رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الثامن عشر
[رسالة واردة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: مجهول
أنا حقاً أشعر بالامتنان لك، ولرسائلك اللطيفة، والتي تبعث على الأمل. كل كلمة منك تمنحني دفعة إيجابية تجعلني أستمر وأرى الجانب المشرق حتى في أحلك الأوقات. رسالتك جعلتني أشعر بأنني لست وحدي في هذه الرحلة. لا أستطيع التعبير بما فيه الكفاية عن مدى تأثير كلماتك عليّ. أنت حقاً مصدر إلهام حقيقي].
***
كانت أنيسة تنتظر الرد من الدكتور رشدي على أحر من الجمر، ومرت نصف ساعة قبل أن يصلها الرد من الدكتور، وكان واضحًا من كلماته أنه يشعر بقلق عميق:
[ست أنيسة، أنت لا تعلمين كم كنت مستاءً اليوم وأنا أخالف ضميري المهني وأكذب على مستر خالد بخصوص صحتك. كان الأمر صعبًا للغاية].
قرأت أنيسة الرسالة وشعرت بوخز في قلبها، تدرك تمامًا أنها وضعت الدكتور في موقف لا يُحسد عليه، لكنها لم تجد خيارًا آخر. شعرت بالثقل الذي ازداد على كتفيها. فكتبت له ردًا سريعًا:
[أعلم يا دكتور، وأقدر موقفك. لكن خالد لا يمكنه تحمل الحقيقة الآن. إنه لا يزال شابًا، وأخشى عليه من الصدمة].
لم يمر وقت طويل حتى جاء الرد من الدكتور رشدي:
[ست أنيسة، أفهم مشاعرك، وأعلم أنك تريدين حماية خالد. لكن يجب أن تفكري في صحتك الآن. نحن بحاجة إلى بدء العلاج فورًا، ولا يمكننا تأجيل الأمر أكثر من ذلك].
شعرت أنيسة بقلق يتصاعد في صدرها. كانت تعرف أن الوقت يضيق، لكنها لم تكن مستعدة بعد لمواجهة الحقيقة. ردت بتردد:
[هل تعتقد أن العلاج يمكن أن ينجح؟].
توقف الدكتور رشدي للحظة قبل أن يجيب:
[لا أستطيع أن أعدك بشيء، لكن كلما بدأنا العلاج مبكرًا، كانت الفرص أفضل. يجب أن تأتي إلى المستشفى في أقرب وقت، وإلا سأضطر لإخبار مستر خالد].
تأملت أنيسة كلمات الطبيب، وهي تعلم أن القرار يجب أن يُتخذ الآن. لكنها لم تستطع التفكير إلا في خالد، وكيف سيؤثر ذلك عليه. كتبت بحزن:
[حسنًا، سأكون عندك في أقرب وقت. لكن أرجوك، لا تخبر خالد بعد].
أجاب الدكتور رشدي:
[سأفعل ما بوسعي، ست أنيسة. لكن عليك أن تجهزي نفسك لما هو قادم. سأكون هناك لدعمك، ولكن يجب أن تكوني قوية].
قرأت أنيسة الرسالة وهي تشعر بخليط من مشاعر القلق والخوف، كلها كانت موجهة إلى خالد، وليس إلى صحتها. لم تكن السيدة العجوز والتي تعيش أواخر سنوات عمرها حريصة على العيش لمدة أطول من التي عاشتها، فالعمر قد مضى أمام عينيها طويلاً بحلوه ومره، عاشت فيه بقدر ما عاشت وبقدر ما تحملت. كانت أنيسة تشعر بأن حياتها كانت مليئة بالتجارب، بعضها سعيدة والبعض الآخر مؤلم، لكنها كلها تركت بصماتها عليها. لم تكن تخاف الموت بقدر ما كانت تخشى على خالد. كيف سيستطيع ابنها المضي قدمًا دونها؟ هل سيكون قادرًا على تحمل الحياة ومسؤولية الأطفال بمفرده؟ هل ظلمته عندما حملته مسؤولية 15 عشر طفل وطفلة، وهو هو لايزال شاباً في منتصف الثلاثينات؟ فكرت المرأة وهي تشعر بالذنب الشديد تجاهه، وحاولت أن تبحث عن حل يمحو هذا الذنب عنها. وجاء على بالها فجأة طلب الوزارة بسحب الأطفال وتسليمهم إلى عائلات أخرى تريد التبني. لمعت تلك الفكرة بوضوح في عقلها، ولكن هذه المرة مالت كفة الذنب تجاه الأطفال الذي نشأوا في هذا المنزل، الذي صار بيتهم وملاذهم من العالم، كيف تخرجهم فجأة من دائرة الحماية والأمان، ليبدأوا من الصفر في مكان آخر؟ كان هذا في نظرها جناية في حق الأطفال، فمكانتهم لا تقل في قلبها عن مكانة خالد. كما أنهم صغار، صغار جداً ومساكين، وهي وخالد عائلتهم الوحيدة، كيف سيتأقلمون في مكان غير منزلهم مع أب وأم وعائلة غيرهم؟
وضعت الهاتف بجانبها وأغلقت عينيها للحظة، تائهة في شتات أفكارها، لم تكن تريد أن يشعر خالد بالوحدة أو الضياع مع تحمل مسؤولية كبيرة بعد رحيلها، لكنها في نفس الوقت لا تريد أن تظلم صغارها الذين تنبنهم بنفسها وبإرادتها، وأيضاً في نفس الوقت كانت تعي أن الوقت ليس في صالحها. وأن عليها أن تجد حلاً فوراً.
***
أمسكت سالي العود الخاص بها وهي تدندن موسيقى 'عمر خيرت'، وفي نفس الوقت كان عقلها مشغول. فبعد هذه المواجهة مع والدها، شعرت سالي بمعاملة باردة جافة من السيدة سهام والدتها. حاولت سالي أن تتعامل معها بشكل طبيعي، ولكن البرود الذي تلقته من جهة أمها جعلها تتوتر وزاد من ضيقها، ومن المفترض أنها أعلمتها بموعد سفرها 'يوم الجمعة'. كانت سالي تشك في سبب هذا الجفاء، وشعرت بالثقل في قلبها، فلم تتعامل معها أمها بهذا الجفاء إلا مرة واحدة في حياتها، في ذلك اليوم، عندما عرضت عليها ألا تكمل في قسم العلمي في الثانوي العام، وفضلت الأدبي عنه. تذكرت سالي الكلمة التي القتها والدتها في وجهها عندما عادت سالي من المدرسة معلنة عن قرارها:
"إن لم تتراجعي عن قرارك، لن تكوني ابنتك من اليوم، واذهبي فوراً إلى والدك".
لم تنس سالي أبداً هذا الموقف، وتلك الجملة التي تتردد في ذهنها إلى يومها هذا، وكأنها وُسمت في ذاكرتها إلى الأبد. تذكرت سالي كيف قضت ليالي طويلة تبكي في سريرها، تشعر بالغربة حتى وهي في بيتها، المكان الذي من المفترض أن يكون ملاذها. لم يكن الأمر متعلقًا فقط بالخلاف حول اختيار القسم الدراسي، بل كان إحساسًا عميقًا بالخوف من خسارة أمها، الشخص الذي بقي لها بعد كل تلك السنوات من الوحدة والفراق. الآن، بعد كل هذه السنوات، تجد سالي نفسها في موقف مشابه، حيث ترى البرود ذاته في عيني والدتها. هل كان رفضها للعريس هو ما أعاد إشعال تلك الذكريات القديمة؟ أم أن والدتها ترى في هذا القرار نوعًا من التمرد الذي لا تستطيع تقبله؟ سالي لم تكن تكره والدتها، بل على العكس، كانت تحبها حبًا جمًا. ولكن ذلك الحب كان ممزوجًا بشعور دائم بالواجب والانصياع لما تريده والدتها، وكأنها كانت تدفع ضريبة وجودها في حياتها. والآن، ها هي تواجه مرة أخرى ذلك الشعور بالرفض والخوف من فقدان هذا الرابط الذي وقف دائماً على شرط. وبينما وهي تفكر، وجدت سالي هاتفها يهتز، التقطته وهي ترى أسم الدكتور نوفل، أضاء وجهها وهي ترى هذا الاسم المحبب لقلبها، معلمها ومديرها في المستشفى، ردت سالي فوراً:
"دكتور نوفل".
"يا بنت، كيف تأتين في إجازة، ولا تفكرين في المرور على معلمك؟".
ابتسمت سالي وهي تشعر بالخجل من توبيخه الأبوي:
"دكتور نوفل، أعتذر منك، لم أقصد هذا أبداً، كنت فقط أرتب بعض الأمور وأجلت الزيارة لآخر الأسبوع".
ولكن سالي توقفت فجأة ثم سألته بحيرة:
"كيف علمت أنني في إجازة؟".
ضحك الرجل وقال:
"هذه هي مهارات المعلم، أن يكون على دراية بكل ما يتعلق بأبنائه وتلاميذه".
ابتسمت سالي وقالت:
"إذاً يجب أن أعرف السر منك غداً".
"سأنتظرك يا بنت، إياك أن تفكري في عدم الحضور، وإلا سأحضر إلى منزلك بنفسي".
"أعدك يا دكتور نوفل".
سمعت صوت الرجل يكرر عليها:
"سالي سأنتظرك، أريد أن أتحدث معك في أمر هام جداً".
كان صوته هذه المرة جاد جداً، وهذه النبرة تعرفها سالي جيداً، يستخدمها دائماً عندما يكون الأمر جاداً ولا يستحمل التهاون. أنهت سالي المكالمة وهي تشعر بمزيج من القلق والفضول. ما هو هذا الأمر المهم الذي يريد الدكتور نوفل مناقشته معها؟ حاولت أن تهدئ نفسها وهي تمسك مجددًا بالعود، محاولةً العودة إلى لحن 'عمر خيرت' الذي كانت تدندن به قبل قليل. لكن عقلها ظل مشغولاً بمقابلتها غداً مع الدكتور نوفل.
***
عاد خالد إلى مكتبه بعد أن أوصل الدكتور رشدي، وبدأ العمل على تفاصيل جديدة تخص المكتبة، كان هناك الكثير من العمل عليه أن ينجزه قبل أن يسافر في رحلة قصيرة للحصول على حقوق طباعة بعض الكتب المهمة والمشهورة، ومع ذلك كان عقله مشغولاً بأمر آخر غير العمل، فقد كان يفكر في أمه أنيسة. لم يكن خالد مغفلاً أو غبياً حتى لا يلاحظ النظرات الغريبة المتبادلة بين أنيسة والدكتور رشدي، كان متأكد من أن هناك أمر ما، والأكثر من ذلك شعوره العميق بأن أمه لم تكن على ما يرام، كان يشعر بذلك من صميم قلبه. تلك النظرات المتبادلة والمتوترة بين العجوزين كانت مريبة ومثيرة للشك. هل كذب عليه دكتور رشدي؟ هذا الرجل الذي كان صديقاً وطبيباً للعائلة منذ زمن. ولكن لماذا يكذب فيما يخص صحة أنيسة. هذا الرجل مخلص وصادق دوماً، هكذا عرفه خالد. لم يستطع خالد التخلص من شعور القلق الذي تملكه. كلما حاول إقناع نفسه بأن الأمر لا يتجاوز كونه وهمًا أو شكوكًا لا أساس لها، كانت تلك النظرات المتوترة بين الدكتور رشدي وأمه تعود لتطارده. لماذا قد يخفيان عنه الحقيقة؟ إذا كان هناك ما يخص صحة أمه، ألا يجب أن يعرف؟ هذا الرجل الذي وثق به طيلة هذه السنوات، هل من الممكن أن يكون متواطئًا مع أمه في إخفاء شيء عنه؟
تصارعت الأفكار في رأسه مرةً أخرى، وهو يركز التفاصيل الصغيرة التي قد تكون دليلاً على شيء أكبر. كيف يمكن أن يطمئن الآن؟ كلما استرجع زيارة الدكتور رشدي، كلما ازدادت شكوكه. ربما عليه مواجهتهم حتى يعرف الحقيقة كاملة، حتى لو كانت الحقيقة مؤلمة. لكنه تردد، خوفًا من أن يكون مخطئًا، أو ربما، خوفًا من أن يكون محقًا. ظل خالد طوال اليوم يجمع بين العمل وسيطرة القلق عليه، ومن الغريب أن أداءه كان فائقاً في كلا الأمرين.
وفي نهاية يومه عرض خالد على محمود أن يرافقه إلى المنزل حتى يشاركهم الغداء. وعند وصولهم إلى المنزل سمعوا أصوات صراخ هستيرية، كانت الأصوات صادرة من غرفة الحضانة التي توجه إليها الرجلين فوراً. وعند اقتحامهم الغرفة، بهت وجه خالد وتوقف الزمن للحظة. كان فؤاد يجلس على الأرض، عينيه مغمضتين بألم، والدماء تسيل من رأسه، والسيدة منى تحاول ضم الفتى الصغير المصاب إليها. والمربيات ومزيج من الأطفال الصغار والأولاد الكبار الذين رجعوا من مدارسهم يقفون في الغرفة. أما صوت ماريا الباكي يدوي في أرجاء المنزل. في تلك اللحظة، شعر خالد وكأن كل شيء من حوله قد اختفى، ولم يبق سوى صوت دقات قلبه المتسارعة تملأ أذنيه. حرارة جسده ارتفعت فجأة، وشعر بتيار من الحمى يسري في عروقه، فيما تجمدت أطرافه في مكانها. اقترب بخطوات مترددة، وكانت قدماه ثقيلتين كأنهما من رصاص. وصل إليه، ورأى الدماء التي لطخت جبين فؤاد، فاندفع قلبه إلى حنجرته. انحنى خالد بجوار فؤاد، ويداه ترتعشان بينما كان يحاول لمس رأسه بلطف. شعر بوخز خفيف في أطراف أصابعه، أنفاسه أصبحت متسارعة وغير منتظمة، كان بالكاد يستطيع التقاطها. وضع يده على الجرح محاولاً إيقاف النزيف وعندما أطمأن أن الفتى واعٍ ومستيقظ، سأل من حوله وعينيه لم تفارقا فؤاد:
"ماذا حدث؟".
أجابت عليه منى وهي ترتجف وتسلم الفتى إلى خالد:
"لارا دفعت فؤاد بقوة، واصطدم رأسه بزاوية الدرج وهو مفتوح".
أجابت السيدة منى وهي تنهض عن الأرض، وتخرج راكضة من غرفة الحضانة. بينما التفت خالد إلى لارا التي تقف مرعوبة من شكل توأمها الملطخ بالدماء، ورأى الصغار يقفون متمسكين بملابس المربيات، وعلى وجوههم الرعب وأمارات البكاء.
***
بينما كانت أنيسة في غرفتها تتأمل احزانها، سمعت صخب وحركة سريعة غير مفهومة صادرة من الطابق الأول، ولكنها تجاهلت تلك الأصوات، ولم تمر دقائق حتى سمعت صوت خطوات سريعة تقترب من باب غرفتها، وبعد لحظات سمعت طرق قوي ومنفعل على باب غرفتها، وصوت السيدة منى وراء الباب يناديها بانفعال:
"ست أنيسة من فضلك افتحي الباب بسرعة".
سيطر على أنيسة إحساس ينذر بالسوء، ونهضت بسرعة من كرسيها المريح متجهة إلى باب غرفتها تفتحه بعنف، لتجد السيدة منى تقف أمامها ووجهها شاحب، مليء بالعرق، وصدرها يرتفع وينخفض بسرعة، ولكن ما لفت نظر أنيسة، وأثار الرعب داخلها، كانت الدماء الموجودة على ملابس السيدة منى، خاصةً على كتفها الأيسر. شعرت المرأة العجوز بالخوف من معرفة ما لدى منى من أخبار بالتأكيد ستكون سيئة، نظراً إلى الدماء التي تلطخ ملابسها. سألت بصوت مرتجف:
"ماذا حدث يا منى؟".
ردت عليها منى بصوت منفعل:
"فؤاد، فؤاد يا ست أنيسة، أصيب في رأسه".
"فؤاد! ماذا حدث له! أين هو!".
"في الحضانة، مستر خالد معه، لقد عاد للتو".
شعرت أنيسة بركبتيها ترتجفان ولا تقويان على دعمها، ولكنها مع ذلك سحبت الشال الخاص بها من شماعة الملابس بجوار الباب، وخرجت من الغرفة متوجهة إلى الطابق الأول، ثم إلى الحضانة. اقتحمت المرأة الغرفة بعنف لتجد خالد منحني على الأرض، والطفل بين يديه، ووجهه الصغير ملطخ بالدماء. صرخت أنيسة:
"ماذا حدث؟ فؤاد!".
"ست أنيسة من فضلك اهدأي، أنا وخالد سنأخذه إلى المستشفى".
هنا لمحت أنيسة محمود الذي تدخل في الموقف محاولاً تهدئتها، وسمعت خالد يقول بهدوء وبرود أعصاب:
"أحضروا لي من العيادة ما أضمد به الجرح".
وبالفعل أطاعت إحدى المربيات أمر خالد، وأحضرت بسرعة قطن ومطهر، وحاول الرجل أن يسيطر على النزيف، وفي نفس الوقت ألا يزيد من ألم الطفل الذي كان هادئاً على غير العادة، على الرغم من الجرح والألم. ومع ذلك كان خالد يتمتم بعض الكلمات المطمئنة للفتى الصغير جداً بين يديه، ثم حمله بين ذراعيه ونهض موجهاً نظرته إلى محمود قائلاً:
"محمود اذهب إلى السيارة، سألحقك".
وقبل أن يذهب خالد، نظر إلى لارا التي تتابع المشهد بعينين مصدومتين دامعتين، وجسد يرتجف، كانت نظرته باردة موبخه، ألقاها على الطفلة التي رجعت إلى الخلف، ثم تعثرت ووقعت. وذهب خالد وهو يحمل توأمها المصاب الذي ينظر إليها بحزن وشفقة. وهنا بذكائها فهمت أنيسة التي لمحت الموقف من بعيد، أن لارا كان لها دور في إصابة توأمها فؤاد. ودوت صرخة أنيسة في المنزل، وهي تسحب الطفلة من ذراعها وتصفعها عدة مرات على ظهر كفها الصغير جداً. لجمت السيدة منى غضب أنيسة التي لم تكن على طبيعتها، ومنعتها عن الطفلة الصغيرة التي لم تبلغ بعد سنتها الخامسة، والتي وقعت على الفور على الأرض ساجدة ممسكة بكفها وهي تبكي بحرقة. وفي هذا اليوم هاج وماج المنزل وكأن النار اشتعلت فيه فجأة.
***
حاولت سالي طوال اليوم فك الجمود بينها وبين والدتها، ولكنها كانت عنيدة كالصخر، تكتفي بالرد البارد عليها، وببضع كلمات فقط، لا أكثر ولا أقل، ولكن مع زينة كانت العلاقة طبيعية إلى حد ما. هنا أدركت سالي أن هناك حديثاً لم ينته، وعليها أن تبادر هي لإنهائه بنفسها. وأمام غرفة والدتها طرقت سالي الباب برفق، وقالت بصوت مسموع:
"ماما، هل أستطيع أن أدخل؟".
بعد لحظات قالت المرأة بصوت هادئ:
"ادخلي يا سالي".
دخلت سالي وهي تشعر بالرهبة من جمود والدتها، كانت المرأة ترتب بعض الملابس، فجلست سالي على السرير وهي تنظر إليها قائلة:
"ماما، هل هناك ما يضايقك مني؟".
أكملت المرأة ترتيب الملابس دون أن تلتفت إلى ابنتها وقالت:
"وما الذي قد يضايقني منك".
"لا أعرف، ولكني أشعر أنك لست طبيعية معي".
التفت السيدة سهام بنظرة اتهام، وانفجرت قائلة وكأنها تحاكم ابنتها:
"لماذا أرسلت تلك الرسالة إلى والدك؟ كيف تأخذين قراراً من الأساس دون أن تستشيريني أولاً؟".
تأملت سالي والدتها بعجز، ثم قالت:
"لأن هذا قراري أنا يا ماما!".
"هذا ليس قرارك بمفردك يا سالي!".
سمعت سالي الجملة وهي تشعر بأن الجدال سيأخذهم إلى منحنى آخر، فقالت:
"ماما لقد سئمت من الحديث في هذا الموضوع، ومن تكرار نفس الكلام، لما لا تقدرون موقفي وقراري؟".
"الأمر ليس له علاقة بالتقدير، إنها مصلحتك ومستقبلك، ما العيب في هذا الشاب؟ أنا أراه شاب مهذب، ومن عائلة محترمة وراقية".
"أنتِ قلتِ بنفسك! هذه مصلحتي أنا، ومستقبلي أنا! وأنا من يقرر إن كان هذا الشاب مناسب لي أو لا، وأنا قلت لا".
أقرت المرأة بعند:
"مصلحتك تخصنا، نحن جميعاً شركاء في القرار، ماذا لو كان تقديرك للأمر خاطئ؟".
"لا، مصلحتي لا تخص أحد، ولو كانت كذلك، هذا لا يعني أن تلغي قراري ورأي الشخصي. واسألي نفسك أنت أيضاً، ماذا لو كنت مخطئة في رأيك؟".
التفتت إليها المرأة، وقالت بانفعال:
"منذ متى بدأتِ تشكين في قراراتي؟ أنا أمك وأعرف ما هو الأفضل لك. ما هذا الرفض المستمر؟ كل ما أريده هو أن أراكِ سعيدة ومطمئنة، وهذا العريس اصراري عليه ليس سوى محاولة لتحقيق ذلك. ألم تفهمي بعد؟ الحياة ليست مجرد قرارات عشوائية تتخذينها بنفسك. هناك أمور أكبر منك تحتاج إلى التوجيه والخبرة، وهذا ما أحاول أن أقدمه لك".
"ماما! أنا لست طفلة صغيرة".
قاطعتها المرأة بإشارة من يدها وقالت:
"أنت عنيدة حقاً! أخبريني كيف تفكرين؟ ماذا حدث لكِ؟ منذ أن أتيتي من هذا المنزل وقد تبدلت ابنتي التي أعرفها، ابنتي الهادئة المطيعة التي لم ترفض لي يوماً طلباً. أصبحتِ تتذمرين، وكلمة 'لا' على لسانك باستمرار، أخبريني ماذا حدث لك هناك؟ هل هناك من أغواك ووعدك بوعود هاوية؟".
نظرت سالي إلى والدتها بصدمة:
"ماما! أيعقل أنك تعتقدين هذا عني؟ لأنني فقط اتمسك بقراري وحريتي الشخصية؟".
"لا يوجد سبب آخر، هل يعقل أن تضحي بكل هذا لمجرد عناد؟ هل تظنين أن هذه هي الحرية التي تبحثين عنها؟ إن كنت تظنين أن هذا الموقف هو مجرد قرار يتعلق برفض عريس، فأنت مخطئة. إنه أكبر من ذلك. إنه اختبار لعلاقتنا، واحترامك لي ولتجربتي في الحياة، ألا تعلمين كم تحملت لأجلك ولأختك؟ وها أنتِ ترفضين ما أراه الأفضل لك من أجل أسباب لا أفهمها. هل تظنين أن الحياة سهلة؟ هل تظنين أنكِ قادرة على مواجهتها وحدك؟".
التفتت المرأة وهي تضع الملابس في الدولاب، وعلامات الذنب على ملامحها بسبب اتهامها القاسي والغير شريف لابنتها، التي كانت متأكدة من براءتها ونقائها. ولم تمر لحظات، وسمعت سالي من خلفها تقول بقهر:
"أنا لا أصدقك حقاً، لطالما شعرت بالذنب اتجاهك، وأنا لا أعلم سر هذه المشاعر، ولكن هل شعرتي أنت بالذنب اتجاهي؟ أنتم حقاً تجنون عليّ، ماذا تعتقدوني؟ دمية تحركونها في أي اتجاه. أنت يا ماما لطالما أجبرتني على قراراتك، ولم تتركي لي مجالاً لأتخذ قراراتي بنفسي، هل سألتي نفسك إن كنت أرغب في دخول كلية الطب أم لا؟ لم تسأليني أبداً عن رغبتي، بل رغبتك كانت هي الأولوية، حتى أنك هددتِ بالتبرأة مني إن أكملت في قسم الأدبي، أنا لم أنس هذا اليوم أبداً، ومع ذلك أطعتك وعدت للتسجيل في القسم العلمي، أنتِ لم تقدمي لي يوماً قراراً اقبله أو رفضه، بل اجبرتني دائماً. حتى تعلم الموسيقى رفضتِ ذلك، وتحججتِ بأنها ستهدر وقتي، حتى كبرت وتعلمتها بنفسي وبمصروفي الخاص. وها نحن اليوم، بابا يعود بعد غياب وهجر سنين ليجبرني على شخص لا أريده، وأنت أكثر شخص تأذى منه، توافقيه على ذلك، تضعين مستقبل ابنتك بين يدي شخص تخلى عن مسؤوليتنا بكل بساطة، هل حقاً تثقين فيه إلى هذا الحد؟ الحد الذي يجعلك تتبرأِ من ابنتك؟ أين أنا في صراعاتكم؟ حتى في توافقكم أين أنا؟ متى سأتخذ قراري بنفسي؟".
توقفت المرأة عن ترتيب الملابس وأخذت نفسًا عميقًا، محاولة كبح دموعها التي بدأت تتجمع في عينيها. التفتت إلى سالي، ونظرت إليها بعينين مشحونتين بالألم والمشاعر المختلطة. قالت بصوت خافت لكن مؤثر:
"يا سالي، لا تظني أنني لم أشعر بكل ما مررتِ به. كل قرار اتخذته كان بدافع الخوف عليكِ، الخوف من أن تعاني ما عانيته، أن تمرّي بنفس الصعوبات التي مررت بها".
قاطعتها سالي بعصبية:
"الخوف! لقد نقلتيه إليّ، جعلتِني جبانة مثلك، أخشى حتى السفر بمفردي، ولو كانت مجرد رحلة إلى محافظة أخرى. هذا الخوف تحكم حتى في قراراتي المصيرية، مثل اختياري لتخصصي. كنت أرغب في المخاطرة واختيار الجراحة، لكنني خفت واخترت قسم الأطفال، الذي لم يكن حتى في حساباتي. سممتِ عقلي بالخوف، وجعلتني عاجزة عن المواجهة. والآن تزرعين داخلي الخوف من العنوسة، وتدفعينني لقبول أي فرصة خشية ألا تتكرر. جعلتِني أعيش في عالم من الاحتمالات، بعيداً عن الواقع".
اتسعت عيون المرأة الباكية من اتهامات ابنتها، وقالت وهي تدافع عن نفسها:
"لقد تخليت عن الكثير من أجلكِ أنت وزينة، وضحيت بكل شيء من أجل أن تكملي حياتك بأمان واستقرار كطبيبة لها وضع راقٍ في المجتمع. عندما انفصلت عن والدك، كان بإمكاني أن أترككِ وأختكِ، لكنني لم أفعل، لم أستطع. كانت حياتي كلها تتمحور حولكما، حول حمايتكما، حتى لو كانت تلك الحماية تعني اتخاذ قرارات صعبة بدلاً عنكما. أنا لست معصومة من الخطأ، وربما كنت قاسية أحيانًا، لكن كل ما فعلته كان بدافع الحب والخوف. أخاف عليكِ، يا سالي، أخاف من أن تكتشفي في يوم من الأيام أنكِ اتخذت قرارًا خاطئًا، وأنني لم أكن هناك لأحميكِ. عندما كنتِ صغيرة، كان عليّ أن أكون الأم والأب، أن أتحمل كل الأعباء وحدي، وكنت أعتقد أنني أفعل الصواب من أجلكم. لم أفكر أبدًا في أنني قد أكون آذيتكِ بقراراتي. ولكن يا ابنتي، أفهم الآن أنكِ تريدين أن تتخذي قراراتك بنفسك، وهذا حقك. ولكني أرجوكِ ألا تظني أنني أضغط عليكِ لأنني أريد السيطرة على حياتك. أنا فقط أريد أن أضمن أنكِ ستكونين بخير، حتى عندما لا أكون هنا. ثقتي في والدك ليست ثقة في شخصه بقدر ما هي محاولة لمنحكِ حياة مستقرة. ربما أخطأت في تقدير الأمور، وربما ظننت أن هذا الزواج سيمنحكِ الأمان الذي أريده لكِ. ولكن في النهاية، أنتِ من ستعيشين هذا الحياة، وأنا... أنا فقط أريد أن تتذكري أنني أحبكِ، وأن كل ما أفعله هو بدافع الحب، حتى لو بدا لكِ أنه عكس ذلك".
"دعيني أخطأ ولو لمرة واحدة، دعيني اتعلم تحمل مسؤولية أخطائي، ما هي المشكلة في الخطأ؟ أن وأنت لسنا معصومين من الخطأ، لماذا الخوف منه؟".
نظرت سالي إليها ووجهها مُحمل بكل علامات الأسى والحزن العميق، وعينيها تلمعان بالدموع التي سقطت أخيراً وهي تقول بصعوبة:
"ماما أنا لست بخير، لست سعيدة، لذلك استقلت، أنت لم تسأليني يوماً عن مشاعري، لم تكونِ مهتمة إن كنت سعيدة أم لا. هل تعلمين أنني أتواصل مع طبيبة نفسية؟ أنا مرهقة، ولم أشتك يوماً، وحاولت دائماً ألا أحملك عبئاً فوق عبئك، ومع ذلك تحمليني نتيجة اختيارك البقاء معنا، لماذا تمنين عليّ بتحملك المسؤولية بعد رحيل والدي؟ لماذا تحمليني مسؤولية قيامك بواجبك؟ لماذا لا تنصتين؟".
كلمات سالي الأخيرة وقعت كالصاعقة على والدتها، وقفت صامتة لوهلة، عيناها متسعتان بالحزن والدهشة. حاولت أن تتحدث لكن الكلمات علقت في حلقها. شعرت بثقل كبير في صدرها، وكأن كل ما بنيته عبر السنين انهار أمامها في لحظة. أرادت أن تقول شيئاً، أن تعتذر، أن تعبر عن ندمها، لكن الكلمات لم تسعفها. ولم تحتمل سالي ذلك الصمت، فنهضت من مكانها وهي تتجه نحو الباب ببطء، دون أن تنظر لوالدتها مرة أخرى. وقبل أن تغلق الباب خلفها، همست بصوت خافت مليء بالألم:
"أنا لست دمية، ماما.. أنا فقط أريد أن أعيش حياتي بشكل يرضيني".
أغلقت الباب، تاركة والدتها خلفها، وحيدة مع أفكارها ومشاعرها المتضاربة. بقيت الأم واقفة في مكانها، تحاول فهم ما حدث. وسقطت دمعة من عينها.
***
كانت اصابة فؤاد قريبة من العين ولولا ستر الله لكان قد اصيب فيها مباشرة. تم خياطة جرحه الذي كان عميقاً قليلاً، ورُبطت رأسه بضمادة بيضاء، وأخذ خالد تعليمات خاصة للعناية بالجرح. عندما عادوا إلى المنزل كان خالد يحمل فؤاد برفق وبجوارهم محمود، والطفل يسند رأسه على الكتف القوية الداعمة بتعب، بدى أن الصغير المسكين بكى كثيراً أثناء خياطة الجرح، نظراً إلى الدموع الجافة على وجنتيه، واجتمع اخوته جميعاً حوله وهو على كتف خالد، وحاولوا مواساته والطبطبة على أخيهم الصغير، ولكن الطفل المتعب أبدى تصرف غريب، كان ينادي على لارا شقيقته التي كانت سبباً في إصابته، والتي عاقبتها السيدة أنيسة وحبستها بمفردها في غرفة الحضانة برفقة إحدى المربيات، وأمرت ألا تخرج إلا بعد الاطمئنان على فؤاد.
حمل خالد فؤاد إلى غرفته، وكان الفتى متلهف ليرى شقيقته التي لم تكن موجودة في الغرفة، وضعه خالد برفق على السرير، وطلب من السيدة منى أن تحضر الماء الدافئ وقطعة قماش، وخلعوا ملابسه بمساعدة محمود، وبدأوا في مسح الجسد الصغير بالماء وبرفق، ثم ساعدوه في ارتداء ملابس نظيفة. طلب خالد من الجميع الخروج حتى يرتاح الولد قليلاً، وظل بجواره، وأعطاه دواءه بنفسه، وعندما اطمأن أنه قد أغلق عينيه أخيراً، نهض بهدوء وببطء، لكنه شعر بيد صغيرة تشد قميصه، نظر خالد إلى فؤاد الذي فتح عينيه، وهو يقول بألم:
"أبيه أين لارا؟".
همس خالد وهو يمسح شعره بحب:
"لارا في الحضانة".
قال الفتى بأنين:
"لماذا لم تأت؟".
"لأنك متعب يا فؤاد، وهي لا تريد أن تزعجك حتى ترتاح".
نظر إليه الفتى، والدموع تتجمع في عينيه:
"أبيه هل ستعاقبها؟ أنا لم أبك أبداً، أرجوك لا تعاقبها".
صُدم خالد من كلام الصغير الذي لم يتعد الخمس سنوات، ونظر إليه بدهشة ممزوجة بالأسى، وشعر بقلبه يتألم وهو يستنتج، أن فؤاد لم يبك حتى لا تتأذى شقيقته التي كانت السبب في إصابته. هؤلاء الأطفال، كيف يفكرون بعقولهم الصغيرة تلك، لقد تصرف الطفل الصغير تصرف شخص بالغ عاقل. كيف له أن يمتلك هذا القدر من التسامح والحنان؟ رد خالد على فؤاد بصوت مبحوح:
"يا حبيبي، لارا لا تحتاج للعقاب. لقد كانت حادثة، وكل شيء بخير الآن. المهم أن ترتاح وتتجاوز هذا الألم".
لكن فؤاد لم يقتنع، نظر إلى خالد بعينيه البريئتين وقال:
"لكنها بالتأكيد تبكي، أريد أن أراها، أريد أن أخبرها أنني بخير، أرجوك يا أبيه، دعها تأتي".
تردد خالد للحظة، فقد كان يعرف أن أمه لم ترغب في أن تتقابل لارا مع فؤاد حتى يطمئنوا على حالته تماماً. ولكنه في تلك اللحظة، لم يستطع تجاهل طلب فؤاد ورغبته الشديدة في رؤية شقيقته. كيف يمكن أن يحرم هذا القلب الصغير من التواصل مع شقيقته وتوأمته العزيزة؟ أخذ خالد نفساً عميقاً، ثم انحنى على فؤاد وقبّل جبينه:
"حسنًا، سأذهب لأحضرها لك. لكنك يجب أن تعدني بأن ترتاح بعد ذلك، حسنًا؟".
هز فؤاد رأسه بالموافقة، وعيناه تتلألآن ببصيص من الأمل. نهض خالد وتوجه بخطوات ثقيلة نحو غرفة الحضانة حيث كانت لارا محتجزة. عندما فتح الباب، وجدها جالسة في زاوية الغرفة، عيناها منتفختان من البكاء، والمربية تحاول تهدئتها بلا جدوى. وعندما لمحت خالد، نهضت الطفلة وركضت إلى خالد وهي تحتضن ساقيه وتبكي بحرقه:
"أبيه!".
انحنى خالد وجلس إلى مستواها، ثم مدّ يده بحنان وقال:
"لارا، فؤاد يريد أن يراكِ".
رفعت لارا رأسها ببطء، وعيناها مليئتان بالخوف والندم. نظرت إلى خالد بصوت مرتجف:
"هل هو بخير؟ هل هو غاضب مني؟".
ابتسم خالد بخفة وقال:
"فؤاد بخير، وهو ليس غاضبًا منكِ. إنه يريد رؤيتك ليخبرك بنفسه".
اغرورقت عيون الطفلة بالدموع وبكت بنحيب، فحملها خالد بلطف وهو يشد على الجسد الصغير الرقيق بحب قائلاً:
"هيا أمسحِ دموعك، حتى لا يحزن فؤاد ويبكي مثلك".
انتظر خالد الطفلة حتى تهدأ وتمسح دموعها، ثم صعد بها تحت أنظار الجميع والطفلة تتمسك برقبته بحزن، وأمام باب الغرفة أنزلها خالد وفتح الباب، فاندفعت لارا من خلال الباب، ورأت شقيقها مستلقيًا بضعف، لكن ابتسامة طفيفة ارتسمت على شفتيه عندما رأى أخته تدخل الغرفة. ركضت لارا نحوه وجلست بجانبه، ووضعت كفها الصغير تطبطب عليه وهي تبكي:
"فؤاد، هل أنت بخير، أنا لم أكن أقصد دفعك!".
ابتسم فؤاد برقة، وقال بصوت واهن:
"أنا لم أبك يا لارا".
بالفعل لم يصدر فؤاد صوتاً أثناء خياطة الجرح، كانت فقط دموعه تهبط بصمت، لذلك اعتقد الطفل أنه لم يبك. أجابت لارا على شقيقها:
"نعم لأنك ولد ممتاز".
كان الصغيران يتحدثان بطفولة وبجمل لا علاقة لها ببعض. وكان المشهد مؤثرًا للغاية. ووقف خالد بجانب الباب، يراقب بصمت تلك اللحظة، ثم غادر الغرفة بهدوء، تاركًا فؤاد ولارا ليخففا عن بعضهما، وهو يشعر بأن همومه وأعباءه قد كثرت.
وفي تلك الليلة، لم ير أحد السيدة أنيسة، حيث أغلقت باب غرفتها ورفضت أن تفتحه لأحد، حتى لابنها الحبيب والعزيز خالد.
***
في اليوم التالي وقد كان يوم الأربعاء، جلست سالي في مكتب الدكتور نوفل، بعد دقائق طويلة من الترحاب أطلقها عليها الرجل. عرض عليها الدكتور نوفل مشروب، أو بالمعنى أدق فرض عليها شرب العصير، متحججاً بأن تلميذته المفضلة في ضيافته، وعليه أن يرحب بها بشكل لائق. في الواقع لم تكن سالي منتبهة تماماً لما يقوله، بسبب ما مرت به هذا الأسبوع من نقاشات حادة وجدال مع والدتها ووالدها. شعرت الطبيبة الشابة أنها أصبحت مستنزفة كلياً، نفسياً وجسدياً، وأنه لا طاقة لديها لمزيد من النقاشات والمواجهات، وكانت بالفعل تفكر في الاعتذار له عن عدم الحضور ولكنها تراجعت في آخر ثانية، وقررت أن تفي بوعدها له، وبالفعل ارتدت ملابسها بسرعة وذهبت إلى المستشفى التي كانت تعمل فيها في قسم الأطفال. نظر إليها الدكتور نوفل وخلع نظارته الطبية وهو يقول متأملاً سالي:
"أنت لست بخير، أليس كذلك".
ابتسمت سالي ابتسامة جامدة، وهي تعلم أنه لا مفر من أسئلته الأبوية الفضولية:
"بعض المشاكل العائلية".
"وهذه المشاكل، لها علاقة بالعمل في المنزل؟".
نظرت إليه باستغراب وهي لا تفهم كيف أدرك ذلك:
"نعم، ولكن بشكل غير مباشر".
"وأنت ما هو قرارك؟".
تأملت سالي أظافرها:
"أريد أن أستمر في العمل هناك، أشعر بالراحة بينهم".
عدل الرجل نظارته براحة وكأنها الإجابة التي يرغب في سماعها:
"إذاً لا يستطيع أحد أن يمنعك".
ابتسمت سالي على إجابته السهلة البسيطة التي قالها دون أن يعلم بما تمر به من صراعات ومشاكل. سمعته سالي يقول:
"سالي ابنتي، أنا في مقام والدك، أخبريني هل تحتاجين إلى المساعدة؟".
صوت هذا الرجل كان يبعث بالراحة في نفسها، مما جعلها تبتسم بصدق وهي تنظر إليه مباشر:
"أنت بالفعل في مقام والدي، ولكنِ أشعر بعدم الرغبة في الحديث".
"على راحتك يا سالي، ولكنِ أريد أن أخبرك، أنك من ابنائي المفضلين، ولطالما رأيت فيك صدق، ورُقي وشجاعة لم أرهم في كثير من الناس الذين قابلتهم طوال حياتي، وأنك قادرة على تخطِ كل ما تواجهيه من معوقات، وعلى الرغم من استيائي من استقالتك، إلا أنني متأكد أنك حكيمة بما يكفي لاتخاذ مثل هذا القرار الجريء، وأن هذا القرار لم يأت إلا بعد الكثير من التفكير العاقل والرزين".
نظرت إليه سالي وهي تشعر بامتنان صادق وعميق تجاه هذا الرجل المخلص، وشعرت بأن هذا كانت ما تريد سماعه:
"أشكرك يا دكتور على ثقتك بي، أنا حقاً ممتنة لكل ما فعلته لأجلي".
"لا شكر على واجب يا ابنتي، بمناسبة ما فعلته لأجلك، أخبريني كيف كان شهرك الماضِ في المنزل؟".
تذكرت سالي الأولاد بحب، وفي نفس الوقت شعرت بالقلق عليهم، فلم تصلها أية أخبار من فرح منذ يومين:
"كانت تجربة مميزة وفريدة، أعتقد أنني كنت في حاجة لتغيير شكل عملي، والعمل هناك ساعدني جداً على ذلك".
"هذا جيد، وكيف هم الأولاد سمعت أنهم 15 طفل وطفلة، بالتأكيد كنتِ تعيشين في سيرك".
ابتسمت سالي بحب وقالت بصدق:
"هم السبب الذي يجعلني أرغب في الاستمرار بالعمل هناك".
نظر إليها الرجل بتعبير أبوي:
"أنت حقاً لطيفة يا سالي، وطيبة القلب".
خجلت الشابة من لطف الرجل الذي سألها:
"أخبريني متى ستعودين؟".
"بعد غد بإذن الله".
مرت لحظات، قبل أن تتبدل ملامحة إلى الجدية وهو يسألها:
"والسيدة أنيسة، كيف أحوالها؟".
تذكرت سالي تلك المرأة الراقية التي لم تر منها أي سوء:
"أنا أقدرها كثيراً، لقد استقبلتني بينهم بكل حب، جعلتني أشعر وكأنني من العائلة".
نظر إليها الرجل من تحت نظارته وسألها بغموض:
"وصحتها؟".
مال رأس سالي بحيرة من السؤال، وقالت ببطء:
"بخير".
نظر إليها الدكتور نوفل للحظة، وكأن الكلمات تتثاقل على شفتيه، ثم تنهد بعمق وقال بصوت خافت ولكنه واضح:
"سالي، أنا لا أريد أن أخفي عنك شيئاً، ولكن الحقيقة أن السيدة أنيسة ليست بخير".
تبدلت ملامح سالي على الفور، وظهر القلق في عينيها وهي تسأل:
"ماذا تعني؟ هل هناك شيء لا أعلمه؟".
هز الدكتور نوفل رأسه بحزن، وقال بحذر:
"صديقي الدكتور رشدي هو من يتابع حالتها.. وقد أخبرني أن السيدة أنيسة مصابة بورم خبيث في الجهاز الهضمي".
صمتت سالي، ولم تستطع أن تنطق بكلمة. كانت الصدمة تسيطر على كل حواسها. حاولت أن تستوعب ما سمعته للتو، لكنها شعرت وكأن الأرض تزلزل تحت قدميها. أخيرًا، بعد لحظات من الصمت الثقيل، همست:
"ورم؟ لكن كيف؟ لم يظهر عليها شيء".
وهنا تذكرت سالي اليوم الذي تقيأت فيه أنيسة، في الفترة التي مرض فيها الأولاد. نظر إليها الدكتور نوفل بنظرة مليئة بالتفهم:
"كانت تحاول إخفاء الأمر عن الجميع، حتى عن مستر خالد ابنها. هي سيدة قوية، ولا تريد أن تكون عبئاً على أحد، المشكلة أن الدكتور رشدي قد أخبرني أن الورم متقدم ويحتاج إلى تدخل سريع".
لم تكن سالي في تلك الثانية قد استوعبت ما سمعته، لذلك تدخل حسها الطبي بهدوء لتستفسر عن المرض:
"هل هو في المعدة أم القولون؟ وما هو نوع الورم؟".
"في القولون، وهو من النوع الغدي. للأسف، تم اكتشافه في مرحلة متأخرة، مما يعني أن احتمالية انتشاره واردة".
"وهل هناك أي علامات على انتقاله إلى الأعضاء الأخرى؟".
"تم إجراء تصوير مقطعي، وهناك بعض العقد الليمفاوية المتضخمة، مما يشير إلى احتمالية وجود انتقالات. ولكن الكبد حتى الآن يبدو سليماً في الفحص".
"وهل هناك أية خيارات علاجية متاحة في هذه المرحلة؟".
"العلاج الجراحي قد يكون صعباً الآن بسبب تقدم الحالة، ولكن يمكن التفكير في العلاج الكيميائي لتقليل حجم الورم ومحاولة السيطرة على الانتشار. ولكن، كما تعلمين، هذا يعتمد على استجابة السيدة أنيسة للعلاج، وهي ترفض البدء في أي علاج".
"لكن بدون العلاج، قد يتفاقم الوضع بشكل أسرع. هل ناقش الدكتور رشدي معها تفاصيل العلاج الكيميائي؟".
"نعم، حاول إقناعها، لكنها تخشى أن يكون العلاج مؤلماً أو مؤثراً على نوعية حياتها".
لم ترد سالي على الرجل الذي أكمل:
"من الممكن أن تكون متخوفة من الآثار الجانبية، ولكن إذا لم نبدأ العلاج، قد لا يكون هناك وقت لاحق للتدخل. ربما إذا أطلعت على الخيارات العلاجية الأقل إزعاجًا، كالعلاج الموجه أو البروتوكولات الحديثة، قد تتغير وجهة نظرها".
أكمل الرجل وهو يلاحظ الدموع تتجمع في عيون سالي:
"الوضع صعب جداً يا سالي، والعلاج ممكن بمعجزة إلهية، لكن يحتاج إلى تدخل سريع. المشكلة أنها ترفض البدء في العلاج خوفاً على خالد، ولا تريد أن تخبره بحقيقة حالتها".
شبكت سالي كفيها المرتجفين، وهي تشعر بالضعف تجاه السيدة أنيسة. كيف لهذه المرأة القوية أن تخفي هذا الألم؟ تمتمت بصوت مهتز:
"وماذا سيحدث الآن؟".
أخذ الدكتور نوفل نفساً عميقاً وقال:
"ربما إذا رأت أننا نهتم بتخفيف آلامها والحفاظ على نوعية حياتها، ستفكر بشكل مختلف".
أمسك الدكتور نوفل يد سالي بحنان وقال:
"أعلم أنه أمر صعب، ولكنها تحتاج إلى دعمك الآن أكثر من أي وقت مضى. أنتِ قريبة منها، وربما يمكنك إقناعها بالبدء في العلاج قبل فوات الأوان".
نظرت سالي إليه وهي تحاول أن تجمع شتات نفسها:
"سأفعل ما بوسعي، لكن هذا الأمر سيؤثر على الجميع، وخاصة مستر خالد. كيف سيواجه هذا؟".
هز نوفل رأسه ببطء:
"هذا ما أخشاه أيضاً، لكن الحقيقة لا يمكن أن تبقى مخفية للأبد".
خرجت سالي من مكتب الدكتور نوفل، وسارت في طرقات المستشفى، وهي تشعر بالخدر في مشاعرها، وبأن قدميها لا تقويان على حملها، فجلست على السلالم الخاصة بالمستشفى، ولم تمر لحظات حتى انهمرت الدموع المحبوسة أخيراً. كان كل شيء يبدو وكأنه ينهار من حولها، العالم بأسره بات فجأة ثقيلًا على قلبها. حاولت السيطرة على مشاعرها، لكن الألم كان أكبر من أن يُحتمل.
نهاية الفصل السابع عشر.
***
أعزائي، أزيكم، على الرغم من الفصل الحزين إلا أني اتمنى تكون المفاجأة عجبتكم، الفصلين دول استهلكوا مجهود ووقت كبير أوي مني، حتى مشاعري تم استهلاكها تماماً، وحاسة اني محتاجة اجازة مع اني راجعة من اجازة. متوقعتش خالص اني اكتب 10000 كلمة في 4 أيام، ولكني حطيت كل طاقتي ومشاعري ووقتي فيهم، وده اللي خلاني اخلصهم في الوقت القياسي ده. من الفصل ده سير الأحداث هياخد منحنى آخر، وداخلين على الجزء الدرامي التراجيدي. وده أنا نفسي خايفة منه أوي، علشان هيأثر فيها أنا قبلكم، ولكن هي دي القصة.
مش عارفة هاخد اجازة ولا لأ، الله أعلم ولكن أنا بكتب لنفسي وليكم فغالباً هكمل عادي زي مانا، ومع ذلك أي تحديث هعلمكم بيه. آخر حاجة، بشكركم أوي أوي أوي، على اخلاصكم للقصة ومتابعتكم ليها على الرغم من قلة المشاهدات كل كومنت بيجيلي بيرفع معنوياتي للسما وبيدفعني اخترع الوقت علشان أكمل القصة، على الرغم من المشاغل.
شكراً لإخلاصكم وتفهمكم.
كاتبتكم ءَالَآء
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق