السبت، 10 أغسطس 2024

رواية المنزل: الفصل الرابع - ءَالَآء طارق


رواية المنزل: الفصل الرابع


رواية المنزل

الفصل الرابع

دمج

كان  يوم الخميس آخر يوم دوام في المدرسة، وفي وقت الراحة كان حسن يتجول في طرقة الطابق ويبدو أنه يبحث عن شخص ما، مر الفتى بجوار أحد الفصول التي صدر منها أصوات الطلاب، ولكنه توقف فجأة ونظر بفضول إلى لوحة الفصل كان فصل نور أخته التي كانت تابعة لنظام الدمج الدراسي، وهو نظام يشجع على دمج الطلاب ذوي الإعاقات مثل نور ورحيم ليختلطوا في المجتمع والمدارس كأفراد طبيعين. وكانت تلك أول سنة لنور في نظام الدمج حتى تختلط مع أقرانها في التعليم، وأول سنة لها في المدرسة على وجه العموم. على الرغم من علم حسن بأن أحمد يصطحب نور كل يوم في وقت الفسحة، ولكن فضوله جعله يعود إلى الخلف بضع خطواط وأدخل رأسه يتفحص المكان، فوجد مصدر الأصوات من مجموعة طلاب يلتفون حول أخته الكفيفة، وهناك كلمة تتردد بينهم لم يستطع حسن سماعها بوضوح، كانوا يتحدثون بشكل طبيعي، ولكن ما جعل الأمر غير طبيعي، أن هناك ابتسامات مريبة مرتسمة على وجوههم، وملامح نور الهادئة في العادة، لم تبشر بالخير، كانت متضايقة كما لاحظ، وبجوارها فتاة تنظر إلى نور بشفقه وبغضب إلى زملائها، شعر حسن بأن هناك أمر ما خاطئ، فدخل بخطواط خفيفة غير مسموعة إلا لأخته نور مرهفة السمع التي تميز خطواط الناس بسمعها، شعرت بها فوراً بها وتحرك رأسها في تجاه الباب تلقائياً، فنظر الطلاب إلى حيث اتجه رأسها، ليجدوا حسن يقف خلفهم، تأملهم حسن تبدلت ملامحهم إلى التوتر والخوف، فتقدم وتحدث ببرود:

- "نور تعالي".

تلهفت ملامح نور عند سماعها صوت أخيها، وحاولت النهوض بتوتر، ولكنها كادت أن تتعثر، وتمنت لأول مرة أن تكون عصاها معها، فاقترب حسن فوراً وأمسك بيدها وتحدث إليها برفق:

- "على مهلك".

نظر إلى زملائها ببرود، ثم التفت وسار بجوار أخته، وبينما وهما يمشيان في الطرقة، لمح حسن أحمد يتقدم راكضاً من بعيد. وقف أحمد الذي تفاجأ بحسن مع نور، قال باستغراب:

- "ما الذي حدث؟ لماذا أنت هنا؟".

- "لا شيئ جئت لأصحبها، أين كنت؟".

تنهد أحمد بملل وقال:

- "كنت في مكتب المعلم، كان يشرح لي بعض المسائل التي لم أفهمها ولكنها أخذ وقتاً طويلا".

تأمل احمد نور الهادئة، وشعر بأن هناك أمراً خاطئاً فسألها بريبة:

- "نور هل انت بخير؟".

رفعت نور رأسها عند سماعها أسمها، وأبتسمت بلطف قائلة:

- "بخير".

لكن أحمد الذي يعرفها جيداً أدرك أنها ليست بخير، ولكنه لم يلح عليها، فنظر إلى أخيه وقال:

- "أذهب أنت الآن، سأرافقها أنا".

ترك حسن نور وسلمها إلى أحمد، ثم  ذهب ليكمل باقي مهمته. أمسك أحمد ذراع نور برفق، كانت ملامح الضيق تظهر على وجه  الفتاة أكثر فأكثر، وبينما وهما يسيران ببطئ، تحدثت نور وقطعت شرود أحمد:

- "هل فهمت مسائلك؟".

نظر إليها أحمد بحيرة وأجاب:

- "نعم".

وبعد ثوانٍ أكمل:

- "في الواقع لم أفهمها بشكل كامل".

أدرات نور رأسها إليه:

- "لماذا؟".

- "كنت أدقق في الساعة، خفت أن أتأخر عليك".

أجابت الفتاة وهي تخفض رأسها قائلة بهدوء:

- "لا بأس، حسن جاء".

تضايق أحمد من الرد، ولم يرد عليها، فتبدلت ملامح نور إلى الحزن، وقالت بعد ثوان:

- "أحمد لا تشغل بالك بي بعد الآن، كان عليك أن تنتبه إلى شرح المعلم وليس إلى الساعة، وقت الفسحة لا يعني شيئاً لي، لذلك لا تقيد نفسك بي".

نظر إليها الفتى باستغراب قائلاً:

- "أنت تعلمين أن هذا لا يضايقني، أنا أفعل هذا بكامل إرادتي".

قالت الفتاة بثبات وجرأة لم يتوقعها أحمد:

-"ولكن هذا أصبح يضايقني".

تأملها الفتى بصدمة، ولكنها أكملت وهي تتوقف فجأة وتقول بصوت صارم:

- "بعد اليوم لا تأتي إلى فصلي في وقت الفسحة، أفضل البقاء في الفصل".

ابتلع الفتى ريقه، وسألها وهو محتار من تصرفها المُفاجئ:

- "نور ماذا حدث؟ هل هناك شيء لا أعلمه؟".

ردت نور وهي تحاول السيطرة على أعصابها وقالت متمتمة:

- "أخبرتك من قبل لا شيء قد حدث، أنا أكره هذا السؤال!".

قال أحمد وهو يحاول فهم هذا المزاج الحاد والذي لا مبرر له:

- "نور سأساعدك".

ردت الفتاة عليه بثبات، وغضبها يتصاعد:

- "لا أحتاج مساعدتك".

- "نور...".

- "لا تكن لحوحاً، ولا تتدخل مرةً أخرى في شئوني! اتركني وشأني".

كانت تلك أول مرة ترفع نور صوتها وتثور أعصابها. جاءت من الخلف زميلتها التي كانت تجلس بجوارها في الفصل وتدخلت:

- "لماذا تتشاجران؟".

التفتت نور بسرعة وبحثت عن ذراع زميلتها وقال:

- "لنذهب إلى الفصل".

نظرت الفتاة بينهما بحيرة ولكن نور شدت على ذراعها فتنبهت الفتاة ورافقت نور إلى الفصل. وقف أحمد مذهولاً ينظر إلى ظهر نور التي تبتعد عنه، كانت تلك أول مرة يصدر منها مثل هذا الرد العصبي العنيف، خاصةً معه هو. وهنا كان متأكداً أن هناك أمراً ما جعلها بهذا التوتر، أمر لا يعلمه، وعليه أن يكتشفه

***

يتيمة

اجتمعت الفتيات في الحمام حول فرح المتوترة، ودفعتها إحداهن إلى الحائط ولكن برفق:

- "هل تقولين أنك أخبرت تلك الطبيبة عن سرنا يا فرح؟".

دافعت فرح عن نفسها وهي تنظر إلى الجماعة التي تقف حولها:

- "لم أخبرها، بل هي رأتني، وكنت مضطرة لشرح الأمر لها، ولكن لا تقلقوا فقد وعدتني أنها لن تخبر ماما أو أبيه".

اقتربت الفتاة منها وقالت بغضب:

- "حقاً؟ ومن قال أنها ستحفظ السر، إنها طبيبة لن يمر الأمر دون أن تخبر المسؤولين عنك في الدار الذي تعيشين فيه".

قالتها الفتاة بخبث، فدافعت فرح عن نفسها بسرعة ووجهها يشحب:

- "أنا لا أعيش في دار".

سألتها زميلتها بخبث:

- "إذاً أخبريني أن تعيشين يا فرح اللقيـ".

كانت تحاول اهانتها وجرحها أمام باقي الفتيات كالعادة، فتدخلت إحدى الفتيات قبل أن تكمل الكلمة الجارحة:

- "لا داع لهذا الكلام يا دينا، علينا الآن أن نتأكد أن تلك الطبيبة لن تخبر أحد، لو علم أحد بسرنا فالعواقب لن..".

لقيطة، كانت تلك الجملة التي ستنطقها دينا، وبعدها لم تسمع فرح باقي الحديث الذي دار أمامها، شعرت بالإختناق من تجمع هؤلاء الفتيات حولها، فضاق المكان بها واصاب الشلل حواسها، إلا جسدها الذي لم تعلم من أتى بالطاقة ليدفعهم عنها بقوة، وركضت بعيداً عنهم، ركضت الفتاة حتى وجدت نفسها تجلس خلف مبنى المدرسة وتحتضن ساقيها، كان جسدها يرتجف وعيونها دامعة، لم تكن تلك المرة الأولى التي يتم التلميح عن وضعها، ولكن هذا اللفظ! كيف لكلمة أن تهز كيانها بهذا الشكل القاسي، كلمة واحدة دفعتها في لحظة لأن تفقد إيمانها وثباتها وثقتها في عالمها، تساقطت دموع فرح وبكت بحرقة، ومر الوقت وهي على هذا الوضع تتألم وتفكر حتى دست يدها في جيبها وأخرجت الآلة الحادة، ثم نظرت من حولها بحذر وترقب، وعندما تأكدت أنه لا يوجد أحد في الجوار قد يراها، كشفت عن معصمها الدقيق، ترددت في البداية قبل أن تلمس بها جلدها، ولكن غلبتها نشوة هذا الفعل الأخرق، وضغطت على جلدها الرقيق بقوة محدودة.

- "إن لم ينته هذا الأمر سأخبر خالد".

كان صوت بارد كالجليد أثار القشعريرة داخلها، فنظرت خلفها بفزع، لتجد حسن يقف مُستنداً على جدار المبنى ويده في جيبه، وكالعادة يرمقها بنظرات لامبالية فيها القليل من الحدة. اقترب حسن منها بخطوات مُتباطئة، ومد يده مُلتقطًا الآلة الحادة منها ورماها على الأرض وهو لا يدرك أنها جرحته، فسألته وهي ترفع رأسها بذهول وحذر متأملة ملامحه صعبة التفسير:

- "حسن منذ متى وأنت تعلم، من أخبرك؟".

كان صوتها بطيئاً مرتجفاً بسبب البكاء والصدمة، وعيونها يحاوطها اللون الأحمر من شدة البكاء. تجاهل حسن سؤالها، ودقق النظر في معصمها المشوه الذي تخبئه دائمًا، فنهضت وأمسكته من ذراعه والذعر بدأ يسيطر على عيونها المهتزة وهمست وشفتيها ترتعشان:

- "سالي؟".

نظر حسن إلى أخته وهو يعقد حاجبيه ويميل رأسه مُستفهماً:

- "سالي؟، تلك الطبيبة؟ هل هي تعلم؟".

أطلقت فرح نفسًا كانت تحبسه، وأدركت من رد فعله أن سالي لم تخبره، فأطلقت سراح يده وهي تقول بخمول، وعينيها تائهتان:

- "حسن، لا تقلق، أنا حذرة ولن أؤذي نفسي".

حدق الفتى في أخته التي تتفوه بكلام غير منطقي:

- "أنت تؤذين نفسك بالفعل".

سألته فرح وهي تضيق عينيها مُتأملة:

- "منذ متى وأنت تعلم؟".

أجاب اخيرًا على هذا السؤال:

- "رأيتك من فترة".

لمحها حسن ايضاً في مرة من المرات كما لمحتها سالي، تساءلت الفتاة من أيضاً لمحها؟ كان المكان الوحيد الذي اعتقدت أنها لن تُكتشف فيه خاصةً في الليل عند النافورة، لم تفعل ذلك أبداً في غرفتها، وهي تعلم أن إخوتها الذين يشاركونها الغرفة ويتمتعون بالدهاء لا يتركون أحداً لحاله. لمعت الحياة في عيون فرح، ثم قالت بحذر وهي تجذب وجه أخيها الذي ينظر إلى معصمها:

- "حسن أنظر إلي أرجوك لا تخبر أحد، ماما أو خالد، أنا أحاول أن أقلع عنها لذا لا تفشي هذا السر".

نظر الفتى إليها بخبث، وهنا أدركت فرح أنها في ورطة مع هذه النظرة التي تعرفها منذ أن كانوا صغاراً في نفس دار الأيتام، فقالت بيأس وهي تشد على كمه:

- "حسن أرجوك!".

أمسك حسن يدها التي تمسك بكمه، وأخرج من جيبه منديل ومُعقم قائلاً بلا مُبالاة:

- "لن أخبر أحد".

تأملت فرح وجه أخيها الذي يعقم جروحها بتركيز وحذر، هذا الفتى الذي كان رفيقها منذ أن فتحت عينيها على هذه الحياة، عندما كانوا في الدار يتشاركون الفرح والألم سوياً، كان يعلم أنها تقوم بهذا الفعل الخطير وتؤذي نفسها بلا مبالاة، فأحضر المُعقم احتياطاً. نظرت إلى معصمها الذي يمسكه برفق ويضمده بيده الخشنة المتهورة، أخفضت رأسها وتجمعت الدموع في عينيها لتسقط على معصمها المجروح، فيكون وقع هذه الدموع الساخنة أكثر حرقة لجرحها من حرق المُطهر، همهم الفتى وعيناه ويداه مُنشغلتان في تضميد جروحها:

- "لماذا تفعلين هذا؟".

وضعت يدها الأخرى على عينيها وهي تبكي:

- "لا أعلم!".

بعد ثوان أزاحت يدها التي غطت عينها ثم نظرت إليه بتوسل:

- "حسن ساعدني!".

لم يتحدث حسن مرةً أخرى بعد تلك النظرة التي يعرفها، وأكمل تطهير جروحها بيده الخرقاء القاسية المجروحة، فقط صوت بكاء فرح الحزين وشهقاتها يترددان في الأجواء الهادئة وراء المبنى، بعد أن أنهى الفتى تعقيم الجروح، أخفض الكم على الجرح وأمسك يد أخته وسحبها ليكملا الباق من يومهم الدراسي.

***

عاد الأطفال من المدرسة وتناولوا غدائهم، وفي المساء كانت سالي في غرفتها تعبث في هاتفها عندما سمعت صوت طرق منخفض على الباب الذي فتحته لتتفاجأ بأميرة أمامها:

- "ماما أرسلتني لأبلغك أن تأتي وتشاهدي معنا الفيلم في غرفة المعيشة".

كانت سالي تعلم أنهم سيجتمعون الليلة في غرفة المعيشة، فاليوم هو الخميس حيث يجتمع كل من في البيت بالإضافة إلى المربيات ليشاهدوا معاً فيلم السهرة ولكن خجلها وتحفظها جعلاها تختلي في غرفتها بدلاً عن اقتحام مثل تلك الجلسات العائلية الهانئة وقطع صفوها، ولكن أنيسة كانت امرأة مراعية ولطيفة إلى الحد الذي يجعلها تدرك مثل هذا الأمر، لذلك أرسلت أحد الأولاد ليستدعي سالي ويسألها لتشاركهم الأمسية، ووقع اختيارها على أميرة، فتاة لطيفة وهادئة ترتدي نظارات وتبلغ من العمر 13 عاماً، يبدو من تصرفاتها أنها عاقلة ورزينة ولا تثير المشاكل، وكان على سالي ألا ترجع الطفلة خائبة  فقالت لها بلطف:

- "حسناً يا أميرة، أشكرك على إبلاغي".

التفتت الفتاة لترحل ولكن سالي سبقتها وسألت:

- "ما رأيك أن تنتظريني وننزل معاً، تفضلي لن أستغرق وقتاً طويلاً لأبدل ملابسي".

كانت معالم الحيرة على ملامح أميرة، ولكنها دخلت مع سالي التي تركتها في الغرفة بمفردها لتبدل ملابسها في الحمام، انتظرت الفتاة بهدوء وهي تتأمل الغرفة، حتى لمحت كتاب النظرات والعبرات على المكتب، فالتقطته وبدأت تتفحصه بتركيز، ومر الوقت حتى خرجت سالي من الحمام وبين يديها شال خفيف، ولمحت الفتاة تتفحص الكتاب، سألت أميرة بفضول:

- "هل هذه قصص قصيرة؟".

قالت سالي وهي تنظر إلى الكتاب بين يدي الفتاة:

- "نعم، النظرات والعبرات كتاب قصصي لمصطفى لطفي المنفلوطي".

قلبت أميرة الكتاب لترى صورة المؤلف على ظهره وقالت بحيرة طفولية:

- "لم أسمع عنه من قبل، هل هو صعيدي؟ شكله غريب ليكون كاتب".

ابتسمت سالي على الطفلة وهي تسألها:

- "وما المشكلة؟".

- "أقصد أن هيئته لا توحي بأنه كاتب".

أجابت سالي وهي تشعر بالتسلية من حيرة الطفلة:

- "لو قرأت النبذة عنه في غلاف الكتاب ستدركين أنه واحد من أهم أدباء مصر".

تركت أميرة الكتاب وهي تقول دون شغف:

- "أنا لا أقرأ الأدب العربي، لذلك لا علم لي بهؤلاء الأدباء".

عقدت سالي حاجبيها:

- "وماذا تقرئين؟".

- "الأدب العالمي والكتب العلمية فقط، الأجنبي دائماً الأفضل حتى في كل المجالات ليس الأدب فقط".

تأملتها سالي، ولاحظت أنها تختلف عن إخوتها، كانت فتاة نبيهة وذكية، ولكن يبدو أنها وقعت في فخ "عقدة الخواجة"، فقالت لها:

- "ومن قال أن أدبنا وتاريخنا الشرقي لا يجاري في جودته الأدب العالمي؟ بل إنه الأفضل".

نظرت الفتاة إلى سالي بحيرة وقالت:

- "هذا معروف دائماً، هل قرأت لشيكسبير؟ دوستويفسكي؟ كافكا، جورج أوريل؟ لم أسمع يوماً عن أديب عربي نافس هؤلاء".

ذهلت سالي من معرفة أميرة الواسعة بمثل هؤلاء الأدباء، ولوهلة عجزت عن الرد عليها حتى نظرت الفتاة إليها بابتسامة المُنتصر، ولكن سالي استجمعت أفكارها ثم قالت:

- "قرأت لهم بالفعل وأستمتع بأعمالهم، ولكنهم لا يمثلونني كسالي، هؤلاء الأدباء الأوروبيون يمثلون أجيالهم وثقافتهم وهويتهم الأوروبية، أما أدباء العرب فلم تسمعي عنهم لأنك لا تهتمين بهم".

- "وما الذي يمثلك أنت؟".

نظرت سالي إلى كتاب النظرات:

- "يمثلني كمصرية، المنفلوطي، طه حسين، العقاد، الطهطاوي، إحسان عبد القدوس، نجيب محفوظ، مصطفى محمود، وغيرهم من الأدباء والشعراء والمثقفين، الأدب الفرعوني مثلاً لو تفقدته ستجدين أروع القصص والتراتيل فيه، والأدب العربي شعراً ونثراً، أنا يمثلني أدبي وتاريخي بكل آرائه اختلفت معه أم اتفقت، أنت بانحيازك لثقافة أخرى ترفضين وتقللين من شأن ثقافتك وتراثك، على الرغم أننا نحن من علمنا العالم بأجمعه، نحن من سبقنا في الفلسفة والرياضيات علوم الفلك والطب، بدءاً بحضارتنا الفرعونية وحضارة بلاد الرافدين، إن من تتحدثين عنهم هم نتاج تعليمنا، نحن من طورنا المعرفة العلمية ونقلناها إلى العالم أجمع، وهم استغلوا هذا جيداً، وللأسف نحن المصدر لم نعي ذلك، هذا فقط الفرق بيننا، نحن مجموع حضارات عظيمة لم ولن يأت مثلها أبداً وعلينا أن نفخر بذلك بل ونطورها، لا أن نتنصل منها حتى تخمد وتُنسى وينسب فضلها للآخرين، أو تُسرق من لصوص التاريخ الطامعين فيها كما يحدث مع هويتنا المصرية القديمة".

كانت أميرة تنصت إليها بتعبير لم تستطع سالي تفسيره، وشعرت سالي أنها قالت ما هو أكبر من مدى استيعاب الطفلة التي نظرت إليها بغرابه، فقالت وهي تضع الشال حول كتفيها:

- "هل نذهب؟ لقد تأخرنا عليهم".

اومأت أميرة بابتسامة مهذبة لم تصل إلى عينيها ثم نزلوا معاً، كان الجميع في غرفة المعيشة ويتوافدون بالتتابع، علت الأصوات بشكل مبالغ فيه بسبب كثرة العدد، حتى قطع هذا الصمت صوت لم يتوقعوا أن يسمعوه أبداً، بل كان غريباً عليهم. دخلت نور وهي تتحس الأرض بعصاها ذات اللون الأبيض التي رفضت استخدامها أبداً، كانت الفتاة الكفيفة تتحرك في المنزل بسهولة نظراً لأنها تعودت على المكان، ولكن خارج المنزل كان لابد من مرافق ويحرص على مساعدتها، وأقرب شخص لها يقوم بتلك المهمة كان أحمد، ولم يكن هذا دون رغبة منه بل بكامل إرادته، واليوم نور تعلن رفضها تلك المساعدة باستخدام العصا التي بكت بسببها عندما اشتراها لها خالد، رفضت الفتاة تلك العصا من قبل، وأصرت على أنها تستطيع التحرك دون استخدامها، حتى لو يكن معها مرافق، ولأنه لم تقع الكثير من الحوادث  لنور، كان استخدام تلك العصا الآن أمراً غريباً ومفاجئاً بالنسبة للجميع، وإعلان تخليها عن المساعدة والاعتماد على النفس.

تأملت سالي الفتاة الكفيفة التي تتحرك بسهولة بعصاها وتتجه حيث تناديها السيدة منى بثبات وبمفردها ودون مساعدة، نظرت سالي إلى أحمد الذي يرافق الفتاة في كل خطوة تخطوها، لتجده يجلس في الزاوية  كئيباً حزيناً يتأملها دون أن ينبس ببنت شفة، لم تكن سالي على إحاطة بكافة الأمور والظروف في المكان، ولكنها شعرت أن العلاقة الصافية بين الفتى وأخته متوترة وعلى غير العادة، وأكدت نظرات أنيسة القلقة لهما هذا الأمر. اتجهت سارة إلى أختها نور وسألتها وهي تلمس العصا:

- "نور أنا أيضاً أريد أن ألعب معك بالعصا".

ظنت الطفلة الصغيرة أن نور تلعب بها، لذلك كان سؤالاً بريئاً صادراً من طفلة لم تتعد الخمس سنوات، فأجابت السيدة منى عن نور، وقالت لسارة بلطف:

- "سارة، هذه ليست لعبة، تلك العصا تساعد نور لتتفقد طريقها، علينا جميعاً أن نكون حريصين عليها، أليس كذلك؟".

أقسمت سالي في سرها أن الطفلة لم تفهم معنى الكلام ولكن سارة طفلة مطيعة، أومأت برأسها ولم تقترب من العصا مرةً أخرى، وكان على السيدة منى أن تكرر نفس الجملة لباقي الأطفال الذين يلمحون العصا ويريدون إمساكها. على الرغم من عدد الأطفال الكبير إلا أنه كان هناك صبر وطول بال من البالغين تجاه الأطفال، وهذ أعجب سالي بشدة وجعلها تراقبهم من بعيد عن كثب دون أن تلتفت إلى الفيلم. وبينما والجميع يتحدث دخل خالد عليهم فجأة وهو يبحث بعينيه  في الغرفة، فتقدم إليه فؤاد وهو ينظر إلى خالد بعيونه الواسعة الفضولية، ورفع لوح الشطرنج قائلاً:

- "أبيه، العب معي الشطرنج، ليان ترفض اللعب معي ولا أجد أحداً ليلعب معي".

وضع خالد كفه على الرأس الصغير قائلاً:

- "حسناً ولكن أعطني الوقت يا فؤاد لأتحدث قليلاً مع حسن، اتفقنا؟".

أومأ الفتى موافقاً برأسه، فمسح خالد شعره البني بلطف، ونظر إلى حسن قائلاً:

- "تعال يا حسن لنتحدث معاً قليلاً".

نظر حسن إلى أنيسة التي تجنبت نظراته، ثم إلى منى التي ادعت الانشغال مع ماريا، وفهم الفتى الخطة المحاكة ضده، فنهض على مهل ورافق خالد الذي سمح له بالمرور أولاً ثم تبعه، تأملتهم سالي من بعيد ولاحظت أن الأثنان يشبهان بعضهما البعض في المشية البطيئة المتمهلة والتي توحي بالخطر. كانت أيضاً السيدة منى تراقبهم بحذر وترقب وبالكثير من الفضول، الذي قطعته ماريا بصفعة على وجهها.

***

فوق السطح، أشعل خالد الأضواء، فتلألأ المكان بالضوء الدافئ الزاهي، ليظهر سطح مجهز ومرتب بشكل جميل جداً للعينين، جلس الأثنين على أريكة منخفضة جداً ولكنها مريحة، قال خالد لحسن:

- "كيف حالك؟".

نظر حسن إليه بسخرية:

- "أنت لم تغب عنا سوى أسبوع، لذا; لا داع لهذه الرسميات".

أجاب خالد مُتنهداً:

- "يجب أن أعلمك اللياقة في الحديث، هذا لا يليق بشاب مثلك في السادسة عشر من عمره".

نظر حسن إليه:

- "شاب؟".

ابتسم خالد بمكر وهو يجاري الفتى صعب المراس: 

- "وكيف ترى نفسك؟ طفل؟".

لم يرد حسن عليه وأشاح بوجهه متأملاً السماء ثم سأله:

- "لماذا أردت الحديث معي؟".

قال خالد بهدوء:

- "أنت تعلم لماذا".

باغته حسن وأجاب عليه مُقدماً:

- "لن أقدم في المسابقة".

- "إذاً هل لك أن تخبرني عن السبب؟".

- "لا أريد أن أكون ملاكم، لا أستطيع تحديد مستقبلي من خلالها ممارسة هذه اللعبة".

تفاجأ خالد بكلمة مستقبل التي نطقها حسن، ولم يتخيل أن الفتى في مثل هذا السن قد بدأ في تخيل مستقبله فسأله وهو يتفحصه محتاراً:

- "وكيف ترى مستقبلك الآن؟".

- "لا أعلم ولكن أشعر أن هناك الكثير من الأمور غير الملاكمة عليّ أن أجربها، حتى أحدد على الأقل الجامعة التي سأدخلها، الملاكمة ستقيدني وتشغلني عن ذلك".

- "وما الذي تريد أن تجربه؟".

التفت حسن إليه وابتسم قائلاً:

- "أريد أن ألعب الكرة، السهر مع أصدقائي حتى الفجر"

سكت الفتى ثم أكمل بمكر:

- "وربما أشرب السجائر؟".

نظر خالد ببلاهة إلى الفتى الذي اتسعت ابتسامته، فمسح وجهه بيأس قائلاً:

- "لديك ثقة عالية بالنفس، اعتقدت أنك ستقول مثلاً أنك تريد تعلم البرمجة، العمل في وظيفة صيفية أو مرافقتي في المكتب، شيء من هذا القبيل".

قال حسن مُبتسماً:

- "ربما أفعل هذا وذاك، لما لا؟".

اقترح خالد عليه:

- "حسناً افعل ذلك مع الملاكمة".

هز الفتى رأسه:

- "لا أريد، إنها تقيدني، وأنا لا أحب ذلك".

بعد لحظات من الصمت والتفكير، تنهد خالد قائلاً:

- "إذاً، لن نخوض في هذا الموضوع أكثر من ذلك".

نظر حسن إلى خالد باستغراب:

- "هل ستسمح لي بذلك؟".

قال خالد وهو يستند براحة:

- "سأسمح لك بمساحة من الحرية ولكن بشروط".

تذمر حسن:

- "وهل هناك حرية مشروطة؟".

كان سؤالاً ذكياً من هذا الفتى فقال خالد:

- "هذا يعتمد على مفهومك أنت للحرية، أخبرني ما هي الحرية؟".

- "أن أفعل كل ما أريده في الحياة دون شروط أو قيود أو خوف".

ابتسم خالد قائلاً:

- "هذه الحرية دون إدراك ووعي لدورك كانسان في مجتمع كبير، أسميها حرية غير أخلاقية، حرية غير مسؤولة وهذا سيؤذيك في النهاية، وسيؤذي من حولك".

لم يرد عليه حسن، فأكمل خالد:

- "سأسمح لك بالخروج والسهر، ولكن بشروط وفي أماكن وأوقات مناسبة".

سأله حسن بمكر:

- "والسجائر؟ بمناسبة أنني صرت شاباً ولم أعد طفلاً".

نظر خالد إليه بابتسامة متلاعبة:

- "جرب هذا وستعاقب عقاب لم تختبره أبداً طوال حياتك أيها الشاب".

ضربه الرجل رأس الفتى الماكر وابتسم الاثنان، مسح خالد على رأس حسن وهو يفكر كم لقد نضج هذا الفتى كثيراً عن الماضي، لم يكن هذا التمرد الذي ظهر فجأة كالذي رآه من قبل في حسن الذي دخل المنزل لأول مرة، الفتى الجامح العنيد الرافض لكل ما قُدم إليه، تبدلت نظرات التحدي والعند في عيونه بالهدوء والشرود، ما زال طائشاً بالفعل ولديه الميل لتعدي الخطوط الحمراء، ولكنه صار يفكر كثيرا وهذا مهم ونادر لفتى في سن المراهقة في مثل هذا الجيل، لذلك لم يكن خالد مرتاباً من هذا النوع الجديد الذي ظهر فجأة في الفتى. قاطع حسن أفكاره قائلاً:

- "عليك النزول الآن، ففؤاد ربما ينتظرك حتى الصباح".

تذكر خالد الفتى الصغير الذي وعده بلعب الشطرنج معه، هذه مسؤولية أخرى واجب تنفيذها..

***

بعد تلك الأمسية اللطيفة، اتجه جميع من في المنزل إلى غرفهم، عم الهدوء المنزل إلا من همهمات الأطفال الصغار المشاغبون التي خفتت بمرور الوقت حتى تلاشت تماماً، وعم الصمت المنزل، ولكن شخص واحد كان عقله صاخباً، يحمل داخله قلقلاً وهماً يثقلان قلبه، هذا الشخص كان السيدة أنيسة، شعرت المرأة أنه كان هناك شيء خاطئ في الفتاتان نور وفرح، لم تكن الأجواء المحيطة بهن على ما يرام، وهذا جعلها قلقة، وإن شعرت بالقلق لن يمس النوم جفونها، لذلك كان عليها أن تطمئن عليهن، وبالفعل اتجهت إلى غرفهن. الغرفة الأولى كانت تخص فرح والتوأم وليلي، دخلت الغرفة التي تضم ثلاثة سرائر بهدوء شديد حتى لا يستيقظ التوأم ويثيروا الصخب، أطمأنت على ليلى التي تنام بهناء واتجهت إلى سرير فرح، وجلست تتأمل المراهقة النائمة، لم تكن لديها النية لتوقظها، بل تأملتها بحب وهي تراها سالمة آمنة أمامها، وتنام على سريرها بهدوء، وضعت يدها على شعر فرح الجميل وهمست:

- "حبيبتي، يا ترى ما الذي تمرين به؟".

حركت فرح جفونها بقلق، ولكنها هدأت مرةً أخرى. فكرت أنيسة، إن كان هناك شيء تستطيع فعله لتحرر هؤلاء الأطفال من أحزانهم ستحرك الجبال لأجل فعله، همست بصوت مهتز:

- "فأنتم أغلى ما لدي".

شعرت أنيسة بالطاقة تدب في جسدها العجوز الهزيل، عندما تخيلت أن أطفالها في حاجة ماسة إليها، مسحت مرة أخرة على شعر الفتاة، وكأنها تتأكد أنا بخير، ثم غطت جسدها ونهضت بهدوء كما دخلت وأغلقت باب الغرفة دون أن يشعر بها أحد. فتحت فرح عينيها وتأملت سقف الغرفة بعيون فارغة، كانت بالفعل مستيقظة.

اتجهت أنيسة إلى الغرفة التالية التي تضم أربع سرائر يشغلها نور، ليان، أميرة، ويحى وسارة على سرير واحد، وجدت أميرة مستيقظة بالفعل وتدرس بجد كما هي عادتها، التفتت الفتاة فور سماعها صوت الباب، وقالت باستغراب:

- "ماما هلى هناك شيء؟".

اتجهت أنيسة إلى أميرة وجلست على سرير الفتاة بجوار المكتب وهي تقول هامسة:

- "لا شيء حبيبتي، لماذا لا تنامين؟".

نظرت اميرة إلى دفترها وردت بنفس طبقة الصوت الهامسة:

- "هناك بعض الدروس علي أن أراجعها، لن أتأخر".

ابتسمت أنيسة ونظرت إلى نور بقلق، لاحظت أميرة قلق أمها وقالت:

- "ماما لا تقلق على نور، أنا بجوارها".

تفاجئت أنيسة من إحساس أميرة بالمسؤولية تجاه أختها، فابتسمت والقلق مازال باد على وجهها وقالت:

- "هل تعلمين ما بها؟ تلك الطفلة ليست بخير".

قالت أميرة وهي تتأمل نور:

- "لا لم نتحدث، ولكن أنا أيضاً شعرت بذلك، كان غريباً أن تطلب مني مساعدتها في البحث عن العصا التي أعطاها لها أبيه خالد، وهي قد رفضتها من قبل".

- "هل تشاجرت مع أحمد؟".

مال رأس أميرة بحيرة وقالت:

- "أعتقد هذا، من الواضح أن علاقتهم ليست على ما يرام".

لم ترد أنيسة على أميرة، كانت  مشغولة ومهمومة بهموم الأطفال، نظرت بشفقة إلى جميع الأطفال النائميين بهناء في الغرفة، تلك النفوس البريئة الصغيرة، كيف لها أن تتحمل قسوة الحياة، شعرت أن رغبتها في حمايتهم فاقت الحد، وأن هذا ربما يصل إلى حد المرض، فاستغفرت ربها ونهضت وهي تقول لأميرة:

- "ليلة هانئة حبيبتي، لا تتأخري في النوم".

***

لماذا يقطف البشر الورود

كان هذا يوم الجمعة، الساعة الرابعة والنصف فجراً ومازال الكون نائماً ساكناً، إلا من صوت باب الدفيئة الذي فتحه عم حمدي، أصدر الباب أزيزاً منخفضاً، ولكن مزعج للسامعين، أفسح الرجل المجال للمرأة المسنة للدخول أولاً:

- "تفضلي".

دخلت أنيسة وهي تتمتم بصوت خفيض:

- "شكرًا لك يا عم حمدي، تستطيع الذهاب الآن وسأبلغك عند خروجي".

فتحت المصابيح وأنيرت الدفيئة بضوء خافت ورحل الرجل بعد تلقي التعليمات، ليترك المرأة التي تجولت في المكان بخطوات بطيئة مُتمهلة. تدفقت حركاتها البطيئة بسلاسة في طريق ممهد يحفه من الجانبين رصيفان تنبت منهما شتى أنواع الزهور بشتى الألوان الزاهية، تدلت أصائص الزهور أيضًا من دعائم السقف ليخلق هذا الترتيب صورة زاهية مُبهرة لا تقل سحرًا أو جمالاً عن الحديقة في الخارج. في نهاية الدفيئة كان هناك باب آخر وامامه طاولة يحاوطها أربعة كراسي. تأملت أنيسة المكان الجميل وعلى وجهها ابتسامة فخر خفيفة تحولت فجأة إلى ابتسامة مريرة وهي تستوعب احدى الحقائق المرة:

- 'ألن يكون هذا المكان أكثر جمالاً لو كنت هنا؟'.

لم تجد المرأة إجابة على السؤال الذي سئل فقط داخل عقلها. كانت تخطو خطوات بطيئة، ومع كل خطوة تجلب سيلاً من الذكريات الجارفة تعذبها وتلح على قلبها الضعيف المشتاق. اتجهت إلى حيث تنبت أزهار التوليب الحمراء، وانحنت تتأملهم بافتنان وتتحسسهم برفق، ثم مدت يدها مُلتقطة شيء ما قريب، كان مقصاً لقطع الورود. استخدمت أنيسة المقص بحرفية وهي تفصل الورود عن مصدر حياتها، كانت صوت قطع سوق الورود يذكرها بذلك اليوم الذي لم تنسه أبداً، اليوم الذي لطالما أملت أن يكون ليس إلا حلم نابع من مخاوفها، ربما لما لا؟، ربما يكون حلماً ونحن لا ندري، فهل الحالم في حلمه قد يتوقع لوهلة أنه مجرد حلم أو وهم؟ استفاقت المرأة الحالمة على صوت المقص الذي اخرجها بقسوة من أملها، فتأملته، هذا المقص الذي لا يرحم كان يقطع الزهور بكل بساطة ودون مقاومة فعليه، جعلها تشفق على تلك الأزهار الحمراء الجميلة وهي تفقد حياتها بقسوة.

- "لماذا يقطف البشر الورود؟".

نظرت إليه الشابة بحيرة وعلى رأسها قبعة صيفية صفراء كبيرة تحميها من أشعة الشمس الحارقة وقالت:

- "الورود خلقت لنهديها لبعضنا البعض ونزين بها منازلنا، لذلك نقطفها".

تأمل الرجل الشابة الجميلة التي ترتدي فستاناً دون أكمام:

- "بل خلقت لتظل في مكانها كما هي جميلة وزاهية، نمتع نظرنا بها فقط وليس لنشوه تلك الصورة البديعة".

ردت الشابة بحيرة:

- "ولكنها تعود وتنمو مرةً أخرى".

سألها:

- "وماذا لو لم تنبت مرة أخرى، نكون قد قضينا بنفسنا على هذا الجمال".

همست المرأة العجوز مُتحدثة إلى الوردة الفاتنة وهي تقضي عليها بالشفرات الحادة:

- "عذراً أيتها الجميلة، الحياة حقاً قاسية".

سكتت وأكملت:

- "في هذه الحياة القاسية شتى أنواع العذاب، قطفك ربما يكون أهونها".

سألتها بعد جولة أخرى من الصمت:

- "أتشعرين بالألم؟".

لم يصلها رد، هكذا كان الحال دائمًا. ظلت المرأة تقص الورود وهي منحنية، حتى شكلت باقة ينقصها فقط أن تشد عليها خيطاً يجمع سيقان تلك الورود مع بعضها البعض. وضعت المقص جانباً ثم رفعت جسدها ودست يدها في جيبها لتخرج منه الخيط المطلوب، ثم التقطت الزهور وجلست على الطاولة تشذبها، لم يكن هناك صوت في الدفيئة سوى صوت المقص والسكين الصغير التي تستخدمهم في تقليم الورود. اختلطت الأصوات بصدى أفكارها التي غرقت فيها حتى كادت أن تؤذي نفسها بالمقص، وبعد انتهائها جمعتهم بالخيط في شكل باقة حمراء من أزهار التوليب، ثم وضعتها أخيراً على الطاولة وأخذت تتأملها بصمت. كانت مشاعرها في حالة هرج ومرج، المزيج من الحنين والاشتياق والشجن، مزيج ينبع من أحداث صارت وولت منذ زمن بعيد، ذكريات لم يعد لها حتى أشخاص أو أماكن تستذكرها فيها أو تشم فيها عبق الماضي، لم يتبق من هذا الماضي سواها هي، ولا يشهد عليه معها إلا شعرها الأبيض وتجاعيدها العميقة. كان هو العنوان الرئيسي لهذه الذكريات، ابتسامته الجميلة وصوته الشجي ووعوده الصادقة التي لم يعطه القدر الفرصة ليفي بها. دلكت المرأة صدغيها في محاولة واهية لطرد تلك الذكريات، ولكن حذار من عقل بشري لا يرحم مالكه، عقلاً لحوحاً يعمل دون كلل أو ملل، يقلب الذكريات هنا وهناك، فيصرف عنك كل ما تشغل نفسك بك، ويضعك أمام ذكرياتك وأحزانك وأوهامك وجهاً لوجه ويتحداك أن تهرب من حصارهم. تأملت أنيسة الدفيئة مرةً أخرى من حولها، ورأت في ركن ذكرى، ذكرى شابة كان عنوانها الأمل والحياة و.... العشق، فابتسمت على تلك الذكريات، وسرعان ما تألمت على أخرى. لم تكتف هذه المرة بتدليك صدغيها، بل مسحت وجهها بكلا كفيها لعلها، مسحت تجاعيدها بقسوة وعنف لعلها تمسح هذه الذكريات التي تعذبها لوقت طويل. كانت أمراه عاشت في هذه الدنيا عمرًا طويلاً وخاضت دروبًا طويلة، وأمام ذكرى واحدة لشخص واحد، يهوى قلبها وتتأزم روحها وتقع أخيرًا في فخ الذكريات. مر الوقت وهي على حالها تتأمل الباقة تحت الأنوار الخافتة للدفيئة، حتى سقط على وجهها أول شعاع ينير حياة الليل المظلمة الساكنة، أخترق حدقتيها فأغمضت عينيها ليس لأن الضوء يزعجها، بل لأنه أخرجها من أحلامها الجميلة التي جلبتها معها هذه الباقة الحمراء أمامها، أغمضت عينيها لتبقى على هذه الذكريات التي كانت حاضرة بصورة واضحة أمامها منذ لحظات. سمعت طرقًا على باب الدفيئة:

- "ست أنيسة".

لم يدخل مُنتظراً أن تأذن له، وقال:

- "السائق في الانتظار".

نهضت المرأة ببطء وهي تمسح غباراً وهمياً غير موجود على تنورتها التي تنسدل تحت الركبة، ثم التقطت باقة الورد التي قطفتها وجمعتها بنفسها وقالت بصوت معتدل واضح:

- "سآتي فوراً".

خرجت من الدفيئة، كانت الساعة قد قاربت على الخامسة والنصف صباحاً، ولم يتبق على ميعادها سوى نصف ساعة، أطفأ عم حمدي الأضواء خلفها وتبعها حتى أوصلها إلى السيارة التي دخلتها وهي تنبه عليه أن يتأكد من إغلاق الدفيئة بشكل محكم.

***

كابوس

- "خالد".

تحرك حاجباه في قلق ففتح عينيه ونظر إلى السقف، لم تكن عيناه مكبلتين بالقماشة هذه المرة، رفع يديه مُتفحصًا واطمأن أنه غير مُقيد، مع أنه لا يزال يشعر أن الحبل يلف حول معصميه منذ استيقاظه.

أسقط يده على عينه:

- 'نفس الكابوس'

كانت ضربات قلبه تدوي ونفسه الثقيل يطبق بشدة على صدره، طوال عقدين من الزمن يعاوده هذا الكابوس كالضيف غير المرحب به، جعله يخشى النوم في كثير من الأحيان. النبض في صدغه كان يضايقه فدلكه ونهض من سريره، وفتح النور الذي أضاء وجلب معه بعض الراحة، ويطمئنه أنه خرج من هذا الكابوس. فكر خالد، إلى متى سيظل هكذا؟، منذ صغره لطالما شعر أنه مُحاصر، شيء خفي يحاصره لا يعلم ما هو، يقيده بأغلال غير مرئية كما في هذا الكابوس الذي يجسد هذا الإحساس، تكرر هذا الأمر كثيراً حتى وصل به إلى حد الاختناق. نهض إلى النافذة وفتحها بكلتا يديه لعلها تطرد هذا الإحساس بالاختناق، التقط نسمات من الهواء النقي، كان يشعر بالألم، في الواقع طوال عشرين عامًا شعر بالألم، على الرغم من هذه الحياة التي عاشها وهذه الفرص والسبل التي مُهدت له ليصل إلى حاله الآن الذي يحسده عليه الكثير من أقرانه. استند على النافذة وهو يلوم نفسه على هذه المشاعر التي لا يفترض به أن يشعر بها. وكيف نتحكم بمشاعرنا إنها عضو من أعضائنا غير المرئية، لا سبيل للتحكم فيها أو التعديل عليها بهذه السهولة، لطالما كان مُمتنا لله على هذه النعم التي منَّ عليه بها، بداية من هذه المرأة التي التقطته من الشوارع وحولته لهذا للرجل البالغ القوي، إلى هؤلاء الأطفال الذين اخترقوا حياته قسراً وعبثوا فيها بحلاوة وخفه، كان حقاً ممتناً، ولكن امتناناً يرافقه ألماً غير مفهوم لا يعلم سره، هل كان هذا بسبب اليتم والماضي الحزين؟ لا يعلم.

تذكر النداء في حلمه فهمس وهو يلتقط نفساً عميقاً:

- "من أنت؟".

شعر أنه يريد الذهاب إليها فالتفت إلى الساعة التي كانت السادسة صباًحا:

- 'يبدو أنها رحلت'.

كان يحتاجها في مثل هذا الوقت، ولكنها بالتأكيد غير موجودة، ذهبت لتلقاه.

أدرك أنه لن يستطيع حتى العودة إلى النوم مرةً أخرى، على الرغم من أن هذا يوم هو الإجازة الوحيدة له في الأسبوع، ولكن النوم طار من عيونه، لذا قرر أن يستغل الوقت في ممارسة بعض الأنشطة في هذا الجو المنعش.

***

اشتقت إليك

كانت الشمس قد تجلت بوضوح في كبد السماء وأرسلت أشعتها الحارقة فوق الرؤوس.

وقفت أنيسة أمام قبر مكتوب عليه:

قبر البطل الشهيد الرائد

كمال فوزي

استشهد يوم الأحد 14 أكتوبر 1973

وضعت أنيسة الباقة على رخامة القبر، ثم رفعت يديها تقرأ الفاتحة بتأن وتتمتم بدعوات لروح هذا الشهيد، وبعد أن جفت دعواتها فتحت عينيها ثم سحبت الكرسي بجوار القبر وجلست بهدوء، لم يكن هناك سوى صوت صفير زوبعة صغيرة مرت بجوارها ورحلت فتركت داخلها أثراً كئيبًا وشعوراً بالفراغ العميق، صفت حنجرتها وتحدثت بصوت خافت:

- "عزيزي كيف حالك؟".

ابتسمت وردت نيابة عنه:

- "أنا أعلم أنك بخير".

سكتت هنية ثم أكملت وهي تنظر إلى الباقة:

- "هل الورود جميلة؟ جلبت اليوم من الدفيئة التوليب الأحمر التي تحبها، أعتذر لو أزعجتك وقطفتها، أعلم أنك لا تحب أن أقطف الورود، ولكنها للأسف عادتي لا أستطيع تغيريها".

ابتسمت بمرح:

- "أعتقد أنني أصبحت مجنونة، لو رأيتني وأنا أعتذر لكل وردة قطفتها كنت لتضحك علي".

لم تجد المرأة رداً، ولطالما تاقت إلى ذلك، ولكنها سرعان ما تزيح هذا الحلم المستحيل من رأسها، ولا تجد إلا الصمت فقط إجابة على كلامها، وعلى الرغم من ذلك أكملت حديثها مع الشخص الذي يرقد في القبر بجوارها:

- "حياتي كما هي تدور بين الأطفال والمنزل.. وخالد".

سكتت لثوان وهي تفكر في آخر أسم:

- "خالد... هذا الولد صرت أقلق عليه كثيرًا، أصبحت أفكر مؤخراً أنني حملته مسؤولية أكبر منه، وما يضايقني ويؤنب ضميري أنه يتحملها دون اعتراض، أعتقد أن أي شاب في مثل هذا السن عليه أن يفكر في الزواج والعائلة، ولكنه لا يفكر إلا في العمل والأولاد فقط، هل كنت أنانية؟".

نظرت إلى شاهد القبر:

- "لو كنت مكاني ماذا كنت لتفعل؟".

تنهدت ونظرت إلى الفراغ:

- "لم يعد يتحدث كثيراً كالسابق، ينكب على عمله صباحاً ومساءاً، لا يجد حتى الوقت ليشاركه معنا، وهذا يشعرني بالوحدة قليلاً على الرغم من صخب الأطفال، لكن هذا الفتى يختلف عنهم، إنه أحد أسباب حياتي".

سبحت الغيوم ببطء فغطت قرص الشمس وحجبت أشعتها عن الوصول، أخذت أنيسة نفساً ثم تحدثت:

- "العود الخاص بك ستستعيره منك شابة جميلة، طبيبتنا الجديدة، شخصية ظريفة ورقيقة جداً أحببتها منذ اليوم الأول، الأطفال أحبوها على غير المتوقع".

انسحبت الغيوم بعيداً وأفسحت المجال لأشعة الشمس، ليغلبها الحنين والاشتياق عند استشعارها لدفء أشعة الشمس التي ذكرتها بالأيام الخالية:

- "كمال".

نادت اسمه برقه، وقد كان حقيقةً أجمل أسم رددته طوال حياتها:

- "كمال".

رددته مرةً أخرى وكأنها تتذوق حلاوته في فمها، ثم ابتسمت بعذوبه وقالت:

- "كمال، اشتقت إليك".

***

رسالة

مضى أسبوع منذ إقامة سالي في المنزل، حاولت فيهم أن تندمج مع أفراده بشكل طبيعي، الأولاد الصغار كانوا قد تأقلموا على وجودها حتى بدءوا بمناداتها باسمها دون أية ألقاب، وهذا كان يزعج السيدة أنيسة بشكل خاص، ولكنه لم يضايق سالي على الإطلاق لأنه هذا عمق من الألفة بينهم، أما الأولاد الكبار فبعضهم لم يعيروها انتباهًا على الإطلاق كحسن وعبدالله على سبيل المثال، والآخرين كانوا لطفاء إلى حد ما أو على الأقل لم يُضايقوها، علاقتها مع باقي الأفراد في المنزل كان مهنية بحتة يغلبها الاحترام، أما سيد المنزل فلم تره في أغلب الأوقات نظراً لانشغاله في أموره الخاصة بعمله، كان محمود يمر عليه صباحاً في الساعة السابعة والنصف ويعود في وقت مُتأخر جدًا من الليل، قضت سالي أغلب أوقاتها في القراءة في الحديقة الكبيرة، أو كتابة الرسائل أو العزف على العود، أو قضاء الوقت مع الأطفال الصغار، نوبات اكتئابها كانت تقل بشكل ملحوظ بسبب طبيعة المكان الذي تتواجد فيه والأولاد الصغارالفضوليون الذين لا يتركون أحداً لحاله، كانوا يتبعونها كالفراخ الصغيرة التي تتبع والدتهم، وعلى الرغم من أن هذا الأمر كان يُسليها جدا، ولكنها كانت تشعر بأنها مُقيدة بأزواج صغيرة من العيون الفضولية. كانت الساعة السابعة صباحًا، يوم الإجازة ولن يستيقظ أحد قبل التاسعة أو العاشرة على الأقل، لكن سالي والتي لم تستطع النوم بسبب الشجرة كانت عيونها مفتوحة على آخرها منذ الثالثة صباحًا، وعندما فقدت أمل العودة إلى النوم مرةً أخرى قررت أن تنزل إلى الحديقة لعلها تستطيع اللحاق بما بقي من مشهد الشروق في وقت كان قد بدأ الخريف يفرض سيطرته على الأجواء، ونفث فيها من البرد نسمات يتصلب لها الجسد لوهلة ثم يرجع إلى طبيعته، جلست سالي في الحديقة تحت العريشة تكتب بعض الرسائل والخواطر، وتطلب الأمر منها أن تلف الشال حول كتفيها حتى تحمي نفسها من تلك النسمات الخفيفة التي تشعر بها من حين إلى حين، وعلى الرغم من ذلك غردت الطيور، وحلقت بين الأشجار مُتساقطة الأوراق التي تسللت من خلالها بعض من أشعة الشمس الذهبية، وتجولوا حول النافورة البديعة التي عكست الأشعة الذهبية المُتلألئة الساحرة، تداخل هذه الصورة المليئة بالألوان الطبيعية، مع صوت حفيف أوراق الشجر المحمولة في الهواء وأصوات الطبيعة في أذني سالي أدخلوها في حالة من التأمل ويقظة الوجدان، جعلاها تخوض شوطاً كبيراً في الكتابة والتجول بين خواطرها.

[صباح الخير

أتذكر أنني عشقت أدب الرسائل منذ زمن بعيد، بسبب تلك الروايات التي كانت تجلبها لي ماما من مشروع القراءة للجميع، أتذكر كلمتها عند عودتها من العمل وبيدها رواية جديدة، كانت تنحني وتقول "سالي اشتريت لك رواية جديدة"، كنت ألتقط الكتاب وأركض بلهفة لأقرأه وأنهيه بسرعة تحت الإضاءة الخافتة. تلك الروايات ألهمتني لكتابة مثل تلك الرسائل، كان ما يثير ذهول طفلة مثلي أن بطل الحكاية كان يصله الرد على رسائله، أليس من الرائع أن يستجيب أحد لرسائلنا، إنسان حقيقي يفتح رسالتي بعناية يقرؤها ببطء واهتمام، ينصت لتلك الخواطر النابعة من أعماق القلب ويتفاعل معها، شخص حي يرزق في هذا العالم، عندما يفرغ من قراءة الرسالة يلتقط قلمه وورقته ويبدأ في كتابة رد يُطفئ لهيب الانتظار. كنت صغيرة في الحادية عشرة من عمري وتخيلت لو أنني أرسلت رسالة إلى شخص ما مهما كان، سيصلني في اليوم التالي الرد على رسالتي، هكذا تعلمت من هذه الروايات، وبالفعل في يوم من الأيام كتب رسالة لوالدي وأرسلتها وانتظرت الرد لأيام وشهور، ولكن لم يصل رد على رسالتي المسكينة، كان هناك حرباً مع آمالي كل يوم، حتى أقنعتني ماما أنه ربما ضاعت الرسالة من ساعي البريد، فأرسلت المزيد والمزيد من الرسائل، ولكن كان نفس الرد... لا رد، عندها فهمت وأدركت الواقع المرير، وبدلاً من إرسال الرسائل إلى بابا، تشكلت أنت. عندما أكتب مثل هذه الرسائل، أتخيل لوهلة أنك بالفعل هناك في مكان ما في هذه الحياة، تمسك رسالتي وتتفاعل معها بكل جوارحك، ويا ليتك كنت هنا بالفعل ولست نسجًا من خيالي وروحي المحرومة، التي تتوق لهذا الوجود الحي لإنسان حقيقي من لحم ودم وعقل ومشاعر يرد على رسائلي التي لا تصل أبداً. رسائلي... أتساءل لمن أبعثها؟ أحياناً يُخال لي أنني مجنونة، أتوهم أنك شخص حقيقي ربما تظهر يوماً ما من العدم، وتخبرني أنك كنت تقرأ تلك الرسائل المسكينة، ولكنك لم تجد الفرصة للرد عليها، أنا مُدركة تماماً أنك نابع من احتياجي العاطفي الذي تكون من هذا الشوق الذي لم يُلب أبداً، وهذا ما تغذت عليه رسائلي، أنا غير قادرة على إنكار مدى شعوري بالوحدة والضياع، وأخاف أن تتحول من صديق خيالي إلى اضطراب، فتتعقد المسألة وتصبح خطيرة. أنا أدرك أنك لم ولن ترد على هذه الرسائل، هذا الإدراك هو الشعرة ما بين شكي في سلامتي العقلية وجنوني، ومع ذلك هذا الإدراك يضرب قلبي في العمق].

هبت نسمة من الهواء لفحت شعرها الذي ناوش بشرتها برقة، فتحرك جفنيها بقلق واستيقظت ليستقبلها لون السماء الأزرق الجميل، عدلت رقبتها التي سقطت دون وعي على الكرسي وحدقت في المكان حولها دون تركيز، يبدو أنها سقطت في النوم، حدقت لثواني الدفتر المُغلق وبداخله الأوراق التي تكتب فيها رسائلها على ساقيها، حركت قدميها فشعرت بشيء يتحرك تحت قدميها، كان القلم الخاص بها قد سقط على ما يبدو أثناء نومها، فانحنت تلتقطه ولكن يداً أخرى سبقتها فرفعت رأسها بدهشة إلى الشخص الذي سبقها، كان حسن الذي وقف ببساطة مع نظرة ثاقبة على وجهه يتأملها دون مشاعر، سلمها القلم الذي التقطته بتردد وقالت بحذر:

- "حسن؟".

جلس الفتى وهو يُغمغم:

- "هل لديك وقت؟، أريد أن أتحدث معك".

ضيقت سالي نظرها على هذا الفتى الغريب الذي تجاهلها دائمًا ولم يوجه إليها حتى السلام بكلمة أو نظرة ولاحظت ضمادة على كفه:

- "نعم بالتأكيد، هل آذيت نفسك؟".

انتبه الفتى وكأنه تذكر أنه مصاب، فنظر إلى كفه ثم نظر إليها:

- "مجرد جرح بسيط".

تأملها الفتى لفترة وجيزة وقال بوضوح:

- "أريد أن أحدثك بخصوص فرح".

سألته بعناية وهي جذور الشك تتجذر داخلها:

- "ما خطبها؟".

رمقها بنظرة مباشرة:

- "أنت تعلمين".

رمشت عيناها ببطء وقالت وهي تدعي الجهل:

- "أعلم ماذا؟".

زاد عبوس الفتى وقال لها:

- "أعلم أنك على علم بمشكلتها".

أصرت سالي ببراءة مزيفة:

- "من فضلك يا حسن وضح كلامك".

سكت لوهلة ثم أكمل:

- "معصمها...".

لم يجد استجابة من المرأة العنيدة فتنهد بنفاد صبر:

- "تؤذي معصمها بالمشرط، لقد رأيتها وأخبرتني أنك تعلمين".

ألقت سالي نظرة على الفتى الذي يبدو عليه أنه لا يستطيع التعبير بشكل صحيح نظرًا لطريقة كلامه غير المرتبة أو الواضحة، أخفضت رأسها على مهل تنظر إلى الكتاب وهي في حالة من التفكير لم تستغرق الكثير من الوقت، ثم رفعت رأسها وعلى وجهها نظرة ثاقبة:

- "أعلم".

تفحصها الفتى ولم يرد عليها، فأكملت:

- "وعدتها ألا أخبر أحد، ولكن يبدو أنك أصبحت تعلم".

قال الفتى وما زالت النظرة العابسة على وجهه:

- "رأيتها، في الواقع رأيتها أكثر من مرة".

حدقت سالي في الفتى المراهق بفضول:

- "ولماذا لم تخبر السيدة أنيسة؟".

رد الفتى بلا مبالاة:

- "لا أعلم، ولكني شعرت أن هذا ليس التصرف الصحيح".

كان هذا الرد خارجاً عن المتوقع بالنسبة إليها، توقعت أي رد، ولكن هذا كان غريباً على مسمعها، فسألته بعناية:

- "وماذا لو أن الأمر قد تطور لما هو أبعد من ذلك".

أثار ردها ابتسامة سخرية على وجه الفتى:

- "لا تقلقي، هذه الغبية لن تضع نفسها في مثل الموقف، إنها تتمسك بالحياة كالبرغوث".

ضحكت سالي وهي غير منتبهة إلى تعبير الفتى الغريب الذي استغرق في ذكرياته.

كان يجلس على سطح الدار التي نشأ فيها يضم جسده وركبتاه تحت ذقنه، جسده كله مُشبع بالكدمات بعد أن حاول الهروب للمرة الخامسة، حتى أنتبه لخطوات خافتة مترددة تأتي من خلفه، لم يلتفت الفتى المكدوم، فسمع صوت تنهد، واسمه يُنادى بحشرجة:

- "حسن".

ثم شعر بيد صغيرة رقيقة على كتفه:

- "حسن!".

كانت فرح تلك الطفلة التي تتشبث به كالبرغوث، لم يلتفت إليها فقالت بإصرار:

- "حسن هل ستتركني؟".

اهتز جسده لم يعلم هل من البرد أم من تلك الكلمة التي تبعتها الفتاة اللحوحة بشبيهتها:

- "لا تتركني".

شعر بجسدها الصغير وكتفها الدقيق يستند على ظهره بخفة، قالت الطفلة وهي تُحاول السيطرة على صوتها غير المتماسك:

- "لا بأس إن أردت الرحيل، لنرحل ونعيش معًا".

اهتز جسدها وهي تبكي:

- "لنعيش معًا".

- "حسن!".

سرعان ما خرج الفتى من أفكاره وذكرياته وهو يحول انتباهه للمرأة التي تناديه وتحدق فيه بإصرار، تجاهل هذا الضيق المزعج الذي ينمو داخله، وهسهس بصوته الهادئ:

- "ماذا سنفعل؟".

مال رأس سالي وهي تفكر بعبوس غير قادرة على إنكار حيرتها:

- "لا أعلم أنا في حيرة شديدة، ولكني قررت أبدأ معها بهدوء، أحاول أن أجد حلاً دون اللجوء إلى الكبار على الأقل الآن، لذا أخذت عليها عهداً أن تخبرني كلما قامت بهذا الفعل".

نظرت إلى الفتى الذي يكافح للحفاظ على هدوئه وثباته:

- "لا تقلق يا حسن، سنجد حلاً لهذه المشكلة".

تأملته لثوان ثم قالت ببطء وحذر:

- "ولكن عليك أن تساعدني".

نظر إليها وعيونه تحمل اهتماماً:

- "كيف؟".

شاركته سالي جزءًا من خطتها:

- "أريد منك أن تراقب زملائها في الفصل".

كانت نظرات سالي ذات مغزى أدرك حسن هدفها بسرعة، نظرًا لهذا البريق الذي ظهر فجأة في عينيه، فاكتفى بالصمت لتكمل سالي:

- "في الواقع كنت سأذهب إلى المدرسة بنفسي، ولكنه ليس حلاً مناسباً، بالعكس سيثير ريبة الجميع"

سألته بفضول:

- "متى آخر مرة رأيتها تفعل ذلك؟".

أجاب الفتى دون تردد:

- "بالأمس".

- "إذا بناءً على اتفاقنا عليها أن تأتي وتخبرني في أقرب، لعلها تأتي اليوم".

قالت سالي هذه الجملة ودعت الله من قلبها أن تأتي الفتاة في أقرب وقت. فتح الفتى فمه ليتحدث ليقاطعه أحد يمسكه من رقبته، كان محمود الذي تراه سالي لأول مرة بملابس غير رسمية، قال وهو يضايق الفتى المراهق:

- "هل تضايق طبيبتنا؟"

أزال حسن الذي تفاجأ لوهلة يد الرجل بحده وقال:

- "أبتعد عني!، ما الذي أتى بك، أليس اليوم إجازة؟".

- "أتيت لأراك يا عزيزي".

واستمر الشاب في إغاظة الفتى المراهق، فلم تجد سالي مفراً من الابتسام بتسلية أمام هذا المشهد الطريف.

تخلص حسن من قبضة محمود ونهض مُندفعًا:

- "لا تقترب مني مرةً أخرى".

وقبل أن يرحل ألقى على سالي نظرة وقال متهماً:

- "بالمناسبة أنت كاذبة سيئة".

وذهب ليتركها مع محمود الذي نظر بحيرة بين الفتى والطبيبة المذهولة من جرأة الفتى، وجه محمود حديثه إليها:

- "هل يضايقك هذا الفتى؟".

استجابت سالي بابتسامة باهتة:

- "على الإطلاق إنه شاب لطيف".

أدعى محمود الدهشة تعليقًا على ردها:

- "هذا الفتى القاسي لطيف، إن العبوس لا يُفارق وجهه".

اكتفت سالي بابتسامة مجاملة ولم تعلق. لم يكن لديها خلفية عن طريقة التعامل مع هذا الرجل أو رئيسه، لذلك شعرت بالحيرة والرهبة وفضلت لو أنها ذهبت مع حسن لكن كان الأوان قد فات لذلك. سرعان ما لاحظت أن محمود يحدق فيها بصراحة، فتضخم شعورها بعدم الراحة الذي تبروز في جلستها التي عدلتها لأكثر من مرة. سعل محمود وسألها وهو ينظر إلى الكتاب على حجرها كان عنوانه كتاب الأغاني للأصفهاني الجزء الثاني:

- "أنت تقرئين؟".

كانت محاولة من محمود لفتح مواضيع مع هذه الشابة التي يبدو عليها أنها غير مرتاحة في وجوده. نظرت سالي إلى الكتاب وقالت:

- "نعم من حين إلى حين".

مسح على رأسه وهو يقول بضحكه بريئة:

- "أنا أكره الكتب".

عدل كلامه بسرعة ووضح:

- "هذا لا يعني أن هذا شيء جيد، بالعكس أتمنى حقًا أن أمارسها، ولكن لا أملك الصبر ولا حتى الوقت لذلك".

ابتسم محمود بسخرية وهو يفكر، على الرغم من كرهه للكتب، ولكنه الآن أحد المشاركين في مشروع مكتبة والتي ستكون من أهم وأكبر مشاريع الكتب في الجمهورية، وهو لا يفقه أي شيء في هذا العالم، حتى التقارير التي أحضرها معه الآن بمساعدة خبراء آخرون.

تخلت سالي عن حذرها ولمعت حدقتاها بالتسلية على الشاب المتلعثم أمامها، فمسحت على الكتاب بحب:

- "القراء ليست مجرد هواية أو عادة نمارسها لأننا نحبها، نحن البشر نحتاج إليها وبشدة".

مال رأس محمود رداً على الكلام العميق الذي صدر منها للتو، فتنهدت سالي لتشرح له وهي تمسك الكتاب وتضمه قليلاً إلى صدرها:

- "في الواقع القراءة أنقذت حياتي مراتٍ عديدة، ولطالما كان لها فضل وتأثير مباشر على حياتي، عند إدراكك لقيمتها وتأثيرها غير مُباشر على حياتك ستفهم ما أقوله، أما الآن ستظل تنظر إلي وعلى وجهك علامات استفهام كتلك".

أشارت إلى وجهه وابتسمت بمرح وهي تتأمل الرجل الذي يجلس أمامها وهو لا يفهم كلامها الذي أكملته:

- "بالحديث عن الصبر فربما يكون اختيارك لموضوع الكتاب حلاً للملل، أما الوقت ربما تبدأ بالكتب الخفيفة والصغيرة جداً والمواضيع السريعة التي تفضلها، إن أعجبك الأمر تستطيع أن تعلو بالمستوى، وإن لم يعجبك فأنت لم تهدر الكثير من الوقت، وإن كنت أشك في ذلك".

كان محمود ينصت باهتمام إلى صوتها الرنان ويتأمل تعابيرها اللطيفة التي ارتسمت على وجهها عند حديثها عن القراءة، وجهها وملامحها تفاعلوا مع كل كلمة نطقتها وكأن هذا الكلام العادي الذي يصدر منها ينبع فقط من قلبها، كان يجلس أمام امرأة شغوفة. سألها باهتمام وهو يريد أن يستمع إلى المزيد منها:

- "منذ متى وأنتِ تقرئين؟".

نظرت إليه بحيرة وكأنه يسألها سؤالاً غريباً وقالت:

- "أقرأ منذ صغري".

عدل محمود نظارته قائلاً:

- "إذاً أنت متمرسة".

تأملت الكتاب على حجرها، ثم نظرت إليه وقالت بابتسامة جميلة أربكت محمود:

- "أي شخص يستطيع فك الحروف إذاً هو قارئ متمرس، ولكنه لم يستكشف فقط هذه الموهبة".

سألها الرجل:

- "هذا يعني أنني قد أكون قارئاً متمرساً؟".

أكدت عليه:

- "ولكنك لم تستكشف هذا بعد".

ابتسم محمود وهو يتأملها وعيونه تلمع:

- "حسنًا ساعديني لأستكشف هذا العالم".

قالت سالي بأجمل ابتسامة لديها:

- "بالتأكيد!".

انتقل شغفها الواضح إلى محمود الذي قال:

- "إذاً ربما تقترحين أسماء بعض الكتب الخفيفة".

أمسكت ذقنها وقالت وهي تتأمل الكتاب على ساقيها:

- "لنفكر..".

وقبل أن تقترح أمثلة سارع محمود بإخراج هاتفه من جيبه، ومال تجاهها يسألها بحذر:

- "ربما ترسلين لي أسماء الكتب في رسالة حتى لا أنساها".

تحرك جسد الشابة إلى الخلف تلقائيًا وردت وهي تشعر بعدم الراحة:

- "ولكن أستطيع أن أكتبها الآن في ورقة..".

كانت خائفة هذا ما شعر به محمود من رد فعلها الحذر، ولكنه بكل تأكيد لم يقصد هذا، لذلك أدخل هاتفه في جيبه مرةً أخرى مُحترمًا اقتراحها:

- "بالتأكيد".

لم تكن تعلم أنها وقعت في الفخ، وانساب منها الحديث بسلاسة وتلقائية مُتخلية عن حذرها الذي حصنت نفسها به. تأملت الرجل أمامها، يبدو أنه شخص طيب ولطيف، ولكنها كانت مرتابة من أسلوبه الصريح والجريء الذي ظهر من أول لقاء، وهذا لطالما تجنبته في تعاملاتها مع الجنس الآخر، لذا كانت محتارة، ولكن شيء ما دفعها لتقول بتردد وهي تخرج هاتفها من جيبها:

- "ربما إن أردت أن تتواصل معي فيما يخص الكتب.. ولكن اعذرني مُقدمًا إن لم أستجب بسرعة على الهاتف".

تغير التعبير على وجه محمود من الترقب إلى ابتسامة مُشرقة، وأمسك بهاتفه مرةً أخرى استعدادًا للحصول على رقم هاتفها الذي أملته سالي له بتردد وبداخلها ما يُحرضها على تغير آخر رقمين، ولكنها سرعان ما أزاحت هذا الخوف جانبًا:

- 'فقط شهر'. رددتها سالي كالدعاء.

كان محمود مُستغرقاً في حفظ رقم الطبيبة، ليأتيه اتصال في نفس الثانية، فور رؤية الاسم ارتبك وتذكر سبب مجيئه، فرد على مضض قائلاً:

- "لقد وصلت".

جاءت نبرد خالد الهادئة:

- "أليس هذا القميص الجديد الذي اشتريته للقاء العروس؟".

لاحظت سالي محمود يشحب قليلًا وينظر تجاه المنزل أحد ما يشير من النافذة، ضيقت عينيها لتتعرف على هوية هذا الشخص، كان خالد يشير إلى محمود من النافذة والهاتف على أذنه، أمره بهدوء:

- "اصعد".

نهض محمود على مضض وهو يودع سالي التي شعرت بالحيرة:

- "سأذهب الآن يا آنسة، شكراً لك على وقتك".

- "على الرحب مستر محمود".

ذهب الرجل وهو ما بين رغبة واضطرار، رغبة العودة إلى تلك المرأة، واضطرار الصعود إلى خالد.

نهاية الفصل الرابع

***

شكراً جداً لصبركم عليا، واسفة على أي أخطاء غير مقصودة بالتأكيد.

كاتبتكم ءَالَآء

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

TikTok: hakayaalaa للقص القصيرة

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالة، متأكدة انها هتعجبكم

رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق