السبت، 10 أغسطس 2024

رواية المنزل: الفصل الحادي عشر - ءَالَآء طارق


رواية المنزل: الفصل الحادي عشر

رواية المنزل

الفصل الحادي عشر

فضلاً، متنسوش الvote.

***

[رسالة واردة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: مجهول

الرسالةما هو تعريفك للوحدة؟ كيف تشعرين عندما تكونين وحدك؟]

***


كان التوأمان لارا وفؤاد ينامان بينها هي وفرح، واللعاب يسيل من أفواههم، تأملتهم سالي بذهول  وهي تتساءل، ماذا يفعل هؤلاء الأطفال هنا؟ نظرت إلى الباب الذي كان مفتوحاً قليلاً، كيف استطاعوا الدخول هؤلاء الأشقياء؟ نظرت إليهم مرة أخرى، كانا ينامان ملتصقين ببعضهما البعض وبدا أنهما غير مرتاحين، فعدلت بهدوء وضعيتهما وحرصت ألا تزعجهم، وبينما هي تغطيهم، سمعت ضوضاء تأتي من النافذة، فنهضت بسرعة وفتحتها لتنتهي الضوضاء كالعادة، كانت قد اعتادت على هذا الأمر منذ الليلة الأولى، لكن هذه المرة ضيوفها هم من سينزعجون، فظلت سالي على حالها لنصف ساعة تستنشق نسيم الفجر، ثم نظرت إلى الأطفال وابتسمت بحب وعادت إلى السرير لتستلقي بجوارهم وتحتضنهم بقدر استطاعتها، وهي تلتمس الدفء من أجسادهم الصغيرة.

في الصباح استيقظت سالي بسبب صوت الطرق المرتفع على باب غرفتها وصوت إسراء يناديها:

"دكتورة سالي!"

نظرت إلى الأطفال بجوارها، كانوا نائمين بعمق، فنهضت بسرعة لتفتح الباب لإسراء، كان الخوف والفزع باديين على وجه الشابة المسكينة التي صاحت فور رؤية سالي:

"هل تعلمين أين التوأم لارا وفؤاد؟ نحن نبحث عنهم منذ الصباح، ليسوا في أسرتهم!"

تأملت سالي إلى الفتاة المذعورة قليلاً والنعاس يغلبها، ثم أفسحت المجال لها دون أن تتفوه بكلمة واحدة. نظرت إسراء إلى داخل الغرفة دون أن تدخل، ووجدت السرير الخاص بالطبيبة مكتظ بالأفراد. نظرت مرةً أخرى إلى الطبيبة الشابة الناعسة وسألتها باستغراب:

"لماذا الأطفال هنا؟"

قالت سالي وهي تتثاءب:

"أسأليهم، أنا متفاجئة مثلك."

وكالعادة كان صباح المنزل فوضوي، تم ضرب التوأم على مؤخراتهم بخفة من السيدة منى، وحكى الطفلان حكايتهما وهما يمسحان على مكان الضرب، قال فؤاد:

"فرح تتسلل كل ليلة من الغرفة وتتركنا بمفردنا."

أضافت لارا:

"تتركنا نحن وليلى، بمفردنا في الظلام خائفين."

كانت الثعلبة الصغيرة تدّعي الخوف حتى يشفق عليها الكبار، عقّبت ليلى على كلامها وهي تتثاءب:

"ولكني لا أخاف، كما أنني لا أستيقظ ليلاً."

قالت أنيسة بصرامة:

"لا داع لهذه التمثيلية يا أطفال، هذه الرقة لا تليق بكم أيها الأشقياء!"

تحدث أحمد وهو يضحك:

"ماما أرجوك اتركيهم حتى نضحك قليلاً، كيف تمكنتم بالتسلل ليلاً إلى غرفة الدكتورة، وأنتما قصيرا القامة."

قالها أحمد وهو يضع كفيه على رؤوسهم وكأنه يقيس طولهما، فاعترض التوأم على وصفهم بقصار القامة، وصاحت لارا:

"نحن لسنا قصار القامة، لقد فتحنا باب الغرفة ودخلناها دون مساعدة."

وجهت أنيسة حديثها لفرح:

"وأنت يا فرح لماذا تضايقين الدكتورة!"

فتحت سالي الناعسة عينيها وهي تقول بصوت يكاد يكون مسموع:

"لا، هي لم تضايقني."

قالت فرح:

"كنت استشيرها في أمر ما، وتحدثنا حتى غلبنا النوم."

"وتتركين أخوتك الصغار بمفردهم!"

"اعتقدت أنهم نائمين وليلي كانت معهم، فما الداع للقلق!"

جرى هذا النقاش الحاد بينما عليّ وسارة يجلسان بعيداً بحزن والدموع تكاد تقطر من عيونهما الواسعة بسبب هذه الخيانة العظمى من رفقاء اللعب. تابعت سالي الموقف والضحك يكاد يفلت منها، ولاحظت أن أنيسة أيضًا كانت تبتسم على الرغم من توبيخها للأولاد.

 وهكذا كان صباحاً عاصفاً، طريفاً، ضحك فيه الجميع في المنزل، وتم سرد الحكاية للمرة الثانية لخالد الذي كان قد أتى من الملحق وليس من شقته على غير العادة، وابتسم الرجل عند سماع الحكاية وهو ينظر إلى سالي التي لاحظت أنه على غير طبيعته، كان يبدو عليه الإرهاق والخمول، والهالات حول عينيه ظهرت وتعمقت، كما أنه لا يتفاعل مع الأطفال كعادته، بل يتجنبهم بشكل كبير.

 فتساءلت سالي سرًا:

'هل هو بخير؟'

***


بعد هذا الصخب الصباحي ذهب الأطفال إلى مدارسهم، وخالد إلى عمله، وكالعادة استغلت سالي الصباح لتسترخي في الحديقة، بعد الاطمئنان على حالة يحيى التي تحسنت بشكل كبير، ولكنها نصحت ببقائه في السرير ليوم آخر خوفاً عليه وعلى بقية الأولاد، خاصةً الصغار.

وفي الحديقة حملت معها ماريا صديقتها اللطيفة، فقد أصبحتا الاثنتين مقربتين بعد تلك الليلة التي مرضت فيها ماريا، والطفلة تعودت عليها أخيراً، وصارت لا تعترض على البقاء معها كما كان يحدث في السابق، أما الصغار فكانوا يتناوبون بين الحديقة والحضانة بشقاوة، مما جعل الأجواء من حولها حيوية ولطيفة في مثل هذا الطقس الخريفي.

بالفعل أصبح الطقس في هذه الأيام يميل أكثر للاعتدال وأحياناً البرودة، وبدأت هجرة الطيور إلى مناطق أكثر دفئاً، والأشجار تتهيأ لاستقبال فصل جديد، وأوراقها التي أخذت لوناً ذهبياً خفيفاً تتساقط بهدوء كما لو أنها تودع الصيف بلطف.

لامس النسيم الناعم وجه سالي، بينما تسترق النظر لتطمئن على الأطفال الذين يلعبون من حولها، ثم أرجحت الطفلة الضاحكة وهي تحاول تعليمها نطق اسمها:

"ماريا، قولي سالي."

كانت الصغيرة تحاول التعلم بجد وتحرك شفتيها الصغيرتين جداً، ولكنها فشلت في النهاية، ولم يخرج منها إلا كلمة عبثية:

"آلي؟"

سمعتها السيدة ذكية وهي تقدم الشاي لسالي وقالت:

"لا يا ماريا ليست آلي، قولي سـ ا لـ ي."

لكن الطفلة التي أدارت نظرتها بحيرة بين ذكية وسالي، ثم ضحكت فجأة ونادت على سالي بإصرار:

"آلي؟"

قالت ذكية:

"إذًا أنت مصرة."

قالت سالي وهي تتأمل الطفلة بحب وضمتها إليها وهي تقول:

"لا بأس، إنه جميل."

رحلت ذكية، وبينما كانت تداعب الطفلة، اقتربت لارا منها وعلى وجهها أمارات القلق والحزن، فسألتها سالي:

"ماذا حدث، لماذا أنت حزينة يا لارا؟"

تمتمت الطفلة بصوت منخفض وهي تنظر إلى الأرض:

"ضاعت أموالي."

"متى رأيتها آخر مرة؟"

"وضعتها في جيبي قبل أن ألعب، ولكن لم أجدها."

نظرت سالي إلى جيب الطفلة الذي كان واسعاً ومن السهل أن تقع منه من الأموال، خاصة مع تحرك الطفلة، وركضها بشقاوة في الأرجاء. وللأسف لو افترضنا سقوط الأموال، بالتأكيد لن يلاحظها أحد بسهولة لو بحث عنها بين الأعشاب.

تجمعت الدموع في عيون لارا الواسعة وشفتيها تتكوران، فأشفقت سالي عليها واقترحت وهي تمسح شعرها الناعم:

"لا تحزني، كم كان المبلغ؟"

أشارت الطفلة بكفها الصغير ومسحت طرف عينيها بيدها الأخرى: 

"خمس جنيهات فضية."

أخرجت سالي محفظتها من جيبها ووضعتهم في الكف الصغير:

"حبيبتي لا تبكي، خذي هذه كتعويض عن أموالك التي ضاعت منك."

فأخذتهم لارا وهي تتأمل سالي وعلى وجهها علامات الحيرة، وسرعان ما ركضت نحو فؤاد وسارة، وراحوا يتهامسون وينظرون إلى سالي التي كانت تراقبهم من بعيد. ابتسمت سالي باستغراب، وتحدثت إلى نفسها:

'قولي شكراً على الأقل.'

لمحت حسن يخرج من المنزل، نظر الفتى إليها بلا مبالاة ثم اتجه إلى البوابة وخرج، وهذا أيقظ داخلها إحساسًا بالذنب والحزن، كانت ترغب في توديع المكان وعلاقتها جيدة مع الأولاد، ولكن يبدو أن حسن لديه رأي آخر.

استيقظت من أفكارها على صفعة من ماريا التي كانت معترضة لانشغالها عنها، فوضعت سالي كفها على خدها بألم، وقالت وهي تعاتب الطفلة التي تضحك بمرح:

"ماريا يدك قوية حقًا!"

ردت الطفلة عليها بابتسامة ماكرة جميلة، وكأنها فخورة بشقاوتها، وظهرت أسنانها الصغيرة اللؤلؤية، فسامحتها سالي فورًا لأجل تلك الهدية الجميلة، وقبلتها وهي تستنشق رائحة الحليب الملتصقة بها، وكأنها تستنشق عطراً غالياً.

***


كان خالد ومحمود يتناقشان في أمر ما، نظر محمود إلى خالد ولاحظ فيه بعض الضعف والوهن الغريبين عنه، فسأله:

"هل أنت بخير؟"

رفع خالد رأسه مستفهماً، فقال محمود:

"أشعر أن هناك أمراً خاطئاً بك."

قال خالد وهو ينظر إلى الأوراق أمامه:

"لا شيء خاطئ، أنت تتوهم فقط."

بلع ريقه بصعوبة ثم أكمل:

"لا تشتتنا عن العمل، لدينا أعباء يجب أن ننجزها."

تأمله محمود بريبة، فتجاهل خالد نظراته وهو يسترجع الليلة الماضية التي أمضاها في تناول خافض الحرارة، كما قالت الدكتورة سالي، يبدو أنه التقط العدوى من يحيى، ولكنه لم يخبر أحداً بهذا الأمر وانتقل إلى الملحق الصغير بهدوء، وفضل علاج نفسه بنفسه. لكن للأسف لم تكن حالته اليوم أحسن من الليلة الماضية، فما زال يشعر بالإرهاق، نبضات قلبه سريعة، وجسده بأكمله يؤلمه. كل هذه الأعراض مع إحساس أنه مراقب جعلته يشعر بالتوتر، فنظر إلى محمود الذي يتأمله بعيون الصقر وقال متنهداً بتعب:

"كف عن النظر إليّ بالأربع عيون خاصتك، هذا يوترني."

صاح محمود معترضاً:

"أنت مريض يا أخي ألا ترى هذا."

استسلم خالد أمام إصراره، واستنشق الهواء بصعوبة والآلام تدوي في جميع أنحاء جسده، سمع محمود يقول وهو يخفض نظارته إلى الأسفل:

"كان عليك أن ترتاح اليوم، أنت لست بخير."

وضع يده على جبينه ليشعر بحرارته العالية، فقال وهو ينهض عن الكرسي ويتجه إلى الأريكة مُستلقياً عليها:

"أحضر لي علاجاً للبرد ومشروباً ساخناً وكمامة."

نهض محمود، ووقف يتأمله قائلاً:

"حسنًا، سأُحضِرهم لك، لكن اذهب إلى منزلك. أم أنك تنوي البقاء هنا وأنت على هذه الحال؟"

تقلب خالد بعدم راحة على الأريكة وهو يتمتم:

"ما زل لدينا الكثير من العمل لإنجازه، وعلينا المرور على المكتبة لنتفقد آخر التطورات."

"ليست مشكلة، اترك لي هذا الأمر."

"لن أشعر بالراحة، يجب أن أتفقدها بنفسي."

أجاب محمود وهو يشعر بالإرهاق من مجدالة هذا الرجل العنيد:

"إذا استلق الآن وخذ راحة لمدة ساعة على الأقل."

"أغمض خالد عينيه المُتعَبتين، وغفا بالفعل، غير منتبه إلى ثرثرة محمود التي تلاشت عن سمعه تدريجيًا."

***


على العشاء، كان الجميع يتحدثون عن وجهة رحلة يوم الجمعة: التخييم في وادي الحيتان، التي اقترحتها الآنسة سالي، والتي سترحل عنهم قريبًا. سألت ليان:

"وادي الحيتان؟ أين هذا المكان؟"

رد عليها خالد الذي لم تمس يده الطعام، ويرتدي كمامة حتى لا ينقل العدوى الأطفال:

"في الفيوم في محمية وادي الريان، يبعد عن هنا حوالي 150 كيلومتر."

سألت أنيسة خالد وهي تشعر بالقلق عليه:

"عزيزي فلنؤجل تلك الرحلة حتى تستعيد صحتك."

"لا تقلقي، سأكون قد تماثلت للشفاء وقتها."

قال خالد تلك الجملة وهو يحاول التماسك حتى لا ينهار فوق السرير؛ إذ كان أكثر ما يكرهه في أوقات مرضه هو ذلك الضعف والوهن اللذان يرافقانه، لا سيما الهلوسات التي تتفاقم أثناء نومه.

سأل عبدالله:

"لماذا اسمه وادي الحيتان؟"

ردت سالي على السؤال:

"لأنه تم العثور فيه على 10 هياكل لحيتان عاشت في تلك المنطقة منذ 40 مليون سنة."

نظر إليها الفتى بنفور وأشاح بوجهه، مما أثار في نفس سالي الحزن، وجعلها تتساءل في صمت:

'لماذا يكرهها الولد إلى هذه الدرجة؟'

سألت فرح وهي تشعر بالحيرة:

"وهل كانت الحيتان تعيش في الصحراء قديماً؟"

التفتت إليها سالي، وأجابت:

"لا بالطبع، كيف يعيش الحوت في الصحراء، ولكن يقال أن شمال قارة أفريقيا كان جزءاً من محيط كبير، وهذا يفسر وجود هياكل الحيتان."

استعجبت أميرة:

"لم أقرأ يوماً عن هذا الموضوع."

سخر منها أحمد:

"غداً سنجد البروفيسورة أميرة قد حضرت لنا بحثاً عن هذا الموضوع."

لم ترد عليه أميرة الرزينة، فعقبت فرح بملل:

"هل سنذهب هناك لنشاهد عظام حيوانات ميتة؟ هذا ممل يا سالي."

تدخلت أنيسة وهي توبخ فرح:

"الدكتورة سالي."

ابتسمت سالي بتواضع لأنيسة دون اعتراض على هذه المسألة، ثم قالت:

"من قال إننا سنذهب لنشاهد الحفريات؟"

سألتها أميرة:

"وماذا سنفعل غير هذا؟"

"سنشاهد ذراع المجرة هناك."

"مجرتنا؟ درب التبانة."

أجابت سالي بابتسامة:

"نعم."

لمحت سالي الفضول في عيون بعض الأولاد، وتدخل أحمد بحماس:

"هل ذهبتِ من قبل؟"

"لا لم أذهب، هذه ستكون أول مرة، ولكنها ستكون تجربة مذهلة، أعدكم بذلك."

حاولت سالي أن تحمس الأطفال لهذه التجربة الفريدة من نوعها.  نظرت إلى نور تلقائيا. كانت الفتاة هادئة كعادتها، ولكن وكأن سحابة سوداء غطّت على إشراقة وجهها. وهنا شعرت سالي باستياء شديد، فالتزمت الصمت منذ تلك اللحظة، ولم تتحدث مرةً أخرى، حتى سمعت لارا تقول بلهجة مفعمة بالدلال الطفولي اللطيف:

"ماما، هل تعلمين؟ اليوم مصروفي ضاع مني."

قال حسن وهو ينظر إلى أحمد:

"يبدو أن الجميع يضيع منهم مصروفهم هذه الأيام."

لم يرد أحمد على حسن وتجاهله كما فعلت معه أميرة منذ قليل، فقالت لارا:

"أتعلمون أين وجدته؟"

كانت سالي تستمع إلى حديث لارا بابتسامة، ومستعدة للظهور بصورة البطلة، لكن الطفلة نظرت إليها ثم قالت:

"كان مع الدكتورة سالي، سرقته مني."

ساد الصمت في الغرفة، ونظر الجميع إلى سالي التي تجمدت ابتسامتها وهي تنظر إلى الطفلة، فقالت سارة بسرعة وتلعثم:

"سارقة! أبيه، ألم تخبرنا أن السارق يجب أن يُعاقب، عاقبها ولا تعطيها مصروف."

كانت الثعالب الصغيرة الماكرة توجه إليها أصابع الاتهام ظلماً، فنظرت سالي إلى الجميع في الغرفة، وقالت وهي تحاول نفي التهمة بصوت خافت مصدوم:

"لا... لم... لم يحدث هذا!"

وقبل أن تكمل حديثها، انفجر الجميع في الضحك، ولم يعطوا سالي الفرصة لتصحيح الموقف، حاولت أن تشرح بصوت عالٍ، ولكن الأصوات الصاخبة غطت على صوتها.

شعرت سالي بأن وجنتيها تسخنان وتملكها الإحراج الشديد. بكت داخل عقلها، تلك الطفلة لارا إنها شريرة حقاً، هل هذا جزاء من يفعل خيراً؟

وفي وسط هذا الصخب، اقتربت سارة من خالد بشكل كبير كما تفعل في العادة، وسحبت الكمامة عن وجهه وهي تطعمه قطعة دجاج قائلة:

"أبيه هيا كل هذه الدجاجة من سارة."

ابتعد خالد عن الطفلة الصغيرة بسرعة خوفًا من أن تلتقط العدوى منه، ولكن فات الأوان، وتفشت العدوى وبدأت تنتشر خلال أيام في المنزل كالنار في الهشيم. بدأ الأمر بسارة، وتتابع الأولاد المخالطون لها: فؤاد، لارا، وعلي، في السقوط، ثم ليلى وأميرة وأحمد. وحتى السيدة منى التقطت العدوى، هي وإحدى المربيات.

تبقّى كل من ماريا، نور، حسن، رحيم، عبدالله، فرح، ليان، ويحيى الذي تماثل للشفاء للتو. هؤلاء لم يُصابوا، ولكنهم أخذوا إجازة من المدرسة حرصًا على عدم انتشار العدوى، وكان هذا أمرًا ضروريًا جدًا.

فرضت سالي حظر تجوال على جميع الأفراد في المنزل، ومنعت السيدة أنيسة من التواصل مع أي شخص نظرًا لكبر سنها، كما تم تقسيم المنزل إلى معسكرين. المصابون تم توزيعهم على غرفتين في الطابق الثاني، أما الآخرون فتم نقلهم إلى شقة خالد، بما أنه مصدر العدوى. لكنه فضل عزل نفسه في الملحق بعيدًا عن الجميع، وهو يشعر بالذنب لأنه كان السبب في نقل العدوى.

أما غير المصابين، فقد تم توزيعهم مع الحفاظ على مسافات آمنة بينهم، واتُّخذت إجراءات الحماية اللازمة رغم سلامتهم.

حمدت سالي الله لأنها لم تكن من بين الضحايا، فمن سيعتني بكل هؤلاء المرضى غيرها؟ كانت متفهمة لهذا الوضع، خصوصًا أنه موسم تكثر فيه الأمراض التنفسية. لطالما واجهت هذا الأمر في المستشفى في مثل هذا الوقت من السنة، وكان قسم الاستقبال يمتلئ عن آخره بالأطفال المرضى.

مرّت الأيام التالية عليها كالجحيم؛ حرارة الأطفال لم تنخفض بسهولة، وكان عليّ أكثرهم إنهاكًا لها بسبب مناعته الضعيفة. ساعدتها المربيات وذكية بإخلاص، فيما كانت سالي تستيقظ في منتصف الليل لتتابع حالتهم: بكاء هنا، وتأوّه هناك، سارة تبكي، ولارا المزاجية، تشبثت بملابس سالي وهي تئن:

"لا تتركيني."

حاولت سالي تهدئتها واحتضنتها بحب وهي تقول:

"لارا الجميلة ستكون بخير قريباً، ولكن عليها أن ترتاح في السرير، وأنا سأعود قريباً."

كانت سالي تشعر بالخوف من التقاط العدوى بسبب قربها الجسدي من الأطفال، فحاولت مضاعفة وسائل الأمان، لمنع العدوى بقدر الإمكان.

أما بالنسبة لخالد فأصرت على الذهاب إليه في الملحق مع الست ذكية التي حضرت له غداءه، كان قد عاد للتو من العمل، ولم تكن حالته أفضل من حالة الأطفال، ولكنه حافظ على ثباته وتوازنه أمامهم، كما أنه كان يتلقى اتصالاته بصورة طبيعية، ويجيب عليها بكل هدوء وثبات على الرغم من حرارته المرتفعة، والتي وصلت إلى 39 درجة.

"مستر خالد الحرارة مرتفعة، عليك الحصول على قسط كافٍ من الراحة وليس العمل، خذ علاجك واستلقِ في السرير إذا سمحت."

قالتها سالي بصرامة وهي تشعر بأن أعصابها على المحك مع كل تلك الأحداث، فنظر إليها الرجل نظرة لم تستطع تفسيرها.

كانت تلك أول مرة سالي تتحدث معه بهذه الصرامة، فأجاب برفق:

"أنا بخير ولا أشعر بأنني احتاج لأكثر من عدد ساعات نومي."

تنهدت سالي بيأس وقالت:

"إذاً هذا بروتوكول العلاج الخاص بك، من فضلك كن حريصاً على أخذه في وقته، وأكرر لك كلامي، أحصل على قسط من الراحة، وسأمر عليك مرةً أخرى غداً."

خرجت سالي من الغرفة بنفاد صبر وتركت خلفها الست ذكية تضع الغداء له.

شعر خالد أن سالي كانت توبخه، وكان هذا جديداً على تلك الشابة الخائفة المتوترة، فابتسم وهو يتذكر حديثها، لقد تحولت إلى شخص آخر عندما ارتدت زي الطبيب، وكان هذا لائقاً عليها بشكل جذاب.

سعل فجأة، ثم وضع يده على رأسه من شدة الألم. كانت حرارته مرتفعة بالفعل، فاستلقى على السرير أخيرًا، مطيعًا أوامر الطبيبة الصارمة، وضاع في نومٍ عميق.

صعدت سالي مع إحدى المربيات للمرة الخامسة في هذا اليوم إلى شقة خالد، فتحت باب الشقة بهدوء ودخلت الغرفة الأولى، وتأكدت أن ليلى وأميرة أخذتا علاجهما في الوقت المحدد، أمرت المربية بتجديد الكمادات لهما.

اتجهت بخطوات ثابتة إلى الغرفة التي يشغلها التوأم مع السيدة منى. أشفقت على الطفلين اللذين يتأوهان بتعب ووهن، وحاولت تغيير الكمادات للارا، لكنها كانت تصرخ بسبب برودة الماء. وبعد معاناة طويلة، تناولت الطفلة دواءها وسقطت في النوم. ثم أعادت الكَرّة مع شقيقها فؤاد.

تنهدت سالي في محاولة لاستجماع طاقتها المستنزفة، ثم اتجهت إلى السيدة منى التي كانت نائمة ووجهها متجعد من الألم والقلق، والعرق يتصبب على جبهتها. انتبهت سالي لها وهي تلفظ بضع كلمات غير مفهومة. في البداية، ظنّت أنها تناديها، لكنها دققت النظر إليها لتتأكد من أنها ما زالت نائمة. عندها، أخفضت رأسها لتقترب أكثر من المرأة وتسمع ما تقوله.

"بني، سامحني.."

هذا ما استطاعت سالي تفسيره من الكلمات الغير مفهومة التي تنطقها المرأة. حاولت أن تفسر باقي الكلمات ولكنها لم تفلح في ذلك. وضعت يدها كتفها وهمست:

"سيدة منى."

كانت المرأة غارقة في خيالاتها غير واعية بما يدور حولها، فأصرت سالي على ايقاظها حتى لا تقع أسيرة لهلاوس المرض.

وضعت المزيد من القوة في قبضتها وقالت:

"سيدة منى، استيقظي."

وأخيراً فتحت المرأة عينيها بفزع، ونظرت إلى سالي بعينين مغيبتين تاهئتين، قالت سالي:

"سيدة منى، ركزي معي أنا سالي."

وبالفعل استعادت المرأة تركيزها وتأملت سالي لثوانٍ، ثم لارا وفؤاد اللذان ينامان على السرير المجاور لها، تنهدت قائلة:

"هل الأطفال بخير؟"

"الحرارة مازالت مرتفعة، ولكنهم أخذوا علاجهم، كيف حالك الآن، أرى أن حرارتك أنتِ أيضاً مازالت مرتفعة."

قالت المرأة وهي تمسح عرقها:

"سأكون بخير قريباً، الأطفال هم الأهم."

قالت سالي بقلق وهي تتأملهم:

"لا تقلقي أنا أعتني بهم."

"هل تحتاجين مساعدتي؟"

"لا داع لذلك، أنا أحصل على المساعدة بالفعل من السيدة ذكية وإحدى المربيات، عليك أن تخذي قسط من الراحة."

في المساء وبعد مرورها للمرة الأخيرة على المرضى أمرت المربية لتذهب وتأخذ قسطاً من الراحة، ثم جلست هي على الأرض في الطرقة وازاحت الكمامة عن وجهها لستنشق نفساً عميقاً حبسته داخل رئتيها قليلاً ثم أخرجته بمهل.

جلست على هذا الحال لعدة دقائق ثم نهضت واتجهت إلى غرفة سيدة المنزل، رفعت سالي الكمامة على وجهها قبل أن تطرق الباب بخفة، وانتظرت قليلاً قبل أن تسمع الرد الرقيق، والباب الذي يفتح بخفة، كانت السيدة أنيسة ترتدي ملابس نومها:

"سالي؟"

ابتسمت سالي بإحراج وقالت:

"أعتذر عن مجيئي في مثل هذا الوقت."

أفسحت المرأة الباب بسرعة وهي تقول:

"تفضلي يا حبيبتي."

دخلت سالي الغرفة الخاصة بأنيسة لأول مرة، وحاولت ألا تتطفل بتأملها العميق للغرفة.

أشارت أنيسة إلى كرسيٍ تحت النافذة، فجلست سالي عليه بعد أن دفعته قليلًا إلى الخلف، كي لا تقترب كثيرًا من أنيسة تحسّبًا للعدوى. جلست المرأة مقابلها وسألتها:

"هل الأولاد بخير؟"

"لقد جئت من عندهم للتو، حالتهم تكاد تكون مستقرة."

سألتها المرأة بلهفة: 

"وخالد؟"

تنهدت سالي وهي تقول:

"لا تقلقي مستر خالد مناعته جيدة، ولكنه يحتاج إلى الراحة فقط."

تفحصتها المرأة بدقة وسألتها:

"وأنت؟"

ابتسمت سالي بإرهاق، فلم تنم اليومين الماضيين ثمان ساعات متواصلين:

"أنا بخير، أحتاج فقط لأن أنام."

"لقد بذلتي مجهوداً كبيراً، أنا أقدر لك هذا."

أجابت بتواضع:

"هذا عملي."

نظرت الشابة إلى الأرض بحرج، ثم رفعت رأسها وهي تقول:

"في الواقع، أود أن أتحدث معك في أمر ما، إن كان لديك الوقت."

نظرت إلى الساعة تلقائيًا لتتأكد من أن الوقت مناسب، فوجدتها تشير إلى العاشرة والنصف. عندها قالت المرأة بود:

"تفضلي يا عزيزتي."

عضت شفتيها المخبئتين تحت الكمامة، ثم علقت نظرها على الأرض وهي تشعر بأنها مذنبة، وبدأت حديثها:

"الحقيقة... لا أعلم كيف أبدأ، ولكن هناك مشكلة تخص فرح، وبما أنني سأرحل قريباً من الواجب علي ابلاغك."

"أعلم."

رفعت سالي رأسها، وتأملت المرأة باستغراب، وهي لا تفهم مقصدها:

"تعلمين ماذا؟"

"مشكلة فرح، حسن جاء وأخبرني بالأمس."

ارتبكت سالي وقالت:

"أعتذر لم أخبرك بالأمر بنفسي، كنت محتارة، كما أنني وعدت فرح ألا أخبر أحدًا."

تنهدت أنيسة:

"لا تعتذري يا دكتورة أنا أتفهم الموقف وأثق بك تماماً، كما أنني وقعت في نفس الحيرة التي وقعتي فيها."

مرت لحظات من الصمت بينهم، ثم نظرت سالي إلى أنيسة وقالت:

"ذهبت إلى مدرسة فرح وتحدثت مع الفتيات."

تأملتها أنيسة باستغراب وهي تسألها:

"وماذا حدث؟"

"حذرتهم من الاقتراب منها."

تنهدت سالي بيأس وأكملت: 

"بصراحة لا أعتقد أن هذا حل قاطع للمشكلة، هناك الكثير من الأمور النفسية التي تؤثر على فرح علينا أن نعالجها ايضاً."

ابتسمت أنيسة بحزن:

"لأصدقك القول، لم أتوقع ما حكاه لي حسن، هل تتذكرين عندما أخبرتك أن اليتيم لا ينسى أبداً انه يتيم، فرح هي أكبر مثال على كلامي، تلك الطفلة المسكينة لم تنس أبداً أنها يتيمة."

"علينا إذاً أن نعمل على إصلاح تلك المشاعر، لا يجب تركها لنفسها."

"هناك جروح يا حبيبتي تحتاج وقتاً لتشفى، وربما لا علاج لها أبداً."

قالتها المرأة هذا الكلام بحزن ووهن، فعجزت سالي عن الإجابة.

نظرت المرأة إليها مباشرةً وهي تقول:

"كان عليّ أن أعلم تلك الطفلة كيف تتصالح مع حياتها، ويبدو أنني قصرت في ذلك."

فكرت سالي قليلاً ثم قالت:

"أقترح أن ندفعها للأنشطة التي تحتاج إلى المجهود البدني والذهني، وربما تواظب على الذهاب إلى النادي."

"فرح لديها عضوية في النادي بما أنها كانت تلعب كرة السلة، وحسن وأحمد لأنهما يلعبان الجودو، لا أعلم لماذا أهملناها؟"

تذكرت سالي طفولتها بحزن، لطالما تمنت أن يكون لديها عضوية في أي نادٍ كباق زملائها، لذلك كانت شغوفة بتلك الفكرة لحل مشكلة فرح. وفجأة رفعت رأسها عندما تذكرت أمراً ما:

"مستر خالد يشك في الأمر."

رفعت أنيسة حاجبيها باستغراب، وظهر الضيق على وجهها:

"لا تخبريه، رد فعله لن يكون مناسباً لو علم بالأمر، كما أن علمه بما يحدث سيحرج فرح، وأنا لا أريد ذلك، تعاملي أنتِ الآن مع الموقف واتركِ الباقي لي."

تترك الباقي لها؟ تساءلت سالي كيف ستتصرف أنيسة مع فرح، استولت عليها الغيرة، وبدأ الطمع لحل تلك المشكلة يسيطر عليها. 

قالت أنيسة وهي تتأمل سالي بامتنان: 

"هل تعلمين؟ وأنا أراك الآن مهتمة بمشكلة فرح، أطمع أن تغيري رأيك ولا ترحلي."

ضاق قلب سالي وهي تستغرق في فكرة رحيلها، فقالت وهي تنظر بتوتر وخجل إلى أنيسة:

"سيدتي هل أستطيع الحديث معك براحة؟"

"نعم، أخبريني بما يدور في رأسك، فكما أرى يبدو عليكِ الحيرة."

كان صوت أنيسة دافئ، مما جعل سالي تبتلع غصة وتتحدث بصوت خافت وهي تشبك كفيها:

"في الحقيقة... لا أريد الرحيل عنكم، أريد البقاء هنا."

"وما الذي يمنعك؟"

أخفضت رأسها حتى لا تلمح أنيسة عينيها الدامعتين:

"لا أعلم، على العودة إلى البيت لأقابل شخصاً ما."

أنزلت أنيسة رأسها وهي تدقق النظر في وجه سالي وقالت بابتسامة:

"عريس؟"

رفعت سالي رأسها وأومأت وهي تلمح من المرأة ملامح يأس لم تدم إلا ثانية.

"وما موقفك؟"

أجابت سالي بهدوء، وهي تتأمل يديها المتشابكتين:

"لا أعلم، لا أعتقد أنني جاهزة."

"إذاً ارفضيه من الباب."

"لا أستطيع، بابا مصمم على مقابلته."

مرت ثوان من الصمت قطعته أنيسة بابتسامة مرحة فيه القليل من المكر:

"إذاً لنطفشه."

نظرت سالي إلى المرأة الماكرة باستغراب، كان وجهها العجوز الشاحب قد استعاد حماسه وقالت:

"أنت تجلسين أمام خبيرة تطفيش."

ابتسمت سالي وتحولت الابتسامة إلى ضحكة وهي تتأمل المرأة باندهاش، فقالت أنيسة وهي تشاركها الضحك:

"لماذا هذا الاندهاش؟، لا يليق بي هذا المكر؟"

أومأت سالي فقالت المرأة:

"أنا لست ملاكاً يا سالي، لقد مررت بتلك المرحلة في مثل عمرك، ولم يستطع أحد اجباري على شيء لا أرغب به."

تلاشت الابتسامة عن سالي وقالت بوجوم:

"لا أعلم كيف اتصرف."

"اذهبي."

أكملت المرأة:

"اذهبي وواجهي الأمر بشجاعة، راق لكِ وافقي، وإن لم يرق لكِ هذا فأرفضي."

"بهذه البساطة؟"

أكدت المرأة وهي تهز رأسها بابتسامة:

"نعم بهذه البساطة، أنتِ إنسانة قوية ولديكِ كلمة صريحة وواضحة، لذلك لا يستطيع أحد إجبارك. حبيبتي، في مثل هذه الأمور رأيك هو الأهم والأوقع، وعلى الأهل تفهم ذلك."

أمسكت المرأة يدها بحنان، والعرق بدأ يتصبب على جبينها، ثم قالت بصوت فيه نبرة مجهدة:

"اذهبي يا سالي، هذه حياتك عليك أن تتولي زمام أمورها بنفسك، وإن لم يعجبك هذا الشخص فارفضيه، ولكن أعطيه فرصة، ربما يكون هو نصيبك."

كان هناك واقعية وموضوعية في كلام المرأة جعلاها تخفض رأسها وتومئ بموافقة وهي تفكر في هذا الحديث.

رفعت سالي رأسها بابتسامة حزينة وقالت:

"حسن لا يريد التحدث معي منذ معرفته برغبتي في الرحيل، هو يعتقد أنني أهرب وسأترك فرح وحدها... أريد أن أصالحه، ولكن لا أعرف كيف أغير هذه الفكرة التي أخذها عني."

ابتسمت أنيسة بلطف وأجابت:

"لا تقلقي.. باستمرارك معنا، سيلين قلبه بكل تأكيد. هذا الولد قلبه نقي، ومن السهل كسبه... فقط عليك أن تعثري على مفاتيحه..."

فجأة، انقطع صوت المرأة... كان متألمًا، مرهقًا:

"سالي..."

نظرت سالي إلى أنيسة التي تصبب العرق على جبينها، ولاحظت أنها تجلس دون راحة، وفجأة نهضت واتجهت بسرعة إلى الحمام لتستفرغ، لحقتها سالي بسرعة وأمسكت بالجسد الهزيل تسنده حتى لا يقع، بعدها بلحظات انتهت من استفراغها، وساعدتها سالي لتغسل وجهها، ثم الذهاب إلى السرير والراحة: 

"كيف تشعرين الآن."

ابتسمت أنيسة رغم الإرهاق على وجهها وقالت: 

"أنا بخير، ربما التقطت العدوى."

تفحصت سالي حرارتها، ولكنها لم تكن مرتفعة: 

"ليس لديك حرارة."

أمسكت المرأة معصم سالي وأبعدته بلطف وهي تقول: 

"لا تقلقي أنا بخير، اذهبي أنت للنوم فالوقت قد تأخر."

شعرت سالي بأن المرأة مرتبكة، ولكنها احترمت رغبتها وقالت:

"حسناً سأذهب الآن، ولكن لو ارتفعت حرارتك في الليل اتصلي بي."

"حسناً عزيزتي تصبحين على خير."

نظرت سالي إلى المرأة بحيرة وقالت:

"تصبحين على خير."

خرجت الطبيبة الشابة مُتجهًة إلى غرفتها وهي تشعر بالقلق على المرأة. 

***



جلست سالي في غرفتها تفكر بعمق، كانت مقتنعة تماماً بأن مشكلة فرح جزء منها، له علاقة بالوحدة والفراغ اللذان تشعر بهما الفتاة، وتذكرت تلك الرسالة التي قرأتها من قبل "رسالة إحسان عبد القدوس لأبنته المتخيلة" هذه الرسالة كانت تتبادر إلى ذهنها منذ عدة أيام:

[إن الإنسان الحر يحتاج إلى قوة لا يحتاج إليها الإنسان العبد.. قوة نفسية وذهنية، والحرية ليست فراغاً إنما هي حقل بناء مزدحم بالعمل تحاولين فيه بناء شخصيتك وبناء ذهنك، وقد زودتك بكل أدوات البناء.. زودتك بالعلم، والفن لتري من خلالهما نفسك على حقيقتها.. لتري أنك لست وجهاً فقط أو جسداً رشيقاً، ولكنك روح جميلة وعقل جميل، وقد جمعت الكتب والأسطوانات أشتريها لكم من قبل أن تولدوا، لأني أؤمن بأن الكتاب والأسطوانة كالبودرة والروج تتزين بهما الفتاة وتزداد جمالاً، وكالعضلات بالنسبة للشباب يزداد بها قوة وشباباً.. وعودتك على الذهاب إلى النادي لا لتبحثي لنفسك عن عريس، بل لتري مجتمعاً فيه كل الأنواع، الراقي والانحطاط، حتى أعرضك من صغرك لتجارب الحياة وأحميك من الفراغ.]

لم تنس سالي أبداً تلك الرسالة الجميلة التي جعلتها تفكر بحكمة في مشكلة فرح، وهنا كان عليها البدء مع الفتاة من الصفر، ومال عقلها أكثر خلال الأيام الماضية للبقاء في المنزل مدة أطول، كان هذا تحد لها وعليها أن تخوضه بشجاعة. لم تأخذ قراراً نهائياً بعد، ولكنها صارت مقتنعة بضرورة البقاء.

أخذت تبحث على الأنترنت عن أفكار لأنشطة ربما تساعد فرح في التخلص من مشكلتها، ولكن كلها تعتمد على فرح. قرار يعتمد عليها، لو أرادت تلك الفتاة التغيير فستفعلها وتتخطى أزمتها، وعلى سالي أن تساعدها في ذلك.

***


في وقتٍ ما من الليل، تسلّل أحدهم مرةً أخرى إلى غرفة المكتب، وأخرج من جيبه سلسلة مفاتيح، اختار أحدها وجرب فتح الدرج الذي لم يستطع فتحه من قبل، لكنه لم يكن المفتاح الصحيح.

أخذ نفساً عميقاً وصعباً بسبب المرض، ثم جرّب مفتاحاً ثانياً، فكان هو المطلوب. أضاءت عينا الشخص عندما سمع صوت فتح القفل، ومدّ يده إلى الدرج وأخرج ملفاً أبيض اللون كُتب عليه "رواتب الموظفين".

أخرج من كل مظروف بداخله ورقة أو ورقتين، ثم أعاد الملف إلى مكانه، وأغلق الدرج مرةً أخرى. وبدلاً من أن يُعيد المفتاح إلى جيبه، وضعه بحرص على المكتب، وخرج من الغرفة بهدوء كما دخل إليها.

***

ز

في اليوم التالي، بدأت خطة سالي حيز التنفيذ. دخلت فرح غرفة الموسيقى، فوجدت رحيم وسالي يتحدثان باهتمام، وكلٌّ منهما يعبث بآلته الموسيقية. التفت الاثنان إليها بابتسامة، فقد دعتها سالي للحضور إلى غرفة الموسيقى.

مسحت فرح على رأس أخيها برفق وقالت: 

"ما أخبار الفنان الخاص بنا؟"

ابتسم رحيم لأخته بخجل، ثم قال بعدها بحماس:

"تعالي يا فرح أسمعي هذه النوتة."

جلست الفتاة باهتمام، وأشار رحيم لسالي التي بدأت تعزف نوتة قطر الندى.

تعرفت عليها فرح بسرعة، فابتسمت سالي لها قائلة:

"ما رأيك أن تغنيها بما أن صوتك جميل، وسأرافقك بالعود."

قالت بفرح وهي تشعر بالحيرة:

"لكني لم أحفظها."

رمقت أخيها بنظرة خجولة، ثم قالت:

"ولم أغني أمام أحد من قبل."

"لا مشكلة، سأكرر لك الكلمات، وأنتِ رددي معي."

وبالفعل حفظت فرح المطلع أولاً، وغنته بصوتها الجميل الدافئ، وبعد أن انتهت صفق لها رحيم مشجعاً، فسألتهم سالي: 

"هل تعرفان ما قصة تلك الأغنية."

نظر الاثنان إلى بعضهما البعض، فبدأت سالي تحكي لهما قصة "أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون"، الملقبة بـ"قطر الندى"، والتي تزوّجت من الخليفة العباسي "المعتضد بالله"، في زفافٍ أسطوريٍّ تناقلته كتب التاريخ.

سردت لهم عن جهاز العروس الخيالي المصنوع من الذهب، وموكبها الذي امتد من القاهرة إلى بغداد، حتى وصل ليلاً تتقدمه آلاف الشموع والمشاعل. كانت سالي تعشق تلك القصة منذ طفولتها، حين حكتها لها والدتها، ولطالما تمنت أن يكون عرسها كعرس قطر الندى، خيالياً، مليئاً بالأضواء والشموع.

تفاعلت فرح مع القصة بعيون مذهولة، وكانت تسأل عن التفاصيل بنهم، ثم حزنت عندما علمت بنهاية قطر الندى الحزينة.

وهنا كانت البداية لعلاقة فرح بهذا العالم الجميل الذي فتحت سالي أبوابه لها. 

***


تفقدت سالي جميع المرضى، كانوا قد بدأوا في استرداد صحتهم واستعادة نشاطهم بعد ثلاثة أيام من المرض، ما عدا علي الذي يرقد الآن لأكثر من أربعة أيام.

ركض الأطفال حولها بشقاوة مبرهنين على ذلك، وتركتهم سالي للمربيات ونزلت إلى المطبخ مباشرةً، كانت تشعر بالجوع الشديد، ووجدت نور في المطبخ الداخلي مع الست ذكية:

"صباح الخير."

ردت عليها ذكية، والتفتت نور بابتسامة تجاه مصدر الصوت الذي تعرفت عليه وحيتها برقه:

"صباح الخير يا دكتورة، كيف حال الجميع؟"

كانت الفتاة تُمسك بسكين وكأنها تقطع شيء ما، فنظرت سالي إلى ذكية بريبة، ولكن المرأة طمأنتها بغمزة واشارت بيدها ألا تقلق.

ردّت سالي على سؤال نور بهدوء:

"معظمهم بخير، لكنهم ما زالوا في فترة النقاهة، لذا يجب الحرص وعدم الاقتراب منهم كثيرًا."

ثم التفتت سالي تنظر حولها وهي تسأل ذكية:

"أين ندى وإسراء؟"

"سافرتا إلى القرية لزيارة العائلة، وستعودان بعد يومين."

افتقدت سالي الفتاتين المُسليتين، لو كانتا هُنا لكان الجو صاخب ومُمتع في تلك اللحظة.

التفتت إلى نور المُستغرقة في عملها، ثم اقتربت منها بفضول، تحركت بخطى هادئة ونبّهتها بصوتٍ لطيف حتى لا تُفزعها:

"هل تسمحين لي أن أرى ما تطبخينه اليوم يا نور؟"

تحرك وجه نور إليها وشعرت سالي بإحساس غريب أن هذه الطفلة تراها. أجابت الفتاة بصوت الرقيق الهادئ: 

"بالتأكيد."

كان تقطيعها للطعام يُجاري إلى حد ما تقطيع شيف مُتمرس، ولكن سالى راقبت أصابعها خوفًا من أن تؤذي نفسها.

في تلك اللحظة، تدخلت السيدة ذكية وهي تقول بخفة روحها:

"بما أنه تم إلغاء رحلة وادي الحيتان بسبب مرض الأولاد، نور قررت أن تطبخ لنا الغداء اليوم."

تحدثت سالي بحماس وهي تجلس وتستند على الرخام الخاص بالمطبخ:

"حقاً؟ ماذا ستطبخين؟"

قالت الفتاة بهدوء وهي تتحسس بيدها: 

"الكالزوني."

أجابت سالي بشغف:

"أتعلمين؟ أصبحت أشعر بالغيرة منك، فقد تمنيت من قبل أن أتعلم الطبخ."

أضاءت عيون الفتاة الميتة عند هذه الجملة وقالت بهدوء في مُحاولة لكبح حماسها:

"حقًا؟"

أكدت سالي بضحكة خفيفة:

"حقًا."

قالت الست ذكية:

ذاً يجب ان تكون نور استاذتك يا دكتورة."

قالت سالي وهي تلتفت إلى ذكية:

"هل هناك ألطف من ذلك؟!"

ثم التفتت إلى نور:

"وأنتِ ما رأيك، يا نور؟"

ابتسمت الفتاة في خجل وهمست:

"أنتم تجاملونني حقًا."

سألت ذكية سالي:

"هل أنت جائعة يا دكتورة؟"

أجابت سالي، بينما معدتها تتلوى من الجوع:

"لا، سأنتظر الجميع."

نهضت ونظرت من نافذة المطبخ، تتأمل الحديقة والدفيئة المُغلقة:

"تلك الدفيئة، ألا يدخلها غير السيدة أنيسة؟"

انتبهت ذكية لها وقالت:

"مستر خالد فقط هو من يدخلها. من النادر أن يدخلها أحد، خاصة من الأطفال."

"لماذا؟"

تدخلت نور:

"ماما تعتز بها جداً، والأولاد لو دخلوها سيخربونها."

سالي بفضول:

"ما المزروع فيها؟"

"أزهار نادرة حصلت عليها السيدة بصعوبة."

تأملت سالي الدفيئة، وشعرت بفضولها يتزايد لتفقدها، لكنها شخص لا يحب التطفل، فاكتفت بتأملها لثوانٍ، ثم حولت نظرها إلى نافورة الطاووس الرائعة.

غير أن شيئًا ما قرب النافورة استوقفها، فقد لمحت من بعيد طفلاً ينحني على الأرض في سكون مريب. رمشت بعينيها وضيّقتهما علها تستطيع تحديد هويته، لكنها لم تستطع. فاستأذنت وخرجت من باب المطبخ متجهة نحو النافورة.

عندما اقتربت، صدر عنها صوت خشخشة بسبب العشب، فانتبه الطفل والتفت فورًا. كان عبدالله. وقف الاثنان متفاجئين لثانية، ثم ابتسمت سالي بود وقالت له:

"صباح الخير عبدالله، ماذا تفعل؟"

لم يرد عليها الفتى ونظر إليها ببرود وهو يحاول أن يخفي شيئًا ما وراء ساقيه، وعندما انتبهت سالي، تحدث الفتى بخشونة في مُحاولة لتشتيت انتباهها لما وراء ساقيه:

"لا شيء."

ولكن سالي كانت مُتأكد أن هُناك شيء يتحرك وراء ساقي الفتى، فقالت وهي تنظر إلى وجهه بريبة:

"حقاً؟"

حرك الفتى ساقيه مرةً أخرى، ولكنها حدث ما لم يتوقعه، داس دون قصد على ذيل حيوان، فسمعت سالي صوت مواء، ثم رأت قطة تفر بعيداً بألم. نظر عبدالله وراءه مُتفاجئاً وركض خلفها وهو يقول:

"انتظري!"

حاول الفتي أن يلحق الهرة الصغيرة ذات اللون العسلي، ولكنها راوغته واختفت بين الأعشاب، وبعد محاولات يائسة عاد إلى سالي، وما حدث بعد ذلك لم تتوقعه الطبيبة الشابة، ولم يخطر على بالها في تلك الثانية.

***


[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: سالي

الرسالة: مرحباً، لا أعلم ما هو قصدك بهذا السؤال، هل تريد تصعيب الأمر عليّ بهذه الأسئلة المختصرة؟ أم هل أنت وحيد في مثل هذا الوقت الذي كتبت فيه الرسالة؟ هذه الوحدة الرمادية الصامتة، حيث الجميع حولك وأنت لا تسمعهم؟ أتمنى ألا تكون كذلك، فالوحدة المفروضة علينا حقاً أمر لا يطاق، ولكني لا أعتقد أن هذا مقصدك من السؤال، لذا سأجيب عليه من منطلق آخر.

أنا أرى للوحدة شقان أو وجهان، الشق الأول وهو وحدة مفروضة علينا وليست باختيارنا، وهذا شق أكره لأنه يعاكس إرادتي، حيث يستولي عليّ شعور بالانعزال حتى عندما أكون محاطة بالناس. أتعلم هذا الصمت الذي يملأ الفراغات بين الكلمات والأصوات، ويصم أذنيك عمن حولك، هذا الشق من الوحدة عندما يستولي علي يجعلني أشعر بالخوف والحزن.

والشق الآخر والذي يكون باختياري وارادتي وهذا لا أكرهه، هو مرآه تعكس أعماق نفسي ووجهي الحقيقي، وأحياناً أرى فيه وجهاً لا أعرفه. أشعر أنه هذا الشق من الوحدة وكأنه يسحبني إلى رحلة أبحث فيها عن ذاتي، وأواجه فيها مشاعري الخاصة والماضي الذي أتمنى التصالح معه.

هذا كان تعريفي المبسط للوحدة، وأنت هل تعتقد أن الوحدة تكشف لنا حقيقة أنفسنا؟ وهل يمكن أن تكون وسيلة للشفاء والنمو؟

أتمنى ألا أكون قد أثقلت وأفرط في الرد، واتمنى أن تجيب على سؤالي لنستكمل هذا النقاش.

مع خالص الاحترام

سالي.]

نهاية الفصل الحادي عشر.

وتستكمل القصة في الفصل القادم.

لا تنسوا الvote من فضلكم.

***


أهلاً قرائي الأعزاء الفصل الحادي عشر خلص الحمدلله فيه فكرة مهمة حبيت أناقشها في الفصل تخص مشكلة فرح والعادة اللي اكتسبتها، حاولت أناقش واحد من الحلول اللي أنا مقتنعة بيها وهي ضرورة انشغال الأطفال والمراهقين في هوايات ونشاطات لحمايتهم من اكتساب عادات سيئة طبيعي انهم يكتسبوها من المجتمع المحيط بهم خاصة المدرسة، اللي حابب يعرض فكرة تانية يقولها، هكون سعيدة جدا.

هل البرد اللي تفشى في المنزل بداية من ماريا وانتهاء بعلي خلص ولا لسه حد مجالوش برد؟ توقعوا انتوا.

ملاحظة مهمة، خالد نادراً ما يغضب من الأولاد ودائماً بيكون صبور، ولكن لما بيفقد أعصابه بيكون صارم جداً، زي ما حصل مع حسن وهو صغير، علشان كده أنيسة مش حابة أنه يعرف مشكلة فرح واللي هتبقى أكيد محرجة قدامه.

عندما يمرض خالد يفضل الاختلاء بنفسه في الملحق والابتعاد عن السرير لأنه يصاب بالهلوسة ويتحدث أثناء مرضه بكلام غير مفهوم.

الفترة دي كنت نشطة جداً في الكتابة ادعولي أكمل على نفس الرتم، وخليكوا متفهمين ان تأخري بسبب شغلي وحياتي، ولكن للكتابة في قلبي مكان غالي ومهم.

عايزة أوضح حاجة، المفروض ان الفصل العاشر والحادي عشر والثاني عشر يبقوا فصل واحد بس معرفتش لأنه كان هيبقى طويل جداً من 20000 كلمة، فطبعاً قسمتهم على 3 فصول.

اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

رواية المنزل:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.


 قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق