الأسفل. وبرغم ما شعر به، لم يرغب في مشاركتهم وداع سالي، بعنادٍ لا يخلو من الحزن، رغم أن العقاب قد رُفع عنه بطلبٍ منها شخصيًا.

رفع خالد العقاب عنه بعد أن وجه له توبيخًا ولقنه درسًا في الأدب والاحترام. ومع ذلك، ظل الفتى وحيدًا في غرفته، نادمًا وحزينًا بسبب تصرفاته غير المهذبة، التي بدأت تثقل على قلبه أخيرًا.

وهكذا، رحلت سالي عن المنزل مؤقتًا لمدة أسبوع، بعد أن وعدتهم جميعًا بالعودة مرةً أخرى. انطلقت في مهمّة قصيرة لتقرر مصيرها بنفسها، وترسم طريق حياتها ومستقبلها بيديها، حتى تعود إلى المنزل دون ندم، ودون أن تفكر يومًا في الهروب.

نهاية الفصل الثالث عشر.

نهاية الجزء الأول من رواية المنزل.

وتستكمل القصة في الجزء القادم.

***

أهلاً بكم!

أخيراً الجزء الأول من الرواية انتهي وهنبدأ مع بعض فصل تاني وجزء تاني من القصة، وأحداث كتيرة جداً محورية، الرواية دي ملهاش بطل في نظري لأن كل الشخصيات أبطال فيها ودورهم أساسي ومهم، فيه حاجات كتير هنعرفها الجزء الجاي، قصة أنيسة هنفهمها، وقصة كل طفل من الأطفال والظروف اللي وصلتهم للمنزل، الجزء الجاي أحداثة تقيلة ودرامية وطبعاً ظرافة الأطفال هي اللي هتهون شوية وقع الأحداث، أتمنى أكون على قدر توقعاتكم ولو قصرت في حاجة ياريت تلفتوا انتباهي ليهاحقيقي عملية الكتابة وربط الأحداث والحوارات بين الأشخاص عملية مش سهلة خالص بتاخد وقت ومجهود كبير مني، ده غير أنها مش الحاجة الوحيدة اللي بمارسها في حياتي، علشان كده بتأخر شوية في تنزيل الفصل، بس أوعدكم هحاول أحط معاد معين أنزل فيه الفصل، بس أنظم شوية بعض الأمور في حياتي، أعذروني واستحملوني، وأوعدكم بعمل راقي محترم وأعمال تانية كتير غيره.

شكراً

اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

رواية المنزل:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق