رواية المنزل
قصة الأميرة الحالمة
كانت أميرة صغيرة وجميلة..
عاشت حياتها في عالم الأحلام والألحان والإلهام.. والطفولة..
حيث ما تتمناه يتحقق، وما تطلبه تلقاه..
عالم دافئ تنيره أشعة الشمس الذهبية..
تسمع فيه خرير الأنهار، وتنعكس فيه ألوان المروج الخضراء تحلق فوقها الطيور وهي تشدو منتشية بعطر الورود.
بسطت الأميرة أجنحتها وتهادت في هذا العالم كالطائر الغريد، وذابت روحها الوديعة معه، وتجولت تكتشف فيه كل يوم سر جديد..
تصغي لموسيقاه الحالمة، وتنتعش بالطبيعة الخالدة، وتستمد منها الخيال البديع..
أحبت تلك الأميرة القراءة، والثقافة، والفنون..
عزفت الموسيقى، ورتلت أناشيد الربيع..
وعشقت سماء الليل الساحرة الغامضة..
تتأملها كل يوم، فتسبح فيها، تتسلق نجمة هنا وتلاغي القمر هناك..
تمنت أن تكون مثل تلك النجوم..
نجمة ساطعة في سماء الليل، تنشر ضياءها في الأرجاء..
يشير إليها الجميع، ويتغنون بجمالها الأخاذ..
ولكن الأميرة الحالمة لم تكن تعلم أن أحلامها سيتم انتزاعها..
كانت الساحرة المجنونة مُغتاظة من هذه الطفلة التي تختال بسعادة وشقاوة..
امرأة شمطاء شريرة وجبارة، تتمنى أن يكون العالم خراب قاتم كئيب كوجهها العابس..
عالم بلا أحلام بلا طفولة تحيي الكون بنورها..
فنقلتها العجوز إلى زمن آخر..
زمن حيث لا أحلام فيه، ولا مشاعر..
عالم لا فنون فيه ولا نجوم جميلة تطير في سمائه..
عالم رمادي باهت ضاعت فيه الأميرة الجميلة الحالمة، بعيداً، بعيداً.
***
الفصل الأول
المنزل
كان ذلك في وقت مبكر في يوم من أواخر أيام فصل الصيف، بعثت الشمس المتوهجة أشعتها الذهبية لتمتد أمام أقدام سالي الطبيبة الشابة التي تبلغ من العمر تسع وعشرون عاماً، متوسطة الطول، قمحية البشرة، شعرها الأسود الطويل الناعم المجعد ينسدل متأرجحا خلف ظهرها، تجمعه في جديلة لكبح جماحه أثناء سفرها في مثل هذا اليوم الحار.
وقفت سالي تتأمل بعناية هذا المبنى الكبير الذي كُتب بجواره "المنزل"، ألقت الشمس اشعتها على عيونها البنية، فرفعت يدها تمنع تلك الأشعة الحارقة التي تعميها عن قراءة اللافتة بعناية، همست بصوت منخفض:
"المنزل".
تذكرت الخمسة عشر عاماً الماضية التي قضتهم في الدراسة فقط وتحصيل الدرجات، حياتها الدراسية والمهينة التي كُللت بالنجاح والتفوق مرت أمامها كشريط السينما الذي انتهى باستقالتها من وظيفتها، ثم عادت الآن إلى تلك الوظيفة ولكن بصورة مختلفة. كان بداخلها مشاعر سخرية من القدر الذي أوصلها إلى حيث تقف الآن، فتمتمت إلى نفسها والابتسامة على محياها مُستسلمة:
- 'يبدو أنه لا جدوى من الفرار'.
أعادت بصرها إلى المبنى الأنيق الكامن أمامها والذي يتكون من ثلاثة طوابق وله نوافذه بيضاء عالية، مصمم بطريقة لم تر مثلها من قبل، تجمع بين الطراز المعماري الحديث واللمسات الكلاسيكية العريقة، مزيجًا رقيقًا يترك لمسة نفسية مُريحة للعين، ولكن بصورة عصرية.
سئلت سالي نفسها بدهشة:
- 'هل حقًا هذا منزل للأيتام؟!'.
أعادت بصرها مرةً أخرى لكلمة المنزل لتتأكد أنها في المكان الصحيح، ولاحظت حول الكلمة أسماء مكتوبة بخط طفولي وبأقلام ألوان للأطفال، فتمتمت وهي تقرأ الأسماء بصعوبة:
- "فرح، حسن، نور، رحيم، أحمد.. ".
استنتجت أن من كتبها بكل تأكيد هم الأطفال في هذا البيت، وأثناء ذلك استرجعت كلمات دكتور نوفل في ذهنها:
- 'ليس دار أيتام'.
ترددت تلك الكلمة في ذهنها عدة مرات، وهي تُقَوم وضعيتها، وترسم ابتسامتها اللطيفة على محياها الجذاب، واقتربت سالي من البوابة التي يجلس بجوارها ثلاثة رجال، أحدهم يرتدي جلبابًا والآخران يرتديان ملابس حراسة، يتناقشون بصوت مرتفع، لتقاطع همجيتهم بصوتها اللطيف الأنيق:
- "من فضلكم!".
كانت ضربات قلبها سريعة جداً، وزادت عندما التفت الرجال الثلاثة لمصدر الصوت، ليجدوا شابة متوسطة الطول شعرها الطويل تجمعه في جديلة تنسدل حتى ما قبل خصرها ببعض السنتميترات، ترتدي فستان أزرق طويل وبيدها حقيبة ملابس، اقترب أحدهم من البوابة وصاح عليها بنبرة صعيدية ثقيلة:
- "نعم يا آنسة!".
صوته العالي أخافها فتراجعت خطوتين بتردد، ثم قالت بعدها بلحظات وهي تعرف عن نفسها بخجل:
- "أنا سالي الطبيبة الجديدة".
نظر الرجال الثلاثة إلى بعضهم في حيرة، ولكن الرجل الذي حدثها فتح البوابة الكبيرة التي صدر منها صرير مزعج ورحب بها بصوته العالي:
- "أهلاً يا دكتورة تفضلي، اعذرينا لم نعرف من أنت، لقد تركت السيدة "أنيسة" خبرًا لنا بوصولك، أنا عم حمدي وهؤلاء محمد وسامح".
عرفها عم حمدي بزميليه ولم يرفع الرجلين نظراتهم عنها مما جعل التوتر يصل إلى أقصى درجاته، فأومأت لهم برأسها دون أن تنظر حتى إلى ملامحهم:
- "أهلًا بكم".
سمعت الرد منهم على هيئة همهمات لم تركز فيها، عندئذٍ تقدم عم حمدي بسرعة وهو يمد يده قائلاً:
- "أعطني حقيبتك يا دكتورة سأحملها لك".
شكرته سالي بامتنان وأعطته أمتعتها:
- "شكرًا لك".
وجهها الرجل مُشيراً بيده:
- "تفضلي معي من هنا".
ودخلت سالي عبر بوابة المنزل، وخطت أول خطوة لها في المكان وهي تلحق عم حمدي السريع بخطواتها الصغيرة، التفت إليها الرجل وتحدث بحفاوة لا تلائم صوته القوي:
- "يبدو أنكِ صغيرة في السن يا دكتورة، اعتقدنا أن الطبيبة الجديدة ستكون امرأة عجوز كسابقتها، كم عمر حضرتك؟".
كان الرجل الذي يبدو عليه أنه في الستينيات من عمره يتأملها متفحصاً، فابتسمت لثرثرته وأجابت بصبر على سؤاله:
- "تسع وعشرون".
رد عليها عم حمدي بصوته العالي المبالغ فيه:
- "أنت شابة صغيرة جداً على مثل هذا المكان!".
ونظر بطرف عينه إلى اصابعها ليتأكد من حالتها الاجتماعية، كانت نظرته مفعمة بالفضول والتطفل ولاحظت سالي هذا، فأجابت عليه بابتسامة لم تصل إلى عينيها، متكلفة فيها القليل من البرود أحرجت الرجل المتطفل وأسكتته.
مشت في الممر تجاه المنزل المؤسس على مساحة أرض كبيرة نوعاً ما، كان المنزل يزداد حجمًا بمجرد الاقتراب منه، وأثناء ذلك تأملت الحديقة الكبيرة المحيطة به والمليئة بشتى أنواع الزهور التي أضافت ألوانها البديعة زهوًا وسحرًا خاصًا انعكس على أجواء الحديقة الواسعة. في منتصف الحديقة لاحظت نافورة ماء، يتوسطها طاووس ينشر ذيله المُلون مُتفاخراً، ويتناثر الماء من أطراف الريش فيرسم أقواس الألوان السبعة البديعة "قوس قزح" في صورة طبيعية مُشرقة وتقدم عملاً فنياً بديعاً أضاء حدقتا سالي التي ظلت تتأمله دون أن ترفع أنظارها من عليه وهي تسير تجاه المنزل. لمحت من بعيد ملحق صغير بجوار المنزل، ولاحظت أيضًا الدفيئة الزجاجية "صوبة" التي تراها لأول مرة في حياتها لتشعر بالرغبة المُلحة كي تراها من الداخل. كانت هناك الكثير من التفاصيل احتاجت سالي إلى المزيد من الوقت حتى تتفحصها بدقة وتمعن، لكن وصولها إلى الباب الخاص بالمنزل منعها من ذلك.
أمام الباب الكبير للمنزل طرق الرجل الجرس، وبعد ثوانٍ معدودة جاء صوت من جهاز الرد المُزود بكاميرا صغيرة، كان صوتًا عميقًا لسيدة لم تستطع سالي تحديد سنها:
- "نعم يا عم حمدي".
- "سيدتي، الدكتورة سالي وصلت".
بعد ثوانٍ ليست طويلة ردت المرأة ببطء:
- "حسنًا دعها تتفضل، وسأحضر على الفور".
سمعت سالي قفل الباب الكبير يُفتح إلكترونيًا، فدفع عم حمدي الجزء الأيمن من الباب وحمل حقيبتها قائلاً:
- "تفضلي يا دكتورة".
تفضلت سالي وهي تتأمل بدهشة الردهة الواسعة الأنيقة، قالت سالي مخاطبة نفسها بحيرة:
- 'أين أنا؟'.
قادها الرجل مُشيراً لها لتجلس في صالة واسعة مخصصة لاستقبال الضيوف:
- "ارتاحي هنا يا دكتورة والسيدة أنيسة ستأتي فوراً".
- "شكراً لك".
انصرف الرجل، وشعرت سالي بعد رحيله بالراحة، أو بالأدق أذنها شعرت بالراحة بسبب هذا الصوت الجهوري العالي الذي يسبب الصداع. أخذت سالي دون وعي منها تتأمل المُحيط الأنيق من حولها بعناية، كان المكان كبيراً جداً ومؤثثاً بأناقة مع بعض اللمسات الكلاسيكية التي تضيف فخامة وعراقة للمكان بنفس الفكرة التي تم بها تصميم طرازه الخارجي. الجدران السكرية اللون أضافت إحساس للرائي بفساحة المكان، النوافذ الكبيرة التي تميز المنزل من الخارج والداخل أيضًا أعطتها شعوراً بالرهبة، وفي منتصف السقف ثريا كبيرة عكست أشعة الشمس المُتطفلة من النوافذ على هيئة ألوان زاهية تتلألأ وتتراقص على الحائط السكري، السجاد الفاخر والمزهريات الغالية، وغيرها من مظاهر الترف التي زادت من حيرة سالي. هؤلاء الأطفال يعيشون في نعيم ورخاء وليس في دار للأيتام، لم يكن من المعتاد، لا في الحقيقة أو حتى الخيال أن يكون منزلاً كهذا من نصيب أيتام مات أو تخلى عنهم ذويهم وشردتهم الحياة في طرقها.
كان دكتور نوفل قد أعطاها مسبقاً فكرة عن هذا المكان:
- "سالي هذا المكان يختلف قليلاً عن أي مكان آخر يعتني بالأيتام، هو ليس دار للأيتام بالمعنى المتعارف عليه، وستدركين هذا فورًا عند وصولك".
ولكن لم يخيل إلى سالي أن الواقع سيكون هكذا. وبينما وهي تتأمل وتدقق النظر حولها، قطع تفكيرها صوت خطوات مُتناسقة تقترب بوتيرة هادئة حاسمة تسارعت معها نبضات قلبها، حتى ظهرت أمامها امرأة تبدو في السبعينيات من عمرها، صغيرة الجسد، أنيقة، الشيب يغزو شعرها ليبرز وقارها وحكمتها، مظهرها يوحي بأنها كانت بارعة الجمال في صغرها، مشيتها الرزينة ذكرتها بطبقة الأرستقراطيين الذين عرفتهم سالي من الأفلام والمسلسلات التراثية، التجاعيد حول عينيها العميقتين تنتشر على خريطة وجهها التي تحمل في طياتها قصة حياة طويلة. كانت سالي متوترة ومرتبكة، حتى رحبت بها المرأة وابتسامة خفيفة على محياها وهي تتأمل الشابة قمحية البشرة ذات الشعر الطويل الأسود الذي ينسدل حتى خصرها:
- "صباح الخير يا دكتورة سالي".
نهضت سالي بسرعة ولم تنس أن تفرد ظهرها كما نبهتها والدتها، وأمسكت بقبضتها الرقيقة يد المرأة العجوز:
- "صباح الخير سيدة أنيسة".
كانت تبدو امرأة ودودة، صوتها هادئ، واثق ومُرتب بعناية، لم تصادف سالي يومًا ما مثل هذا الصوت الذي يخفي في طياته شجن هادئ عميق، ولكنها بخبرتها الصغيرة في هذه الحياة لاحظت أنه هذا الصوت يُخفي وراءه صرامة ستكون قطعًا مُخيفة لو استيقظت.
- "تفضلي أجلسي يا دكتورة، تم إبلاغي أن طبيبتنا الجديدة صغيرة في السن، ولكن لم أكن أعلم أنها صغيرة جدًا، وبهذه اللطافة كما أرى الآن". قالتها المرأة برحابة صدر وهي تجلس وتشير لسالي بالجلوس.
كلماتها الرقيقة باغتت سالي المتوترة والتي تداركت الأمر بسرعة لترد عليها بأجمل ابتسامة لديها:
- "شكرًا لك سيدتي، هذه مجاملة لطيفة منك".
كان أثقل ما على قلب سالي هو الإكثار من المجاملات المزيفة التي لا صدق أو مشاعر فيها، ولكن تلك المرأة يبدو أنها مختلفة، هناك صدق وصراحة ينبعان من اسلوبها الراقي.
تأملتها أنيسة الطبيبة الشابة والتي يبدو عليها الإرهاق:
- "يبدو أن الطريق أرهقك، لقد جئت من مُحافظة بعيدة على حد معلوماتي، بالنظر إليك يبدو أنك تحتاجين قسطًا من الراحة".
ابتسمت الشابة بتهذيب وقالت بحرص:
- "الطريق كان طويلاً بطبيعة الحال، ولكنني لست مرهقة إلى هذا الحد، كانوا فقط ثلاث ساعات".
في الواقع كانت تشعر بالإرهاق الشديد كما قالت أنيسة، خاصةً أنها لم تنم الليلة السابقة من التوتر والتفكير.
استطردت أنيسة بإلحاح:
- "على الأقل يا دكتورة سترغبين في مشروب يعيد شحن طاقتك، ماذا تشربين؟ وأرجوك لا تخجلي فهذا منزلك من الآن".
قالت الجملة الأخيرة بفخر وهي ترفع كفاها قليلًا مُشيرة للمُحيط من حولها بطريقة رأتها سالي درامية.
- "قهوة إذا سمحتِ".
أضاءت عيون المرأة بكرم:
- "على الفور".
ضغطت على مفتاح جرس بجوار مقعدها، وبعد دقائق من الحديث الجانبي عن الطريق، ظهرت أمامهم امرأة طويلة القامة، جميلة المحيا، بشرتها ناصعة البياض، ووجنتيها مصبوغة باللون الأحمر الصحي، تبتسم بود وترتدي مئزر المطبخ.
عرفت أنيسة ذكية على سالي:
- "ست ذكية هذه الدكتورة سالي فرد جديد في منزلنا، أرجوك اعتني بها جيداً".
ثم نظرت إلى سالي بود قائلةً:
- "هذه الست ذكية مدبرة منزلنا، هذا المنزل لا ينشط إلا بها".
تحدثت "ذكية" بلهجة عالية تشع بالدفء ذكرت سالي بصوت جدتها:
- "أهلًا بك يا دكتورة، عزيزتي أنت صغيرة جدًا".
أضافت المرأة:
- "كم عمرك يا حبيبتي؟".
ردت سالي باسمة:
- "تسع وعشرون".
ربتت المرأة على كتف سالي بحرارة وهي تقول:
- "يبدو أنك أصغر من هذا".
فكرت سالي في أن هذه ثالث مرة يتم التعليق عن شكلها الصغير، ولكن كان ترحيب المرأة بها لا يقل حرارة عن ترحيب سيدتها أنيسة.
قاطعت أنيسة الترحيب الحار وهي تقول:
- "ذكية من فضلك جهزي القهوة والكيك للدكتورة سالي".
وجهت أنيسة نظرها إلى سالي باعتذار، فابتسمت سالي ووجنتاها تحمران خجلاً.
- "هذه طبيعة الست ذكية مبتهجة على الدوام، ومحبة للناس بشكل كبير".
اكتفت سالي بابتسامة متواضعة كرد على أنيسة التي اتخذت بعدها القناع الجاد والذي يليق بمديرة منزل كبير كهذا:
- "إذا لم يكن لديك مانع ما رأيك أن نتحدث عن ظروف عملك هنا".
- "لا، لا مانع على الإطلاق، سيكون هذا أفضل بالنسبة لي".
- "لا أعلم أن كان لديك فكرة عن ظروف عملك في هذا المنزل يا دكتورة، هل أعلمك دكتور نوفل بالتفاصيل؟".
ترددت سالي في الحديث بسبب الأنطباع المبدئى الذي أخذته منذ وصولها إلى هذا المكان والذي عارض تخيلها تماماً:
- "الحقيقة، دكتور نوفل أعلمني ببعض التفاصيل، ولكن أتمنى أن توضحي لي أكثر".
سكتت ونظرت حولها وهي تتأمل المكان وأضافت بحيرة:
- "فكما أرى يبدو أن ظروف المكان مختلفة عن بيئة عملي التي اعتدت عليها في المستشفى، غير أن المكان لا يشبه دور الأيتام التقليدية".
وكأن سالي قالت ما لا يجب قوله، قاطعتها المرأة بسرعة وهي تصحح اعتقاد الطبيبة:
- "عزيزتي أعتقد أن هناك سوء فهم، هذا ليس دار أيتام هذا منزل".
عقدت سالي حاجبيها متعجبة:
- "وما الفرق؟".
تراجعت المرأة في مقعدها متنهدة وأغمضت عينيها للحظات ثم فتحتها وقالت:
- "الفرق كبير بالطبع، هؤلاء الأطفال مكفولين وهذا منزلهم، نحن لسنا في مؤسسة اجتماعية، بل منزل تقطن به عائلة".
سكتت للحظات وأضافت وعينيها تلمعان بالحب والدفء:
- "عائلة كبيرة ومختلفة بعض الشيء، ولكنها عائلة في نهاية الأمر".
كانت سالي في حيرة لترد عليها فأكملت المرأة حديثها:
- "ربما يبدو هذا الحال غريبًا عليك في بداية الأمر، ولكنك ستعتادين عليه بالتدريج، نحن عائلة كبيرة، الأطفال محبوبين جداً على الرغم من مشاكلهم الكثيرة، وبالنسبة لعملك لا جديد فيه بصفتك طبيبة، ولكنه ليس رسميًا إلى الحد الكبير، فكما قلتي بيئة عملك مختلفة عن ما تعودت عليه، أنت موجودة هنا كفرد من المنزل لديه خبرة طبية ونفسية تتوفر فوراً عند طلبها، المُراقبة الصحية وتنظيم احتياجاتهم الغذائية، بالإضافة إلى التدخل الفوري في حالة الإصابات الجسدية التي يتعرضون لها باستمرار، خاصةً أنه لدينا هنا رضيع وخمسة أطفال تحت الست سنين، غير هذا فلك كل الحرية في التعامل بعيداً عن الرسميات".
سكتت لوهلة ثم ختمت كلامها ببطء:
- "نحن في حاجة ماسة إليك يا دكتورة".
ترددت سالي مع كلمات المرأة العجوز، إذ بدا أن الأمر مُختلف قليلاً عما تخيلته، ولكنها استجمعت كلماتها، وحاولت أن تُجيب بعناية ودقة، فتحدثت ببطء:
- "حسنًا، اتفاقي مع دكتور نوفل كان بخصوص فترة تجريبية، شهر مثلًا حتى أقرر إن كنت سأستمر أم لا".
ردت المرأة بصوت رقيق:
- "بالطبع خذي وقتك حتى تتخذي قرارك النهائي".
ثم استطردت بود:
- "في الواقع لقد حدثني دكتور نوفل قليلًا عن شخصك وعن استقالتك، وأنك ربما ترفضين الاستمرار عمومًا في مجال الطب، لهذا أنا من طرحت عليه فكرة الشهر التجريبي، والخيار لك في النهاية، ولك طبعًا كل الاحترام، ولكن عزيزتي أعطي نفسك فرصة، دكتور نوفل أخبرني كم أنت ماهرة ومتفانية في عملك، وأنا على يقين أن تغير بيئة العمل ربما يحسن قليلًا من نفسيتك ونظرتك للأمور".
ابتسمت أنيسة ابتسامة وصلت إلى عيونها فسحرت سالي:
- "وبصراحة أحد أسباب إصراري على وجودك بيننا، هو حسك الفني، وهذا يجعلني لا أريد التفريط في شخص مثلك".
لم تتوقع سالي هذا المُنعطف المُفاجئ في الحديث، فردت عليها بابتسامة فيها القليل من اليأس:
- "يبدو أنه أخبرك بالكثير عني".
عقدت المرأة حاجبيها بحيرة:
- "أتمنى ألا يجعلك هذا مستاءة، دكتور نوفل يقدرك كثيرًا، وهذا ما أثار فضولي تجاهك".
ردت عليها سالي بحسها الأخلاقي الراقي:
- "لست مُستاءة، أنا أيضًا أقدر دكتور نوفل، وممُتنة لمشاعرك الجميلة".
قاطعتهما ذكية وهي تقدم القهوة لسالي والقهوة للسيدة أنيسة وبعض البسكوت، مما أثار تساؤل السيدة أنيسة:
- "ذكية أين الكيك؟، لم أطلب البسكوت".
توترت المرأة وزاد احمرار وجهها وقالت:
- "لا أعلم، ما تبقى من الأطفال صباحًا كان قطعة كبيرة، ولكنها اختفت الآن".
ثم وجهت ذكية لأنيسة نظرة ذات مغزى لاحظتها سالي وقالت:
- "ربما عبدالله....".
قاطعتها أنيسة بسرعة وهي تشير إليها بالانصراف:
- "حسنًا، اذهبي الآن".
كانت نظرة السيدة أنيسة الغائمة تشير إلى أنها استنتجت سبب اختفاء الكعكة، فابتسمت المرأة لسالي باعتذار، ولم تعلق على الموقف، وسلمتها فنجان القهوة الثمين:
- "تفضلي القهوة يا دكتورة".
التقطته سالي بامتنان:
- "شكرًا لك".
أومأت المرأة لها وأكملت حديثها:
- "علمت أنك تمارسين العزف على العود والبيانو أيضًا وهذا الجو نفتقده هنا في المنزل، سيكون من الرائع لو خصصت وقتاً مع الأطفال ليتعلموا منك بعض المهارات".
أحبت سالي تغير الموضوع لشيء تفضله وقالت براحة:
- "في الواقع كان هذا اتجاهي بعد الاستقالة".
سألتها المرأة مُقترحة:
- "حقًا؟ نحن فيها إذاً، أنت هنا ولدينا الأولاد، في أوقات الفراغ بالطبع، فمدرستهم تستولي على معظم وقتهم".
ابتسمت سالي باعتذار:
- "أفضل أن أرتب أولوياتي الآن، أريد أن أتعرف على الأطفال وأندمج معهم أولاً والباقي أتركه حتى يحين وقته".
تنهدت أنيسة:
- "كما تحبين، لدينا هنا أعمار مختلفة وبالتالي المزاج العام هنا في المنزل كالعاصفة، أتمنى أن تتحمليه في البداية".
قالتها بصوت يغلبه بعض المرح وأكملت:
- "ولكنك ستحبينهم".
سألتها سالي سؤالاً لا بد منه:
- "كم عددهم سيدتي؟".
استندت أنيسة على الكرسي براحة، وفنجان القهوة في يدها وهي تقول بوضوح:
- "ستة عشر طفل وطفلة، بارك الله فيهم".
قالتها كلمة كلمة ببطء واخترقوا جميعاً أذني سالي التي أفزعها العدد، فشدت على الفنجان الساخن بين بيديها والتقطت أنفاسها بصعوبة وهي تتخيل ستة عشر طفلاً يقفون أمامها. ولم تدع لها هذه المرأة الماكرة مجالاً للتفكير، وتحدثت تطمئنها بنبرة يقين:
- "لا تقلقي يا عزيزتي إنهم مسؤولون، والجميع هنا سيساعدك حتى تتأقلمي وأنا أولهم".
لم ترد عليها سالي، ولكن المرأة أكملت حديثها مُتجاهلة توتر الشابة:
- "آنسة سالي.. افتراضًا أنك بخير مع الظروف الراهنة هناك شيء ما أيضًا من المهم أن أوضحه لك".
نظرت إليها الشابة مُتسائلة، وهي تحاول تجاوز الصدمة:
- "تفضلي".
- "لدينا هنا بين الأطفال، اثنان من ذوي الاحتياجات، نور ورحيم، نور كفيفة، ورحيم مصاب بالشلل ويتحرك على كرسي وكما تعلمين الأطفال من ذوي الاحتياجات حساسين إلى حد كبير والتعامل معهم بحذر شيء يجب أخذه في عين الاعتبار"
صدمة أخرى جمدت سالي ولم تعثر على رد فوري، لكنها حاولت أن تحرك تروس تفكيرها وتهرب من شرودها فجمعت شعرها خلف أذنيها بتوتر:
- "أنا طبيبة تعاملت مع جميع حالات الأطفال، سليم مُعافى أو من ذوي الاحتياجات، ولا فرق لدي بين الاثنين إلا فيما يخص صحته".
كانت متوترة وهي تحاول الشرح، فابتسمت المرأة بطيبة:
- "هذا ما أود قوله، لا فرق بين الطفل السليم أو ذوي الاحتياجات، وهذا فقط ما أطلبه منك، لا تمييز بين الأطفال، أرجوك يا دكتورة تجنبي أن تجرحيهم".
كانت هناك عاطفة جياشة في عيون المرأة استغربتها سالي، فردت سالي عليها تطمئنها:
- "لا تقلقي سيدتي، هذا جزء من مسؤوليتي، سأحاول بجد ألا أتغاضى عنه".
في الواقع كانت سالي هي من تحتاج لمن يطمئنها بعد هذه التفاصيل التي أربكتها.
تأملت أنيسة الشابة أمامها لأول مرة منذ تعرفها عليها، لم تكن فائقة الجمال، ولكن كان هُناك سحر في عيونها الحزينة التي أصبحت الآن خائفة ومُرتبكة، وشعرها المُجعد الجميل الذي ينسدل على كتفيها كان جميلاً بشكل خاص، أحبته أنيسة وأحبت كيف تجمعه الطبيبة الشابة خلف أذنيها عندما تتوتر، فقالت في مُحاولة للتخفيف عنها:
- "أشكرك يا دكتورة، أؤكد لك أنك ستجدين الراحة معنا، وأي مشاكل سنتخطاها بالتأكيد معًا"
شعرت سالي بشعور عميق خاص تجاه هذه المرأة اللطيفة، فأراحت قبضتها التي تشد بقوة على فنجان القهوة وابتسمت لها بامتنان:
- "شكرًا لك سيدة أنيسة".
ارتشفت أنيسة رشفة من فنجان القهوة الخاص بها وقالت:
"في الواقع أقامت معنا طبيبة اخصائية ممتازة جدًا، ولكنها كانت كبيرة في السن والأطفال لم يتوافقوا معها جيدًا، كانت عصبية ويسهل استفزازها، والأطفال بذكائهم المعهود أدركوا هذه النقطة".
تنهدت المرأة وهي تتذكر بأسى:
- "لقد كان جحيمًا حقًا، طلبنا منها ترحل بعد إعطائها حقوقها المالية، ولكن لم هذا السبب الرئيسي الذي جعلنا نتخذ قرار اقالتها".
الحقيقة أن سالي تعاملت مع جميع أنواع الأطفال من جميع الطبقات، وكانت تستطيع السيطرة على الطفل بمهارة عالية، ساعدها في هذا دبلومة في علم النفس التنموي الذي حصلت عليه قبل سنة، ولكن عند سماعها هذا الآن شكت في قدرتها على السيطرة على زمام الأمور خاصة مع ستة عشر طفلاً. أكملت أنيسة حديثها بصرامة:
- "السبب الرئيسي كان التباين في تعاملها مع الأطفال، كانت تولي اهتمام خاص لنور ورحيم وصارمة في معاملتها مع باقي الأطفال، تحصي عليهم أمراضهم وأوجاعهم، لا أعلم لماذا كانت تتصرف بهذا الأسلوب الجاف معهم، ولكن هذا أثار حرج وعدم راحة بين الأطفال وبعضهم البعض، لذلك اتفقنا أنا وخالد ابني أن ترحل ونوظف طبيبة غيرها تستطيع التواصل معهم جميعًا دون تفريق".
مال رأس سالي بتساؤل لم تنطقه، فأدركت المرأة بسرعة وأجابت على السؤال الذي لم يُسئل:
"خالد هو ولدي، أبني الأكبر".
قالتها المرأة وملامحها تتجعد بابتسامة وكأنها تتحدث عن حبيبها وليس عن ولدها. تركت سالي في حيرتها ثم نظرت إلى فنجان القهوة الذي وضعته سالي للتو على الطاولة أمامها، وسألتها:
- "فنجان آخر؟".
- "شكرًا لك، اكتفيت بهذا".
- "حسنًا هلا ترافقيني الآن لتأخذي جولة في المنزل؟".
تقدمت أنيسة ومشت سالي خلفها وكأنها جندي يمشي خلف قائده عسكري، واستطردت المرأة بفخر وهي تتجول في المكان:
- "هنا في المنزل، ستتبدل توقعاتك تمامًا يا دكتورة، هنا حياة مختلفة بكل تأكيد، لسنا دار أيتام كما أخبرتك".
ونظرت إليها بنظرات تأكيد وأكملت كلامها:
- "في المنزل أطفالنا لا يرتدون ملابس رخيصة أو مُستهلكة، لا يأكلون طعامًا من معونات المُحسنين، لا ينامون على الأرض تعساء ودون تدفئة، لا يجدون صعوبة في التعليم لا عنف، لا إساءة جسدية، أطفالنا في المنزل سعداء مرفهين، يرتدون أغلى الملابس ويأكلون أجود أنواع الطعام، يتم رعايتهم ومعاملتهم باهتمام ورُقي كغيرهم من الأطفال".
التفتت إليها وهي تؤكد عليها الكلام ثم أكملت:
- "دكتورة سالي تأملي المكان من حولك، مكان نظيف وراقي، طرقات لامعة، وبيئة مُلائمة لتنشئة أطفال أصحاء جسدياً ونفسياً".
أكملت وهي تفتح الأبواب على مصاريعها:
- "لدينا هنا في هذا الطابق غرفة كبيرة للدراسة، أخرى للطعام نجتمع فيها جميعًا صباحًا ومساء، غرفة حضانة للأطفال الصغار، غرفة للموسيقى، صالة ألعاب رياضية، والطابق العلوي لدينا يضم غرف النوم"
وقفت تنظر إلى الحديقة من نافذة كبيرة وأكملت كلامها:
- "وهنا في الخارج يوجد ملحق وحديقة ودفيئة وملعبان كبيران، كما أن لدينا أمهات بديلة للأطفال الأصغر سنًا، موثوق بهن، مُتعلمات، تم اختيارهن بعناية وظروفهم تتوافق مع احتياجات الأطفال"
تنهدت السيدة أنيسة وهي تختم كلامها:
- "باختصار نحن جميعًا عائلة لا فرق بين شخص وآخر، إلا بمسؤوليته، لكن.. مؤخرًا فقط أصبح ينقصنا فرد واحد فقط"
أمالت سالي رأسها بتساؤل، فردت عليها المرأة وهي تُشير إليها بإصبعها:
- "أنت يا دكتورة".
بعد هذه الجولة الاستكشافية السريعة بالمنزل وقفوا أمام أحد الأبواب:
- "هذه هي الحضانة، مكان الأطفال الصغار".
طرقت الباب الذي يُسمع من ورائه ضجة وفوضى، دخلت المرأة ووراءها سالي، وفور دخولهم قامت عاصفة دون إنذار وكأنهم اقتحموا عشة فراخ صغيرة، الأطفال ركضوا بجنون، كانوا خمسة مليئين بالطاقة والحيوية المُخيفة والمُربيات تُلاحق أضرارهم، لفت نظر سالي أقدامهم الصغيرة اللطيفة المُغلفة بالجوارب البيضاء التي تركض في أرجاء في المكان فحرك هذا المنظر اللطيف الابتسامة على شفتيها، وفجأة تقدم طفل ذو أنف يسيل ويبدو عليه أنه أكبرهم، ورفع وجهه إلى أعلى وعلى وجهه نظرة جادة، وقال بلهفة للسيدة أنيسة:
- "ماما، سأخبرك بسر".
وأشار لها لتنزل لمستواه، مما أثار استغراب المرأة، همس الصغير في أذنها قائلاً:
- "هل تعرفين من سرق الكيك؟".
سمعته سالي باستمتاع، وهي تحدثه في سرها:
'صوتك مسموع'.
ردت عليه أنيسة بنفس الصوت الهامس:
- "من؟".
- "عبدالله، رأيته اليوم من نافذة الحضانة وهو يخرج من باب المطبخ، ويطعمه للعصافير على شجرة البرتقال".
سكت الفتى لوهلة، ثم أكمل وهو يمثل بيده:
- "فتت الكيك هكذا، ورماه هكذا".
ابتسمت السيدة أنيسة بعفوية على الحكاية المُسلية بأسلوب راويها، فمسحت على شعر الفتى القصير المحلوق قائلة:
- "عزيزي كما قلت هذا سر، لا تخبر إخوتك به، أين سنرمي هذا السر؟".
همس الفتى باقتناع:
- "في البئر، لن أخبر أي أحد".
نقل الفتى نظره إلى سالي، ولاحظ أخيرًا الشخص الغريب، فاختبأ وراء السيدة أنيسة بإحراج وتأملها بطرف عينه، على الجانب الآخر كان هناك طفلان ولد وفتاة يمسكان بأيدي بعضهما ويرتديان ملابس مُتماثلة، يتجولان حول سالي التي تقف بهدوء ويهمسان في آذان بعضهما البعض، والآخران يقفان أمامهما يتأملانها بجرأة، شعرت سالي بالنظرات الثاقبة النابعة من خمس أزواج من العيون تحاصرها من كل تجاه، كالفأر أمام جمع من القطط، ابتسمت بتوتر وهي تقول:
- "أهلاً يا أطفال".
- "من أنت؟".
قالتها الفتاة التوأم بصوتٍ عالٍ، كانت فتاة صغيرة ربما في الرابعة أو الخامسة، ولكن نظراتها جريئة وفضولية، فوبختها السيدة أنيسة:
- "لارا تحدثي بتهذيب مع الدكتورة سالي".
فور سماعهم كلمة دكتورة، تم إخلاء المكان فوراً، وركضوا كالفئران يختبئون خلف أثاث الغرفة المليئة بالألعاب، ولم تر سالي إلا المُربيتين من بعيد تبتسمان بمرح، لكن الفتى الواقف خلف السيدة أنيسة كان قد شحب وجهه وتراجع إلى الخلف مُختبئًا ومُمسكًا بملابس المرأة العجوز وعينيه تتلألأ فيهما دموع الذعر، لاحظت السيدة أنيسة ذعر الفتى، فمسحت على رأسه بحنان:
- "عليّ، عزيزي، قل أهلاً لضيفتنا".
لكن "عليّ" تراجع أكثر وأبى أن يتفاعل، فهمست أنيسة لسالي:
- "تجربته مع الأطباء لم تكن لطيفة، خصوصًا مع الطبيبة السابقة".
بالغريزة التي طورتها مهنتها ابتسمت سالي بلطف، وتحدثت برقة إلى الفتى الخائف:
- "أهلاً عليّ، كيف حالك؟".
لم يرد الفتى، ولكنها أكملت:
- "اتعلم؟ أنا أحب اسم "عليّ" كثيرًا، هل تحب أن نكون أصدقاء؟".
هز رأسه رافضًا، تفاجأت سالي بالرفض الصريح فسألته:
- "ولكني سأكون سعيدة لو أصبحنا أصدقاء، وسأحب أيضًا أن تناديني سالي".
نقل الصغير نظره بين المرأتين، وتلقى نظرات مُطمئنة من السيدة أنيسة، فأخذ قراره وهز رأسه بالرفض مرةً أخرى، شعرت سالي بالتحدي 'يبدو أنها معركة من يصمد للنهاية' ومع الأطفال عليك أن تكون لحوحًا لا تستسلم، فقالت له بإصرار:
- "حسنًا أخبرني كم عمرك؟".
فكر الطفل لثواني ونظر إلى أصابعه يعد الأرقام، اتخذ قراره وحول نظره إليها جادًا، ثم أشار بخمس اصابع صغيرة قائلاً:
- "خمسة".
ابتسمت سالي ومسحت رأسه قائلة:
- "هذا يعني أنك في سن المدرسة".
قاطعتها السيدة أنيسة:
- "اصيب بنزلة بردية، وتعاف منها مؤخراً، ولكنه مصر أنه لم يتعاف منها حتى لا يذهب إلى المدرسة، قررت أن أمررها اليوم، ولكنه سينتظم من الغد".
أدارت نظرها لبقية لأطفال المَكَرة، الذين يختبئون مُراقبين الوضع الخطير وسألت علي:
- "هل هؤلاء إخوتك؟".
نظراته الخائفة الموجهة للأرض امتزجت ببعض الخجل، ورد بصوت منخفض:
- "نعم".
- "أريد أن أتعرف عليهم، هل تساعدني في ذلك؟".
مدت سالي كفها إليه في مُحاولة لعقد هُدنة، نظر علي الى السيدة أنيسة، فأومأت إليه بالإيجاب، وامسك الصغير بكفها مُترددًا، وتوجها الى أخوته المُختبئين، الذين بدئوا بالخروج من محاجرهم، أشار الفتى إلى التوأم أولاً:
- "هذه لارا وهذا فؤاد توأمين، ويحيى وسارة، ولكنهما ليسا توأمين مثل لارا وفؤاد".
استمتعت سالي بهذا التوضيح الطفولي وتأملت التوأمين، كانا لطيفين شعرهما باللون البني الزاهي الذي لفت نظر سالي بشده، فسألتها لارا بفضول طفولي:
- "هل انت دكتورة؟، هل ستعطيني حقنة في مؤخرتي؟".
فهمس لها أخوها بتعبير جاد:
- "نعم يا لارا، انها دكتورة".
اغرورقت عيون الفتاة والتي يبدو أنها ذات مزاج حاد:
- "ولكني طفلة صغيرة".
ابتسمت سالي وسخرت في سرها:
- 'يالكِ من ثعلبة ماكرة'
تحدثت معها بلطف:
- "أهلاً لارا، أنا أراك آنسة جميلة ومُهذبة".
انبهرت الصغيرة بكلمات الثناء، فتركتها سالي متباهية بغرور بهذا المدح الثمين، وأثناء ذلك وجهت كلماتها لفؤاد:
- "أهلا فؤاد كيف حالك؟".
كان الفتى يبدو عليه أنه أعقل وأرزن من أخته، فرد بتهذيب:
- "أنا بخير، شكراً لك".
- "أنتما توأم؟".
- "نعم".
- "كم عمركم؟".
تحدثت لارا بسرعة مُتهورة:
- "أربع سنين ونصف، عيد ميلادنا بعد ستة أشهر، وسيقام لنا حفلة كبيرة سألبس فيها فستانًا ورديًا".
أفصحت الفتاة عن الخطة كاملة من أول لقاء شخص غريب، ليعقب فؤاد مُصححاً كلام أخته الثرثارة:
- "لارا، أختنا نور سيكون احتفالها معنا في نفس اليوم".
- "لا نحن نسبقها بيومين، أيها الغبي".
- "نعم، ولكن الحفلة لنا نحن الثلاثـــ....".
تدخلت "سارة" برزانة:
- "ماما أنيسة، أخبرتنا أن نتهذب حتى تجهز لكل منا حفلة عيد ميلاد جميلة، أليس كذلك يا يحيى؟".
ولكن يحيى لم يكن في الأرجاء، نظر الجميع إلى مكان ما في الغرفة، انسل الصغير من بينهم وجلس بعيداً عنهم مُنشغلاً في تفكيك لعبة مسكينة، فنادته السيدة أنيسة:
- "يحيى لا تفكك اللعبة وتُخربها، اتركها واذهب ورحب بالدكتورة سالي".
فقال الفتى بعند:
- "لا أريد".
فنادته أنيسة بصرامة:
- "يحيى!".
ولكن الطفل لم يلتفت حتى إلى النداء وظل مُركزاً على عمله، فاقتربت أنيسة من سالي هامسة:
- "هو مزاجي قليلاً وقليل الكلام، ولكنه يلين بعد دقائق".
طمأنتها سالي بهمس:
- "لا مُشكلة، لقد تعودت على مزاجية الأطفال".
بعد القليل من الثرثرة مع الأطفال والمُربيات قاطعتهم السيدة أنيسة:
- "حسنًا يا أطفال يكفي الآن، الدكتورة عليها أن ترتاح، تعالي معي الآن يا دكتورة لأريك غرفتك".
***
صعدا إلى الطابق العلوي، وأرشدتها سيدة المنزل إلى غرفتها التي تقع في نهاية الطرقة وفتحت لها الباب لتدخل إلى المكان الذي ستبيت فيه لمدة شهر حتى تقرر إن كانت ستكمل عملها في هذا المنزل أم لا، دخلت غرفتها التي كانت أشبه بشقة صغيرة، أنيقة، ألونها مزيج اللون الأبيض والأصفر يضيفان جواً من الحيوية والطاقة، سرير صغير بجواره مكتب مُريح عليه ما يلزمها من أدوات المكتب، والنافذة الكبيرة تطل على الحديقة ونافورة الطاووس التي أعجبتها.
بينما وسالي تتفحصها بعينيها قالت المرأة:
- "أتمنى أن تعجبك الغرفة، حاولت أن تكون مُختلفة قليلاً عن السابقة، فغيرت الأثاث وألوان الجدران، لتكون عصرية ومُريحة لك، تفقديها أيضاً وأعلميني إن كان ينقصك شيء وأنا سأوفره لك فوراً".
كانت سالي مرتاحة بهذا اللطف الذي غمرتها به السيدة العجوز منذ وصولها، وشعرت بالامتنان يغمر قلبها فقالت لها بإخلاص:
- "سيدتي أشكرك على هذا الاستقبال اللطيف، أنا مُمتنة جداً".
- "على الرحب والسعة عزيزتي، يُسعدني أن تجدي معنا الراحة في هذا المنزل، خذي في عين الاعتبار، الغداء من الثالثة إلى الرابعة عصرًا، والعشاء التاسعة مساءً، الفطور ليس مُهمًا إلى هذا الحد نظرًا لاختلاف مواعيد الاستيقاظ".
ردت سالي وهي تشعر بالحرج:
- "هل أستطيع أن أطلب منك معروفًا".
- "بالطبع، تفضلي".
- "إن لم يكن لديك مانع، اسمحي لي ألا أنضم إلى تجمعات اليوم على الغداء والعشاء، في الواقع أشعر بالإرهاق الشديد، وأفضل أن أتعرف على الأطفال وأنا مرتاحة".
لم تكن سالي مهيأة نفسياً لمقابلة شخص جديد اليوم فماذا عن 16 طفل وطفلة.
تأملتها أنيسة باستغراب، ولكنها تحولت إلى ابتسامة دافئة حنونة طمأنت الشابة:
- "لا مانع لدي، خذي باقي اليوم لنفسك، وارتاحي جيدًا وغدا لقاؤنا".
- "شكرا لك".
خرجت سيدة المنزل وتركت خلفها سالي التي اتجهت إلى النافذة الكبيرة وفتحتها، ليظهر أمامها واحد من أجمل المشاهد التي قد يراها الإنسان من غرفة نومه، وهو نهر النيل الذي ينساب أمامها ناظريها من بعيد في صورة جميلة براقة تقع الأنظار في حبها من المرة الأولي، تأملته سالي وانسابت افكارها مع انسيابه أمامها وهي تتساءل كيف ستتعامل الفترة المقبلة مع ستة عشر طفلاً.
نهاية الفصل الأول
***
شكراً جداً لصبركم عليا، واسفة على أي أخطاء غير مقصودة بالتأكيد.
كاتبتكم ءَالَآء
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
TikTok: hakayaalaa للقص القصيرة
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالة، متأكدة انها هتعجبكم
رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق