رواية المنزل
الفصل الحادي عشر
[رسالة واردة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: مجهول
الرسالة: ما هو تعريفك للوحدة؟ كيف تشعرين عندما تكونين وحدك؟]
***
التوأمان لارا وفؤاد ينامان بينها هي وفرح، واللعاب يسيل من أفواههم، تأملتهم سالي - بذهول - وهي تتساءل، ماذا يفعل هؤلاء الأطفال هنا وكيف دخلوا؟ نظرت إلى الباب الذي كان مفتوحاً قليلاً، كيف استطاعوا الدخول هؤلاء الأشقياء؟ نظرت إليهم، كانا ينامان ملتصقين ببعضهما البعض وبدا أنهما غير مرتاحين، فعدلت بهدوء وضعيتهما وحرصت ألا تزعجهم، وبينما هي تغطيهم، سمعت ضوضاء تأتي من النافذة، فنهضت بسرعة وفتحتها لتنتهي الضوضاء كالعادة، كانت قد اعتادت على هذا الأمر منذ الليلة الأولى، لكن هذه المرة ضيوفها هم من سينزعجون، فظلت سالي على حالها لنصف ساعة تستنشق نسيم الفجر، ثم نظرت إلى الأطفال وابتسمت بحب وعادت إلى السرير لتستلقي بجوارهم وتحتضنهم بقدر استطاعتها، وهي تلتمس الدفء من أجسادهم الصغيرة.
استيقظت سالي على صوت الطرق على الباب وصوت إسراء يناديها:
"دكتورة سالي!".
نظرت إلى الأطفال بجوارها، كانوا نائمين بعمق، فنهضت بسرعة لتفتح الباب لإسراء، كان الخوف والفزع باديين على وجه الشابة المسكينة التي صاحت فور رؤية سالي:
"هل تعلمين أين الأطفال؟ نحن نبحث عنهم منذ الصباح، ليسوا في أسرتهم!".
تأملت سالي إلى الفتاة المذعورة قليلاً والنعاس يغلبها، ثم أفسحت المجال لها دون أن تتفوه بكلمة واحدة. نظرت إسراء إلى داخل الغرفة دون أن تدخل، ووجدت السرير الخاص بالطبيبة مكتظ بالأفراد. نظرت مرةً أخرى إلى الطبيبة الشابة الناعسة وسألتها باستغراب:
"لماذا الأطفال هنا؟".
قالت سالي وهي تتثاءب:
"أسأليهم، أنا متفاجئة مثلك".
وكالعادة كان صباح المنزل فوضوي، تم ضرب التوأم على مؤخراتهم بخفة من السيدة منى، وحكى الطفلان حكايتهما وهما يمسحان على مكان الضرب، قال فؤاد:
"فرح تتسلل كل ليلة من الغرفة وتتركنا بمفردنا".
أضافت لارا:
"تتركنا نحن وليلى، بمفردنا في الظلام خائفين".
كانت الثعلبة الصغيرة تدّعي الخوف حتى يشفق عليها الكبار، عقّبت ليلى على كلامها وهي تتثاءب:
"ولكني لا أخاف، وأنا إلى ذلك لا أستيقظ ليلاً".
قالت أنيسة بصرامة:
"لا داع لهذه التمثيلية يا أولاد، هذا لا يليق بكم أيها الأشقياء!".
تحدث أحمد وهو يضحك:
"ماما أرجوك اتركيهم حتى نضحك قليلاً، كيف تمكنتم بالتسلل ليلاً إلى غرفة الدكتورة، وأنتما قصيرا القامة".
قالها أحمد وهو يضع كفيه على رؤوسهم وكأنه يقيس طولهما، فاعترض التوأم على وصفهم بقصار القامة، وصاحت لارا:
"نحن لسنا قصار القامة، لقد فتحنا باب الغرفة ودخلناها دون مساعدة".
وجهت أنيسة حديثها لفرح:
"وأنت يا فرح لماذا تضايقين الدكتورة!".
فتحت سالي الناعسة عينيها وهي تقول بصوت يكاد يكون مسموع:
"لا، هي لم تضايقني".
قالت فرح:
"كنت استشيرها في أمر ما، وتحدثنا حتى غلبنا النوم".
"وتتركين أخوتك الصغار بمفردهم!".
"اعتقدت أنهم نائمين وليلي كانت معهم، فما الداع للقلق!".
جرى هذا النقاش الحاد بينما عليّ وسارة يجلسان بعيداً بحزن والدموع تكاد تقطر من عيونهما الواسعة بسبب هذه الخيانة العظمى من رفقاء اللعب. تابعت سالي الموقف والضحك يكاد يفلت منها، ولاحظت أن أنيسة أيضًا كانت تبتسم على الرغم من توبيخها للأولاد، وهكذا كان صباحاً عاصفاً، طريفاً، ضحك فيه الجميع في المنزل، وتم سرد الحكاية للمرة الثانية لخالد الذي كان قد أتى من الملحق وليس من شقته على غير العادة، وابتسم الرجل عند سماع الحكاية وهو ينظر إلى سالي التي لاحظت أنه على غير طبيعته، كان يبدو عليه الإرهاق والخمول، والهالات حول عينيه ظهرت وتعمقت، كما أنه لا يتفاعل مع الأطفال كعادته، بل يتجنبهم بشكل كبير. فتساءلت سالي سرًا، هل هو بخير؟
***
بعد هذا الصخب الصباحي ذهب الأطفال إلى مدارسهم، وخالد إلى عمله، وكالعادة استغلت سالي الصباح لتسترخي في الحديقة، بعد الاطمئنان على حالة يحيى التي تحسنت بشكل كبير، ولكنها نصحت ببقائه في السرير ليوم آخر خوفاً عليه وعلى بقية الأولاد، خاصةً الصغار. وفي الحديقة حملت معها ماريا - صديقتها اللطيفة - فقد أصبحتا الاثنتين مقربتين بعد تلك الليلة التي مرضت فيها ماريا، والطفلة تعودت عليها أخيراً، وصارت لا تعترض على بقائها معها كما كان يحدث في السابق، أما الصغار فكانوا يتناوبون بين الحديقة والحضانة بشقاوة، مما جعل الأجواء من حولها حيوية ولطيفة في مثل هذا الجو الخريفي. بالفعل أصبح الجو يميل أكثر للاعتدال وأحياناً البرودة، وبدأت هجرة الطيور إلى مناطق أكثر دفئاً، والأشجار تتهيأ لاستقبال فصل جديد، وأوراقها التي أخذت لوناً ذهبياً خفيفاً تتساقط بهدوء كما لو أنها تودع الصيف بلطف. لامس النسيم الناعم وجهها وهي تقوم باستراق النظر إلى الأطفال الذين يلعبون من حولها تطمئن عليهم، ثم أرجحت الطفلة الضاحكة وهي تحاول تعليمها نطق اسمها:
"ماريا، قولي سالي".
كانت الصغيرة تحاول التعلم بجد وتحرك شفتيها الصغيرتين جداً، ولكنها فشلت في النهاية، ولم يخرج منها إلا كلمة عبثية:
"آلي؟".
سمعتها السيدة ذكية وهي تقدم الشاي لسالي وقالت:
"لا يا ماريا ليست آلي، قولي سـ ا لـ ي".
لكن الطفلة التي أدارت نظرتها بحيرة بين ذكية وسالي، ثم ضحكت فجأة ونادت على سالي بإصرار:
"آلي".
قالت ذكية:
"إذًا أنت مصرة".
قالت سالي وهي تتأمل الطفلة بحب وضمتها إليها وهي تقول:
"لا بأس، إنه جميل".
رحلت ذكية، وبينما كانت تداعب الطفلة، اقتربت لارا منها وعلى وجهها أمارات القلق والحزن، فسألتها سالي:
"ماذا حدث، لماذا أنت حزينة يا لارا؟".
تمتمت الطفلة بصوت منخفض وهي تنظر إلى الأرض:
"ضاعت أموالي".
"متى رأيتها آخر مرة؟".
"وضعتها في جيبي قبل أن ألعب، ولكن لم أجدها".
نظرت سالي إلى جيب الطفلة الذي كان واسعاً ومن السهل أن تقع منه من الأموال، خاصة مع تحرك الطفلة ولعبها بحماس في الأرجاء، وبالتأكيد لن يلاحظ أحد الأموال التي سقطت على الأعشاب. تجمعت الدموع في عيون لارا الواسعة وشفتيها تتكوران، فأشفقت سالي عليها واقترحت وهي تمسح شعرها الناعم:
"لا تحزني، كم كان المبلغ؟".
أشارت الطفلة بكفها الصغير ومسحت طرف عينيها بيدها الأخرى:
"خمس جنيهات فضية".
أخرجت سالي محفظتها من جيبها ووضعتهم في الكف الصغير:
"حبيبتي لا تبكي، خذي هذه كتعويض عن أموالك التي ضاعت منك".
فأخذتهم لارا وهي تتأمل سالي بحيرة، وسرعان ما ركضت تجاه فؤاد وسارة، وأخذوا يتهامسون وينظرون إلى سالي التي تراقبهم من بعيد، ابتسمت سالي بحيرة وتحدثت إلى نفسها:
'قولي شكراً على الأقل'.
لمحت حسن يخرج من المنزل، نظر الفتى إليها بلا مبالاة ثم اتجه إلى البوابة وخرج، وهذا أيقظ داخلها إحساسًا بالذنب والحزن، كانت ترغب في توديع المكان وعلاقتها جيدة مع الأولاد، ولكن يبدو أن حسن لديه رأي آخر. استيقظت من أفكارها على صفعة من ماريا التي كانت معترضة لانشغالها عنها، فوضعت سالي كفها على خدها بألم، وقالت وهي تعاتب الطفلة التي تضحك بمرح:
"ماريا يدك قوية حقًا!".
ردت الطفلة عليها بابتسامة ماكرة جميلة، وكأنها فخورة بشقاوتها، وظهرت أسنانها الصغيرة اللؤلؤية، فسامحتها سالي فورًا لأجل تلك الهدية الجميلة، وقبلتها وهي تستنشق رائحة الحليب الملتصقة بها، وكأنها تستنشق عطراً غالياً.
***
كان خالد ومحمود يتناقشان في أمر ما، نظر محمود إلى خالد ولاحظ فيه بعض الضعف والوهن الغريبين عنه، فسأله:
"هل أنت بخير؟".
رفع خالد رأسه مستفهماً، فقال محمود:
"أشعر أن هناك أمراً خاطئاً بك".
قال خالد وهو ينظر إلى الأوراق أمامه:
"لا شيء خاطئ، أنت تتوهم فقط".
بلع ريقه بصعوبة ثم أكمل:
"لا تشتتنا عن العمل، لدينا أعباء يجب أن ننجزها".
تأمله محمود بريبة، فتجاهل خالد نظراته وهو يتذكر الليلة الماضية التي أمضاها في تناول خافض الحرارة، كما قالت الدكتورة سالي، يبدو أنه التقط العدوى من يحيى، ولكنه لم يخبر أحداً بهذا الأمر وانتقل إلى الملحق الصغير بهدوء، وفضل علاج نفسه بنفسه. لم تكن حالته اليوم أحسن من الليلة الماضية، فما زال يشعر بالإرهاق، نبضات قلبه سريعة، جسده بأكمله يؤلمه، ويحتاج إلى الراحة التامة. كل هذه الأعراض مع إحساس أنه مراقب جعلته يشعر بالارتباك، فنظر إلى محمود الذي يتأمله بعيون الصقر وقال متنهداً بتعب:
"كف عن النظر إليّ بالأربع عيون خاصتك، هذا يوترني".
صاح محمود معترضاً:
"أنت مريض يا أخي ألا ترى هذا".
استسلم خالد أمام إصراره، واستنشق الهواء بصعوبة والآلام تدوي في جميع أنحاء جسده، سمع محمود يقول وهو يخفض نظارته إلى الأسفل:
"كان عليك أن ترتاح اليوم، أنت لست بخير".
وضع يده على جبينه ليشعر بحرارته العالية، فقال وهو ينهض عن الكرسي ويتجه إلى الأريكة مُستلقياً عليها:
"أحضر لي علاجاً للبرد ومشروباً ساخناً وكمامة".
نهض محمود خلفه ووقف يتأمله:
"حسناً سأحضرهم لك، ولكن اذهب إلى منزلك، أم ستبقى هنا وأنت في هذه الحالة؟".
تقلب خالد بعدم راحة على الأريكة وهو يتمتم:
"ما زل لدينا الكثير من العمل لإنجازه، وعلينا المرور على المكتبة لنتفقد آخر التطورات".
"ليست مشكلة، اترك لي هذا الأمر".
"لن أشعر بالراحة، يجب أن أتفقدها بنفسي".
أجاب محمود وهو يشعر بالإرهاق من مجدالة هذا الرجل العنيد:
"إذا استلق الآن وخذ راحة لمدة ساعة على الأقل".
أغمض خالد عينية المتعبتين، ونام بالفعل غير منتبه لثرثرة محمود التي غابت عن مسامعه بالتدريج.
***
على العشاء كان الجميع يتحدثون عن وجهة الرحلة وادي الحيتان التي اقترحتها الآنسة سالي والتي سترحل قريباً عنهم. سألت ليان:
"وادي الحيتان؟ أين هذا المكان؟".
رد عليها خالد الذي لم تمس يده الطعام، ويرتدي كمامة حتى لا يعدي الأطفال:
"في الفيوم في محمية وادي الريان، يبعد عن هنا حوالي 150 كيلومتر".
سألت أنيسة خالد وهي تشعر بالقلق عليه:
"عزيزي فلنؤجل تلك الرحلة حتى تستعيد صحتك".
"لا تقلقي، سأكون قد تماثلت للشفاء وقتها".
كان خالد يحاول التماسك حتى لا يسقط في السرير، فقد كان هذا أكثر ما يكرهه، الضعف والوهن اللذان يرافقانه وقت المرض، لا سيما الهلوسة التي تتفاقم أثناء نائم. سأل عبدالله:
"لماذا اسمه وادي الحيتان؟".
ردت سالي على السؤال:
"لأنه تم العثور فيه على 10 هياكل لحيتان عاشت في تلك المنطقة منذ 40 مليون سنة".
سألت فرح وهي تشعر بالحيرة:
"وهل كانت الحيتان تعيش في الصحراء قديماً؟".
أجابت عليها سالي:
"لا بالطبع كيف يعيش الحوت في الصحراء، يقال إن شمال قارة أفريقيا كان جزءاً من محيط كبير".
استعجبت أميرة:
"لم أقرأ يوماً عن هذا الموضوع".
سخر منها أحمد:
"غداً سنجد البروفيسورة أميرة قد حضرت لنا بحثاً عن هذا الموضوع".
لم ترد عليه أميرة الرزينة، فعقبت فرح بملل:
"هل سنذهب هناك لنشاهد عظام حيوانات ميتة؟ هذا ممل يا سالي".
تدخلت أنيسة وهي توبخ فرح:
"الدكتورة سالي".
ابتسمت سالي بتواضع لأنيسة دون اعتراض على هذا الأمر، ثم قالت:
"من قال إننا سنذهب لنشاهد الحفريات؟".
سألتها أميرة:
"وماذا سنفعل غير هذا؟".
"سنشاهد ذراع المجرة هناك".
"مجرتنا؟ درب التبانة".
أجابت سالي بابتسامة:
"نعم".
لمحت سالي الفضول في عيون بعض الأولاد، وتدخل أحمد بحماس:
"هل ذهبتِ من قبل؟".
"لا لم أذهب هذه ستكون أول مرة، ولكنها ستكون تجربة مذهلة أعدكم بذلك".
حاولت سالي أن تحمس الأطفال لهذه التجربة الفريدة من نوعها، ونظرت إلى نور تلقائياً، كانت الفتاة هادئة كعادتها، ولكن وكأن سحابة سوداء غطت على إشراقة وجهها، وهنا شعرت سالي باستياء شديد، فخرست ولم تتحدث مرةً أخرى، حتى سمعت لارا تقول بلهجة مفعمة بالدلال الطفولي اللطيف:
"ماما، هل تعلمين؟ اليوم مصروفي ضاع مني".
قال حسن وهو ينظر إلى أحمد:
"يبدو أن الجميع يضيع منهم مصروفهم هذه الأيام".
لم يرد أحمد على حسن وتجاهله كما فعلت معه أميرة، فقالت لارا:
"أتعلمون أين وجدته؟".
كانت سالي تستمع إلى حديث لارا بابتسامة، ومستعدة للظهور بصورة البطلة، لكن الطفلة نظرت إليها ثم قالت:
"كان مع الدكتورة سالي، سرقته مني".
ساد الصمت في الغرفة، ونظر الجميع إلى سالي التي تجمدت ابتسامتها وهي تنظر إلى الطفلة، فقالت سارة بسرعة وتلعثم:
"أبيه، ألم تخبرنا أن السارق يجب أن يُعاقب، عاقبها ولا تعطيها مصروف".
كانت الثعالب الصغيرة الماكرة توجه إليها أصابع الاتهام ظلماً، فنظرت سالي إلى الجميع في الغرفة، وقالت وهي تحاول نفي التهمة بصوت خافت مصدوم:
"لم يحدث هذا!".
وقبل أن تكمل حديثها، انفجر الجميع في الضحك، ولم يعطوا سالي الفرصة لتصحيح الموقف، حاولت ان تشرح بصوت عالٍ، ولكن الأصوات الصاخبة غطت على صوتها، أحمر خديها وشعرت بالإحراج الشديد، بكت سالي داخل عقلها، تلك الطفلة لارا إنها شريرة حقاً، هل هذا جزاء من يفعل خيراً؟ في وسط هذا الصخب، اقتربت سارة من خالد بشكل كبير كما تفعل في العادة، وسحبت الكمامة عن وجهه وهي تطعمه قطعة دجاج قائلة:
"أبيه هيا كل هذه الدجاجة من سارة".
ابتعد خالد عن الطفلة الصغيرة بسرعة خوفاً أن تلتقط العدوى منه، ولكن فات الأوان واللعنة قد حلت، وبدأت تنتشر خلال أيام في المنزل مثل النار في الهشيم، بدأ الأمر بسارة، وتتابع الأولاد المخالطين لها، فؤاد، لارا، وعليّ بالسقوط، ثم ليلى وأميرة وأحمد، والسيدة منى أيضاً التقطت العدوى هي وإحدى المربيات، تبقت ماريا، نور، حسن، رحيم، عبدالله، فرح، ليان ويحيى الذي تماثل إلى الشفاء للتو، هؤلاء لم يلتقطوا العدوي، ولكنهم أخذوا إجازة من مدرستهم حرصاً على عدم انتشار العدوى في المدرسة، وكان هذا أمراً ضرورياً جداً.
فرضت سالي حظر تجوال على جميع الأفراد في المنزل، ومنعت السيدة أنيسة من التواصل مع أي فرد، نظراً لكبر سنها. تم تقسيم المنزل إلى معسكرين، المرضى تم توزيعهم على غرفتين في الطابق الثاني، والباقين على شقة خالد بما أنه هو مصدر العدوى، ولكنه فضل عزل نفسه في الملحق بعيداً عن الجميع وهو يشعر بالذنب بما أنه المصدر، والباقون الذين لم يلتقطوا العدوى تم توزيعهم ووضع مسافات بينهم مع اتخاذ إجراءات الحماية على الرغم من سلامتهم. حمدت سالي الله لأنها لم تكن من الضحايا، فمن سيعتني بكل هؤلاء المرضى غيرها؟ كانت في الواقع متفهمة لهذا الموقف، لأنهم في موسم تكثر فيه الأمراض التنفسية، ولطالما واجهت هذا الأمر في المستشفى في مثل ذلك الوقت من السنة، وكان الاستقبال يمتلئ على آخره بالأطفال المرضى.
الأيام التالية مرت عليها كالجحيم، حرارة الأطفال لم تنخفض بسهولة، وكان عليّ هو أكثر من أرهقها بسبب مناعته المنخفضة، ساعدتها المربيات وذكية بإخلاص، كانت سالي تستيقظ في منتصف الليل لتتابع حالتهم، بكاء هنا وتأوه هناك، سارة تبكي، لارا مزاجية وتشبثت بملابس سالي وهي تئن:
"لا تتركيني".
حاولت سالي تهدئتها واحتضنتها بحب وهي تقول:
"لارا الجميلة ستكون بخير قريباً، ولكن عليها أن ترتاح في السرير، وأنا سأعود قريباً".
كانت سالي تشعر بالخوف من التقاط العدوى بسبب قربها الجسدي من الأطفال، فحاولت مضاعفة وسائل الأمان، لمنع العدوى بقدر الإمكان. أما بالنسبة لخالد فأصرت على الذهاب إليه في الملحق مع الست ذكية التي حضرت له غداءه، كان قد عاد للتو من العمل، ولم تكن حالته أفضل من حالة الأطفال، ولكنه حافظ على ثباته وتوازنه أمامهم وكان يتلقى اتصالاته ويجيب عليها بهدوء، على الرغم من حرارته المرتفعة التي وصلت إلى 39 درجة:
"مستر خالد الحرارة مرتفعة، عليك الحصول على قسط كافٍ من الراحة وليس العمل، خذ علاجك واستلقِ في السرير إذا سمحت".
قالتها سالي بصرامة وهي تشعر بأن أعصابها على المحك مع كل تلك الأحداث، فنظر إليها الرجل نظرة لم تستطع تفسيرها رداً على هذه النبرة الصارمة التي يراها تصدر منها لأول مرة، وقال برفق:
"أنا بخير ولا أشعر بأنني احتاج لأكثر من عدد ساعات نومي".
تنهدت سالي بيأس وقالت:
"إذاً هذا بروتوكول العلاج الخاص بك، من فضلك كن حريصاً على أخذه في وقته، وأكرر لك كلامي، أحصل على قسط من الراحة، وسأمر عليك مرةً أخرى غداً".
خرجت سالي من الغرفة بنفاد صبر وتركت الست ذكية تضع الغداء له، شعر خالد أن سالي كانت توبخه، وكان هذا جديداً على تلك الشابة الخائفة المتوترة، فابتسم وهو يتذكر حديثها، لقد تحولت إلى شخص آخر عندما ارتدت زي الطبيب، وكان هذا لائقاً عليها بشكل جذاب، وضع يده على رأسه، كانت حرارته مرتفعة بالفعل، ولكنه كان مصراً على عدم الاستلقاء حتى لا تأتيه تلك الكوابيس والهلوسة التي تستولي عليه في أيامه العادية.
صعدت سالي مع إحدى المربيات للمرة الخامسة في هذا اليوم إلى شقة خالد، فتحت باب الشقة بهدوء ودخلت الغرفة الأولى، وتأكدت أن ليلى وأميرة أخذتا علاجهما في الوقت المحدد، أمرت المربية بتجديد الكمادات لهما، ثم اتجهت إلى الغرفة التي يشغلها التوأم مع السيدة منى. أشفقت سالي على الطفلين اللذين يتأوهان بتعب ووهن، حاولت تغيير الكمادات للارا، لكنها كانت تصرخ بسبب برودة الماء، وبعد معاناة طويلة معها أخذت الطفلة دواءها وسقطت في النوم، وأعادت سالي الكرة مع شقيقها فؤاد، تنهدت سالي ثم اتجهت إلى السيدة منى التي كانت تنام ووجهها متجعد بألم وقلق والعرق يسيل على جبهتها، انتبهت سالي للمرأة وهي تلفظ بضع كلمات غير مفهومة، في البداية ظنت سالي أنها تناديها، ولكنها دققت النظر إليها لتجدها بالفعل نائمة، أخفضت رأسها أقرب إلى المرأة لتسمع ما تقوله:
"بني، سامحني..".
هذا ما استطاعت سالي تفسيره من الكلمات الغير مفهومة التي تنطقها المرأة، حاولت سالي أن تفسر باقي الكلمات ولكنها لم تفلح في ذلك، وأيضاً لاحظت أن المرأة ليست بخير، فوضعت سالي يدها كتفها وهمست:
"سيدة منى".
كانت المرأة غارقة في خيالاتها غير واعية بما يدور حولها، فأصرت سالي على ايقاظها حتى لا تقع أسيرة هلاوس المرض، وضعت المزيد من القوة في قبضتها وقالت:
"سيدة منى، استيقظي".
وأخيراً فتحت المرأة عينيها بفزع، ونظرت إلى سالي بعينين مغيبتين تاهئتين، قالت سالي:
"سيدة منى، ركزي معي أنا سالي".
وبالفعل استعادت المرأة تركيزها وتأملت سالي لثوانٍ، ثم لارا وفؤاد اللذان ينامان على السرير المجاور لها، تنهدت قائلة:
"هل الأطفال بخير؟".
"الحرارة مازالت مرتفعة، ولكنهم أخذوا علاجهم، كيف حالك الآن، أرى أن حرارتك مازالت مرتفعة".
قالت المرأة وهي تمسح عرقها:
"سأكون بخير قريباً، الأطفال هم الأهم".
قالت سالي بقلق وهي تتأملهم:
"لا تقلقي أنا أعتني بهم".
"هل تحتاجين مساعدتي؟".
"لا داع لذلك، أنا أحصل على المساعدة بالفعل من السيدة ذكية وإحدى المربيات، عليك أن تخذي قسط من الراحة".
في المساء وبعد مرورها للمرة الأخيرة على المرضى أمرت المربية لتذهب وتأخذ قسطاً من الراحة، ثم جلست هي على الأرض في الطرقة وازاحت الكمامة عن وجهها لستنشق نفساً عميقاً حبسته داخل رئتيها قليلاً ثم أخرجته بمهل، جلست على هذا الحال لعدة دقائق ثم نهضت واتجهت تجاه غرفة سيدة المنزل، رفعت سالي الكمامة على وجهها قبل أن تطرق الباب بخفة، وانتظرت قليلاً قبل أن تسمع الرد الخافت جداً، والباب الذي يفتح بخفة، كانت السيدة أنيسة ترتدي ملابس نومها:
"سالي؟".
ابتسمت سالي بإحراج وقالت:
"أعتذر عن مجيئي في مثل هذا الوقت".
أفسحت المرأة الباب بسرعة وهي تقول:
"تفضلي يا حبيبتي".
دخلت سالي الغرفة الخاصة بأنيسة لأول مرة، وحاولت ألا تتطفل بتأملها للغرفة أمام المرأة التي أشارت إلى كرسي تحت النافذة، فجلست عليه وهي تدفعه قليلاً إلى الخلف حتى لا يكون قريباً لأنيسة في حالة التقاطها العدوى، سألتها المرأة وهي تجلس مقابلها:
"هل الأولاد بخير؟".
"لقد جئت من عندهم للتو، حالتهم مستقرة".
سألتها المرأة بلهفة:
"وخالد؟".
تنهدت سالي وهي تقول:
"لا تقلقي مستر خالد مناعته جيدة، ولكنه يحتاج إلى الراحة فقط".
تفحصتها المرأة بدقة وسألتها:
"وأنت؟".
ابتسمت سالي بإرهاق، فلم تنم اليومين الماضيين ثمان ساعات متواصلين:
"أنا بخير، أحتاج فقط لأن أنام".
"لقد بذلتي مجهوداً كبيراً، أنا أقدر لك هذا".
قالت سالي بتواضع:
"هذا عملي".
نظرت سالي إلى الأرض بحرج، ثم رفعت رأسها وهي تقول:
"في الواقع، أود أن أتحدث معك في أمر ما، إن كان لديك الوقت".
نظرت سالي إلى الساعة تلقائياً ووجدتها العاشرة والنصف، فقالت المرأة بود:
"تفضلي يا عزيزتي".
عضت شفتيها المخبئتين تحت الكمامة ثم تكلمت بارتباك وهي تشعر بأنها مذنبة ونظراتها على الأرض:
"الحقيقة.. لا أعلم كيف أبدأ، ولكن هناك مشكلة تخص فرح، وبما أنني سأرحل قريباً من الواجب عليّ ابلاغك".
"أعلم".
رفعت سالي رأسها، وتأملت المرأة بحيرة وهي لا تفهم مقصدها:
"تعلمين ماذا؟".
"مشكلة فرح، حسن جاء وأخبرني بالأمس".
ارتبكت سالي وقالت:
"أعتذر لم أخبرك بالأمر بنفسي، كنت محتارة كما أنني وعدت فرح ألا أخبر أحدًا".
تنهدت أنيسة:
"لا تعتذري يا دكتورة أنا أتفهم الموقف وأثق بك تماماً، كما أنني وقعت في نفس الحيرة التي وقعتي فيها".
مرت لحظات من الصمت بينهم، ثم نظرت سالي إلى أنيسة وقالت:
"ذهبت إلى مدرسة فرح وتحدثت مع الفتيات".
تأملتها أنيسة باستغراب وهي تسألها:
"وماذا حدث؟".
"حذرتهم من الاقتراب منها".
تنهدت سالي بيأس وأكملت:
"بصراحة لا أعتقد أن هذا حل للمشكلة، هناك الكثير من الأمور النفسية التي تؤثر على فرح علينا أن نعالجها ايضاً".
ابتسمت أنيسة بحزن:
"لأصدقك القول، لم أتخيل ما حكاه لي حسن، هل تتذكرين عندما أخبرتك أن اليتيم لا ينسى أبداً انه يتيم، فرح هي أكبر مثال على كلامي، تلك الطفلة المسكينة لم تنس أبداً أنها يتيمة".
"علينا إذاً أن نعمل على إصلاح تلك المشاعر، لا يجب تركها لنفسها".
"هناك جروح يا حبيبتي تحتاج وقتاً لتشفى، وربما لا علاج لها أبداً".
قالتها المرأة هذا الكلام بحزن ووهن، فعجزت سالي عن الحديث.
نظرت المرأة إليها مباشرةً وهي تقول:
"كان عليّ أن أعلم تلك الطفلة كيف تتصالح مع حياتها، ويبدو أنني قصرت في ذلك".
فكرت سالي قليلاً ثم قالت:
"أقترح أن ندفعها للأنشطة التي تحتاج إلى المجهود البدني والذهني، وربما تواظب على الذهاب إلى النادي".
"فرح لديها عضوية في النادي بما أنها كانت تلعب كرة السلة، وحسن وأحمد لأنهما يلعبان الملاكمة، لا أعلم لماذا أهملناها؟".
تذكرت سالي طفولتها بحزن، لطالما تمنت أن يكون لديها عضوية في أي نادٍ كباق زملائها، لذلك كانت شغوفة بتلك الفكرة لحل مشكلة فرح. وفجأة رفعت رأسها عندما تذكرت أمراً ما:
"مستر خالد يشك في الأمر".
رفعت أنيسة حاجبيها باستغراب، وظهر الضيق على وجهها:
"لا تخبريه، رد فعله لن يكون مناسباً لو علم بالأمر، كما أن هذا سيحرج فرح أمامه، تعاملي أنت الآن مع الموقف واتركِ الباقي لي".
تترك الباقي لها؟ تساءلت سالي كيف ستتصرف أنيسة مع فرح، استولت عليها الغيرة، وبدأ الطمع لحل تلك المشكلة يسيطر عليها.
قالت أنيسة وهي تتأمل سالي بامتنان:
"هل تعلمين؟ وأنا أراك الآن مهتمة بمشكلة فرح، أطمح أن تغيري رأيك ولا تذهبي".
ضاق قلب سالي وهي تفكر في رحيلها، فقالت وهي تنظر بتوتر وخجل إلى أنيسة:
"سيدتي هل أستطيع الحديث معك براحة؟".
"نعم حبيبتي أخبريني بما يدور في رأسك، يبدو عليك الحيرة".
كان صوت أنيسة دافئ، مما جعل سالي تبتلع غصة وتتحدث بصوت خافت وهي تشبك كفيها:
"في الحقيقة.. لا أريد الرحيل عنكم، أريد البقاء هنا".
"وما الذي يمنعك؟".
أخفضت رأسها حتى لا تلمح أنيسة عينيها الدامعتين:
"لا أعلم، على العودة إلى البيت لأقابل شخصاً ما"
أنزلت أنيسة رأسها وهي تدقق النظر في وجه سالي وقالت بابتسامة:
"عريس؟".
رفعت سالي رأسها وأومأت وهي تلمح من المرأة ملامح يأس لم تدم إلا ثانية. سألت أنيسة سالي:
"وما موقفك؟".
أجابت سالي بهدوء وهي تتأمل يديها المتشابكتان:
"لا أعلم، لا أعتقد أنني جاهزة".
"إذاً ارفضيه من الباب".
"لا أستطيع، بابا مصمم على مقابلته".
مرت ثوان من الصمت قطعته أنيسة بابتسامة مرحة فيه القليل من المكر:
"إذاً لنطفشه".
نظرت سالي إلى المرأة الماكرة باستغراب، كان وجهها العجوز الشاحب قد استعاد حماسه وقالت:
"أنت تجلسين أمام خبيرة تطفيش".
ابتسمت سالي وتحولت الابتسامة إلى ضحكة وهي تتأمل المرأة باندهاش:
"لماذا هذا الاندهاش؟، لا يليق بي هذا المكر؟".
أومأت سالي فقالت المرأة:
"أنا لست ملاكاً يا سالي، لقد مررت بتلك المرحلة في مثل عمرك، ولم يستطع أحد اجباري على شيء لا أرغب به".
تلاشت الابتسامة عن سالي وقالت بوجوم:
"لا أعلم كيف اتصرف".
"اذهبي".
أكملت المرأة:
"اذهبي وواجهي الأمر بشجاعة، وإن لم يرق لك هذا الشخص فأرفضي".
"بهذه البساطة؟".
أكدت المرأة وهي تهز رأسها بابتسامة:
"نعم بهذه البساطة، إن كنت شخص قوي ولديك كلمة صريحة وواضحة لا يستطيع أحد إجبارك، حبيبتي في هذه الأمور رأيك هو الأهم والأوقع، وعلى الأهل تفهم ذلك".
أمسكت المرأة يدها بحنان، والعرق بدأ يتصبب على جبينها، ثم قالت بصوت فيه نبرة مجهدة:
"اذهبي حبيبتي، هذه حياتك عليك أن تتولي زمام أمورها بنفسك، وإن لم يعجبك هذا الشخص فارفضيه، ولكن أعطيه فرصة، ربما يكون هو نصيبك".
كان هناك واقعية وموضوعية في كلام المرأة جعلاها تخفض رأسها وتومئ موافقة وهي تفكر في هذا الحديث، قطع تفكيرها صوت المرأة المرهق المتألم:
"سالي..".
نظرت سالي المنشغلة بالتفكير إلى المرأة التي تكون العرق على جبينها، ولاحظت أنها تجلس دون راحة، وفجأة نهضت المرأة واتجهت بسرعة إلى الحمام لتستفرغ، لحقتها سالي بسرعة وأمسكت بالجسد الهزيل تسنده حتى لا يقع، بعدها بلحظات انتهت المرأة وساعدتها سالي لتغسل وجهها، ثم الذهاب إلى السرير والراحة:
"كيف تشعرين الآن".
ابتسمت أنيسة رغم الإرهاق على وجهها وقالت:
"أنا بخير، ربما التقطت العدوى".
تفحصت سالي حرارتها، ولكنها لم تكن مرتفعة:
"ليس لديك حرارة".
أمسكت المرأة معصم سالي وأبعدته بلطف وهي تقول:
"لا تقلقي أنا بخير، اذهبي أنت للنوم فالوقت قد تأخر".
شعرت سالي بأن المرأة مرتبكة، ولكنها احترمت رغبتها وقالت:
"حسناً سأذهب الآن، ولكن لو ارتفعت حرارتك في الليل اتصلي بي".
"حسناً عزيزتي تصبحين على خير".
نظرت سالي إلى المرأة بحيرة وقالت:
"تصبحين على خير".
خرجت الطبيبة الشابة من الغرفة بهدوء، واتجهت هي أيضاً إلى غرفتها وهي تشعر بالقلق على المرأة.
***
جلست سالي في غرفتها تفكر بعمق، كانت مقتنعة تماماً بأن مشكلة فرح لها علاقة بالوحدة والفراغ اللذان تشعر بهما الفتاة، وتذكرت تلك الرسالة التي قرأتها من قبل "رسالة إحسان عبد القدوس لأبنته المتخيلة" هذه الرسالة تتبادر إلى ذهنها منذ عدة أيام:
[إن الإنسان الحر يحتاج إلى قوة لا يحتاج إليها الإنسان العبد.. قوة نفسية وذهنية، والحرية ليست فراغاً إنما هي حقل بناء مزدحم بالعمل تحاولين فيه بناء شخصيتك وبناء ذهنك، وقد زودتك بكل أدوات البناء.. زودتك بالعلم، والفن لتري من خلالهما نفسك على حقيقتها.. لتري أنك لست وجهاً فقط أو جسداً رشيقاً، ولكنك روح جميلة وعقل جميل، وقد جمعت الكتب والأسطوانات أشتريها لكم من قبل أن تولدوا، لأني أؤمن بأن الكتاب والأسطوانة كالبودرة والروج تتزين بهما الفتاة وتزداد جمالاً، وكالعضلات بالنسبة للشباب يزداد بها قوة وشباباً.. وعودتك على الذهاب إلى النادي لا لتبحثي لنفسك عن عريس، بل لتري مجتمعاً فيه كل الأنواع، الراقي والانحطاط، حتى أعرضك من صغرك لتجارب الحياة وأحميك من الفراغ].
لم تنس سالي أبداً تلك الرسالة الجميلة التي جعلتها تفكر بحكمة في مشكلة فرح، وهنا كان عليها البدء مع الفتاة من الصفر، ومال عقلها أكثر خلال الأيام الماضية للبقاء مدة أكبر في المنزل، كان هذا تحد لها وعليها أن تنتصر فيه، لم تأخذ قراراً نهائياً بعد، ولكنها صارت مقتنعة بضرورة البقاء. ظلت تبحث على الأنترنت عن أفكار لأنشطة ربما تساعد فرح في التخلص من مشكلتها، ولكن كلها تعتمد على فرح، لو أرادت تلك الطفلة التغيير فستفعلها، وعلى سالي أن تساعدها في ذلك.
وبالفعل أخذت سالي الخطوة الأولي، وفي اليوم التالي دخلت فرح غرفة الموسيقى ووجدت رحيم وسالي يتحدثان باهتمام وكل يعبث بآلته الموسيقية، كانت سالي قد استدعتها للقدوم إلى غرفة الموسيقى.
مسحت فرح على رأس أخوها برفق وقالت:
"ما أخبار الفنان الخاص بنا؟".
ابتسم رحيم لأخته بخجل، ثم قال بعدها بحماس:
"تعالي يا فرح أسمعي هذه النوتة".
جلست الفتاة باهتمام، وبدأ الفتى يعزف نوتة قطر الندى، تعرفت عليها فرح بسرعة ونظرت الي سالي التي ابتسمت لها وقالت:
"ما رأيك أن تغنيها بما أن صوتك جميل، وسأعزفها أنا على العود بما أن رحيم لازال يتعلمها".
قالت بفرح بحيرة:
"لكني لم أحفظها".
نظرت إلى أخوها وقالت بخجل:
"ولم أغني أمام أحد من قبل".
"سأكرر لك الكلمات".
وبالفعل حفظت فرح المطلع أولاً، وغنته بصوتها الجميل الدافئ، وبعد الانتهاء صفق لها رحيم مشجعاً، فسألتهم سالي:
"هل تعرفان ما قصة تلك الأغنية".
نظر الأثنان إلى بعضهما البعض، فحكت لهم سالي قصة: 'أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون' الملقبة 'قطر الندى' والتي تزوجت من الخليفة العباسي 'المعتضد بالله'، وزفافها الأسطوري الذي تحاكت به كتب التاريخ، حكت لهم عن جهاز العروس الخيالي الذي صنع من الذهب، وموكبها الذي امتد من القاهرة إلى بغداد حيث وصل الموكب إلى بغداد ليلاً بين آلاف الشموع والمشاعل، عشقت سالي تلك القصة وهي صغيرة عندما حكتها لها والدتها، ولطالما تمنت أن يكون عرسها كقطر الندى، عرسا خياليا مليئا بالأضواء والشموع. تفاعلت فرح مع القصة بعيون مذهولة وكانت تسأل عن التفاصيل بنهم وحزنت عندما علمت نهاية قطر الندى الحزينة.
وهنا كانت البداية لفرح مع هذا العالم الجميل الذي فتحت سالي أبوابه لها
***
في وقت ما من الليل، تسلل الشخص مرةً أخرى إلى غرفة المكتب وأخرج من جيبه سلسلة مفاتيح، أختار أحدهم وجرب فتح الدرج الذي لم يستطع فتحه من قبل، ولكنه لم يكن المفتاح الصحيح، أخذ نفساً عميقاً وصعباً بسبب المرض ثم جرب مفتاحاً ثانياً وكان هو المراد، فأضاءت عيني الشخص عندما سمع صوت فتح القفل ومد يديه إلى الدرج وأخرج ملفاً أبيض اللون مكتوب عليه رواتب الموظفين، وأخرج من كل مظروف داخله ورقة أو ورقتين ثم أعاده مرةً أخرى، وأغلق الدرج مرةً اخرى وبدلاً من أن يعيد المفتاح إلى جيبه، وضعه بحرص على المكتب وخرج من الغرفة بهدوء كما دخل إليها.
***
تفقدت سالي جميع المرضى، كانوا قد بدأوا في استرداد صحتهم واستعادة نشاطهم، ما عدا علي الذي يرقد الآن لأكثر من أربعة أيام، ركض الأطفال حولها بشقاوة مبرهنين على ذلك، وتركتهم سالي للمربيات ونزلت إلى المطبخ مباشرةً، كانت تشعر بالجوع الشديد، ووجدت نور في المطبخ الداخلي مع الست ذكية:
"صباح الخير".
ردت عليها ذكية، والتفتت نور بابتسامة تجاه مصدر الصوت الذي تعرفت عليه وحيتها برقه:
"صباح الخير يا دكتورة، كيف حال الجميع؟".
كانت الفتاة تُمسك بسكين وكأنها تقطع شيء ما، فنظرت سالي إلى ذكية بريبة، ولكن المرأة طمأنتها بغمزة واشارت بيدها ألا تقلق، نظرت سالي حولها وهي تسأل ذكية:
"أين ندى وإسراء؟".
"سافروا إلى البلد لزيارة العائلة، سيعودون بعد يومين".
افتقدت سالي الفتاتين المُسليتين، لو كانتا هُنا لكان الجو صاخب ومُمتع، التفتت إلى نور المُستغرقة في عملها، فذهبت بفضول لترى ما تقوم به ونبهتها قبل أن تقترب منها حتى لا تُفزع الطفلة قائلةً:
"هل تسمحين لي أن أرى ما تقومين به يا نور؟".
تحرك وجه نور إليها وشعرت سالي بإحساس غريب أن هذه الطفلة تراها، قالت الفتاة بصوت الرقيق الهادئ:
"بالتأكيد".
كان تقطيعها للطعام يُجاري إلى حد ما تقطيع شيف مُتمرس، ولكن سالى راقبت أصابعها خوفًا من أن تؤذي نفسها. تدخلت السيدة ذكية وهي تقول بخفة روحها:
"بما أنه تم إلغاء رحلة وادي الحيتان، نور قررت أن تطبخ لنا الغداء اليوم".
تحدثت سالي بحماس وهي تجلس وتستند على الرخام الخاص بالمطبخ:
"حقاً؟ ماذا ستطبخين؟".
قالت الفتاة بهدوء وهي تتحسس بيدها:
"الكالزوني".
"أنت تطبخين الوصفات التي لم أجربها من قبل، أتعلمين؟ أصبحت أشعر بالغيرة منك فقد تمنيت من قبل أن أتعلم الطبخ".
أضاءت عيون الفتاة الميتة عند هذه الجملة وقالت بهدوء في مُحاولة لكبح حماسها:
"حقًا؟".
"حقًا".
قالت الست ذكية:
"اذاً يجب ان تكون نور استاذتك يا دكتورة".
قالت سالي وهي تلتفت إلى ذكية:
"هل هناك ألطف من هذا الأمر؟ سأحب ذلك بالتأكيد!".
ثم التفتت إلى نور:
"وأنت ما رأيك، يا نور؟".
ابتسمت الفتاة في خجل وكان هذا فقط ردها، فسألت ذكية:
"هل أنت جائعة يا دكتورة؟".
ردت سالي كاذبة، ومعدتها تتلوى من الجوع:
"لا، سأنتظر الجميع".
نهضت ونظرت من نافذة المطبخ تتأمل الحديقة والدفيئة المُغلقة:
"تلك الدفيئة، ألا يدخلها غير السيدة أنيسة؟".
انتبهت ذكية لها وقالت:
"مستر خالد فقط، من النادر أن يدخلها أحد خاصة من الأطفال".
فسألتها سالي:
"لماذا؟".
تدخلت نور قائلة:
"ماما تعتز بها جداً، والأولاد لو دخلوها سيخربونها".
سألت سالي بفضول:
"ما المزروع فيها؟".
"أزهار نادرة حصلت عليها السيدة بصعوبة".
تحمست سالي لدخول الدفيئة، ولكنها شخص لا يحب التطفل، فتأملتها لثوانٍ ثم حولت نظرها إلى نافورة الطاووس الرائعة، ولكن لفت نظرها شيء ما بجوار النافورة، لترى أحد الأطفال من بعيد يعطيها ظهره وينحني، فرمشت بعيونها وضيقتها لعلها تستطيع تحديد هويته ولكنها لم تستطع، لتستأذن وتخرج من باب المطبخ تجاه النافورة، وعندما اقتربت صدر منها صوت خشخشة بسبب العشب، فانتبه الطفل والتفت فوراً، كان عبدالله. وقف الأثنان مُتفاجئان لثانية، ثم ابتسمت سالي بود وقالت له:
"صباح الخير عبدالله، ماذا تفعل؟".
لم يرد عليها الفتى ونظر إليها ببرود وهو يحاول أن يخفي شيء وراء ساقيه، وعندما انتبهت سالي، تحدث الفتى بخشونة في مُحاولة لتشتيت انتباهها لما وراء ساقيه:
"لا شيء".
ولكن سالي كانت مُتأكد أن هُناك شيء يتحرك وراء ساقي الفتى، فقالت وهي تنظر إلى وجهه بريبة:
"حقاً؟".
حرك الفتى ساقيه مرةً أخرى، ولكنها حدث ما لم يتوقعه، داس بالخطأ على ذيل حيوان، فسمعت سالي صوت مواء، ثم رأت قطة تركض بعيداً مُتألمة. نظر عبدالله وراءه مُتفاجئاً وركض خلفها وهو يقول:
"انتظري!".
حاول الفتي أن يلحق الهرة الصغيرة ذات اللون العسلي، ولكنها راوغته واختفت بين الأعشاب، وبعد أن يأس من العثور عليها، عاد إلى سالي، وما حدث بعد ذلك لم تتوقعه الطبيبة الشابة ولم يخطر على بالها في تلك الثانية.
***
[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: سالي
الرسالة: مرحباً، لا أعلم ما هو قصدك بهذا السؤال، هل تريد تصعيب الأمر عليّ بهذه الأسئلة المختصرة؟ أم هل أنت وحيد في مثل هذا الوقت الذي كتبت فيه الرسالة؟ هذه الوحدة الرمادية الصامتة، حيث الجميع حولك وأنت لا تسمعهم؟ أتمنى ألا تكون كذلك، فالوحدة المفروضة علينا حقاً أمر لا يطاق، ولكني لا أعتقد أن هذا مقصدك من السؤال، لذا سأجيب عليه من منطلق آخر.
أنا أرى للوحدة شقان أو وجهان، الشق الأول وهو وحدة مفروضة علينا وليست باختيارنا، وهذا شق أكره لأنه يعاكس إرادتي، حيث يستولي عليّ شعور بالانعزال حتى عندما أكون محاطاً بالناس. أتعلم هذا الصمت الذي يملأ الفراغات بين الكلمات والأصوات، ويصم أذنيك عمن حولك، هذا الشق من الوحدة عندما يستولي علي يجعلني أشعر بالخوف والحزن. والشق الآخر والذي يكون باختياري وارادتي وهذا لا أكرهه، هو مرآه تعكس أعماق نفسي ووجهي الحقيقي، وأحياناً أرى فيه وجهاً لا أعرفه. أشعر أنه هذا الشق من الوحدة وكأنه يسحبني إلى رحلة أبحث فيها عن ذاتي، وأواجه فيها مشاعري الخاصة والماضي الذي أتمنى التصالح معه. هذا كان تعريفي المبسط للوحدة، وأنت هل تعتقد أن الوحدة تكشف لنا حقيقة أنفسنا؟ وهل يمكن أن تكون وسيلة للشفاء والنمو؟
أتمنى ألا أكون قد أثقلت وأفرط في الرد، واتمنى أن تجيب على سؤالي لنستكمل هذا النقاش.
مع خالص الاحترام
سالي]
نهاية الفصل الحادي عشر
***
* أهلاً قرائي الأعزاء الفصل الحادي عشر خلص الحمدلله فيه فكرة مهمة حبيت أناقشها في الفصل تخص مشكلة فرح والعادة اللي اكتسبتها، حاولت أناقش واحد من الحلول اللي أنا مقتنعة بيها وهي ضرورة انشغال الأطفال والمراهقين في هوايات ونشاطات لحمايتهم من اكتساب عادات سيئة طبيعي انهم يكتسبوها من المجتمع المحيط بهم خاصة المدرسة، اللي حابب يعرض فكرة تانية يقولها، هكون سعيدة جدا.
* هل البرد اللي تفشى في المنزل بداية من ماريا وانتهاء بعلي خلص ولا لسه حد مجالوش برد؟ توقعوا انتوا.
* ملاحظة مهمة، خالد نادراً ما يغضب من الأولاد ودائماً بيكون صبور، ولكن لما بيفقد أعصابه بيكون صارم جداً، زي ما حصل مع حسن وهو صغير، علشان كده أنيسة مش حابة أنه يعرف مشكلة فرح واللي هتبقى أكيد محرجة قدامه.
* عندما يمرض خالد يفضل الاختلاء بنفسه في الملحق والابتعاد عن السرير لأنه يصاب بالهلوسة ويتحدث أثناء مرضه بكلام غير مفهوم.
* الفترة دي كنت نشطة جداً في الكتابة ادعولي أكمل على نفس الرتم، وخليكوا متفهمين ان تأخري بسبب شغلي وحياتي، ولكن للكتابة في قلبي مكان غالي ومهم.
* عايزة أوضح حاجة، المفروض ان الفصل العاشر والحادي عشر والثاني عشر يبقوا فصل واحد بس معرفتش لأنه كان هيبقى طويل جداً من 20000 كلمة، فطبعاً قسمتهم على 3 فصول.
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
المدونة:
https://hakayalaa.blogspot.com/p/main-page.html
رواية المنزل:
https://hakayalaa.blogspot.com/p/blog-page.html
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم
قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق