رواية المنزل
الفصل الثاني عشر
فضلاً، متنسوش الvote.
***
[رسالة واردة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: مجهول
ليس لدي رد خاص على سؤالك، لأنني لم أر يومًا الوحدة من منظورك الخاص، ربما لأنني أتجنبها دائماً ولا أدع لنفسي مجالاً لأفهمها، وكيف أفهمها وأرى فيها جانباً ايجابياً وأنا وعيت على الخوف منها، لا أرى الوحدة إلا وحش خفي يختبئ في ظلال الليل، ينتظر لحظة ضعف ليقتحم الحصن الذي بنيته من حولي، ليذكرني بأنني وحيد لا أصل لي ولا قرار، هكذا أراها. في الواقع لقد فكرت بعمق في رسالتك وتساءلت إن كانت لدي المقدرة التي تجعلني استخدم وحدتي في الشفاء، هل أستطيع استخدام الوحش الذي يهددني كل يوم لأفهم نفسي واتواصل معها؟ ليست لدي اجابة].
***
فتح خالد الستارة بقوة وهو يشعر بنشاط عظيم يدب في جسده الذي كان ضعيفاً منذ يومين، كان صباحاً مشرقاً لامعاً والشمس تستقبله بأشعتها الذهبية الدافئة. وقف يتأمل السماء الزرقاء الواسعة ويستنشق أول أنفاسه الصافية التي لا يعيقها المرض.
بقي على حاله لمدة طويلة، وبينما هو مستغرق في التفكير، لمح عبدالله يأتي من بعيد وبيده كيس باللون الأسود، كان الفتى ينظر حوله بريبة، وبعد تفقده المكان واطمئنانه، اتجه وراء إحدى الأشجار وانحنى ولم يستطع خالد رؤية المزيد.
بقي الفتى لمدة عشر دقائق وراء الشجرة وفجأة لمح خالد هرة صغيرة تركض والفتى يركض وراءها حتى لحقها بجوار النافورة وانحنى يلاعبها، ابتسم الرجل وهو يتابع المشهد اللطيف، ثم لمح سالي تخرج من المطبخ وتقترب من الطفل بحيرة وهي تناديه، لم يسمع خالد الكلمات القليلة التي تبادلوها، ولكنه لمح القطة تجري بذعر وعبدالله يلحقها حتى أضاعها، عاد الفتى إلى سالي وبفطرته تنبأ خالد بالأسوء فاعتدل في وقفته تلقائياً، وهو لا يصدق ما وقع الآن أمام عينيه. عبدالله دفع سالي في النافورة، فشمر خالد عن أكمامه، وركض خارج الملحق.
رمشت سالي بعينيها وقطرات الماء تتساقط من رأسها وتنزلق على رموشها وقسمات وجهها. لم تستوعب الشابة في تلك اللحظات ما الذي حدث. الأمر لم يستغرق ثانية ووجدت نفسها داخل نافورة الماء مبللة من رأسها حتى أخمص قدميها، والطاووس في منتصف النافورة تتناثر قطرات الماء من ذيله على رأسها.
حاول عقلها استيعاب الموقف الذي تعيشه الآن، ولكنها كانت تقف في كل ثانية على حقيقة أن عبدالله دفعها في النافورة. الدفعة كانت قوية جداً ولولا ستر الله لكان ظهرها مكسورًا في تلك الثانية.
رفعت كفها ببطء وحاولت مسح وجهها من الماء الذي ينزلق من رأسها، وأخيراً وضحت رؤيتها قليلاً، ورأت الفتى يقف أمامها ونظرات الحقد والغضب تتطاير من عينيه.
كان سمعها ضعيفًا، بفعل الصدمة والماء الذي تسلل إلى أذنيها، ولكنه التقط نداءات مكتومة تأتي من بعيد ولمحت فيها أسمها ينطق، ولم تمر ثوانٍ، وشعرت بأحد ما يسحبها من ذراعها بقوة ويخرجها من النافورة، وأثناء إخراجها آلمها جسدها بقوة وخاصة ظهرها، اتزنت قدميها على الأرض العشبية بمساعدة الشخص الذي سحبها. كانت حواسها مصدومة لتستوعب هوية هذا الشخص، ولكن بعد عدة ثوانٍ سمعت اسمها بوضوح، وبصوت ممزوج بقلق:
"دكتورة".
كرر محمود النداء مرتين، وتركها عندما اطمأن إلى ثباتها:
"دكتورة، هل أنت بخير؟".
نظرت إليه بذهول وهي أخيراً تستوعب الموقف بأكمله ولكنها لم تستجب للنداء، سمعت أصوات قادمة من المنزل، فنظرت لتجد السيدة ذكية تأتي من بعيد راكضة:
"حبيبتي هل أنت بخير؟".
سحبتها المرأة إلى حضنها ولم تبال بالماء الذي يغطي جسد سالي بأكمله. وأخذت تطبطب عليها بحب، وتتفوه بكلمات الشفقة التي لم تنصت إليها الشابة المذهولة.
في هذه الدقائق كان عبدالله قد أدرك فعلته الطائشة وركض بعيداً عنهم. لمحه خالد الذي كان يقف من بعيد مراقباً الموقف، لم يصل هو أولاً، بل محمود الذي دخل المنزل للتو كان هو من وصل، وسحب سالي من النافورة.
أراد اللحاق بالفتى الهارب، ولكن قدميه أبت أن تتحركان، كان يشعر بالقلق بسبب مظهر سالي المثير للشفقة، والذي جعل الغضب يتصاعد في صدره بسبب التصرف الطائش الذي صدر من عبدالله.
لم تمر عشر دقائق وكانت سالي داخل المنزل تحت أنظار الجميع الذين صدمهم مظهرها البائس وهي مبللة بالماء من رأسها حتى أخمص قدميها. ذكية تدعمها عن يمينها، ومحمود عن يسارها واقفاً وذراعيه بجواره، ولم ترفع هي بصرها عن الأرض منذ أن سحبها محمود من الماء.
كانت سالي مُحرجة لأقصى حد، وتمنت من داخل قلبها أن تنشق الأرض وتبتلعها. سمعت صوت السيدة أنيسة وهي تنزل السلالم الطويلة وتنادي عليها:
"دكتورة سالي، ما الذي حدث لك!"
اقتربت المرأة من الثلاثة، وسألتهم بحيرة:
"أخبروني، ماذا حدث!؟"
قالت ذكية بصوت مستاء:
"عبدالله دفعها في النافورة."
عند سماع اسم عبدالله، ظهر عرق غاضب في جبين السيدة أنيسة التي صرخت صرخة، مدوية تردد صداها في جميع أنحاء المنزل:
"عبدالله!"
تلك الصرخة آلمت جسد سالي المتألم أكثر وأكثر، وشعرت الشابة بالقشعريرة تسري في جسدها البارد المرتعش.
***
وراء الدفيئة جلس عبدالله على الأرض محتضناً ساقيه، ومختبئاً بعيداً عن الأنظار، كان يشعر بالغضب والاستياء، بسبب هروب صديقته الجديدة الصغيرة، قطته الذهبية ذات الفرو الناعم، وكان السبب في ذلك الدكتورة الغبية التي يكرهها من صميم قلبه، يكرهها ويكره الكبار جميعاً.
كان الفتى مغتاظاً، وأمسك حفنة من الاعشاب بقبضته ورماها بغضب، وبينما وهو يشتعل غاضباً، سمع صوتاً رخيماً هادئاً يعرفه جيداً:
"عبدالله."
التفت ليرى خالد يقف من بعيد وينظر إليه بطريقة لم يستطع عقل الفتى الصغير تفسيرها، ولكنه كان واثقاً أنه غاضب منه بالتأكيد، لم يرد عليه الفتى وأشاح بوجهه، قال خالد بصوت واضح:
"انهض وتعال معي حالاً."
لم يستجيب الفتى لكلامه وظل مشيحاً وجهه، فقال خالد ببرود:
"سأعد من واحد إلى ثلاثة، وبعدها سأتصرف دون الرجوع إلى عقلي. واحد."
سمع الفتى العدة الأولى ولم يلتفت، كان لديه من العند ما يجعله يتجاهل ولي أمره الذي أكمل العد ببرود متصاعد:
"اثنان."
اهتز جسد الفتى مع العدة الثانية وبدأ يرتبك وهو في حيرة الاختيار بين النهوض والذهاب معه والبقاء على حاله.
"ثلاثة."
لم يكن بين العدة الثالثة ونهوض الفتى المتأخر سوى لحظات، وقبل أن يتحرك جسده شعر بنفسه يطفو في الهواء ممسوكاً بقوة من ملابسه، ذهل الفتى من الغضب المتطاير من قسمات وجه خالد، وصرخ باكياً:
"أبيه!"
***
كان كل من في المنزل يبحث عن عبدالله، وكلما تأخر الوقت كلما ازادت انيسة غضباً وقلقاً في نفس الوقت على الفتى الصغير، حتى سمعوا فرح تنادي وهي تنظر تجاه الدفيئة الذي جاء من ناحيتها عبدالله يتبعه خالد:
"ماما ها هو!"
نظرت المرأة إلى الفتى بغضب وفي نفس الوقت، قلبها اطمئن لرؤيته بخير.
توجهت إليه مباشرةً وقدميها تدوسان على الأرض بقوة:
"قليل الأدب!"
كادت المرأة تمسك بياقة الفتى ولكن خالد منعها بهدوء:
"ماما اهدئي!"
"كيف اهدأ! هل علمت ما فعله مع الدكتورة سالي؟ لقد دفعها في الماء."
"أعلم لقد رأيتهم."
"هذه ليست المرة الأولى يا خالد! هذا الفتى غير المهذب دفعها من قبل على السلم."
كان عبدالله يقف وبصره مثبت على الأرض، كادت المرأة أن تصل إليه مرةً أخرى بسبب ارخاء خالد قبضته عنها، ولكنه لحقها وقال:
"اتركي هذا الأمر بيني وبينه."
نظر إليها نظرة ذات مغزى، فهدئت المرأة على الفور وهي تنظر إليه بارتباك:
"ماذا ستفعل؟"
قال بصوت عال يسمعه الجميع:
"لا حديث في الأمر بعد الآن، ولا حديث مع عبدالله حتى يفهم خطئه ويقدم الاعتذار للدكتورة."
نظر إلى الفتى ببرود وقال بصوت ثقيل:
"اسبقني على غرفتك فلدينا حديث طويل."
جرر الفتى ساقيه تجاه المنزل دون التفوه بأية كلمة، فنظرت أنيسة إلى خالد بقلق وقالت:
"لا تكن قاسياً عليه."
ابتسم خالد ابتسامة صافية فيها القليل من الاستغراب:
"اعتقدت أنك ستضربينه للتو!".
نظر إلى المنزل وسأل بفضول:
"كيف حال الدكتورة."
أجابت أنيسة بأسى:
"المسكينة في غرفتها، ذكية تساعدها على تبديل ملابسها الغارقة."
***
ساعدت ذكية سالي الهادئة، ودفعتها برفق لتأخذ حماماً دافئاً يهدئ من ارتعاش جسدها النحيف.
وقفت سالي تحت الماء لمدة ربع ساعة وعقلها فارغ تماماً إلا من صوت الماء المندفع فوق رأسها، وعندما عاد مجرى أفكارها لطبيعته، لمست ظهرها وشعرت بالألم يدوي في ظهرها وانتقل إلى كامل جسدها، فاتجهت إلى أقرب مرآة ولمحت ظهرها مكدوماً بقوة. تأملته بخمول وهي تسترجع ما حدث منذ أن رأت الفتى حتى لحظة دفعها، وتذكرت أنها تلقت صدمتها الأولى من حافة النافورة. شعرت بالألم يزداد بمرور الوقت، لامست الكدمة مرةً أخرى برفق، ولكنها تأوهت بصوت حاولت كتمه حتى لا تسمعها ذكية التي تنتظرها في الخارج.
اغتسلت كالإنسان الآلي وهي تحاول تجنب مكان الكدمة قدر المستطاع، ثم ارتدت ملابسها كاملة حتى لا ترى ذكية الكدمة التي الحقت بها.
خرجت ذكية بعد الاطمئنان عليها، وتركت سالي نائمة ولكنها في الواقع لم تكن كذلك، كانت مستيقظة تماماً وواعية تفكر في الموقف الذي تعرضت له اليوم. تصرف عبدالله لم يكن طبيعي، هذا الغضب الذي رأته في عينيه كان كفيلاً ليثبت لها أن هذا الطفل يكرهها.
تساءلت، ما الذي فعلته له حتى ترى كل هذه الكراهية؟ ولكنها لم تجد إجابة فبقاؤها هنا لم يتعد الأربع أسابيع، ولم تتسبب في أي مشكلة على وجه الخصوص قد تضايق الفتى إلى هذا الحد، سوى موقف السلم عندما دفعها، وأخبرت أنيسة بفعلته. هذا كان ذلك الموقف مبرراً لما فعله اليوم؟
وبينما وهي تفتش عن السبب في ذهنها، جاءها تنبيه على هاتفها، تحركت بسرعة دون انتباه للإصابة في ظهرها، فشعرت وكأن هناك كهرباء عبرت جسدها مما جعلها تضع يدها على فمها وهي تحاول كتم تأوهها بسبب الألم الشديد. أمسكت هاتفها وهي تتحسس مكان الألم برفق. كانت رسالة من والدها:
"سالي لا تنسي معادنا."
***
جلس عبدالله على السرير، وأمامه خالد يستند على الباب شابكاً ذراعيه، يتأمل الفتى دون أية مشاعر خاصة على وجهه، بعد لحظات من الصمت العقابي تحدث خالد بهدوء:
"هل فكرت في نتيجة فعلك قبل أن تقدم عليه؟ ما حدث للتو، دفعك للدكتورة في الماء، هل كان ذلك تصرفاً سيحل مشكلتك أياً كانت؟"
"ألهذا الحد وصلت يا عبدالله؟ أن تؤذي ضيفة في منزلك؟ هل هذا ما تعلمته بيننا؟"
لم يرد عبدالله على خالد، الذي أكمل حديثه:
"أخبرني، ما الذي دفعك لذلك؟ هل ضايقتك؟ ومع ذلك، هذا ليس مبرراً لتصرفك الجريء. لو فعلت وضايقتك، تعال وأخبرني، أو أخبر ماما، لا أن تتصرف بهمجية ورعونة."
تمتم الولد:
"أنا أكرهها".
"لماذا؟".
"لأنني أكرهها".
ارتفعت نبرة خالد قليلًا وهو يتحدث بصرامة:
"عبدالله! لست في السن الذي يسمح للتحدث مثل اخوتك الصغار، تحدث معي بوضوح، إن كانت هناك مشكلة معها، لنحلها معاً".
"لن أتحدث، ليس لدي ما أقوله لك، ولا أريد أن أراها مرةً أخرى."
كانت ردود عبدالله فظة جداً وجريئة.
اقترب منه خالد بخطر، فشعر الفتى بالرهبة وتذكر ما حدث منذ نصف ساعة، عندما سحبه الرجل القوي من ملابسه بشده كادت أن تمزقها، ولكن ما توقعه لم يحدث، لم يضربه خالد، ولكنه قال وهو يقف فوق رأسه وقسمات وجهه مظلمة:
"هنا ينتهي الحديث الودي بيننا. لا تواصل معي من اليوم إلا للضرورة، لا ألعاب، لا خروج من المنزل إلا للمدرسة، وأيضًا لا نزول إلى الحديقة، سيتم خفض مصروفك إلى الربع، ستظل طوال اليوم في غرفتك إلا في أوقات الغداء. كل هذا سينتهي بمجرد الاعتذار للدكتورة، واعتذار صادق بعد التفكير العميق في خطئك."
ضيق خالد عينيه قائلاً بصوت هادئ خطير:
"صدقني يا عبدالله، هذا أقل عقاب سأعطيه لك، وإن لم تراجع تصرفك سيزداد هذا العقاب بمرور الوقت."
ألقى خالد نصف العقاب واتجه إلى باب الغرفة، ثم التفت وكرر:
"الأمر بيدك، اعتذر وينتهي العقاب."
قالها ثم خرج من الغرفة بهدوء، تاركًا الفتى بمفرده ليبدأ عقابه المشدد.
نهاية الأمر، تم إبلاغ الجميع بالعقاب الذي فُرض على عبدالله، ونبّه خالد أن من يكسر كلامه سيُعاقب كالفتى، وهنا خرِس جميع الأطفال، حتى خرج خالد من المنزل يتبعه محمود تجاه الملحق.
***
غطّت سالي في نوم عميق حتى موعد الغداء، فأمرت أنيسة بعدم إزعاجها وتركها على راحتها. وفي المساء، نهضت عن سريرها بألم ووجدت غداءها على مكتبها، نظرت إليه والحيرة تكسو ملامحها، فلم تشعر أثناء نومها بأن أحدًا دخل غرفتها.
تناولت قدرًا ضئيلًا من الطعام، ثم ارتدت ملابسها للخروج. كانت بحاجة إلى استنشاق بعض الهواء، وتأمل الشوارع، وربما شراء بعض اللوازم من المول.
خرجت من غرفتها، وبينما هي تمشي في الطرقة، لفتت نظرها الصور المُعلّقة على الحائط، فوقفت تتأملها. وقعت عيناها على شخص واحد، على خالد. كانت نادرًا ما تراه مبتسمًا كما يبتسم في تلك الصور، مما دفعها هي أيضًا للابتسام. وعلى الرغم من أن بعض الصور يبدو أنها ليست من وقت بعيد، بالنظر إلى سنّ الأطفال فيها، فإن ابتسامته جعلت مظهره أصغر سنًّا مما يبدو عليه الآن. وبينما كانت تقف سارحة أمام الصور، شعرت بأحد يشدّ ملابسها، فنظرت إلى الأسفل لتجد سارة تنظر إليها بعينين واسعتين فضوليتين:
"إلى أين أنتِ ذاهبة؟"
قالت سالي بلطف وهي تمسح على شعرها القصير غير المرتب بسبب اللعب والعبث مع إخوتها:
"سأخرج قليلًا يا سارة، أريد شراء بعض الأشياء الضرورية."
احتضنت الطفلة ساقيها وقالت بحماس:
"سأذهب معك!"
حاولت سالي أن تتحرك قليلاً ولكن ظهرها آلمها، فقالت وهي تتحامل على نفسها:
"يجب أن تستأذني ماما أولاً، أليس كذلك؟"
سحبتها الطفلة من يدها وهي تقول:
"لنستأذنها معاً"
تبعتها سالي وهي تتحرك بصعوبة، ووجدت السيدة أنيسة في غرفة الجلوس مع جميع الأطفال والسيدة منى، صرخت سارة وهي تركض تجاه أنيسة:
"ماما!"
"مساء الخير جميعاً."
قالتها سالي وهي تنظر إلى حسن، الذي كان يحمل لارا التي تضحك بشدة. وفور رؤيته لسالي، ترك أخته وخرج من الغرفة فورًا. نظرت أنيسة إلى الفتى، ثم إلى سالي، وهي تدرك سبب عداء حسن تجاهها.
ولكن فجأة تحوّلت ملامحها إلى الشفقة:
"هل أنتِ بخير الآن؟"
"نعم، شكرًا لكِ سيدتي."
ولم تستطع قول المزيد بسبب ألم ظهرها. نظرت أنيسة إليها بشك، ثم قالت:
"هل تناولتِ غداءك؟"
"نعم، تناولت القليل."
اعتذرت أنيسة وهي تشعر بالذنب الشديد:
"أعتذر عمّا بدر من عبدالله، تأكدي أنه نال العقاب، ولن يسلم منه إلا عندما يعتذر منك."
قالت سالي ببساطة:
"لا بأس سيدتي، لا داعي للاعتذار، وأرجوكِ لا حاجة لعقابه، فأنا بخير."
لا، لم تكن بخير، لكنها لم ترغب في أن تتفاقم المشكلة أكثر.
"لا، على هذا الولد أن يتأدب، فهذه ليست المرة الأولى".
قالتها أنيسة بصرامة وصوتها يعلو على صوت الشغب الصادر من الأطفال، من الواضح أنها بالفعل غاضبة:
"لقد عاقبه خالد، وسيظل في غرفته، محرومًا من أي نشاط، حتى يقدم لك اعتذارًا يليق بما بدر منه."
لم تكن سالي تنتظر الاعتذار من الفتى الصغير. في الواقع، لم تكن شخصًا يتوقع شيئًا من أحد. كما أنها شعرت أن مزاجها لم يكن بخير مع هذا الألم الذي يسكن جسدها، ولم تجد الرد المناسب على المرأة، ففضلت عدم التعليق وعدم مط الحديث إلى حدٍ أكبر من طاقتها.
تدخلت سارة التي نفذ صبرها، وهي تدير عينيها ببراءة أثناء الحديث بين أنيسة وسالي:
"ماما هل تسمحين لي بالذهاب معها إلى المول؟"
سألت سارة هذا السؤال والتفتت معه أزواج من العيون الصغيرة الفضولية إليها، تدخل فؤاد:
"وأنا أيضاً!"
ووجدت سالي الفراخ صغيرة الحجم تلتف حولها بفضول، فقالت أنيسة:
"لا خروج الآن فالوقت متأخر يا أطفال."
"ولكن لماذا تسمحين لها يا ماما!"
"لأنها كبيرة بما يكفي لتخرج بمفردها."
"ماما أرجوك اسمحي لنا بالخروج معها."
"قلت لكم لا! هل نسيتم ما فعلتموه معها من قبل؟"
بدأ الصغار في البكاء فنظرت سالي إلى أنيسة باعتذار:
"يبدو أنني أثرت الفوضى قليلاً."
"لا، يا عزيزتي إنها دموع التماسيح، علينا ربط هؤلاء الأشقياء المدللين بما فيه الكفاية، كما أنهم سيضايقونك ويثيروا الشغب لو ذهبوا معك. صدقيني لن تستطيعي التحكم بهم كما حدث في المرة السابقة."
بالفعل، سالي قد جرّبت الأمر من قبل. وكدليلٍ مسبق، أثار الصغار الصخب في المنزل بسبب رفض أنيسة لطلبهم، بكاء هنا وإلحاح هناك، مما جعل فرح تتدخل:
"ماما ما رأيك أن نذهب جميعاً معاً؟ أحمد، رحيم، أميرة ما رأيكم؟"
قالت أميرة:
"ليس لدي وقت، علي مراجعة بعض الدروس."
قالت ليلى:
"أنا أريد الذهاب."
ثم أحمد وليان ونور، وهكذا كان معظم الأطفال متحمسين، مما جعل أنيسة تنظر إليهم بحيرة، فتدخلت سالي:
"لا بأس سيدتي، دعيهم ونحن الكبار سنراقبهم."
قالتها سالي بتهوّر وهي تسترجع أحداث اليوم الذي تشاجر فيه الأطفال مع بعضهم البعض في المول، فشعرت بالندم لأنها لم تدرس قرارها قبل التفوه به. تدخلت السيدة منى موجهةً حديثها إلى أنيسة:
"سأرافقهم، اعتني أنتِ بماريا."
وبعد تفكير عميق، اطمأنت أنيسة قليلاً ثم قالت لها:
"الأطفال في عهدتك، راقبيهم جيداً."
نظرت إلى سالي بقلق، فابتسمت سالي تطمئنها. وهكذا أعلنت أنيسة موافقتها على ذهابهم، ولكن بشروط، كان أهمها: الأدب، والهدوء، وعدم إثارة الفضائح.
وذهب الجميع متحمسين إلى غرفهم ليبدّلوا ملابسهم ويستدعوا باقي إخوتهم، ما عدا عبدالله الذي كان يجلس في غرفته معاقبًا، أما حسن، فقد رفض الذهاب معهم.
خرجوا من المنزل: سالي، ومنى تجرّ كرسي رحيم، والأطفال الخمسة الصغار، وأحمد، وفرح، ونور، وليلى، وليان. وللمصادفة، صادفوا خالد ومحمود عائدَين إلى المنزل. وقفت السيارة بجوارهم، وفُتح الزجاج بهدوء، نظر خالد إليهم بريبة:
"إلى أين أنتم ذاهبون؟"
قالت لارا بحماس:
"إلى المول!"
صاح علي:
"أبيه تعال معنا!"
***
وقف عبدالله يراقبهم من نافذة غرفته حاقدًا، فلولا تلك الطبيبة الغبية لكان معهم الآن، وليس محبوسًا في غرفته كالسجين. شعر بالحزن الشديد وهو يراهم مجتمعين وسعداء من دونه، كيف لهم أن يكونوا سعداء وهو ليس معهم؟ لم يتحدث معه أحد منذ الصباح، حتى حسن وعليّ اللذان يشاركانه الغرفة تجنباه قدر المستطاع، وهذا آلمه حقًا، وشعر بالظلم، وكأنه قد نُبذ بقسوة. تذكّر حديث خالد:
"الأمر بيدك، اعتذر وسينتهي العقاب."
كان بين نارين؛ أن يتنازل عن كرامته ويعتذر لتلك الطبيبة الغبية، أو أن يبقى في غرفته محبوسًا، معاقبًا، لا يتواصل مع أحد. شعر عبدالله بالظلم والغضب يتصاعدان داخله، تأمل سالي من النافذة وشعر بكرهٍ شديد تجاهها، فأغلق النافذة بغضب واستلقى على سريره، يفكّر في طريقة للانتقام منها.
***
تجوّلت سالي في المول الكبير بهدوء شديد. كانوا قد جاءوا جميعًا إلى المول سيرًا على الأقدام، بعد أن ركن محمود وخالد السيارة في المنزل.
تنقلت بين الأقسام وقلبها مطمئن على الأطفال الصغار بسبب وجود البالغين معهم. أمسكت قِربة لحفظ الماء الساخن، ووضعتها في سلتها. كان جسدها يؤلمها أكثر مع مرور الوقت، وشعرت أن الأمر تعدّى مجرد كدمة على ظهرها، فتنفّسها أصبح ثقيلًا وطاقتها بدأت في الانخفاض، والألم لم يعد يقتصر على ظهرها فقط، بل شمل أنحاء جسدها كلها.
ذهبت إلى الصيدلية وأحضرت بعض الأدوية التي نفذت من العيادة، وعند خروجها وجدت فرح تشرح لنور بعض المنتجات، فاتجهت سالي إليهما ورافقتهما، وبينما يتجولن سألت سالي فرح:
"فرح، هل تعلمين ما الأشياء التي يفضلها كل من عبدالله وحسن وأميرة؟"
نظرت فرح إليها بحيرة، فوضحت سالي بابتسامة خفيفة:
"أريد أن أشتري لهم هدايا صغيرة بما أنهم لم يأتوا معنا."
قالت نور:
"أميرة ستفضل كتابًا، أو أدوات دراسة."
وافقت فرح:
"نعم، أعتقد هذا أيضًا. أما حسن، فلا يوجد شيء بعينه."
ولكن بعد ثوانٍ، قالت فرح بحماس:
"البطيخ! حسن يعشق عصير البطيخ."
تساءلت سالي في سرها بيأس:
'ومن أين أشتري عصير البطيخ الآن؟'
قالت فرح وهي تفكر:
"أما عبدالله، فلا أعلم حقاً ما الذي يفضله."
"البراونيز."
قالتها نور بهدوء وأكملت:
"يحب البراونيز، سألني أنا وست ذكية من فترة أن نخبزها له، ولكن لم تأت الفرصة لذلك."
سجّلت سالي في عقلها ما قالته الفتاتان، وهكذا تجولت في المول لتشتري للأطفال هداياهم. وبينما هي تتجول، رأت خالد يحمل يحيى الذي كان يشير له على الحلوى، لكن خالد رفض أن يشتريها له وأخبره أن الحلوى التي في يده ستكفيه. كان الطفل يئن وخالد يتجاهله، حتى وقعت عينه على الطبيبة التي صادفتهم.
وقفت سالي أمامه، فتأملها قليلًا وهو يفكر. كان يريد أن يعتذر إليها في الصباح عن تصرف عبدالله، لكنه لم يجد الفرصة المناسبة لذلك. سألها:
"هل أنتِ بخير؟"
تهرّبت سالي من نظراته وقالت:
"نعم، بخير."
قالت تلك الجملة وهي تشعر بالعكس تمامًا، لم تستطع القول إنها ليست بخير، فما الفائدة من قول ذلك؟ لم تكن تملك الطاقة للتعامل مع المزيد من الأسئلة أو حتى الاعتذارات، أرادت فقط أن تكون بمفردها، أن تذهب إلى غرفتها وسريرها لتريح جسدها المتعب وتنام بعمق دون أن يوقظها أحد. قاطع خالد أفكارها وقال، وهو يشعر بالذنب:
"أعتذر عن التصرف العنيف الذي بدر من عبدالله."
أجابت سالي بهدوء، دون أن تُظهر أية مشاعر خاصة على وجهها:
"لا بأس، مستر خالد، أعتقد أنني من قمتُ باستفزازه أولًا."
أكملت وهي تتنهد بألم:
"هو في النهاية طفل يحتاج إلى الصبر."
تجاهل خالد الرد ودقق النظر في وجهها المرهق:
"متأكدة أنك بخير؟ هل تحتاجين الذهاب إلى المستشف."
نظرت إليه سالي باستغراب وهي تتساءل:
"مستشفى؟ لا، بالتأكيد."
نظر إلى السلة في يدها وسألها:
"هل أحضرتِ ما تحتاجينه؟"
نظرت سالي إلى السلة ورفعتها وهي تقول:
"هناك بعض النواقص."
"ما الذي تحتاجينه؟"
"البطيخ."
تفاجأ خالد بالكلمة، ثم أجرى حسابًا عقليًا وسألها:
"أيعقل أنه لـ..."
"لحسن."
قاطعته سالي بهدوء قبل أن ينطق اسم حسن، فابتسم:
"حسنًا، لنبحث عنه."
رافقها إلى قسم الفاكهة والخضراوات، ولحسن حظهما عثرا على البطيخ. وقف الاثنان أمامه بحيرة، نقل خالد يحيى من ذراع إلى ذراع وهو يقول:
"هل تعرفين كيف ننتقيه؟"
مال رأس سالي متأملةً جمع البطيخ أمامها، وكأنها تحاول فك لغز حسابي:
"لا، ربما نطلب المساعدة من أحد."
وقبل أن تتحرك سالي، سمعت صوتًا يأتي من خلفها:
"ماذا تفعلان؟"
التفتت سالي وأيضاً خالد إلى مصدر الصوت، ليجدا محمود ينظر إليهما باستغراب وهو يسحب فؤاد الذي يبكي، نظرت سالي إلى الطفل ثم إلى محمود وقالت:
"نشتري البطيخ، ولكننا لا نعرف كيف نختار بطيخة ناضجة."
نظر محمود بينهما، ثم سلّم فؤاد إلى خالد، ووقف أمام البطيخ وهو يعدل نظارته بإصرار قائلاً:
"هناك ما يُسمى فن اختيار البطيخ، وهذا لا يتقنه أي أحد، دعوا لي هذه المهمة."
ابتسم خالد ساخرًا وهو يقول:
"يا له من فن!"
وبالفعل، كان من اختار البطيخ هو محمود. وبعد الكثير من التجوال في المول، استطاع خالد أن يجمعهم كلهم ويعود بهم إلى المنزل سيرًا على الأقدام. ودون أية حوادث تُذكر هذه المرة.
***
في المطبخ وقف الجميع، من بينهم حسن وهو أهم شخص في هذا التجمع، مترقبين ينظر أحدهم إلى الآخر بريبة. أمسك محمود السكين وهو يبلع ريقه، ونظر إلى خالد الذي يوجه إليه ابتسامة متحدية. رفع خالد حاجبيه إلى سكرتيره يحثه على بدء عمله، ليخترق محمود البطيخة التي اختارها بالسكين الحاد ويشقّها إلى نصفين، وقبل أن يفصلها نظر إلى الجميع، كانوا متحمسين، وخاصة حسن الذي كان مهتما بالبطيخة بشكل خاص، ويترقب نتيجتها.
ضرب خالد كتف محمود قائلاً:
"هيا يا بطل، لنرَ نتيجة اختيارك."
بلع محمود ريقه للمرة الثانية، ثم فصل البطيخة تحت أزواج كثيرة من العيون المترقبة. ولم تمر لحظات حتى صدرت تنهدات الاستياء والإحباط من الجميع، فقلب البطيخة لم يكن كما تمنوا، كان باللون الأحمر الفاتح الأقرب إلى الأبيض، وهذا جعلهم يشعرون بالخذلان من اختيار محمود، الذي وقف بينهم وهو يشعر بالفشل. وكان أكثر المستائين حسن، الذي قال بملل وهو يخرج:
"ألم تجدوا غيره ليختار البطيخة بنفسه؟"
ضرب خالد كتف محمود بقوة أكثر من قبل، وهو يقول بسخرية:
"قلت فن اختيار البطيخ؟ ها؟"
قالها بسخرية ثم خرج من المطبخ، وخلفه الجميع الذين انسحبوا تاركين خلفهم عبارات الخذلان.
تابعت سالي الموقف بابتسامة، وكادت أن تفلت منها ضحكة، ولكنها فيما بعد نظرت إلى البطيخة، ثم التفتت إلى السيدة ذكية:
"ست ذكية، هل سنرميها؟ ألا نستطيع عصرها؟"
نظرت المرأة إلى البطيخة قليلاً:
"من الخسارة أن نرميها، ربما نعصرها، ولكننا سنضيف السكر بكمية أكثر."
"لا بأس، لنحاول."
***
جلس حسن فوق السطح رافعًا وجهه إلى السماء يتأملها بعمق، كانت جلوسه على السطح متأملًا السماء هو أحب شيء إليه في يومه. شعر فجأة بحركة من خلفه، فالتفت بسرعة ليجد سالي تمسك في يديها كوبين من عصير البطيخ. صُدم الفتى لثانية، ثم اكتست ملامحه بالبرود، والتفت مرة أخرى يراقب السماء دون أن يعيرها انتباهًا. جلست سالي بجواره وهي تتغلب على ألم جسدها، رفعت الكوب أمام وجهه، وظلت يدها على حالها لثوانٍ، حتى التقط الفتى الكوب منها أخيرًا.
كانا يشربان العصير بصمت، حتى قطعت سالي أخيرًا الصمت بصوتها الرقيق:
"لن أرحل."
لم يستجب الفتى لكلامها بسرعة، ولكن بعد ثوانٍ طويلة قال:
"هذا أمر لا يهمني."
"أعرف أنه لا يهمك، ولكني لم أجد شخصًا في المنزل أُعلِمه أولًا بقراري إلا أنت."
أكملت وهي تتأمل السماء:
"لا أعلم، ولكني شعرت بأنني أريدك أن تعرف أولًا."
لم يرد الفتى عليها، فابتسمت وهي تشعر بنبضة ألم في مكان إصابتها، وقالت:
"لم أُخذ هذا القرار لأنني أردت أن أُرضيك أو أُصالحك."
نظر إليها الفتى متسائلًا، فسألته:
"هل تمنّيت أن يكون كذلك؟"
لم يرد حسن عليها، وحوّل بصره إلى السماء مرةً أخرى، لتُكمل سالي:
"حسنًا، طوال الأيام الماضية أردت أن أُصالحك، هذه الحقيقة."
أكملت وهي تتأمله:
"هل تعلم أن القدر يسخر مني؟"
"كيف؟"
شعرت سالي بالراحة لسرعة استجابته، حتى ولو بكلمة واحدة:
"في البداية لم يكن لدي سبب واقعي ملموس يجبرني على الرحيل، كان قرارًا أخذته وأنا مرتاحة تمامًا، البقاء لشهر ثم الذهاب بلا عودة، ولكن الآن أصبحت مُجبرة على الرحيل دون إرادتي، وعليّ أن أخوض معركة خاصة بي لأبقى هنا."
التفت قائلًا:
"ما الذي يُجبرك على خوض تلك المعركة، وأنتِ من الأساس كنتِ تنوين الرحيل؟ استغليها وارحلي."
نظر مدققاً إلى سالي التي لم ترد على الفور، ولكنها قالت بعد تفكير:
"أتعلم يا حسن، نحن البشر ندرك بعض الحقائق مؤخراً، ربما لأننا أحيانًا لا نستطيع فهم مشاعرنا الخاصة واحتياجاتنا النفسية."
كان جسدها متصلباً من الألم مما أجبرها على السكوت قليلاً، وبعد لحظات أقرت:
"أدركت مؤخراً أنني أريد البقاء هنا، أحتاج لأن أكون معكم."
"تحتاجين؟"
تنهدت وهي تشعر بأن هناك غصة في قلبها:
"في هذا الشهر الذي عشته هنا، اختبرتُ معكم مشاعر لم أختبرها من قبل، مشاعر خاصة كان وقعها على قلبي دافئًا ومحببًا للغاية، لم أكن أعرف سرها. كنتُ حائرة وأشعر بالحذر منها، وكأنها فخ، وقد وقعت في هذا الفخ."
نظرت إليه بتصميم:
"حسن، أعلم أنني مجرد موظفة في هذا المكان، لا علاقة لي بكم، ومصيري يومًا ما هو الرحيل عنكم، وأعلم أن نسياني سيستغرق منكم فقط عدة أيام، ستنسونني جميعكم وتلتفتون إلى بعضكم البعض مرةً أخرى، ولكني حقًا لا أريد أن يكون هذا الوقت هو الآن."
أرادت أن تحتضن ساقيها وتخبئ وجهها، ولكن جسدها منعها عن ذلك، فأشاحت وجهها قليلًا وهي تُغمض عينيها لتتمالك الدموع التي تجمعت فيهما، وبعد دقائق قطع حسن الصمت قائلًا وهو يتجنب النظر إليها:
"إن أردتِ البقاء، فلتبقي."
"هناك معركة عليّ أن أخوضها أولًا، يجب أن أنتصر فيها أولًا، ثم سأعود."
أكملت وهي تتلمس ظهرها وتستنشق نفساً صعباً مدركةً أن الليلة التي ستمر عليها اليوم ستكون ليلة صعبة جداً:
"سأعود لأبقى معكم، وحتى نجد حلاً لمشكلة فرح."
عطست قبل أن تكمل حديثها، ثم تنهدت بألم. تأملها حسن ثم سألها وهو يعقد حاجبيه:
"هل أنت بخير؟"
"نعم بخير."
أمسكت العصير وبدأت تشرب منه وهي تحثه على الشرب، فقال حسن:
"أريد أن أصارحك بأمر ما، ولكن لا تستائي مني."
مالت رأسها بتساؤل، فقال:
"هذا أسوأ عصير بطيخ شربته في حياتي كلها."
ضحكت سالي برقة وهي تقول:
"ليس ذنبي، مستر محمود هو من اختار البطيخة، أنا فقط حاولت أن أصلح الأمر قليلًا."
تمتم الفتى بسخرية:
"يا ليتك لم تفعلي."
ظل الاثنان يتحدثان حتى موعد العشاء. وتحاملت سالي على نفسها حتى صعدت إلى غرفتها، وارتمى جسدها المنهك على السرير أخيرًا، ولم تشعر بالعالم بعدها، لتبدأ ليلة صعبة ومريرة عليها.
***
في المساء، بعد خلود الجميع إلى النوم، جلس خالد يقرأ كتابًا في شقته. حاول التركيز في الصفحة التي يقرأها، ولكنه فشل في ذلك. كان لديه الكثير من الأمور التي تشغل تفكيره، مثل العمل، أنيسة والأطفال، والمكتبة أيضًا. تساءل: هل هناك من لديه مثل مسؤولياته؟
لكن حدثته نفسه الصريحة سرًا:
'كاذب، ليست تلك المسؤوليات هي ما تشغل تفكيرك، بل أمر آخر.'
وجد نفسه يهز رأسه وكأنه لا يوافق على حديث نفسه، وحاول أن يتلفت منتبهاً لما يقرأه مرةً أخرى، ناحيًا تلك الأفكار في ركن بعيد من عقله، حتى سمع صوت الجرس. فتح خالد الباب ليتفاجأ بحسن يقف أمامه، سأله خالد وعلى وجهه أمارات الحيرة:
"لماذا أنت مستيقظ في مثل هذا الوقت؟"
***
فتحت سالي عينيها بصعوبة وهي تشعر بالخمول والرعشة تسري في جسدها، كانت تلك أعراض المرض التي تعرفها جيدًا. وضعت يدها على جبينها لتجد أن حرارتها مرتفعة جدًا إلى درجة أرعبتها. أمسكت هاتفها بصعوبة لتتفقد الساعة، فوجدت أنه لم يمر على نومها إلا ساعتان فقط، تخيلتهما هي ساعات طويلة. فكرت في النهوض من سريرها، لكنها كانت تؤجل تلك الفكرة كلما سرت الرعشة في جسدها. وأخيرًا، نهضت مجبرة عندما شعرت بأن معدتها ليست على ما يرام، فاتجهت إلى الحمام لتستفرغ الطعام القليل الذي تناولته على العشاء.
ثم اتجهت إلى ثلاجتها، وأحضرت الماء البارد لتملأ به القِربة، وجهزت كمادات باردة، أخذت علاجها، واستلقت مرةً أخرى في السرير. وضعت القِربة الباردة تحت ظهرها المكدوم، وبدأت تمسح جسدها الساخن بالكمادات الباردة.
وبدأت الحرارة تنخفض قليلًا، بينما دفأ جسدها وتصبب عرقًا بعد نحو نصف ساعة من تناول الدواء. وهكذا بدأت الجولة الأولى من تلك الليلة الطويلة.
استغرقت سالي أخيرًا في النوم، حتى راودتها لا تدري أحلام أم ذكريات من ماضيها الذي بدا بعيدًا جدًا في تلك اللحظة.
كانت في الحادية عشرة من عمرها. في ذلك اليوم خرجت والدتها كعادتها في السادسة صباحًا لتلحق بعملها في محافظة أخرى. استيقظت سالي وهي تشعر بالتعب، وكانت حرارتها العالية هي من دفعتها للاستيقاظ من نومها:
"ماما!"
لم تجد ردًّا، فنظرت إلى السرير المقابل حيث تنام والدتها بجوار شقيقتها الصغيرة، ولكن شقيقتها كانت بمفردها على السرير. نحبت سالي بألم وهي تبكي مدركة أن والدتها ذهبت إلى عملها:
"ماما أنا متعبة."
وضعت يدها على جبينها كما تفعل والدتها معها ومع شقيقتها عندما تمرضان. كانت طفلة صغيرة لا تُميز درجة الحرارة، ولكنها شعرت بالخوف وهي تتلمس جبينها الحار. تحسست جسدها الدافئ تحت ملابسها، فنهضت من سريرها بصعوبة، وأحضرت الماء البارد من الثلاجة وقطعة من القماش النظيف، واستلقت منهكة على السرير تمسح جسدها بالكمادات الباردة القاسية على جسدها وهي تئن:
"ماما، أنا مريضة."
وكأن والدتها ستسمعها وتركض لتداويها، فكرت في ذلك بيأس، ولكن للمفاجأة سمعت صوت والدتها وهي تقترب منها قائلة بصوتها الطيب الدافئ:
"سالي حبيبتي، أنا بجوارك."
قالت الطفلة وهي تهذي:
"ماما أنا مريضة."
"لا تقلقي يا طفلتي، أنا أعتني بك، ستكونين بخير قريباً".
على الرغم من المرض والحرارة العالية التي جعلتها تهذي، شعرت سالي بالأمان يسكن قلبها وهي مطمئنة لوجود والدتها بجوارها تمرضها وتعتني بها. هذا كان غير متوقَّع، متى عادت؟ فما زال الوقت مبكرًا على موعد خروجها من العمل.
ابتسمت سالي بألم، هذا غير مهم، المهم الآن هو أن والدتها بجوارها. فتحت عينيها المتعبتين، كان الظلام من حولها، والرؤية باهتة في عينيها. تأوَّهت متألمة:
"ماما ظهري يؤلمني."
"استديري يا سالي حتى أراه."
أدارتها والدتها وكشفت عن ظهرها المكدوم، سمعتها تقول بدهشة ممزوجة بالقلق:
"هل كنتِ تعانين طوال هذا الوقت دون أن تتحدثي؟"
شعرت بأصابع دافئة تمسح الكدمة، وأن هناك شيئًا باردًا يلامس ظهرها. ابتسمت سالي على الرغم من الألم، وفكرت مرةً أخرى:
والدتها بجوارها، لم تذهب إلى العمل اليوم وبقيت لأجلها. أغمضت عينيها بهدوء وهي تشعر بالراحة أخيرًا لأنها ليست بمفردها.
***
خرجت ذكية من الغرفة وعلامات القلق تكسو وجهها، لترى خالد يقف مستندًا إلى جدار الطرقة أمام غرفة الطبيبة. اعتدل فور رؤيتها وسألها:
"ما الأخبار؟ كيف حالتها؟"
تحدثت ذكية بحزن:
"تعاني من نزلة برد، ولكن.."
"لكن ماذا؟"
تأمل خالد ذكية، تلك المرأة الريفية الحساسة التي تحدثت بحزن وهي تمسح طرف عينيها متنهدة:
"ظهرها... يبدو أنه أُصيب عندما دفعها عبدالله في النافورة، الكدمة كبيرة جدًا."
نظر خالد إلى الساعة في يده، والتي كانت تشير إلى الرابعة فجرًا:
"لنتصل بالطبيب، أو نأخذها إلى المستشفى."
"لا أعلم، مستر خالد، ربما نطلب طبيبًا مبدئيًا، ويقرر هو إن كان من اللازم نقلها إلى المستشفى أم لا."
تنهدت المرأة:
"المسكينة كانت تضع الكمادات لنفسها."
تأمل خالد الأرض وهو يشعر بالغضب من عبدالله، الذي أوصلها إلى هذه الحالة. أخرج هاتفه من جيبه وأخذ يبحث عن طريقة يطلب بها طبيبًا يأتي في الرابعة فجرًا.
***
سمع عبدالله باب الغرفة يُفتح ويُغلق، أزاح غطائه ونظر حوله فلم يجد حسن في سريره. اطمأن الفتى أن علي نائم في سريره، ونهض هو متجهًا إلى الحمام. التقط كرسياً صغيرًا بجوار الباب ووضعه تحت نافذة الحمام، ثم صعد عليه ومد يده خارج النافذة ممسكًا بغصن شجرة أخذ يحركها تجاه غرفة سالي، التي كانت بجوار غرفتهم. وبينما هو مستغرق في هذا الفعل، شعر بأن أحدًا يسحبه من ملابسه ويدفعه تجاه الحائط. شعر الفتى بالفزع وأغلق عينيه لثوانٍ ثم فتحهما ليرى أخاه حسن يقف أمامه، وقد شدد قبضته على ملابس عبدالله قائلاً والغضب يتطاير من عينيه:
"ألا يكفيك ما فعلته بها!"
كان عبدالله مذهولًا وقال بتلعثم:
"ماذا تقصد؟"
"الدكتورة سالي، هل تعلم أن الطبيب جاء حالًا ليتفقدها بسببك؟"
دفعه حسن بقوة أكبر إلى الحائط، مما جعل عبدالله يشعر بالضغط الشديد على جسده. قال حسن من بين أسنانه:
"هل تعلم أنها تعاني من نزلة برد، وكدمات في ظهرها بسببك؟"
أكمل وهو ينظر إلى الولد بقرف، وقال:
"إلى متى ستظل هكذا؟"
سمع عبدالله صوت تمزق ملابسه، فدمعت عيناه، وأمسك بيد أخيه محاولًا إبعاده، ولكن كيف له ذلك وخصمه يمارس الجودو:
"حسن، ابتعد عني."
مرت لحظات، حتى تركه حسن وهو يدفعه قائلاً:
"لو كنت طفلاً مثلك، لأخبرت الجميع بتصرفاتك الطفولية المؤذية، ولكني لست مثلك."
تأمل حسن أخاه الصغير، الذي يبلغ من العمر ثماني سنوات، ثم قال وهو يشعر بأنه كان قاسيًا عليه:
"اذهب إلى سريرك يا عبدالله، وكفّ عن تصرفاتك الطفولية."
ذهب الفتى باكيًا بصوت خافت حتى لا يسمعه أحد، واستلقى في سريره وهو يتذكر التصرفات التي صدرت منه اليوم. كان يشعر بالظلم من كل الناس، حتى أخوه حسن كاد أن يضربه. رفس الفتى غطائه بغضب وهو يمسح عينيه، وظل يبكي حتى غلبه النوم.
***
فتحت سالي عينيها على صوت يناديها:
"آنسة سالي، هل تسمعينني؟"
شعرت بالضيق، فلم يكن صوتًا مألوفًا لها. حاولت فتح عينيها وهي تشعر بالحرارة مرةً أخرى، وتأوهت قائلة:
"من أنت؟"
سمعت صوتًا آخر مألوفًا يقول:
"دكتورة، هذا الطبيب جاء ليفحصك."
فتحت سالي عينيها أخيرًا ولكن بصعوبة، لتجد أمامها رجلًا يبدو أنه في خمسينات عمره، عرّف عن نفسه فورًا حتى لا تخاف، ثم قال:
"أنا زميل يا دكتورة، اطمئني."
تأوهت سالي، فقال بهدوء:
"اسمحي لي أن أرى ظهرك من فضلك."
"لماذا؟"
قالت ذكية مطمئنة:
"حبيبتي، الطبيب يريد فحص ظهرك، أنا بجوارك، لا تقلقي."
كان هذا صوت ذكية، وليس صوت والدتها. من بقي بجوارها طوال الليل كانت مدبرة المنزل، الست ذكية، ذات الصوت الدافئ، التي أكملت عندما لم تستجب لها سالي:
"دكتورة، نحن قلقون عليك، من فضلك اسمحي للطبيب أن يكشف عليك."
سألت سالي في سرّها:
'من هم القلقون؟'
بعد القليل من الحديث المنخفض ومحاولة شرح الموقف للشابة التي تهذي، وافقت أخيرًا على كشف ظهرها. حاول الطبيب ألا يطيل الكشف، وتفحّص ظهرها بسرعة ودقة، ثم غطاه بهدوء، وأكمل الكشف عليها متفقدًا حرارتها وضغطها. وبعد انتهائه، خرج من الغرفة ليجد خالد وأنيسة ومنى يقفون أمام الباب، فقالت أنيسة بقلق:
"كيف حالها؟"
"حمدًا لله، لا كسر، مجرد كدمة ثقيلة، تحتاج فقط إلى كمادات وعلاج، وستكون بخير."
سأله خالد:
"ألا تحتاج إلى أشعة أو أمر من هذا القبيل؟"
"لا تقلق، مستر خالد. ربما تطمئنون بالأشعة، ولكن بعد أن تستعيد عافيتها."
تنهدت أنيسة قائلة:
"الحمد لله."
قال الطبيب:
"من المهم الآن أن نعمل على خفض الحرارة. هذه الروشتة، إذا سمحتم، التزموا بما فيها. ومن الضروري أن تقوموا بإجراء بعض التحاليل لها، فأنا أراها ضعيفة جدًا."
"حسنًا."
أخذ خالد الروشتة من الطبيب متأملًا التعليمات فيها، ليتساءل: هل كانت حالتها صعبة إلى هذا الحد؟ كان قلقًا ويشعر بالغرابة من نفسه.
منذ أن جاء حسن وطرق على باب غرفته يخبره بأنه يشك أن الدكتورة سالي ليست بخير، منذ تلك اللحظة لم يكن هو نفسه. لأول مرة يختبر مثل هذا الشعور بالقلق تجاه أحد غير أمه والأطفال.
نفض تلك الأفكار عن رأسه في هذه اللحظة، وأرشد الطبيب إلى الخارج، ثم ذهب هو إلى أقرب صيدلية متاحة في مثل هذا الوقت، ليُحضِر الدواء الذي كتبه الطبيب لسالي.
***
[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟]
المرسل: سالي
قرأت رسالتك وأنا أتساءل، لماذا تنظر إلى الوحدة وكأنها وحش؟ ربما تكون صديقًا يحاول التقرب منك، يريد أن يفشي سرًا أو يكشف الغمامة عن عينيك. علمني شخص ما من قبل أن أنظر إلى مخاوفي والصور السيئة في عقلي من منظور آخر. إليك مثالًا:
هناك شارع في مدينتي كنت أمشي فيه بمفردي وأنا صغيرة في موسم الشتاء، كان مظلمًا كئيبًا ولا حركة فيه، حتى كرهته وتجنبت السير فيه فيما بعد، على الرغم من أنه الأقرب والمختصر إلى بيتي.
وذات يوم قررت أن أتحدى هذا الخوف، أغمضت عيني وسرت فيه وأنا أتخيل أنني أسير في شارع مليء بالأشجار الكثيفة، أوراقها الخضراء تتراقص مع نسيم لطيف، وزهور متنوعة الألوان تملأ الهواء بعطرها الفوّاح. شعرت بدفء الشمس يلامس وجهي، ورأيت الطيور تغني وهي تتنقل بين الأغصان. كان الطريق تحت قدمي مغطًى بسجادة من العشب الناعم، وكأنني أمشي في حديقة ساحرة. وبالفعل، نسيت للحظات كل ما حولي من ظلام، واستمتعت بكل التفاصيل التي صنعها خيالي هربًا من الواقع المظلم.
ربما فيما بعد يتحول هذا الخيال لواقع، أنا متأكدة من ذلك، فما نفكر فيه طوال الوقت سنراه بأعيننا يوماً ما، البداية دائماً من العقل. هكذا أحاول تحدي مخاوفي.
حاول، وأنا أشجعك من قلبي.
مع خالص الاحترام،
سالي]
نهاية الفصل الخامس.
وتستكمل القصة في الفصل القادم.
لا تنسوا الvote من فضلكم.
***
أهلا يا أصدقائي، اعتذار واجب عن التأخير الغير مقصود، وأتمنى يكون الفصل عجبكم، عارفة امن متابعين الرواية حالياً مش كتير، ودي حاجة ساعات بتحبطني جداً، بس بجد بشكر الناس اللي متابعاني بحب وبيستنوا الفصل بحماس، حقيقي بحس اني عايزة اخلص الرواية على طول علشان فضولكم بس الوقت الوقت الوقت مش بيسعفني، بحاول على قد ما أقدر اكتب في اوقات فراغي، علشان كدة بحب اكتب فصل طويل نسبياً يعوض فترة الانتظار عليكم، بشكركم على تفهمكم بجد.
سؤال الفصل: مين اللي بيراسل سالي؟
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
رواية المنزل:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق