رواية المنزل
الفصل العاشر
فضلاً، متنسوش الvote.
***
وقف خالد أمام سالي التي تراجعت بضع خطوات إلى الخلف بارتباك، ولأنه اعتاد على ردّ فعلها المتوتر، قال برفق:
"هل تسمحين لي أن أتحدث معك قليلاً؟"
تلعثمت سالي وهي تفسح له المجال، وقالت:
"بالتأكيد مستر خالد، تفضل."
أضاءت الغرفة مرةً أخرى بينما دخل خالد متأملاً المكان من حوله، وكأنه يدخله لأول مرة. جلس براحة أمامها، في نفس المقعد الذي جلس عليه حسن منذ قليل، والذي لم يبرد بعد من حرارته.
جلست سالي مرة أخرى على مقعدها، وهي تستعد لمواجهة جديدة من نوعها، فهي لم تتحدث مع خالد بشكل مباشر إلا مرات قليلة جدًا وبشكل سطحي. تأملته وهي تتجه إلى مقعدها، بدا مرتبًا ومرتاحًا في ملابسه الرياضية، التي تراه يرتديها لأول مرة منذ وصولها.
تحدث خالد فور جلوسها:
"أعتذر عن إزعاجك، سأعطلك قليلاً."
تهربت نظرات سالي من مواجهته:
"لا مشكلة."
"هل حسن بخير؟"
"كان يشعر ببعض الإرهاق بعد المجهود الذي بذله اليوم."
كذبت وهي تشعر بالذنب، فرد عليها خالد بهدوء، وهو يتجنب النظر إليها أيضًا:
"جيد."
مرت لحظات صمت، ثم رمقها خالد بنظرة مباشرة وهو يقول:
"أرى أن علاقتك بالأولاد تتعمق بشكل كبير."
كان صوته هادئًا، وعلى الرغم من ذلك، شعرت سالي من أعماقها أن هناك اتهامًا خلف نظراته المريبة المليئة بالشك، فردّت عليه بارتباك وهي تخفي كفيها المتشابكين تحت المكتب:
"أحاول أن أصادقهم بما أننا نتشارك نفس البيت."
"هذا مريح."
تابعها خالد وهي تخفي كفيها، وتذكر اليوم الذي أوصلها فيه إلى موعدها المهم، فسألها مباشرة:
"دكتورة سالي، هل هناك أمر ما لا أعلمه؟"
برد جسدها، وقالت في نفسها:
'هو يعلم.'
أدرك خالد بسرعة أن هناك بالفعل أمرًا ما، فرفع حاجبه يحثها على الحديث، فقالت سالي بسرعة:
"أمر مثل ماذا؟"
"مشكلة... لها علاقة بالأولاد." صمت لوهلة ثم أكمل ببطء:
"مثلًا..."
سألته سالي، ونبضات قلبها تتسارع:
"لماذا تعتقد هذا؟"
أجاب خالد ببساطة وثقة:
"أنا لا أعتقد، أنا متأكد أن هناك أمرًا ما لا أعلمه."
تروّت سالي قبل أن ترد عليه، وفكرت في جوابها قبل أن تطلقه، ثم قالت ببراءة:
"كما أخبرتك، كل ما في الأمر أنني أحب أن تكون علاقتي بهم جيدة حتى يوم رحيلي."
مال خالد رأسه بحيرة وقال:
"رحيلك؟"
نجحت خطة سالي في تشتيت الرجل، فكتمت تنهيدتها وأمهلت نفسها ثواني قبل أن تفسر كلامها، ثم قالت بهدوء وعزيمة:
"مستر خالد، في الواقع سيكون من الصعب عليّ الاستمرار في عملي هنا."
كان دور خالد ليرتبك هو بدلاً عنها، وتذكّر تصرف عبدالله معها:
"لماذا؟ هل هناك مشكلة، أو شخص ما ضايقك؟"
قالت سالي بسرعة تنفي تلك التهمة:
"بالطبع لا، لم يضايقني أحد."
سحبت الهواء إلى رئتيها، وقالت بصدق:
"كان جزءًا من اتفاقي مع السيدة أنيسة أن أقيم معكم لمدة شهر، ثم أقرر إن كنت سأكمل أم لا، وأنا قررت أنني لن أستمر."
لم تكن هناك مشاعر معيّنة على وجه خالد، فقال بعد تفكير:
"وما الذي جعلك تقررين عدم الاستمرار؟"
"سبب شخصي."
اكتفت سالي بتلك الجملة، فرمقها خالد بنظرة غامضة وقال:
"هذا قرارك، ولن يستطيع أحد إجبارك على البقاء بأي حال من الأحوال، ولكن هل هناك مجال للتفاوض؟"
ابتسمت سالي باعتذار وهي تحسم الأمر:
"أعتذر مستر خالد، هذا قرار نهائي."
تنهد خالد مستسلماً:
"إذاً، علينا أن نبلغ الجميع."
ساد الصمت للحظات، ثم عاد خالد إلى نفس الموضوع الذي تشتّت عنه منذ البداية:
"حسناً، لنعد إلى حديثنا."
بهت وجه سالي:
"ماذا كان؟"
قمع خالد ابتسامته، لم يقابل شخصًا طوال حياته تظهر مشاعره بهذا الوضوح على وجهه، فتحدّث بثقة دون أن يُظهر ابتسامته:
"دكتورة سالي، هل هناك شيء لا أعلمه عن حسن وفرح؟"
كان الرجل ينبش عن الحقيقة دون كلل، ولكنها أجابت وهي تحاول الحفاظ على ثباتها:
"لا أعلم سبب هذا الإصرار، ولكن لو كنت أعلم أمرًا يستدعي التدخل من وليّ أمرهم، لأخبرت السيدة أنيسة فوراً، على الأقل، بما أنها الشخص المسؤول عنهم أمامي."
تضايق خالد من ردّها الذي ينفي عنه المسؤولية، فقال ببرود:
"آنسة سالي..."
لم يقل "دكتورة"، بل "آنسة"، كما لو أنه يوبّخ شابة صغيرة خرقاء:
"أنا وليّ أمر هؤلاء الأولاد، وأتشارك في ذلك مع أمي، وأي أمر يخصهم يرجع إلينا نحن الاثنين. كلامك يعني تهميش دوري في المنزل، وأنك لا ترينني من الأساس."
صُدمت سالي من هجومه، فقالت بارتباك:
"أعتذر، لم أقصد الإهانة، ولكنك فهمت الأمر بشكل خاطئ، كان مقصدي أنني لم أتعامل مع حضرتك أبدًا حتى أرجع إليك في الأمور المهمة."
ندمت سالي لأنها قالت كلمة "حضرتك"، ولكن توترها لم يدع مجالاً لعقلها حتى يدقّق في أسلوب مناداته. سمعته يُلحّ مرةً أخرى:
"آنسة سالي، لدي إحساس قوي بأن هناك مشكلة، وأنا إحساسي لا يخيب في العادة، خاصة عندما يتعلق بالأطفال."
"وأنا أؤكد أن هذا الأمر بعيد عني تمامًا."
على الرغم من ارتباكها، لكنها كانت عنيدة ومراوغة، فقال خالد وهو يستعيد هدوءه:
"إذاً، لن أكرر سؤالي أكثر من ذلك، ولكنك مسؤولة أمامي لو كنتِ تُخفين شيئًا عنا."
أكمل بعد ثوانٍ:
"الأطفال هم أولويتي القصوى، ولا شيء أهم منهم، حتى لو كان العمل."
شعرت سالي بالضيق والنفور منه، كان رجلاً واثقًا بشكل استفزها، وعلى الرغم من أحقيته في معرفة أية تفاصيل تخص الأولاد، فإن وعدها لهم منعها عن البوح بالحقيقة لأنيسة. أو خالد الذي بدأ يشك في الأمر. انتبه خالد لوجهها الذي أظلم بالضيق والنفور.
"دكتورة، هل تخافين مني؟"
قالها فجأة، محاولًا تلطيف الأجواء بينهما، فرفعت سالي رأسها وهي تشعر بالمفاجأة بسبب السؤال الغريب.
فكرت سالي برهبة: هذا الرجل ليس من سياسته التمهيد، بل إلقاء القنابل في الوجه.
علق خالد وهو يتأملها:
"لا أعلم سبب هذا الإحساس، ولكني أشعر أنك تخافين مني."
شكوكه كلها كانت صادقة، وهذا عزز من خوفها منه، فقالت بارتباك وهي تفك عقدة لسانها:
"لا، ولماذا أخاف منك؟"
'كاذبة'.
لم ينطقها خالد، ولكنه ابتسم بتواضع وتأمل الفراغ لوهلة ثم قال:
"لا أعلم."
أكمل كلامه وهو يوجه نظرة مباشرة إليها، وعرض عليها بصدق شديد:
"إذاً، بما أنكِ لن تكوني معنا الشهر المقبل، أرى أن تقترحي بنفسك مكان التخييم."
لم يكن سؤالًا، بل عرض صداقة. نظرت إليه سالي بحيرة، فقال بابتسامة لطيفة كالتي رأتها عندما حمل ماريا:
"مكان التخييم؟"
ردّ مشجعًا:
"نعم للجمعة القادمة، تستطيعين اختيار المكان بنفسك."
تذكرت سالي خطة التخييم التي وُضعت ليوم الجمعة المقبل، وبما أنه عرض عليها اختيار المكان، كانت هناك وجهة واحدة فقط تمنت أن تذهب إليها، وبينما هي تفكر، قال خالد:
"إن لم يكن لديكِ الخبرة في ذلك، سأعرض عليكِ مقترحات واختاري المكان على ذوقك."
قاطعته سالي:
"وادي الحيتان!"
قالت الاسم بحماس، فقابلها خالد بنظرة محتارة، لتقول هي بابتسامة خجولة:
"أعتقد أن وادي الحيتان سيكون فكرة لطيفة."
تأملها خالد وهي تبتسم بخجل، فقال وهو يشعر بالتسلية:
"إذاً... وادي الحيتان."
***
في اليوم التالي، بعد عودة الأطفال من المدرسة، أعلن خالد خبر رحيل سالي، فنظر الجميع إلى بعضهم البعض بحيرة، رمقها حسن بعنف، وفرح بخوف، أما الأطفال الصغار فأخذوا يسألونها كالفِراخ عن أسباب رحيلها، ودمعت عين رحيم، بينما لم يظهر على نور أي تفاعل مع الخبر على وجهها، وباقي الأولاد لم يعلّقوا كثيرًا. اكتفت السيدة أنيسة بتعليق واحد:
"هذا قرارك يا حبيبتي."
لاحظت سالي الحزن بادياً على الوجه المُجعَّد الذي صار مُرهقًا مؤخرًا، وذلك ما جعلها تشعر ببعض الذنب، لكنه كان قرارًا اهتدت إليه على أي حال، ولن يستطيع أحد ثَنيَها عنه. لذلك، لم يكن لديها حاليًا مجال للتفكير في ردود الأفعال.
إذا كانت مشغولة بالتفكير في مشكلة أخرى. فالطفل يحيى تفاقم مرضه ورقد في سرير العيادة. وظلت سالي بجواره تتابع الحالة. كما أنها منعت الأطفال جميعًا من الاحتكاك بالطفل المريض، خاصةً علي، الذي يُعاني من ضعف في المناعة.
كانت السيدة منى تشارك سالي في مراقبة الوضع وتزودها بما تحتاج، حتى السيدة أنيسة جلست في الغرفة مرتدية كمامة، تتابع المشهد من بعيد والقلق بادٍ بوضوح في عينيها.
مر صباح اليوم وحرارة يحيى ترتفع بشكل جنوني، وصوت تنفسه كان يعلو مع الوقت. لم يكن الأمر مثل حالة ماريا التي كانت بسيطة جدًا، مما جعل سالي تلجأ إلى إجراءات طبية مؤلمة للفتى الصغير، الذي كان يتأوّه أمامها بضعف ووهن.
رفعت سالي مقياس الحرارة، لتعقد حاجبيها بقلق، الحرارة ارتفعت للمرة الثالثة، وعاد جسد الفتى الصغير يرتجف بشكل كبير. وهنا، كان عليها أن تلجأ إلى الأمر الذي أجّلته لأكثر من مرة.
وبينما هي تفكر، سمعت طرقًا على الباب وشخصًا ما يدخل. ظنّت أنها السيدة أنيسة، فالتفتت لتجد خالد خلفها. يبدو أنه وصل للتو، بالنظر إلى ملابسه التي يرتديها عادة عند ذهابه إلى المكتب، سألها بصوت خافت وهو يقترب ويراقب الطفل المريض الموصول بالمحاليل:
"كيف حاله الآن؟"
قالت سالي وهي تنظر إلى الطفل بقلق:
"لديه نزلة شعبية."
بهت وجه خالد، فلحقته سالي بسرعة لتطمئنه:
"أعطيته مضادًا حيويًا، في الواقع كان يحتاجه بشدة."
تذكرت سالي فقرة تركيب الإبرة الخاصة بالمحلول في يد الصغير، الذي صرخ بألم اخترق قلبها.
اقترب خالد من السرير، ووضع يده على جبين الصغير المتعرق وهو يسأل:
"ما زالت حرارته مرتفعة، ما الحل؟"
"لم يمضِ على إعطائه المضاد والخافض كثيرًا، علينا الانتظار."
اقشعر جسدها نيابةً عن الفتى عندما فكرت في الخطوة التي ستقوم بها الآن،. نظرت إلى المحلول المتصل بذراعه، وتأكدت من ثبات الإبرة في مكانها، ثم قالت بتردد:
"في الواقع، كنت سأستدعي السيدة منى لتساعدني في تحميمه بالماء البارد، سيساعد هذا في خفض الحرارة بشكل فعال."
شمّر خالد عن ساعديه بسرعة قائلًا:
"سأساعدك بنفسي."
لم يعطيها الفرصة وهو يحمل الجسد الصغير الساخن والمرتجف، أوقفت سالي المحلول مؤقتًا ولفّت الإبرة بقطعة شاش بلاستيكية صغيرة، ثم ساعدته في خلع معظم ملابس الفتى الذي بدأ يبكي ويعلو صوته. كان الرجل يهدئه وسالي تحاول تشجيعه.
عادت السيدة منى على صوت بكاء يحيى الذي تلقى الماء البارد على جسده بالصراخ والرَّفس. وتبلل الجميع، بما فيهم خالد، الذي تحولت ملابسه إلى فوضى بسبب الفتى الذي تشبث فيه بقبضته الصغيرة المسكينة.
وبعد دقائق، أحضرت السيدة منى ملابس جديدة للفتى، وألبسه إياها خالد بنفسه بعد أن أمرهم بالخروج. وقفت سالي مستندة إلى الحائط بجوار الحمام، وهي تسمع بشرود صوت الرجل وهو يُهدئ الفتى الصغير بصوته الرخيم الثابت، بينما كانت السيدة منى تُعد السرير مرةً أخرى.
مرت دقائق وخرج وهو يحمل يحيى، الذي يتشبث بذراعيه الصغيرتين في رقبته وأنفاسه تخرج من رئتيه بصعوبة. وضعه خالد برفق على السرير. بينما سارعت سالي للتأكد من أن المحاليل لا تزال مثبتة بشكل آمن في ذراعه. تنفست بارتياح حين وجدت الإبرة في مكانها لم تُمسّ.
بدأ خالد في مسح شعر الفتى الأسود المبتل بمنشفة نظيفة. من بعيد، راقبت سالي الوضع ومشاعرها تتضخم. فمثل هذا المشهد لن تراه كل يوم، كان مذهولة من هذه العلاقات الإنسانية العجيبة التي تراها لأول مرة في هذا المنزل. ولأنها خافت أن تحسدهم، أدارت رأسها وذهبت إلى مكتبها تتفقد الأدوية بشرود.
مرّ الوقت، والتذمر والأنين الصادران من يحيى يهدآن تدريجيًّا، حتى سقط الولد في نومٍ عميق، وأنفاسه الثقيلة تحدث لحنًا مزعجًا للأذن. فاستأذن خالد من سالي والسيدة منى لمدة نصف ساعة حتى يأخذ حمامًا سريعًا ويبدل ملابسه. ثم تبعته منى لتتفقد الأطفال.
وظلت سالي بمفردهاً بجوار المريض الصغير الذي بدأت حرارته تنخفض قليلاً. مرّ الوقت وهي تتأمله، تمسح شعره الرطب، وتتابع أنفاسه التي تدخل وتخرج بصعوبة، في سبيل الحياة ورغمًا عن المرض. كم هي الحياة ثمينة حقًا، وهذه الروح الصغيرة المقاتلة أمامها دليل على ذلك.
تبدلت نظرة سالي وهي تتأمل يحيى، لم يكن مجرد طفل صغير يتنفس فقط أمامها، بل كنز وهدية جميلة وهبها المولى - عز وجل - لمن لم يقدروها فتركوها، والتقطها من عزّزوها واعتنوا بها. مسحت سالي جبهته وهي تراه معجزة كغيره من الأطفال. معجزة كبيرة على الرغم من صغر حجمها.
وبعد دقائق، سمعت الباب يُفتح، وخالد، الذي بدّل ملابسه لأخرى نظيفة وأكثر راحة، يدخل متأملًا شكلها المُشعث:
"تستطيعين الذهاب الآن يا دكتورة، سأبقى أنا بجواره، وربما سأصحبه معي إلى شقتي، أخبريني فقط مواعيد دوائه."
شرحت سالي لخالد البروتوكول العلاجي الذي سيتبعه، ونبّهته لو حدثت أية أمور خارجة عن السيطرة أن يستدعيها فورًا. وكان خالد منتبهًا ومتفاعلًا مع تعليماتها الواضحة، بينما أصوات الأولاد في الحديقة يتعالى صداها.
وقبل أن تخرج، اطمأنت على يحيى مرةً أخرى، وتفقدت حرارته التي انخفضت إلى حد مطمئن بعد هذا الحمام البارد والمحلول المتصل به. وهنا، كان عملها قد انتهى - على الأقل - الآن، وشخص آخر سيتولى مهمة متابعة الفتى من بعدها.
خرجت أخيرًا من الغرفة، التي تعتّق جوها برائحة المرض، واستنشقت الهواء الصحي في الحديقة بعد وقت صعب وطويل برفقة طفل مريض. جلست مع الأولاد في الحديقة، واطمأن جميعهم على حالة يحيى.
وبينما كانت تتحدث مع ليلى وليان، لمحت من بعيد حسن يخرج من المنزل ويجلس بجوار أحمد، يتناوشان برفق. استأذنت سالي من ليلى وليان، واتجهت إلى الفتى:
"حسن، أود الحديث معك قليلاً."
نظر حسن إليها ببرود تحت نظرات الحيرة من أحمد، ثم نهض على مهل وهو يضع يديه في جيوبه وسار في اتجاه بعيد عن الجميع. مشت سالي خلفه، ينتابها شعور غير مريح، وعندما وصلا إلى مكان بعيد لا أحد يسمعهم فيه، التفت الفتى وانتظر من سالي أن تتحدث. شعرت بعداوة تتسرب من عيون الفتى المراهق، شعور يختلف عن كل موقف جمعهما، ولكنها لم تفهم سبباً لذلك، فتجاهلت هذا الإحساس الذي اقشعر له جسدها وسألته:
"هل أحضرت الأسماء؟"
أخرج الفتى ورقة من جيبه وسلّمها إليها بصمت، ثم تحرك ومر بجوارها ليرحل دون أن يتفوه بأية كلمة. أمسكته سالي من كمه وسألته باستغراب:
"هل هناك ما يضايقك؟"
تأملها بفظاظة:
"وهل هذا يهمك؟"
استغربت سالي الإجابة، فبالأمس لم تكن لغة الحوار بينهما حادة هكذا. سألته وهي تأخذ تعابير جادة دون أن تترك ذراعه:
"حسن، ماذا هناك؟"
لم يجب عليها حسن، ولم تستسلم سالي التي ألحت مرةً أخرى:
"أجبني، هل بدر مني ما ضايقك؟"
تحولت النظرة في عينيه إلى نظرة ثلجية وقال:
"ولماذا تضايقينني؟ أنتِ مجرد ضيف سيرحل قريبا."
تمتمت سالي وهي تشعر بأن الفتى يسخر منها:
"ماذا تقصد بكلامك؟"
أشاح الفتى وجهه بعيداً عنها ولم يجب عليها، فشدّت سالي على كمه وهي تحثه على الإجابة، ليتحدث أخيراً بصوت هادئ وما زال وجهه بعيداً عنها:
"لماذا سترحلين الآن؟ ترحلين وتتركين فرح غارقة في مشكلته."
أكمل وهو يلتفت إليها:
"أم أنك من هؤلاء الأشخاص الذين يعدون ولا يوفون بعهدهم؟ أهكذا أنتِ يا دكتورة؟"
ذهلت سالي من كلامه، ولمحت نظرات الحقد التي رأتها بالأمس، لكنها اليوم موجّهة إليها، لا إلى الفتيات. انعقد لسانها وهي تنظر إلى الفتى الصلب، فبلعت ريقها وهمست متسائلة:
"حسن، لماذا تفكر بهذه الطريقة؟ أنت لا تفهم موقف."
تحولت نظرته إلى الشراسة وقال:
"لا أريد أن أفهم، أنا لا يهمني أي شيء سوى مصلحة أختي، وقد وعدتِني أنكِ ستعالجين الأمر دون إخبار ماما وأبيه، والآن ترغبين في الرحيل! كيف أفكر في مثل هذا الموقف وأنا بمفردي؟"
قلدها بسخرية:
"لا تقلق يا حسن، سنجد حلاً لهذه المشكلة."
نظر بغضب إليها:
"والآن سترحلين بعد أسبوع."
تحولت نظراته لبرود أثار الصقيع في جسدها، ثم قال بكرامة:
"هل تعلمين؟ هذا لم يعد يهمني، أنا من سيتولى المسؤولية، وسأتصرف، أنا وفرح لم نعد بحاجة إليك."
تألقت الدموع في عينيها وهي تنظر إلى الفتى بذهول.
"ابتعدي عني."
أزاح الفتى يدها بخشونة، ثم رحل وتركها خلفه.
نظرت سالي إلى الورقة بين أصابعها، هذا اليوم ليس لطيفاً حقاً، بل صعباً ومرهقاً على أعصابها لأقصى حد. قبضت على الورقة بشدة، وهي تحاول أن تتمالك دموعها حتى لا تنساب بسبب حديث حسن القاسي، أغلقت عينيها بقوة، وكلامه يتردد في أذنها، ثم التفتت عائدة إلى المنزل، ولم تكن تعلم أن هناك من يراقبهما من بعيد.
***
جلس خالد بهدوء أمام السرير، يقرأ كتابًا لأول مرة منذ فترة طويلة. فلم يعد يتوفر له الكثير من الوقت لممارسة القراءة. حتى وجد نفسه اليوم، يضع يحيى في السرير، ويذهب إلى المكتبة الصغيرة ملتقطًا منها أول كتاب وصلت إليه يده. وبينما هو مستغرق في القراءة، سمع تأوّه الفتى وهو يحاول فتح عينيه بصعوبة قائلاً:
"ماما!"
نهض خالد بسرعة وجلس بجوار الجسد الصغير قائلاً:
"يحيى، أنا أبيه."
رمش يحيى وفتح عينيه أكثر متعرفًا على خالد، ثم قال:
"أبيه، أشعر بالعطش."
أخذ خالد كأس الماء بجواره وساعد الفتى ليشرب، ثم ضمّه إليه برفق وهو يسأله:
"كيف تشعر الآن يا بطل؟"
رد عليه يحيى:
"أنا أكره الدكتورة."
تفاجأ خالد بهذا الإقرار:
"لماذا؟"
تحدث الفتى بأنين، وكلماته بالكاد مفهومة:
"لأنها أعطتني الحقنة، وألقت عليّ الماء البارد... سأقبض عليها عندما أصير شرطي."
ابتسم خالد أمام براءة الصغير وقال:
"اسمح لها أولًا أن تدافع عن نفسها، حتى تتأكد هل هي مذنبة أم لا."
تمتم الفتى بعناد وهو يمسح وجهه في قميص خالد:
"سأضعها في السجن."
دافع خالد عن سالي في غيابها:
"الدكتورة شخص جيد، لا تستحق هذا. كانت تعتني بك وتعالجك حتى تستعيد صحتك، كما أنها أخبرتني أن حرارتك كانت مرتفعة جدًا، ويبدو أنها لسعتها وهي تعتني بك، لذلك كان علينا أن نحممك بالماء البارد. أليس هذا ما نفعله عندما تلسعنا النار؟"
هز الصغير رأسه موافقًا، ولكنه قال بعناد:
"ولكن لن أتحدث معها مرةً أخرى."
تنهد خالد مبتسمًا:
"إذاً، عليها أن تصالحك."
سأله خالد وهو يعدّل جلسة الصغير بين ذراعيه:
"هل أقرأ لك قصة؟"
أومأ الفتى بضعف وهو يستند بوهن على خالد الذي بدأ يحكي له حكاية خيالية قصيرة.
***
انتظرت سالي جرس الفُسحة، حتى سمعته يدوي بأعلى صوت، ورأت من بعيد التلاميذ يملؤون الساحة الخاصة بالمدرسة الدولية الراقية. دخلت بعد أن أخبرت الحارس بأنها ولية أمر أحد الأطفال وسلمته هويتها.
تجولت بمهل في المدرسة. لم تكن لديها خطة محددة لما ستقوم به، لذلك قررت اختصار الطريق والتوجه إلى الفصول التي ربما تجد فرح فيها.
فكرت: لو كانت على وفاق مع حسن لسألته ليساعدها، ولكنه مستاء منها، وربما يحرجها أمام زملائه. تنهدت شاكرةً له على كل حال، فالورقة التي سلمها لها أرفق فيها كل اسم بجواره الفصل الخاص به. كانوا أربعة أسماء قرأتها سالي بتأنٍّ، ثم توجهت إلى المبنى الخاص بالمرحلة الثانوية.
بحثت في كل الفصول التي كتبها حسن في الورقة، ولكنها لم تعثر على أحد في مثل هذا الوقت الذي يوجد فيه جميع التلاميذ في ساحة المدرسة. بحثت أيضاً في الفصول الأخرى الخاصة بنفس السنة، وسألت بعض التلاميذ، ولم تجد مرادها، فبعضهم لا يعرف أين هؤلاء الفتيات، وبعضهم لا يعرفهن من الأساس.
مرّت بجوار الحمام الخاص بالفتيات وتأملت الباب: هل هذا الباب هو الذي كسره حسن؟ لم يكن هناك أي آثار لذلك، وإن كان هو، فمدرسة كتلك لن تترك باب الحمام الخاص بالفتيات مكسورًا.
تأملت سالي المدرسة الواسعة حولها، وتملكها شعور باليأس والخوف من اكتشاف أمرها من أحد الأطفال الذين يعيشون معها في المنزل، فدخلت إلى الحمام بفضول كفرصة أخيرة، وسألت طالبة عن الأسماء الموجودة في الورقة، ولكن الطالبة حرّكت رأسها يمينًا ويسارًا.
دست سالي الورقة في جيبها بيأس وفتحت الماء وهي تفكر في حل بديل، وهذا أيضًا فشلت فيه، فغسلت يديها دون الحاجة لذلك، وهمّت بالخروج وفتحت الباب، لترى مجموعة من الفتيات كنّ على وشك الدخول، وللمفاجأة كانت فرح من بينهم.
ارتسمت الصدمة على وجه فرح التي وجدت نفسها فجأة أمام الآنسة سالي، الطبيبة الخاصة بالمنزل، تقف في حمام مدرستها. ولمحت الصدمة أيضًا على وجه سالي، والتي تغيرت ملامحها بسرعة وتحولت إلى صرامة وهي تتامل زميلاتها.
***
وقفت سالي أمام الطالبات برفقة فرح في مكان بعيد عن الأنظار، كانت تشبك ذراعيها وقلبها ينبض بعنف خوفًا مما هي مقدمة عليه. ورغم موقفها الجاد. تأملتهنّ بحذر، كنّ بالتأكيد فتيات من عائلات محترمة، لا يبدو عليهنّ ما يدعو إلى الشك. تأملنها هنّ أيضًا بريبة، ونظرن من حين إلى آخر إلى فرح المرتبكة.
لم ترَ سالي فرح بهذا الضعف والوهن من قبل، حتى عندما اكتشفت أمرها وبكت الفتاة، لم يكن مظهرها هكذا. كيف تحولت فرح فجأة إلى هذا المخلوق البائس قليل الحيلة بين زميلاتها، وقد كانت المراهقة الواثقة من نفسها عندما قابلتها لأول مرة؟
قاطعت إحدى الفتيات أفكارها، وهمست في أذن زميلتها بكلمة غير مسموعة، فسألتهن سالي متعمدة قطع حديثهن الجانبي:
"هل أنتن صديقات فرح؟"
سألتها مراهقة بجرأة:
"هل أنتِ الطبيبة؟"
تأملت سالي الفتاة ولاحظت نظرات الجرأة والفظاظة في تلك الطالبة، فاستمدت سالي الدافع من فظاظتها، وقالت بثبات:
"هذا لا يخصك، أخبريني، هل أنتن صديقاتها؟"
قالت إحداهن وهي تضع ذراعها على كتف فرح وتضغط عليه بقسوة دون أن تلاحظ سالي:
"ماذا ترين؟"
قالت سالي ببرود:
"لا أرى إلا صديقات سوء."
رغم جرأتهن، لاحظت سالي توترًا وارتباكًا يشبه ما لدى فرح، حاولن إخفاءه قدر الإمكان. قالت إحداهن وهي تحاول المماطلة:
"دكتورة، لا أعلم ما أخبرتك به فرح."
نظرت الفتاة إلى فرح ببرود، وكأنها تتوعدها:
"ولكن أؤكد لكِ أنك تفهمين الموقف بصورة خاطئة."
قالت سالي مقاطعة الفتاة:
"لست هنا لأفهم الموقف من الأساس."
"هي فقط مجرد جروح..."
أكملت سالي نيابة عنها:
"مجرد جروح بسيطة غير عميقة، نشعر بعدها بالراحة."
"أنتن مريضات!"
قالتها سالي بصرامة، فذهلت الفتيات الخمس من الكلمة، لتضيف سالي:
"أنا لا أهينكن، ولكنكن بالفعل مرضى، أي شخص يرى ما تقمن به سيتأكد من ذلك."
أكملت سالي ببرود وهي تدير ظهرها لهن:
"وعلي أن أتوجه إلى المديرة حالًا لتُبلغ أولياء أموركن."
بهتت وجوه الفتيات، فتدخلت واحدة بسرعة وهي تسحب ذراع سالي بقوة آلمتها:
"انتظري! لا تذهبي واسمعينا! أنتِ تفهمين الأمر حقًا بصورة خاطئة!"
لم ترد عليها سالي وأكتفت بنظرة باردة وهي تدفع ذراع التلميذة عنها، ثم سحبت فرح من بينهم، لتضع يدها برفق على كتفها الرقيق، وتبدل القبضة القوية بأخرى لينة:
"أكررها، لست مهتمة بذلك، فهم الأمر سواء بصورة صحيحة أم خاطئة امر لا يشغل تفكيري، ما يهمني الآن هو مصلحة شخص مهم لدي، فرح".
نظرت فرح إلى سالي بعدم فهم، فأكملت سالي وهي تضم فرح أقرب إليها:
"مصلحة فرح أولويتي الآن، وأنتم تؤذونها، لقد ورطم أنفسكم، وسحبتموها معكم في فعل خطير قد يؤذي سلامتها".
لم يرد أحد، واكتفين بالنظر إلى بعضهن البعض، فقالت سالي وهي تبدأ عملية مساومة غير شريفة في نظرها:
"لن أخبر المديرة، ولكن بشرط."
تلهفت عيون الفتيات بسرعة لمعرفة الشرط، فعرضت سالي اقتراحها:
"منذ الآن، لا فرح بينكن. ابتعدن عنها تمامًا، لا محاولات للاقتراب ولا الحديث. وإن وصلني خبر أنكن تواصلتن معها، ستجدن المدرسة كلها فوق رؤوسكن."
قالت إحدى الفتيات بسرعة:
"حسنًا، نعدك بذلك."
كان من الواضح أنهن خائفات بالفعل من تهديدها، ولكن سالي لم يكن لديها ضمان بأن ما قالته سيتحقق، فأضافت إلى تحذيرها:
"حسن، أخوها، يعلم بهذا الأمر، وأظن أنكن تعلمن ما قد يفعله شخص مثله لو اقتربتوا منها مرةً أخرى."
تفاجأت الفتيات، هذا الفتى المخيف الذي كسر باب الحمام بقدمه وكاد أن يفضحهم. فنظروا إلى فرح بحقد، ولكن سرعان ما أخفينه وانصاعوا لتهديد طبيبة المنزل:
"نحن موافقات."
تركوا الجملة كإجابة على الصفقة، ورحلوا بسرعة كالضباع الخائنة.
في الواقع، لم تكن لدى سالي نية للتستر على أمر هؤلاء الفتيات، لكنها لم تجد خيارًا آخر الآن سوى التهديد، وحماية فرح بإبعادهن عنها، خوفًا عليها من الأذى الذي قد يلحقنه بها لاحقًا إن تم إفشاء سرّهن. لذلك، اكتفت بذلك كخطوة أولى، واكتفت بالانتظار ومتابعة الأمر حتى ينتهي بهدوء بعيداً عن فرح ودون تطورات خطيرة.
نظرت سالي إلى فرح الساكنة تحت قبضتها، كانت الفتاة المراهقة تخفض نظرها إلى الأسفل، شدت سالي برفق على كتفها وقالت دون التطرق إلى أية أحاديث أخرى:
"هيا، لتذهبي إلى فصلك."
رحلت سالي دون أية كلمة أخرى مع فرح. في الواقع، كانت تترقب رد فعلها ببعض الارتياب. شعرت بالقلق من أن تتوتّر علاقتهما كما حدث مع حسن. لكن مصلحة فرح كانت تبدأ من ابتعادها عن هؤلاء الفتيات، ثم علاج تلك العادة السيئة التي اكتسبتها، وهذا هو التحدي القادم لهما معًا. وعلى الفتاة أن تتعاون معها ليتجاوزا تلك المشكلة بهدوء.
وأثناء عودتها إلى المنزل، كانت سالي غارقة بعمق في أفكارها، وفجأة أُضيء مصباح داخل عقلها، فأخرجت هاتفها وأرسلت رسالة صوتية إلى شخصٍ ما.
***
في العيادة مساءاً، كان هناك صمت مريب في غرفةٍ تضم خمسة أشخاص. سالي بشعرٍ مشعث تكشف على يحيى، الذي يرتدي ملابس شرطي جديدة اشتراها له خالد.
أنيسة ومنى تقفان بجوار الفتى كالحراس، تأهبًا لأي تصرف غدر آخر قد يصدر منه، وخالد يجلس على كرسي بالقرب منهم يتابع الكشف وهو يكتم ضحكته.
قبل خمس دقائق...
"سأسجنك."
قالها الفتى وهو يشد شعر سالي، وهو ما جعل أنيسة ومنى تنهضان بسرعة لتدارك الموقف.
صاحت أنيسة وهي تخلص شعر سالي من الكفّ الصغير القوي:
"يحيى، أترك شعرها!"
تلك القبضة كانت سبب شكلها غير المرتب. ومع ذلك كان من الواضح أن حالة يحيى تحسّنت بقدر كبير، لكن كان على الطفل أن يظل مع خالد في شقته حتى تنتهي فترة النقاهة، ولا يلتقط منه أحد العدوى، خاصةً الصغار.
بعد انتهائها من الفحص، تنهدت بيأس وهي ترى خصلات شعرها المسكين بين أصابع الفتى.
"الحالة تتحسن، سيكمل بروتوكول العلاج ونتابعه."
قالت أنيسة وهي تشعر بالذنب:
"سالي، أعتذر عن تصرف هذا الولد الشقي."
نظرت أنيسة إلى الفتى نظرة جانبية مرعبة، ولكن يحيى لم يكن الطفل الذي يخاف من تلك التهديدات، فقابلها بابتسامة ماكرة منتصرة، ولم يلاحظ أحد الابتسامة التي صدرت من خالد، الذي كان يقف في الخلف مستمتعًا بالمشهد.
فكرت سالي، هذا بالفعل أقل ما حدث معها بسبب الأولاد منذ مجيئها إلى هنا، فقالت متنهدة وهي تسحب الكمامة لأسفل:
"لا بأس."
سكتت قليلاً، ثم نظرت إليهم بترقب:
"أعتقد أنه عليكم الحذر من العدوى، لو شعر أحدكم ببوادر المرض، فليخبرني حتى أتعامل معه بسرعة، خاصةً أنت، مستر خالد، بما أنك أكثر من تعامل مع يحيى دون كمامة."
هزّ خالد رأسه موافقًا، ثم حمل الفتى الصغير وهو يقول:
"سنذهب نحن إلى النوم."
نظر إلى الفتى بين ذراعيه بابتسامة:
"أليس كذلك؟"
ابتسم الصغير برضا، وتعلّق في رقبته، وهو ينظر إلى سالي بابتسامة انتصار، ورحل الاثنان بهدوء.
قالت منى لأنيسة وهي تنظر إلى الباب الذي أُغلق للتو:
"هناك انسجام غريب بين مستر خالد ويحيى، أمرهم مريب."
ابتسمت أنيسة وهي تقول بفخر:
"الأطفال يعشقونه."
نظرت الاثنتان فجأة إلى الضحية المسكينة التي تقف بجوارهما، وجفونها الناعسة تكاد تغلق دون إرادتها، فقالت أنيسة بلهفة وهي تمد يدها لتهذّب شعر الشابة الطويل:
"أوه، حبيبتي، أنا متأسفة حقًّا."
***
في غرفتها، أنصتت سالي إلى الرد على رسالتها:
[سالي عزيزتي، أعتذر لم أجد الوقت للرد عليك في الصباح، سمعت رسالتك الآن، انتبهي جيدًا لكلامي. ربما يكون الأمر عادة اكتسبتها الفتاة، ولكن عليكِ أن ترجعي الأمر أيضًا إلى مشكلة نفسية ربما تعاني منها، أبرزها مثلًا اليُتم. هذا أمر حساس بالنسبة لمن هم مثلها، حتى لو لم يُظهِروا ذلك، لكنه يعود ليظهر في تصرفاتهم. تحدّثي مع تلك الطفلة وتعمّقي معها، حاولي أن تسجّلي في عقلك ما تتفوّه به، ردود أفعالها، وطريقة تعاملها مع من حولها، وإن كان لديكِ وقت كافٍ، حدّثيني عنها أكثر، وسيكون أفضل لو وجدتِ وسيلة لأقابلها.
سالي، خذي حذرك، فتلك الطفلة ربما تؤذي نفسها بسهولة.
أخبريني عزيزتي، ما أخبارك؟ كيف تشعرين حالياً؟]
فكّرت سالي في كلام طبيبتها النفسية، وهي تقاوم الصداع الذي بدأ يُخرب أعصابها، لم يتبقى أمامها وقت طويل حتى تحل هذه المشكلة، عليها أن تتصرف، ثم ترحل بقلب راضٍ وضمير مرتاح، وإن لم يحدث المراد، فعليها إذًا إخبار أنيسة أو خالد ليُكملا الطريق من بعدها.
شعرت من أعماقها بالذنب، وألحت عليها الكثير من الأسئلة، مثلًا، هل كان عليها إخبارهم؟ هل كان قرارها صائبًا حين تسترت على الفتاة وتحملت المسؤولية نيابة عن أولياء أمرها؟ وها هو حسن جاء ليضعها أمام نفسها في مواجهةٍ في مثل هذا الوقت الحرج.
يبدو أن هذا الفتى على صواب. لقد وعدته في لحظة ثقة زائدة عن اللزوم بأنها ستتصرف بنفسها، وفجأة أفصحت عن نيتها وقررت الرحيل والهروب دون أن تضمن حسم المشكلة. ولكن لم يعد لديها خيار آخر إلا الانتظار، لا جدوى من إحساس الذنب وتلك الأسئلة غير الضرورية، عليها - على الأقل - المحاولة حتى آخر ثانية، ثم الاعتراف لأنيسة، هذا هو الحل والخيار المتبقي.
تفاقم الصداع لديها وامتدّ حتى عينيها الناعستين، فدلّكتهما، ثم انهارت على السرير تتنهّد بيأس:
"ماذا أفعل؟"
تنبّهت إلى صوت الطرق على الباب، فنهضت بسرعة لتفتحه، ودخلت فرح دون استئذان وهي تقول بعصبية:
"أريد التحدث معك من فضلك."
تفاجأت سالي من أسلوب فرح، فأغلقت الباب بحيرة، وهي تنظر إلى الفتاة التي وقفت في إحدى الزوايا المظلمة للغرفة، وقسمات وجهها توحي بالبرود.
لم تُعطِها فرح فرصة وقالت بخشونة:
"لماذا جئتِ إلى مدرستي اليوم!"
تفاجأت سالي من أسلوبها الخشن، وانطلقت كلمات الفتاة كالرصاص:
"ماذا تظنين نفسك؟ ولي أمري!"
استطردت بغيظ:
"هل تعلمين أنك تسببتِ في إحراجي مع زميلاتي؟ طلبتُ مساعدتك في أمرٍ معين فقط، وليس المجيء إلى مدرستي وإثارة فوضى في حياتي!"
بالفعل، كانت فرح تُوبّخ سالي بعيدًا عن فرق العمر. ووقفت سالي أمامها دون أن تُبدي أي ردّة فعل. تلقّت التوبيخ والاتهام بهدوء شديد، وهي تنظر إليها بوجهٍ باهت خالٍ من التعابير. سمعت فرح تُكمل حديثها الخشن:
"لماذا لم تعرضي علي الأمر أولًا؟ لماذا لم تخبريني بدلًا من أن تفاجئيني!"
تحدثت سالي بصوت مبحوح:
"فرح... لم أقصد أن أتسبب في مشكلة مع زميلاتك."
"لقد تسببتِ بالفعل! هنّ يتجاهلنني الآن!"
دافعت سالي:
"هن يؤذينك!"
"ليس مبررًا! هذا قراري أنا بمقاطعتهن، وليس قرارك! أنا لست طفلة لأختبئ خلف الكبار."
أكملت الفتاة وغضبها يتفاقم:
"أستطيع حل مشاكلي بنفسي. لقد جعلتِني أبدو وكأنني أهرب من مواجهتهن."
كانت سالي عاجزة عن الرد، فانتهزت الفتاة الفرصة لتكمل حديثها:
"وأيضًا، لماذا فعلتِ ذلك وأنت على وشك الرحيل؟ لماذا تصرفتِ وكأنك قلقة عليّ، وأنتِ من الأساس تنوين الرحيل؟!"
كانت الفتاة تكرر كلامها وتضغط على قلب سالي بعنف. مضت ثوانٍ تنفست فيها بغضب، ثم أخرجت أنفاسها وأكملت بهدوء، وهي تحاول السيطرة على عصبيتها:
"أنا آسفة لو طلبت منك المساعدة، يبدو أنكِ فهمتِ الأمر بشكل خاطئ... ويبدو أنني أيضًا فهمت الأمر بشكل خاطئ. أنتِ مجرد ضيفة، مثلك مثل الدكتورة نادية... لا أهمية لك، ولا تنتمين إلينا."
تلك الجملة الأخيرة، التي ألقتها فرح ذكرتها بما قاله حسن من قبل، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. نظرت سالي إلى فرح بصدمة، وكأنها لطمتها على وجهها. وفي الوقت ذاته، ندمت فرح على تلك الجملة الأخيرة، ونظرت إلى سالي وشعور الذنب يستولي عليها، إذ شعرت أنها أهانتها، خاصةً وهي تراها صامتة لا تدافع عن نفسها. لكنها لم تجد ما تضيفه، فخرجت من الغرفة قبل أن تنطق بكلمة تعقّد الموقف أكثر.
أغلقت فرح الباب خلفها، وتركت سالي تقف بخمول في عالمها الخاص، الذي يتردد فيه صدى كلمات المراهقة ذات الستة عشر عامًا. جلست على سريرها بوجوم، وهي تحتضن ساقيها وتتأمل المحيط أمامها بشرود. لم يكن الأمر وكأن حسن أو فرح مخطئان، لقد وضعاها أمام حقيقتها. لقد كررا نفس مضمون الكلام وكأن أحدهما استمع إلى الآخر.
جبانة، هاربة، غير مسؤولة. كانت تلك العبارات تدور في رأسها منذ رحيل فرح.
ربما من يستمع إليهم يجد في أسلوب حديثهم شيئًا من الطفولة والفظاظة، لكنهم في نهاية الأمر على حق. هؤلاء الأطفال لم يصارحوها بما ليس فيها. كانت كما قالوا: مجرد ضيفة.
سألت نفسها بكِبر:
'وما مشكلتك؟ وهل كنتِ ترغبين في أن تكوني غير ذلك؟'
وقفت عند هذا السؤال لدقائق. هل ترغب فعلًا في أن تكون أكثر من مجرد ضيفة؟ منذ مجيئها إلى هذا المنزل وهي تشعر بالألفة مع أناس غرباء، لم تمضِ على إقامتها معهم سوى ثلاثة أسابيع. كلما اجتمعت معهم شعرت بدفء لم تشعر به في بيتها. ثلاثة أسابيع فقط، وكانوا قادرين على إقامة رابطة عاطفية مع الأطفال.
اعترفت متنهدة: لقد أحبتهم، وأحبت ظرافتهم ومشاكلهم وصخبهم اللذيذ. هبطت دموعها، ليس من قسوة الكلمات، بل من تشتتها وحيرتها.
اعترفت سالي لنفسها بكل صدق، لم ترغب في الرحيل عن هذا المنزل. هذه هي الحقيقة. ولكنها لم تستطع تفسير مشاعرها وعاطفتها المتأججة الآن. هل كان ذلك بسبب توقها إلى العائلة الحقيقية؟
فكرت في والدها، وفي طلبه عودتها إلى بيتها وترك العمل هنا في المنزل. شعرت باليأس الشديد وهي تتذكر تلك المشكلة الإضافية في حياتها، فدفنت رأسها أكثر بين ذراعيها. وبدأ جسدها يرتعش بسبب البكاء.
وبينما هي غارقة في أحزانها، سمعت طرقًا على باب غرفتها، ثم وجدت الباب يُفتح دون إذن منها. رفعت رأسها وهي تمسح دموعها، لتجد فرح تمد رأسها أولًا ثم تدخل، مغلقة الباب خلفها. لقد عادت. تعاملت الفتاة وكأن شيئًا لم يحدث قبل قليل، واتجهت لتستلقي على السرير بجوارها، وكانت تلك هي نسخة فرح التي عرفتها سالي منذ البداية.
ساد الصمت لدقائق لم يُسمع فيه إلا صوت الأنفاس. نظرت سالي إلى الساعة التي أشارت إلى الحادية عشرة، فنهضت وأطفأت الأنوار، ثم اتجهت إلى السرير لتستلقي بجوار فرح، التي أعطتها ظهرها. ومرّت الدقائق بصمت، وأنفاس فرح هادئة، منتظمة، وغير مسموعة، فاعتقدت سالي أنها غفت.
وقبل أن يمسّ النوم عينيها، سمعت همسًا صادرًا من جوارها:
"هل سترحلين حقًا؟"
فتحت سالي عينيها الناعستين، ونظرت إلى الفتاة التي لا ترى منها إلا ظلّ ظهرها وشعرها، فسحبت الغطاء إلى ذقنها، وقالت ببساطة:
"نعم."
سألتها فرح:
"إذاً، لماذا فعلتِ هذا؟ لماذا جئتِ اليوم؟ هذا بلا جدوى."
فكرت سالي قبل أن ترد، ولم تجد إلا إجابة واحدة:
"لأنني أهتم لأمرك."
"تقولينها ببساطة؟"
كانت الفتاة تعاتبها بهدوء، ففكرت سالي في أية مشاعر أخرى قد تدفعها للتصرف هكذا. هل هو إحساسها بالمسؤولية؟ بالتأكيد كان ذلك جزءًا كبيرًا من دافعها، لكنها كانت متأكدة أن تصرفها نابع من عاطفتها تجاه الفتاة، عاطفة يخالطها القلق والخوف عليها. فقالت بصدق:
"لأن هذه مشاعري بالفعل."
"ما دمتِ تهتمين لأمري، لماذا سترحلين؟"
التفتت سالي إليها، وشعرت بغصّة في قلبها فور سماع هذا السؤال. لقد حاصرت نفسها بنفسها، وهذا جعلها ترتبك وتتحدث في محاولة لحماية نفسها:
"فرح، هناك ظروف في حياتنا تدفعنا لاتخاذ مثل تلك القرارات المفاجئة."
فكرت سالي تحمي نفسها من ماذا؟ أجابت على هذا السؤال لنفسها:
'أحمي نفسي من التعلق بكم.'
كان هذا حديثها الداخلي الصريح، ولكنها أكملت حديثها الخارجي مع فرح وهي تحاول التبرير:
"الحياة لا تنصاع دائمًا لأمانينا."
تأملت فرح الجملة للحظات، ثم همست موافقة:
"نعم، أنتِ محقة."
قالت سالي في محاولة لتشجيع الفتاة:
"فرح، الناس يدخلون ويرحلون من حياتنا طوال العمر، ولا تبقى إلا العائلة، وأنتِ لديكِ تلك العائلة."
مرّت لحظات قبل أن تسأل فرح سؤالها الذي لطالما ألحّ عليها:
"ما معنى عائلة؟"
ابتسمت سالي بمرارة وأجابت:
"أعتقد أنكِ أفضل من يرد على هذا السؤال، وليس أنا."
"ماذا تقصدين؟"
تهربت سالي من تفسير مقصدها، ورددت معلوماتها عن العائلة ببطء:
"شخص يهتم لأمرك، لا يكف عن التفكير فيك، أنتِ أولوياته، يكون حاضرًا في أزماتك، يرفق بك في أخطائك، تسكنين في وجوده... بكل بساطة، هو شخص موجود دائمًا لأجلك. أعتقد أن هذا هو تفسير العائلة."
تذكّرت سالي والدها وهي تردد تلك الصفات التي تمنّت لو أنها وُجدت فيه، وفي المقابل، كانت فرح تفكر في المفهوم الذي قالته سالي، وسؤال يتردد في ذهنها. أليست العائلة تتكوّن من أب وأم وأولاد؟ لطالما كان هذا مفهومها عن العائلة، ولا تزال مقتنعة به، فهمست:
"هل الأمر بهذه السهولة؟ هل هكذا تتكوّن العائلة؟"
تنهدت سالي، ووالدها لا يغيب عن عقلها:
"ربما تفهمين كلامي فيما بعد."
سألتها فرح، وهي تتشبث بأي فرصة تمكنها من محاصرة سالي:
"قلتِ إننا أحيانًا نضطر لاتخاذ قرارات صعبة، هل قرار رحيلك عن هنا صعب؟"
همست سالي وهي سارحة في أفكارها:
"هل أمر رحيلي صعب؟"
صمتت لوهلة، ثم أكملت دون أن تدع لنفسها مجالًا للتفكير:
"لا أعلم... الرحيل ليس أمرًا سهلًا في كل الأحوال، ولكن من الأفضل أن أرحل الآن."
قالتها وهي تشعر بضيق شديد. ما بال هؤلاء الأطفال يضعونها في مواجهة مع نفسها ومعتقداتها؟ التفتت فرح، وعلى وجهها ابتسامة بالكاد لمحتها سالي بسبب الظلام، وقالت الفتاة:
"لطالما قال حسن ذلك، لكنه كان دائمًا يتراجع عن قراره... أتمنى أن تتراجعي عن قرارك مثله."
نظرت سالي إليها بتساؤل:
"حسن؟ لماذا قد يقول ذلك؟"
ابتسمت فرح وهي تعود بالزمن:
"عندما كنا صغارًا، كان يهدد الجميع في الدار، المشرفة والأمهات وإخوتنا، بالرحيل وعدم العودة أبدًا. وعلى الرغم من ذلك، لم يفعلها، رغم الضرب المبرح بسبب تمرده وقلة أدبه."
استرسلت فرح:
"هل تعرفين يا سالي؟ بناءً على تفسيرك للعائلة، حسن هو عائلتي قبل أن أرى ماما أنيسة وأبيه خالد، نشأنا في نفس الدار بجوار بعضنا البعض، ولطالما تم ضربه بسبب أخطائي التي كان يتستر عليها بنفسه. وعلى الرغم من ذلك، لم يشتكِ، ولم يسمح لي يومًا بالاعتذار منه أو مواساته. بل كان يعتني بي ويحميني"
أكملت الفتاة بحزن:
"حتى فصله من المدرسة الآن كان بسببي."
تألمت سالي على حال هؤلاء الأطفال، ومن هم مثلهم، وأنصتت إلى فرح التي أكملت حكايتها:
"في يوم من الأيام، جاء أبيه خالد وماما أنيسة، ورحلنا عن تلك الدار."
"كم كان عمركم؟"
"كنت اقترب من السادسة، بينما حسن قد أكملها."
تخيلت سالي فرح وحسن وهما صغيران، وشعرت بالفضول تجاههما، فسألت فرح:
"ماذا تعني لكِ ماما أنيسة ومستر خالد؟"
ابتسمت فرح بحب، وهي تستعيد ذكرياتها السعيدة، وقالت وعيناها تلمعان:
"ماما... لم أقابل أبدًا شخصًا حنونًا مثلها."
ضحكت:
"ولكنها تكون متوحشة عند الغضب."
أمهلت الفتاة نفسها لحظات لتكمل:
"أما أبيه خالد، فقد كان عمري ما يقرب للست سنوات عندما أتينا إلى هنا. في البداية شعرت بالخوف منه، ربما لاحظتِ أنتِ أيضًا أنه شخصية صلبة نوعًا ما، ولكن بمرور الوقت صرت لا أشعر بالأمان إلا في وجوده معنا هنا. لا أستطيع تخيل حياة سعيدة لا يكون فيها."
نظرت فرح إلى سالي وقالت:
"ولكنه لم يكن على وفاق مع حسن."
همست سالي وهي ترفع الغطاء إلى ذقنها:
"لماذا؟"
"لا أعلم... كنت صغيرة جدًا لأستوعب السبب. أتذكر أنني كنت أجلس على ساق ماما وأتشبث بها خوفًا، بينما الاثنان يتشاجران وأصواتهما تعلو. كان أبيه خالد يعاقب حسن كثيرًا، لكن حسن كان فظًا معه، ولا يسمع الكلام، ورفض كل ما قُدِّم له. هل تعلمين؟ لطالما شعرت أنهما متشابهان، كنت أرى فيهما نفس العيون العنيدة، ولطالما سمعت حسن يهدد أبيه خالد دائمًا بالهروب من هنا كما كان يفعل في الدار. ولكن فجأة هدأت العلاقة بينهما، وصارا يتفاهمان بهدوء ودون الكثير من الجدال، وأصبح الحال كما هو الآن."
لم يكن هناك المزيد من الحوار بين سالي وفرح، وساد صمت طويل، قطعته فرح:
"أنا آسفة... لم يكن أسلوبي معكِ اليوم لطيفًا."
تجاهلت سالي الاعتذار، فلم ترغب في فتح الموضوع مرةً أخرى، وسألتها:
"فرح، هل لديكِ أصدقاء غير هؤلاء الفتيات؟"
ضاقت عيون فرح قليلاً بسبب السؤال المفاجئ، ثم قالت:
"لا... هؤلاء فقط. تعرفت عليهم في بداية الصف الثانوي، وسمحوا لي بالبقاء معهم."
كان ذلك أغرب رد سمعته سالي:
"سمحوا لكِ؟"
قالت فرح بخجل:
"لم يكن لدي أصدقاء أبدًا في المدرسة، وكانت تلك فرصة لن تتكرر مرةً أخرى."
شعرت سالي أن حديث فرح اليوم ربما يشرح جزءًا من معاناتها النفسية، التي تحدثت عنها طبيبتها. هل كان الأمر ليختلف لو كانت لفرح عائلة طبيعية؟ هل تلك هي مشكلة فرح؟ اليُتم والفقدان كما قالت طبيبتها؟ نظرت سالي إلى فرح بعزيمة، وقالت لها بصوت جاد:
"فرح، اسمعيني... نحن لا نتسول الصداقة أو العلاقات أياً كانت. عليكِ دائمًا أن تنتقي الشخص الأفضل، لأن هذا ما تستحقه فتاة مثلك. هؤلاء الفتيات لسن صديقات صالحات، وكان من الواضح أنكِ لا تعنين لهن شيئًا."
لم يكن هناك تعبير على وجه الفتاة، التي قالت وعيناها تبهتان:
"هل تظنينني غبية؟ أعلم أنهم لا يهتمون بي حقًا... يأخذون مني المال كثيرًا، ثم أسمعهم يتحدثون عني ويقولون: اللقيطة."
شعرت سالي بالصدمة. لقيطة! هل هذا ما تمر به فرح في مدرستها ومع زميلاتها؟ يُنَادِينها باللقيطة؟! هل هكذا تتعامل الفتيات مع بعضهن في مثل هذا السن؟ لم تستوعب سالي الموقف. ما هذه القسوة التي قد تصدر عن فتيات في السادسة عشرة؟ هل جعلوها تقتنع أنها كما يقولون؟ لقيطة؟
تذكّرت ما قاله حسن، لم يكن مخطئًا، لقد سمعها بالفعل وهي تقول أن لا عائلة لها، هذا هو المعنى الرسمي لهذه الكلمة البشعة.
خرجت سالي من أفكارها على صوت فرح التي قالت، وهي تشعر بالفقد:
"لا أصدقاء لي غيرهم... سأكمل السادسة عشرة، سنتان وسأكون في الجامعة بلا أصدقاء... أريد أن تكون حياتي مثل جميع الناس، عائلة وأصدقاء... هل تفهمين؟"
قالت سالي وصوتها يعلو اعتراضًا:
"لديكِ عائلة! أم ربما لا تعتقدين ذلك؟ لا أقول إننا لا نحتاج إلى الأصدقاء، على العكس تمامًا، فوجودهم ودعمهم مهم. ولكن إن لم تجدي الأصدقاء، لديكِ العائلة التي تهتم لأمرك."
قالت فرح بصوت خافت يائس:
"ولكن... أريد أن يكون لدي أصدقاء."
"أنا أيضًا لم يكن لدي أصدقاء مقرّبون حتى وصلت إلى المرحلة الثانوية، وقررت أن أتعلم العزف على العود. ومن هنا، تعرفت على أصدقائي المقرّبين. وكذلك في الجامعة"
تأملت ملامح الفتاة اليائسة، ثم قالت:
"فرح، امضي في حياتك، وفي طريقك ستصادفين أناسًا يشبهونك وآخرين لا يشبهونك، وسيظل بجوارك من يريدك ومن تريدينه."
فكرت سالي لثوانٍ، ثم أكملت:
"بالتفكير في ذلك... لدي فكرة لطيفة، ما رأيكِ أن تشاركي في الأنشطة؟ هذا سيوسّع من دائرة معارفك."
تساءلت فرح بعينيها، فوضحت سالي:
"جربي أنشطة مثل المسرح، الموسيقى، الرسم، أو اذهبي إلى النادي. هذا مهم لفتاة في مثل سنك. يجب أن تظلي منشغلة حتى تبتعدي تمامًا عن هؤلاء الفتيات وتلك العادة، وفي الوقت نفسه تتعرفي على زملاء جدد. أعلم أن قطع علاقتك بزميلاتك ليس بالأمر السهل، لكن انشغالك عنهن بداية مهمة."
نظرت إليها فرح بخجل، ثم قالت بتردد:
"في الواقع... سبب عودتي إلى هنا مرةً أخرى، كان خوفي من نفسي. كان الفكرة تُلح علي، وكدت أن أفعل ذلك، ولكنني استطعت السيطرة على نفسي وجئت إليكِ."
رمشت عيناها بخجل وأكملت:
"وايضاً... لكي أعتذر إليك عن كلامي الفظ واسلوبي الغير مهذب".
احتضنتها سالي وقالت لها:
"أنا فخورة بكِ."
كانت سالي على علم أن هذا ليس نهاية الأمر. فرح فقط تداركت نفسها قبل أن تؤذيها، لكن هذا في حد ذاته تطوّر مهم. سمعت الفتاة تقول بحزن:
"أشعر بالندم والذنب... وأحتقر نفسي."
"هذا نابع من ضميرك وفطرتك النقية، لا بأس يا فرح بهذا الشعور. ولكن بما أنكِ أدركتِ أن عليكِ أن تتغيري، فعليكِ السعي لذلك. الطريق سيكون صعبًا وطويلًا ومرهقًا، ولكن مع الوقت سيتغيّر كل شيء وسيصبح أسهل."
فتنهدت الفتاة، وشعرت سالي بأن جسدها يرتعش وهي تقول:
"أرجوكِ لا تتركيني... لا ترحلي، ابقي معي قليلًا."
سمعت سالي توسل فرح ينسجم مع صوتها وهي طفلة تنادي والدها الذي رحل وتركها:
"بابا... عد إلى المنزل، لماذا تركتني؟"
لم تجب سالي على توسل الفتاة، وغصّة قلبها تتصاعد حتى وصلت إلى حلقها. تساءلت: كيف تراها تلك الفتاة لتستغيث بها، وهي الضيفة التي لم يمر على معرفتها بها سوى ثلاث أسابيع فقط؟ أغلقت عينيها بألم، في محاولة لطرد شعور موجع سيطر على قلبها.
بعد هذا الحديث الليلي الطويل، نامت سالي وفرح بأمان، ومرّ الوقت. شعرت سالي أثناء نومها بحركة مريبة، وبأن هناك ثقلًا فوقها. رمشت عيناها بقلق، وتذمّرت معترضة:
"فرح، ابتعدي عني قليلًا."
وبينما هي تبعد الفتاة، لمست كفًّا صغيرًا جدًا، ليدرك عقلها الذي استيقظ على الفور أن هذا الكف من المستحيل أن يكون لفرح.
فتحت سالي عينيها بسرعة، وتأملت المشهد أمامها بذهول.
نهاية الفصل العاشر.
وتستكمل القصة في الفصل القادم.
لا تنسوا الvote من فضلكم.
***
أهلاً قرائي الأعزاء وصلنا للفصل العاشر وقربنا من نهاية الجزء الأول، ممكن بعضكم يبقى مستني نقط التحول في القصة بفارغ، ولكن الجزء ده تمهيدي لنقط التحول القادمة قريب في نهاية الجزء الأول، علشان كدة أنا واخدة راحتي شوية في رتم الأحداث اللي هتتحول في الفصول الجاية بإذن الله. الأحداث الجاية كتيرة وفيها قصص جانبية وبطلتها أنيسة اللي هنعرف قصتها قريب.
مش معنى أن الجزء الأول هيخلص اني هوقف، بالعكس أنا متحمسة جداً أبدأ في الجزء الثاني على طول، أنا بس مقسمة الرواية أجزاء علشان تساعدني في ترتيب الأحداث. والقادم أفضل بإذن الله
بخصوص النشر على الواتباد، الموضوع محير جداً بالنسبة ليا، أنا حقيقي في حاجات ليا فيها وجهة نظر مخلياني مش حابة أكمل في النشر عليه، ولكن مش قادرة أوقف النشر عليه بسبب اني لو نشرت في مكان تاني فأنا هبدأ من الصفر، وأنا أصلاً مشاهداتي قليلة جداً هنا، فقررت أمسك العصاية من النص وأنشر على مدونة خاصة بيا، والفصول هتنزل عليها قبل الواتباد، فلو حد حابب يقرأ على المدونة اللينك موجود في البايو وبرضو هنزله في كل فصل. وللعلم أنا حولت المدونة لأبلكيشن هنزل اللينك بتاعه هنا برضو، عن طريق الأبلكيشن ده هقدر ابعتلكم تنبيه بنشر الفصل، ولكن للأسف الأبلكيشن اندرويد وبشتغل على الآيفون حالياً. علشان كدة وقتي مشغول جداً بين شغلي الأساسي والرواية والأبلكيشن، فأعذروني عن أي تأخير في نزول الفصول.
آخر حاجة بقى: أنا الفترة الأخيرة كنت حاسة باليأس من المشاهدات القليلة على الرواية وعدم وجود تفاعل كبير عليها يشجعني، وفي لحظة قررت اني أوقف، بس جالي تعليقات جميلة جداً خلتني عايزة أخلص الرواية حالاً، بشكر كل الناس اللي شجعتني وبوعدكم بالأفضل، وأي كومنت هيجيلي فيه نقد بناء على الرواية هاخده بعين الإعتبار علشان أصلح نقط الضعف فيها، على الرغم من إن تقبل النقد شيء عزيز شوية على النفس البشرية ولكني بفكر بشكل مختلف وبعلم نفسي تقبل الآراء برحابة صدر، أهم حاجة يكون بناء وغير مهين.
بشكركم جداً على طول بالكم واعذروني على أخطائي أكيد غير مقصودة، الفصل كان المفروض ينزل بكرة بس حاولت أخلصه بسرعة علشانكم، ونلتقي بإذن الله في الفصل الحادي عشر.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
رواية المنزل:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق