السبت، 10 أغسطس 2024

رواية المنزل: الفصل الأول (الجزء الأول) - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل الأول

رواية المنزل

قصة الأميرة الحالمة

كانت أميرة صغيرة وجميلة..

عاشت حياتها في عالم الأحلام والألحان والإلهام.. والطفولة..

حيث ما تتمناه يتحقق، وما تطلبه تلقاه..

عالم دافئ تنيره أشعة الشمس الذهبية..

تسمع فيه خرير الأنهار، وتنعكس فيه ألوان المروج الخضراء تحلق فوقها الطيور وهي تشدو منتشية بعطر الورود.

بسطت الأميرة أجنحتها وتهادت في هذا العالم كالطائر الغريد، وذابت روحها الوديعة معه، وتجولت تكتشف فيه كل يوم سر جديد..

تصغي لموسيقاه الحالمة، وتنتعش بالطبيعة الخالدة، وتستمد منها الخيال البديع..

أحبت تلك الأميرة القراءة، والثقافة، والفنون..

عزفت الموسيقى، ورتلت أناشيد الربيع..

وعشقت سماء الليل الساحرة الغامضة..

تتأملها كل يوم، فتسبح فيها، تتسلق نجمة هنا وتلاغي القمر هناك..

تمنت أن تكون مثل تلك النجوم..

نجمة ساطعة في سماء الليل، تنشر ضياءها في الأرجاء..

يشير إليها الجميع، ويتغنون بجمالها الأخاذ..

ولكن الأميرة الحالمة لم تكن تعلم أن أحلامها سيتم انتزاعها..

كانت الساحرة المجنونة مُغتاظة من هذه الطفلة التي تختال بسعادة وشقاوة..

امرأة شمطاء شريرة وجبارة، تتمنى أن يكون العالم خراب قاتم كئيب كوجهها العابس..

عالم بلا أحلام بلا طفولة تحيي الكون بنورها..

فنقلتها العجوز إلى زمن آخر..

زمن حيث لا أحلام فيه، ولا مشاعر..

عالم لا فنون فيه ولا نجوم جميلة تطير في سمائه..

عالم رمادي باهت ضاعت فيه الأميرة الجميلة الحالمة، بعيداً، بعيداً.

***

الفصل الأول


فضلاً، متنسوش الvote.

***


فضلاً، متنسوش الvote.

***

كان ذلك في وقتٍ مبكر من أواخر أيام فصل الصيف، بعثت الشمس المتوهجة أشعتها الذهبية لتمتد أمام أقدام "سالي"، الطبيبة الشابة التي تبلغ من العمر تسعًا وعشرين عامًا. متوسطة الطول، قمحية البشرة، شعرها الأسود الطويل، الناعم والمجعّد، ينسدل متأرجحًا خلف ظهرها، وتجمعه في جديلة لكبح جماحه أثناء سفرها في مثل هذا اليوم الحار. وقفت سالي تتأمل بعناية ذلك المبنى الكبير الذي كُتب بجواره: "المنزل".

ألقت الشمس أشعتها على عينيها البنيتين، فرفعت يدها لتمنع تلك الأشعة الحارقة التي أعمتها عن قراءة اللافتة جيدًا، ثم همست بصوت منخفض:

"المنزل..."

تذكّرت الخمسة عشر عامًا الماضية التي قضتها في الدراسة فقط وتحصيل الدرجات. حياتها الدراسية والمِهَنية، التي كُلّلت بالنجاح والتفوّق، مرّت أمامها كشريط سينمائي انتهى باستقالتها من وظيفتها، ثم عادت الآن إلى تلك الوظيفة ولكن بصورة مختلفة. كان بداخلها شعور ساخر من القدر الذي أوصلها إلى حيث تقف الآن.

تمتمت إلى نفسها، والابتسامة على محياها، مستسلمة:

"يبدو أنه لا جدوى من الفرار."

أعادت بصرها إلى المبنى الأنيق الكامن أمامها، والذي يتكوّن من ثلاثة طوابق وله نوافذ بيضاء عالية. كان مصممًا بطريقة لم ترَ مثلها من قبل، تجمع بين الطراز المعماري الحديث واللمسات الكلاسيكية العريقة، مزيجٌ رقيق يترك لمسة نفسية مريحة للعين، ولكن بصورة عصرية.

سألت سالي نفسها بدهشة:

"هل هذا دار للأيتام؟!"

أعادت بصرها مرةً أخرى إلى كلمة "المنزل"، لتتأكد أنها في المكان الصحيح، ولاحظت حول الكلمة أسماء مكتوبة بخط طفولي وبأقلام ألوان للأطفال، فتمتمت وهي تقرأ الأسماء بصعوبة:

"فرح، حسن، نور، رحيم، أحمد..."

استنتجت أن من كتبها، بكل تأكيد، هم الأطفال في هذا البيت. وأثناء ذلك، استرجعت كلمات الدكتور "نوفل" في ذهنها:

"ليس دار أيتام..."

ترددت تلك العبارة في ذهن "سالي" عدة مرات، بينما كانت تُقوّم وضعيتها، وترسم ابتسامتها اللطيفة على محياها الجذاب. اقتربت من البوابة التي يجلس بجوارها ثلاثة رجال؛ أحدهم يرتدي جلبابًا، والآخران يرتديان ملابس الحراسة، يتناقشون بصوتٍ مرتفع. قاطعت همجيتهم بصوتها اللطيف الأنيق:

"من فضلكم!"

كانت ضربات قلبها سريعة جدًا، وزادت حين التفت الرجال الثلاثة نحو مصدر الصوت، ليجدوا شابة متوسطة الطول، شعرها الطويل مجدول ينسدل حتى ما قبل خصرها ببضع سنتيمترات. ترتدي فستانًا أزرق طويلًا، وتحمل بيدها حقيبة ملابس.

اقترب أحدهم من البوابة وصاح بنبرة صعيدية ثقيلة:

"نعم يا آنسة!"

صوته العالي أخافها، فتراجعت خطوة إلى الخلف بتردد، ثم قالت بعدها بلحظات، وهي تعرّف عن نفسها بخجل:

"أنا الدكتورة سالي، الطبيبة الجديدة."

نظر الرجال الثلاثة إلى بعضهم في حيرة، لكن الرجل الذي حدثها فتح البوابة الكبيرة حتى صدر منها صرير مزعج، ثم رحّب بها بصوته العالي:

"أهلًا يا دكتورة، تفضلي. لقد تركت السيدة أنيسة خبرًا لنا بوصولك. أنا عم حمدي، وهؤلاء ..."

عرّفها "عم حمدي" بزميليه، ولم يرفع الرجلان نظراتهما عنها، مما جعل التوتر يصل بها إلى أقصى درجاته، فأومأت لهم برأسها دون أن تنظر حتى إلى ملامحهم:

"أهلًا بكم."

سمعت الرد منهم على هيئة همهمات لم تركز فيها، وعندئذٍ تقدم "عم حمدي" بسرعة، وهو يمد يده قائلًا:

"حقيبتك يا دكتورة، سأحملها لك."

شكرته "سالي" بامتنان، وأعطته أمتعتها:

"شكرًا لك."

ثم أشار لها بيده، موجهًا وجهه للداخل:

"تفضلي معي من هنا."

دخلت سالي عبر بوابة "المنزل"، وخطت أولى خطواتها في المكان، تلحق بخطى "عم حمدي" المتسارعة بخطواتها الصغيرة المترددة. التفت إليها الرجل بنصف جسده، وتحدث بصوته الجهوري:

"ظننا أن الطبيبة الجديدة ستكون امرأة عجوز مثل سابقتها. كم عمركِ؟"

كان الرجل في أواخر الستينات من عمره، يتأمل ملامحها باهتمام ظاهر. فابتسمت بأدب وأجابت بصبر:

"تسعٌ وعشرون."

رفع حاجبيه بدهشة وردّ على الفور بصوته العالي:

"أنتِ شابة صغيرة جداً على مثل هذا المكان!"

ثم نظر بطرف عينه إلى يدها اليسرى، يحاول استكشاف حالتها الاجتماعية في فضول غير مبرر. لم يغب الأمر عن سالي، فابتسمت ابتسامة هادئة، لم تصل إلى عينيها، متكلفة فيها القليل من البرود أحرجت الرجل المتطفل وأسكتته.

تابعت السير خلفه في الممر المؤدي إلى "المنزل" القائم على مساحة واسعة، وكلما اقتربت، بدا لها أكبر حجمًا وأكثر رسوخًا.
تأملت الحديقة المحيطة التي امتلأت بأنواع شتى من الزهور، التي أضافت ألوانها البديعة زهوًا وسحرًا خاصًا انعكس على أجواء الحديقة الواسعة.

وفي قلب الحديقة، كانت هناك نافورة ماء يتوسطها طاووس برونزي، ينشر ذيله المتلون بفخر.
تناثرت المياه من أطراف ريشه المشكّل على هيئة أقواس، فظهرت أقواس الألوان السبعة البديعة "قوس قزح" في صورة طبيعية مُشرقة، تقدم عملاً فنياً بديعاً أضاء حدقتا سالي التي ظلت تتأمله دون أن ترفع أنظارها من عليه وهي تسير تجاه المنزل.

في الجهة الجانبية، لاحظت ملحقًا صغيرًا بجانب المنزل، كما جذبت انتباهها دفيئة "صوبة زجاجية" تراها لأول مرة في حياتها، فاشتعل بداخلها فضول طفولي دفعها لتمني استكشافها عن قرب.

كانت هناك الكثير من التفاصيل احتاجت سالي إلى المزيد من الوقت حتى تتفحصها بدقة وتمعن، لكن وصولها إلى باب المنزل قطع عليها تلك الرغبة، حين وقف عم حمدي أمام الباب الكبير، وضغط زر الجرس.

ثوانٍ مرت، حتى جاء صوت أنثوي من جهاز الرد المزود بكاميرا، كان عميقًا متزنًا، يصعب تحديد عمر صاحبته:

"نعم، يا عم حمدي؟"

"سيدتي، الدكتورة سالي وصلت."

ساد الصمت للحظات، ثم جاء الرد ببطء وكأن السيدة تفكر قبل أن تتكلم:

"حسنًا، دعها تدخل، سأحضر على الفور."

دوى صوت القفل الإلكتروني، فدفع الرجل أحد ضلفتي الباب الخشبي الثقيل، والتفت إليها بابتسامة:

"تفضلي."

دخلت سالي، تحيطها الدهشة من كل جانب، إلى ردهة أنيقة واسعة، عكست ذوقًا راقيًا ودفئًا غير متوقع.
تساءلت في نفسها وهي تتلفّت:

'أين أنا؟'

أشار عم حمدي إلى الصالة المخصصة لاستقبال الضيوف وقال:

"ارتاحي هنا، والسيدة أنيسة ستأتي فورًا."

"شكرًا لك."

جلست بهدوء، تُحاول السيطرة على قلقها وسط كل هذا الغموض الفخم الذي يلف المكان.

ما إن انصرف عم حمدي، حتى شعرت سالي بنوعٍ من الراحة... أو بالأحرى، أذناها من تنفّستا الصعداء. ذلك الصوت الجهوري الذي كان يملأ الفراغ ضجيجًا قد خفت أخيرًا.

جلست في مكانها، وبدأت عيناها تتأملان تفاصيل المحيط الأنيق من حولها بعناية، كان كل شيء يلمع بالفخامة.
الردهة فسيحة، وألوان الجدران السكرية تبعث على الاتساع والهدوء في آنٍ. الأثاث كلاسيكي، يحمل لمسات من الزمن الجميل، بينما النوافذ الكبيرة تُغرق المساحة بالضوء، وتمنح للمكان اتساعًا مُهيبًا أقرب إلى الرهبة منه إلى الألفة.

في منتصف السقف، علّقت ثريا ضخمة، تعكس أشعة الشمس العابرة من النوافذ، فتنكسر على الحوائط السكرية إلى ألوانٍ زاهية تتراقص بهدوء على إيقاع الضوء.

السجاد الفاخر، المزهريات الأنيقة، اللوحات الزيتية الموزعة بذوق، كلها مظاهر ترفٍ واضحة.
شعرت سالي بالارتباك.

تساءلت في نفسها بدهشة. هذا المكان لا يشبه أي دار أيتام رأته من قبل، لا في الواقع، ولا حتى في الأفلام. لم يكن من المعتاد، لا في الحقيقة أو حتى الخيال، أن يكون منزلاً كهذا ملاذًا لأطفالٍ فقدوا أهلهم أو تخلّى عنهم ذووهم.

تذكرت كلمات دكتور نوفل التي لم تعِها حينها تمامًا:

"سالي، هذا المكان مختلف قليلاً عن باقي دور الأيتام. هو ليس دارًا بالمعنى التقليدي. ستفهمين ما أعنيه فور وصولك."

ولكن تصوّراتها لم تصل إلى ما تراه الآن.

وبينما وهي تتأمل وتدقق النظر حولها، قطع شرودها صوت خطوات مُتناسقة تقترب بوتيرة هادئة حاسمة

تسارعت نبضات قلب سالي، واعتدلت في جلستها بلا وعي، تراقب الممر الذي أتى منه الصوت حتى ظهرت صاحبة الخطوات.

حتى ظهرت أمامها امرأة تبدو في السبعينيات من عمرها، صغيرة الجسد، أنيقة، الشيب يغزو شعرها ليبرز وقارها وحكمتها، مظهرها يوحي بأنها كانت بارعة الجمال في صغرها، مشيتها الرزينة ذكرتها بطبقة الأرستقراطيين الذين عرفتهم سالي من الأفلام والمسلسلات التراثية، التجاعيد حول عينيها العميقتين تنتشر على خريطة وجهها التي تحمل في طياتها قصة حياة طويلة. كانت سالي متوترة ومرتبكة، حتى رحبت بها المرأة وابتسامة خفيفة على محياها وهي تتأمل الشابة قمحية البشرة ذات الشعر الطويل الأسود الذي ينسدل حتى خصرها.

قالت بصوت ناعم، لكنه عميق وناضج:

"صباح الخير، يا دكتورة سالي."

نهضت سالي بسرعة، وتذكّرت تنبيه والدتها: 'افردي ظهرك دائمًا'. فردت ظهرها على الفور، وتقدّمت بخفة، ثم مدّت يدها بلطف لتصافح المرأة العجوز:

"صباح الخير، ست أنيسة."

كانت تبدو امرأة ودودة، صوتها هادئ، دافئ، واثق ومُرتب بعناية، لم تصادف سالي يومًا مثل هذا الصوت الذي يُخفي في طياته شجنًا هادئًا عميقًا، ولكنها بخبرتها الصغيرة في هذه الحياة لاحظت أن هذا الصوت يُخفي وراءه صرامة ستكون قطعًا مُخيفة لو استيقظت.

"تفضلي، تم إبلاغي أن طبيبتنا الجديدة صغيرة في السن، ولكن لم أكن أعلم أنها صغيرة جدًا، وبهذه اللطافة كما أرى الآن".
قالتها المرأة برحابة صدر وهي تجلس وتشير لسالي بالجلوس.

كلماتها الرقيقة باغتت سالي المتوترة والتي تداركت الأمر بسرعة لترد عليها بأجمل ابتسامة لديها:

"شكرًا لكِ، هذه مجاملة لطيفة منكِ".

كان أثقل ما على قلب سالي هو الإكثار من المجاملات المزيفة التي لا صدق أو مشاعر فيها، ولكن تلك المرأة يبدو أنها مختلفة، هناك صدق وصراحة ينبعان من أسلوبها الراقي.

تأملتها أنيسة، الطبيبة الشابة التي يبدو عليها الإرهاق:

"يبدو أن الطريق أرهقكِ، جئتِ من محافظة بعيدة على حد معلوماتي، وبالنظر إليكِ يبدو أنكِ تحتاجين قسطًا من الراحة".

ابتسمت الشابة بتهذيب وقالت بحرص:

"الطريق كان طويلًا بطبيعة الحال، ولكنني لست مرهقة إلى هذا الحد".

في الواقع كانت تشعر بالإرهاق الشديد كما قالت أنيسة، خاصةً أنها لم تنم الليلة السابقة من التوتر والتفكير.

استطردت أنيسة بإلحاح:

"على الأقل يا دكتورة، سترغبين في مشروب يعيد شحن طاقتكِ، ماذا تشربين؟ وأرجوكِ لا تخجلي، فهذا منزلكِ من الآن".

قالت الجملة الأخيرة بفخر وهي ترفع كفّيها قليلًا مُشيرة للمحيط من حولها بطريقة رأتها سالي درامية.

"قهوة إذا سمحتِ".

أضاءت عيون المرأة بكرم:

"على الفور".

ضغطت على مفتاح جرس بجوار مقعدها، وبعد دقائق من الحديث الجانبي عن الطريق، ظهرت أمامهما امرأة طويلة القامة، جميلة المحيا، بشرتها ناصعة البياض، ووجنتاها مصبوغتان باللون الأحمر الصحي، تبتسم بود وترتدي مئزر المطبخ.

عرفت أنيسة "ذكية" على سالي بنبرة رصينة تحمل قدرًا من الهيبة والاهتمام:

"ست ذكية، هذه الدكتورة سالي، فرد جديد في منزلنا. أرجوكِ اعتني بها جيدًا."

ثم التفتت إلى سالي بنظرة دافئة، وابتسامة لطيفة ارتسمت على وجهها الهادئ:

"هذه الست ذكية، مدبرة منزلنا. هذا المنزل لا ينشط إلا بها."

تقدمت "ذكية" بخطوة، ولهجتها تشع بالود والحنان، ما جعل سالي تشعر بلحظة دفء مفاجئة ذكّرتها بصوت جدتها القديم:

"مرحبًا بكِ يا دكتورة في المنزل. إن احتجتِ إلى أي مساعدة، فقط أخبريني فورًا!"

لم تستطع سالي إنكار دفء الترحيب، ترحيب لا يقل حرارة عن ذاك الذي وجدته في عيني أنيسة.

لكن أنيسة قطعت تلك اللحظة بلطافة، كأنها تعيد الجميع إلى النظام:

"ذكية، من فضلك، جهزي القهوة والكيك للدكتورة سالي."

ثم وجهت لسالي نظرة اعتذار قصيرة، التقطتها سالي وابتسمت بخجل.

"هذا طبعها... ذكية مبتهجة دائمًا، وتحب جميع الناس."

قالتها أنيسة بابتسامة بسيطة. ثم اتخذت مظهرها الجاد من جديد، ذاك الذي يليق بسيدة منزل:

"إذا لم يكن لديكِ مانع... ما رأيك أن نتحدث قليلًا عن ظروف عملك هنا؟"

"لا، لا مانع على الإطلاق. سيكون هذا أفضل بالنسبة لي."

"هل لديكِ فكرة كافية عن طبيعة العمل في هذا المكان؟ هل شرح لكِ دكتور نوفل كل شيء؟"

ترددت سالي لحظة، بسبب الانطباع المبدئي الذي أخذته منذ وصولها إلى هذا، فما رأته هنا حتى الآن لا يشبه شيئًا مما تخيلته، منزل كبير، هادئ أكثر مما ينبغي.

"في الحقيقة، دكتور نوفل أخبرني ببعض التفاصيل... لكن أتمنى أن توضحي لي أكثر."

سكتت ونظرت حولها وهي تتأمل المكان وأضافت بحيرة:

"كما أرى... طبيعة هذا المكان تختلف عن بيئة عملي المعتادة في المستشفى، ولا يشبه الصور التي كنت أتصورها عن دور الأيتام."

وكأن كلماتها لامست وترًا حساسًا، قطعتها أنيسة بنبرة هادئة لكنها حاسمة، لتُصحّح لها المفهوم:

"عزيزتي... أعتقد أن هناك سوء فهم. هذا ليس دار أيتام، هذا منزل."

رفعت سالي حاجبيها باستغراب:

"وما الفرق؟"

تراجعت أنيسة في مقعدها قليلًا، وأغمضت عينيها للحظات، أخذت نفسًا بطيئًا ثم فتحتها وقالت:

"الفرق كبير، بالطبع. هؤلاء الأطفال مكفولون، وهذا هو منزلهم. نحن لا ندير مؤسسة اجتماعية، بل نحيا في منزل، يعيش فيه أفراده كعائلة."

سكتت لحظة، ثم أضافت، وعيناها تبرقان بالحب والدفء:

"عائلة كبيرة... ومختلفة بعض الشيء، لكنها تظل عائلة في نهاية المطاف."

لم تعرف سالي بماذا ترد، لكنها لم تُخفِ حيرتها، ما شجع أنيسة على مواصلة الحديث:

"ربما يبدو هذا الوضع غريبًا عليكِ في البداية، ولكنك ستعتادين عليه بالتدريج. نحن عائلة كبيرة، والأطفال محبوبون جدًا رغم مشاكلهم الكثيرة. أما بالنسبة لعملك، فلا جديد فيه بصفتك طبيبة، لكنه ليس رسميًا إلى حد كبير."

ثم أوضحت، بصوت خفيض لكن فيه نبرة مسؤولية:

"أنتِ موجودة هنا كفردٍ من أفراد المنزل لديه خبرة طبية ونفسية تُقدَّم فورًا عند الحاجة، سواء بالمراقبة الصحية أو تنظيم احتياجاتهم الغذائية، بالإضافة إلى التدخل الفوري في حال تعرضهم لإصابات جسدية متكررة، خاصةً أننا نرعى رضيعة وخمسة أطفال دون سن السادسة. بخلاف ذلك، فلكِ كل الحرية في أداء عملك بعيدًا عن الرسميات."

سكتت لوهلة ثم ختمت كلامها ببطء:

"نحن في حاجة ماسة إليكِ يا دكتورة."

ترددت سالي أمام كلمات المرأة العجوز، إذ بدا لها أن الأمر مختلف قليلًا عمّا تخيلته. وكان عليها أن تزن كلماتها، وألا تتورط قبل أن تعرف طبيعة عملها بكل تفاصيله. استجمعت شتات أفكارها، وتحدثت ببطء:

"حسنًا... اتفاقي مع دكتور نوفل كان على فترة تجريبية، شهر مثلًا، بعدها أقرر إن كنت سأستمر أم لا."

أجابت أنيسة بصوت رقيق:

"بالطبع، خذي وقتكِ. القرار النهائي لكِ."

ثم تابعت بلهجة ودودة دافئة:

"في الحقيقة، دكتور نوفل حدثني عنكِ... عن استقالتكِ، وعن شككِ في العودة للطب. ولهذا، أنا من اقترح عليه فكرة الشهر التجريبي. أنتِ حرة في قرارك تمامًا، لكن فقط... أعطي نفسكِ فرصة."

صمتت قليلًا، ثم ختمت بنبرة فيها إيمان خالص:

"دكتور نوفل أخبرني كم أنت ماهرة ومتفانية في عملك، وأنا متأكدة أن تغير بيئة العمل ربما يحسن قليلًا من نفسيتك، ويغير الكثير في داخلك."

ابتسمت أنيسة ابتسامة هادئة وصلت إلى عينيها، ونظرت إلى سالي برقة فيها شيء من الإعجاب:

"وبصراحة... أحد أسباب إصراري على وجودك بيننا، هو حسّك الفني. هذا النوع من الحسّ لا يُعوَّض، ولذلك لا أريد التفريط في شخص مثلك."

لم تتوقع سالي هذا المنعطف المفاجئ في الحديث. ارتبكت للحظة، ثم ردّت بابتسامة باهتة، تخفي خلفها تعبًا قديما:

"لقد أخبرك بالكثير عني."

عقدت أنيسة حاجبيها بحيرة، وكأنها تُحاول قراءة ما خلف ابتسامتها:

"أتمنى ألا يجعلك هذا مستاءة... فمن الواضح أنه يقدرك كثيرًا، وهذا ما أثار فضولي تجاهك."

ردت عليها سالي بحسها الأخلاقي الراقي:

"لستُ مستاءة، أنا أيضًا أقدّر دكتور نوفل... وممتنّة لمشاعرك الجميلة."

قاطعتهما "ذكية" وهي تدخل بهدوء حاملة صينية عليها فناجين القهوة وبعض البسكويت. وضعت كوبًا أمام سالي، ثم آخر أمام أنيسة، لكن عيني أنيسة وقعتا مباشرة على البسكويت، فتساءلت بدهشة خفيفة:

"ذكية، أين الكيك؟ لم أطلب البسكويت."

ارتبكت المرأة، واحمر وجهها بخجل لا تخطئه العين:

"لا أعلم... ما تبقى من الأطفال صباحًا كان قطعة كبيرة، لكنها... اختفت الآن."

ثم رفعت عينيها نحو أنيسة بنظرة خفيفة ذات مغزى، لاحظتها سالي بوضوح. ولم تفهم معناها، لكنها شعرت أن ما قيل لم يكن كاملًا. ثم قالت ذكية:

"ربما عبدالله..."

قاطعتها أنيسة بهدوء حازم، وهي ترفع يدها الصغيرة مشيرة بلطف إلى الباب:

"حسنًا، اذهبي الآن."

امتثلت ذكية فورًا، لكن النظرة الغائمة التي ارتسمت على وجه أنيسة بقيت هناك... فيها شيء من الاستنتاج، وشيء من التراخي المتعمد، كأنها عرفت الفاعل.

ثم التفتت مجددًا إلى سالي، وابتسمت ابتسامة قصيرة تحمل بعض الاعتذار. دفعت نحوها فنجان القهوة الثمين، وقالت بصوت ناعم:

"تفضّلي القهوة، يا دكتورة."

التقطته سالي بامتنان:

"شكرًا لك."

وبينما رفعت الكوب إلى شفتيها، لم تفارقها فكرة... أن هذا المكان كما قالت أنيسة، أبعد ما يكون عن مؤسسة. إنه يشبه الحياة بكل ما فيها من فوضى صغيرة... ودفء لا يُفسّر.

Bottom of Form أومأت أنيسة برأسها وأكملت بنبرة دافئة:

"علمتُ أنك تمارسين العزف على العود والبيانو أيضًا... وهذا الجو نفتقده هنا في المنزل. سيكون من الرائع لو خصصتِ وقتًا مع الأطفال ليتعلموا منك بعض المهارات."

لم تستطع سالي أن تُخفي ارتياحها لتغيّر مسار الحديث إلى شيء تحبه، فردّت بابتسامة خفيفة:

"في الواقع، كان هذا اتجاهي بعد الاستقالة."

رفعت أنيسة حاجبيها باهتمام، وقالت بنبرة تحمل عرضًا صادقًا:

"حقًا؟ نحن فيها إذًا. أنتِ هنا، ولدينا الأولاد. في أوقات الفراغ طبعًا، فمدرستهم تأخذ معظم وقتهم."

ابتسمت سالي ابتسامة لطيفة، لكنها اعتذرت بلغة ناعمة وواقعية:

"أفضل أن أرتّب أولوياتي الآن... أحب أن أتعرف على الأطفال وأندمج معهم أولًا، والباقي أتركه حتى يحين وقته."

أومأت أنيسة بتفهم، ثم تنهدت تنهدًا خفيفًا يرافقه شيء من المزاح:

"كما تحبين... لدينا هنا أعمار مختلفة، وبالتالي المزاج العام في المنزل كالعاصفة. أتمنى أن تتحمليه في البداية."

ثم أضافت بنبرة أكثر دفئًا، وبشيء من الثقة:

"ولكنك ستحبينهم."

سألت سالي السؤال الذي لم تستطع تجاهله:

"كم عددهم، سيدتي؟"

استندت أنيسة على الكرسي، ارتخت كتفاها، ورفعت فنجان القهوة بيدها في حركة هادئة، قبل أن تنطق الجواب كلمة كلمة بوضوح، وبنبرة شبه احتفالية:

"خمسة عشر... طفل وطفلة... بارك الله فيهم."

توقفت الكلمات في أذني سالي، وكأنها اصطدمت بجدار من الذهول. شدّت على الفنجان الساخن بين يديها دون أن تشعر، وانحبس نفسٌ ثقيل في صدرها. تخيّلتهم للحظة... ستة عشر طفلًا يقفون في صف أمامها، بأصواتهم، وحاجاتهم، وعيونهم المتطلعة.

لكن أنيسة الماكرة بنباهتها، لم تترك لها مجالًا للغرق في التوجس. التقطت قلقها بسرعة، وحدّثتها بنبرة يقين لا تتزحزح:

"لا تقلقي يا عزيزتي... إنهم مسؤولون، والجميع هنا سيساعدك حتى تتأقلمي. وأنا أولهم."

لم ترد سالي على كلمات أنيسة، لكن الأخيرة أكملت حديثها بصوت هادئ، وكأنها تمهّد لطريق آخر من المفاجآت:

"آنسة سالي... بافتراض أنك بخير مع الظروف الراهنة، هناك شيء من المهم أن أوضحه لك."

نظرت إليها سالي بعينين متسائلتين، وقالت بصوت خافت وهي تحاول تجاوز الصدمة:

"تفضلي".

"لدينا هنا بين الأطفال، اثنان من ذوي الاحتياجات... نور ورحيم. نور كفيفة، ورحيم مصاب بالشلل ويتحرك على كرسي. وكما تعلمين، الأطفال من ذوي الاحتياجات حسّاسون إلى حد كبير، والتعامل معهم يحتاج إلى الكثير من الحذر والحنان".
جاء وقع الكلمات على سالي أشبه بموجة ثانية من الصدمة. لكنها هذه المرة لم تملك إلا أن تبتلع ذهولها بصمت، وتحاول تحريك أفكارها المثقلة، فرفعت يدها ببطء وجمعت شعرها خلف أذنيها بتوتر، ثم قالت بارتباك لم تُحسن إخفاءه:

"أنا طبيبة، تعاملت مع جميع الحالات... سواء كان الطفل سليمًا أو من ذوي الاحتياجات، لا فرق لدي طالما أنني مسؤولة عن صحته".

كانت متوترة وهي تحاول الشرح، إلا أن أنيسة قابلتها بابتسامة دافئة ونظرة حانية، وقالت بلطف فيه شيء من الرجاء:

"هذا ما أود قوله تمامًا، لا فرق بين الطفل السليم أو من ذوي الاحتياجات، وهذا فقط ما أطلبه منك... ألا تميّزي بينهم، وأن تتجنبي، رجاءً، أن تجرحي أحدهم ولو دون قصد".
في عيني أنيسة كانت هناك عاطفة رأت سالي فيها صدقًا وحناناً عميقًا خفّف عنها بعضًا من ارتباكها، فاستجمعت هدوءها وردّت بنبرة خافتة:

"لا تقلقي سيدتي، هذا جزء من مسؤوليتي، وسأحاول بجد ألا أتغاضى عنه".

كانت تحاول أن تطمئن المرأة التي أمامها، رغم أنها هي من تحتاج إلى من يطمئنها، بعد أن تكدّست في رأسها كل هذه التفاصيل التي أربكتها.
تأملت أنيسة الشابة الجالسة أمامها، وكأنها تراها بوضوح للمرة الأولى. لم تكن سالي فاتنة الجمال، لكن شيئًا في ملامحها جذبها؛ ربما عيناها اللتان تحملان حزنًا مكبوتًا، أو خصلات شعرها المجعد التي انفلتت من الجديلة واستقرت على كتفيها بعشوائية جميلة بشكل خاص، أو ربما تلك الحركة المتكررة التي تجمع بها شعرها خلف أذنيها حين تتوتر. كانت تلك الحركة وحدها كفيلة بأن تجعل أنيسة تُحبّها.

ابتسمت المرأة برقة وهي تحاول التخفيف عنها، وقالت بنبرة فيها شيء من الأمومة:

"أشكرك يا دكتورة... أؤكد لك أنك ستجدين الراحة معنا، وأي مشاكل سنتخطاها بالتأكيد معًا".

شعرت سالي بشعور عميق يتسلل إلى صدرها تجاه هذه المرأة التي تجلس أمامها بطمأنينة الأم وخفة الحضور، فارتخت قبضتها التي كانت تشد على فنجان القهوة، وابتسمت بامتنان خافت:

"شكرًا لك سيدة أنيسة."

ارتشفت أنيسة رشفة صغيرة من فنجانها، وكأنها تمنح نفسها وقتًا مدروسًا لتفتح موضوعًا جديدًا:

"في الواقع، أقامت معنا طبيبة أخصائية ممتازة جدًا، لكنها كانت كبيرة في السن... والأطفال لم يتوافقوا معها جيدًا. كانت عصبية ويسهل استفزازها، والأطفال بذكائهم التلقائي التقطوا ذلك."

تنهدت أنيسة بأسى، وجفّ صوتها قليلًا وهي تسترجع ذكرى واضحة في ذهنها:

"لقد كان جحيمًا حقيقيًا. طلبنا منها أن ترحل بعد إعطائها كل حقوقها المالية. لكن ذلك لم يكن السبب الحقيقي وراء قرار إقالتها."

الحقيقة أن سالي قد اعتادت التعامل مع كل أنواع الأطفال، من مختلف الطبقات والأوضاع، وكانت تتمتع بقدرة عالية على احتوائهم، مدعومة بدبلومة في علم النفس التنموي حصلت عليها العام الماضي. ولكن عند سماعها حديث أنيسة الآن شكت في قدرتها على السيطرة على زمام الأمور خاصة مع ستة عشر طفلاً.

أكملت أنيسة حديثها بنبرة أكثر حزمًا:

"السبب الحقيقي كان التباين في معاملتها مع الأطفال. كانت تولي اهتمامًا خاصًا بنور ورحيم... بينما كانت صارمة وجافة مع البقية. تحصي عليهم أمراضهم وأوجاعهم. لا أعلم لماذا كانت تتصرف هكذا، لكنها زرعت شعورًا بالتحيز وولّدت نفورًا بينهم."

توقف صوت أنيسة قليلًا، ثم أكملت بعد لحظة قصيرة:

"لهذا السبب، اتفقنا، أنا وخالد، على أن ترحل... وأن نبحث عن طبيبة قادرة على التواصل مع الجميع، دون تفريق."

مال رأس سالي قليلًا بتساؤل لم تقله، لكنها لم تكن بحاجة للنطق به. التقطت أنيسة السؤال الصامت كأنها تقرأه من ملامح وجهها:

"خالد هو ولدي... ابني الأكبر."

قالتها بابتسامة خفيفة جعلت ملامح وجهها تتجعد بودّ، لا كمن تتحدث عن ابن، بل كمن تصف شيئًا تحبه حبًا لا جدال فيه. لم تضف شيئًا بعدها، بل تركت سالي في حيرتها لحظة، ثم نقلت عينيها بهدوء إلى فنجان القهوة الذي كانت سالي قد وضعته على الطاولة، وسألت بنبرة لطيفة:

"فنجان آخر؟"

"شكرًا لك، اكتفيت بهذا."

"حسنًا... هلا ترافقينني الآن لتأخذي جولة في المنزل؟"

***

تقدّمت أنيسة بخطى واثقة، ومشت سالي خلفها كأنها جندي صغير يمشي خلف قائده، ليست فقط رهبة المكان، بل هيبة هذه السيدة التي تمشي أمامها وتنساب كلماتها بسلاسة وثقة.

استطردت أنيسة بفخر وهي تتجوّل في الممر اللامع كأنها تسير داخل عالم صنعته بيديها:

"هنا في المنزل، ستتبدّل توقعاتك تمامًا، يا دكتورة... هنا حياة مختلفة، بكل تأكيد. لسنا دار أيتام، كما أخبرتك سابقًا."

نظرت إليها نظرة تأكيد قوية، عيناها تنطقان بثقة لا تحتمل النقاش، ثم تابعت:

"أطفالنا لا يرتدون ملابس رخيصة أو مُستهلكة... لا يأكلون طعامًا من معونات المحسنين... لا ينامون على الأرض تعساء ودون تدفئة... لا يواجهون صعوبة في التعلّم، ولا عنف، ولا إساءة جسدية."

توقفت لحظة، ثم أكملت بنبرة تحمل شموخًا ناعمًا:

"أطفالنا سعداء، مرفّهون. يرتدون أغلى الملابس، يأكلون أجود أنواع الطعام، ويُعامَلون برقي واهتمام كغيرهم من الأطفال تمامًا."

كان قلب سالي يخفق بخليط من الانبهار والحذر. لم تكن تتوقّع كل هذا، لا هذا النظام، ولا هذا التحدي الذي يعلو تحت كل كلمة تنطق بها المرأة أمامها.

توقفت أنيسة للحظة، واستدارت نحوها ببطء، نظراتها نافذة، وقالت:

"دكتورة سالي، تأمّلي المكان من حولك... مكان نظيف، راقٍ، طرقات لامعة، وبيئة مُلائمة لتنشئة أطفال أصحاء، جسديًا ونفسيًا."

ثم بدأت تفتح الأبواب واحدًا تلو الآخر، وتُكمل بعينين تلمعان بالفخر:

"لدينا في هذا الطابق غرفة كبيرة للدراسة، وأخرى للطعام نجتمع فيها صباحًا ومساءً. غرفة حضانة للأطفال الصغار... غرفة للموسيقى، صالة ألعاب رياضية..."

رفعت يدها وأشارت نحو الأعلى:

"والطابق العلوي يضم غرف النوم."

وقفت أمام نافذة واسعة تطل على الخارج، فتأملت المنظر برهة ثم تابعت حديثها بنبرة أكثر هدوءًا:

"وهنا في الخارج، يوجد ملحق وحديقة ودفيئة، وملعبان كبيران. لدينا مربيات موثوقات للأطفال الأصغر سنًا، جميعهن مُتعلمات، تم اختيارهن بعناية، وتوافق ظروفهن احتياجات الأطفال النفسية والاجتماعية."

سكنت لحظة، ثم تنهدت، تنهيدة وختمت بنبرة فيها دفء خافت:

"باختصار... نحن جميعًا عائلة. لا فرق بين شخص وآخر... إلا بمسؤوليته."

ثم نظرت إلى سالي نظرة مباشرة، وقالت بعد لحظة صمت:

"لكن... مؤخرًا فقط، أصبح ينقصنا فرد واحد."

مال رأس سالي بتساؤل صغير، فأشارت أنيسة بإصبعها الممدود، ونبرة فيها قرار لا رجعة فيه:

"أنتِ يا دكتورة."

***

بعد هذه الجولة، وقفتا أمام باب أبيض صغير مزخرف برسومات أطفال. أشارت إليه أنيسة وقالت بابتسامة رقيقة:

"هذه هي الحضانة... مكان الأطفال الصغار."

طرقت الباب الذي كان يتردد من خلفه ضجيج وفوضى. دخلت المرأة وخلفها سالي، وما إن وطئت أقدامهما العتبة حتى هبّت عاصفة من الحركة، وكأنهما اقتحما عُش فراخ صغيرة.
ركض الأطفال، وقد كانوا خمسة، مليئين بالطاقة والحيوية المخيفة، وكانت المُربيات يُلاحِقن أضرارهم، محاولاتٍ السيطرة على آثارهم العشوائية.

لفت نظر سالي أقدامهم الصغيرة المغلفة بالجوارب البيضاء، تتنقل بسرعة في أرجاء المكان، فأثار هذا المشهد اللطيف ابتسامة دافئة على شفتيها.

وفجأة، اقترب طفل يبدو أنه أكبرهم قليلًا، أنفه يسيل، وملامحه تحمل شيئًا من الجدية. رفع وجهه نحو السيدة أنيسة وقال بلهفة:

"ماما، سأخبرك بسر."

وأشار إليها لتقترب وتنزل إلى مستواه، فأثار هذا التصرف استغرابها. اقتربت، وهمس الصغير في أذنها:

"هل تعرفين من سرق الكيك؟"

سمعته سالي في صمت، مستمتعة، وهمست في سرّها:

صوتك مسموع'.

ردّت عليه أنيسة بنفس نبرة الهمس:

"من؟"

"عبدالله، رأيته اليوم من نافذة الحضانة وهو يخرج من باب المطبخ ويطعمه للعصافير على شجرة البرتقال."

سكت للحظة، ثم أكمل وهو يُمثّل بيديه:

"فتّت الكيك... ورماه."

ابتسمت السيدة أنيسة بعفوية، وقد استمتعت بالحكاية المُسلية وطريقة رواية الطفل لها. مدت يدها تمسح على شعره القصير المحلوق، وقالت:

"عزيزي، كما قلت، هذا سر. لا تخبر إخوتك به. أين سنرمي هذا السر؟"

همس الفتى باقتناع:

"في البئر، لن أخبر أي أحد."

ثم نقل نظره نحو سالي، وقد لاحظ أخيرًا وجود الشخص الغريب في الغرفة. شعر بالحرج، فاختبأ خلف السيدة أنيسة، يتأمل سالي بطرف عينه بخجل.

على الجانب الآخر، كان هناك طفلان، ولد وفتاة، يمسكان بأيدي بعضهما البعض ويرتديان ملابس متماثلة، يتجولان حول سالي التي تقف بهدوء. كانا يهمسان في آذان بعضهما، بينما الطفلان الآخران يقفان أمامها يتأملانها بجرأة.

شعرت سالي بنظرات ثاقبة، نابعة من خمسة أزواج من العيون تحاصرها من كل الجهات، كأنها فأر صغير في مواجهة مجموعة من القطط. ابتسمت بتوتر وقالت:

"أهلًا يا أطفال."

"من أنتِ؟"
قالت الفتاة التوأم بصوتٍ عالٍ. كانت صغيرة، ربما في الرابعة أو الخامسة من عمرها، لكن نظراتها حملت جرأة وفضولًا لافتين.

فوبختها السيدة أنيسة برفق:

"لارا، تحدثي بتهذيب مع الدكتورة سالي."

وما إن سمع الأطفال كلمة "دكتورة"، حتى تم إخلاء المكان في لحظة واحدة. ركضوا كالفئران، يختبئون خلف أثاث الغرفة المليئة بالألعاب. لم ترِ سالي حينها سوى المُربيتين من بعيد تبتسمان بمرح.

لكن الفتى الذي كان يقف خلف السيدة أنيسة شحب وجهه، وتراجع خطوة إلى الوراء، مُمسكًا بملابس المرأة العجوز، وعيناه تتلألآن بدموع الذعر. لاحظت السيدة أنيسة ارتجافه، فمسحت على رأسه بحنان وقالت:

"عليّ، عزيزي، قل أهلًا لضيفتنا."

لكن عليّ تراجع أكثر، وأبى أن يتفاعل. اقترب من السيدة أنيسة أكثر، فمالت نحو سالي وهمست:

"تجربته مع الأطباء لم تكن لطيفة، خصوصًا مع الطبيبة السابقة."

ابتسمت سالي بلطف، مدفوعة بغريزتها المهنية التي طوّرتها عبر السنين، وتحدثت برقة إلى الفتى المتراجع:

"أهلًا عليّ، كيف حالك؟"

لم يردّ، لكنها واصلت بنفس اللطف:

"أتَعلم؟ أنا أحب اسم عليّ كثيرًا... هل تحب أن نكون أصدقاء؟"

هزّ رأسه رافضًا. تفاجأت سالي من رفضه الصريح، فسألته:

"ولكني سأكون سعيدة لو أصبحنا أصدقاء، وسأحب أيضًا أن تناديني سالي."

نقل الصغير نظره بين المرأتين، تلقّى من السيدة أنيسة نظرات مطمئنة، ثم اتخذ قراره وهزّ رأسه بالرفض مرةً أخرى. شعرت سالي بالتحدي، وكأنها دخلت معركة صامتة عنوانها : من يصمد للنهاية؟

فكرت، ثم قالت بإصرار لا يخلو من المرح:

"حسنًا، أخبرني... كم عمرك؟"

فكر الطفل لثوانٍ، نظر إلى أصابعه وعدّها بصمت، ثم رفع عينيه نحوها بجدية وأشار بخمس أصابع صغيرة قائلاً:

"خمسة."

ابتسمت سالي، ومسحت رأسه بلطف:

"هذا يعني أنك في سن المدرسة!"

قاطعتها السيدة أنيسة بابتسامة تحمل مزيجًا من الحنان والعتاب:

"أُصيب بنزلة برد، وتعافى منها مؤخرًا، لكنه مصرّ على أنه لم يشفَ بعد حتى لا يذهب إلى المدرسة. قررت أن أمررها اليوم، لكنه سينتظم من الغد."

أدارت سالي نظرها نحو بقية الأطفال الذين كانوا يراقبون الموقف من خلف أثاث الغرفة، متوارين بذكاء ومكر. ثم سألت عليّ:

"هل هؤلاء إخوتك؟"

وجه عليّ نظراته الخائفة إلى الأرض، وامتزج خجله بصوته المنخفض حين أجاب:

"نعم."

"أريد أن أتعرف عليهم... هل تساعدني في ذلك؟"

مدّت سالي كفّها إلى عليّ في محاولة لعقد هدنة. نظر الصغير إلى السيدة أنيسة، فبادرت بالإيماء له بالموافقة. مدّ يده الصغيرة بتردد وأمسك بكفها، ثم توجّها معًا نحو إخوته المختبئين، الذين بدؤوا يظهرون واحدًا تلو الآخر من خلف الأثاث.

أشار عليّ إلى التوأم أولًا، وقال بفخر بسيط:

"هذه لارا، وهذا فؤاد، توأمان. ويحيى وسارة... لكنهما ليسا توأمين مثل لارا وفؤاد."

استمتعت سالي بهذا التوضيح الطفولي، وتأملت ملامح التوأمين بلطف. لفتها لون شعرهما البني الزاهي، فسألتها لارا بفضول طفولي صريح:

"هل أنتِ دكتورة؟ هل ستعطيني حقنة؟"

أشارت الطفلة إلى الخلف. ليجيب فؤاد بهمسٍ جاد:

"نعم يا لارا، إنها دكتورة."

اغرورقت عينا الفتاة الصغيرة، والتي بدا عليها المزاج الحاد، وقالت بصوت مرتجف:

"ولكني لست مريضة"

ابتسمت سالي بخفة، وسخرت في سرّها:

'يبدو أنكِ ثعلبة ماكرة...'

ثم تحدثت إليها بلطف بالغ:

"أهلًا لارا، أنا أراك آنسة جميلة ومهذبة."

انبهر وجه الصغيرة بكلمات الثناء، وارتسمت على ملامحها نظرة متباهية بغرور لطيف، فتركتها سالي تستمتع بهذا الانتصار المؤنث، ثم وجهت كلماتها إلى فؤاد:

"أهلًا فؤاد، كيف حالك؟"

كان الفتى يبدو عليه أنه أعقل وأرزن من أخته، فرد بتهذيب:

"أنا بخير، شكرًا لك."

سألته سالي بابتسامة:

"أنتما توأم؟"

"نعم."

"كم عمركما؟"

تحدثت لارا بسرعة متهوّرة:

"أربع سنين! عيد ميلادنا بعد 9 أشهر، وسيُقام لنا حفلة كبيرة، سألبس فيها فستانًا ورديًا!"

أفصحت الفتاة عن الخطة كاملة من أول لقاء بشخص غريب، ليعقّب فؤاد مصححًا كلام أخته الثرثارة:

"لارا، أختُنا نور سيكون احتفالها معنا في نفس اليوم."

صرخت لارا محتدّة:

"لا نحن نسبقها."

ردّ فؤاد بتماسك:

"نعم، ولكن الحفلة لنا نحن الثلاثــ..."

تدخلت سارة برزانة وهدوء:

"ماما أخبرتنا أن نتهذّب، حتى تُجهّز لكل منا حفلة عيد ميلاد جميلة... أليس كذلك يا يحيى؟"

لكن يحيى لم يكن في الأرجاء. نظر الجميع إلى أحد أركان الغرفة، حيث انسحب الصغير وجلس بعيدًا عنهم منشغلًا في تفكيك لعبة مسكينة.

نادته السيدة أنيسة:

"يحيى، لا تفكك اللعبة وتخربها. اتركها وتعال لترحب بالدكتورة سالي."

فقال الفتى بعناد:

"لا أريد."

رفعت أنيسة نبرتها قليلًا:

"يحيى!"

لكن الطفل لم يلتفت حتى إلى النداء، وظل مركزًا على ما بين يديه.

اقتربت أنيسة من سالي وهمست لها بابتسامة:

"هو مزاجي قليلًا وقليل الكلام، لكنه يلين بعد دقائق."

طمأنتها سالي بهدوء:

"لا مشكلة، لقد تعودت على مزاجية الأطفال."

وبعد القليل من الثرثرة اللطيفة بين سالي والأطفال والمُربّيات، قاطعتهم السيدة أنيسة بلطف:

"حسنًا يا أطفال، يكفي الآن. الدكتورة عليها أن ترتاح. تعالي معي الآن يا دكتورة، لأريك غرفتك."

***


صعدتا إلى الطابق العلوي، وأرشدتها سيدة المنزل إلى غرفتها التي تقع في نهاية الطرقة. فتحت لها الباب لتدخل إلى المكان الذي ستبيت فيه لمدة شهر، حتى تقرر إن كانت ستكمل عملها في هذا المنزل أم لا.

دخلت الغرفة التي كانت أشبه بشقة صغيرة، أنيقة ومُشرقة. ألوانها مزيج من الأبيض والأصفر يضيفان جوًّا من الحيوية والطاقة. سرير صغير بجواره مكتب مُريح عليه ما يلزمها من أدوات، ونافذة كبيرة تطل على الحديقة ونافورة الطاووس التي لفتت نظرها وأعجبتها فورًا.

بينما كانت سالي تتفحّص الغرفة بعينيها، قالت أنيسة:

"أتمنى أن تعجبك الغرفة. حاولت أن تكون مختلفة قليلًا عن السابقة، فغيّرت الأثاث وألوان الجدران لتكون عصرية ومُريحة لك. تفقديها جيدًا، وإن كان ينقصك شيء، سأوفّره لك فورًا."

كانت سالي مرتاحة مع اللطف الذي غمرتها به السيدة العجوز منذ وصولها، وشعرت بالامتنان يغمر قلبها فقالت بإخلاص:

"سيدتي، أشكرك على هذا الاستقبال اللطيف. أنا ممتنة جدًا."

أجابت أنيسة بحنو:

"على الرحب والسعة، عزيزتي. يسعدني أن تجدي معنا الراحة في هذا المنزل. خذي في عين الاعتبار: الغداء من الثالثة إلى الرابعة عصرًا، والعشاء في التاسعة مساءً. أما الفطور فليس مهمًا إلى هذا الحد نظرًا لاختلاف مواعيد الاستيقاظ."

ترددت سالي للحظة قبل أن تقول بخجل:

"هل أستطيع أن أطلب منك معروفًا؟"

"بالطبع، تفضلي."

"إن لم يكن لديك مانع... اسمحي لي ألا أنضم إلى تجمعات اليوم على الغداء أو العشاء. في الواقع، أشعر بالإرهاق الشديد، وأفضل أن أتعرف على الأطفال وأنا مرتاحة."

لم تكن سالي مهيأة نفسيًا لمقابلة شخص جديد اليوم... فماذا عن ستة عشر طفلًا وطفلة؟

تأملتها أنيسة باستغراب لحظات، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة دافئة وحنونة طمأنت الشابة:

"لا مانع لدي. خذي باقي اليوم لنفسك وارتاحي جيدًا... وغدًا لقاؤنا."

"شكرًا لك."

خرجت سيدة المنزل، تاركة خلفها سالي التي اتجهت إلى النافذة الكبيرة وفتحتها. ظهر أمامها واحد من أجمل المشاهد التي قد يراها الإنسان من غرفة نومه: نهر النيل ينساب من بعيد في صورة براقة تخطف الأنظار وتقع في القلب من أول نظرة.

تأملته سالي طويلًا، وانسابت أفكارها مع انسيابه، تتساءل في داخلها كيف ستتعامل خلال الفترة المقبلة مع ستة عشر طفلاً...

نهاية الفصل الأول.

وتستكمل القصة في الفصل القادم.

لا تنسوا الvote من فضلكم

***

أهلاً أعزائي القراء..

شكراً على صبركم.

كاتبتكم ءَالَآء..

سؤال الفصلتوقاعتكم للأحداث الجاية؟

***

اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

رواية المنزل على المدونة:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.




رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق