رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل العشرون
فضلاً، متنسوش الvote.
***
ملاحظة: مقطوعة اليوم: الحان السنباطي من أغنية ذكريات. من مفضلاتي
ساد صمت مريب في غرفة المكتب، حيث جلس خالد وأنيسة بعد ساعات طويلة من التوتر والقلق بسبب تأخر الأولاد وتصرفات فرح الطائشة. ارتسمت علامات الوجوم على وجهيهما، فلم يجد أي منهما كلمات للتعبير عن مشاعره. وأخيرًا، رفعت أنيسة بصرها نحو خالد، الذي كان يجلس شارداً غارقًا في أفكاره، وقررت أن تقطع الصمت الذي استمر لدقائق طويلة:
"خالد ما الذي حدث؟ أريد أن أفهم الأمر كل شيء".
رفع خالد رأسه ينظر إليها مُباشرةً، وقال بعد لحظات:
"كما أخبرك حسن في الهاتف، فرح وزميلتها في الفصل تشاجرتا إلى حد العراك بالأيدي، مما أحدث تلفيات في المطعم، والاتصال بالشرطة".
هزت أنيسة رأسها نفياً بنفاذ صبر وقالت:
"ليس هذا ما أقصده، ما هو السبب؟ السبب الذي يجعل الفتاتين تصلان إلى هذا الحد؟".
تنهد خالد موضحاً:
"لم أضع يدي على سبب واضح حتى الآن، فقط جكل ما قيل لي أن زميلتها دينا هي التي بدأت العراك أولاً".
وضع خالد يده على صدغيه وهو يشعر ببوادر الصداع تتسلل إلى خلايا رأسه:
"ولكنني أشعر بأن هناك أمراً خفياً لا نعلمه، هناك أمر ما تخفيه عنا فرح، لأنه إذا لم تكن هي المبادرة بالعراك لتحدثت ودافعت عن نفسها".
تمتمت أنيسة:
"أنا أيضاً أشك في ذلك، صمتها هذا لا يريحني".
تذكرت أنيسة الضمادة التي حاولت فرح أن تخفيها، وشعرت بالشفقة عليها في نفس الوقت الذي كان غضبها فيه يتأجج منها، نظرت إلى خالد بتردد ولسانها يريد أن يفصح عن سر الطفلة، ولكنها تذكرت وعد سالي بمساعدتها دون فضحها، فأغلقت شفتيها وهي تدعو الله أن تعود سالي بالسلامة. نظرت إلى خالد الذي يدلك صدغيه بألم وقالت:
"ما هو الحل؟".
"لا أعلم". نظر إليها خالد بتردد وكأنه يريد أن يقول أمراً ما. فهمت أنيسة حيرته وسألته:
"أخبرني يا بُني، هل هناك شيء تود قوله".
تردد خالد للحظات قبل أن يفتح فمه ويتحدث ببطء:
"ونحن نتفاوض مع مدير المطعم كانت زميلتها تقلب نظرها بين فرح وبيني بسخرية، وكأنها تسخر منها كونها..".
لم يجرؤ خالد على إكمال الجملة التي فهمتها أنيسة وبدت وكأن ملامحها شحبت.
خالد بذكائه كان متأكد من هدف تلك النظرة التي حملتها زميلة فرح التي كانت مليئة بالاحتقار الخفي، عيناها ضيقتا قليلاً وكأنها تحاول كتمان ابتسامة ساخرة، فشلت في إخفاء الزهو الذي شعرت به وهي ترى فرح في موقف ضعف، عندما أعلن خالد أنه كفيلها. كانت تحدق بها ببرود، وفجأة عيناها لمعتا بومضات شماتة، وكأن فرح في نظرها هي تلك الفتاة الضعيفة المنبوذة التي لا تستحق سوى الرحمة أو السخرية.
حينما التفتت دينا زميلة فرح إلى خالد، كان هناك تلاعب صريح في نظراتها، نظرات تريد أن تقول:
'لن تستطيع حمايتها من حقيقة أنها يتيمة'.
قُطعت أفكاره على همس أنيسة:
"كونها يتيمة".
نعم لأن فرح طفلة يتيمة لا أب لها ولا أم، هذه هي الحقيقة التي ستلاحق هؤلاء الأطفال طوال حياتهم.
لم يجب خالد على أنيسة واكتفى بالصمت، فقالت أنيسة وهي تضع يدها على صدغها بانهيار:
"يا إلهي! هؤلاء الأطفال! كيف هذا؟"
كررت بصدمة:
"هل يتنمرون عليها بسبب يتمها؟؟"
همست أنيسة بكلمة 'بسبب يتمها' وحدقت في خالد وكأنها تنتظر منه تأكيداً أو نفياً، لكن صمته كان كافياً لتأكيد أسوأ مخاوفها. شعرت بضيق في صدرها، وكأن الهواء في الغرفة قد تقلص ولم تعد قادرة على التنفس بشكل طبيعي.
كيف يمكن لأطفال في هذا العمر أن يكونوا بهذه القسوة؟ كيف يمكن أن يتحول يتم فرح إلى سلاح يُستخدم ضدها؟ لم تستوعب أنيسة هذا الواقع. حاولت أن تتمالك نفسها، لكنها شعرت بدموع ساخنة تتجمع في عينيها، رافضة الانصياع للغضب الذي يتأجج داخلها. قالت بصوت مخنوق بالكلمات:
"كيف لهم أن يتنمروا على يتمها؟ كيف يمكن للأطفال في هذا العمر أن يكونوا بهذه الوحشية؟".
ضغطت أنيسة على صدغيها بألم شديد، وكأن كل هذه الأفكار تسببت في دوار مفاجئ. تذكرت تلك المرات التي كانت تشعر فيها بالغرابة تجاه فرح، على الرغم من روح الطفلة المرحة إلا أنها كانت تشعر بالصمت والتحفظ صادران منها، إذاً بالفعل كان تصرفها الذي تؤذي به نفسها هو محاولة منها لتفريغ همومها الناتجة عن تنمر زميلاتها.
شعرت بالذنب، وكأنها قد فشلت في حماية فرح. الطفلة كانت بالفعل تعاني من يتمها، وجاء زملاؤها عبثوا في جرحها وعمقوه أكثر فأكثر.
أغمضت عينيها للحظة، محاولة أن تستعيد هدوءها، لكنها فشلت. الصور التي مرت بذهنها عن فرح وهي تتعرض لهذا التنمر كانت أكثر مما تستطيع تحمله. انفجر صوتها فجأة، وهي تقول:
"هل هذا ما كانت تعانيه طوال هذا الوقت؟ ولماذا لم تخبرنا؟".
ثم نظرت إلى خالد، وكأنها تتوسل إليه بأن يجد لها تفسيراً أو حلاً لهذا الألم الذي تشعر به، لكنها وجدت في عينيه الحزن ذاته الذي يسكن في قلبها، فنهضت عن كرسيها وجسدها ينتفض بالتوتر، ونظرت إلى خالد وقالت هي تشعر باليأس:
"هل كنا مخطئين؟ يا خالد؟".
التفتت وهي تخفي وجهها اليائس عنه قائلةً:
"هل كنا مخطئين عندما فعلنا خيراً وتبنينا أطفال يتامى، وبنينا لهم منزلاً يحميهم طوال حياتهم؟ هل هذا هو جزائنا لأننا حاولنا أن نبني لهم أسرة يعيشون بينها وتغمرهم بالحب والاهتمام والدفء، في حين أن هناك أطفال في الشوارع لا يجدون حتى خفاً يحمون به أقدامهم الصغيرة، وفي حين أن هناك هنا أهالٍ يرمون أطفالهم بأنفسهم إلى الهلاك. لقد فعلنا ما لا يجرؤ أحد على فعله، نحن أخذناهم وراعيناهم وغمرناهم بالحب والاهتمام، بل قمنا بإنفاق الأموال عليهم دون أن نحاسبهم كما يفعل بعض الآباء البيولوجيين مع أولادهم".
التفتت أنيسة إلى خالد وسألته بحيرة وانكسار:
"أخبرني يا بني، ما هو الفرق الذي لاحظته بين فرح وتلك الطفلة؟ إنه لا شيء، لا شيء يجعل تلك الطفلة توجه تلك النظرات إلى فرح، إلا أن أهلها لا يعززون عندها سمات الإنسانية، ولم يعلموها حتى قبول الاختلاف".
أكملت بعد لحظات:
"أنا كنت أعتقد أن التنمر هذا أمر لا وجود له، فنحن وُلدنا بشر مُكرمين من الله، ومن المفترض أن نحمل صفات الإنسانية التي تميزنا، ولكن يبدو أن هذا فقط في عقلي أنا، وأعلمه فقط لأطفالي".
ارتفعت نبرة صوتها وهي تسأل:
"بعد كل هذا، ما هو اليتم؟ هل هو أن يفقد الطفل أبويه، أو أن يتخلوا عنه؟ أم أن يتركوه في هذه الحياة جاهلاً بلا توجيه؟".
تنهدت أنيسة بعمق وواصلت بنبرة مختنقة:
"أم أن اليتم الحقيقي هو أن يعيش الطفل وسط مجتمع لا يرحمه، مجتمع يحدد قيمته بناءً على ما لا يملكه، بدلاً من أن يحتضنه بما يملكه بالفعل؟".
توقفت لبرهة، وكأنها تستجمع شجاعتها لمواصلة الحديث:
"اليتيم ليس من فقد والديه فقط، بل من فقد العطف، ومن فُقدت فيه الإنسانية. هذه الفتاة التي تجرأت على أن تسخر من فرح، ليست يتيمة بغياب أهلها، بل بغياب القيم التي تجعل الإنسان إنساناً. التعاطف، الرحمة، العدالة، التسامح، العطاء، الاحترام، الأمانة والتواضع".
عدت أنيسة كل صفات الإنسانية، واكملت:
"كل تلك الصفات هي من تجعل الإنسان إنساناً".
خالد استمع بصمت وهو يرى الحزن الذي يلتف حول والدته، مشاعره ممزوجة بين الألم والغضب. لم يكن يعرف كيف يرد عليها. ولكنه قال بعد لحظات من التفكير:
"عالمنا الآن لا يحكمه هذه المصطلحات البريئة، في عالمنا شعاراتك هي مجرد صورة لإخفاء الحقائق المؤلمة، القسوة عالم أكبر بكثير من عالمك المثالي المنظم البريئ انتِ والأطفال، بكل بساطة في مجتمع فرح الصغير يتنمرون عليها لأنها هناك ورقة ضدها، وهيّ اليتم، ولأنها ضعيفة مستسلمة.
الأطفال بطبيعتهم يحبون شعور بالانتصار، لديهم دافع فطري للتفوق والإنجاز، وفي وقتنا هذا لا يحدث ببراءة، بل بشعورهم تجاه مشاعر أو ردود أفعال الآخرين، لا بمجرد المتعة البريئة للنجاح ذاته."
حرك خالد يده أمامها وهو يختم حديثه:
"هذه نقطة تفوقهم على فرح، ويستغلونها جيداً".
أنيسة نظرت إليه بعينيها الممتلئتين بالدموع وقالت:
"لكن.. كيف نساعد فرح على مواجهة هذا العالم القاسي؟ كيف نعلمها أن تكون قوية في مواجهة كل هذه القسوة؟".
أجاب خالد دون تردد:
"تتصالح مع حقيقتها، يجب أن تفهم أن حقيقتها لا تقلل من كونها إنسانة لها حقوق وعليها واجبات، ثم نعلمها كيف تكون قوية، وكيف تستغل تلك القوة في الأوقات التي تتطلب منها ذلك، وأن تتهاون في الأوقات التي تتطلب ذلك.
تتعلم أن قيمتها لا تتحدد بما يراه الآخرون، بل بما تشعر به في قلبها. "
سكت خالد للحظات ثم أكمل:
"ولكن.. قبل كل هذا، علينا أن نعلمها أن هناك من يقف إلى جانبها، وأنها ليست وحدها في هذه المعركة. إنها التربية يا ماما، وما نفعله الآن من شد اللجام والسيطرة عليه هو الشيء الذي سيجعلها قوية ومسؤولة، الشيء الذي سيجعلها تقف أمام العالم بأسره دون خوف".
تأملت أنيسة ابنها للحظات بإعجاب ثناءً على رزانة وحكمة خالد، ثم سألت من بين دموعها:
"ولكن هل هذا سيفلح مع مجتمعنا الشرس؟".
أقر خالد برأسه وهو واثق من الطفلة التي رباها:
"سيفلح لا تقلقي".
تنهد خالد مكملاً:
"علينا الآن أن نعرف السبب الذي أدى إلى هذا العراك، وأن نحاول حله بهدوء، يجب ان نتحدث معها ونطمئنها".
نظرت إليه أنيسة بنظرات مترددة، ثم قالت:
"الدكتورة سالي.. فرح قريبة منها وأعتقد أنهما تصادقتا خلال هذا الشهر، إنها إنسانة متفهمة ومنصتة وفرح ستشعر بالراحة أثناء الحديث معها. ما رأيك أن نترك الأمر لها، ربما تستطيع التصرف مع هذه المشكلة".
عندما ذكرت أنيسة اسم سالي، تسارعت نبضات قلبه، وأنصت إلى كل كلمة قالتها أمه، ثم قال بعد تفكير عميق:
"إذاً لنتحدث معها في هذا الأمر، متى ستعود؟".
"أرسلت إليّ رسالة بموعد قدومها غداً الجمعة في الحادية عشر ".
"هل هناك من يقلها؟".
مال رأس أنيسة بحيرة وقالت:
"لا، لقد جاءت المرة الأولى بمفردها من المحطة".
"مع حقيبة سفر؟ هذا لا يجوز يجب أن ينتظرها أحد هناك".
قالت أنيسة بحيرة:
"نعم هذا صحيح، كيف غابت هذه المسألة عني؟ لو كنت متفرغاً كنت سأطلب منك أن تقلها، ولكنك مشغول حتى في إجازتك، ربما أطلب من عم حمدي أن يفعل ذلك".
"لا بأس معي، أستطيع أن أذهب بنفسي وأقلها".
قالها خالد بهدوء، فرفعت أنيسة حاجبيها وسألته:
"حقاً؟، ألن يعطلك هذا؟".
"لا بأس، يمكنني أن أتفرغ لهذا المشوار البسيط".
نظرت أنيسة إلى ابنها بعطف وقالت وفي قلبها أمنية صادقة:
"إذاً سأترك مهمة سالي لك".
***
فتحت سالي صورة فرح للمرة العاشرة، وهي بين إعجاب وحيرة. كانت فرح جميلة جدًا ومتألقة في فستانها الأسود، شعرها المتمايل ينساب بنعومة على كتفيها. تنبأت سالي بأن تلك الفتاة ستكون باهرة الجمال بعد سنوات قليلة، ولكنها في الوقت نفسه شعرت بالحيرة، إذ بدا شكل فرح غير ملائم لسنها. على الرغم من تألقها في الصورة، إلا أن الفستان والحذاء وحتى مستحضرات التجميل ولون الشفاه الصارخ لم تكن لائقة. هذا أزعج عينيها حقًا، وجعلها تتساءل: هل من المعقول أن السيدة أنيسة سمحت لفرح بالخروج بهذا الشكل؟ أو ربما مستر خالد، ألم يرَ فرح ترتدي هذه الملابس ولم يعترض؟ كانت سالي بالفعل محتارة، لكنها تفاعلت مع الصورة وأرسلت رسالة إلى فرح:
[إذًا هذه هي المفاجأة، أنت حقًا جميلة، لكن لدي سؤال].
أرسلت سالي الرسالة، ثم عادت لترتيب حقيبتها، وفي الوقت نفسه كانت ترتب أفكارها لمواجهة الفصل الجديد من حياتها. أمامها العديد من الأمور التي تنتظرها، بدءًا بفرح وانتهاءً بمرض السيدة أنيسة. غاصت في أفكارها بعمق؛ فمنذ أن قدمت استقالتها، لم تكن تتوقع أبدًا أن تتغير خططها بهذه الصورة. حياتها، التي ظنت أنها ستمضي في مسار واضح، انحرفت مرة أخرى عن الطريق الذي رسمته. والأمر الغريب أنها هذه المرة هي من اختارت هذا التغيير، دون أي ضغط أو إقناع من أحد. شعرت وكأن الأقدار هي التي قادتها إلى هذا المسار، وكأن الطريق هو من اختارها، وليس العكس. باتت مقتنعة أن وجودها في هذا المنزل ليس صدفة، بل جزء من مهمة أكبر يجب أن تنجزها.
أدركت أن القدر يمتلك قوة خفية تسحب الإنسان نحوه، مهما حاول الهروب أو وضع العراقيل. وربما كان هذا هو مصيرها، تلك القوة التي توجهك نحو وجهة معينة رغم كل ما تحاول فعله لتجنبها. وها هي الآن ترتب حقيبتها لتعود إلى المنزل كطبيبة وبكل رضا.
شعرت سالي في تلك اللحظة بالرغبة في كتابة رسالة طويلة لتفضفض فيها، ففتحت مدونتها وبدأت تكتب:
[أهلاً بعد غياب طويل. أود أن أبدأ هذه الرسالة بالاعتذار عن انقطاعي الطويل عنك. أدرك تمامًا أن الوقت قد مضى دون أن أرسل لك رسالة مطمئنة، ولكن الظروف حالت دون ذلك. أعتذر حقًا.
أكتب إليك اليوم لأنني مؤخرًا أشعر بالحيرة الشديدة، وأردت أن أعبر عن ذلك في رسالة إليك. كما تعلم، لقد عُرض عليّ عمل في بيت يعيش فيه أيتام، تبنتهم سيدة عجوز لطيفة وقد أصبحت لهم أمًا حنونة. هكذا صار لديهم منزل كبير ودافئ يحيطهم بالحب والرعاية. وأنا كنت وسيلة من وسائل الرعاية لهم كطبيبة مقيمة معهم.
لا أعرف كيف أقول هذا، لكني أشعر بمشاعر غريبة تجاه هؤلاء الأطفال، ليس بصفتي طبيبة، بل إنسانة. أعتقد أنني أصبت بلعنتهم وتعلقت بهم، وصرت أشعر تجاههم بالمسؤولية.
ولكن ماذا أفعل الآن وقد اكتشفت سرًا مؤلمًا وثقيلًا عن تلك السيدة العظيمة؟ ماذا أفعل إذا علمت أنها تعاني من مرض خطير، وللأسف، المعلومات التي لدي تشير إلى أن الوقت قد لا يكون في صالحها؟ منذ أن علمت هذا الخبر عشت ليلة مليئة بالأفكار المتشابكة، كأنني أمشي في ممرات ضيقة مظلمة بلا نهاية. كنت أحاول أن أستوعب، أن أجد حلًا أو مخرجًا من هذه المشاعر المتلاطمة. كل شيء كان يبدو لي هشًا، كأن حياتهم جميعًا مرتبطة بخيط رفيع من القدر.
لم أستطع النوم وأنا أفكر في تلك السيدة التي احتضنت هؤلاء الأطفال كأنهم أبناءها. كم من الحب تحتاجه قلوبهم الصغيرة؟ وكم من القوة تحتاجه هي لتستمر في العطاء رغم ما تمر به؟ كيف سأتمكن من مواجهة هذا الموقف؟
عزيزي إنني حقاً في أمس الحاجة إلى مساعدة أو دليل في هذا الطريق الجديد الذي أخوض فيه، أشعر أنني محاصرة بين واجبي المهني كطبيبة، ومسؤوليتي الإنسانية تجاه هؤلاء الأطفال. كيف يمكنني أن أخبرهم بالحقيقة، أو أن أستعد لمواجهة ما قد يأتي بعد ذلك؟ أشعر بعبء ثقيل على صدري، كأنني أحمل سرًا لا أستطيع البوح به، خوفًا من أن ينكسر شيء في تلك الأرواح الصغيرة البريئة.
لكنني في النهاية أدركت أن الهروب ليس حلاً. لا يمكنني أن أتركهم يواجهون هذا المصير وحدهم. ربما يكون دوري الآن هو أن أكون لهم جسرًا يعبرون من خلاله إلى ما هو قادم، مهما كان صعبًا أو مؤلمًا، أعلم أنني ربما لا أعني لهم شيئاً، ولكني على الأقل أرغب أن يكون لي دور في هذه التجربة الانسانية التي لم أتعرض لمثلها أبداً في حياتي
لك جزيل الشكر على تفهمك وإنصاتك المفعم بالحب لي
المحبة سالي].
***
لم تنم فرح تلك الليلة، على الرغم من إرهاقها، ظلت طوال الليل تفكر في فعلتها، وما حدث في المطعم، لم تتخيل أبداً أن ينتشر الفيديو الذي يُظهر زميلاتها ويحقق تلك المشاهدات العالية، ولكنها سرعان ما عارضت نفسها، لم تكن بريئة لتبرر لفعلتها، بل كانت تعلم وقتما نشرت مقاطع الفيديو أنه من الوارد أن ينتشر، وهي نشرته حتى تؤذيهم، وها هي مقاطع الفيديو انتشرت وشاهدها الآلاف وربما ملايين الناس.
قضمت أظافرها وهي تفكر في مقاطع الفيديو التي تحقق الآن المزيد والمزيد من المشاهدات، على الرغم من أن الحساب الذي نُشرت عليها مقاطع الفيديو حساب مزيف، إلا أن هذا الحساب مرتبط بهاتفها، وهاتفها ليس معها الآن. تجدد إحساس الرعب لدى فرح عندما فكرت في نتائج فعلتها التي لا تستطيع حتى تصحيحها الآن. لم تستطع نسيان نظرة خالد إليها عندما رآها فور دخوله المطعم، كانت علامات الصدمة والذهول على وجهه، وكأنه لم يتوقع أبداً أن يراها في هذا الشكل. وعلى الرغم من ذلك لم يقل لها شيئاً، بل خلع سترته ووضعها عليها، وقام بتسوية الأمور مع والد زميلتها وصاحب المطعم. تذكرت فرح وجهه هو يتحدث معها، كانت ملامحه مستاءة، على الرغم من الغضب البارد الذي أبداه، كان حقاً مستاء منها.
وهي كانت محتارة وتائهة، لا تعلم كيف تتصرف. فكرت في الذهاب إلى غرف المربيات تستعير منهم هاتف وعن طريقه تمسح مقاطع الفيديو، ولكنها ترددت وخافت أن يفصحوا عنها لأنيسة أو خالد، ازداد ارتباك الفتاة، ولأول مرة تشعر بالغربة في المنزل، وبأنها ترغب في الهروب والابتعاد. تقلبت على سريرها واجتمعت الدموع في عينيها، وشعرت بأن جسدها المتوتر الذي لا يستطيع تسليم نفسه إلى النوم ينتفض فجأة، ونهضت عن سريرها، وهي تنظر إلى الساعة المعلقة فوق الباب، كانت الثانية صباحاً. أخرجت آلة حادة من حقيبتها وهي حذرة من اخوتها المستغرقين في النوم، وخرجت من الغرفة وهي تشعر بالحيرة، حتى قادتها قدماها إلى قاعة النافورة.
جلست فرح على النافورة وكشفت عن معصمها وظلت تتأمله لدقائق. كان صوت النافورة التي تجلس فرح على حافتها كأنه همس حزين، يتردد في الهواء بهدوء. كانت المياه تتساقط برفق، لكنها في أذني فرح بدت وكأنها تعاتبها. كل رشة ماء كانت تسقط في البركة برفق، كأنها دموع متساقطة من قلبها المثقل بالندم. امتزجت أصوات المياه بحزن فرح، لتشكل معًا لحنًا خافتًا، عميقًا، وكأن النافورة تعرف كل شيء، وتشاركها وجعها.
في لحظات السكون بين سقوط المياه، كان الصمت يضرب قلبها كالسهم، ليذكرها بتصرفها الذي لم تستطع الهروب منه، تمامًا كما لا تستطيع المياه الهروب من سطوة الجاذبية التي تسحبها للأسفل.
وضعت فرح الآلة الحادة على المكان المعتاد:
"اتركيها الآن".
رفعت فرح رأسها، لتجد حسن أمامها كالظل الأسود، لم تكن ملامحه واضحة لها، لكنها خمنت من نبرة صوته أنه متوتر، وبهدوء سلمته الآلة الحادة التي أخذها منها بصمت ورماها في النافورة، وجلس بجوارها منحنياً يضع وجهه بين كفيه لثواني ثم قال:
"لماذا تفعلين ذلك؟".
نظرت إليه وهو على هذا الحال، ولم ترد عليه، فرفع رأسه ونظر إليها قائلاً:
"فرح نحن لم نعد صغاراً لنرتكب مثل هذه الحماقات ونورط الكبار فيها".
مالت فرح وجالت يدها في النافورة وهي تقول بشرود:
"ماما وأبيه؟".
همست فرح مكملة كلامها:
"نعم أنت محق".
تنهدت الفتاة، ثم فجأة بدأت دموعها تتساقط وقالت وهيّ تشد كمه:
"حسن..."
نظر حسن إلى أخته، لم يكن يراها بوضوح بسبب الظلام، ولكنه فهم أنها تريد قول أمر مهم، فقال بخفوت:
"ماذا هناك يا فرح؟".
"أنا في ورطة، أرجوك ساعدني".
كان الفتى يعرف تلك الجملة وتلك النبرة الصادرتان من أخته، وبالنظر إليهما فإن فرح بالفعل في ورطة.
***
فتح حارس المقبرة البوابة التي أحدثت صرير عالٍ، وهو يقول:
"كيف حالك ست أنيسة؟".
قالت المرأة بابتسامة جميلة:
"أنا بخير عم سيد".
وقبل أن تخطو داخل المقبرة قالت بصوت عالٍ:
"السلام عليكم".
دخلت المرأة ببطء وهي تمسك بباقة كبيرة من الورود الحمراء التي تعودت على قطفها كل شهر وجلبها هنا، وضعتها عند قبر عزيزها، ورفعت كفيها تقرأ الفاتحة لمدة دقيقة، انتهت ومسحت وجهها ثم جالت بعينيها في المكان وهي تتفقد أحواله. قالت لعم سيد وهي تعقد حاجبيها:
"عم سيد، من فضلك أريد المزيد من الريحان حول القبر".
قال الرجل وهو يحمل الكرسي الذي ستجلس عليه أنيسة:
"أنا أداوم على زراعتها يا ست أنيسة".
"ولكني أراها قليلة جداً، من فضلك لا تنس أن تزرعها".
أكملت المرأة مصدرة الأوامر:
"هناك أيضاً شتلة من السوسن في السيارة اذهب واطلب من السائق أن يخرجها لك".
تفقدت المرأة المكان مرةً أخرى وسألت:
"ألم يأت أحد من عائلة الرائد كمال مؤخراً؟".
"لا سيدتي، منذ وفاة أخيه قبل خمس سنين لم أر أحدًا منهم هنا. يبدو أنهم نسوا المكان تمامًا".
تنهدت أنيسة بعمق وهي تنظر إلى القبور المحيطة، ثم قالت بهدوء:
"الناس تنسى.. حتى أعز الناس عليها. الزمن حقاً يفعل بنا ما يشاء".
قال الرجل بنبرة تفهم:
"تعلمت طوال سنوات عملي في هذه المهنة أن الناس ينسون بسهولة. وأن هذا المكان هو الوحيد الذي يظل شاهداً على صدق قلوبنا أحياءً وأمواتاً، وحضرتك يا ست أنيسة الوحيدة التي قابلتها وكان لها قلباً صادقاً ومخلصاً."
صمتت أنيسة للحظة وهي تحدق في قبر عزيزها، ثم همست:
"لم أنس.. أبداً".
التفتت المرأة إلى الرجل وقالت بصوت يكاد يكون منخفض:
"والمكان الآخر هل تعتني به؟".
تفاجأ الرجل للحظات فلم تتحدث المرأة عن هذه المقبرة المجاورة أبداً منذ أن اشترتها. تأملها بدقة، كانت السيدة أنيسة تمشي ببطء شديد وكأن الأرض أصبحت أثقل تحت قدميها، وظهرها المنحني قليلاً بات يعكس سنيناً من التعب الذي تراكم في جسدها. يداها المرتجفتان بالكاد تمكنتا من الإمساك بباقة الورود الحمراء التي حملتها بعناية. وجهها الشاحب بدا كأنه فقد جزءاً من بريقه القديم، وعيناها، رغم احتفاظهما بعمقهما، أصبحتا غائرتين قليلًا، كمن أنهكه السهر والتفكير، وبدأتا تفقدان بريقهما الحي.
كانت أنفاسها متقطعة، حتى صوتها، حينما تحدثت إلى عم سيد، كان ضعيفاً وخافتاً، يحمل في طياته آثار السنين الثقيلة التي أثرت على قوتها. ولكن، رغم هذا الوهن الذي اجتاح جسدها، ظلّ هناك شعاع من العزم في عينيها، تلك الإرادة الصلبة التي لم تتركها، وكأن روحها لا تزال تحتفظ بالقوة التي خسرها جسدها تدريجياً.
قال عم سيد بعد أن استوعب الرسالة:
"أمر عليها من حين إلى حين يا ست أنيسة".
ابتسمت المرأة بلطف وقالت:
"من فضلك يا عم سيد، اعتني بها الفترة المقبلة".
مرت لحظات، ثم قال الرجل الصعيدي:
"أمرك سيدتي".
"إذاً سأجلس قليلاً هنا بمفردي".
خرج عم سيد وهو يهمس بصوت لم يصل إلى أنيسة:
"لا حول ولا قوة إلا بالله".
أخذت أنيسة نفسًا عميقًا وهي تجلس على الكرسي الذي وضعه عم سيد من قليل، واعتدلت في جلستها، وبدأت تقرأ بعض الآيات. فرغت من قراءة آيات من القرآن الكريم ثم صمتت للحظات، وقالت بعدها:
"كمال كيف حالك؟ اشتقت إليك يا عزيزي".
"سأتحدث بكل صراحة، كما تعلم أنا لا أخفي عليك سراً أبداً كما اتفقنا من قبل".
تنهدت المرأة، وفتحت شفتيها بترددٍ:
"في كل مرة كنت أطمئنك على نفسي، ولكني اليوم لا أستطيع ذلك، صحتي ليست بخير يا عزيزي، تم تشخيصي بمرض خبيث، ويبدو أن المرض قد تغلب عليّ، يحاول طبيبي اقناعي بالعلاج، ولكني أشعر أنها النهاية..."
سكتت فجأة وابتسمت بحسرة ثم أكملت:
"في الواقع، لو سألتني من قبل هل أنا خائفة؟ إجابتي كانت لا، فهل هناك لدي سعادة من أكون بجوار ربي وأحبائي؟".
مالت شفتاها بحزن وهبطت دموعها رغماً عنها وقالت:
"ولكني الآن حقاً خائفة، خائفة على أطفالي جميعهم، وأخاف من فراقهم".
تشنجت أنيسة ولم تستطع إكمال حديثها، وبعد دقائق قالت:
"خالد يا كمال، ماذا أفعل لأجله، كيف سأتركه هكذا؟".
ابتسمت المرأة بحزن وقالت:
"خالد بالفعل شاب قوي، ولكنه بشر، طاقته محدودة، أخشى أنني لم أترك له مساحة ليعيش حياته الخاصة. كنت أريد له السعادة، ولطالما تمنيت أن أراه مستقراً ولديه حياته الخاصة مع شريكة مناسبة وأطفاله، ولكن ربما كنت العائق الأكبر أمامه، ربما أخطأت حين اعتمدت كثيرًا عليه، كنت أنانية إلى الحد الذي وضعت فيه على عاتقه مسؤولية خمسة عشر طفلاً."
تنهدت بأسى وشعور الذنب يبتلع قلبها المرتجف:
"أنا لا أستطيع النوم بسبب تأنيب ضميري يا كمال، لا أنام بسبب خوفي عليهم جميعاً، أريد أن أرحل وأنا مطمئنة عليهم جميعاً، ولكن من أين يأتي الاطمئنان؟ وأنا أرى مشاكلهم تتفاقم، وخالد هو من ينظف وراءهم".
تشنجت المرأة مرةً أخرى وهي تكمل:
"أنا محتارة، ولا أريد أن أظلم أحداً من أولادي، فأنا أحبهم جميعاً، ولكن لا وقت لدي".
كررتها بيأس:
"لا وقت لدي يا كمال، ماذا أفعل؟".
سادت لحظات من الصمت، حيث كانت أنيسة تحاول جمع أفكارها، ولكنها شعرت بضغط الألم والحيرة يزداد ثقلاً على كاهلها. رفعت عينيها نحو السماء الزرقاء التي كانت تمتد بلا نهاية، وكأنها تبحث عن إجابة، عن أي إشارة تساعدها على فهم ما يجب أن تفعله. أغمضت عينيها للحظة، محاولة حبس دموعها التي باتت تهدد بالانهيار مرة أخرى، وقالت بصوت خافت بالكاد يُسمع:
"أتمنى أن يسامحني خالد. يسامحني على كل ما فعلته وعلى كل شيء لم أستطع إصلاحه".
همست بعد لحظات:
"سامحني يا بني..."
***
وقفت سالي أمام المرآة تسرح شعرها في جديلة طويلة، وهي تنظر بتردد إلى الباب من ثانية إلى أخرى. من المفترض إن موعد الحافلة الخاصة بعد نصف ساعة، ولكنها لا تريد الرحيل دون أن تطيب خاطر والدتها، لم يكن الأمر أنهما لا تتحدثان، ولكن العلاقة صارت باردة عن المتوقع، وكأن هناك حاجزاً بينهما لا يستطيع أحد منهن تخطيه، وهذا الأمر لا تستطيع سالي تحمله. دخلت زينة عليها وهي تشعر بالحزن وتقول:
"متى ستعودين؟".
ابتسمت سالي إلى شقيقتها، وقالت بحب:
"في نهاية الشهر يا زينة، الأيام ليست بعيدة".
"ولكنِ سأشتاق إليك يا سالي".
"وأنا أكثر".
احتضنت سالي شقيقتها الصغرى بشدة، وقالت هامسة:
"سأشتاق إليك حقاً".
سمعت سالي وزينة طرقاً على الباب، ودخلت السيدة سهام وهي تتأملهم قائلة:
"زينة من فضلك أريد التحدث مع سالي بمفردنا".
نظرت سالي إلى أمها بلهفة وانتظروا أن تخرج زينة، وبعد إغلاق الباب، نظرت المرأة إلى ابنتها بتردد وقالت:
"سترحلين الآن".
كان السؤال روتيني، ونابع من تردد المرأة، فابتسمت سالي وقالت:
"نعم يا ماما".
مرت لحظات ثقيلة، ثم سألت المرأة:
"إذاً هل أنت مرتاحة؟".
كررت سالي:
"نعم".
تنهدت السيدة سهام ثم قالت أخيراً بصراحة:
"سالي، لقد فكرت كثيراً في كلامك، ربما لم اقتنع بكل ما قلتيه، ولكنِ أحترم مشاعرك ورغباتك، أنت بالفعل لم تعودي طفلة، ولك مطلق الحرية لتتخذي قراراتك، ولكن أطلب منك فقط ألا تخذليني، فمن حقي أن أراك في أحسن الأحوال".
ابتسمت بحب إلى ابنتها وأكملت:
"على كل حال أنا فخورة بك، وسأكون بجوارك دائمًا يا سالي، وسأدعمك في قرارك هذا، اذهبي يا ابنتي ما دمت ترغبين في ذلك، ولكن حافظي على كرامتك وعلى نفسك، فأنت غالية جداً علي".
تجمعت الدموع في عيون سالي، وابتسمت إلى والدتها التي قالت:
"سأدعو الله لك دائماً بالتوفيق والسعادة والأمان، في رعاية الله يا ابنتي".
ارتمت سالي في حضن والدتها التي استقبلتها بدفء وحب وقالت:
"ماما.. صدقيني أنا لم اخن أبداً ثقتك في وتربيتك التي احترمها وأقدرها كثيراً".
أكملت سالي والدموع تنهمر:
"أنا آسفة، لم أقصد أبداً عتابك أو مواجهتك بهذا الشكل، إنها التعاسة التي كانت تسيطر عليّ، وازدادت بضغط أبي".
بررت بعد لحظات استنشقت فيها نفساً عميقاً وأطلقته:
"الأمر ليس أنني لا أريد الزواج، ولكنِ لم أقابل حتى الآن الشخص الذي أشعر أنه الأحق بالحصول على قلبي، ولا هذا هو الوقت المناسب، كما أنني لا أثق في أبي حتى يرشح لي زوج، هل تفهميني ماما؟".
أومأت السيدة سهام برأسها بتفهم وابتسمت وعينيها تدمعان:
"نعم يا سالي، أنا أفهمك يا حبيبتي، واعرف أنك شخص غير عادي، أنا مؤمنة بذلك من أعماق قلبي، وأياً كان ما تفعلينه أنا متأكدة أنك ستتميزين فيه، كما كنتِ دائماً".
قالتها والدتها وهي تحتضنها برقة، ثم أكملت:
"حافظي على صحتك، وكلي كثيراً جداً".
ضحكت سالي:
"سآكل حتى أسمن".
ضحكت السيدة سهام، وربتت على كتف سالي قائلة:
"كوني سعيدة، هذا أكثر ما يهمني".
ثم نظرت إلى ساعتها وقالت:
"لا يجب أن نتأخر أكثر من ذلك، السائق الذي سيوصلك إلى المحطة ينتظرنا في الأسفل. تأكدي من أنك لم تنسِ أي شيء".
توجهت سالي إلى حقيبتها، لتتأكد من أنها قد جمعت كل أغراضها. كانت تعلم أن الرحيل هذه المرة مختلف. لقد شعرت بشيء عميق يربطها بوالدتها، شيء جديد نشأ بعد تلك المحادثة الصادقة.
قالت سالي وهي ترتب أشياءها:
"لا تقلقي، لم أنس شيئاً، ولكن لم يكن هناك داعٍ لأن ترافقوني إلى المحطة".
ابتسمت السيدة سهام ووقفت بجانب الباب، تنتظر خروج ابنتها. ثم قالت:
"يجب أن أطمأن عليك حتى آخر ثانية".
***
في المحطة ودعت سالي شقيقتها، ووالدتها التي احتضنتها مرة أخيرة، وقبلتها على جبينها قائلة:
"عودي سالمة يا ابنتي، وسأنتظرك هنا دائماً".
قالت سالي بابتسامة:
"سأتصل بكِ حالما أصل".
قالتها سالي وهي تفكر في الصلح بينها والدتها التي احتوتها في آخر دقائق من إجازتها، قد أعطاها دفعة إلى الأمام زاد من رغبة سالي وحماسها للعودة إلى المنزل، كانت مستعدة لمواجهة تحديات حياتها الجديدة بإصرار وعزيمة، وشعرت وكأن حملاً كبيراً قد أزيل عن صدرها.
استقلت سالي الحافلة وهي تعلم أن طريقها لن يكون سهلاً، ولكنها كانت واثقة بأن قلبها بات أخف وأقوى الآن، وأنها، مهما كانت التحديات القادمة، ستكون قادرة على مواجهتها، غمرتها أشعة الشمس، فوضعت يدها فوق عينيها بابتسامة، ثم لوحت لعائلتها بحماس.
***
قاد خالد سيارته متجهًا إلى المحطة، مشاعر مختلطة تجتاحه. كانت نبضات قلبه تسبق خطوات عقله، وكأن قلبه هو الذي يتحكم بيديه اللتين تقودان السيارة بحماس متسارع. نظر إلى ساعته، واكتشف أنه سيصل إلى المحطة قبل وصول الحافلة بساعة كاملة. كان خالد معتادًا على الانشغال الدائم؛ حتى في أيام إجازته، تمر الساعات دون أن يشعر بها. لكنه اليوم، ولأول مرة منذ زمن، شعر بأن الوقت يتباطأ، كأن كل دقيقة تمر بثقل لا يُحتمل.
لم يكن قد صارح نفسه تمامًا بمشاعره تجاه سالي، لكن تلك المشاعر بدأت تتوضح شيئًا فشيئًا، كأنها حالة تتبروز ببطء أمام عينيه، حتى تكاد تبرز إلى السطح. لكنه كان يخشى اللحظة التي ستطفو فيها بالكامل، حينها لن يتمكن من تجاهلها كما كان يفعل طوال الوقت.
أعاد النظر إلى ساعته مجددًا، ليكتشف أن دقيقتين فقط قد مرتا منذ وصوله. جلس في سيارته، يحدق في الفراغ، يشعر بالوقت يمر ببطء مُتعمد. ولكن عندما اقترب موعد وصول الحافلة، تمنى لو يتأخر الوقت، حتى يتمكن من السيطرة على دقات قلبه المتسارعة.
وأخيرًا، لمحت عيناه الحافلة وهي تقترب من بعيد. شعر بأن نبضات قلبه تتسارع أكثر مع اقتراب الحافلة التي توقفت في مكانها أخيراً، وفُتح الباب، وبدأ الركاب بالخروج. عدّ خالد الأشخاص الخارجين واحدًا تلو الآخر، متوترًا مع كل عدّة، حتى ظهرت سالي.
كانت ترتدي فستانًا باللون الأخضر الفاتح، شعرها الأسود منسدل في جديلة طويلة على كتفها. تسمر خالد في مكانه للحظات، مأخوذًا بجمالها البسيط. وفي تلك اللحظة، لم يعد بإمكانه إنكار ما يشعر به؛ مشاعره التي كانت تحت السطح طفت بالكامل الآن.
رأت سالي حقيبتها بين الحقائب الأخرى، واقتربت لاستلامها. وبعد أن استلمتها، سارت نحو الشارع وهي تنوي الإشارة إلى سيارة أجرة. وبينما كانت تهم برفع يدها، سمعت صوتًا مألوفًا يناديها:
"دكتورة سالي".
استدارت بسرعة، وعيناها اتسعتا بدهشة. كان خالد يقف أمامها، بنفس هدوئه المعتاد، ولكن بشيء من التردد الذي لم تكن تعرفه عنه.
نهاية الفصل العشرون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم بإذن الله.
***
أهلاً أعزائي
فصل جديد هتبدأه سالي في حياتها، باقتناع ورغبة شديدة منها على غير المتوقع منها هي شخصياً، حياة جديدة هتبدأها في المنزل، وأهداف جديدة هتتبناها، مشاعر جديدة هتعيشها مع كل أفراد المنزل، ومواقف وتحديات فاصلة هيمر بيها المنزل. حكايات هتخلص، وحكايات هتبدأ. وكله في النهاية داخل المنزل
شكراً لإخلاصكم وانتظروا الفصل الحادي والعشرون.
كاتبتكم ءَالَآء
***
سؤال الفصل: يا ترى شكل علاقة سالي بخالد هتبقى عاملة ازاي؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق