الثلاثاء، 1 يوليو 2025

رواية المنزل: الفصل الخمسون - ءَالَآء طارق

 

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الخمسون

فضلاً، متنسوش الvote.

انهاردة الفصل قبل الأخير.

المزيكا انهاردة أغداً ألقاك، كلمات الشاعر السوداني 'الهادي آدم' وألحان الموسيقار 'محمد عبدالوهاب' وغناء الجميلة 'أم كلثوم' من أرق وأعذب الأغاني اللي سمعتها وحابة أشارككم معايا أجمل كوبليه.

هذه الدنيا كتابٌ أنت فيه الفكر

هذه الدنيا ليالٍ أنت فيها العمر

هذه الدنيا عيونٌ أنت فيها البصر

هذه الدنيا سماءٌ أنت فيها القمر

متنسوش تتابعوني على الانستا واليوتيوب والتيكتوك.

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

YouTube: alaatareks

***


القدر حقًا غريب.. وقاسٍ في كثيرٍ من الأحيان. يأتيك بغتة، يخطفك وأنت لا تشعر بخطاه، وكأن لا صوت له. أحيانًا، يرفعك برفقٍ فوق غيمة، يُحلّق بك عاليًا نحو السماء، حتى تكاد تلامس الضوء بسعادتك، يدق قلبك بنشوةٍ لا توصف، كأنك خارج الزمن. وأحيانًا أخرى، يُسقطك فجأة.. يطيح بك إلى القاع، إلى حيث العتمة والخذلان، فتجد نفسك، ذلك الإنسان الذي كان يحلّق فرحًا فوق الغيوم، مكسورًا مهزومًا في الأسفل. القدر حقًا قاسٍ حين يُدير ظهره دون إنذار.

وجميعُنا، نحنُ البشر، منتصرون وضحايا في آنٍ واحد. نفرح حين يبتسم لنا القدر، ويمنحنا لحظاتٍ من النور، وننهار حين يطوي بساط الفرح من تحت أقدامنا، تاركًا إيانا في العراء. نعيش بين شدّ وجذب، نُمنح السعادة أحيانًا، وتُسلب منا في أحيانٍ أخرى، نُصبح في لحظة ضحايا صامتين، كحالة سالي. تلك الشابة التي تسقط الآن من سابع سماء، بعدما كانت تظن أنها ثابتة، متماسكة، محمية. لكن القدر باغتها، أسقطها دون رحمة، وها هي تتخبّط في ألمها، لا تدري إلى أين يأخذها هذا الطريق، ولا ماذا يخبّئ لها الغد من أوجاع جديدة.

***


لم تمر أيام قليلة على زيارة فرح، ومرضت والدة سالي. في البداية، ظنّت سالي أن الأمر لا يعدو كونه نزلة برد بسيطة، لكن مع مرور الأيام، بدأت الأعراض تتفاقم، وازدادت حالة والدتها سوءًا. وبعد الفحوصات، تبيّن أن السيدة سهام تُعاني من التهابٍ رئوي حاد ناتج عن فيروس كورونا.

في اللحظة التي تأكّدت فيها سالي من التشخيص، خفق قلبها بقلقٍ عارم. لم يكن المرض بحد ذاته ما أفزعها، بل ما تعلمه من خلفية طبية عن وضع والدتها. فالسيدة سهام كانت تُعاني أصلًا من مرض مناعي مزمن، "الروماتويد"، وهذا وحده كان كافيًا ليجعل مناعتها هشّة، فكيف إذا اجتمع مع التهاب رئوي؟ خطرٌ مضاعف يُهدّد حياة امرأة تقترب من الستين. كانت سهام تبدو أمام بناتها في هذه اللحظة، ضعيفة على نحوٍ لم يعهدوه من قبل. جسدها الهزيل، أنفاسها المتقطعة، وعيناها المُجهدتان، كلّها كانت إشارات تُنذر بالخطر.

في داخلها، كانت سالي تشعر بذعرٍ لا تقدر على البوح به. شيء ما، أشبه بهمسٍ داخليّ، كان يُخبرها أن حالة والدتها ليست عابرة. فرغم أن موجة المرض قد خفت في الآونة الأخيرة، إلا أن اسمه وحده – كورونا – كان كافيًا ليثير الذعر، كيف لا وهو ذات المرض الذي حصد أرواحًا كثيرة، وخصوصًا من يشبهون سهام، ذوي المناعة المنخفضة.

تناوبت سالي مع شقيقتها زينة على رعاية والدتهما، تسهران على راحتها، ترصدان تنفسها، وتراقبان تقلب حالتها. لم يكن هناك ما يشير إلى تحسن، لكن سهام، في لحظات صحوها، كانت تحاول أن تخفي ضعفها، تتحامل على نفسها وتبتسم، وكأنها تقول لبناتها:

"لا تخفن، أنا بخير."

ومضت الأيام ثقيلة، حتى جاء ذلك اليوم الذي انهارت فيه تمامًا. تراجع مستوى الأكسجين في دمها بشكل حاد، وأصبحت عاجزة عن الحركة أو حتى الكلام. لم يكن هناك خيار سوى الإسراع بنقلها إلى المستشفى، حيث وُضعت على جهاز الأكسجين، أظهرت الأشعة التي أُجريت لها أن حال الرئتين سيئة جدًا، والتلف فيهما واضح. لم يتكلم الأطباء كثيرًا، لكن نظراتهم كانت كافية لتوضيح صعوبة الحالة.

كانت الشابتان بمفردهما، لا أحد سواهما يعتني بوالدتهما. لم يكن هناك قريب أو صديق، لا عون ولا سَند، سوى بعضهما البعض. زينة، الأصغر، كانت تبكي كل ليلة بصمتٍ موجِع، تخبّئ وجهها في وسادتها كي لا تُظهر ضعفها، لكن دموعها كانت تنهمر رغمًا عنها، عاجزة عن احتمال فكرة فقدان والدتهما.

أما سالي، فكانت تتحامل على نفسها. هي الكبرى، عليها أن تحمي شقيقتها لا أن تنهار أمامها. كانت تبتسم، وتربت على كتف زينة وتطمئنها برفق:

"ستكون بخير، فقط علينا أن نصبر قليلاً."

لكن الحقيقة التي تراها في ملامح أمها، في صوت أنفاسها اللاهثة وفي عينيها الزائغتين، كانت تقول عكس ذلك. وكانت سالي تعلم، لكنها تُخفي الحقيقة خلف قناعٍ من الصلابة.

***


فتحت سالي باب غرفتها بهدوء. كانت قد عادت للتو من زيارة والدتها في المستشفى. في الآونة الأخيرة، بدأت تشعر وكأنها إنسانة آليّة، بلا مشاعر، تستيقظ كل صباح، ترتدي ابتسامة باهتة مزيّفة، وتذهب إلى عملها، ثم تتوجه مباشرة إلى حيث ترقد والدتها. تكرار خانق، أيام تتشابه كأنها لا تنقضي. كم تُشبه هذه الأيام، أيام احتضار أنيسة... لكن هذه المرة، لم تكن أنيسة، بل كانت أمّها. الفرق مؤلم. أقرب، أعمق، يمزقها بصمت.

توقفت فجأة في منتصف الغرفة. شعرت أن قدميها لم تعد تقويان على حمل جسدها المتعب. انهارت أرضًا، بصمت، كطبيعتها الهادئة، رفعت كفيها، أمسكت رأسها، وعيناها تتسعان إلى أقصى حد، وكأنها، ولأول مرة، بدأت تستوعب ما يحدث. أخيرًا سمحت لنفسها أن تشعر. وأغرورقت عيناها بدموعٍ حارّة، انسكبت بلا صوت، لكنها كانت صرخة مكتومة، تختبئ خلف كل تلك الأيام المتماسكة.

كانت سالي تشعر بأنها على حافة الجنون. العالم من حولها مظلم، يضيق شيئًا فشيئًا، حتى صار كقوقعة لا هواء فيها.. تختنق. وكانت... وحيدة. وحيدة القلب، وحيدة الفكر، وحيدة الخوف. ماذا تفعل؟ من ينقذها من هذا الانهيار المتسلل بهدوء كالموت؟ همست بصوتٍ واهن، بالكاد خرج من بين شفتيها المرتجفتين:

"يا إلهي... ماذا أفعل؟"

ثم كررتها مرة أخرى، بصوتٍ أقرب إلى البكاء منها إلى السؤال، وكأنها تطرق باب السماء برجاء، تنتظر إجابة. جلست على الأرض، يديها على رأسها، أنفاسها ثقيلة. الدقائق تمرّ كأنها ساعات. ثم.. صوت رنين الهاتف قطع الصمت.

نظرت إليه بلهفة للحظات، وامتدت يدها المرتعشة إليه بخوف، خشيت أن يكون خبراً مفجعاً عن أمها.. لكنها وجدت رسالة من فرح، الوحيدة التي تملك رقمها:

[الجلسة غدًا يا سالي. الساعة العاشرة صباحًا. لا تتأخري.]

حدّقت سالي في الشاشة، وكأنها لم تفهم فورًا. ثم اتسعت عيناها. نعم الجلسة! جلسة الأطفال. غدًا سيقرر القاضي ويُحسم الأمر، هل سيبقى الصغار في حضن خالد، أم يُنتزعون منه إلى الأبد؟

شعرت بدوارٍ خفيف، وضعت يدها على جبينها الحار، تُفكّر، تُفتش عن قرار، عن حل، عن قوة تُعينها.

في الآونة الأخيرة، كانت تشعر بأعراض مقلقة. صداعٌ خفيف، إرهاقٌ متواصل، سعالٌ يظهر ويختفي. بدأ الشك يتسلل إلى عقلها: هل التقطت العدوى من والدتها؟ لكنها صمتت.. ولم تُرد أن تزيد على أختها ألماً فوق ألم. اكتفت بالاحتياطات. ابتعدت عن زينة، تجنبت التلامس تمامًا، تحملت كل شيء بصمت.. ومرضها بصبر. لكن.. الجلسة غدًا. هل تذهب؟ أم تبقى خوفًا من نقل العدوى؟

نظرت إلى مرآة الغرفة، إلى وجهها الشاحب، إلى عينيها المرهقتين.. وسألت نفسها مجددًا:

"هل أتحمل قرارًا آخر بالفقد؟"

الفقد؟ تخيلت جدها العزيز الراحل.. الحياة بعده كانت مرة، بلا طعم، بلا لون. ثم خطر في بالها وجه أنيسة. نعم، لم تكن العلاقة بينهما طويلة، لكنها كانت عميقة بما يكفي لتترك جرحًا حين رحلت.

الفقد قاسٍ.. يوجع القلب ويكسر الروح. ولم تكن سالي تملك رفاهية كسر آخر، لم تكن تتحمل فكرة أن تُنتزع منها أمها أيضًا.

فكّرت: 'ربما، ربما لو تمسّكت بالباقين أكثر.. لن أُجبر على توديعهم.'

نهضت عن الأرض ببطء، وكأنها تسحب جسدها من قاع حزنٍ سحيق، التقطت حقيبتها، ومضت.. رغم التعب، رغم الإرهاق، رغم كل شيء.

كان الليل قد حلّ، وزينة ترعى والدتهما في المستشفى. لكن سالي، التي كانت في أمسّ الحاجة للراحة، ذهبت.. ذهبت دون أن تعرف السبب، فقط شعرت بأنها بحاجة لذلك. ربما كانت تشعر في أعماقها أن هذه الساعات قد تكون الأخيرة، لكنها لم تسمح للفكرة أن تكتمل في ذهنها، حاولت أن تدفنها. فقط ستذهب وتستأذن أمها، أن تخبرها بأنها ستغيب لبضع ساعات ثم تعود لتبقى بجوارها من جديد. لا بأس في ذلك، فكّرت.

فتحت باب الغرفة بهدوء، وفي الداخل رأت مشهدًا لم تتوقعه. كانت والدتها جالسة على السرير، تبدو منهكة نعم، لكن فيها حياة، وزينة تقابلها، ترتدي كمامتها، تتحدث بحماس ودموع الفرح تلمع في عينيها.

حين التفتت إليها زينة، نهضت بسرعة وقالت بسعادة غامرة:

"سالي! انظري.. ماما بخير! استيقظت فجأة، والطبيب فحصها، الحالة مستقرة!"

ثم التفتت إلى والدتهما وابتسمت بعينين مملوءتين بالرجاء:

"أليس كذلك يا ماما؟"

أومأت سهام برأسها، تأكيدًا بصمتٍ مطمئن. ابتسمت، وملامحها الهادئة كأنها تعتذر عن كل وجع مرّ بهن.

تقدمت سالي، كانت لا تزال ترتدي كمامتها، اقتربت، ثم جلست في مواجهتها، رفعت الكمامة قليلاً لتتكلم، والتقت عيناها بعيني والدتها المرهقتين. قالت بصوتٍ متكسر، متهدج:

"ماما هل أنتِ بخير؟"

أومأت سهام مجددًا، وابتسامة صغيرة شقت شفتيها:

"نعم، كيف حالكِ يا سالي؟"

عندها لم تتمالك الشابة نفسها، اغرورقت عيناها بالدموع، وانحنى رأسها بخفة وكأنها تعترف بضعفها أخيرًا، وقالت من أعماق القلب:

"أنا لست بخير يا ماما.. أرجوك.. كوني أنتِ بخير."

تأملت سهام وجه ابنتها بحنان ممزوج بحزن عميق، ثم قالت بصوتٍ خافت، لكنه ثابت:

"لماذا تبكين؟ أنا أمامك بخير.."

مدّت سالي يدها وأمسكت بكف والدتها المرتعش، تأملت شاشة جهاز الأكسجين التي أظهرت مؤشرات مطمئنة، ثم انحنت برأسها، ووضعت يد والدتها على جبينها وهي تبكي بصمت.. عندها، مدت سهام يدها الأخرى، ومسحت على شعر ابنتها بحنان قديم لم يخفت، وقالت بصوتٍ دافئ، لكنه يحمل شيئًا من الرجاء:

"لا أحب أن أراكِ هكذا.. انظري إلي، سالي.."

رفعت سهام وجه ابنتها برفق، تأملتها للحظة طويلة، ثم همست:

"من اليوم يجب أن تكوني سعيدة، عديني أنكِ ستحرصين على ذلك.."

ثم التفتت ببصرها نحو زينة، التي كانت تقف في الزاوية تبكي في صمت وهي تراقب المشهد، رفعت سهام يدها وأشارت لها بحنان:

"تعالي يا زينة."

اقتربت زينة بخطى مرتجفة، وجلست بجوار شقيقتها على حافة السرير، تأملتهما سهام للحظات، ثم ابتسمت ابتسامة رقيقة، كأنها ترى فيهما كل ما تبقى من عمرها، وقالت، بصوت خافت لكنه مملوء بالقوة:

"اعتنوا ببعضكم البعض.. حتى أعود."

الجملة الأخيرة قالتها بخفوت، ثم أغمضت عينيها للحظة، وأكملت بعدها وهي تتأملهم:

"حتى وإن لم أكن إلى جواركما.. كونا عونًا لبعضكما البعض. لا تخافا من الحياة، أعدكما أن الله سيعوضكما.. أنا واثقة من ذلك."

نظرت المرأة إلى الأعلى، وعيناها تلمعان بدموع لم تنهمر، كأنها تهمس لله رجاءً عالقًا في صدرها:

"يا رب.. احفظهم لي، وإن لم يكن لي نصيب في البقاء، فلا تتركهم وحدهم.."

ثم التفتت إلى سالي وزينة، وكان التعب قد بدأ يعود إلى ملامحها، لكن نظرتها بقيت دافئة، كأنها تزرع الطمأنينة داخلهما رغم كل شيء، وهمست:

"تذكروا دائمًا.. قلبي معكم، في كل خطوة، في كل لحظة حزن أو فرح.. أنا هناك دائماً، سأكون بجواركم."

ثم أغلقت عينيها ببطء، بينما بقيت يداها في كفي ابنتيها، تغمرهما بما تبقى من دفء قلبها، وخيّم الصمت على الغرفة، ذلك الصمت المليء بالدعاء، بالخوف، وبالحب الذي لا يموت.

تحدثن طويلًا تلك الليلة.. الأم وابنتاها. تبادلن الضحك والبكاء، واستعادوا معًا مشاهد من ماضيهن، وكأن الزمن قرر أن يتوقف ليمنحهن فرصة أخيرة للدفء.

لم يكن المكان غرفة مستشفى، بل بدا وكأنه منزلهن الصغير والدافئ. عاد كل شيء كما كان.. لا أجهزة طبية ولا أنابيب أكسجين، فقط ضوء شاحب ناعم كضوء الصباح. تخيلن معًا حياة لم تُعش كما ينبغي: والدتهن تستيقظ كل صباح بلا عجلة، لا تخرج إلى العمل، فقد تقاعدت أخيرًا. تُعدّ لهن الفطور على مهل، وتنتظر أن تستيقظ سالي أولًا، ثم زينة، كما تعودتا.

تخرج سالي إلى عملها وتعود في وقتها، وتجلس بعدها مع والدتها تقرأ أو تتحدث. في الإجازات، يخططن للسفر، يتجولن معًا ويكتشفن أماكن جديدة، يلتقطن الصور ويملأن الذاكرة بما فُقد في أيام التعب والانشغال.

ورأت سالي نفسها في فستان الزفاف، ووالدتها تقف خلفها، ترتب طرحتها بحنان، تمسك بيدها تودعها. تخيلت زينة هي الأخرى اللحظة ذاتها. لحظات سعيدة، تذيب القلب من دفئها، وكأنها وعد من الحياة بالتعويض بعد طول ألم.. كنّ يستحققن هذه اللحظات بصدق. لكن.. مرت لحظاتهنّ الخيالية وكأنها واقع عاشوه لثوانٍ، ثم تلاشت، على صوت الأجهزة الطبية.. ذلك الصوت البارد، الثابت.

***


في الصباح الباكر، ودّعت سالي والدتها بعينين دامعتين وقلبٍ مثقل بالمشاعر، ضمّتها للحظات كما لو كانت تستمدّ منها دفعةً أخيرة من القوة، ثم قالت بصوتٍ متهدّج:

"سأعود سريعًا يا ماما.. فقط عليّ أن أؤدي واجبي تجاه الأطفال. انتظريني."

ورغم التعب الذي بدأ يتسلّل إلى أعماقها، والإرهاق الذي أثقل كتفيها، كانت عازمة على الوفاء بذلك الوعد، حتى وإن كانت لا تدري في قرارة نفسها لماذا شعرت بثقله بهذا الشكل. وكأن شيئًا في قلبها كان يُنذرها.

ابتسمت والدتها، بابتسامة لا تُشبه أي ابتسامة سبقتها. كانت دافئة، مطمئنة، وفيها شيء من الرضا وكأنها تودّع الدنيا برضا وامتنان:

"رافقتك السلامة يا سالي. عودي سريعاً."

امتدت رحلتها لثلاث ساعات متواصلة، قطعتها بصمتٍ ثقيل، وعندما وصلت أخيرًا، كانت عقارب الساعة قد تجاوزت الوقت المحدد للجلسة، لكن قلبها لم يهدأ حتى وصلت إلى المحكمة.

دلفت سالي إلى البهو بخطوات متسارعة، تتعثر بأنفاسها المتعبة، وبين وجوه الناس الكثيرة، لمحتها فرح واقفة أمام باب الغرفة الصغيرة حيث تُعقد الجلسة. نادت فرح بصوت متوتر سرعان ما تحوّل إلى ارتياح ممزوج بعتاب:

"سالي!"

واندفعت نحوها بخطوات سريعة. لحق بها حسن وباقي الأولاد، تراجعت سالي قليلًا عنهم، تلتقط أنفاسها، بينما تقدمت فرح قائلة:

"لقد تأخرتِ. لقد بدأوا منذ نصف ساعة"

لكن قبل أن تُجيب، انسلّ صوت حسن، باردًا كالعادة، وهو يتفحص ملامحها الشاحبة:

"هل أنتِ مريضة؟"

نظرت سالي إلى حسن بصمت، ولم تُجب على سؤاله فورًا، إذ خيَّم التعب على ملامحها، وأثقل لسانها. ثم قالت بصوت خافت، وهي تتجنب النظر في عينيه:

"قليلاً.. لكنه ليس الوقت المناسب للحديث عني."

حولت نظرها نحو فرح، ثم إلى الأولاد الذين اصطفّوا قرب باب الغرفة الصغيرة، وقد ارتسم القلق على وجوههم الصغيرة، فشعرت سالي بانقباض في صدرها. استجمعت ما تبقى من قوتها، واقتربت منهم، وقالت بابتسامة شاحبة:

"هل أنتم بخير؟ لا تخافوا.. كل شيء سيكون على ما يُرام، فقط كونوا صادقين أمام القاضي وقولوا ما تشعرون به بصدق. اتفقنا؟"

وفي تلك اللحظة، فُتح باب الغرفة، وخرج الموظف بملامح رسمية ينادي بأسماء الأطفال واحدًا تلو الآخر. اتسعت عينا سالي بقلقٍ واضح، نظرت نحو الداخل بعين قلقة، وحين رفعت بصرها، لمحته واقفًا هناك في القاعة الصغيرة، على بُعد خطوات، عيناه ثابتتان عليها وحدها، كأن الزمن توقف حولها إلا منه. كانت نظراته غامضة، لا برود فيها ولا دفء، لكنّها حملت ثِقَلًا لم تستطع مقاومته. شيئًا في داخلها كان يُوقظ ارتباكًا دفينًا في قلبها.

مضت دقائق ثقيلة، امتزج فيها صمت الانتظار بتنهيدات مكبوتة. ثم نُودي اسمها، فتقدّمت سالي بخطواتٍ بطيئة. دخلت القاعة تحت أنظار الجميع، إلا أنها لم تشعر سوى بثقل نظرته المسلّطة عليها، تُلاحقها كأنها وحدها من كانت تُحاكَم في تلك اللحظة.

كان الجميع متواجدين في القاعة الصغيرة بالمحكمة: خالد، الأطفال، منى، ذكية، وبعض المربيات.

نظر إليها القاضي بعينين هادئتين، ونبرة صوته حملت شيئًا من اللطف حين قال:

"من فضلك، اذكري اسمك الكامل وأبرزِي هويتك."

مدّت سالي يدها المرتجفة وأخرجت بطاقة هويتها من حقيبتها الصغيرة، ثم رفعت الكمامة عن وجهها بهدوء، كاشفة عن ملامحها المرهقة، والتي بدت وكأنها تحمل أعباء ليالٍ لم تنم فيها.

تأمل القاضي بطاقة الهوية، ثم رفع بصره نحوها وقال:

"من فضلك يا دكتورة، ردّدي القسم من بعدي."

بدأ بإملاء كلمات القسم الرسمية، فردّدتها سالي بصوت خافت لكنه ثابت، تحمل نبراته عزيمة داخلية لا تزال تقاوم التعب والانهيار.

سكت القاضي للحظة، نظر إلى أوراقه، ثم رفع عينيه نحوها مجددًا وقال:

"إذًا... احكي لي يا دكتورة عن تجربتك داخل المنزل الذي عاش فيه هؤلاء الأطفال. من اللحظة الأولى لوصولك، حتى مغادرتك. كيف كانوا يعيشون؟"

تنفّست سالي بعمق، كأنها تبحث عن الكلمات في قلبها قبل عقلها، بينما كانت عيناها تتجهان تلقائيًا حيث يقف أولئك الصغار، قالت سالي، بصوتٍ امتزج فيه الحنين بالحزن:

"دخلتُ المنزل بصفتي طبيبةً تتابع حالة الأطفال الصحية، لكنني وجدت نفسي أمام بيتٍ دافئ، تغمره المحبة. استقبلتني السيدة أنيسة، رحمها الله، بترحابٍ صادق، لم أشعر بأنني غريبة ولو للحظة. لم يكن حبها للصغار مجرد كلمات، بل كان حاضرًا في تفاصيلهم، من أكبرهم حسن إلى أصغرهم ماريا."

سكتت لحظة، وكأن الذكرى تخنقها، ثم تابعت:

"لم تكن تبخل عليهم بشيء، لا بالعناية، ولا بالوقت، ولا حتى بالحنان... كانت لهم أمًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى."

نظر إليها القاضي باهتمام، ثم قال وهو يقلب إحدى الأوراق أمامه:

"ومستر خالد؟ أخبريني، كيف رأيتِ علاقته بالأطفال؟"

نظرت سالي إلى القاضي، ثم خفضت بصرها قليلًا، كأنها تسترجع صورًا محفورة في ذاكرتها — صورًا لمواقف كان خالد فيها حاضرًا، بقلب الأب ورعاية الراعي. صورته وهو يحمم يحيى بحنان، وهو يواسي ماريا عند بكائها، واعتناؤه بأحمد في المستشفى، واحتواؤه لنور ورحيم في لحظات ضعفهم. ارتسمت هذه المشاهد في قلبها قبل ذاكرتها، فقالت دون تردد، بصوت واضح:

"مستر خالد رجلٌ طيب، تولى مسؤولية الأب دون تقصير. رأيت ذلك في كل مشكلة مر بها الصغار. كان دائمًا حاضرًا، متأهبًا لحمايتهم وإنقاذهم، لم يتخلّ عنهم لحظة."

تساءل القاضي:

"هل تعرفين طبيعة هذه المشاكل؟"

أومأت سالي بثقة:

"نعم."

"حسنًا، أنا أستمع."

رفعت سالي نظرها إلى القاضي مباشرة، وقالت بثبات:

"المشاكل التي مر بها الأطفال هي مشاكل يتعرض لها أغلب الصغار في المجتمع، لا ترتبط بمكان أو ظرف معين، بل بطبيعة الحياة المجتمعية ذاتها. ولكن الفارق دائمًا في طريقة تعامل الأهل. وقد رأيت في كل موقف مرّ بهم، حكمة ووعيًا من المسؤولين عنهم، سواء السيدة أنيسة رحمها الله، أو مستر خالد. لم يتهربوا من المسؤولية، بل كانوا سندًا حقيقيًا لهم."

ابتسم القاضي ابتسامة خفيفة وهو يقول:

"سمعتُ أنكِ استقلتِ يا دكتورة، هل لي أن أعرف السبب؟"

كان صوته هادئًا، لكن نبرته توحي بأنه يبحث عن إجابة بعينها، كمن يختبر صدق الحديث. أجابت سالي بصراحة، وهي تحاول أن تُبقي صوتها ثابتًا:

"استقلتُ لأسباب شخصية."

هز القاضي رأسه قليلًا، ثم عاد يسأل:

"لا علاقة لها بعملك؟ أعني.. لم يكن هناك ضرر أو أمر ما دفعكِ للاستقالة؟"

أجابت سالي بهدوء، دون تردد:

"لا يا سيدي."

أخفضت رأسها قليلًا وكأنها تتردد، ثم رفعت عينيها إليه وقالت بنبرة خافتة ممزوجة بالتوتر:

"سيدي... هل لي أن أضيف شيئًا؟"

أشار القاضي برفق وقال:

"تفضلي يا دكتورة، لكن أرجو أن تكوني مختصرة."

قالت سالي بصوت حمل صدقًا ممزوجًا بالرجاء، وهي تنظر إلى القاضي بعينين دامعتين لكنها ثابتة:

"أنا لا أرغب سوى في إعطاء هؤلاء الصغار حقهم، لم أكن مجرد طبيبة تعتني بصحتهم، بل كنت قريبة منهم، من حياتهم.. من مشاعرهم. هؤلاء الأطفال لم يعرفوا بيتًا غير هذا المنزل، لم يعرفوا مأوى أو أمانًا سوى بين جدرانه."

توقفت للحظة، كأنها تحبس دمعة ثم أكملت:

"خاصة أولئك الصغار الذين تسعى الوزارة لنقلهم.. هؤلاء وُلدوا هناك، تربّوا على يد ماما أنيسة – رحمها الله – وتحت رعاية مستر خالد. هو ليس مجرد شخص بالغ يعيش معهم، إنه عنصر أساسي في حياتهم، مرجعهم، وسندهم. لا أظن أنهم يستطيعون التأقلم بسهولة أو تقبّل فكرة الانتقال إلى مكان آخر لا يعرفونه، ولا يعرفهم."

قالت سالي بنبرة هادئة لكنها مشبعة بالإحساس:

"لو دخلتَ هذا المنزل غريبًا لأول مرة، ورأيت الصور المعلّقة على الجدران، لظننت – كما ظننتُ أنا في البداية – أنهم مجرد عائلة طبيعية. وجوه مبتسمة، لحظات دافئة، تفاصيل تشبه أي بيت يملؤه الحب."

توقفت لبرهة، ثم تابعت وهي تنظر إلى القاضي مباشرة:

"سيدي، هؤلاء الصغار ليسوا مجرد حالات أو ملفات... إنهم جزء لا يتجزأ من هذا المنزل، من كيانه وروحه. إنهم عائلة كاملة، مترابطة، موصولة ببعضها بالمشاعر، لا بالأوراق. تفكيك هذا الرابط لن يؤثر فيهم فحسب، بل سيهدم شيئًا جميلًا بُني على مدى سنوات."

سعلت سالي بقوة فجائية، ارتجّ لها صوت القاعة للحظة، فبادَر القاضي بنبرة تجمع بين الحزم واللطف:

"هذا يكفي يا دكتورة، أشكرك على شهادتك. يمكنك الانصراف الآن، خذي قسطًا من الراحة، فأنتِ بحاجة إليها."

أومأت سالي برأسها شاكرة، ثم التفتت مغادرة بهدوء وثقل. كانت خطواتها بطيئة لكنها ثابتة، وفي طريقها للخروج لمحت عينيه.. كان يقف في ركن القاعة، يراقبها بصمت، لكن في عينيه نظرة امتنان خالصة، لا تخطئها العين.

وحين اقتربت منه، همس بصوت خافت يكاد لا يُسمع:

"أشكرك."

لم تجب، فقط أومأت برأسها بإرهاق وامتنان، ثم مضت في طريقها خارج القاعة، تخترقها نظرات خالد والأطفال التي تبعتها حتى غابت عن أنظارهم.

كان هاتفها يهتز منذ وقت وهي تدلي بشهادتها، أخرجته لترى اسم شقيقتها شعرت سالي بضربات قلبها تدق بشدة ولكنها فتحته وسمعت صوت شقيقتها وهي تبكي.

***


نظر القاضي إلى خالد وسأله بنبرة رسمية هادئة:

"مستر خالد، هل هناك شيء تود إضافته؟"

أجاب خالد بثقة وهدوء:

"نعم، سيدي."

أومأ القاضي بإذن:

"تفضل."

تنفس خالد بعمق، ثم قال بعينين يملؤهما الإصرار والصدق:

"سيدي، لقد قدّم المحامي الخاص بي الأوراق التي تثبت أن للأطفال نصيبًا موثقًا في هذا المنزل، بناءً على وصية السيدة أنيسة، رحمها الله، والتي أوصت قبل وفاتها بأن يُسجَّل نصف المنزل بأسمائهم. وهذا يعني أن هذا المكان هو ملك لهم كما هو لي، ومن حقهم أن يبقوا فيه. لا في دار أيتام أو منزل آخر"

توقف لحظة، ثم أضاف بصوت خافت ولكن واضح:

"ولديكم أيضًا المستندات التي تثبت وجود ودائع بنكية بأسمائهم، من إرث السيدة أنيسة، وضعتها لهم لتأمين مستقبلهم."

نظر خالد إلى القاضي مباشرة وقال:

"كل هذه الأوراق بين يديكم، لكنها ليست ما يهمني. أنا فقط.. لدي رجاء."

"تفضل" قال القاضي باهتمام.

قال خالد بنبرة امتزج فيها الرجاء بالثقة:

"أرجو أن تجمعوا الأطفال جميعًا.. أعلم أن الصغار في الغرفة المجاورة، أرجو أن يُسمح لهم بالدخول، وأن تُطرح عليهم الأسئلة. أنا على يقين أنهم لن يكذبوا، حتى الصغيرة ماريا.. صدقهم أصدق من أي شهادة أو ورقة."

توقف للحظة، وكأن قلبه يسبق لسانه، ثم أكمل بنبرة حملت صدقًا لا يُخفى:

"سيدي، أنا لا أستطيع التخلي عنهم. هم مسؤوليتي، وقد اخترت بكامل إرادتي أن أتحمل هذه المسؤولية. لم يُجبرني أحد، ولم أفعل ذلك من باب الشفقة، بل من باب المحبة والواجب.. هم عائلتي، بكل ما تحمله الكلمة من معنى."

كان القاضي يجلس خلف مكتبه الكبير، يستمع إلى كلام خالد دون أن تظهر على وجهه تعابير واضحة. نظر بعدها إلى الأولاد الكبار الواقفين جانبًا ونادى عليهم. تقدموا ووقفوا بانتظام أمامه. سألهم:

"يا أولاد، هل هناك من يعترض على العيش في المنزل؟ هل رأيتم ما يجعلكم لا ترغبون في العيش فيه؟ سواء معاملة أو تقصير؟"

لم يتأخر الرد. جاء بصوت جماعي، صلب وواضح:

"لا."

تبادل القضاة النظرات، في حين ظلّ خالد واقفًا في مكانه، لم يحرّك ساكنًا، عينيه فقط تتابع الأولاد بنبض داخلي ثقيل، خليط من القلق والأمل.

ثم تسابق كل واحد منهم ليضيف:

"لا نستطيع الابتعاد عن أبيه."

"نحن نحب المنزل."

"هو بيتنا."

وفي تلك اللحظة، أمر القاضي بإحضار الصغار من الغرفة المجاورة. وما إن انفتح الباب، حتى ظهر الأطفال بخطى خجولة ومترددة، يلتفتون يمينًا ويسارًا، وأيادٍ صغيرة تتشبث بأطراف الثياب، وعيون تائهة تبحث عن شيء مألوف. حدّقوا في القاعة بنظرات قلقة، متوجسين من الوجوه الغريبة والنظرات المجهولة.

وفجأة، كأن قلوبهم الصغيرة اهتدت في اللحظة نفسها إلى وجه واحد.. خالد. وبمجرد أن لمحوا أشقاءهم إلى جانبه، انكسر التردد في ملامحهم، واندفعوا نحوه. ركضوا إليه، تشبثوا بثيابه، التفوا حوله، بعضهم اختبأ خلف ساقيه، وآخرون دفنوا وجوههم في صدره وكأنهم وجدوا المأوى. ووسط هذا المشهد، ارتفع صوت ماريا، التي كانت بين ذراعي إحدى المربيات. صرخت بصوت نقي، نداء طفلة تعرف فقط الحقيقة:

"بابااا!"

صرختها لم تخرق فقط جدران المحكمة، بل اخترقت القلوب، ووضعت الحقيقة في مكانها الصحيح: هذا الرجل.. هو بيتهم.

تحدّث القاضي مع الأطفال، كانت البراءة تشع من عيونهم، وإجاباتهم تنبع من قلوب صغيرة لا تعرف الزيف أو الخوف:

"نحن نحب أبيه ونريد أن نعيش معه."

تنهد القاضي وهو يتأمل هذه الحالة الإنسانية النادرة التي لم تمر عليه من قبل. كان مترددًا في قراره؛ فالقضية تتبع أوامر وتعليمات وزارية، لكنها أيضًا تمس أرواحًا صغيرة تعلّقت بهذا الرجل، وهذا المنزل.

وبين ما يُملى عليه كواجب، وما يمليه عليه قلبه، اختار حلاً وسطًا. حكمت المحكمة ببقاء الأطفال في المنزل، على أن يكون ذلك تحت إشراف الوزارة، ومنحها الصلاحية للتدخل في شؤونهم متى ما استدعت الحاجة.

ضمّ خالد أطفاله إليه، واحدًا تلو الآخر، كما لو كان يعيد جمع أجزائه المبعثرة. حمل ماريا الصغيرة بين ذراعيه بشوقٍ عميق، كأنها قلبه النابض عاد إليه. لن يبتعدوا عنه بعد اليوم، هذا ما شعر به يقينًا، لا أمنية.

في حضنهم استعاد روحه، تلك التي بعثرها القلق والانتظار. لم يُخفِ مشاعره، لم يتجمّل، احتضنهم أمام القاضي والجميع بمحبة صادقة لا تعرف الادّعاء. كانت لحظة نقية.

وهو يضمهم إليه، ترددت في داخله وصية أنيسة، وعهدها الذي قطعه على نفسه: أن يكون لهم سندًا حتى يبلغوا برّ الأمان بأقدامهم. وقد قرر أن يفي به.. مهما طال الطريق.

وفجأة، تذكّرها.

اتسعت عيناه، وكأن قلبه نبّه عقله الغافل، فأخذ ينظر حوله في القاعة وكأنه يبحث عن شيء ضائع. ربما كانت تنتظر في الخارج، تراقب من بعيد، كعادتها، بصمت يفيض بالقلق.

كانت مريضة، ترتدي كمامة تخفي نصف وجهها، لكن الحزن كان طاغيًا على ما تبقى من ملامحها. صوتها متحشرج، لا بسبب المرض فقط، بل لأن شيئًا في أعماقها كان مكسورًا. حين تذكّرها، عادت إليه صورتها وهي تقف أمام القاضي، شاحبة، ضعيفة، ولكن صادقة حتى النخاع. لم ترتجف كلماتها، رغم ارتجاف جسدها، ولم تخفِ ألمها، بل نطقت به بكل ما في القلب من صدق.

تألّم قلبه وهو يستعيد ذلك المشهد... أنوثتها المرهقة، شجاعتها المتعبة، وعينيها اللتين حملتا العالم كله في لحظة واحدة.

سلم ماريا بهدوء إلى فرح وهمس لها بأن تنتبه إليها، ثم استدار مسرعًا، وخرج من القاعة. راح يركض في الرواق الطويل، يتجاوز الحاضرين ويصطدم ببعضهم دون أن يعتذر، يبحث بعينيه عن وجهها المألوف، عن تلك الملامح التي باتت تشبه الأمان.

يجب أن يعثر عليها، أن يتمسك بها كما تمسك بالصغار، بكل جوارحه، بكل يقينه. إن كان الصغار قد احتلوا قلبه، فهي وحدها التي تربعت على عرشه، كانت حبه الوحيد، القطعة المفقودة في أحجية عمره، ولن تكتمل حياته دونها.

ركض بعينيه في كل اتجاه، وفجأة، همس قلبه:

"لا ترحلي.. ليس بعد."

توقف لاهثًا، أخرج هاتفه بسرعة واتصل بفرح:

"فرح، من فضلك.. سالي.. أحتاج رقم هاتفها.. أعرف أنه معك"

أجابته فرح بتردد:

"لكن يا أبيه، لقد وعدتها ألا أعطي رقمها لأحد.."

قاطعها بانفعال خافت:

"فرح، أرجوكِ، ثقي بي، أنا بحاجة إلى الحديث معها.. الآن."

سكتت فرح لثوانٍ، ثم أطلقت تنهيدة خفيفة وقالت:

"حسنًا.. سأغلق المكالمة الآن وأرسل لك الرقم في رسالة."

كانت كلّ ثانية تمرّ عليه توازي سنوات، كأنّ الزمن تجمّد في عينيه لا يتحرك. كان يعد الثواني بقلق، حتى وصل أخيرًا الرقم في رسالة قصيرة. ضغط على زر الاتصال فورًا، يداه ترتجفان، وقلبه يدقّ كأنه سيخرج من بين ضلوعه.

رنّ الهاتف.. مرة، مرتين.. ثم انقطع الصوت. تنهد. خُيّل إليه أن ما ضاع منه، لن يُستعاد بهذه السهولة. ولكنه لم يستسلم. لأنه حين يحب.. لا يعرف التراجع.

وفجأة، اهتز هاتفه في جيبه. نظر إلى الشاشة ليقرأ اسم المتصل: والد سالي. أجاب خالد على الفور، صوته ممتزج بالقلق:

"نعم، عمي؟"

لكن ما إن نطق الرجل بجملته الأولى، حتى بهتت ملامح خالد تمامًا، وكأن الدم انسحب من وجهه دفعةً واحدة. اتسعت عيناه، وانخفضت كتفاه، وكأن شيئًا ثقيلاً سقط فوق صدره. لم يُكمل المكالمة. أغلقها بسرعة، ثم اتصل بمحمود على الفور، وصوته هذه المرة كان مرتجفًا:

"محمود.. أحتاج مساعدتك.. لقد حدث أمرٌ طارئ."

***


"سالي، ماما ماتت!"

كانت الجملة كالصاعقة، لم تصدقها أذناها، بل رفضتا تصديقها. اختفى كل شيء من حولها فجأة، الأصوات، الحركة، حتى الهواء بدا ثقيلاً لا يُستنشَق. لم تسمع شيئًا بعدها سوى صوت أنفاسها المتقطعة، وصدى الجملة يتردد في داخلها بلا توقف.. بلا رحمة.

"سالي.. ماما ماتت!"

لا تدري كيف غادرت المكان وسافرت، ولا كيف وصلت إلى المستشفى. الطرقات لم تكن طرقات، بل فراغ طويل لا ينتهي. العيون التي صادفتها لم تكن تهم، الكلمات التي قيلت لم تكن تُفهم، العالم كله تقلّص في تلك الكلمات الثلاث.

قبل ساعات فقط، كانت ماما مستيقظة، تبتسم، تتحدث، لم تكن تحتضر، لم تكن تودّع. كانت هناك. حاضرة. ماذا حدث بعد ذلك؟ كيف اختفى كل شيء فجأة؟ لم تكن تملك إجابة.. كانت فقط تسير، لا بل تركض، تركض بجسدها وروحها المنهارة نحو الحقيقة التي لم تكن مستعدة لها.. ولن تكون أبدًا.

لفظت والدتها أنفاسها الأخيرة قبل أن تصل إليها. ركضت سالي في ممرات المستشفى بجنون، لا تشعر بأرضٍ تحت قدميها، لا ترى أمامها إلا صورة وجه والدتها. حتى توقفت فجأة حين رأت شقيقتها زينة، منحنية في حضن والدهما، تبكي بصمتٍ موجع، ووالدها يطوّقها بذراعين واهنتين، وجهه شاحب، عيناه مطفأتان. وبجوارهما وقف الدكتور نوفل، يحمل بين ملامحه الكثير من الألم.

كان هو أول من لمح سالي:

"سالي، ابنتي..."

لكن صوته لم يصل إلى أذنيها. التفتت زينة بسرعة ما إن سمعت اسم أختها، وحاولت أن تقترب منها، لكن والدها أمسك بها، خائفًا من العدوى.

أما سالي، فوقفت تتأرجح، تحمل سؤالًا واحدًا على شفتيها المرتعشتين، ودموعًا ثقيلة في عينيها:

همست، وهي تتلفت بينهم وبين باب الغرفة المغلق:

"ماما... أين هي؟"

أشار لها دكتور نوفل بصمت أن تدخل. تقدمت بخطى مترددة نحو الباب، وضعت يدها على المقبض البارد، بينما كانت نبضات قلبها تدق في أذنيها. شعرت وكأن شيئًا ما يسحب روحها للخارج، رأسها فارغ، مشوش، كأن شللاً مؤقتًا أصابها. دفعت الباب ببطء، لتراها.

كانت نائمة على السرير، ملامحها ساكنة، وابتسامة هادئة مرسومة على محياها. ابتسمت سالي لا شعوريًا... لثانية. إنها نائمة، أليس كذلك؟ لكن الأمنيات لا تغيّر الواقع، وعقل الطبيبة في داخلها بدأ يقرأ العلامات الصامتة: لا حركة... لا نفس... لا دفء في الأطراف. تلاشت ابتسامتها شيئًا فشيئًا، كأنها تُسحب منها سحبًا.

اقتربت بخطى بطيئة، تحاول أن تتماسك، أن تؤجل الانهيار. وقفت أمام السرير، وعيناها تتفحصان كل تفصيلة في هذا الوجه الذي لطالما أحبّته. ثم أدركت الحقيقة، دفعة واحدة، كضربة على الرأس. ارتعش جسدها بعنف، وخارت ساقاها للحظة، لكنها تماسكت.

انحنت سالي بهدوء، وأمسكت يد والدتها… كانت باردة، خشنة، لكنّها ما تزال يدها. يدٌ تعرفها جيدًا. نظرت إلى وجهها الساكن، وقد غابت عنه الحياة، وهمست بصوتٍ متهدّج يتقطّع بين الدموع:

"وعدتِني بأنكِ ستنتظرينني… لماذا أخلفتِ وعدك؟"

ثم أطبقت أناملها أكثر على يد والدتها، وكأنها تأبى أن تتركها ترحل حقًا.. وكأنها ما زالت تنتظر منها أن تجيب. لكن الإجابة كانت ذلك الصمت القاسي، الصمت الذي لا يترك مجالًا للشك، الصمت الذي يعلن الحقيقة بمرارة لا تُحتمل. أدركت سالي - رغمًا عنها - أن اللقاء الذي وعدت به لن يحدث.

انحنت برفق، ودموعها تنهمر في صمت، ثم قبلتها على جبينها.. قبلة وداع. القبلة التي لم تجرؤ أن تمنحها لجدها ذات يوم، حين غلبها الخوف من الموت. همست بصوت مرتجف وهي تمسك يدها بقوة:

"ماما.. حبيبتي.. إلى اللقاء."

سقطت دموعها كأنها لم تعرف طريقًا آخر، وانفجرت ببكاء خافت، هشّ، مكسور.. كأن قلبها انقسم إلى نصفين.

بقيت سالي بجوار والدتها حتى انتهى تجهيز الجثمان. لم تكن تملك سوى الصمت، تراقب التفاصيل كمن لا يزال يأمل أن يُعاد الزمن.. أن تُفتح العين من جديد. وحين خرجت من الغرفة أخيرًا، كان هنا.

رآها حسن أولاً، ونادى باسمها بلطف خافت:

"سالي.."

التفت خالد سريعًا، فكانت هناك. وجهها شاحب، ملامحها جامدة، والكمامة تخفي نصف وجهها.. أما عيناها، فكانتا تنطقان بكل شيء. نظروا إليها جميعًا بأسى، والهواء متخم بالصمت. كانت خطواتها بطيئة، مرّت بجوار والدها دون أن تراه، لم تكن تراه فعلاً. زينة كانت في حضنه، وذراعه امتدت بغير وعي ليمسك بذراعها. لم تقاوم.. ولم تستجب. سحبت يدها بهدوء.

تابعها خالد بعينيه مفكراً: لو كان يستطيع أن يحمل عنها الحزن لفعل.

تجاهلتهم وصعدت. كأن السلالم تبتلعها. حاول حسن أن يتبعها، لكن خالد منعه بلطف، ثم انطلق خلفها هو بنفسه. كان السطح خاليًا إلا منها. وقفت هناك، بعينين زائغتين نحو السماء، حيث تطير الأرواح.

تساءلت بصوت قلبها:

"هل ماما هناك الآن؟".

انهمرت دموعها، لكنها لم تكن دموعًا فقط، بل صرخة. انهارت على الأرض، ونحيبها الموجوع ملأ السكون. نسيت الزمن، ونسيت كل شيء. ثم شعرت بصوت خطوات خلفها. لم تلتفت، لم تسأل، فقط أغمضت عينيها، وسمحت للحزن أن يأخذ مجراه.

نهاية الفصل الخمسون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم والأخيربإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

شكراً على صبركم

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصلتوقاعتكم للأحداث الجاية؟

***

اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق