رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل التاسع عشر
عادت سالي إلى بيتها في هذا اليوم، وهي تشعر بالخدر في حواسها ومشاعرها، فلم يكن الخبر الذي سمعته من الدكتور نوفل هيّناً أبداً. لم تكن تستوعب أن السيدة أنيسة قد أصابها مثل هذا المرض، وتمر بهذا الألم. تلك المرأة اللطيفة، الودودة، الراقية، التي لطالما ذكرتها بسيدات الزمن الماضي. الإنسانة العطوفة التي تبنّت 16 يتيماً ويتيمة، أطفالاً دون أهل أو سند، التقطتهم وأكرمتهم ليعيشوا حياة كريمة كغيرهم من الأطفال المستقرين مع ذويهم. تلك السيدة التي تبنت طفلاً وانشأته ليكون رجلاً مسؤولاً وناجحاً في عمله. المرأة التي أسست منزلاً ورَسّمت نفسها فيه أماً حنونة لأطفال يتامى. الشهر الذي عاشته سالي في المنزل، تعلمت فيه سالي معناً جديد للإنسانية وهذا بفضل تلك السيدة العظيمة.
جلست سالي على سريرها تتأمل الفراغ والدموع تنساب من عينيها تمسحها من دقيقة إلى أخرى، لم تغب أنيسة عن عقلها، ولا الأطفال واحداً واحداً، حتى مستر خالد، شعرت سالي تجاهه بالشفقة، وتساءلت عن ردة فعله تجاه مثل هذا الخبر. هل السيدة أنيسة رفضت إخباره وفضلت أن يكون هذا المرض سراً عنه تحسباً لردة فعله؟ هذه العلاقة بين المرأة العجوز، وابنها اليتيم الشاب كانت على غرابتها، علاقة تذيب وتدفء القلب من مدى صدقها وعذوبتها. انسابت الدموع التي مسحتها للتو مرةً أخرى بصمت. لم تكن قادرة على إبعاد فكرة خالد عن ذهنها. ولأول مرة تتذكر سالي ملامح خالد أمامها بوضوح، تلك الملامح الجادة التي تحمل في طياتها قصصاً من المعاناة والقوة، وكأن الزمن قد صقل روحه كما يصقل الحجر الخشن. رجل عاش حياة مختلفة عن أي شخص عرفته سالي في حياتها، حتى معاناتها هي مع عائلتها لم تكن تساوي شيئاً أمام معاناة هذا الرجل، شعرت بالشفقة عليه، ليس فقط لأنه رجل ناجح تربى على يد امرأة لم تكن أمه الحقيقية، ولكن لأنه عاش حياة كان يمكن أن تكسره لو لم تكن السيدة أنيسة في حياته.
كيف كان حاله عندما كان طفلاً يتيماً، يتأرجح بين مشاعر الفقد والخوف؟ كيف وجد في السيدة أنيسة الحضن الذي حرم منه صغيراً؟ تذكرت سالي تلك النظرات التي كانت ترى فيها امتناناً صامتاً تجاه المرأة التي تبنته واحتضنته. ولكنها تساءلت الآن، كيف يمكن لرجل اعتاد على القوة والاعتماد على هذه السيدة أن يواجه مرضها؟ هل سيغرق في الحزن؟ أم سيكافح ليظل صامداً كما ربته؟
فكرت سالي في المرات التي رأت فيها خالد بصمته، تلك اللحظات التي كان يقف فيها بجانب السيدة أنيسة كظلّها، وكأنه يسعى دائماً لحمايتها، رغم أنها هي من حمت قلبه الصغير أولاً. شفقة سالي عليه لم تكن فقط لأنه قد يفقد الشخص الأهم في حياته، ولكن لأنها عرفت أن هذا الفقد سيعيد له مشاعر اليتم التي ظنّ أنه تجاوزها منذ زمن. كيف لرجل عاش طفولته في قلبٍ جريح أن يواجه هذا الألم مرة أخرى؟ شعرت سالي بغصة في قلبها، وكأنها تحمل جزءاً من حزنه هي أيضاً، تتساءل كيف سيتحمل خالد فكرة فقدان من أنقذته من الظلام، وكيف سيواجه الحياة بعد أن كان يعتمد على دفء قلبها وسندها.
أمامها ظهرت صورة أنيسة بجوار خالد، وشعرت سالي بالرغبة الشديدة لتعرف أسرار هذه العلاقة التي كانت تدهشها يوماً عن يوم والتي انتهت بتكوين المنزل وهذه العائلة الكبيرة. تلك العلاقة التي تواجه أكبر تحدٍ منذ نشأتها.
فتحت سالي هاتفها وأرسلت رسالة إلى فرح:
[فرح كيف أحوالكم؟ سأعود يوم الجمعة إن شاء الله].
ولم يصلها الرد الذي تنتظره حتى المساء، عندما وصلتها رسالة من فرح:
[سالي، الأجواء مشحونة هنا، لارا دفعت فؤاد وأُصيب في رأسه، وماما تحبس نفسها في غرفتها من الأمس].
شعرت سالي بالرعب على الفتى الصغير واتصلت بفرح، وفور سماعها لصوت الفتاة المراهقة:
"كيف هو فؤاد؟ هل إصابته خطيرة؟".
تنهدت فرح:
"لا تقلقِ، هو بخير، أبيه ذهب به إلى المستشفى، وتمت خياطة الجرح، ولكن عندما أتخيل أن الإصابة بالقرب من عينه أشعر بالخوف".
أطلقت سالي نفساً مرتاحاً عندما اطمأنت على فؤاد:
"والسيدة أنيسة ألا يحاول أحدكم الحديث معها؟".
"ترفض الكلام والطعام، كما أنها انفعلت على لارا وضربتها، لا أعتقد أن ماما كانت في وعيها".
لم تجد سالي رداً مناسباً، كانت تشعر بوخز في قلبها، وهي تخمن سبب انفعال السيدة أنيسة ورفضها التحدث أو تناول الطعام. كانت تعاني بسبب هذا الألم الذي تعانيه بصمت، والمرض الذي أخفت أخباره عن الجميع حتى لا تُثقل كاهل أحد، وخصوصاً خالد.
تتردد كلمات فرح في ذهن سالي:
"ماما تحبس نفسها في غرفتها منذ الأمس".
كانت تلك إشارة واضحة على حجم الألم الذي تمر به أنيسة، والأثر العاطفي العميق الذي سببه المرض لها. الانفعال على لارا وضربها لم يكن سوى رد فعل نابع من الإرهاق والضغط النفسي الذي لم تعد أنيسة قادرة على تحمله. قطعت فرح أفكار سالي:
"ستعودين غداً؟".
تنبهت سالي وقالت بتردد:
"آه، نعم يا فرح".
قالت فرح بصوت مستبشر:
"إذاً سأنتظرك، هل تعلمين؟ اليوم سأكون متألقة، انتظري مني مفاجأة".
احتارت سالي وهي تسمع كلام فرح، وقالت:
"ما هي نوعها؟".
"لا لن أحرقها".
وظلت سالي وفرح تثرثران لمدة نصف ساعة دون توقف، كانت فرح تشعر تجاه سالي بالقرب والراحة، وكأنها شقيقتها الكبرى. وأثناء حديثهما، كانت سالي تحاول جاهدة أن تحافظ على نبرة صوت طبيعية، تضحك وتمازحها، ولكن قلبها كان يعتصر ألماً. كانت تعلم أن فرح، تلك المراهقة اليتيمة، لا تدرك ما ينتظرها. لا تعلم أن السيدة أنيسة، التي كانت لها ولإخوتها الأم والملاذ، تمر بمرض خطير، وأن هذه العائلة المليئة باليتامى على وشك أن تصطدم بأكبر صدمة في حياتهم. أرادت سالي أن تصرخ، أن تخبر فرح بكل شيء، لكنها لم تستطع. كان السر أثقل من أن يحمله قلبها، ومع ذلك كانت مُجبرة على السكوت. شعرت بأنها تخون فرح بصمتها، لكنها كانت تعرف أن الوقت لم يحن بعد لكشف الحقيقة.
حين أنهت فرح حديثها وضحكت وقالت:
"انتظريني اليوم".
اغرورقت عيون سالي بالدموع، وأغلقت الهاتف بصمت. توقفت للحظة وهي تحاول استيعاب ثقل ما يحدث. وبمجرد أن وضعت الهاتف جانباً، انفجرت دموعها. تساقطت الدموع على وجنتيها بغزارة، ولم تستطع السيطرة عليها. كانت تبكي ليس فقط على السيدة أنيسة، بل على فرح وإخوتها، ومستر خالد الذين لا يعلمون ما سيحل بهم قريباً. كيف سيتحملون هذه الصدمة؟ وكيف سيتحملون فقدان السيدة التي كانت كل شيء بالنسبة لهم؟ أغمضت سالي عينيها وهي تشعر بمرارة الشفقة التي لم تستطع التعبير عنها.
***
في المنزل، لم تظهر أنيسة بعد اطمئنانها على فؤاد لمدة ليلتين، حاول الجميع من خلف الباب أن يقنعها بالخروج، ولكنها أبت، ولم تجب عليهم، حتى أنها لم تمس الطعام الذي وضعته الست ذكية أمام غرفتها، كان الجميع قلقاً عليها. ولكن ما أثار استغرابهم، كان رد فعل خالد، على الرغم من اهتمامه الشديد بأنيسة إلا أنه ذهب إلى عمله وعاد، وبدا بارداً وغير مهتم بشكل غير عادي، ولكن لم يجرؤ أحد على التحدث معه.
يوم الأربعاء ليلاً كانت فرح في غرفتها، وهاتفها في يدها، تفتحه على إحدى منصات الفيديوهات القصيرة سريعة الانتشار، لتقوم بنشر الفيديوهات التي التقطتها لزملائها، وهن ممسكات بالآلات الحادة على معاصمهن، وكتبت وصف للفيديو حتى يجذب المتفرج. حدقت فرح في الشاشة، وترددت لثواني قبل أن تضغط على كلمة نشر، وهي تجتاحها مشاعر متضاربة بين الانتقام والشك، وبدأت تفكر في العواقب. ماذا سيحدث لو اكتشفوا أنها هي من نشرت هذه المقاطع؟ شعرت بقلبها ينبض بسرعة عن التفكير في العواقب، ولكنها عندما تذكرت كيف أهانوها وتنمروا عليها بكل قسوة دون أن يشعرن بأي ذنب، تلاشى احساس الذنب لديها هيّ أيضاً، سمعت صوتاً داخلياً بدأ يهمس لها:
'لم يعد هناك شيء لتخسريه، لقد أذوك بما فيه الكفاية'.
أغلقت عينيها للحظة، واستنشقت نفسًا عميقًا، ثم ضغطت على زر 'نشر'. في تلك اللحظة، ارتفع مستوى الأدرينالين في جسدها، ولم تشعر سوى برعشة خفيفة تجتاح جسدها. لم تكن لديها أية فكرة، إن كانت هذه المقاطع ستنشر أم لا ولكنها شعرت بأن هذا قد يشفي غليلها منهن. أغلقت عينيها للحظة، وبينما وهي تراقب الهاتف والفيديو من حين إلى حين، سمعت طرقاً على باب غرفتها، فأغلقت هاتفها بسرعة، اعتدلت في جلستها، ورفعت الغطاء حتى ذقنها وكأنها تحاول إخفاء شيء وهمي غير موجود، أجابت بصوت عالٍ:
"تفضل".
دخلت السيدة منى بسرعة وهي ترتب السرير الخاص بفؤاد ولارا، ودخل خلفها خالد وهو يحمل الفتى الذي كان مستيقظاً، ولكن يبدو عليه الإرهاق، وضعه خالد بلطف على السرير، ونظر إلى فرح التي راقبت الموقف:
"لماذا لست بالأسفل؟".
توترت الفتاة المراهقة وقالت:
"أريد أن أنام اليوم مبكراً".
نظر خالد إلى فؤاد، ثم سألها:
"هل أستطيع أن أطلب منك خدمة قبل أن تنامي؟".
"بالطبع يا أبيه".
"من فضلك انتظري نصف ساعة قبل أن تنامي، وساعدي فؤاد على شرب دوائه".
تدخلت منى:
"لا بأس أستطيع أن أقوم بذلك".
عارضت فرح:
"لا سأفعلها بنفسي لا تزعجوا أنفسكم".
نظرت فرح إلى فؤاد الذي يراقبهم بحيرة:
"فؤاد لا تسقط في النوم قبل أن أعطيك دوائك".
نهض خالد وقال:
"إذاً سأعتمد عليك يا فرح".
وقبل أن يخرج هو ومنى، نادته فرح بعد أن نهضت عن سريرها وجلست بجوار أخيها:
"أبيه".
التفت خالد إليها، فقالت:
"لا تنس الغد، ستقوم بإيصالي إلى العشاء".
عقد خالد حاجبيه بتفكير:
"هل هو الغد؟".
"نعم".
"حسناً، سأكون في الموعد، ولكن ذكريني قبلها حتى لا أتأخر عليك".
خرج خالد من الغرفة، بينما فرح تتأمل الباب الذي أُغلق للتو بشرود.
***
فجر الخميس جلست أنيسة تحت نافذتها بشرود، تتأمل السماء فجراً. الهواء البارد كان يلامس وجهها، لكن شعور الثقل الذي يضغط على صدرها كان أقوى من أن تخففه نسمة هواء مهما كانت منعشة. كان الصمت في غرفتها عميقًا، لكنه لم يكن هادئًا. كان مليئًا بالأفكار المزدحمة، وكل فكرة منها تحمل معها ثقل الألم الذي تعيشه، والقلق الذي لا يفارقها، وهي تتساءل كيف ستبدو الأيام القادمة. ولكن ما كان يؤلمها أكثر في تلك الأثناء كان هو، فهو فلم يأتِ، خالد لم يأتِ، وهذا أوجع قلبها وجعلها أكثر وحدة، لم يأت بعد أن قضت ليلتين طولتين ومؤلمتين جداً تتقلب فيهم بين أفكارها. كانت تنتظره كما اعتادت دائماً أن تراه بجانبها في كل أزمة، إلا أن هذه المرة، تركها وحيدة تواجه ألمها. هذا الغياب أثقل قلبها أكثر من أي ألم جسدي. وشعرت بوحدة عميقة تلتف حول قلبها، تتمنى لو تسمع خطواته على باب غرفتها، لو ترى وجهه الحاد وعينيه اللتين تحملان صمتاً قلقاً. أغمضت عينيها للحظة، وهنا في الساعة السادسة سمعت طرقاً تعرفه جيداً على باب غرفتها، ولم تشعر بنفسها إلا وهي تنهض من سريرها وتفتح الباب، لتجده هو، خالد يقف أمام غرفتها، تأملته بلهفة ممزوجة بالأسى وعذاب القلب. ولكنه محى عنها كل هذه المشاعر بابتسامة جميلة زادته جمالاً. مد ذراعه لها قائلاً:
"ما رأيك أن نشاهد شروق الشمس معاً في الحديقة؟".
تذكرت أنيسة عندما كانت تعرض عليه مشاهدة الشروق وهو صغير. نظرت أنيسة إلى ذراعه الممدودة إليها بحيرة، ثم إلى وجهه المبتسم. وبعد لحظات قليلة جداً تجعد وجهها هي أيضاً بابتسامة محبة، والدموع في زوايا عينيها، ومدت يدها وشبكت ذراعها في ذراعه، ثم توجه الاثنان ببطء إلى السلالم ومنها في طريقهم إلى الحديقة، سار الأثنان في البداية دون أن ينطق أحدهما بكلمة واحدة. كانت الحياة في هذا الوقت من اليوم مازالت تختبئ خلف ستار من الظلام، إذ بدأ نور الشمس الخافت يتسلل ببطء، ممزقاً غلالة الليل الرقيقة. نسائم الخريف الباردة تداعب أوراق الأشجار المتناثرة على الأرض، فيما يلفّ الشوارع سكون هادئ لا يقطعه سوى صوت العصافير التي تغرّد لأول مرة هذا الصباح. ومع كل دقيقة كانت تمضي وهم يمشون في الحديقة، تتسلل خيوط الضوء معلنة بدء يوم جديد. قطع خالد الصمت:
"كيف تشعرين اليوم؟".
تسارعت نبضات قلبها وهيّ تشعر بالسعادة لاهتمامه، ولكنها أجابت محاولة الحفاظ على ثباتها:
"أنا بخير عزيزي، لا أعلم لماذا أنت قلق إلى هذا الحد؟ خاصة وأنا لم أشتك من شيء".
سمع خالد ردها الثابت، ثم قال بهدوء:
"من المفترض أن أقلق عليك، بعد أن اعتزلتِ غرفتك ورفضتِ الخروج لمدة ليلتين، وأيضاً رفضك الطعام بالتأكيد جعلك مرهقة".
"عدم تناول الطعام ليس الأمر الذي سيؤثر عليّ".
نظرت إليه بعتاب:
"أنا فقط أشعر بالاستياء منك، كيف لك أن تتركني في غرفتي لمدة ليلتين، دون أن تحاول الاطمئنان عليّ".
"لم أكن لأجرؤ على اقتحام خلوتك، هل تتذكرين عندما كنت في الثانوية العامة، وهربت من المنزل لمدة يومين، يومها عندما عدت صفعتني، وحبستي نفسك في غرفتك لمدة يومين، حاولت أن اصالحك ولكنك كنت تستشيطين غضباً أكثر فأكثر. لذلك اعتقدت أنك تحتاجين بعض الوقت مع نفسك، بعيداً عن الصخب".
استمعت أنيسة إلى ذكراهم، ثم قهقهت ضاحكة:
"ألهذا لم تأتِ".
غمزت أنيسة إليه وقالت:
"أم كنت خائف من صفعتي؟".
"ها أنت تتعاملين معي كالطفل".
نظر إليها مباشرةً وقال:
"سمعت من السيدة منى أنك ضربت لارا، جميعهم أخبروني أنك كنت منفعلة جداً ولم تكوني طبيعية".
"آه من تلك الطفلة، أصبحت عنيدة وصعبة المراس مؤخراً".
أكملت تشرح موقفها، وهي تتأمل الأرض:
"عندما رأيت فؤاد غارق في دمه، شعرت وكأن روحي تسحب مني، هذا المشهد أفزعني وجعلني أفقد السيطرة على أعصابي".
نظرت أنيسة إليه وسألته بلهفة:
"كيف هيّ لارا، هل مازالت حزينة؟".
"بكت بالأمس كثيراً، ولكن ليس بسببك، بل بسبب فؤاد، كانت متلهفة للاطمئنان عليه، ربما غاب عن بالها أنك ضربتها من الأساس".
"لا يا خالد، لن تنسَ، فالأطفال لا ينسون أو يُفوتون أمراً ولو صغيراً، هم فقط يعطون الأولوية لمشاعرهم، وأولوية لارا كانت الاطمئنان على فؤاد".
تنهدت أنيسة وقالت بحزن:
"آه، لم يغب عن بالي مشهدها وهي تقع على الأرض باكية، تلك الطفلة المسكينة".
السيدة أنيسة كان يرق قلبها وتضعف أمام الأولاد، لطالما شعرت تجاههم بالشفقة والمسؤولية، هؤلاء اليتامى الصغار الذين لا حول لهم ولا قوة.
نظر خالد إليها وكأنه تذكر أمر ما، وقال باستغراب:
"ولكن صفعتك حقاً قوية كيف تحملتها لارا؟".
ابتسمت أنيسة وتغمز مرةً أخرى:
"أنا كنت مراعية جداً لسنها الصغير، لم أضع كل طاقتي فيها".
تذمر خالد:
"ولكنك وضعتيها كلها معي".
ضحكت أنيسة وبعد دقيقة من السير، نظرت إلى خالد:
"كيف حال فؤاد؟".
"إنه بخير، الإصابة لم تكن بالغة، ولكنه بالطبع مرهق من ألم الخياطة".
"حبيبي، إنه صغير جداً على ذلك".
"هم أطفال، ومثل تلك الإصابات واردة، حتى لو أخذتي جميع الاحتياطات، لديهم دائماً قوة خارقة لتجنبها".
سكت خالد فجأة، وشعرت أنيسة بأنه يريد أن يقول أمراً ما، فنظرت إليه بفضول وسألته:
"هل هناك ما ترغب في قوله؟".
أطلق خالد نفساً ضاحكاً، ولكن غير سعيد، وأفصح عما يدور بخلده:
"بالأمس رأيت مدى عمق العلاقة بين التوأم".
مال رأس أنيسة بتساؤل، فوضح مكملاً كلامه:
"إنهم متعلقان ببعضهما البعض بشكل مختلف عن باق اخوتهم".
"بالطبع فقد وُلدا من رحم واحد، الرابطة بينهما قوية جداً".
ابتسم خالد بحزن:
"أيعقل علاقة الأطفال ببعضهم البعض واهية، غير علاقة لارا وفؤاد؟".
ساد صمت عميق بعد هذا السؤال الذي طرحه خالد، لم يكن لدى أحدهما إجابة مقنعة. ولكن أنيسة قالت بعد تفكير عميق:
"خالد لا تدع هذه الأسئلة تسيطر على تفكيرك، فقط تذكر أننا قمنا بما لم يستطع أحد غيرنا القيام به، وهؤلاء الأطفال يوماً ما سيتفهون ذلك عندما يكبرون وينضجون ويرون الحياة على حقيقتها".
طبطبت على كتف خالد بمواساة، ورأته يتأمل الفراغ، بينما سقطت أول أشعة شمس ساطعة على وجهه، لترى أنيسة ابنها بشكل مختلف عما اعتادت عليه، كانت ملامحه تحمل هماً وحملاً ثقيلاً، عمق من إحساسها بالظلم تجاهه. ولم تمر لحظات، حتى شدت على ذراعه وقالت:
"هيا لنجلس قليلاً".
جلسواً يتأملون مشهد الشروق كاملاً، وتحدث خالد وهو يتأملها:
"يبدو أنك متعبة، فلم تأكلي منذ أكثر من يوم".
في الواقع لم يكن لدى أنيسة شهية تجاه الأكل، ومعدتها لن تتحمل أية لقمة تدخل إليها، ولكنها ابتسمت وقالت:
"بالفعل أنا جائعة جداً، أعتقد أن ذكية استيقظت وربما تحضر الفطور الآن".
تأملها خالد وقال:
"إذا لتناول الفطور معاً".
نظرت إليه بحب، وبأجمل ابتسامة لديها اجابت:
"نعم".
***
دخلت أنيسة غرفة فرح وليلى والتوأمان، لتجد فؤاد نائم ولارا غارقة هي أيضاً في نومها بجواره وتتمسك بيده. كانا لطيفان لارا وفؤاد، جلست أنيسة على السرير، ومدت يدها تمسح شعر الفتى البعيد عن الإصابة، وهنا تحركت لارا بقلق واستيقظت. انتظرت أنيسة حتى تستعيد الطفلة تركيزها ووعيها. وجلست الطفلة على السرير وهي تمسح عينيها، ثم نظرت إلى أنيسة بحيرة وقالت بصوت يغلبه النعاس:
"ماما؟".
ابتسمت أنيسة بحب، وأجابت:
"نعم يا لارا، هذا أنا".
استعادت الطفلة تركيزها، وتحركت فجأة وهي تشرح لأنيسة حالة فؤاد بطريقة طفولية:
"ماما فؤاد نائم لأنه مصاب".
أمسكت أنيسة كف الطفلة الذي صفعته بالأمس وقبلته وهي تقول:
"نعم يا حبيبتي، هو بخير لا تقلقِ عليه".
نظرت لارا إلى كفها في يد أمها، ثم قالت بحزن وكأنها تذكرت ما صار بالأمس:
"ماما، هل أنت حزينة من لارا؟".
اغرورقت عيون أنيسة بالدموع، وقالت وهي تسحب الطفلة إلى حضنها قائلةً:
"لا، يا حبيبتي، كيف أستطيع؟".
شعرت أنيسة بنفس لارا يتشنج، ففهمت أنها تبكي، لتسألها بصوت هامس حنون:
"لماذا حبيبتي لارا تبكي؟".
قالت الطفلة بصعوبة والبكاء والنحيب يسيطران على نفسها:
"لأنني دفعت فؤاد، وضايقت ماما وجعلتها غاضبة مني".
"ولكني لم أعد غاضبة منذ الأمس".
ثم سألتها:
"أليست لارا تشعر بالندم؟".
أومأت لارا برأسها وهيّ تقول:
"نعم".
"ولن تكررها؟".
أومأت الطفلة برأسها مرةً ثانية:
"نعم".
ردت عليها أنيسة ببساطة:
"إذاً أنا لست غاضبة، وحبيبتي لارا مازالت وللأبد هي حبيبتي لارا".
طبطبت أنيسة على لارا الصغيرة، وقالت:
"هيا، أيقظي فرح وليلى لتناول الفطور؟".
نظرت لارا إلى فؤاد النائم بعمق، وقالت:
"ولكن من غير فؤاد؟".
"هو نائم ومتعب الآن، لنذهب ونتناول فطورنا، ثم لنحضر لفؤاد طعامه".
نظرت الطفلة إلى شقيقها بتردد، ثم وضعت كفها الذي صُفع في يد أنيسة التي صفعتها، ولكن هذه المرة بأمان واطمئنان، ونهضت معها لتوقظ اخوتها.
***
ظهرت أنيسة أخيراً على الفطور بعد أيام من الانعزال، وقد بدت متعبة وكأن ثقل العالم بأسره كان جاثماً على كتفيها. كانت لارا، تمسك بيدها بإحكام. وفور دخولهم ركضت الطفلة تجاه خالد، الذي ابتسم لها بحنان قبل أن يرفعها برفق لتجلس بجانبه، ومحمود على الجانب الآخر. واجتمع الأولاد جميعاً بعد أن ارتدوا ملابسهم المدرسية، وانهمكوا في تناول طعامهم. كان الجو ثقيلاً ومتوتراً، مليئاً بتساؤلات غير منطوقة. ساد صمت مشحون، ولم يجرؤ أحد على كسر هذا الصمت، لم يكن هناك إلا صوت الملاعق والأكواب، وكأن الجميع يخشى أن ينبس ببنت شفة. نظرت فرح بين خالد وأنيسة بعيون حائرة، ثم تمتمت بهدوء وكأنها تقطع حجاب الصمت:
"أبيه لا تنس معادنا الساعة السابعة".
نظر محمود إلى خالد شزراً، وقال:
"لدينا أعمال متأخرة".
سمع خالد التنبيه الذي ألقاه محمود، وقال موجهاً كلامه إلى فرح:
"حسناً يا فرح، سأنهي الأعمال باكراً وأصحبك".
مال محمود عليه وقال:
"الأعمال لن تنته قبل العاشرة".
نظر إليه خالد بابتسامة غادرة وقال:
"أنت معي، بالتأكيد ستنهيها باكراً".
فهم محمود مقصده، وقال وهو يرد إليه ابتسامته:
"لنهيها معاً، ولا تنس أن ترتدي ملابس رسمية لدينا اليوم لقاء مع مساعد الوزير".
تأملتهم فرح بحيرة، ثم قالت:
"أياً كانت خططك يا أبيه لا تتأخر".
تدخلت أنيسة بهدوء:
"فرح، لا تذهبي قبل أن أراك".
"حاضر ماما".
قالت سارة:
"ماما هل أستطيع الذهب مع فرح؟".
تدخلت فرح بانفعال:
"بالطبع لا يا سارة".
قالت الطفلة وعينيها تتدليان بحزن:
"لماذا؟ أنا أريد الذهاب معك".
"لأنني أراقبكم دائماً في المنزل، من حقي أن أرتاح قليلاً".
قال خالد برفق:
"سارة، فرح ستذهب بمفردها اليوم، وأنا سأحاول أن أتفرغ الفترة القادمة وآخذكم للعشاء في مكان راقٍ".
سمعت سارة الكلام، ثم أخرجت لسانها إلى أختها وقالت:
"أبيه سيأخذني".
نادت أنيسة بصرامة:
"سارة!".
وخرصت سارة، وخرص معها الجميع حتى خالد، فلم يكن لدى أحد الجرأة أو الرغبة ليكون سبباً في انفعال أنيسة مرة أخرى.
***
وقفت فرح أمام مرآتها، تنهي اللمسات الأخيرة على مظهرها وهي تضع أحمر شفاه ناعم وخفيف. ارتدت ملابسها العادية التي قد ترتديها في أي وقت أو مناسبة مثل هذه، وشعرها أطلقته خلف ظهرها. عينيها مع ذلك كانت على الحقيبة الذي تخبئ به فستانها وحذاءها العالِ، بينما سارة ولارا اخوتها الصغار يقفون بجوارها وعيونهم متسعة بالفضول، وهم يرون أختهم الكبيرة تتأنق أمام المرآة، انتقلت عيونهم الواسعة تجاه أحمر الشفاه، وقالت سارة:
"فرح أنا أيضا أريد أن أضع القليل منه".
"لا يا سارة، أنت مازلت صغيرة جداً".
"أرجوك يا فرح"
"قلت لا، هيا اذهبن من هنا".
دفعت فرح اخوتها خارج الغرفة وهم يأنون بسبب رغبتهم في البقاء معها. ولكن الثعالب الماكرة على الرغم من طردهم إلا أنهم نزلوا سريعاً على السلالم، وأخبروا السيدة أنيسة بأن فرح ترفض أن تضع لهم أحمر الشفاه، فصعدت السيدة أنيسة فوراً وطرقت على باب الغرفة قبل أن تدخل باندفاع فاجأ فرح التي كانت تتمايل بشعرها أمام المرأة، وقفت المرأة أمامها وتأملتها لثواني، ثم التقطت المناديل من الطاولة بجوارها وعينيها لما تفارقا وجه فرح، ثم أعطتها المنديل واكتفت بكلمة واحدة:
"امسحيه فوراً".
نظرت فرح إلى أمها، ثم لمحت الطفلتين تقفان من بعيد بجوار الباب وهن يضحكن بخبث، ولكنها بكل طاعة أخذت المناديل من أمها، ومسحت أحمر الشفاه، وبعد أن تأكدت أنيسة من اختفاء الصبغة عن شفتي فرح، مدت يدها أمام الفتاة المراهقة، لتنظر فرح إلى كف أمها الممدود باستغراب، قالت أنيسة موضحة:
"أعطني قلم الشفاه".
"ماما!".
"فرح، لا أريد المزيد من الكلام، سلميني القلم فورا!".
كانت نبرة أنيسة صارمة وفهمت فرح أن الكلام منتهي معها، وبالفعل دست فرح يدها في حقيبتها التي علقها على كتفها، وأخرجت منها قلم الشفاه الذي استخدمته، اخذته أنيسه منها وفتحته تتأكد من لونه. ولكن فرح بالفعل لم تمتلك بديل له. نظرت أنيسة إلى ملابس فرح، التي لم تكن ملفتة ومناسبة لفتاة في مثل سنها. وبينها وهي تفحصها، سمعوا الأطفال يصرخون بصخب:
"حسن!".
التفتت فرح وأنيسة فوراً عندما سمعوا أسم حسن، الذي وقف مستنداً على الباب وقال:
"أبيه سيتأخر اليوم، ولن يستطيع أن يصحبك، لذلك طلب مني أن أصحبك بنفسي".
أضاء وجه فرح بالانشراح، ولكنها حولت ألا تظهر أكثر من ذلك، التفتت أنيسة إليها وأكملت تفحصها، ثم قالت:
"إذاً لا تتأخري".
التفتت المرأة إلى حسن وقالت:
"حسن ستعود لأخذها في العاشرة".
تمتم الفتى:
"حسناً، ولكني في تلك الفترة لن اعود إلى المنزل، سأخرج قليلاً مع أصدقائي".
قالها الفتى ورحل، ولكن أنيسة قالت بصوتٍ عالٍ يسمعه:
"لا تنس أن تخبرني عن مكانك أيها الولد".
بعد ثوانٍ سمعوا حسن يقول بصوت عالٍ:
"فرح سأنتظرك بالأسفل، لا تتأخري".
نظرت أنيسة نظرة أخيرة إلى فرح، ثم التفتت وهمست وهي تخرج من باب الغرفة:
"أصبحتم متعبين حقاً".
بعد دقائق قليلة، تسللت فرح من أمام غرفة الجلوس التي تجتمع فيها العائلة، وفي يدها الحقيبة التي تخبئ فيها ملابسها التي ستبدلها فيما بعد. خرجت من باب المنزل الكبير لتجد حسن ينتظرها مستنداً على الشجرة بجوار المنزل، ويعبث في هاتفه، فقالت وهي تقترب منه:
"حسن، أنا جاهزة".
نظر الفتى إليها ثم إلى الحقيبة في يدها:
"ما هذه الحقيبة؟".
توترت فرح وقالت وهي ترجعها قليلاً إلى الخلف:
"آه،عيد ميلاد إحدى زميلاتي، وهذه هديتي لها".
سمعوا صوت السيدة منى يقاطعهم:
"حسن وفرح، ستذهبون؟".
نظر الفتى إلى المرأة بلا مبالاة وقال:
"هيا يا فرح، لنذهب".
تجاهل الفتى السيدة منى التي تأملت ظهره وعلامات الحزن الشديد على ملامحها.
***
أوصل حسن فرح أمام باب المطعم الذي سيجتمعون فيه، والتفتت إليه أخته قائلة:
"شكراً لك يا حسن، لن تنس معادنا".
"حسناً، أعلميني فور انتهائك، إلى اللقاء".
ورحل حسن تحت أنظار أخته التي وقفت تتأمله للحظات، ثم اتجهت إلى الحمام فوراً.
وقفت فرح أمام المرآة بعد أن بدلت ملابسها، كانت جميلة ومُتألقة في الفستان، شعرها الأسود الذي وصل تحت كتفيها، كان يتدلى بنعومة ويهتز مع كل حركة تبديها، نظرت فرح إلى إحدى الفتيات التي تبدو أكبر منها عمراً وكانت تضع أحمر شفاه، فسألتها بخجل:
"من فضلك، هل أستطيع استعارته منك؟".
وكانت الفتاة لطيفة جداً لتسمح لها باستخدامه، ومعه بعض مستحضرات التجميل:
"نعم تفضلي".
مسحت فرح طبقة من أحمر الشفاه بمنديل، ونظرت إليها معتذرة، ولكن الفتاة ابتسمت متفهمة، ووضعت فرح أحمر الشفاه على شفتيها، ولكنه كان صارخ عن خاصتها. مما جعلها تتردد قليلاً، لكن الفتاة علقت على شكلها:
"إنه جميل عليك، أنتِ حقاً جميلة".
شعرت فرح بالفخر والغرور بنفسها عندنا أشادت الفتاة بشكلها، وأكملت وضع مستحضرات التجميل، وبعد انتهائها، سلمت الأدوات إلى صاحبتهم وهي تشكرها بعمق. التقطت صورة لنفسها بالفستان، وأرسلتها إلى سالي، ثم ألقت على نفسها نظرة أخيرة في المرآة قبل أن تخرج من الحمام وتتجه إلى القاعة التي يجتمع فيها فصلها.
وصلت فرح متأخرة وقبل أن تدخل إلى القاعة استنشقت نفساً طويلاً دفعته إلى رئتيها، وحبسته ثم دفعت الباب ودخلت. ومع دخول فرح إلى القاعة لفتت أنظار الجميع إليها، كلما تقدمت خطوة تلتفت رؤوس زملاؤها في الفصل، ارتفعت الهمسات والتعليقات، وفرح تشعر بطاقتها التي فرضتها على جميع من هم في القاعة. حتى زميلاتها نظرن إليها بذهول وإعجاب ممزوج بالغيرة. جلست فرح بجوارهن بهدوء وهي تطلق النفس الذي سحبته، ومرت لحظات ثم قالت إحدى زميلاتها:
"أليس هذا مبالغ فيه قليلاً؟".
نظرت إليها فرح ببعض الغرور، ولم ترد عليها، وبمرور الوقت، ومع تناولهم الطعام حاول بعض زملائها الأولاد التحدث والتودد إليها، إلا أن فرح كانت لا تأبه بهم، إلا شخص واحد انتظرت أن يأتِ بنفسه ويتحدث معها، هذا الولد كانت زميلتها دينا التي تتنمر عليها وتتعمد اهانتها دائماً معجبةً به. وبالفعل قبل أن يأتي موعد انصرافها، اقترب الفتى من فرح التي تعمدت أن تبتسم إليه. أرادت أن تغيظ زميلتها التي شاهدت الموقف:
"فرح أنت جميلة حقاً اليوم، الأمر مختلف تماماً عن ملابس المدرسة".
وقبل أن تبدي دينا ردة فعل على غزل الفتى، رفعت إحدى الفتيات هاتفها أمام دينا وباقي صديقاتها، وبدا أن هناك شيئاً شاهدوه جعل وجوههن تبهت وتزرق. وفجأة نهضوا بسرعة وذهبوا جميعاً إلى الحمام.
تأملت فرح زميلاتها وهن يذهبن بشكل صاخب متوتر إلى دورة المياه، وشعرت بالضيق من تصرفها وحتى من هذا الولد الذي يتودد إليها. فأمسكت هاتفها وفتحته، في محاولة للهروب من واقعها، وتنبهت أنها لم توصل الانترنت به، وبالتأكيد لم تصل صورتها إلى سالي، ففتحت الانترنت، وما إن التقطته الهاتف، بدأ يهتز في يدها فجأة وبعنف، والإشعارات تتوارد متتابعة وكثيرة جداً، رسائل، تعليقات، مشاركات، مما جعل الهاتف يعطل ويتوقف لثواني. دق قلب فرح، وهي ترى الفيديوهات التي نشرتها لزميلاتها قد حققت مشاهدات عالية جداً، تراجعت في مقعدها قليلاً بتوجس، وحاولت أن تراقب وتقرأ ردود الأفعال. الدقائق كانت تمر عليها ببطء شديد، وامتزجت مشاعرها، شيء من القوة والتمكين، وشيء من الخوف والندم.
وبينما كانت فرح تقرأ التعليقات، لاحظت أن بعض الردود كانت مليئة بالذهول والغضب، بينما أخرى كانت مشوبة بالشفقة أو التساؤلات. ارتفعت وتيرة ضربات قلبها أكثر، وبدأت تشعر بثقل في صدرها. بدا وكأن العالم كله قد اكتشف ما فعلته. الفخر الذي شعرت به للحظة بدأ يتلاشى شيئًا فشيئًا، وحل محله مزيج من الخوف العارم والقلق العميق. ماذا لو تم اكتشاف أمرها؟ ماذا لو وصل الأمر للإدارة المدرسة أو لأهالي الفتيات؟ وسرعان ما انقلبت الأمور، التعليقات خرجت عن السيطرة. لم يكن الأمر مجرد كشف لصديقاتها المتنمرات، بل أصبح حملة شعواء من السخرية والإهانة من أشخاص لا يعرفونهن حتى. أصبح الوضع أكثر تعقيدًا مما توقعت، وبدأت تدرك أنها قد أطلقت وحشًا لا يمكن السيطرة عليه. حاولت التنفس بعمق، ولكن شعورها بالاختناق تزايد. كان عليها أن تخرج من هذا المكان، فأشارت لزميلها بأنها ستذهب إلى الحمام، في محاولة للهروب من تلك الدوامة التي صنعتها بنفسها، وقبل أن تخرج وقفت دينا أمامها ووجهها تبدل إلى غضب وخوف في نفس الوقت، وقالت وشفتيها ترتجفان:
"افتحي هاتفك يا فرح!".
ارتعش جسد فرح من الخوف، خاصةً يديها، فمن الواضح أنهم يشكون بها. وضعت يدها الممسكة بالهاتف خلف ظهرها، وقالت بتوتر:
"لماذا؟".
"أعطني هاتفك!".
حاولت دينا أن تخطف منها الهاتف، ولكن فرح راوغتها واستطاعت أن تتراجع بضع خطوات قائلة:
"لماذا تريدين هاتفي".
تحولت ملامح الفتاة من الغضب إلى التوسل:
"فرح أرجوك، سلميني هاتفك، أريد أن أراه".
"لا لن أسلمه لك".
وفجأة اشتغل الغضب في عيون دينا، ولم تمر لحظات قليلة وشعرت فرح بأن شعرها يتم سحبه بقوة، في البداية كانت فرح مذهولة من مبادرة دينا العنيفة والمُفاجأة، ولكن بعد استيعابها للموقف، تحركت يدها وطالت من دينا ما طالت، وفقد عقلها السيطرة عن جسدها، وربما غاب من الأساس. هاجت وماجت قاعة الطعام فجأة في إحدى المطاعم بين فتيات مراهقات لم يتعد عمرهن السادسة عشر. وتم تصوير ما حدث من بعض الموجودين، حتى من زملائهن الأولاد، كانوا يصورون زميلاتهن في الفصل وهن يعتدين على بعضهن البعض بالضرب، دون التستر عليهن أو محاولة إيقاف الشجار.
مر الوقت وتجاوز الساعة العاشرة، وحسن تحت المطعم ينتظر أخته، متفقداً الساعة في هاتفه من ثانية للأخرى، كان يسمع صوت صخب صادر من المطعم، اعتقد في البداية أنه طبيعي من مطعم مشهور مثل هذا، ولكن مع استمرار الصوت، وتصاعد الصرخات، انتابه القلق على اخته، ودخل المطعم صاعداً الدرج، آخذاً كل درجتين في خطوة. دفع الفتى الباب، ليجد مشهداً أدهشه وصدمه، كان هناك ازدحاماً في المكان بشكل لا يتوقعه أحد، ويبدو أن هناك شجاراً بين شخصين، جال حسن بعينيه في المكان لمدة خمس دقائق وهو يبحث عن أخته، وفي النهاية رآها هيّ مركز الشجار، لمحها وسط الزحام، كانت ترتدي ملابس مختلفة عن التي رآها بها قبل ثلاث ساعات، وشعرها كان مبعثرًا ووجهها مشدودًا بالغضب، بينما كانت ممسكة بذراع دينا التي تقف مقابلة لها بنفس التعبيرات الغاضبة. الفتيات من حولهن كن يصرخن ويحاولن التدخل، بينما الأولاد يمسكون بهواتفهم ويصورون كل لحظة. تجمد حسن للحظات، غير قادر على استيعاب ما يحدث أمامه:
"فرح!".
صرخ حسن بصوت مرتفع، محاولًا الوصول إليها، ولم تسمعه فرح في البداية بسبب الصخب، ولكنها صاح بصوت أعلى وهو يحاول أن يقترب منها وسط الزحام:
"فرح!".
التقطت أذني فرح صوت أخيها حسن الذي تعرفه جيداً، وشعرت بأحد ما يسحبها من ذراعها، فنظرت إليه للحظة بذهول، ثم نظرت إلى يدها التي تمسك بذراع دينا، وتركتها فجأة وكأنها تذكرت مكانها. كانت عيون حسن أخاها مليئتان بالدهشة والقلق:
"ماذا تفعلين؟! ماذا يحدث هنا؟!"
لكن فرح لم تستطع أن تجيب فورًا، شعرت أن كل شيء ينهار حولها. التوتر الذي سيطر على قلبها منذ أن بدأت الأحداث تتصاعد لم يعد بإمكانها تجاهله. كل ما كانت ترغب فيه هو الهروب من هذا المكان، من العيون التي كانت تراقبها، ومن الأخطاء التي ارتكبتها.
"علينا أن نخرج من هنا الآن!". قال حسن وهو يشد يدها، يسحبها بعيدًا عن الفوضى المتزايدة. نزلت فرح الدرجات بسرعة خلف حسن الذي يسحبها من ذراعها، وتذكرت فجأة الفيديوهات التي انتشرت، والأشخاص الذين شاهدوا، وكل تلك التعليقات الغاضبة والمحقرة. شعرت برغبة قوية في الصراخ، لكن لم تستطع، كل ما شعرت به هو الخوف والندم. وبينما كانا يغادران المطعم، منعهم أفراد الأمن في المكان من الخروج من باب المطعم. وبعد أن هدأت الضجة، جاء المدير، وتحدث بصرامة مهدداً بأنه لن يخرج أحد من المكان إلا بقدوم الشرطة.
***
في مكتبه أغلق خالد آخر ملف، وهو ينظر في ساعته، موجهاً كلامه إلى محمود:
"يبدو أنك انتصرت عليّ هذه المرة، وفرضت كلمتك".
رفع محمود نظارته بفخر، وكتف ذراعيه بتحدٍ، ليبتسم خالد على هذه المناوشة. وبعد دقائق من الراحة والأحاديث الجانبية، نهض خالد وهو يأخذ سترته من الكرسي، ويضعها على ذراعه قائلاً:
"هيا بنا لنذهب".
سمع صوت هاتفه يعلو من جيب سترته، فأخرجه ورأى أسم أنيسة. ضغط على علامة الرد ووضع الهاتف على أذنه، ليسمع صوت أنيسة المتوتر:
"خالد أين أنت؟ الأولاد لم يرجعوا حتى الآن، ولا أستطيع التواصل معهم".
رفع خالد معصمه ليجد الساعة قد وصلت إلى الحادية عشر، فأجاب على أنيسة بهدوء، والقلق يغلبه:
"حسناً سأتصرف".
أغلق الهاتف، ونظر إلى محمود الذي يقف أمامه مستفهماً:
"محمود، قد بنا إلى هذا المطعم".
أرسل إليه الموقع على الهاتف، وخرج الرجلان، وبينما وهما في الطريق اهتز هاتف خالد ليرى أسم حسن، ضغط على علامة الرد بسرعة، واضعاً الهاتف على أذنه وهو يشعر بالقلق المتزايد. سمع صوت حسن يأتي متوتراً من الجانب الآخر:
"أبيه، أحتاج مساعدتك، يجب أن تأتِ حالاً، هناك مشكلة كبيرة في المطعم".
صمت خالد للحظة، محاولاً استيعاب الكلمات التي قالها حسن، ثم رد بجدية:
"ماذا حدث؟ هل أنت بخير؟ وفرح؟ وما هي هذه المشكلة؟".
تردد حسن قليلاً قبل أن يجيب، وكان صوته مليئًا بالقلق:
"إنها فرح.. حدث شجار بينها وبين بعض زميلاتها. والأمور خرجت عن السيطرة".
شد خالد قبضته على الهاتف وهو يستمع. قلبه بدأ ينبض بسرعة. كان يتوقع أن هناك تأخيراً في عودة الأولاد، لكنه لم يتخيل أن الأمور قد تتفاقم بهذا الشكل. نظر إلى محمود وقال بسرعة:
"علينا أن نسرع".
ثم عاد للحديث مع حسن:
"ابقَ هناك، أنا في الطريق. حاول أن تبقي الأمور هادئة قدر الإمكان حتى أصل".
أغلق خالد الهاتف وهو يشعر بثقل الموقف. نظر من نافذة السيارة، متسائلاً كيف سيتعامل مع هذا الوضع المعقد.
وفي المطعم، تفاجأ خالد بما سمعه، ولكنه في النهاية لم يضع يده على سبب مقنع يدفع فرح وصديقتها للشجار بالأيدي وبهذا العنف، والأكثر غرابة أن كلتا الفتاتين رفضتا الحديث أو الافصاح عن سبب مقنع، وتم تسوية الأمر ودياً بين مالك المطعم وأولياء أمور الطلاب المسؤولين عن الموقف برمته، وبالطبع كانت خالد من بينهم. واضطر خالد ووالد دينا دفع ثمن الضرر الذي وقع على صاحب المطعم من هذا الشجار العنيف.
***
الساعة الواحدة ليلاً، دخلت فرح وهي ترتدي سترة خالد، وتشدها في محاولة لأخفاء ما كانت ترتديه دون علم عائلتها، وخلفها حسن وخالد ومحمود. كانت غير مرتبة المظهر، وشعرها مبعثر. رفعت رأسها لتجد جميع أفراد العائلة يقفون على الدرج بملابس نومهم يراقبون المشهد. نزلت أنيسة بسرعة، وكانت علامات الغضب تشتعل على وجهها، فأمسكت ذراع فرح بقوة وقالت بصوت صارم موجّه للجميع:
"الجميع إلى غرفكم، ست منى اعتني بالأطفال، وحسن إلى غرفتك فوراً"
نظرت فرح إلى إخوتها بنظرة سريعة ثم أشاحت وجهها، بينما أنيسة تسحبها باتجاه غرفة المكتب وخلفهما خالد. وقبل أن يدخل، التفت قائلاً لمحمود:
"محمود، شكرًا على مجهودك، أقدر تعبك معنا الليلة".
قال محمود بتواضع ووضع يده على كتف خالد قائلاً:
"لا بأس، لكن حاول أن تكون رفيقًا بها".
تركه خالد ودخل خلف أنيسة وفرح
في غرفة المكتب، وقف خالد في زاوية بعيدة يراقب الوضع بصمت، بينما أنيسة أجلست فرح بقوة على أقرب كرسي وقالت بغضب مكتوم:
"لم أكن أتصور أنك تجرؤئيين على مثل هذه التصرفات المقززة".
أخذت أنيسة نفسًا عميقًا، وتابعت بغضب:
"تخدعينا، ترتدين تلك الملابس، وتلطخين وجهك بمساحيق رخيصة، وتحتكين بزملائكِ حتى ينتهي الأمر بشجار وتأتي الشرطة؟ وتضطرين الجميع للخروج في منتصف الليل من أجلك؟"
ظلت فرح صامتة، تنظر إلى الأرض بوجه جامد. اغتاظت أنيسة أكثر، فأمسكت ذراعها مجددًا وسحبتها لتقف أمام المرآة. همست بغضب:
"انظري إلى نفسك! هل هذه صورة فتاة طبيعية في السادسة عشرة من عمرها؟".
أمسك المرأة معصم الفتاة الذي تغطيه، وهي تعلم بالفعل ما تحته، و نظرت إلى فرح باشمئزاز، فسحبت فرح يدها بسرعة لتفادي أن يرى أحد ما تحت الضمادة، ولم تنظر إلى المرآة فأمسكتها أنيسة من رأسها ورفعته لتواجه فرح نفسها أمام المرآة وترى مظهرها المبعثر:
"انظري إلى نفسك أيتها البنت المحترمة".
لم ترد فرح على أمها وأكتفت بالنظر إلى صورتها المبعثرة، ولمحت وجهها ملطخ، وهناك وبعض الجروح السطحية الناتجة عن أظافر زميلتها:
"أهذه هي الفتاة التي ربيتها؟ التي وضعت ثقتي فيها؟".
صاحت أنيسة بصوت مرتعش من الغضب، ثم رفعت يدها لتزيح خصلة من شعر فرح المبعثر عن وجهها:
"ماذا جرى لك؟ هل هذا هو الشرف والكرامة اللذان علمتكِ إياهما؟".
فرح أخيرًا رفعت نظرها لتواجه عيني والدتها في المرآة. كانت عينيها مليئتين بالتعب والألم، لكنها لم تنطق بكلمة.
"تحدثي!".
صرخت أنيسة، وعندما لم تجد رداً من فرح، تركتها بعنف وانسحبت وهي تتنفس بصعوبة. جلست على الكرسي الذي جلست عليه فرح منذ ثوان في محاولة لتهدئة غضبها، واكتفى خالد بهذا الصمت، ثم تقدم بخطواته الثقيلة قائلاً:
"ماما، دعينا نهدأ قليلاً".
ورفع وجه فرح الذي أخفضته مرةً أخرى:
"أعتقد أننا جميعًا نحتاج أن نستمع لبعضنا البعض بدلًا من توجيه الاتهامات".
لكن أنيسة لم تكن في حالة تسمح لها بالهدوء، استدارت نحو خالد وقالت:
"أتطلب مني أن أهدأ بينما تلك البنت تجر نفسها إلى الهاوية؟".
أشارت أنيسة إلى فرح باتهام، فوجه خالد كلامه إلى فرح:
"فرح تحدثي معنا بصراحة".
اشاحت الفتاة بوجهها، فاغتاظت انيسة:
"أيتها الفتاة تعاملي باحترام".
أشار خالد إلى انيسة لتهدأ وقال بهدوء مخيف:
"فرح، اسمعيني جيدًا. لا أريد أن أكون في موقف يفرض عليّ هذا النوع من التصرفات. لكن صمتك وإصرارك على الهروب من المواجهة، يعني أنكِ لا تعطينا فرصة لفهمك".
نظرت فرح إلى الأرض دون رد، فأصر خالد:
"فرح هل تعلمين ما معنى صمتك؟"
لم ترد الفتاة، فتنهد قائلاً:
"إذا أنت تتقبلين أي عقوبة سيتم فرضها عليك"
أكمل وهو ينظر إليها ببرود
"تصرفاتك الليلة لم تكن مجرد خطأ. لقد وضعتِ نفسك في موقف خطير، وأظهرتِ قلة احترام لنفسك ولعائلتك. الآن، بالنسبة للعقوبات، لن تكون مجرد عقوبات مؤقتة. هذه الأمور تتطلب منكِ مراجعة نفسك".
تأمل شكلها الغير مرتب، وهي تقف بهدوء دون أن تبدي ردة فعل:
"لن يكون هناك هاتف أو انترنت لمدة شهر كامل، هذا أولًا. ستقومين بمساعدة ست ذكية في الأعمال المنزلية يوميًا، لمدة ساعتين على الأقل. بالإضافة إلى ذلك، سيتم تعليق كافة أنشطتك الاجتماعية، لن تخرجي في نهاية الأسبوع أو في أي وقت غير أوقات المدرسة".
مد يده قالاً بصرامة:
"هاتفك".
نظرت فرح إليه باعتراض، فكرر خالد بثبات:
"هاتفك يا فرح".
أخرجت فرح الهاتف المغلق على مضض، وأعطته إلى خالد الذي قال ببرود:
"هذا ليس عقابًا فقط، فرح. إنه فرصة لتتعلمي كيف تتحملي مسؤولية أفعالك. الآن، إلى غرفتك".
"اذهبِ الى غرفتك حالا".
كررها خالد وصوته مشبع بغضب مكتوم كالبركان الثائر تحت الرماد، فنظرت إليه فرح بضعف، ثم إلى أنيسة بانكسار، والتفتت إلى الباب، وخرجت من الغرفة بهدوء شديد.
نهاية الفصل التاسع عشر
***
أصدقائي أهلاً بيكم، يا رب تكون استمتعتم بالفصل، ارآئكم تهمني ولأول مرة هطلب الــ vote أو التصويت على الفصول، ده بجد الفترة دي يهمني جداً. وهتبسط أوي لو عرفتوا ترشحوا الرواية على جروبات الروايات تحت هاشتاج المنزل #المنزل
في فصول الرواية بحاول قدر المستطاع أعرض عليكم قضايا ومشاكل مجتمعية مهمة جداً على هيئة لفتات بحاول أدمجها مع نسيج القصة الأساسي، مع الحفاظ على المتعة والطرافة وأيضاً الدراما والتراجيديا في الرواية، وبتمنى بجد أكون قدرت أقرب من التوازن ده.
شكراً لإخلاصكم وتفهمكم وانتظروا الفصل العشرين.
كاتبتكم ءَالَآء
***
سؤال الفصل: يا ترى المفروض سالي تتعامل ازاي مع أنيسة؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق