رواية المنزل
الفصل الخامس
فضلاً، متنسوش الvote.
***
مضى أسبوع منذ إقامة سالي في المنزل، حاولت خلاله أن تندمج مع أفراده بشكل طبيعي. الأولاد الصغار كانوا قد تأقلموا على وجودها حتى بدأوا بمناداتها باسمها دون أية ألقاب، وهذا كان يزعج السيدة أنيسة بشكل خاص، ولكنه لم يُضايق سالي على الإطلاق، بل عمّق من الألفة بينهم. أما الأولاد الكبار، فبعضهم لم يُعرها انتباهًا على الإطلاق، كحسن وعبدالله على سبيل المثال، والآخرون كانوا لطفاء إلى حدٍّ ما، أو على الأقل لم يُضايقوها.
علاقتها مع باقي الأفراد في المنزل كانت مهنية بحتة يغلبها الاحترام، أما سيد المنزل، فلم تره في أغلب الأوقات نظرًا لانشغاله في أموره الخاصة بعمله. كان محمود يمر عليه صباحًا في الساعة السابعة والنصف، ويعود في الخامسة مساءاً.
قضت سالي أغلب أوقاتها في القراءة في الحديقة الكبيرة، أو كتابة الرسائل، أو العزف على العود، أو قضاء الوقت مع الأطفال الصغار. نوبات اكتئابها كانت تقلّ بشكل ملحوظ بسبب طبيعة المكان الذي تتواجد فيه، والأولاد الصغار الفضوليون الذين لا يتركون أحدًا لحاله، كانوا يتبعونها كالفراخ الصغيرة التي تتبع والدتها. وعلى الرغم من أن هذا الأمر كان يُسليها جدًا، فإنها كانت تشعر بأنها مُقيدة بأزواج صغيرة من العيون الفضولية.
كانت الساعة السابعة صباحًا، يوم الإجازة، ولن يستيقظ أحد قبل التاسعة على الأقل. لذلك قررت أن تنزل إلى الحديقة، لعلها تستطيع اللحاق بما بقي من مشهد الشروق، في وقتٍ بدأ فيه الخريف يفرض سيطرته على الأجواء، ونفث فيها من البرد نسمات يتصلب لها الجسد لوهلة.
جلست سالي في الحديقة تحت العريشة، تكتب بعض الرسائل والخواطر، واضطرت إلى لفّ الشال حول كتفيها لتحمي نفسها من تلك النسمات الخفيفة التي تشعر بها من حينٍ إلى آخر. وعلى الرغم من ذلك، غردت الطيور، ,حلّقت بين الأشجار المتساقطة أوراقها، التي تسللت من خلالها بعض أشعة الشمس الذهبية. وتجولوا حول النافورة البديعة التي عكست الأشعة الذهبية المتلألئة الساحرة.
تداخلت هذه الصورة المليئة بالألوان الطبيعية، مع صوت حفيف أوراق الشجر المحمولة في الهواء، وأصوات الطبيعة في أذني سالي، فأدخلوها في حالة من التأمل ويقظة الوجدان، جعلاها تخوض شوطًا كبيرًا في الكتابة والتجول بين خواطرها.
]صباح الخير،
أتذكّر أنني عشقتُ أدب الرسائل منذ زمن بعيد، بسبب تلك الروايات التي كانت تجلبها لي ماما من "مشروع القراءة للجميع". أتذكّر أيضاً كلمتها عند عودتها من العمل وبيدها رواية جديدة، كانت تنحني وتقول: "سالي، اشتريتُ لكِ رواية جديدة."
كنتُ ألتقط الكتاب وأركض بلهفة لأقرأه، وأنهيه بسرعة تحت الإضاءة الخافتة.
تلك الروايات ألهمتني لكتابة مثل تلك الرسائل، كان ما يثير ذهول طفلة مثلي أن بطل الحكاية كان يصله الرد على رسائله! أليس من الرائع أن يستجيب أحد لرسائلنا؟ إنسان حقيقي يفتح رسالتي بعناية، يقرؤها ببطء واهتمام، يُنصت لتلك الخواطر النابعة من أعماق القلب ويتفاعل معها، شخص حيّ يُرزق في هذا العالم. وعندما يفرغ من قراءة الرسالة، يلتقط قلمه وورقته، ويبدأ في كتابة رد بكل حب وصدق.
كنتُ صغيرة، في الحادية عشرة من عمري، وتخيلتُ لو أنني أرسلت رسالة إلى شخص ما، مهما كان، سيصلني في اليوم التالي الرد على رسالتي. هكذا تعلمت من هذه الروايات.
وبالفعل، في يوم من الأيام، كتبتُ رسالة لوالدي وأرسلتها، وانتظرت الرد لأيامٍ وشهور، ولكن... لم يصل رد على رسالتي المسكينة.
كانت هناك حربٌ مع آمالي كل يوم، حتى أقنعتني ماما أنه ربما ضاعت الرسالة من ساعي البريد، فأرسلت المزيد والمزيد من الرسائل، ولكن كان نفس الرد... لا رد.
عندها فهمتُ وأدركتُ الواقع المرير. وبدلًا من إرسال الرسائل إلى بابا... تشكّلت أنت.
عندما أكتب مثل هذه الرسائل، أتخيّل لوهلة أنك بالفعل هناك، في مكانٍ ما في هذه الحياة، تمسك رسالتي وتتفاعل معها بكل جوارحك. ويا ليتك كنت هنا بالفعل، ولستَ نَسْجًا من خيالي وروحي المحرومة، التي تتوق لهذا الوجود الحيّ لإنسان حقيقي من لحم ودم وعقل ومشاعر، يرد على رسائلي التي لا تصل أبدًا.
رسائلي... أتساءل، لمن أبعثها؟
أحيانًا يُخال لي أنني مجنونة، أتوهم أنك شخص حقيقي، ربما تظهر يومًا ما من العدم، وتخبرني أنك كنت تقرأ تلك الرسائل المسكينة، ولكنك لم تجد الفرصة للرد عليها.
أنا مُدركة تمامًا أنك نابعٌ من احتياجي العاطفي، الذي تكوّن من هذا الشوق الذي لم يُلبَّ أبدًا، وهذا ما تغذّت عليه رسائلي.
أنا غير قادرة على إنكار مدى شعوري بالوحدة والضياع، وأخاف أن تتحوّل من صديقٍ خيالي إلى اضطراب، فتتعقّد المسألة وتُصبح خطيرة. هذا الإدراك هو الشعرة ما بين شكي في سلامتي العقلية... وجنوني.
ومع ذلك للأسف... فهو يضرب قلبي في العمق.
سالي.[.
هبت نسمة من الهواء لفحت شعرها الذي ناوش بشرتها برقة، فتحرك جفناها بقلق واستيقظت ليستقبلها لون السماء الأزرق الجميل. عدّلت رقبتها التي سقطت دون وعي على الكرسي، وحدّقت في المكان حولها دون تركيز. يبدو أنها سقطت في النوم.
حدّقت لثوانٍ في الدفتر المُغلق المستقرّ على ساقيها وبداخله الأوراق التي تكتب فيها رسائلها. حرّكت قدميها فشعرت بشيء يتحرك تحتها، كان القلم الخاص بها قد سقط على ما يبدو أثناء نومها، فانحنت لتلتقطه، ولكن يدًا أخرى سبقتها.
رفعت رأسها بدهشة إلى الشخص الذي سبقها، كان حسن، الذي وقف ببساطة مع نظرة ثاقبة على وجهه يتأملها دون مشاعر. سلّمها القلم الذي التقطه، فتناولته بتردد وقالت بحذر:
"حسن؟"
جلس الفتى مغمغماً:
"هل لديك وقت؟ أريد أن أتحدث معك."
ضيّقت سالي نظرها على هذا الفتى الغريب الذي تجاهلها دائمًا، ولم يوجه إليها حتى السلام بكلمة أو نظرة، ولاحظت ضمادة على كفه:
"نعم، بالتأكيد. هل آذيتَ نفسك؟"
انتبه الفتى وكأنه تذكّر أنه مصاب، فنظر إلى كفه ثم إليها:
"مجرد جرح بسيط."
تأملها الفتى لفترة وجيزة، وقال بوضوح:
"أريد أن أحدثك بخصوص فرح."
سألته بعناية، وجذور الشك تتجذر داخلها:
"ما خطبها؟"
رمقها بنظرة مباشرة:
"أنتِ تعلمين."
رمشت عيناها ببطء وقالت، وهي تدّعي الجهل:
"أعلم ماذا؟"
زاد عبوس الفتى، وقال لها:
"أعلم أنكِ على علم بمشكلتها."
أصرت سالي ببراءة مزيفة:
"من فضلك يا حسن، وضّح كلامك."
سكت لوهلة، ثم أكمل:
"معصمها..."
لم يجد استجابة من المرأة العنيدة، فتنهد بنفاد صبر:
"تؤذي معصمها بالمشرط، لقد رأيتها، وأخبرتني أنكِ تعلمين."
ألقت سالي نظرة على الفتى الذي بدا عليه أنه لا يستطيع التعبير بشكل صحيح نظرًا لطريقة كلامه غير المرتبة أو الواضحة. أخفضت رأسها على مهل، تنظر إلى الكتاب وهي في حالة من التفكير لم تستغرق الكثير من الوقت، ثم رفعت رأسها وعلى وجهها نظرة ثاقبة:
"أعلم."
تفحصها الفتى ولم يرد عليها، فأكملت:
"وعدتها ألا أخبر أحدًا، ولكن يبدو أنك أصبحت تعلم."
قال الفتى وما زالت النظرة العابسة على وجهه:
"رأيتها، في الواقع رأيتها أكثر من مرة."
حدقت سالي في الفتى المراهق بفضول:
"ولماذا لم تخبر السيدة أنيسة؟"
رد الفتى بلا مبالاة:
"لا أعلم، ولكني شعرت أن هذا ليس التصرف الصحيح."
كان هذا الرد خارجًا عن المتوقع بالنسبة إليها. توقعت أي رد، ولكن هذا كان غريبًا على مسمعها، فسألته بعناية:
"وماذا لو أن الأمر قد تطور لما هو أبعد من ذلك؟"
أثار ردها ابتسامة سخرية على وجه الفتى:
"لا تقلقي، هذه الغبية لن تضع نفسها في مثل هذا الموقف، مهما حدث فإنها تتمسك بالحياة."
لم تنتبه سالي إلى تعبير الفتى الغريب الذي استغرق في ذكرياته فجأة.
كان يجلس على سطح الدار التي نشأ فيها، يضم جسده وركبتيه تحت ذقنه، جسده كله مُشبع بالكدمات بعد أن حاول الهروب للمرة الخامسة. حتى انتبه لخطوات خافتة مترددة تأتي من خلفه. لم يلتفت الفتى المكدوم، فسمع صوت تنهد، واسمه يُنادى بحشرجة:
"حسن."
ثم شعر بيد صغيرة رقيقة على كتفه:
"حسن!"
كانت فرح، تلك الطفلة الخائفة التي تتشبث به في كل خطوة يخطوها. لم يلتفت إليها، فقالت بإصرار:
"حسن، هل ستتركني؟"
اهتز جسده، لم يعلم هل من البرد أم من تلك الكلمة الصادرة من هذه الفتاة اللحوحة:
"لا ترحل وتتركني بمفردي."
شعر بجسدها الصغير وكتفها الدقيق يستند على ظهره بخفة، قالت الطفلة وهي تُحاول السيطرة على صوتها غير المتماسك:
"لا بأس إن أردت الرحيل، لنرحل معاً ونعيش معًا."
اهتز جسدها وهي تبكي:
"لنعيش معًا."
"حسن!"
"حسن!".
سرعان ما خرج الفتى من أفكاره وذكرياته، وهو يحول انتباهه للمرأة التي تناديه وتحدق فيه بإصرار. تجاهل هذا الضيق المزعج الذي ينمو داخله، وهمس بصوته الهادئ:
"ماذا سنفعل؟"
مال رأس سالي وهي تفكر بعبوس، غير قادرة على إنكار حيرتها:
"لا أعلم، أنا في حيرة شديدة، ولكني قررت أن أبدأ معها بهدوء، أحاول أن أجد حلاً دون اللجوء إلى الكبار، على الأقل الآن، لذا أخذت عليها عهداً أن تخبرني كلما قامت بهذا الفعل."
نظرت إلى الفتى الذي يكافح للحفاظ على هدوئه وثباته:
"لا تقلق يا حسن، سنجد حلاً لهذه المشكلة."
تأملته لثوانٍ ثم قالت ببطء وحذر:
"ولكن عليك أن تساعدني."
نظر إليها وعيونه تحمل اهتمامًا:
"كيف؟"
شاركته سالي جزءًا من خطتها:
"أريد منك أن تراقب زملاءها في الفصل."
كانت نظرات سالي ذات مغزى أدرك حسن هدفها بسرعة، نظرًا لهذا البريق الذي ظهر فجأة في عينيه، فاكتفى بالصمت لتكمل سالي:
"في الواقع كنت سأذهب إلى المدرسة بنفسي، ولكنه ليس حلاً مناسبًا، بالعكس سيثير ريبة الجميع."
سألته بفضول:
"متى آخر مرة رأيتها تفعل ذلك؟"
أجاب حسن دون تردد:
"بالأمس."
"إذاً بناءً على اتفاقنا، عليها أن تأتي وتخبرني في أقرب وقت، لعلها تأتي اليوم."
قالت سالي هذه الجملة ودعت الله من قلبها أن تأتي فرح في أقرب وقت.
فتح الفتى فمه ليتحدث، لكن قاطعه أحدهم أمسكه من رقبته، وقد كان محمود، الذي تراه سالي لأول مرة بملابس غير رسمية. قال وهو يضايق حسن:
"هل تضايق طبيبتنا؟"
حسن الذي تفاجأ لوهلة أزال يد محمود بحدّة وقال:
"ابتعد عني! ما الذي جاء بك؟ أليس اليوم إجازة؟"
"أتيت لأراك، يا عزيزي."
واستمر محمود في إغاظة الفتى المراهق، فلم تجد سالي مفراً من الابتسام بتسلية أمام هذا المشهد الطريف.
تخلّص حسن من قبضة محمود ونهض مندفعًا:
"لا تقترب مني مرةً أخرى!"
وقبل أن يرحل، ألقى نظرة على سالي وقال باتهام:
"بالمناسبة، أنتِ كاذبة سيئة!"
ثم مضى، تاركًا إياها مع محمود، الذي نظر بحيرة بين الفتى والطبيبة المذهولة من جرأته.
وجّه حديثه إلى سالي:
"هل يضايقك هذا الفتى؟"
استجابت سالي بابتسامة باهتة:
"على الإطلاق، إنه لطيف."
أدعى محمود الدهشة تعليقًا على ردها:
"هذا الفتى القاسي لطيف؟ العبوس لا يُفارق وجهه!"
اكتفت سالي بابتسامة مجاملة ولم تعلّق. لم يكن لديها أي خلفية عن طريقة التعامل مع محمود، أو حتى مع رئيسه، لذلك شعرت بالحيرة والرهبة، وتمنّت في داخلها لو أنها ذهبت مع حسن، لكن الأوان كان قد فات.
وسرعان ما لاحظت أن محمود يحدّق فيها بصراحة، فتضخّم شعورها بعدم الراحة، وظهر ذلك في جلستها التي عدّلتها أكثر من مرة.
سعل محمود وسألها، وهو ينظر إلى الكتاب المستقرّ على حجرها، وكان عنوانه: كتاب الأغاني للأصفهاني – الجزء الثاني.
"أنتِ تقرئين؟"
كانت محاولة منه لفتح حديث مع هذه الشابة التي بدا عليها الارتباك وعدم الراحة في وجوده.
نظرت سالي إلى الكتاب وقالت:
"نعم... من حين إلى حين."
مرر يده على رأسه وقال بضَحكة بريئة:
"أنا أكره الكتب."
عدّل محمود كلامه بسرعة ووضّح:
"هذا لا يعني أن الأمر جيد، بالعكس... أتمنى حقًا أن أمارسها، لكنني لا أملك الصبر، ولا حتى الوقت لذلك."
ابتسم بسخرية وهو يفكر في المفارقة التي يعيشها: على الرغم من كرهه للكتب، إلا أنه الآن أحد المشاركين في مشروع "المكتبة" — الذي يُعد من أكبر وأهم المشاريع الثقافية في الجمهورية، وهو لا يفقه شيئًا في هذا العالم. حتى التقارير التي أحضرها معه، أعدّها له خبراء آخرون.
لمعت عينا سالي بالتسلية، وتخلّت عن حذرها أمام الشاب المتلعثم. مرّت كفها على غلاف الكتاب بحب، وقالت:
"القراءة ليست مجرد هواية أو عادة نمارسها لأننا نحبها، نحن البشر نحتاج إليها... وبشدة."
مال محمود برأسه كردّ فعل على كلامها العميق، فتنهّدت سالي وضمّت الكتاب إلى صدرها قليلًا، وقالت:
"في الواقع... القراءة أنقذت حياتي مراتٍ عديدة. لطالما كان لها فضل وتأثير مباشر على حياتي. عندما تدرك قيمتها وتأثيرها غير المباشر، ستفهم ما أعنيه. أما الآن... فستظل تنظر إليّ وعلى وجهك علامات استفهام كتلك."
أشارت إلى وجهه بابتسامة، وأكملت:
"وبالحديث عن الصبر... ربما اختيار موضوع الكتاب هو ما يحلّ المشكلة. أما الوقت، فيكفي أن تبدأ بكتب خفيفة وصغيرة، بمواضيع سريعة تُناسبك. لو أعجبك الأمر، يمكنك أن تتدرّج وتعلو بالمستوى. ولو لم يعجبك... فأنت لم تهدر شيئًا يُذكر من وقتك."
كان محمود يُنصت إليها باهتمام، يتأمل صوتها الرنّان وتعابير وجهها التي تتفاعل مع كل كلمة تقولها. كانت تتحدث من قلبها، وكل ما فيها، ملامحها، عينيها، نبرتها، يشهد على شغفها.
شعر وكأنه يجلس أمام امرأة تُحب شيئًا حقيقيًا. فسألها باهتمام، وكأنه يريد أن يستزيد:
"منذ متى وأنتِ تقرئين؟"
نظرت إليه بحيرة، وكأنه سألها سؤالًا غريبًا، وقالت:
"أقرأ منذ صغري."
عدّل محمود نظّارته وقال:
"إذًا، أنتِ متمرسة."
تأملت سالي الكتاب على حجرها، ثم نظرت إليه وقالت بابتسامة جميلة أربكت محمود:
"أي شخص يستطيع فك الحروف، إذًا هو قارئ متمرس... لكنه فقط لم يكتشف هذه الموهبة بعد."
"يعني هذا أنني قد أكون قارئًا متمرسًا؟"
أكدت سالي:
"ولكنك لم تستكشف هذا بعد."
ابتسم محمود وهو يتأملها، ولمعت عيناه:
"حسنًا... ساعديني لأستكشف هذا العالم."
قالت سالي بأجمل ابتسامة لديها:
"بالتأكيد!"
انتقل شغفها إليه، فتابع:
"إذًا... ربما تقترحين بعض أسماء الكتب الخفيفة."
وضعت سالي يدها على ذقنها وهي تتأمل الكتاب على ساقيها:
"لنفكّر..."
أمسك محمود بهاتفه مجددًا ليسجّل الرقم.
أملته له سالي بتردد، وفي داخلها صوت صغير كان يُحرّضها على تغيير آخر رقمين... لكنها أزاحت هذا الخوف جانبًا.
"فقط... شهر."
ردّدتها سالي كالدعاء.
كان محمود مستغرقًا في تسجيل الرقم، حين جاءه اتصال في نفس اللحظة. ما إن رأى الاسم، حتى ارتبك وتذكر سبب مجيئه.
رد على مضض، وقال:
"لقد وصلت."
جاءه صوت خالد ببرودة معتادة:
"أليس هذا القميص الجديد الذي اشتريته من آخر رحلة عمل؟"
لاحظت سالي أن وجه محمود شحب قليلًا، ونظر تلقائيًا تجاه المنزل. هناك، في النافذة، رأت خالد يشير إليه بيده، والهاتف على أذنه.
أمره بهدوء:
"اصعد."
نهض محمود على مضض، وقال وهو يودّعها:
"سأذهب الآن يا آنسة... شكرًا لك على وقتك."
"على الرحب، مستر محمود."
مضى الرجل ما بين رغبة واضطرار... رغبة في العودة لتلك المرأة، واضطرار للصعود إلى رئيسه.
***
كان خالد يجلس في الشرفة، وشعره لا يزال رطبًا، تتساقط منه قطرات الماء، ويبدو أنه خرج لتوه من الحمام. كان مستغرقًا في التصميم الذي أمامه، لكن تركيزه لم يكن منصبًا بالكامل عليه. كانت عيناه تراقبان من حين لآخر الطبيبة الجديدة وهي تتحدث مع محمود، حتى غادر الأخير، فنهضت هي من مقعدها ودخلت المنزل. دون وعي، رسم خالد خطًا منحنِيًا بدلًا من خط مستقيم، فقد كان غارقًا في أفكاره الخاصة. لكنه سرعان ما استعاد تركيزه حين رأى محمود يدخل المنزل حاملًا بعض الأوراق التي كان يجب الاطلاع عليها.
طرق محمود الباب، ودخل بعد أن سمع صوت خالد المنخفض يأذن له:
"ادخل."
وجد رئيسه يجلس في الشرفة مستغرقًا في التصميم. نظر إليه متأملًا وقال وهو يجلس على الأريكة المقابلة للشرفة، وخالد في مرمى بصره:
"ما الذي يجعلك مستيقظًا في مثل هذا الوقت؟ ألا تنام أبدًا؟"
تجاهل خالد سؤاله ورد بهدوء دون أن يلتفت إليه:
"هل أحضرت التقارير؟"
نهض محمود بسلاسة، متنهدًا، وهو يلتقط الجهاز اللوحي من حقيبته ويعدل من جلسته:
"أنا لم أنم بسبب تلك التقارير. سآخذ علاوة بدلًا من هذا التعب."
"كف عن التذمر، وأرني ما جمعته."
"لديك هنا معظم أسماء الكتّاب المشهورين في المجال الأدبي، وأضفت بعض الأسماء المهمة من دول عربية أخرى، وهناك أيضًا معلومات مفصلة عن كل أديب."
ناول محمود التابلت لخالد، الذي بدأ يتفحص الأسماء بعناية، ثم سأله:
"هل هذا مجهودك الشخصي؟"
أجاب محمود بتلقائية وصراحة:
"بالطبع لا. جمعت تلك المعلومات بصعوبة وبمساعدة آخرين."
ابتسم خالد وقال:
"كنت متأكدًا. سأراجعها لاحقًا. سيكون من الجيد أيضًا أن نضيف بعض الأسماء الأجنبية للافتتاح، فهذا سيساعد في تعزيز المعرفة بالأدب العربي. علينا أن نهتم بالقسم الخاص بالأدب العربي المترجم إلى الإنجليزية."
ثم أكمل بعد ثوانٍ:
"أريدك أيضًا أن تفرزهم حسب المجال الذي يكتب فيه كل أديب."
كان محمود يدوّن في مفكرته ويهمهم بالموافقة.
"علينا دعوة المؤثرين، خاصة من يقدمون محتوى راقيًا وجذابًا."
استطرد خالد وهو يدقق في المعلومات أمامه:
"كما أنه من المهم فتح باب للتقديم للكتّاب الهواة في مجال القصة القصيرة، وسنختار الفائز ليعرض قصته مع مؤثرات بصرية لتكون الفقرة الافتتاحية."
نظر إليه محمود بإعجاب، فتابع خالد:
"بالنسبة للكتب..."
توقف فجأة ثم تنهد وأكمل:
"فالحديث فيها يطول. أهم نقطة هي الأسعار، إن استطعنا التحكم فيها، فهذا سيشجع الناس على الشراء والعودة إلى القراءة. وهذا هدف المكتبة الأول."
"علينا أن ندرس الاستراتيجية يا محمود مرارًا وتكرارًا، يجب أن نفكر في طريقة لنكون قوة ناعمة قادرة على جذب اهتمام الناس عن طريق المحتوى البصري. من المهم التركيز على تحسين الأخلاق الاجتماعية، ولكن بطريقة مبتكرة."
عدل محمود نظارته باهتمام وقال:
"كيف؟"
رد خالد وهو يضغط على كلماته بتفكير:
"لا أعلم... أحاول العثور على أفكار، ولكني بالتأكيد أحتاج إلى المساعدة، فهذا في النهاية ليس مجال دراستي."
نظر خالد إلى محمود وكأنه عثر على فكرة:
"ما رأيك بالعروض والمسرحيات، ولكن بتقنيات احترافية؟"
علق محمود وهو يعقد حاجبيه بقلق:
"ولكن يا خالد، هذا الأمر سيحتاج إلى الكثير من الأموال."
فكر خالد بعمق. كان محمود على حق، لم يكن خالد ثريًا إلى هذا الحد، ولكن هذا هو هدف المكتبة من الأساس: أن يكون لها دور كبير وملموس في التأثير على الثقافة المجتمعية. ربما يكون هذا تحديًا كبيرًا، لكنه كان الهدف من البداية. تذكّر خالد كيف كبرت تلك الفكرة التي اقترحتها أنيسة حتى وصلت به إلى هذه المرحلة الآن. عليه أن يقدم لهذه الفكرة كل ما يملك.
نظر إلى محمود:
"سنطلب التمويل من وزارة الثقافة."
قالها خالد بثقة.
لكن قبل أن يرد عليه محمود، قاطعهم صوت عالٍ قادم من الحديقة:
"أبيه!"
نهض خالد بسرعة إلى الشرفة، ليجد لارا وفؤاد يناديان عليه بأعلى صوت:
"أبيه، الفطور جاهز!"
أشار لهم وعلى محياه ابتسامة:
"اخفضوا أصواتكم، سآتي حالاً".
لكن الأطفال لم يعيروا كلامه انتباهاً وتمادوا في النداء، فخرج من الشرفة وهو يقول لمحمود:
"خذ في الاعتبار لا راحة اليوم، هناك الكثير من الأمور التي تتعلق بالمكتبة علينا أن ننتهي منها".
تمتم محمود بصوت مسموع:
"على الأقل أمنحني يوم إجازة هانئ أستطيع فيه شحن طاقتي".
قال خالد وهو يتفحص هاتفه باهتمام:
"لا هناء ولا راحة حتى ننتهي من أمر المكتبة، أمامنا بالفعل الكثير من العمل".
***
لم تشارك السيدة أنيسة الفطور كعادتها مع الجميع، مما أثار استغراب سالي. التفتت إلى فرح التي كانت تجلس بجوارها وتعبث بهاتفها بانتباه شديد، فسألتها هامسة:
"فرح، أين ماما؟"
تركت فرح هاتفها ونظرت إليها بحيرة، قائلة:
"ماما لا تشاركنا الفطور يوم الجمعة، ولكنها ستأتي قبل الغداء."
سكتت سالي، ولم تتعمق في أسئلتها أكثر من ذلك. شيئًا فشيئًا، انحسرت أفكارها عن أنيسة، وتأملت فرح الجالسة إلى جوارها.
لاحظت أن الفتاة شاحبة، تحيط عينيها هالات سوداء توحي بأنها لم تذق طعم النوم ليلًا. لكن الموقف لم يكن مناسبًا لسؤالها عن حالها، فالفوضى والصخب الذي أحدثه الأطفال كان كفيلًا بتشتيت الانتباه. قاعة الطعام لم تسلم من عبثهم وجرائمهم الطفولية، وكأن كل شيء من حولهم كان يتحول إلى ساحة معركة، لكن بريئة.
لاحظت أيضًا أن خالد لا يتفاعل إلا مع الأولاد ويمازحهم، أما مع الموظفين فيتعامل بأدب، ولا يوجّه إليهم الكلام إلا في حالات قليلة جدًا وعند الضرورة. كان يمثّل بحق هيئة رجل المنزل.
سألتهم ذكية وهي تقدّم لنور الطعام:
"ماذا تحبون اليوم على الغداء؟"
اندفع الجميع بذكر وجبته المفضّلة، لكن خالد طرق على طبقه ليصمت الجميع، فاستغل أحمد الفرصة واقترح:
"ما رأيكم أن نشوي في الحديقة؟ لم نفعل هذا منذ زمن."
أجمعوا كلهم على هذا الاقتراح، وبدأت السيدة ذكية في تحضير اللحم وتتبيله حتى يحين وقت الشواء.
ما فاجأ سالي هو أن نور كانت تساعد المرأة وابنتي أخيها في تحضير الطعام، وكانوا يسمحون لها بالتقاط السكين الحادة على الرغم من إعاقتها. وعندما حاولت سالي التدخل، غمزت لها المرأة حتى لا تتدخل وطمأنتها بهمسة:
"لا تقلقي يا آنسة، نور طفلة حذرة وموهوبة جداً في الطبخ، وأحمد سيساعدها."
وقد كان الولد يساعدها بجد ودون ملل، لكن كما هو واضح كانت علاقتهما متوترة هذه الأيام، إذ كانت نور تحاول تجنبه كلما اقترب منها.
انشغل الأطفال مع بعضهم في الحديقة، أما خالد ومحمود فجلسا تحت العريشة يناقشان أمورهما الخاصة بالعمل. كانت هناك بعض النواقص التي احتاجتها ذكية، فطلبت من حسن أن يذهب لإحضارها، لكن الأطفال الصغار الأربعة 'على، التوأم، ويحيى، سارا' تمسّكوا بإصرار على الذهاب معه. فعرضت سالي أن ترافقهم حتى لا تحدث أية عواقب. وعندما حاول محمود انتهاز الفرصة للذهاب معهم، رفض خالد بحزم، وفشلت محاولة محمود في الهروب من براثن هذا الأسد العنيد.
وذهبت الجماعة المكوّنة من سالي، وحسن، والأطفال الصغار إلى أقرب سوبرماركت. حاولت سالي أن تخوض حديثًا هادئًا مع الفتى البارد، لكن الأطفال منعوها بشقاوتهم، فاستسلمت أخيرًا... حتى حدث ما لم تتوقعه.
كانت سالي قد تركت الأطفال في عهدة أخيهم الكبير، وذهبت تبحث عن غرض محدد من طلبات الست ذكية، حتى سمعت صراخًا وضجيج الناس صادرًا من الاتجاه الذي تركتهم فيه، فانتفض قلبها وهي تتمتم دون وعي:
"الأولاد!"
وركضت لتجد حسن يسحب لارا التي تتشبث بشعر يحيى، وعلب التونة والصلصة متناثرة حولهم. كانت لارا تصرخ ببكاء:
"أعطني الحلوى الخاصة بي!"
صرخ يحيى:
"أنا من عثر عليها أولًا!"
حاول حسن أن يُخلص شعر يحيى من براثن الطفلة المتوحشة، لكن الطاقة العظيمة داخل هذا الجسد الصغير غلبته.
ذُهلت سالي وهي تراهم على هذا الحال، تركتهم فقط لدقائق، وعادت لتجد هذا المشهد المجنون. ركضت بسرعة وحاولت إفلات شعر يحيى، وهي تتحدث بنبرة مرعوبة:
"حسن، ما الذي حدث؟ لارا، اتركيه!"
صرخت الطفلة بأعلى صوت لديها:
"لا، الحلوى خاصتي!".
وقف فؤاد وسارة وعلي مع بعض المتفرجين أمام هذا المشهد وهم يشعرون بالذهول، لكن فؤاد ركض وهو يصرخ:
"اترك الحلوى الخاصة بلارا!"
كان هذا فوق قدرة سالي، التي حاولت أن تحجز فؤاد بذراع وتُبعد لارا، التي يحملها حسن، بذراعها الأخرى. ثم نظرت متوسلة إلى أحد العمال الذين يقفون في المول، فركض تجاهها بسرعة وسحب فؤاد بعيدًا، واستطاع حسن أن يسحب لارا التي تنتفض بشراسة.
انحنت سالي وهي تتفحص يحيى الذي ظهرت الدموع في عينيه الشبيهتين بعيون الفأر، وقالت بلطف:
"حبيبي، لا تبكِ."
كان جسد الفتى ينتفض بين ذراعيها، فضمّته سالي بلطف وهو يبكي، وسرعان ما لحق به فؤاد وسارة وعلي، وصار الخمسة يبكون وعيونهم وأنوفهم تسيل بغزارة.
حاولت سالي السيطرة على الوضع بلطف وتهدئة الأجواء، ونظرت بتوسل إلى حسن الذي احتضن أخته برفق، كانت الطفلة تتشبث برقبته كالقطة وتبكي بنحيب، والباقون يتشبثون بسالي التي أصابها الذهول من تلك العاصفة المفاجئة.
في نهاية الأمر، حصل الجميع على نفس نوع الحلوى من المخزن، وتم إرضاؤهم من مدير المول، الذي أعطاهم الحلوى مجانًا وهو ينظر إلى سالي بشفقة. تساءلت سالي والدموع تكاد تخرج من مقلتيها:
'ماذا يعتقد هذا الرجل؟'
كانت تشعر بالإحراج والخجل من هذا الموقف الذي أحدثه الأطفال دون مبالاة، وبعد مئات من الاعتذارات لجميع العمال الذين ابتسموا لها برحابة صدر، تأكدت منهم بأنه لا تلفيات حدثت بسبب الأطفال.
أسرعت في إحضار الطلبات ورحلت بهم سريعًا، حملت يحيى بين ذراعيها، وحسن حمل الأكياس، ولارا على ظهره تتشبث به بقوة حتى لا تقع، أما علي، الذي يبلغ من العمر خمس سنوات، فقد طلبت منه سالي أن يمسك بيد سارة وفؤاد بما أنه الأكبر، وساروا في المنتصف وأنوفهم تسيل بسبب البكاء.
كان الجميع يتمسك بحلوىه حتى ذابت من قبضاتهم الصغيرة، أما سالي فكانت تسير وشعورٌ بالرعب يرافقها، خوفًا من عودة هذا القتال الحامي بين الأطفال. ولكن الأمر مر على خير، ودخل الجميع من بوابة المنزل تحت نظرات الحيرة الصادرة من حراس المنزل، وصولاً إلى الحديقة التي تم تجهيزها بمعدات الشواء. لاحظتهم فرح وركضت تجاههم لتأخذ منهم الأكياس، تأملت الأطفال الباكين، وسالي المتوترة والتي يبدو وكأن شعرها قد صار مهزوزاً قليلاً، أما حسن فهو غير مبالي كعادته.
سألتهم فرح بحيرة:
"ما الذي حدث؟"
بكت لارا وهي تنسحب عن ظهر حسن، الذي انحنى ليسهّل عليها النزول، وركضت الطفلة وهي تبكي في اتجاه خالد متشبثتةً به، الرجل تفاجأ من اندفاع الطفلة، فنهض وهو يحملها برفق وسألها والقلق يرتسم على وجهه:
"ماذا حدث؟ لماذا تبكين؟"
نظر إلى الأطفال، ثم إلى حسن وسالي متأملاً ومُنتظرًا إجابة لم يجدها من حسن، فنظر إلى سالي التي تحمل يحيى بين ذراعيها، قائلاً وهو يضيّق عينيه:
"ماذا حدث يا دكتورة؟ لماذا يبكي الأطفال؟"
تراجعت سالي خطوتين إلى الوراء، وانتابها التوتر، وهربت الكلمات من شفتيها، فظهرت وكأنها مقصّرة. رفعت يحيى بين يديها اللتين بدأتا تتخدران من وزنه الثقيل عليها، وحاولت ترتيب الكلمات، وقبل أن تفتح فمها قال حسن:
"لارا ويحيى تشاجرا في المول وتم حل الأمر، أنت تعرف لارا كيف تتصرف بعصبية."
ثم نظر ببرود إلى أخته التي أشاحت وجهها ودسته في عنق خالد.
شكرت سالي حسن في سرها، وتحدثت بتردد وهي تمسح على ظهر يحيى:
"لا تقلق، لم يتعرض أحد لسوء، جميعهم بخير."
نظرت إلى سارة وفؤاد وعلي، وهي تشعر بالأسف عليهم، فأنزلت الطفل من بين ذراعيها لتواسيهم، لكن يحيى تشبث بملابسها ورفض الابتعاد عنها. همس خالد شيئاً في أذن لارا، فأومأت برأسها وأفلتت ذراعيها عن رقبته، فأنزلها والتقط يحيى الذي بكى وهو يحاول شرح ما حدث بكلمات متعثرة.
كان الفتى يشعر بالروع ويتحدث بتوتر، قال إنه أمسك الحلوى قبل لارا، لكنها تشبثت بها وأرادت أخذها منه، فدفعها بقوة. وهذا فسر سبب تناثر علب التونة والصلصة على الأرض.
فور سماعها ذلك، تفحصت سالي لارا بسرعة وسألتها إن كان هناك ما يؤلمها، لكن الطفلة هزت رأسها نافية، فارتاح بال سالي قليلاً، ثم اطمأنت على باقي الأطفال وتأكدت أنهم بخير.
طمأن خالد الفتى الصغير وهدّأ من روعه، وفي وسط هذا اللغط سمعوا صوت البوابة تُفتح، إذ كان عم حمدي يفتحها للسيدة أنيسة التي عادت أخيرًا. وهنا شعرت سالي بأنفاسها المكتومة تخرج تدريجيًا، وبدأ الاطمئنان يسيطر على قلبها الخائف.
تساءلت في داخلها: ألهذا الحد مسؤولية الأطفال صعبة ومثيرة للأعصاب؟ كيف للطفل أن يُحدث عاصفة في ثانية واحدة؟
وبينما كانت تفرغ من تساؤلاتها، أدركت أن جسدها كان يرتجف بشدة.
تقدمت السيدة أنيسة نحوهم تتأملهم بحيرة، وقالت وهي تبدل نظراتها بينهم:
"ماذا حدث؟ هل هناك مشكلة؟"
تدخل محمود بسرعة وقال:
"لا شيء، الأطفال أثاروا القليل من الشغب."
تبدلت نظرات المرأة إلى القلق:
"هل هم بخير؟"
تنهد خالد وهو يُسلّم يحيى لمحمود، ووضع يده على كتف المرأة العجوز:
"ماما، لا تقلقي. الأمور بخير، سأحكي لكِ فيما بعد. إن أردتِ خذي قسطًا من الراحة، ونحن سنتولى تجهيز الغداء."
تأملته السيدة أنيسة باهتمام، ولاحظت الإرهاق البادي على وجهه، فكررت سؤالها:
"هل أنتم بخير؟"
تفاجأ خالد، ورد بسرعة وعلى وجهه ابتسامة لطيفة:
"نعم، لا تقلقي."
لكن ملامحها لم تُخفِ شكّها، وقالت وهي تنظر إليه بتمعّن:
"سأبدّل فقط ملابسي وأنزل مرة أخرى."
ثم أخذت تتفقد المكان بعينيها قبل أن تسأل:
"هل قررتم الشواء؟"
أومأ خالد بلطف:
"نعم."
تبدلت ملامح المرأة إلى الحنان، وابتسمت قائلة:
"سأعود فورًا لتحكي لي ما حدث."
بدأت حفلة الشواء قبيل الغروب، فتَصاعد الدخان واختلط برائحة الهواء، وتعالت أصوات الضحك والصخب مع نسمات المساء العليلة، وسرعان ما تلاشى أثر الموقف المتوتر الذي حدث في المول.
ورغم أن الأطفال ما زالوا يحملون شيئًا من الوجوم، خصوصًا لارا، فإنها مع مرور الوقت بدأت تتفاعل تدريجيًا مع إخوتها وتشاركهم اللعب.
تطوّع خالد لتولّي مهمة الشواء، وكان يتبادل أطراف الحديث مع محمود وبعض الأطفال، دون أن يُقصّر في عمله. لكن سرعان ما تلقى اتصالًا هاتفيًا، فسلّم المهمة للسيدة منى، التي طلبت بدورها من فرح وسالي إحضار الأطباق من المطبخ.
كان هاتف سالي يهتز في جيبها، تجاهلته في البداية لتنهي ترتيب الأطباق على المفرش المفروش فوق العشب، لكن الاتصال تكرر، فاستجابت في النهاية، وأسندت الهاتف إلى كتفها قائلة بابتسامة مرهقة:
"زيزي."
"سالي، كيف حالك؟"
"أنا بخير، وأنتم؟"
تأخرت زينة في الرد، ثم قالت بصوت خافت:
"نحن بخير."
ساد صمت غريب من زينة، التي لم تكن يومًا قليلة الكلام. ثم جاء صوتها مترددًا:
"سالي.. هل اتصل بك بابا؟"
رفعت سالي الهاتف وأصلحت جلستها باهتمام، وسألت بدهشة:
"بابا؟"
لم يكن والدهم معتادًا على التواصل، مما زاد من استغرابها وهي تضيف:
"لا."
ردّت زينة بنفاد صبر:
"أرجوكِ، تأكدي."
أزاحت سالي الهاتف عن أذنها وتفحّصت سجل المكالمات، فوجدت بالفعل اتصالًا فائتًا من رقم غريب، ما أثار شكوكها:
"هناك مكالمة فائتة، ولم أكن منتبهة للهاتف. هل هناك مشكلة؟"
سمعت سالي أنفاس زينة على الطرف الآخر، وفي تلك اللحظة ركضت لارا نحوها باكية بعدما لمست الشواية الساخنة. سألتها شقيقتها:
"هل أنتِ متفرغة؟"
نظرت سالي إلى لارا الباكية، تتجاذبها رغبتان: الفضول لمعرفة ما يقلق أختها، والعطف على الطفلة التي تحتاجها. وفي النهاية، تنهدت وقالت:
"لا."
ردّت زينة:
"حسنًا، لا أستطيع أن أخبرك الآن. اتصلي بي عندما تتفرغين."
قالت سالي باستسلام:
"سأتحدث إليك لاحقًا."
أغلقت المكالمة سريعًا، ثم انحنت نحو لارا التي كانت تبكي بحرقة، وأمسكت إصبعها الصغير المحمرّ تنفخ فيه برفق. لم يكن الحرق شديدًا، لكنه مؤلم لطفلة في عمرها. ولأن لارا طفلة حسّاسة ومزاجية، راحت تبكي وتتنهد. شعرت سالي أن مزاج الصغيرة كان أسوأ من المعتاد، ربما بسبب كل ما حدث خلال اليوم، فجلست إلى جوارها قليلًا، وطلبت من ذكية أن تُحضر الثلج وكريم للحروق، ولم تتركها حتى تأكدت أنها أصبحت بخير.
لكن عقلها لم يكن هادئًا؛ فقد ظل مشغولًا بالمكالمة الغريبة. كانت تتساءل طوال الوقت: لماذا اتصل بها والدها؟ لم يتواصلا منذ سنوات، ولم يُبدِ هو أي رغبة في التواصل أصلًا. المرة الأخيرة التي تحدثت إليه فيها، كانت سالي هي من بادر بالسؤال عن مصاريف الجامعة، لكن ردّه كان باردًا ومُخيبًا. ما الذي تغيّر الآن؟ ما الذي يدفعه فجأة إلى الاتصال؟ بقي هذا السؤال يؤرّقها حتى حلول المساء.
مالت الشمس في كبد السماء، وتركت وراءها شفقًا وردي اللون، وعادت الطيور تسكن أعشاشها وسط الأشجار. وُضع الطعام الذي كانت تتصاعد منه رائحة شواء لذيذة ومغرية، وما جعله ألذ هو أن الجميع شارك فيه. تعالت أصوات الضحك والنقاشات والأحاديث الجانبية والحكايات، التي كانت تصدر بنسبة كبيرة من الأطفال، وكانوا يُجبرون الكبار على الخوض في أحاديثهم الطفولية، لكنها كانت شيقة وممتعة.
راقبتهم سالي بابتسامة جميلة، مفتونة بهذه العائلة؛ هؤلاء البشر الذين اتحدوا دون أية صلة قرابة، ليشكّلوا هذه العائلة الجميلة. تذكّرت طفولتها التي قضت أغلبها في جلب أختها من المدرسة والعودة إلى المنزل لتسخين الغداء المُعد سابقًا، ثم تنتظر والدتها لتعود من عملها، وإن تأخرت، تضطر إلى الأكل حتى لا تجوع هي وشقيقتها. انتابتها المرارة وهي تتذكر تلك الذكريات التي استيقظت فجأة في مثل هذا الوقت اللطيف، كالغمامة الممطرة في يوم مشرق، مما جعلها تتساءل إن كانت هي نفسها اليتيمة أم هؤلاء الأطفال.
أسدل الظلام ستائره على العالم، فسكنت مخلوقات الصباح، وصخبت مخلوقات الليل... إلا الإنسان. شعر الجميع بالامتلاء والاسترخاء بعد تلك الوجبة الدسمة، وجلسوا تحت العريشة في هواء الليل الطلق المنعش، ما بين أحاديث جانبية أو شجارات طفولية. أخذ خالد ومحمود جانبًا بعيدًا، وبأيديهم بعض الأوراق الخاصة بالعمل، فيما تفرّق الأولاد الكبار؛ منهم من صعد إلى غرفته، والباقي تجوّلوا من مكان إلى آخر.
استكمالًا لحدث المول، تحدّثت السيدة أنيسة التي ظهر الإرهاق على وجهها العجوز:
"على لارا أن تتأدب، تصرّفها اليوم لم يكن طبيعيًا."
صرف خالد نظره عن الأوراق ونظر إليها قائلًا:
"الموضوع انتهى، كان مجرد شجار بين الأطفال وتصالحوا بعده، انظري إليهم."
كان الأطفال يلعبون دون قلق، وكأنه لم يحدث شيء، لكن نظرات القلق مازالت مرسومة على ملامح أنيسة التي قالت:
"لا أعلم إلى أي حد كان يمكن أن يتطور الأمر... من الجيد أن الآنسة سالي كانت معهم."
نظر الجميع إلى سالي التي شرَدت بنظرها بعيدًا، وهي تمسك بكوب الشاي بين يديها:
"هل أنتِ معنا يا آنسة سالي؟"
فالتفتت سالي بانتباه فور سماع اسمها:
"المعذرة؟"
ابتسمت أنيسة بخفة وقالت:
"أنتِ لستِ معنا."
اعتذرت سالي:
"أعتذر، لم أكن منتبهة للحديث."
"لا تعتذري عزيزتي، كنا نتحدث عن تصرّف لارا."
التفتت سالي إلى لارا التي كانت تركض بحماس، وقالت:
"الحمد لله أن المشكلة لم تتفاقم، ولم يُصب الأطفال بأذى."
قالت أنيسة:
"لكن تصرّفها الجامح غير مقبول. على تلك الطفلة أن تُعاقب."
ردّت السيدة منى، وهي تتابع الطفلة التي تركض خلف توأمها بحماس:
"سأتحدث معها غدًا."
علقت أنيسة بقلق:
"أنا قلقة عليها كثيرًا، إنها شخصية مزاجية وجامحة، أخشى أن تؤذي نفسها."
فردّت السيدة منى تطمئنها:
"الأطفال جميعهم هكذا، يحتاجون فقط للمتابعة والانضباط. لا تقلقي، ستكون بخير."
تنهدت أنيسة وهي تتمتم:
"أتمنى ذلك."
تأملت سالي لارا، كانت الطفلة تلعب بسعادة، ظلّت تراقبها بصمت، حتى قطع المشهد صوت رحيم، وهو يقترب على كرسيه المتحرك. فسألته أنيسة بتلقائية:
"أين كنتَ، عزيزي؟"
ردّ الفتى وملامحه يكسوها الحزن:
"الكمان الخاص بي... وجدته مكسورًا."
سأله محمود:
"ما الذي حدث له؟"
"لا أعلم، عثرت عليه هكذا."
رد خالد باهتمام:
"هل المشكلة كبيرة؟"
"أحد الأوتار مقطوع، وهناك شرخ بسيط في رقبته."
شعرت سالي بالاستياء على الفتى، الذي بدا عليه الحزن والوجوم بسبب كمانه المكسور. لكنها فجأة تذكّرت أنها رأت عبد الله يخرج من المنزل قبل ساعة، ويبدو عليه التوتر... هل له يد في ذلك؟ نفضت تلك الفكرة من رأسها، وأقرت أنه مجرد شك لا دليل عليه.
سمعت أنيسة تسأل رحيم:
"هذا غريب... ما الذي كسره؟ هل سقط منك؟"
رد الفتى بحيرة:
"لا، أنا حريص عليه... كما أنني وجدته في مكانه، مكسورًا، وليس على الأرض."
تنهد خالد وقال:
"لا تحزن، سأصلحه لك."
كانت الدموع تلمع في عيني رحيم الحمراوين؛ فذلك الكمان الغالي على قلبه كان هدية من والدته المرحومة. تابعت سالي تعابير وجهه، ولما لاحظت دموعه، سارعت لتقول قبل أن تسقط:
"ما رأيك لو دربتك قليلًا على العود، إلى أن يُصلَح الكمان؟"
نظر إليها وهو يمسح طرف عينيه، وما زالت الحيرة تكسو ملامحه، قبل أن تتحوّل تدريجيًا إلى اهتمام ثم إلى حماس:
"لكنني لم أعزف عليه من قبل."
قالت سالي برقة:
"لا بأس، ستتعلم بسرعة."
تدخلت أنيسة:
"هذا جيد، ستكون فرصة عظيمة لنستمع إلى موهبتك. أنا أتطلع إلى ذلك بشدة!"
وهنا انتقلت الحيرة من وجه رحيم إلى سالي، التي تفاجأت من حماس السيدة أنيسة، وقالت:
"عذرًا؟"
علّق محمود متحمسًا:
"هذه فكرة رائعة."
"لكن..."
قاطعتها أنيسة:
"لا أعذار، ليس من الطبيعي أن تكوني بيننا ولا نستمع ولو لمرة إلى عزفك."
نظرت سالي إلى الجميع، الذين كانوا يثبتون أنظارهم عليها، حتى خالد. كان الحماس والتطلّع يتصاعد من عيونهم جميعًا، فقالت باستسلام:
"حسنًا."
في تلك المدة التي ذهب فيها رحيم لإحضار العود على كرسيه المتحرك، كان قلب سالي ينبض بقوة؛ فهي نادرًا ما عزفت على العود أمام جمع كبير كهذا، كانت تعزف فقط أمام معلّمتها، ووالدتها، وأختها. لذا كان التوتر يسيطر عليها بالكامل، حتى عاد رحيم، والعود على ساقيه، وقدّمه لها. تناولته سالي بيدين مرتجفتين، والتوتر يغلّف حركتها، بينما كانت تفكر في المقطع الذي ستعزفه.
كان أول ما تبادر إلى ذهنها هو لونجا رياض السنباطي. ثبتت عينيها على الأرض، وسحبت نَفَسًا عميقًا إلى رئتيها، حبسته لثوانٍ، ثم أطلقته مع أول ضربة على أوتار العود، لينساب لحن "لونجا رياض" برقة وثبات.
كانت تنوي عزف مقطع صغير فقط حتى لا تتشتت تحت أنظارهم، لكن الموسيقى سحرٌ يأسر الروح، ويجعل الجسد يتحرك وكأنه ليس ملكك. شعرت سالي بأصابعها تتحرك من تلقاء نفسها، والموسيقى تنساب من ذاكرتها بمرونة، تتماهى مع مشاعرها، وتنطلق من أطراف أناملها بخفة، لتبعث الحياة في لحن "اللونجا" الدافئ.
نسيت العالم الخارجي، وصارت حبيسة هذا اللحن العظيم، غير مدركة أن جمهورها يزداد ويترقّبها باهتمام، وهي تتهادى في خيالها على أنغام الأوتار.
وفي نهاية مقطوعة "لونجا رياض"، ختمتها بثبات ورقّة. فتحت عينيها ببطء، دون أن ترفع رأسها، وقد غمرها شعور بالخجل... لكنها سمعت تصفيقة، تبعتها أخرى... وأخرى.
رفعت عينيها ببراءة، لتجد الجميع يصفق لها. كانت السيدة ذكية وبنات أخيها يصفقن بحماس، ونظرت إلى أنيسة فوجدتها تصفق بابتسامة فخورة. محمود، فرح، رحيم، أحمد، نور، وحتى الصغار... وعم حمدي الحارس، وزميلاه اللذان جذبهما صوت التصفيق. ثم نظرت إلى خالد، فوجدت على وجهه ابتسامة لطيفة.
الجميع يصفق لها. كانت تلك أول مرة يُصفَّق لها مثل هذا الجمع بهذا الحماس والتقدير. لم يحدث ذلك من قبل، ما زاد من ارتباكها وتوترها. ألِهذا الحد كنتُ جيدة؟ بنظراتهم... يبدو أنها كانت كذلك.
تصاعدت نبضات قلبها، وشعرت بغصّة في حلقها، واحترقت جفونها. لكنها تماسكت، وعيونها تلمع بابتسامة حقيقية. كانت سعيدة. سعادة مختلفة عن أي شعور آخر. لا تُشبه سعادة الدرجات النهائية، ولا دخول كلية الطب أو التفوق فيها. سعادة حلوة... حلاوتها ترافقها غصة في الحلق ودموع في العين.
أثنت عليها أنيسة بفخر:
- "عزيزتي، أنتِ موهوبة!"
وطلب الجميع منها أن تعزف المزيد والمزيد، فلبّت سالي طلب عم حمدي الحارس، الذي اقترح أغنية "بياع الهوى" لعبد المطلب. لم يكن الجميع يعرفها، خصوصًا الأطفال، لكن الكبار كانوا على دراية بها.
تطوّع الحارس يغنيها بصوته الجهوري، الذي أعجب سالي بشدة، وتمكّنت من مرافقته على العود بسهولة.
[بياع الهوى راح فين..
يامسهر.. يامسهر .. دموع العين
راح فين.. راح فين.. راح فين.. راح فين
راح فين بياع الهوى
بيشوفك يسمى عليك.. وبيشغل قلوب حواليك
وبيبيع الهوى.. الهوى لعينيك
وعيونك ياغالى ياغالى .. وعيونك ياغالي
بتسهر ليالى ليالى .. بتسهر ليالي
وتخلى السهر سهرين
بياع الهوى راح فين.. راح فين
راح فين.. بياع الهوى]
كانت السيدة أنيسة وذكية تردّدان الأغنية خلف عم حمدي، وحاول الأطفال أن يرافقوهم، فكانت الجمل تنتهي بضحكات تعكس السعادة والسخرية في آنٍ واحد. وهكذا، استغرقت الأغنية القصيرة أكثر من ربع ساعة، إذ كانت سالي تُخطئ في العزف مرارًا بسبب الضحك المتواصل.
أما الأغنية التالية، فكانت من اختيار ذكية: "بيت العز". أعجبت سالي بالأغنية التي بدت مناسبة تمامًا لأجواء الليلة، حتى السيدة أنيسة وافقت عليها بحماس. وهكذا، بدأت الست ذكية تغنيها، وانضم إليها بنات أخيها اللواتي كنّ يعرفنها جيدًا.
[بيت العز يا بيتنا على بابك عنبتنا.
لها خضرة وضليلة بترفرف على العيلة.
وتضلل ياحليلة ياحليلة من اول عتبتنا.
يا بيت العز يا بيت السعد يا بيت الفرح يا بيتنا.
وفي نهاية الأغنية تركت سالي العود وهي تردد معهم:
ابعد يا شيطان ابعد يا شيطان ابعد يا شيطان ابعد يا شيطان
ان جيت من الباب هنرد الباب ونعيش ف امان
وان جيت من الحيط هنسد الحيط بحجر صوان
ابعد يا شيطان ابعد يا شيطان ابعد يا شيطان ابعد يا شيطان]
غنّى الجميع وضحكوا بسعادة، ولمعت عيونهم بالفرح. واستمرت الأمسية حتى تعبوا جميعًا، وجاء وقت النوم بالنسبة للأطفال الذين تساقطوا كالفِراخ الصغيرة، فحُملوا إلى غرفهم ليناموا بسلام وأمان.
وقبل أن تصعد سالي إلى غرفتها، ذهبت مع رحيم لإرجاع العود. وفي تلك اللحظة، جاءها محمود يعدّل نظّارته بارتباك:
"آنسة سالي، أنتِ حقًا موهوبة."
ابتسمت سالي بخجل وهي تُخفض رأسها:
"شكرًا لك."
تردّد محمود قليلًا قبل أن يقول:
"حسنًا... أتمنى ألا تنسي الكتب."
رفعت سالي رأسها بانتباه، وقد تذكّرت حديثهما في الصباح:
"بالتأكيد، لن أنسى."
نظر إليها محمود بشغف، فارتبكت، ونظرت إلى رحيم الذي كان يضع العود في مكانه، ثم قال:
"حسنًا، سأذهب الآن... تأخّر الوقت."
ابتسم محمود وهو يمسح شعره بتوتر:
"آه، تفضّلي."
نادت سالي على رحيم، فالتفت إليها بسرعة واتجه نحوها. كان محمود لا يزال واقفًا، فنظرت إليه سالي بحيرة، وقالت:
"سأغلق الغرفة."
نظر إليها محمود بارتباك لثوانٍ، ثم أدرك قصدها:
"نعم، نعم... تفضّلي."
سبقهم في الخروج، وأغلقت هي الأنوار ثم الباب خلفها. التفتت، فوجدت خالد قادمًا في الردهة، يقول لمحمود:
"كنت أبحث عنك."
ثم نظر إلى سالي ورحيم بحيرة، فتدخّل محمود بسرعة وهو يتوجه إليه:
"سأذهب الآن."
وقبل أن تسمع سالي المزيد، أمسكت كرسي رحيم في محاولة لتخفيف توترها، الذي ازداد مع ظهور خالد. سحبت الكرسي ومرّت بجواره وهي تتمتم بخفوت:
"استأذنكم."
قال رحيم وهو يلتفت إليهم:
"أبيه، تصبح على خير."
***
بعد هذه الأمسية الجميلة، وحفلة الشواء المفاجئة، ورائحة البخار التي التصقت بملابسها، أخذت سالي حمامًا طويلًا دافئًا، وجلست على سريرها تجفف شعرها.
كانت تفكّر في الكثير... في اتصال زينة ووالدها، وفي نفسها التي تشعر الآن براحة وهناء بعد هذه الليلة المميزة. إن الموهبة لشيء رائع فعلًا، فهي الشيء الوحيد الذي يجعل الناس يصفّقون لك بحرارة، بحماس، وباحترام. ولِمَ لا؟ فما يخرج من الروح يصل حتمًا إلى الروح.
فكرت: ماذا لو كنتُ قد سارت في هذا الدرب منذ البداية؟ ربما أصبحت الآن عازفة مشهورة. لكنّ إصرار والدتها على أن تسلك الطريق العلمي،و قد كان ذلك أمراً محبطاً.
وبينما كانت مستغرقة في التفكير، سمعت طرقًا على الباب. نظرت إلى الساعة بعفوية... كانت العاشرة مساءً. تساءلت بحيرة: من قد يأتي في مثل هذا الوقت، حيث الجميع في غرفهم؟
تقدّمت نحو الباب، وهي تشعر بالحيرة، وحين فتحته... وجدت فرح تقف أمام غرفتها.
نهاية الفصل الخامس.
وتستكمل القصة في الفصل القادم.
لا تنسوا الvote من فضلكم.
***
أهلاً أعزائي القراء..
شكراً على صبركم.
كاتبتكم ءَالَآء..
سؤال الفصل: توقاعتكم للأحداث الجاية؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
رواية المنزل على المدونة:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق