رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل التاسع والثلاثون
ياريت وانتوا بتقرأوا الفصل تبقوا مدركين ان كل شخصية بتحركها دوافع، صحيحة أو خاطئة. شكراً
فضلاً، متنسوش الvote.
المزيكا انهاردة تتر مسلسل وجه القمر، من أكتر المقاطع اللي حستها شبه الفصل ده.
***
حدّق حسن في وجه خالد الذي كان يحمل تورم واضح واحمرار يمتد عبر خده حيث ارتطمت قبضته. لم يكن قد قصد إيذاءه بهذا الشكل، لكنه في تلك اللحظة لم يكن يرى سوى خيبة الأمل والغضب اللذين اجتاحاه دون رحمة. مرت لحظات ثقيلة، لم يقطعها سوى صوت أنيسة المتعب والمليء بالهموم:
"خالد، حسن عرف حقيقة منى."
رفع خالد بصره نحوها، ثم أعاد عينيه إلى حسن ببرود، وصوته جاء هادئًا لكنه مشحون بتأنيب خفي:
"أعلم يا ماما، وهرب بعدها. لكن هذا آخر مكان كنت أتوقع أن أجده فيه."
ثم نظر إلى حسن مباشرةً، محاولًا قراءة ملامحه المتوترة، قبل أن يتابع بحدة مموهة بالهدوء:
"هل جئتِ لتطالبها بالحقيقة؟ أمرك غريب، مع أني حاولت أن أوضح لك، لكنك لم تمنح أحدًا الفرصة."
شعر حسن بوخزة في ضميره، كان هناك عتاب واضح في صوت خالد، لكنه لم يكن مستعدًا للاعتراف بذلك بعد. حدّق في الأرض للحظات، محاولًا إخفاء الذنب الذي بدأ يتسلل إلى قلبه، لكنه سرعان ما رفع رأسه مجددًا، وكأنه قرر مواجهة الموقف بشجاعة. دون أن ينبس بكلمة، تجاوز خالد متجهًا نحو الباب وقال بصوت هادئ لكنه حاسم:
"استأذنكم."
لم يكد يخطو خارج الغرفة حتى شعر بيد خالد توضع برفق على كتفه، ليستمع إلى صوته الجاد:
"إذا كنت تخطط لعدم العودة إلى المنزل، فاذهب إلى أحمد واقضِ الليلة معه في المستشفى. سأتصل بهم ليُسمح لك بالمبيت بجواره."
قالها خالد، ثم أسقط يده عن كتف حسن وهو يراه يغادر الغرفة بهدوء، مغلقًا الباب وراءه. ظلّ خالد يحدّق في الباب للحظات، غارقًا في أفكاره.
تنهدت أنيسة وسألته بقلق:
"خالد، هل تشاجرتما؟"
استدار خالد إليها، ونظر إليها بنظرات هادئة قبل أن يرفع يده ويمسح على خده المتورم متألمًا، ثم قال بنبرة ساخرة رغم الإرهاق الذي يثقل صوته:
"لم أتخيل أن قبضته ثقيلة هكذا.. ربما يجب أن أقنعه باعتزال تلك الرياضة، لا أريد أن أكون أحد ضحاياه مجددًا."
رغم كل شيء، لم تستطع أنيسة منع ابتسامة صغيرة من التسلل إلى شفتيها، لكن سرعان ما تلاشت مع عودتها إلى الواقع الجاد:
"أنت تمزح في وقت صعب كهذا، أخبرني ماذا حدث بالضبط؟"
تنهد خالد واتجه إلى أقرب كرسي، ثم جلس وأراح رأسه إلى الخلف، كأنه يحاول جمع أفكاره، قبل أن يجيب بصوت مرهق:
"يبدو أن الست منى نفد صبرها.. وقررت أن إخباره بالحقيقة لم يعد يحتمل التأجيل، بغض النظر عن الطريقة أو التوقيت، ودون أن تمنحه حتى فرصة لاستيعابها."
رمقته أنيسة بنظرة ثاقبة، وكأنها تحاول أن تخترق جدران صدره لترى ما بداخله. وبهدوء سألت بصوت خافت وجاد:
"هل آذيتها بكلامك الجاف؟"
أدار خالد وجهه قليلاً، متجنبًا عينيها، ثم زفر ببطء قبل أن يعترف بنبرة يملؤها الندم:
"أعتذر.. لم أتمالك أعصابي، وانفعلت عليها."
أغمضت أنيسة عينيها للحظات، وكأنها تحاول استجماع قواها المنهكة. زفرت بعمق، رغم الضعف الذي يثقل جسدها، ثم تمتمت بيأس:
"يا إلهي! ماذا سيحدث الآن؟"
ساد الصمت بينهما، ثقيلًا كالرصاص، حتى قررت أنيسة كسره. التفتت إلى خالد، تأملته قليلًا قبل أن تقول بصوت دافئ لكنه يحمل في طياته رجاءً دفينًا:
"خالد، لدي طلب أريدك أن تحققه لي."
عقد خالد حاجبيه، وهو يحدّق فيها بريبة، عاقدًا ذراعيه أمام صدره، ثم سأل بصوت هادئ لكنه حذر:
"ما هو؟"
لم ترد فورًا، بل اكتفت بالابتسام، ابتسامة تحمل في طياتها الكثير من المشاعر. أخذت نفسًا عميقًا، ثم مالت نحوه قليلًا وأملت عليه رجاءها، بصوت خافت يكاد يكون همسًا.
***
رفعت ماريا كفيها الصغيرين في الهواء، تحركت بحماس وهي تحاول اللعب مع منى، لكن الأخيرة لم تستجب لمشاغبتها، بل اكتفت بإحكام قبضتها على زجاجة الحليب، مثبتة إياها في فم الطفلة التي راحت تشرب بنهم. مرّت دقائق من الصمت، لم يُسمع خلالها سوى صوت المصّات الصغيرة وهدير أنفاس الطفلة المتقطعة، قبل أن يقطع السكون طرقٌ متتابعٌ على باب الغرفة.
لم ترفع منى عينيها نحو الباب، فلم تكن ترغب في استقبال أحد بداية من ذكية حتى الأطفال، لكن هذه المرة الطرق استمر بإلحاح، مما جعلها تزفر بضيق قبل أن تهمس بصوت منخفض لكنه مسموع:
"تفضل."
انفتح الباب بهدوء، وتسللت منه خطوات هادئة، أعقبها إغلاق الباب. لم تُكلف منى نفسها عناء النظر إلى الطارق، لكن حركة ماريا المفاجئة والمتحمسة نحو القادم، جعل عينيها تتابعان الطفلة بغير اكتراث، لتقع أخيرًا على وجه سالي، التي وقفت أمامها بنظرة محايدة وصوت مهذب:
"هل تسمحين لي بالجلوس؟"
لم ترد منى، لم تُبدِ حتى إشارة بالقبول أو الرفض، لكن سالي لم تنتظر، بل سحبت مقعدًا وجعلته مقابل المرأة الصامتة. مرّت لحظات ثقيلة، لم يقطعها سوى صوت ماريا التي هبطت من بين ذراعي منى وتنقلت بخطوات متعثرة، ضاحكة أحيانًا، ومتعثرة أحيانًا أخرى. كان الجو متوتراً، كأن الغرفة صارت أصغر مما هي عليه، حتى جاء صوت منى ليكسر الصمت، همست ببرود دون أن تنظر مباشرة إلى سالي:
"أنا لا أحبك."
اتسعت عينا سالي للحظة، وكأنها لم تصدق أنها سمعت هذا التصريح المباشر والصادم، لكنها سرعان ما استجمعت هدوءها، أسندت ظهرها إلى الكرسي وأجابت بصوت ثابت، كمن كان يتوقع هذا العداء منذ زمن:
"شعرت بذلك منذ اليوم الأول، لكني لا أفهم السبب حتى الآن."
رفعت منى حاجبها، كأنها تفكر في كيفية التعبير عما بداخلها، ثم قالت بصراحة أكثر:
"أنتِ تستفزيني."
"أستفزك؟" سألت سالي بدهشة، وهي تحاول استيعاب ما تقوله المرأة الجالسة أمامها.
"نعم."
تقدمت سالي قليلاً للأمام، وضمت يديها معًا فوق ساقيها، ثم سألت بهدوء يحمل في طياته القليل من الحذر:
"هل لي أن أعرف السبب؟ ماذا فعلتُ لاستفزازك؟"
زفرت منى بضيق، عيناها تحملان شرارات مكبوتة من مشاعر متداخلة لم تفهمها هي نفسها تمامًا، لكنها قالت أخيرًا:
"لا أعلم، هذا الشعور يطاردني منذ اليوم الأول الذي رأيتكِ فيه. تبدين متغطرسة، تحاولين جذب الجميع حولك، الست أنيسة، الأطفال، وحتى حسن.."
أنتهت منى آخر كلمة بحزن، فتوسعت عينا سالي بذهول: "أنا؟"
"نعم، لا تمثّلي دور البريئة. هل لديكِ خطط للبقاء في هذا المنزل لفترة طويلة؟"
هنا، شحب وجه سالي قليلاً، وحدقت في منى غير مصدقة لما تسمعه. كيف يمكن أن يصل الشك إلى هذا الحد؟ سألتها بصوت منخفض لكنه مشحون بالاستنكار:
"ماذا تقصدين؟"
لكن منى لم تكن في مزاج لتوضيح أكثر، بل قالت مباشرة، وعيناها تحملان نظرة شك نافذ:
"أنت ومستر خالد.."
كان وقع الاسم واضحًا، وكأنها ألقته كحجر في بحيرة راكدة، منتظرة أن ترى كيف سيتحرك الماء. شعرت سالي بغيظ مكتوم، عجزت لوهلة عن الرد، لكنها سرعان ما تماسكت، تطلعت إلى المرأة أمامها بشيء من الغضب الممزوج بالدهشة، ثم زفرت بقوة وقالت، بصوت حاولت أن تجعله متزنًا:
"أنتِ حقًا إنسانة غريبة.. لا أفهمك!"
كانت كلماتها مشحونة بإحساس لم تخفه، لكنها سرعان ما أضافت بجملة خرجت منها بعفوية تامة:
"وأنا أيضًا لا أحبك."
رفعت منى حاجبها باهتمام، متوقعة المزيد، فأكملت سالي بحدة مكتومة:
"لم أحبك منذ اللحظة الأولى التي دخلتُ فيها هذا المنزل، لكنني على الأقل أملك أسبابًا واضحة لذلك."
مال رأس منى قليلًا، وكأنها تطلب تفسيرًا، فتابعت سالي بنبرة أكثر جدية:
"لأنني شعرت بعدائك تجاهي، وشعرت بأنكِ لا تريدين وجودي هنا، رغم أنني لم أفعل شيئًا لكِ، ولم أوجه لكِ أي إساءة."
ساد الصمت للحظات، لم تتحرك فيه سوى ماريا التي أخذت تثرثر بلغتها الطفولية غير المفهومة، بينما تبادلَت المرأتان نظرات مشحونة، كلٌّ منهما تحمل في داخلها الكثير مما لم يُقل بعد. أضافت سالي بهدوء، وعيناها لا تزالان معلقتين بوجه منى المتجهم:
"ولكن، أنا لم أكرهكِ أبدًا."
ألقت منى ضحكة مستهترة، قصيرة وجافة، كأنها لم تجد في كلام سالي سوى سذاجة مثيرة للسخرية. أشاحت وجهها بعيدًا عنها، متظاهرة بالانشغال بمراقبة ماريا التي كانت تلعب بالقرب منهما. أما سالي، فزفرت أنفاسًا ثقيلة، محاولة كبح غضبها، قبل أن تتكلم بنبرة جادة وحازمة:
"ست منى، اسمعيني جيدًا. لنضع مشاعرنا تجاه بعضنا البعض جانبًا لبعض الوقت ونتحدث بعقلانية. لقد جئت إليكِ لأناقش أمر حسن، حتى نجد حلًا لمشكلته."
التفتت منى إليها بسرعة، وعيناها تشتعلان بشراسة كأنها تحذرها من الاقتراب أكثر:
"أنتِ لا دخل لكِ بحسن! هذا ابني أنا!"
تغيرت ملامح سالي، وتحدثت بصوت ناعم لكنه مشوب بشفقة:
"أعلم، ولهذا جئتُ إليكِ."
حدقت بها منى بغضب، وكأن كلماتها لم تقنعها أو ربما لم ترد الاقتناع، قبل أن تعقد حاجبيها وتقول بحدة:
"لا أحتاج منكِ مساعدة. هذا يكفي، ابتعدي عني.. وعنه!"
تجمدت الكلمات في حلق سالي، لم تجد ردًا سريعًا، واكتفت بالنظر إليها بعجز، لكن قبل أن تستطيع قول شيء، عادت منى تتحدث، هذه المرة بنبرة غاضبة لكنها تحمل في طياتها حزنًا دفينًا، كأنها تبوح بسر لم ترغب يومًا في الاعتراف به:
"أنتِ لا تعلمين كيف أشعر وأنا أراكِ تتحدثين معه بود.. كيف ينظر إليكِ بسعادة وراحة، لا يمنحني أنا إياهما."
تجمدت سالي في مكانها، شعرت وكأنها اكتشفت فجأة دواخل منى الحقيقية، ما وراء تلك القسوة والتجهم، الغيرة كانت تلتهمها ببطء.
واصلت منى بصوت متهدج، وكأنها تعترف بما حاولت إنكاره طويلًا:
"حتى الابتسامة.. لم أحصل عليها منه يومًا. وأنتِ، الغريبة، حصلتِ عليها بسهولة!"
ثم رفعت عينيها إلى سالي، نظرة محملة بالغضب والمرارة والحقد، قبل أن تكرر بصوت منخفض لكنه مسموم بالمشاعر المكبوتة:
"أنا أكرهكِ!"
أما سالي، فلم تبدُ عليها الدهشة، لم تتراجع أو تُظهر أي ضعف. فقط ثبتت نظراتها على المرأة الجالسة أمامها، قبل أن تتحدث بنبرة هادئة:
"وأنا جئت لأساعدكِ. اسمحي لي بذلك."
رغم الغضب القابع خلف عيني منى، تابعت سالي كلامها بنفس القوة:
"يجب أن تفهمي جيدًا أنني لا أملك أي مصالح في هذا المنزل، لا أسعى إلى شيء لنفسي. أنا فقط أريد المساعدة بقدر استطاعتي، خاصة في غياب الست أنيسة ومستر خالد، أريد أن أمنح حسن مفتاحًا، مبررًا يستطيع التمسك به لفهم الموقف.."
توقفت للحظة، ثم شددت على كلماتها الأخيرة وهي تنظر بعمق إلى منى، محاولة اختراق جدرانها المتماسكة:
"وأنتِ وحدكِ من تملكين ذلك المفتاح."
رمقتها منى بعينين تضيقان بالغضب والمرارة، قبل أن تنفجر بصوت مشحون بالحسرة والسخرية:
"وما هي المساعدة التي ستقدمينها لي؟ هل ستجبرينه على حبي؟!"
ثم تابعت بحدة، وعيناها تقدحان شررًا:
"هل تظنين أن الأمر بهذه السهولة؟! هل تظنين نفسكِ ملاكًا يوفق بين الناس؟! تلعبين دور المخلِّصة؟".
أكملت بعد لحظات:
"مهما قلت، لن تفهمي أي شيء، فأنتِ لا تعرفين أي شيء عني.. لا عن ظروفي.. لا عن الألم الذي أحمله منذ سنوات!"
لم تهتز سالي، لكنها شعرت بوخز الكلمات في صدرها. ومع ذلك، لم تتراجع، بل أجابت باندفاع، كمن يتمسك بآخر خيط للحل:
"أنا فقط أريد أن أفهم. أريد أن أملك أسبابًا.. حكايةً أو مبررًا أقدمه لحسن، ليعرف الحقيقة دون أن تنهار علاقته بك تمامًا! ليس من مصلحة أحد أن تتدهور علاقتكما"
لم يبدُ على منى التأثر، بل قست ملامحها أكثر وهي تشير إلى الباب بنظرة قاتمة:
"اخرجي من هنا، ولا تجرؤي علي التدخل في شئوني أنا وابني مرةً أخرى."
ساد الصمت للحظات.
لم تتحرك سالي على الفور، فقط رمقتها بنظرة ثابتة، متأملة صلابتها الزائفة، وكأنها تمنحها فرصة للتراجع. لكنها حين لم تجد استجابة، أطلقت زفرة بطيئة، ونهضت عن كرسيها، متجهة نحو الباب. لكن قبل أن تصل إليه، قطع صوت منى الهادئ، المليء بشيء أشبه بالانكسار، خطواتها:
"انتظري."
توقفت سالي تلقائيًا، لكن دون أن تلتفت. مرت لحظات، ثم جاء الصوت مرة أخرى، مترددًا لكنه محمَّل بالرجاء هذه المرة:
"هل ستساعدينني؟"
رمشت سالي ببطء، متفاجئة بهذا التحول المفاجئ. كانت نبرة منى بعيدة كل البعد عن القسوة التي بدأت بها الحديث، وكأنها تخوض حربًا داخلية بين كبريائها وعجزها عن الوصول لابنها.
استدارت أخيرًا، وعيناها لا تزالان جامدتين، لكن صوتها جاء أكثر رقة، وأكثر وضوحًا:
"سأحاول إذا رغبتِ بذلك.. ولكن لن أجبركِ."
للحظة، لم تتحرك منى. بدت وكأنها تزن كلماتها، قبل أن تهبط نظراتها إلى الأرض، مستسلمة، ووجهها يبهت أكثر تحت وطأة الصراع الداخلي. ثم همست بصوت بالكاد يُسمع:
"حسنًا.. تعالي هنا واسمعيني جيدًا."
***
حكاية منى
وُلِدتُ في عائلة متواضعة جدًا، تتكوّن من أمي، وثلاثة أشقاء ذكور، وشقيقة صغرى تصغرني بسنتين. أما أبي، فقد رحل عن عالمنا وأنا لا أزال في الخامسة من عمري. ذكرياتي عنه ضبابية، مجرد شذرات من مشاهد متفرقة: صوته الحنون وهو يربّت على رأسي، دفء أحضانه التي كنتُ ألجأ إليها، وضحكته التي كنت أشعر بها أكثر مما أسمعها.
لكن بعد وفاته، تغير كل شيء فجأة. فقدنا ليس فقط معيل الأسرة، بل أيضًا مصدر الأمان الذي كان يحتضننا ماديًا وعاطفيًا. لم يترك لنا سوى معاشه الصغير، فقد كان موظفًا بسيطًا في سكة الحديد. وترك أيضاً بيت صغير من طابقين. ومنذ ذلك اليوم، وجدنا أنفسنا نواجه واقعًا جديدًا، مختلفًا تمامًا عما كنا نعرفه.
وبالمال القليل الذي تمنحه الحكومة، كنا نعيش بالكاد، مثلنا مثل الفقراء الذين يُحسِبون كل قرش قبل إنفاقه. كانت الحياة قاسية، بلا رفاهية، والطعام يتم توزيعه بحسابٍ دقيق حتى لا نُجحف نصيب الغد.
كانت وفاة أبي صدمةً قاسية علينا جميعًا، لكنها كانت أشد وقعًا على أمي، التي وجدت نفسها فجأة تتحمل مسؤولية كل شيء. صارت أكثر حرصًا، أكثر تزمتًا، وأكثر قسوة. كانت امرأة ريفية في طباعها، رغم انتقالها إلى المدينة، لم تستطع التخلي عن صرامة القرى، بل تفاقم الأمر بعد رحيل أبي.
خشيةً من الفقر وضياعنا، شددت قبضتها على كل تفاصيل حياتنا. لم يكن هناك مجالٌ للخطأ، ولا فرصةٌ للترف أو الاسترخاء. استعانت بإخوتي الذكور في تربيتنا، وهنا.. بدأت قصتي الحقيقية.
كانت اتحاد أمي وإخوتي الذكور كابوسي الحقيقي في هذه الحياة القاسية. سلمتهم أمي كل مفاتيح السلطة في المنزل، ومنحتهم الحق المطلق في التحكم بنا، بل وكانت تعينهم على ذلك، وكأنها تسلمهم السوط ليجلدونا به.
الجفاء والقسوة هما أقل ما يمكنني وصفه بهما، لم تكن معاملتهم لي ولأختي الصغيرة تحمل ذرة من اللين أو الرحمة. هل تعرفين لماذا؟ لأننا كنا بنات. مجرد كوننا إناثًا كان ذنبًا نحمله على أكتافنا، عارًا غير معلن، لكنه يحكم علينا بالصمت والعزلة.
إخوتي الذكور كانوا الأولوية المطلقة في كل شيء؛ في الطعام، في الحديث، في الحركة، في إبداء الرأي، وحتى في مجرد الوجود. أما نحن، فكنا مجرد ظلال.. ظلال لا صوت لها، ولا حق لها في الحياة. حياة بلا حياة، هكذا كنت أصفها.
لم يكن مسموحًا لنا بالخروج إلا في أضيق الحدود وهي الذهاب إلى المدرسة تحت قيادة إخوتي، حتى النافذة لم تكن حقًا لنا، لا يمكننا الاقتراب منها أو مدّ رؤوسنا عبرها لنرى العالم الخارجي. كنت أحمد الله أن أشعة الشمس لا تحتاج إلى إذنٍ كي تتسلل عبر الزجاج، على الأقل كنت أراها، وأشعر بها تداعب وجهي، فتمنحني بعض الأمل. لن تصدقي مدى فظاظتهم. الكلمة كانت تُحسب علينا، التصرف، النظرة، الحركة، كل شيء كان تحت المراقبة.
وكبرت أنا وأختي الصغرى، نحاول دائمًا عزاء بعضنا البعض، نبحث عن لحظات صغيرة من الأمل وسط هذا العالم القاسي. كنت أعشق الموسيقى والغناء، وكان التلفزيون والسينما ملاذي الوحيد، نافذتي إلى عالم آخر بعيد عن واقعنا. ومع ذلك، كان هذا الملاذ أيضًا خاضعًا لرقابة شديدة. كانت أمي وأشقائي يختارون لنا القصص التي يمكننا مشاهدتها، ويتأكدون من أن لا تكون هناك أي أفكار "غريبة" قد تطرأ على عقولنا.
لكن رغم كل شيء، كنت أجد طرقًا صغيرة للتمرد على هذه القيود. كنت أسرق اللحظات التي أستطيع فيها مشاهدة التلفاز أنا وأختي في غياب أمي أو إخوتي عن المنزل. وكان غيابهم لا يتعدى الخمس دقائق، لكنها كانت كافية لنشعر أننا أحرار في ذلك الوقت القصير. دقائق من الفرح، دقائق من الهروب من واقعنا، حيث يمكننا أن نعيش في عالم لا رقابة فيه، عالم من الأحلام والموسيقى والأفلام.
أتذكر في أحد الأيام، عندما عثروا علي وأنا أقرأ رواية رومانسية من روايات عبير القديمة، لم أكن أتوقع ما سيحدث. أخي الكبير مزقها إلى قطع صغيرة وحرقها، وقام بكسر الكرسي الخشبي على رأسي. كانت الضربة قوية لدرجة أنني شعرت وكأنني سأفقد الوعي، لكن ذلك لم يمنعه. استمر في ضربه لي، وكأنني لم أكن أبدًا أكثر من مجرد كائن ضعيف بين يديه.
كان الضرب أكثر من مجرد تعبير عن الغضب، كان سلوكا روتينيًا في المنزل. حتى وصل بي الحال أنني توقفت عن الصراخ أو البكاء، كنت أعرف أن ذلك فقط سيزيدهم تماديًا. كانوا يريدون أن يروني ضعيفة، أن يروني أستسلم للمواقف حتى أرضي غرورهم. أما أمي كانت في أندر الأوقات تحاول أن تبعدني عنهم، ولكن لم يكن لها القدرة على التدخل أو حل الصراع من طرف واحد. حضنها، ذلك الحنان الذي كنت أبحث عنه طوال حياتي، لم أره إلا في بعض المرات القليلة، حينما كانت تلمسني بشفقة، لكن الشفقة وحدها لم تكن كافية.
وفي وقت من الأوقات أدركت أن لا شيء سيتغير في تلك الحياة، ومهما طال انتظاري. وهنا بدأت تتكون لدي أفكار متمردة، رغماً عني، تلك الأفكار كانت تخترقني، هل تعلمين لماذا؟ لأنني لم أملك قيداً على نفسي، لأنني كنت دائماً مُقادة، كيف أقيد نفسي وأنا المقادة؟ لذلك لم أقاوم أية أفكار أو خبرات كنت أتعلمها في مدرستي أو من خلال الروايات التي كنت أقرأها سرقة. وهنا بدأ تمردي على تلك الحياة القاسية، حياة لم أشعر فيها يوماً بالأمان أو الانتماء. كنت أنظر إليهم وأدرك أنهم ليسوا عائلة، لم يكونوا كذلك أبداً. العائلة تحب، تسمع، ترحم، أما هم، فلم يكونوا سوى سياطاً تجلد روحي كل يوم، قلوباً متحجرة لا تعرف إلا القسوة.
كرهتهم، ولا زلت أكرههم حتى هذه اللحظة. لم يزرعوا داخلي سوى هذا الشعور، سَقَوني بالكره حتى امتلأت به، حتى صار يتغلغل في عروقي، يجري داخلي مع كل نبضة. ومع مرور الوقت، لم أعد أشفق عليهم، لم أعد أشعر بالذنب وأنا أفعل ما يحلو لي في الخفاء، بعيداً عن أعينهم.
لم يكن أمامي الكثير من الفرص للتمرد، فقد كانوا يحاصرونني، يخنقونني، لكنني كنت أتحين أي فرصة لكسر قيودهم. وعندما تحين، كنت أستغلها بكل شغف. كنت أخرج إلى النافذة، أطلق شعري للهواء وأتركه يعبث به كيفما يشاء، كأنني أستعيد جزءاً من نفسي المسلوبة. كنت أفتح التلفاز وأشاهد ما أرغب فيه، أهرب من واقعي إلى عالم آخر، عالم لا يحكمه أحد سواي. تلك اللحظات الصغيرة كانت تمنحني نشوة لا توصف، كنت أشعر فيها بالسعادة الحقيقية، سعادة لم أذقها إلا في تمردي عليهم، في استعادة ولو جزء بسيط من حريتي المسلوبة.
حتى جاء ذلك اليوم الذي لن أنساه أبدًا. كنت في سن العشرين وقد أنهيت دراستي في المعهد، حين قررت أمي تأجير الطابق العلوي لأحد الأسر. كانت هذه العائلة مكونة من أب وأم وشاب، بالإضافة إلى أخوته الأصغر. ومن بين أفراد هذه العائلة كان هذا الشاب، الذي أصبح حبي الأول. أحببته بصمت، ولم أجرؤ أبدًا على الاعتراف بحبي له حتى لنفسي. كنت أخشى أن يسمع إخوتي أفكاري، وأن يعاقبوني بسببها. لكن مع كل لحظة مرّت، كلما رأيته من النافذة أو رفعت رأسي إلى الطابق العلوي لأراه، كان قلبي ينبض بعنف وكأن الحياة تنبض في عروقي من شدة المشاعر التي كنت أعيشها. كنت أتخيل نفسي في الليل وأنا عروس جميلة، أرتدي فستاني الأبيض وهو يمسك بيدي، لنبدأ معًا حياة جديدة مليئة بالحب والسلام، حياة خالية من العنف والقسوة والقيود. كنت أراه أملًا، وتحررًا من قيود حياتي.
في البداية، كنت متأكدة من أن حبي له كان من طرف واحد، ولكن مع مرور الوقت وتكرار وقوفي في النافذة خفية من عائلتي، بدأت أسمع همساته، وأشعر بنظراته التي تلاحقني. بدأ الأمر يتحول شيئًا فشيئًا إلى اعتراف غير مباشر. وفي يوم من الأيام، اعترف لي بحبه. كان أسعد يوم في حياتي، كيف يمكنني وصف مشاعري في تلك اللحظة؟ أنا الفتاة التي عاشت في صمت وحرمان من الحب والحنان، الآن هناك من يحبني، من يرغب في ويهتم بي كما كنت أتمنى. كان شعورًا لا يوصف، كان حلماً تحقق فجأة.
ومرت الأيام والشهور، واستمرت الهمسات والرسائل المليئة بالحب والشوق، لمدة ثلاث سنوات. كنا نتبادل الكلمات الرومانسية التي تمتلئ بالعواطف. حتى جاء ذلك اليوم الذي طلب فيه الزواج مني. كنت في غاية الدهشة، لم أصدق ما أسمع. أجبت عليه على الفور، وأخبرته أنه يجب عليه أن يطلب يدي من إخوتي. ولكنني شعرت من إجابته أنه لا يرغب في ذلك، فقد كانت مبرراته كثيرة: "لا زلت أدرس في الجامعة 'كلية الهندسة' ووالديي لن يوافقا على ذلك، وليس لدي شقة أستطيع أن أعيش فيها". ومع ذلك، كان متمسكًا بفكرة الزواج. هذا ما جعلني في حيرة، كيف يطلب مني الزواج في ظل ظروفه الصعبة؟ ولكن في النهاية، اعترف لي بأنه يريد الزواج مني، ولكن بطريقة عرفية.
في البداية، شعرت بالغضب الشديد من فكرته هذه، أن أتزوج دون علم إخوتي وأمي، وأن يكون الزواج بشكل عرفي. كان ذلك مستهجنًا في مجتمعنا، وأعتبره أمرًا حقيرًا. ولكن مع مرور الوقت وكثرة الرسائل ومحاولات الإقناع، بدأت الفكرة تتسلل إلى عقلي. كنت أواجه صراعًا داخليًا، كأنني أتعرض للتلاعب. ومع كل مرة كان يحاول إقناعي، شعرت وكأنني لا أستطيع الهروب من سحر كلماته، حتى وافقت في النهاية. وكأنني وقعت في فخ، لم أكن أدرك مدى عمقه وتأثيره على حياتي.
حتى جاء أحد الأيام الذي تزامن مع سفر أمي إلى قريتها، وكان إخوتي منشغلين في أعمالهم، وعائلة هذا الشاب أيضًا في انشغال. عاد هو سريعًا من جامعته، وعيناه مليئتان بالحماس. طلب مني أن أصعد إلى شقته، بحجة أن نتفق على العقد العرفي. وقال إنه مجرد ورقتين، لا أكثر، حتى نثبت زواجنا أمام الله. كنت مترددة للغاية، شعرت بالشك، لكن في لحظة ضعف وغرور، تهاونت، وقررت أن أذهب. صعدت إلى شقته وأنا أقول لنفسي إن الأمر لن يكون سوى مجرد خطوة صغيرة نحو ما كنت أظنه حبًا حقيقيًا. ولكنه كان خطأ فادحًا. خطأ لا يمكن إصلاحه.
ابتلعت سالي ريقها بصعوبة وهي تستمع إلى هذه النهاية المؤلمة، وتجولت نظراتها على منى، نظرت إلى سالي بسخرية في عينيها وقالت بابتسامة مليئة بالمرارة:
"كيف تريني الآن؟ حقيرة؟ غبية؟ قولي ما تشائين، فأنا كذلك بالفعل".
شعرت سالي بصدمة، وهزت رأسها ببطء، همست بصوت متقطع:
"لا... لا".
ابتسمت منى ابتسامة أوسع، تغلفها مرارة، ثم تابعت قصتها، وكأنها تعيد عيش اللحظة، بمرارة وحزن.
لم أصدق ما فعلته في تلك اللحظة، كنت مذهولة، شعرت كأنني فقدت عقلي. كيف وصلت إلى هذا الحد؟ أنا لم أكن فقط قد عصيت أوامر إخوتي، بل عصيت الله نفسه، ارتكبت خطيئة عظيمة، خطيئة لا تغتفر. شعرت كأنني فرطت في نفسي، ولم يعد هناك أي رجعة. عاتبته بقسوة، كانت دموعي تتساقط وأنا أشعر بالخيانة والغضب. هو أيضًا كان مرتبكًا، ولكنه حاول تهدئتي، وقال لي بصوت هادئ أنه سيطلب يدي من إخوتي في أقرب وقت، وأنه سيجعل كل شيء يعود إلى مكانه. صدقته في البداية، وبدأت أرسم في خيالي أحلامًا عن حياة سعيدة، عن زواج قريب، وعلاقة مليئة بالحب والراحة. لكن سرعان ما أدركت أن تلك الأحلام كانت واهية، وأنه كان فقط يماطل.
ثم حدث ما لم أتوقعه. استيقظت في أحد الأيام على شعور غريب في معدتي، كانت الآلام شديدة، لكنني تجاهلتها في البداية. خرجت من غرفتي على صوت ضوضاء عالية قادمة من الطابق الأعلى، وعلمت أن عائلته ستنتقل إلى منزل جديد. في تلك اللحظة، شعرت وكأن دلوًا من الماء البارد سقط فوق رأسي. كأن الأرض قد ابتعدت عن قدمي. وفي تلك اللحظة، لأول مرة شعرت وكأنني تحررت من قبضة إخوتي وأمي، من قيودهم التي كانت تلتف حول حياتي. كان قلبى ينبض بسرعة وتركت ورائي عالمهم الضيق والمظلم، وصعدت إلى الأعلى بسرعة، يداي ترتجفان، ولكنني لم أجده. وجدت فقط أمه وأخوته الذين أخبروني أنه عير موجود، في منزلهم الجديد، حيث كانوا يجهزونه للانتقال. كانت تلك الكلمات كالصاعقة، وكأنني فقدت توازني. سيرحل بتلك البساطة! سيتركني في مصيبتي!
لم أستطع استيعاب الموقف، وكل ما استطعت أن أحصل عليه في تلك اللحظة هو عنوان منزلهم الجديد، لكن لم أتمكن من معرفة المزيد. أخوتي، الذين كانوا قد وصلوا إلى هناك، قاموا بسحبني بسرعة إلى الأسفل. كان أخي يعنفني، بينما كنت أشعر بالقيء يتفاقم داخلي. حتى انتهى الموقف بأنني تفجرت في الحمام، منهارة تمامًا.
بعدها، تأكدت أنني أحمل في داخلي طفلاً، طفلنا الذي حلمت به سابقًا، طفل كان من المفترض أن يكون بداية لحياة سعيدة، لكن الآن أصبح مصدرًا لرعبي، وخوف من المستقبل الغامض الذي ينتظرني، بل ينتظرنا جميعًا. كنت في شهري الثالث من الحمل، معدتي لم تظهر بعد، لكنني كنت أشعر بأنني أعيش في رعب مستمر. لم أستطع التحديد ماذا سيكون مصيرنا، وكنت أخشى من اليوم الذي ستصبح فيه الحقيقة واضحة للجميع، ويعرف الجميع ما كان يخفى.
حاولت مرارًا التخلص من الحمل، عبر طرق عديدة، لكن جميعها باءت بالفشل. وكان الطفل، على الرغم من كل المحاولات، متمسكًا بالحياة، وكأنه يصر على الوجود في هذه الدنيا. مر شهري الرابع، وكنت أعيش كل يوم فيه وكأنني في كابوس، لا أستطيع النوم بسلام، حيث كنت أشعر بالرعب الشديد. وكلما مر يوم، كانت مخاوفي تتعاظم، حتى شعرت أنني غارقة في بحر من الخوف لا أستطيع الخروج منه.
حاولت أن أجد حلاً ولكني أجد إلا حلاً واحداً، الموت أو الهروب، حاولت الانتحار ولكن قبلها بثوانٍ، تهيأ في خيالي صورة لطفلي الذي لم يولد بعد، روحاً بريئة تتحرك داخلي بأمان، روحاً لا تحمل ذنباً، كيف أحملها نتائج ذنبي أنا ووالده، وشعرت بالشوق إلى طفلي، وبالرغبة الشديدة لأن أراه متجسداً أمامي، في تلك اللحظة محوت فكرة الانتحار من عقلي تماماً، وفكرت في الحل الآخر، وهو الهروب، ولكن كانت المصاعب كثيرة، كيف سأهرب؟ وإلى أين؟ وكيف سأعيش بعد أن أهرب؟ ولكن ماذا لو لم أهرب؟ ماذا سيفعل اخوتي؟ هل سيكونون متفاهمين؟ هؤلاء من كانوا سبباً في دمار حياتي ووصولها لما هي عليه في تلك اللحظة، كيف سيكونا متفاهمين ولم يتوانوا أبداً عن إهانتي في أصغر خطأ كنت أرتكبه، سيقتلونني بكل تأكيد!
لذلك جمعت حاجاتي، وقررت أن أهرب، ولكن قبل الهروب أعترفت لأختي الصغيرة بكل شيء، أردتها أن تخبرهم بما فعلته ليتجرعوا كأس المرار الذي كنت أتجرعه بسببهم، ورحلت، وشعرت بالشفقة على اختي الصغيرة التي كانت تعاني مثلي، ولكن في قرارة نفسي كنت أعلم أنها ليست مثلي، كانت خاضعة مستسلمة تطيعهم حتى تتجنب الألم، لذلك سرعان ما تلاشى هذا القلق، وهربت من منزلي، وبداخلي روحاً صغيرة، لا أعرف مصيرها.
توجهت إلى العنوان الذي حصلت عليه، إلى منزل والد طفلي. عندما قابلته، كانت المفاجأة قاسية. علمت أنه تقدم لخطبة فتاة أخرى، فتاة يرى فيها ما لم يرَ فيّ. شعرت كأن خنجرًا أغرس في قلبي. لقد منحت هذا الشخص كل ما لدي، وعندما انتهى مني، دفعني بعيداً ليبدأ حياة جديدة مع غيري.
الخائن رفض الاعتراف بي، بل أنكر طفلي بكل قسوة. وهددني بأنه سيقول للجميع أنني أكذب، وأنني أدعي عليه. تمنيت في تلك اللحظة لو أنني اقتلته وأقتل نفسي، حتى لا يعيش هو حياته الجديدة بسعادة، ولنموت جميعًا نحن الثلاثة، لكنني تمالكت نفسي وقلت له كلمات كنت أعلم أنها بلا معنى بالنسبة له، عن الضمير والعدالة، ولكنه لم يبالِ. وتركته ورحت، لكن الصدمات لم تنته. خلال شهور الحمل، عشت أسوأ أنواع العذاب. قضيت وقتي في الشوارع أبحث عن مكان آمن، توسلت للناس، وعمِلت خادمة في المتاجر والشقق كي أتمكن من دفع نفقاتي وأؤمن لقمة العيش. وبعدما مرت تلك الأشهر، جاء اليوم الذي ولدت فيه طفلي.
ذكريات تلك اللحظة كانت مؤلمة وعذبة في آن واحد. كانت عينا منى تلمعان بالدموع وهي تقول بصوتٍ خافت:
"كان طفلاً صغيراً جداً، وجميلاً. حملته لأول مرة بين ذراعي، شعرت به كأمان، كجزء مني، روحاً حية تجسد آمالي. ولكن في أعماقي، كنت قد اتخذت قراراً مصيرياً. هذا المسكين الصغير، كيف أحتفظ به؟ كيف أعطيه هوية واسمًا يعيش به بقية حياته؟ قررت أن أضعه في أيدٍ أخرى، ربما أفضل مني. في البداية ذهبت به إلى والده، لكن كالعادة، أنكر وجوده، ورفض الاعتراف به تمامًا. وبعد ذلك، لم أتمكن من تحمل رفضه فأخبرت عائلته بالحقيقة، ليطردوني من منزلهم ويهددوني بإحضار الشرطة. في تلك الليلة، تركت كل شيء وراءي وركضت في الشوارع، أحمل بين يديّ طفلاً صغيراً لا يتعدى عمره الأيام."
تمتمت وهي تواصل حديثها، بغصة:
"أخذته إلى ملجأ للأيتام، كان مكانًا صغيرًا وفقيرًا، لكن لم يكن أمامي خيار آخر. تركته أمام الباب، ووضعت ورقة على صدره، مكتوب عليها اسمه وتاريخ ولادته، حسن، حسنة حياتي الوحيدة، وأملي."
بينما كانت تنهي حديثها، كانت عيونها مليئة بالدموع، وكأنها كانت تتحدث عن جزء منها، جزء لا يمكن أن تنساه مهما حاولت.
في تلك الليلة، جلست وحدي في غرفتي الصغيرة، أتوسد ذراعي وأبكي بحرقة، قلبي يتفتت ألماً وأنا أشعر بالشفقة على طفلي والشوق إليه. رغبت في احتضانه أكثر، في أن أُدفئ جسده الصغير بين ذراعي، لكنني كنت عاجزة، مقيدة بسلاسل الظروف التي حرمتني منه. كنت ألوم نفسي وألوم الدنيا، لكن البكاء وحده لم يكن كافياً، لم يكن يُعيد لي حسن.
بعد أيام من العذاب والتفكير، خطرت لي فكرة، فكرة قد تمنحني فرصة لأراه، ولو للحظات قصيرة. قررت أن أذهب إلى الدار مرة أخرى، ليس لاستعادته، فقد كان ذلك مستحيلاً، ولكن للعمل هناك. ربما، إذا أصبحت جزءاً من المكان، يمكنني أن أراه، أن أطمئن عليه، حتى لو من بعيد. وعندما وصلت إلى الدار، كان المشهد مؤلماً. المبنى قديم، جدرانه متشققة، والرائحة في المكان خانقة، كأنها اختلطت برطوبة الزمن وإهماله. الخدمة متواضعة، والأطفال يملؤون الأرجاء، بعضهم يضحك، وبعضهم يبكي، وكلهم بلا أحد يحتضنهم حقاً. بحثت عن حسن بين الأطفال، وعندما وجدته، شعرت بقلبي يخفق بعنف. كان صغيراً، هشًّا، بين ذراعي امرأة أخرى.
علمت حينها أن الشرطة قد أُبلغت عن العثور عليه، وأنهم بدأوا في إجراءات استخراج أوراق رسمية له. كان ذلك يعني شيئًا واحدًا: لقد أصبح جزءًا من هذا المكان، ولن يمكنني استعادته أبداً.
تقدمت للعمل في الدار، توسلت لمشرفتها أن تقبلني كأم بديلة حتى أكون بقرب طفلي ولكن دون أن أخبرها بالحقيقة، لكن طلبي قوبل بالرفض. لم أكن مؤهلة لهذه المهمة، لم يُنظر إليَّ كأم، بل كخادمة. وفي النهاية، لم يكن أمامي خيار سوى القبول. كنت مستعدة لفعل أي شيء مقابل أن أراه كل يوم، حتى لو كان ذلك يعني أن أمسح الأرضيات وأغسل الملابس بصمت. لكن حتى وأنا هناك، لم تكن اللحظات التي أُمنحها معه كافية. كان الرضع يُسلَّمون إلى الأمهات البديلات، بينما نحن، الخادمات، لم يكن مسموحاً لنا بالاقتراب منهم إلا عند الضرورة. كنت أراه في أحضان امرأة أخرى، فأشعر بشيء في داخلي يتمزق. حاولت أن أقاوم هذه المشاعر، لكنها كانت تزداد كل يوم.
في لحظة من اللحظات فكرت فيها أن أختطف طفلي. كان كل شيء في داخلي يصرخ بأن آخذه وأهرب، أن أستعيده بأي ثمن. لكنني كنت أعرف أن ذلك مستحيل، فأوراقه الرسمية محفوظة في مكان لا أعلمه، واختطافة سيكون بلا معنى، لذلك، لم يكن أمامي سوى الرضوخ للواقع، تقبل أن أكون مجرد ظل في حياته، موجودة دون أن أُرى.
ومرت سنتان، وأنا أراقبه عن بُعد، أراقب خطواته الأولى وكلماته الأولى التي لم يكن لي نصيب في سماعها منه. ثم جاء الخبر الذي مزق آخر خيط يربطني به: الدار سيتم هدمها، والأطفال سينقلون إلى دار أخرى بعيدة، حيث لن يُسمح للخادمات بالمبيت. ومرة أخرى، توسلت للمشرفة الجديدة أن تقبلني كأم بديلة، توسلت أن يُمنح لي الحق في أن أكون بقربه. لكنها رفضت. كنت مجرد خادمة، والخادمات لم يكن لهن مكان هناك. ولم يكن لدي خيار، فانتقلت للعيش في مكان أقرب إلى الدار الجديدة، كي أتمكن من الذهاب إليها كل يوم، حتى لو كان ذلك يعني المشقة والتعب. لكن مع مرور الأيام، كبر حسن، وكلما ازداد عمره، ازداد خوفي. ماذا لو تعرّف عليّ؟ ماذا لو حفظ ملامحي وتساءل عن هويتي؟ لم أرغب أن يعرفني، لم أرغب أن يعرف أنه ابن امرأة لم تستطع أن تحميه.
أتفهمين؟ علاقتي به لم تكن كعلاقة أنيسة وخالد، واضحة ومفهومة. علاقتي به كانت معقدة، غير قابلة للفهم، حتى بالنسبة لي. كان صغيرًا جداً ليفهم الحقائق، وفي نفس الوقت كان يكبر، وترسخت لديه بديهيات من الصعب تغييرها. كنت مجرد شخص في الظل، أراقبه بصمت، وأكتفي بكوني قريبة منه، دون أن أكون له شيئًا. لذلك وجدت أنه من الصواب أن أنسحب من حياته. ولم يعد لي مكان في دار الأيتام، لم تعد يداي تلامسان وجنتيه كما في الماضي. تحولت خدمتي في الدار إلى زيارات متقطعة، كنت أقف بعيدًا، أراقب طفلي من مكان خفي، أطمئن عليه من بعيد، وأحاول أن أقنع نفسي بأنه بخير، حتى عندما كان قلبي يصرخ عكس ذلك.
كانت مشرفة الدار الجديدة امرأة قاسية، قلبها صلب. لم تكن تملك ذرة من الرحمة، وسمعتُ أن يدها ممدودة للرشاوى، تبيع براءة الصغار مقابل مكاسب رخيصة. كانت الدار تنهار يومًا بعد يوم، والأطفال يعانون، والإهانات والضرب صارت أمرًا مألوفًا. رأيت بعيني حسن وهو يُعنَّف، وقلبي يتفتت ألف مرة، لكنني كنت عاجزة، خائفة حتى من اللجوء للشرطة، فأي محاولة قد تعني نقل الأطفال لمكان آخر، وقد يعني ذلك فقدان حسن إلى الأبد. لذلك كل ما استطعت فعله هو البكاء بصمت، والدعاء في صمت، والانتظار.. حتى جاء الفرج في صورة امرأة عظيمة، "الست أنيسة".
سمعتُ عنها كثيرًا أثناء عملي السابق في الدار، كانوا يقولون إنها واحدة من أطيب المشرفين الذين مروا على المكان، امرأة حنونة رغم صرامتها، عادلة رغم شدتها. وحين قررت أن تتبنى حسن، ومعه طفلة صغيرة تدعى فرح، شعرتُ بالخوف في البداية، لم أكن أعلم كيف ستكون حياة طفلي معها، ولكنني راقبتها، رأيتها تحتضنه بعطف لا مثيل له، تُطعمه بيديها، تمسح على رأسه، تبتسم له بحب يشبه حب الأمهات الحقيقي. وتقدم كل ما أردت تقديمه له.
عندها، قررتُ أن أتوقف عن ملاحقة ابني، لم أرد أن أكون ظلًّا يؤرقه أو ذكرى قد تزعزع استقراره. كنت أريده أن يكبر في هدوء، دون صدمات أو أعباء. لا مشكلة أن يعيش بهناء وأنا أحترق في غيابه.
لسنوات طويلة، كنت أبكي كل ليلة، أتخيله يناديني، يمد يده نحوي، لكنني لا أملك الجرأة لأمد يدي إليه. وخلال تلك السنوات، تواصلتُ مع أختي، لكن علاقتنا لم تعد كما كانت، كان بيننا جدار بارد من الصمت، من الذكريات المتجمدة. أخبرتني أن العائلة تبرأت مني، وأن أمي تعيش بحسرة على ما فعلت. لم أشعر بالحزن، لم يكن لي مشاعر تجاههم بعد كل ما قاسيت، الألم الوحيد الذي سكن قلبي كان حسن، حبيبي، قطعة من روحي، التي تعيش بعيدًا عني.
حتى جاء اليوم الذي لم أعد أحتمل فيه أكثر، فاض بي الكيل، لم يعد بوسعي الصبر أو التظاهر بالقوة. ذهبت إلى بيت السيدة أنيسة ومستر خالد، تقدمت للعمل لديهم، لكنني لم أتمالك نفسي، اعترفت بكل شيء. أخبرتهم أنني أم حسن، وأنني لم آتِ إلا لأكون بجواره، حتى لو من بعيد، حتى لو لم أنطق بكلمة، فقط لأراه وأشعر بوجوده.
رأيتُ الدهشة في عيونهم، ثم رأيت العطف، رأيت الرحمة في نظرات الست أنيسة، تلك المرأة التي كانت أحنّ عليَّ من أمي، تلك المرأة التي منحني الله إياها كرحمة أخيرة في حياتي. لم تطردني، لم ترفضني، بل سمحت لي بالبقاء، وبكرامة لم أكن أحلم بها. ولو قضيت عمري بأكمله أسدد دين هذه المرأة، لن أوفيها حقها، أبداً، أبداً.
همست منى بصوت مرتعش من بين أنفاسها المرهقة، بينما كانت عيناها تحدقان في الفراغ:
"بمرور الوقت، بدأتُ أطمع في حقي الشرعي، ذلك الحق الذي حرمتُ منه مرارًا، أريد ابني، طفلي، أن يحبني، أن يناديني "ماما" كما يناديها. أريد أن أحصل على الحب الذي سُلب مني، الحب الذي لم تمنحني إياه عائلتي، ولا ذلك الرجل الذي أحببته ووثقت فيه، أريد أن أجده في عيني ابني، في احتضانه لي، في حاجته إليّ كما يحتاج كل طفل لأمه."
أكملت بهمس وهي تنظر إلى سالي بحسرة:
"لكن الواقع كان أقسى من كل أحلامي.."
ارتجفت شفتاها، وانهمرت دموعها بغزارة وهي تقول بصوت مخنوق:
"عشت حياتي أتوسل ابني.. هل تفهمين ذلك؟! أتوَسّلُ طفلي، أتوَسّلُه أن يحبني، أن يقترب مني، أن يمنحني لحظة دفء واحدة. أراه ينادي امرأة أخرى ماما، بينما يرمقني أنا بنظرات كراهية ونفور.. هل هناك عذاب أقسى من هذا؟"
شهقت بحرقة، وغطّت وجهها بكفيها المرتجفتين، ثم همست بصوت يائس:
"هذا بالتأكيد عقاب الله لي.. عقاب على خطيئتي.. على كل ما اقترفته.. على كل لحظة ضيّعتها بعيدًا عنه".
كانت دموع منى تنهمر بصمت، كتفيها يهتزان تحت وطأة الحزن الذي أثقل روحها، وبينما كانت غارقة في مشاعرها، شعرت بحركة صغيرة إلى جوارها. فالتفتت ببطء، لتجد ماريا، الصغيرة ذات العيون الواسعة، تحدق بها بحيرة. كان وجه الطفلة ممتلئًا بالبراءة، لكنها رغم صغر سنها، بدت وكأنها تفهم أن المرأة الجالسة أمامها تتألم.
بخطواتها المتعثرة، تقدمت ماريا نحو منى، تترنح قليلاً كعادتها حين تمشي، حتى وصلت إليها. وقفت بصعوبة، مستندة إلى ركبة منى، ورفعت رأسها إليها بعينيها اللامعتين، كأنها ترجُوها بصمت أن تأخذها بين ذراعيها. تجمدت أنفاس منى للحظة، ثم نظرت إلى الطفلة بحنان، ومدت ذراعيها ببطء، وحملت الصغيرة بينهما، فاستكانت ماريا بين أحضانها، وكأنها وجدت المكان الذي تنتمي إليه.
وضعت الطفلة رأسها الصغير على كتف منى، وأحاطت عنقها بذراعيها الصغيرتين في احتضان وديع، ثم ربتت على كتف المرأة بحنان، وكأنها تواسيها. تجمدت أنفاس منى للحظات، وهي تشعر بذلك الدفء الصغير الذي استند إلى صدرها دون تردد، بذلك القلب الصغير الذي ينبض بالقرب من قلبها وكأنه يحاول تهدئتها، وكأن تلك الطفلة الملائكية أحست بوجعها الذي فاض حتى لم يعد يمكن إخفاؤه.
نهاية الفصل التاسع والثلاثون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء.. كل سنة وانتوا طيبين وعيد سعيد عليكم
يارب تكون الفصول جديدة عجباكم. وشكراً على صبركم.
كاتبتكم ءَالَآء
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق