رواية المنزل
الفصل الرابع
كان يوم الخميس هو آخر أيام الدوام في المدرسة. وفي وقت الاستراحة، كان حسن يتجوّل في ممرات الطابق، ويبدو أنه يبحث عن أحدهم. مرّ بجانب أحد الفصول التي انبعثت منها أصوات الطلاب، لكنه توقف فجأة ونظر بفضول إلى اللوحة المُعلّقة على الباب. كان ذلك فصل "نور"، أخته، التابعة لنظام الدمج الدراسي؛ وهو نظام يُشجّع على دمج الطلاب ذوي الإعاقات، مثل نور ورحيم، ليكونوا جزءًا طبيعيًا من المجتمع والمدرسة.
كانت هذه أول سنة لنور ضمن نظام الدمج، وأول عام دراسي تقضيه في المدرسة على الإطلاق، إذ أنها طوال السنين الماضية كانت تدرس من المنزل.
ورغم أن حسن يعلم أن أحمد يصطحبها يوميًا أثناء الفسحة، إلا أن فضوله دفعه للتراجع بضع خطوات إلى الوراء، ثم أطلّ برأسه داخل الفصل ليتفحّص ما يجري.
رأى مجموعة من الطلاب يلتفّون حول أخته الكفيفة، وتردّدت بينهم كلمة لم يستطع تمييزها بوضوح. كانوا يتحدثون بنبرة عادية، لكن ما جعل الموقف يبدو غريبًا هو تلك الابتسامات المريبة المرتسمة على وجوههم، وملامح نور، التي كانت عادةً هادئة، لم تكن توحي بالراحة. كانت منزعجة، وبجوارها فتاة تنظر إليها بشفقة، وإلى زملائها بغضب.
شعر حسن أن هناك خطبًا ما. فتسلّل إلى الداخل بخطوات خفيفة لم يسمعها أحد، سوى نور، التي اعتادت تمييز وقع أقدام من حولها. فورًا، استدارت برأسها تلقائيًا نحو الباب. لحق بها أنظار الطلاب، ليجدوا حسن واقفًا خلفهم.
تأملهم حسن، وقد تبدلت ملامحهم سريعًا إلى التوتر والارتباك، ثم قال ببرود:
"نور، تعالي."
تلهفت ملامح نور عند سماعها صوت أخيها، وحاولت النهوض بتوتر، لكنها كادت أن تتعثر. أسرع حسن إليها وأمسك بيدها، قائلاً برفق:
"على مهلك."
نظر إلى زملائها ببرود، ثم التفت وسار بجوار أخته. وبينما كانا يمشيان في الطرقة، لمح حسن أحمد يتقدّم راكضًا من بعيد.
توقف أحمد، وقد بدت عليه الدهشة حين رأى حسن مع نور، وقال باستغراب:
"ما الذي حدث؟ لماذا أنت هنا؟"
"لا شيء. جئتُ لأصحبها، أين كنت؟"
تنهد أحمد بملل وأجاب:
"كنت في مكتب المعلم، كان يشرح لي بعض المسائل التي لم أفهمها... لكنها استغرقت وقتًا طويلًا."
تأمل أحمد نور الهادئة، وشعر بأن هناك شيئًا غير مريح، فسألها بريبة:
"نور، هل أنتِ بخير؟"
رفعت نور رأسها عند سماع اسمها، وابتسمت بلطف:
"بخير."
لكن أحمد، الذي يعرفها جيدًا، أدرك أنها ليست كذلك، ومع ذلك لم يُلح عليها. نظر إلى أخيه وقال:
"اذهب أنت الآن، سأرافقها أنا."
ترك حسن نور وسلّمها إلى أحمد، ثم مضى ليكمل ما تبقى من مهمته. أمسك أحمد ذراع نور برفق، وكانت ملامح الضيق تزداد وضوحًا على وجهها. وبينما كانا يسيران ببطء، قطعت نور شرود أحمد وسألته:
"هل فهمتَ مسائلك؟"
نظر إليها أحمد بحيرة، ثم أجاب:
"نعم."
وبعد ثوانٍ، أضاف:
"في الواقع... لم أفهمها تمامًا."
أدارت نور رأسها نحوه:
"لماذا؟"
"كنت أُدقّق في الساعة... خفت أن أتأخر عليكِ."
أجابت نور وهي تخفض رأسها بهدوء:
"لا بأس، حسن جاء."
ضايقه ردّها، فلم يعلّق، وتبدلت ملامح نور إلى الحزن. وبعد لحظات، قالت بصوت خافت:
"أحمد، لا تُشغل بالك بي بعد الآن. كان عليك أن تنتبه لشرح المعلم، لا للساعة. وقت الفُسحة لا يعني شيئًا لي، لذلك... لا تُقيّد نفسك بي."
نظر إليها الفتى باستغراب، وقال:
"أنتِ تعلمين أن هذا لا يضايقني، أنا أفعل هذا بكامل إرادتي."
ردّت الفتاة بثبات وجرأة لم يتوقعها أحمد:
"ولكن هذا أصبح يضايقني."
تأملها الفتى بصدمة، لكنها أكملت، وتوقفت فجأة، ثم قالت بصوت صارم:
"بعد اليوم، لا تأتِ إلى فصلي في وقت الفُسحة... أُفضّل البقاء في الفصل وحدي."
ابتلع الفتى ريقه، وسألها محتارًا من تصرّفها المفاجئ:
"نور، ماذا حدث؟ هل هناك شيء لا أعلمه؟"
أجابت نور، وهي تحاول السيطرة على أعصابها، بصوت متمتم:
"أخبرتك من قبل، لا شيء قد حدث... أنا أكره هذا السؤال!"
قال أحمد، محاولًا فهم هذا المزاج الحاد والذي بدا بلا مبرر:
"نور، سأساعدك."
لكنها ردّت بثبات، والغضب يتصاعد في صوتها:
"لا أحتاج مساعدتك."
"نور..."
"لا تكن لحوحًا، ولا تتدخل مرةً أخرى في شؤوني! اتركني وشأني."
كانت تلك أوّل مرة ترفع فيها نور صوتها وتنفجر بهذا الشكل.
في تلك اللحظة، جاءت من الخلف زميلتها التي كانت تجلس بجوارها في الفصل، وتدخّلت:
"لماذا تتشاجران؟"
التفتت نور بسرعة، وبحثت عن ذراع زميلتها، ثم قالت:
"لنذهب إلى الفصل."
نظرت الفتاة بينهما بحيرة، لكن نور شدّت على ذراعها، ففهمت زميلتها ورافقتها بهدوء إلى داخل الفصل.
أما أحمد، فوقف مذهولًا، ينظر إلى ظهر نور وهي تبتعد عنه. كانت هذه أول مرة تصدر منها ردة فعل عصبية وعنيفة... لا سيّما معه هو.
وحينها، أصبح متأكدًا أن هناك شيئًا ما يدور خلف هذا التوتر... شيئًا لا يعرفه، ويجب عليه أن يكتشفه.
***
اجتمعت الفتيات في الحمّام حول فرح المتوترة، ودفعتها إحداهن إلى الحائط، لكن برفق:
"هل تقولين إنكِ أخبرتِ تلك الطبيبة عن سرّنا، يا فرح؟"
نظرت فرح إلى الفتيات المحيطات بها ودافعت عن نفسها:
"لم أخبرها! بل هي من رأتني، واضطررتُ لشرح الأمر لها... لكنها وعدتني بأنها لن تخبر ماما أو أبيه."
اقتربت منها فتاة أخرى وقالت بغضب:
"حقًا؟ ومن قال إنها ستحفظ السر؟ إنها طبيبة، ولن يمرّ الأمر دون أن تُبلغ المسؤولين في الدار الذي تعيشين فيه."
قالتها بخبث، فارتبكت فرح ووجها يشحب، وأجابت سريعًا:
"أنا لا أعيش في دار!"
سألتها الفتاة بخبث وتهكّم:
"إذن أخبرينا... أين تعيشين، يا فرح اللقيـ..."
كانت تحاول إهانتها وجرحها أمام باقي الفتيات كما تفعل دائمًا، لكن فتاة أخرى تدخلت بسرعة قبل أن تُكمل الكلمة الجارحة:
"لا داعي لهذا الكلام يا دينا. علينا الآن أن نتأكد أن تلك الطبيبة لن تُخبر أحدًا. لو عرف أحد بسرّنا، فالعواقب لن...
لقيطة. تلك الكلمة التي كادت دينا أن تنطقها، لكن فرح لم تسمع بعدها شيئًا. شعرت بالاختناق من تجمّع الفتيات حولها، بدأ المكان يضيق، وحواسها تُشلّ واحدة تلو الأخرى، ما عدا جسدها... الذي لا تدري من أين جاءته القوة ليدفعهن بعيدًا عنها بقوة.
ركضت... ركضت بلا هدف حتى وجدت نفسها تجلس خلف مبنى المدرسة، تحتضن ساقيها، وجسدها يرتجف، ودموعها تتساقط.
لم تكن هذه أول مرة تُلمّح فيها إحدى الفتيات إلى وضعها، لكن ذلك اللفظ... كيف لكلمة واحدة أن تهز كيان إنسان بهذا الشكل القاسي؟ كلمة واحدة دفعتها في لحظة واحدة لأن تفقد إيمانها وثباتها، وثقتها في عالمها.
ومرّ الوقت وهي على هذا الوضع، تتألم وتفكر، حتى دست يدها في جيبها وأخرجت الآلة الحادة. نظرت من حولها بحذر وترقّب، وعندما تأكدت من خلوّ المكان، كشفت عن معصمها الدقيق. ترددت في البداية قبل أن تلمس به جلدها، لكن غلبتها نشوة هذا الفعل الأحمق، فضغطت على جلدها الرقيق بقوة محدودة.
"إن لم يُوضع حد لهذا الأمر، سأخبر أبيه، خالد."
كان صوتًا باردًا كالجليد، أثار القشعريرة في جسدها. نظرت خلفها بفزع، لتجد حسن واقفًا مُستندًا إلى جدار المبنى، ويده في جيبه، وكعادته يرمقها بنظرات لامبالية... فيها شيء من الحدة.
اقترب منها بخطوات متباطئة، ثم مدّ يده والتقط الآلة الحادة من بين أصابعها، وألقاها على الأرض. لم يُدرك حتى أنها قد جرحته.
رفعت رأسها إليه بذُهول وذُعر، تتأمّل ملامحه التي يصعب تفسيرها:
"حسن... منذ متى وأنت تعلم؟ من أخبرك؟"
كان سؤالها بطيئاً مرتجفاً بسبب البكاء والصدمة، وعيناها محاطتان باحمرار شديد بسبب البكاء.
تجاهل حسن سؤالها، وانشغل بالتحديق في معصمها المشوّه، ذلك الذي تخبئه دومًا. فنهضت بسرعة وأمسكته من ذراعه، والذعر بدأ يسيطر على نظراتها المهتزّة، وهمست بشفاه مرتعشة:
"سالي؟"
نظر حسن إلى أخته، وقد عقد حاجبيه وأمال رأسه باستفهام:
"سالي؟ الطبيبة؟ هل هي تعلم؟"
أطلقت فرح نفسًا كانت تحبسه، وأدركت من رد فعله أن سالي لم تخبره، فأفلتت ذراعه وقالت بخمول، وعيناها شاردة:
"حسن، لا تقلق... أنا حذرة، ولن أؤذي نفسي."
حدّق بها وقد بدا على وجهه الاستغراب:
"أنتِ تؤذين نفسك بالفعل."
سألته فرح، وقد ضيّقت عينيها تتأمله بحذر:
"منذ متى وأنت تعلم؟"
أجاب أخيرًا، بصوت هادئ:
"رأيتك منذ فترة."
فكرت فرح، لمحها حسن ايضاً في مرة من المرات، كما لمحتها سالي من قبل. تساءلت في داخلها:
'من أيضًا قد لمحها؟'
فالمكان الوحيد الذي ظنت أنه آمن، بعيد عن الأنظار، كان عند النافورة... خاصة في الليل.
لم تفعل ذلك يومًا في غرفتها، فهي تعلم أن إخوتها الذين يشاركونها إياها، ويتمتعون بالدهاء، لا يتركون أحدًا وحده.
لمعت الحياة في عينيها فجأة، ثم قالت برجاء، وهي تجذب وجه أخيها ليصرف نظره عن معصمها:
"حسن، انظر إليّ... أرجوك، لا تخبر أحدًا، لا ماما، ولا أبيه... أنا أحاول أن أُقلع عنها، لذا لا تفشِ هذا السر."
نظر الفتى إليها بخبث... وهنا أدركت فرح أنها في ورطة. كانت تعرف هذه النظرة جيدًا، تلك النظرة التي طالما رأتها في عينيه منذ أن كانا طفلين في نفس دار الأيتام. شدّت على كمّه وقالت بيأس:
"حسن، أرجوك!"
أمسك حسن يدها التي تمسك بكمّه، وأخرج من جيبه منديلًا ومُعقّمًا، وقال بلا مبالاة:
"لن أخبر أحدًا."
تأملت فرح وجه أخيها بينما كان يُعقّم جروحها بتركيز وهدوء. هذا الفتى الذي كان رفيقها منذ أن فتحت عينيها على هذه الحياة، منذ أيام الدار حين كانا يتشاركان الفرح والألم. كان يعلم، بطريقة ما، أنها تؤذي نفسها. ربما لهذا السبب أحضر المُعقّم... احتياطًا.
نظرت إلى معصمها الذي يمسكه برفق، ويضمده بيده الخشنة، المتهورة، المجروحة أيضًا. أخفضت رأسها، وتجمهرت الدموع في عينيها... سقطت دمعة على معصمها المجروح، فكان وقعها أكثر حرقة من حرق المطهّر نفسه.
همهم الفتى، وعيناه ويداه منشغلتان بتضميد جراحها:
"لماذا تفعلين هذا؟"
وضعت يدها الأخرى على عينيها، وبكت:
"لا أعلم!"
وبعد ثوانٍ، أزاحت يدها عن وجهها، ونظرت إليه بتوسل:
"حسن... ساعدني!"
لم يُجب حسن، فقط نظر إليها تلك النظرة التي تعرفها جيدًا. ثم أكمل تضميد جروحها، بيديه القاسيتين، المجروحتين، الصادقتين.
كان الصمت يلفّ المكان خلف مبنى المدرسة، لا يُسمع فيه سوى شهقات فرح الحزينة.
وبعد أن أنهى تعقيم الجروح، أعاد كمها برفق على معصمها، ثم أمسك بيدها وسحبها بهدوء، ليكملا ما تبقى من يومهما الدراسي.
***
عاد الأطفال من المدرسة وتناولوا غداءهم، وفي المساء كانت سالي في غرفتها تعبث في هاتفها، حين سمعت صوت طرق منخفض على الباب. فتحت لتتفاجأ بأميرة أمامها، تقول:
"ماما أرسلتني لأبلغك أن تأتي وتشاهدي معنا الفيلم في غرفة المعيشة."
كانت سالي تعلم أن الجميع سيجتمعون الليلة في غرفة المعيشة، فاليوم هو الخميس، حيث يجتمع كل من في المنزل، بالإضافة إلى المربيات، ليشاهدوا سويًا فيلم السهرة. لكن خجلها وتحفظها جعلاها تفضل البقاء في غرفتها، بدلًا من اقتحام تلك الجلسة العائلية الهانئة وقطع صفوها. إلا أن السيدة أنيسة كانت امرأة مراعية ولطيفة، تُدرك مثل هذه التفاصيل، لذا أرسلت أحد الأولاد ليُخبر سالي ويطلب منها مشاركتهم الأمسية. وكان اختيارها على أميرة، فتاة هادئة ترتدي نظارات وتبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا. من تصرفاتها، بدا أنها رزينة وعاقلة ولا تثير المشاكل.
فكّرت سالي أنه لا يصح أن ترجع الطفلة خائبة، فابتسمت وقالت بلطف:
"حسنًا يا أميرة، أشكرك على إبلاغي."
التفتت أميرة لتغادر، لكن سالي استوقفها قائلة:
"ما رأيك أن تنتظريني لننزل معًا؟ تفضّلي، لن أستغرق وقتًا طويلًا لتبديل ملابسي."
بدت الحيرة على وجه أميرة، لكنها دخلت بهدوء. تركتها سالي في الغرفة، ثم دخلت الحمّام لتبدّل ملابسها.
جلست الفتاة تتأمل الغرفة بهدوء، حتى لفت نظرها كتاب النظرات والعبرات على المكتب. تناولته وبدأت تقلب صفحاته بتركيز.
مرّ بعض الوقت، ثم خرجت سالي من الحمّام وبين يديها شال خفيف. لمحت أميرة وهي تتفحص الكتاب، فسألتها بفضول:
"هل هذه قصص قصيرة؟"
ابتسمت سالي وهي تنظر إلى الكتاب بين يديها:
"نعم، النظرات والعبرات كتاب قصصي من تأليف مصطفى لطفي المنفلوطي."
قلبت أميرة الكتاب لترى صورة المؤلف على غلافه الخلفي، ثم قالت بحيرة بريئة:
"لم أسمع عنه من قبل... هو صعيدي؟ شكله غريب ليكون كاتب!"
ابتسمت سالي للطفلة وهي تسألها:
"وما المشكلة؟"
أجابت أميرة:
"أقصد أن هيئته لا توحي بأنه كاتب."
ضحكت سالي بخفة وهي تشعر بشيء من التسلية من حيرة الطفلة، ثم قالت:
"لو قرأتِ النبذة عنه على غلاف الكتاب، ستدركين أنه واحد من أهم أدباء مصر."
تركت أميرة الكتاب جانبًا وقالت دون حماس:
"أنا لا أقرأ الأدب العربي، لذلك لا علم لي بهؤلاء الأدباء."
عقدت سالي حاجبيها وسألتها:
"وماذا تقرئين إذن؟"
ردّت الفتاة بثقة:
"الأدب العالمي والكتب العلمية فقط، الأجنبي دائمًا الأفضل، ليس في الأدب فقط، بل في كل المجالات."
تأملتها سالي، ولاحظت أن أميرة تختلف عن باقي إخوتها. كانت نبيهة وذكية، لكنها وقعت فيما يُعرف بـ"عقدة الخواجة"، فقالت لها بهدوء:
"ومن قال إن أدبنا وتاريخنا الشرقي لا يجاري الأدب العالمي في جودته؟ بل إنه الأفضل."
نظرت أميرة إلى سالي بحيرة وقالت:
"هذا معروف دائمًا. هل قرأتِ لشكسبير؟ دوستويفسكي؟ كافكا؟ جورج أورويل؟ لم أسمع يومًا عن أديب عربي نافس هؤلاء!"
ذهلت سالي من معرفة الفتاة الواسعة بهؤلاء الأدباء. للحظة، عجزت عن الرد، لا لأن كلام أميرة كان صحيحًا، بل لأن نبرة الثقة في صوتها أربكتها.
نظرت الطفلة إليها بابتسامة المنتصر، لكن سالي استجمعت أفكارها وقالت:
"قرأت لهم بالفعل، واستمتعت بأعمالهم، لكنهم لا يمثلونني كسالي. هؤلاء أدباء أوروبيون، يمثلون أجيالهم وثقافتهم وهويتهم الخاصة. أما أدباؤنا نحن، فلم تسمعي عنهم ببساطة لأنك لا تهتمين بهم."
سألتها أميرة، وعيناها تلمعان بفضول حقيقي:
"وما الذي يمثلك أنت؟"
نظرت سالي إلى كتاب النظرات وقالت:
"يمثلني كمصرية. المنفلوطي، طه حسين، العقاد، الطهطاوي، إحسان عبد القدوس، نجيب محفوظ، مصطفى محمود، وغيرهم من الأدباء والشعراء والمثقفين. الأدب الفرعوني مثلاً، لو تفقدتِه، ستجدين أروع القصص والترانيم فيه، والأدب العربي شعرًا ونثرًا... أنا يمثلني أدبي وتاريخي، بكل آرائه، سواء اتفقتُ معها أو اختلفت."
ثم تابعت بصوت ثابت ونبرة هادئة فيها شيء من الشغف:
"أنتِ، بانحيازك لثقافة أخرى، ترفضين وتُقللين من شأن ثقافتك وتراثك. نحن من علّم العالم بأسره، نحن من سبق في الفلسفة والرياضيات، وعلوم الفلك والطب، بدءًا من حضارتنا الفرعونية، مرورًا بحضارة بلاد الرافدين. من تتحدثين عنهم هم نتاج تعليمنا، نحن من طوّر المعرفة العلمية ونقلها إلى العالم، وهم استغلوها جيدًا، أما نحن، أصحاب المصدر، فلم نُدرك قيمتنا. هذا فقط الفرق بيننا."
ثم أكملت وقد تلألأ في عينيها شيء من الفخر:
"نحن مجموع حضارات عظيمة، لم ولن يأتي مثلها أبدًا. وعلينا أن نفخر بها، بل ونُحييها ونُطوّرها. لا أن نتنصل منها حتى تخمد وتُنسى، فيُنسب فضلها لغيرنا، أو تُسرق من لصوص التاريخ كما يحدث مع هويتنا المصرية القديمة."
كانت أميرة تُصغي إليها بتعبير حيادي لم تستطع سالي تفسيره، وبدا أن الكلمات أثقلت أذني الطفلة التي ربما لم تكن مستعدة لاستيعاب كل ذلك. شعرت سالي بذلك، فوضعت الشال حول كتفيها وقالت بلطف:
"هل نذهب؟ لقد تأخرنا عليهم."
أومأت أميرة بابتسامة مهذبة، لكنها لم تصل إلى عينيها، ثم نزلتا معًا. وكان الجميع قد بدأوا يتجمعون في غرفة المعيشة، وتوافد الأطفال والمربيات بالتتابع.
علت الأصوات بشكل مبالغ فيه بسبب كثرة العدد، وضحكاتهم وثرثرتهم ملأت المكان... حتى قُطع هذا الضجيج بصوت لم يتوقع أحد سماعه... بل كان غريبًا عليهم تمامًا.
دخلت نور. كانت تتحس الأرض بعصاها البيضاء... العصا التي رفضت استخدامها دائمًا. نور، الفتاة الكفيفة، كانت تتحرك بسهولة داخل المنزل؛ فقد اعتادت على معالمه وتفاصيله، لكن خارج المنزل، كانت تحتاج إلى مرافق، وغالبًا ما كان هذا المرافق هو أحمد. لم يكن ذلك مفروضًا عليه، بل كان يقوم به بإرادته الكاملة، وكان قريبًا منها جدًا. واليوم... نور تعلن، دون كلمة، رفضها لهذا الاعتماد.
تلك العصا البيضاء، التي بكت عندما أحضرها لها خالد، رفضتها بشدة، وأصرت على أنها لا تحتاجها. وكان الجميع قد تقبّل هذا الرفض، طالما لم تقع حوادث تُذكر. لكن استخدامها لها الآن، كان إعلانًا صامتًا عن قرار كبير: الاعتماد على النفس، والتخلي عن المساعدة.
تأملت سالي الفتاة الكفيفة التي تتحرك بسهولة بعصاها وتتجه حيث تناديها السيدة منى. نظرت سالي إلى أحمد الذي يرافق الفتاة في كل خطوة تخطوها، لتجده يجلس في الزاوية كئيباً، حزيناً، يتأملها دون أن ينبس ببنت شفة. لم تكن سالي على إحاطةٍ بكافة الأمور والظروف في المكان، ولكنها شعرت أن العلاقة الصافية بين الفتى وأخته متوترة وعلى غير العادة، وأكدت نظرات أنيسة القلقة لهما هذا الأمر.
اتجهت سارة إلى أختها نور وسألتها وهي تلمس العصا:
"نور، أنا أيضاً أريد أن ألعب معكِ بالعصا".
ظنت الطفلة الصغيرة أن نور تلعب بها، لذلك كان سؤالاً بريئاً صادراً من طفلة لم تتعدَّ الخمس سنوات، فأجابت السيدة منى عن نور، وقالت لسارة بلطف:
"سارة، هذه ليست لعبة، تلك العصا تساعد نور لتتفقد طريقها، علينا جميعاً أن نكون حريصين عليها، أليس كذلك؟".
كانت سالي متأكدة أن الطفلة لم تفهم معنى الكلام، ولكن سارة، طفلة مطيعة، أومأت برأسها ولم تقترب من العصا مرةً أخرى، وكان على السيدة منى أن تكرر نفس الجملة لباقي الأطفال الذين يلمحون العصا ويريدون إمساكها.
على الرغم من عدد الأطفال الكبير، إلا أنه كان هناك صبر وطول بال من البالغين تجاه الأطفال، وهذا أعجب سالي بشدة، وجعلها تراقبهم من بعيد عن كثب دون أن تلتفت إلى الفيلم.
وبينما الجميع يتحدث، دخل خالد عليهم فجأة وهو يبحث بعينيه في الغرفة، فتقدَّم إليه فؤاد، وهو ينظر إلى خالد بعيونه الواسعة الفضولية، ورفع لوح الشطرنج قائلاً:
"أبيه، العبْ معي الشطرنج، ليان ترفض اللعب معي، ولا أجد أحداً ليلعب معي".
وضع خالد كفّه على الرأس الصغير قائلاً:
"حسناً، ولكن أعطني الوقت يا فؤاد لأتحدث قليلاً مع حسن، اتفقنا؟".
أومأ الفتى موافقاً برأسه، فمسح خالد شعره البني بلطف، ونظر إلى حسن قائلاً:
"تعال يا حسن لنتحدث معاً قليلاً".
نظر حسن إلى أنيسة التي تجنبت نظراته، ثم إلى منى التي ادّعت الانشغال مع ماريا، وفهم الفتى الخطة المحاكة ضده، فنهض على مهل، ورافق خالد الذي سمح له بالمرور أولاً ثم تبعه.
تأملتهم سالي من بعيد، ولاحظت أن الاثنين يشبهان بعضهما البعض في المشية البطيئة، المتمهلة، التي توحي بالخطر. وكانت أيضاً السيدة منى تراقبهم بحذر وترقب، وبالكثير من الفضول، الذي قطعته ماريا بصفعة على وجهها.
***
فوق السطح، أشعل خالد الأضواء، فتلألأ المكان بالضوء الدافئ الزاهي، ليظهر سطح مجهز ومرتب بشكل جميل جداً للعينين. جلس الاثنان على أريكة منخفضة جداً ولكنها مريحة، قال خالد لحسن:
"كيف حالك؟"
نظر حسن إليه بسخرية:
"أنت لم تغب عنا سوى أسبوع، لذا لا داعي لهذه الرسميات."
أجاب خالد مُتنهداً:
"يجب أن أعلمك اللياقة في الحديث، هذا لا يليق بشاب مثلك في السادسة عشر من عمره."
نظر حسن إليه:
"شاب؟"
ابتسم خالد بمكر وهو يجاري الفتى صعب المراس:
"وكيف ترى نفسك؟ طفل؟"
لم يرد حسن عليه وأشاح بوجهه متأملاً السماء ثم سأله:
"لماذا أردت الحديث معي؟"
قال خالد بهدوء:
"أنت تعلم لماذا."
باغته حسن وأجاب عليه مُقدماً:
"لن أقدم في المسابقة."
"إذاً، هل لك أن تخبرني عن السبب؟"
"لا أستطيع تحديد مستقبلي من خلال ممارسة هذه الجودو."
تفاجأ خالد بكلمة مستقبل التي نطقها حسن، ولم يتخيل أن الفتى في مثل هذا السن قد بدأ في تخيل مستقبله، فسأله وهو يتفحصه محتاراً:
"وكيف ترى مستقبلك الآن؟"
"لا أعلم، ولكن أشعر أن هناك الكثير من الأمور غير الجودو عليّ أن أجربها، حتى أحدد على الأقل الجامعة التي سأدخلها. الجودو ستقيدني وتشغلني عن ذلك."
"وما الذي تريد أن تجربه؟"
التفت حسن إليه وابتسم قائلاً:
"أريد أن ألعب الكرة، السهر مع أصدقائي حتى الفجر."
سكت الفتى ثم أكمل بمكر:
"وربما أشرب السجائر؟"
نظر خالد ببلاهة إلى الفتى الذي اتسعت ابتسامته، فمسح وجهه بيأس قائلاً:
"لديك ثقة عالية بالنفس، اعتقدت أنك ستقول مثلاً أنك تريد تعلم البرمجة، العمل في وظيفة صيفية، أو مرافقتي في المكتب... شيء من هذا القبيل."
قال حسن مُبتسماً:
"ربما أفعل هذا وذاك، لمَ لا؟"
اقترح خالد عليه:
"حسناً، افعل ذلك مع الجودو."
هز الفتى رأسه:
"لا أريد، إنها تقيدني، وأنا لا أحب ذلك."
بعد لحظات من الصمت والتفكير، تنهد خالد قائلاً:
"إذاً، لن نخوض في هذا الموضوع أكثر من ذلك."
نظر حسن إلى خالد باستغراب:
"هل ستسمح لي بذلك؟"
قال خالد وهو يستند براحة:
"سأسمح لك بمساحة من الحرية ولكن بشروط."
تذمر حسن:
"وهل هناك حرية مشروطة؟"
كان سؤالاً ذكياً من هذا الفتى، فقال خالد:
"هذا يعتمد على مفهومك أنت للحرية، أخبرني ما هي الحرية؟"
"أن أفعل كل ما أريده في الحياة دون شروط أو قيود أو خوف."
ابتسم خالد قائلاً:
"هذه الحرية دون إدراك ووعي لدورك كإنسان في مجتمع كبير، أسميها حرية غير أخلاقية، حرية غير مسؤولة، وهذا سيؤذيك في النهاية، وسيؤذي من حولك."
لم يرد عليه حسن، فأكمل خالد:
"سأسمح لك بالخروج والسهر، ولكن بشروط، وفي أماكن وأوقات مناسبة."
سأله حسن بمكر:
"والسجائر؟ بمناسبة أنني صرت شاباً ولم أعد طفلاً."
نظر خالد إليه بابتسامة متلاعبة:
"جرّب هذا، وستُعاقب عقاباً لم تختبره أبداً طوال حياتك، أيها الشاب."
ضربه الرجل على رأسه، وابتسم الاثنان. مسح خالد على رأس حسن وهو يفكر كم نضج هذا الفتى كثيراً عن الماضي. لم يكن هذا التمرد الذي ظهر فجأة كالذي رآه من قبل في حسن عندما دخل المنزل لأول مرة؛ الفتى الجامح، العنيد، الرافض لكل ما قُدم إليه. تبدلت نظرات التحدي والعناد في عينيه إلى هدوء وشرود. ما زال طائشاً بالفعل، ولديه الميل لتعدي الخطوط الحمراء، ولكنه صار يفكر كثيراً، وهذا مهم ونادر لفتى في سن المراهقة في مثل هذا الجيل. لذلك لم يكن خالد مرتاباً من هذا النوع الجديد الذي ظهر فجأة في الفتى.
قاطع حسن أفكاره قائلاً:
"عليك النزول الآن، ففؤاد ربما ينتظرك حتى الصباح."
تذكّر خالد الفتى الصغير الذي وعده بلعب الشطرنج معه، هذه مسؤولية أخرى... واجب تنفيذها.
***
بعد تلك الأمسية اللطيفة، اتجه جميع من في المنزل إلى غرفهم، عم الهدوء المنزل إلا من همهمات الأطفال الصغار المشاغبون التي خفتت بمرور الوقت حتى تلاشت تماماً، وعم الصمت المنزل، ولكن شخص واحد كان عقله صاخباً، يحمل داخله قلقلاً وهماً يثقلان قلبه، هذا الشخص كان السيدة أنيسة، شعرت المرأة أنه كان هناك شيء خاطئ في الفتاتان نور وفرح، لم تكن الأجواء المحيطة بهن على ما يرام، وهذا جعلها قلقة، وإن شعرت بالقلق لن يمس النوم جفونها، لذلك كان عليها أن تطمئن عليهن، وبالفعل اتجهت إلى غرفهن. الغرفة الأولى كانت تخص فرح والتوأم وليلي، دخلت الغرفة التي تضم ثلاثة سرائر بهدوء شديد حتى لا يستيقظ التوأم ويثيروا الصخب، أطمأنت على ليلى التي تنام بهناء واتجهت إلى سرير فرح، وجلست تتأمل المراهقة النائمة، لم تكن لديها النية لتوقظها، بل تأملتها بحب وهي تراها سالمة آمنة أمامها، وتنام على سريرها بهدوء، وضعت يدها على شعر فرح الجميل وهمست:
"حبيبتي، يا ترى ما الذي تمرين به؟".
حركت فرح جفونها بقلق، ولكنها هدأت مرةً أخرى. فكرت أنيسة، إن كان هناك شيء تستطيع فعله لتحرر هؤلاء الأطفال من أحزانهم ستحرك الجبال لأجل فعله، همست بصوت مهتز:
"فأنتم أغلى ما لدي".
شعرت أنيسة بالطاقة تدب في جسدها العجوز الهزيل، عندما تخيلت أن أطفالها في حاجة ماسة إليها، مسحت مرة أخرة على شعر الفتاة، وكأنها تتأكد أنا بخير، ثم غطت جسدها ونهضت بهدوء كما دخلت وأغلقت باب الغرفة دون أن يشعر بها أحد. فتحت فرح عينيها وتأملت سقف الغرفة بعيون فارغة، كانت بالفعل مستيقظة.
اتجهت أنيسة إلى الغرفة التالية التي تضم أربع سرائر يشغلها نور، ليان، أميرة، ويحى وسارة على سرير واحد، وجدت أميرة مستيقظة بالفعل وتدرس بجد كما هي عادتها، التفتت الفتاة فور سماعها صوت الباب، وقالت باستغراب:
"ماما هلى هناك شيء؟".
اتجهت أنيسة إلى أميرة وجلست على سرير الفتاة بجوار المكتب وهي تقول هامسة:
"لا شيء حبيبتي، لماذا لا تنامين؟".
نظرت اميرة إلى دفترها وردت بنفس طبقة الصوت الهامسة:
"هناك بعض الدروس علي أن أراجعها، لن أتأخر".
ابتسمت أنيسة ونظرت إلى نور بقلق، لاحظت أميرة قلق أمها وقالت:
"ماما لا تقلق على نور، أنا بجوارها".
تفاجئت أنيسة من إحساس أميرة بالمسؤولية تجاه أختها، فابتسمت والقلق مازال باد على وجهها وقالت:
"هل تعلمين ما بها؟ تلك الطفلة ليست بخير".
قالت أميرة وهي تتأمل نور:
"لا لم نتحدث، ولكن أنا أيضاً شعرت بذلك، كان غريباً أن تطلب مني مساعدتها في البحث عن العصا التي أعطاها لها أبيه خالد، وهي قد رفضتها من قبل".
"هل تشاجرت مع أحمد؟".
مال رأس أميرة بحيرة وقالت:
"أعتقد هذا، من الواضح أن علاقتهم ليست على ما يرام".
لم ترد أنيسة على أميرة، كانت مشغولة ومهمومة بهموم الأطفال، نظرت بشفقة إلى جميع الأطفال النائميين بهناء في الغرفة، تلك النفوس البريئة الصغيرة، كيف لها أن تتحمل قسوة الحياة، شعرت أن رغبتها في حمايتهم فاقت الحد، وأن هذا ربما يصل إلى حد المرض، فاستغفرت ربها ونهضت وهي تقول لأميرة:
"ليلة هانئة حبيبتي، لا تتأخري في النوم".
***
كان هذا يوم الجمعة، الساعة الرابعة والنصف فجراً ومازال الكون نائماً ساكناً، إلا من صوت باب الدفيئة الذي فتحه عم حمدي، أصدر الباب أزيزاً منخفضاً، ولكن مزعج للسامعين، أفسح الرجل المجال للمرأة المسنة للدخول أولاً:
"تفضلي".
دخلت أنيسة وهي تتمتم بصوت خفيض:
"شكرًا لك يا عم حمدي، تستطيع الذهاب الآن وسأبلغك عند خروجي".
فتحت المصابيح وأنيرت الدفيئة بضوء خافت ورحل الرجل بعد تلقي التعليمات، ليترك المرأة التي تجولت في المكان بخطوات بطيئة مُتمهلة. تدفقت حركاتها البطيئة بسلاسة في طريق ممهد يحفه من الجانبين رصيفان تنبت منهما شتى أنواع الزهور بشتى الألوان الزاهية، تدلت أصائص الزهور أيضًا من دعائم السقف ليخلق هذا الترتيب صورة زاهية مُبهرة لا تقل سحرًا أو جمالاً عن الحديقة في الخارج. في نهاية الدفيئة كان هناك باب آخر وامامه طاولة يحاوطها أربعة كراسي. تأملت أنيسة المكان الجميل وعلى وجهها ابتسامة فخر خفيفة تحولت فجأة إلى ابتسامة مريرة وهي تستوعب احدى الحقائق المرة:
"ألن يكون هذا المكان أكثر جمالاً لو كنت هنا؟".
لم تجد المرأة إجابة على السؤال الذي سئل فقط داخل عقلها. كانت تخطو خطوات بطيئة، ومع كل خطوة تجلب سيلاً من الذكريات الجارفة تعذبها وتلح على قلبها الضعيف المشتاق. اتجهت إلى حيث تنبت أزهار التوليب الحمراء، وانحنت تتأملهم بافتنان وتتحسسهم برفق، ثم مدت يدها مُلتقطة شيء ما قريب، كان مقصاً لقطع الورود. استخدمت أنيسة المقص بحرفية وهي تفصل الورود عن مصدر حياتها، كانت صوت قطع سوق الورود يذكرها بذلك اليوم الذي لم تنسه أبداً، اليوم الذي لطالما أملت أن يكون ليس إلا حلم نابع من مخاوفها، ربما لما لا؟، ربما يكون حلماً ونحن لا ندري، فهل الحالم في حلمه قد يتوقع لوهلة أنه مجرد حلم أو وهم؟ استفاقت المرأة الحالمة على صوت المقص الذي اخرجها بقسوة من أملها، فتأملته، هذا المقص الذي لا يرحم كان يقطع الزهور بكل بساطة ودون مقاومة فعليه، جعلها تشفق على تلك الأزهار الحمراء الجميلة وهي تفقد حياتها بقسوة.
"لماذا يقطف البشر الورود؟".
نظرت إليه الشابة بحيرة وعلى رأسها قبعة صيفية صفراء كبيرة تحميها من أشعة الشمس الحارقة وقالت:
"الورود خلقت لنهديها لبعضنا البعض ونزين بها منازلنا، لذلك نقطفها".
تأمل الرجل الشابة الجميلة التي ترتدي فستاناً دون أكمام:
"بل خلقت لتظل في مكانها كما هي جميلة وزاهية، نمتع نظرنا بها فقط وليس لنشوه تلك الصورة البديعة".
ردت الشابة بحيرة:
"ولكنها تعود وتنمو مرةً أخرى".
سألها:
"وماذا لو لم تنبت مرة أخرى، نكون قد قضينا بنفسنا على هذا الجمال".
همست المرأة العجوز مُتحدثة إلى الوردة الفاتنة وهي تقضي عليها بالشفرات الحادة:
"عذراً أيتها الجميلة، الحياة حقاً قاسية".
سكتت وأكملت:
"في هذه الحياة القاسية شتى أنواع العذاب، قطفك ربما يكون أهونها".
سألتها بعد جولة أخرى من الصمت:
"أتشعرين بالألم؟".
لم يصلها رد، هكذا كان الحال دائمًا. ظلت المرأة تقص الورود وهي منحنية، حتى شكلت باقة ينقصها فقط أن تشد عليها خيطاً يجمع سيقان تلك الورود مع بعضها البعض. وضعت المقص جانباً ثم رفعت جسدها ودست يدها في جيبها لتخرج منه الخيط المطلوب، ثم التقطت الزهور وجلست على الطاولة تشذبها، لم يكن هناك صوت في الدفيئة سوى صوت المقص والسكين الصغير التي تستخدمهم في تقليم الورود. اختلطت الأصوات بصدى أفكارها التي غرقت فيها حتى كادت أن تؤذي نفسها بالمقص، وبعد انتهائها جمعتهم بالخيط في شكل باقة حمراء من أزهار التوليب، ثم وضعتها أخيراً على الطاولة وأخذت تتأملها بصمت. كانت مشاعرها في حالة هرج ومرج، المزيج من الحنين والاشتياق والشجن، مزيج ينبع من أحداث صارت وولت منذ زمن بعيد، ذكريات لم يعد لها حتى أشخاص أو أماكن تستذكرها فيها أو تشم فيها عبق الماضي، لم يتبق من هذا الماضي سواها هي، ولا يشهد عليه معها إلا شعرها الأبيض وتجاعيدها العميقة. كان هو العنوان الرئيسي لهذه الذكريات، ابتسامته الجميلة وصوته الشجي ووعوده الصادقة التي لم يعطه القدر الفرصة ليفي بها. دلكت المرأة صدغيها في محاولة واهية لطرد تلك الذكريات، ولكن حذار من عقل بشري لا يرحم مالكه، عقلاً لحوحاً يعمل دون كلل أو ملل، يقلب الذكريات هنا وهناك، فيصرف عنك كل ما تشغل نفسك بك، ويضعك أمام ذكرياتك وأحزانك وأوهامك وجهاً لوجه ويتحداك أن تهرب من حصارهم. تأملت أنيسة الدفيئة مرةً أخرى من حولها، ورأت في ركن ذكرى، ذكرى شابة كان عنوانها الأمل والحياة و.... العشق، فابتسمت على تلك الذكريات، وسرعان ما تألمت على أخرى. لم تكتف هذه المرة بتدليك صدغيها، بل مسحت وجهها بكلا كفيها لعلها، مسحت تجاعيدها بقسوة وعنف لعلها تمسح هذه الذكريات التي تعذبها لوقت طويل. كانت أمراه عاشت في هذه الدنيا عمرًا طويلاً وخاضت دروبًا طويلة، وأمام ذكرى واحدة لشخص واحد، يهوى قلبها وتتأزم روحها وتقع أخيرًا في فخ الذكريات. مر الوقت وهي على حالها تتأمل الباقة تحت الأنوار الخافتة للدفيئة، حتى سقط على وجهها أول شعاع ينير حياة الليل المظلمة الساكنة، أخترق حدقتيها فأغمضت عينيها ليس لأن الضوء يزعجها، بل لأنه أخرجها من أحلامها الجميلة التي جلبتها معها هذه الباقة الحمراء أمامها، أغمضت عينيها لتبقى على هذه الذكريات التي كانت حاضرة بصورة واضحة أمامها منذ لحظات. سمعت طرقًا على باب الدفيئة:
"ست أنيسة".
لم يدخل مُنتظراً أن تأذن له، وقال:
"السائق في الانتظار".
نهضت المرأة ببطء وهي تمسح غباراً وهمياً غير موجود على تنورتها التي تنسدل تحت الركبة، ثم التقطت باقة الورد التي قطفتها وجمعتها بنفسها وقالت بصوت معتدل واضح:
"سآتي فوراً".
خرجت من الدفيئة، كانت الساعة قد قاربت على الخامسة والنصف صباحاً، ولم يتبق على ميعادها سوى نصف ساعة، أطفأ عم حمدي الأضواء خلفها وتبعها حتى أوصلها إلى السيارة التي دخلتها وهي تنبه عليه أن يتأكد من إغلاق الدفيئة بشكل محكم.
***
تحرك حاجباه في قلق ففتح عينيه ونظر إلى السقف، أسقط يده على عينه:
"لا أستطيع النوم".
كان خالد يعاني في بعض الأوقات من الأرق، بسبب عقله المشغول طوال الوقت، ومثل اليوم مهما حاول إغماض عينيه لن يستطيع الانخراط في النوم. لم يكن الأمر مجرد أرق بل شعور بالاختناق لا يعرف مصدره.
نهض إلى النافذة وفتحها بكلتا يديه لعلها تطرد هذا الإحساس بالاختناق. التقط نسمات من الهواء النقي. كان يشعر بالألم، في الواقع طوال عشرين عامًا شعر بالألم، على الرغم من هذه الحياة التي عاشها، وهذه الفرص والسبل التي مُهّدت له ليصل إلى حاله الآن، الذي يحسده عليه الكثير من أقرانه. استند على النافذة وهو يلوم نفسه على هذه المشاعر التي لا يفترض به أن يشعر بها. وكيف نتحكم بمشاعرنا؟ إنها عضو من أعضائنا غير المرئية، لا سبيل للتحكم فيها أو التعديل عليها بهذه السهولة.
لطالما كان ممتنًا لله على هذه النعم التي منَّ عليه بها، بداية من هذه المرأة التي التقطته من الشوارع وحولته لهذا الرجل البالغ القوي، إلى هؤلاء الأطفال الذين اخترقوا حياته قسرًا وعبثوا فيها بحلاوة وخفة. كان حقًا ممتنًا، ولكن امتنانًا يرافقه ألم غير مفهوم لا يعلم سره. ربما كان هذا بسبب اليُتم والماضي المجهول، إنّ مشاعر اليُتم قاسية، مهما حاول الزمن أن يمحوها. تظلّ ملتصقة بك، جزءًا لا يفارقك أبدًا حتى موتك، خصوصًا إن كنت لا تعرف هويتك ولا أصلك.
خالد كان دائم الفضول تجاه ماضيه الذي لا يدركه. كان الأمر يشكّل أزمة داخل عقله الباطن، أزمة لا يُدركها بوضوح، لكنها تظهر من حين لآخر في شكل صداعٍ مفاجئ، أرقٍ ممتد، أو مزاجيةٍ لا تفسير لها.
شعر أنه يريد الذهاب إليها وإلقاء همومه عندها. تذكر أن اليوم هو الجمعة، فالتفت إلى الساعة التي كانت السادسة صباحًا:
"يبدو أنها رحلت."
كان يحتاجها في مثل هذا الوقت، ولكنها بالتأكيد غير موجودة. فقد ذهبت لتقلى شخصاً أهم منه.
أدرك أنه لن يستطيع حتى العودة إلى النوم مرةً أخرى، على الرغم من أن هذا اليوم هو الإجازة الوحيدة له في الأسبوع، ولكن النوم طار من عينيه، لذا قرر أن يستغل الوقت في ممارسة بعض الأنشطة في هذا الجو المنعش.
***
كانت الشمس قد تجلت بوضوح في كبد السماء وأرسلت أشعتها الحارقة فوق الرؤوس.
وقفت أنيسة أمام قبر مكتوب عليه:
قبر البطل الشهيد الرائد
كمال فوزي
استشهد يوم الأحد 17 أكتوبر 1973
وضعت أنيسة الباقة على رخامة القبر، ثم رفعت يديها تقرأ الفاتحة بتأن وتتمتم بدعوات لروح هذا الشهيد، وبعد أن انتهائها، فتحت عينيها ثم سحبت الكرسي بجوار القبر وجلست بهدوء، لم يكن هناك سوى صوت صفير زوبعة صغيرة مرت بجوارها ورحلت فتركت داخلها أثراً كئيبًا وشعوراً بالفراغ العميق، صفت حنجرتها وتحدثت بصوت خافت:
"عزيزي كيف حالك؟".
ابتسمت وردت نيابة عنه:
"أنا أعلم أنك بخير".
سكتت هنية ثم أكملت وهي تنظر إلى الباقة:
"هل الورود جميلة؟ جلبت اليوم من الدفيئة التوليب الأحمر التي تحبها، أعتذر لو أزعجتك وقطفتها، أعلم أنك لا تحب أن أقطف الورود، ولكنها للأسف عادتي لا أستطيع تغيريها".
ابتسمت بمرح:
"أعتقد أنني أصبحت مجنونة، لو رأيتني وأنا أعتذر لكل وردة قطفتها كنت لتضحك علي".
لم تجد المرأة ردًّا، ولطالما تاقت إليه. لكن الصمت، كعادته، كان الجواب الوحيد لكلماتها. ورغم ذلك، واصلت حديثها مع الشخص الراقد في القبر بجوارها:
"حياتي كما هي تدور بين الأطفال والمنزل.. وخالد".
سكتت لثوان وهي تفكر في آخر أسم:
"خالد... هذا الولد صرت أقلق عليه كثيرًا، أصبحت أفكر مؤخراً أنني حملته مسؤولية أكبر منه، وما يضايقني ويؤنب ضميري أنه يتحملها دون اعتراض، أعتقد أن أي شاب في مثل هذا السن عليه أن يفكر في الزواج والعائلة، ولكنه لا يفكر إلا في العمل والأولاد فقط"
شردت قليلاً ثم همست:
"هل كنت أنانية يا كمال؟".
نظرت إلى شاهد القبر:
"لو كنت مكاني ماذا كنت لتفعل؟".
تنهدت ونظرت إلى الفراغ مرةً أخرى:
"لم يعد يتحدث كثيراً كالسابق، ينكب على عمله صباحاً ومساءاً، لا يجد حتى الوقت ليشاركه معنا، وهذا يشعرني بالوحدة قليلاً على الرغم من صخب الأطفال، لكن هذا الولد يختلف عنهم، إنه أحد أسباب حياتي".
سبحت الغيوم ببطء فغطت قرص الشمس وحجبت أشعتها عن الوصول، أخذت أنيسة نفساً ثم تحدثت:
"العود الخاص بك ستستعيره منك شابة جميلة، طبيبتنا الجديدة، شخصية ظريفة ورقيقة جداً أحببتها منذ اليوم الأول، الأطفال أحبوها على غير المتوقع".
انسحبت الغيوم بعيداً وأفسحت المجال لأشعة الشمس، ليغلبها الحنين والاشتياق عند استشعارها لدفء أشعة الشمس التي ذكرتها بالأيام الخالية:
"كمال".
نادت اسمه برقه، وقد كان حقيقةً أجمل أسم رددته طوال حياتها:
"كمال".
رددته مرةً أخرى وكأنها تتذوق حلاوته في فمها، ثم ابتسمت بعذوبه وقالت:
"كمال، اشتقت إليك".
***
نهاية الفصل الرابع
وتستكمل القصة في الفصل القادم.
لا تنسوا الvote من فضلكم
***
أهلاً أعزائي القراء..
شكراً على صبركم.
كاتبتكم ءَالَآء..
سؤال الفصل: توقاعتكم للأحداث الجاية؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
رواية المنزل على المدونة:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق