السبت، 10 أغسطس 2024

رواية المنزل: الفصل الثاني عشر - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل الثاني عشر

رواية المنزل

الفصل الثاني عشر

[رسالة واردة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: مجهول

ليس لدي رد خاص على سؤالك، لأنني لم أر يومًا الوحدة من منظورك الخاص، ربما لأنني أتجنبها دائماً ولا أدع لنفسي مجالاً لأفهمها، وكيف أفهمها وأرى فيها جانباً ايجابياً وأنا وعيت على الخوف منها، لا أرى الوحدة إلا وحش خفي يختبئ في ظلال الليل، ينتظر لحظة ضعف ليقتحم الحصن الذي بنيته من حولي، ليذكرني بأنني وحيد لا أصل لي ولا قرار، هكذا أراها. في الواقع لقد فكرت بعمق في رسالتك وتساءلت إن كانت لدي المقدرة التي تجعلني استخدم وحدتي في الشفاء، هل أستطيع استخدام الوحش الذي يهددني كل يوم لأفهم نفسي واتواصل معها؟ ليست لدي اجابة].

***

فتح خالد الستارة بقوة وهو يشعر بنشاط عظيم يدب في جسده الذي كان ضعيفاً منذ يومين، كان صباحاً مشرقاً لامعاً والشمس تستقبله بأشعتها الذهبية الدافئة. وقف يتأمل السماء الزرقاء الواسعة ويستنشق أول أنفاسه الصافية التي لا يعيقها المرض، وقف على حاله لمدة طويلة. بينما هو مستغرق في التفكير، لمح عبدالله يأتي من بعيد وبيده كيس باللون الأسود، كان الفتى ينظر حوله بريبة، وبعد تفقده المكان واطمئنانه، اتجه وراء إحدى الأشجار وانحنى ولم يستطع خالد رؤية المزيد، بقي الفتى لمدة عشر دقائق وراء الشجرة وفجأة لمح خالد هرة صغيرة تركض والفتى يركض وراءها حتى لحقها بجوار النافورة وانحنى يلاعبها، ابتسم الرجل وهو يتابع المشهد اللطيف، ثم لمح سالي تخرج من المطبخ وتقترب من الطفل بحيرة وهي تناديه، لم يسمع خالد الكلمات القليلة التي تبادلوها، ولكنه لمح القطة تجري بذعر وعبدالله يلحقها حتى أضاعها، عاد الفتى إلى سالي وبفطرته تنبأ خالد بالأسوء فاعتدل في وقفته تلقائياً، وهو لا يصدق ما وقع الآن أمام عينيه. عبدالله دفع سالي في النافورة، فشمر خالد عن أكمامه، وركض خارج الملحق.

رمشت سالي بعينيها وقطرات الماء تتساقط من رأسها وتنزلق على رموشها وقسمات وجهها. لم تستوعب الشابة في تلك اللحظات ما الذي حدث. الأمر لم يستغرق ثانية ووجدت نفسها داخل نافورة الماء مبللة من رأسها حتى أخمص قدميها، والطاووس في منتصف النافورة تتناثر قطرات الماء من ذيله على رأسها، حاول عقلها استيعاب الموقف الذي تعيشه الآن، ولكنها كانت تقف في كل ثانية على حقيقة أن عبدالله دفعها في النافورة. الدفعة كانت قوية جداً ولولا ستر الله لكان ظهرها مكسورًا في تلك الثانية، رفعت كفها ببطء وحاولت مسح وجهها من الماء الذي ينزلق من رأسها، وأخيراً وضحت رؤيتها قليلاً ورأت الفتى يقف أمامها ونظرات الحقد والغضب تتطاير من عينيه، سمعها كان ضعيفاً بسبب الصدمة والماء ولكنه التقط نداءات تأتي من بعيد ولمحت فيها أسمها ينطق، ولم تمر ثوانٍ، وشعرت بأحد ما يسحبها من ذراعها بقوة ويخرجها من النافورة، وأثناء إخراجها آلمها جسدها بقوة وخاصة ظهرها، اتزنت قدميها على الأرض العشبية بمساعدة الشخص الذي سحبها. كانت حواسها مصدومة لتستوعب هوية هذا الشخص، ولكن بعد عدة ثوانٍ سمعت اسمها بوضوح وبصوت ممزوج بقلق:

"دكتورة سالي".

كرر محمود النداء مرتين، وتركها عندما اطمأن لثباتها:

"دكتورة سالي، هل أنت بخير؟".

نظرت إليه بذهول وهي أخيراً تستوعب الموقف بأكمله ولكنها لم تستجب للنداء، سمعت أصوات قادمة من المنزل، فنظرت لتجد السيدة ذكية تأتي من بعيد راكضة:

"حبيبتي هل أنت بخير؟".

سحبتها المرأة إلى حضنها ولم تبال بالماء الذي يغطي جسد سالي بأكمله، وهي تطبطب عليها بحب وتتفوه بكلمات الشفقة التي لم تنصت إليها الشابة المذهولة. في هذه الدقائق كان عبدالله قد أدرك فعلته الطائشة وركض بعيداً عنهم، لمحه خالد الذي كان يقف من بعيد مراقباً الموقف، لم يصل هو أولاً بل محمود الذي دخل المنزل للتو كان هو من وصل وسحب سالي من النافورة، مما جعله يقف في مكانه متابعاً الموقف. أراد اللحاق بالفتى الهارب، ولكن قدميه أبت أن تتحركان، كان يشعر بالقلق بسبب مظهر سالي المثير للشفقة والذي جعل الغضب يتصاعد في صدره بسبب التصرف الطائش الذي صدر من عبدالله، لم تمر عشر دقائق وكانت سالي داخل المنزل تحت أنظار الجميع الذين صدمهم مظهرها البائس وهي مبللة بالماء من رأسها حتى أخمص قدميها. ذكية تدعمها عن يمينها ومحمود عن يسارها واقفاً وذراعيه بجواره، ولم ترفع هي بصرها عن الأرض منذ أن سحبها محمود من الماء، كانت محرجة لأقصى حد، وتمنت من داخل قلبها أن تنشق الأرض وتبتلعها. سمعت صوت السيدة أنيسة وهي تنزل السلالم الطويلة وتنادي عليها:

"دكتورة سالي، ما الذي حدث لك!".

اقتربت المرأة من الثلاثة، وسألتهم بحيرة:

"ما الذي حدث!".

قالت ذكية بصوت مستاء:

"عبدالله دفعها في النافورة".

عند سماع اسم عبدالله، ظهر عرق غاضب في جبين السيدة أنيسة التي صرخت صرخة مدوية تردد صداها في جميع أنحاء المنزل:

"عبدالله!".

تلك الصرخة آلمت جسد سالي المتألم أكثر وأكثر وشعرت الشابة بالقشعريرة تسري في جسدها البارد المرتعش.

***

وراء الدفيئة جلس عبدالله على الأرض محتضناً ساقيه، ومختبئاً بعيداً عن الأنظار، كان يشعر بالغضب والاستياء، بسبب هروب صديقته الجديدة الصغيرة - قطته الذهبية ذات الفرو الناعم - وكان السبب في ذلك الدكتورة الغبية التي يكرهها من صميم قلبه، كان يكرهها ويكره الكبار جميعاً، كان الفتى مغتاظاً وأمسك حفنة من الاعشاب بقبضته ورماها بغضب، وبينما وهو يشتعل غاضباً، سمع صوتاً رخيماً هادئاً يعرفه جيداً:

"عبدالله".

التفت ليرى خالد يقف من بعيد وينظر إليه بطريقة لم يستطع عقل الفتى الصغير تفسيرها، ولكنه كان واثقاً أنه غاضب منه بالتأكيد، لم يرد عليه الفتى وأشاح بوجهه:

"انهض وتعال معي حالاً".

لم يستجيب الفتى لكلامه وظل مشيحاً وجهه، فقال خالد ببرود:

"سأعد من واحد إلى ثلاثة، وبعدها سأتصرف دون الرجوع إلى عقلي. واحد".

سمع الفتى العدة الأولى ولم يلتفت، كان لديه من العند ما يجعله يتجاهل ولي أمره الذي أكمل العد ببرود متصاعد:

"اثنان".

اهتز جسد الفتى مع العدة الثانية وبدأ يرتبك وهو في حيرة الاختيار بين النهوض والذهاب معه والبقاء على حاله.

"ثلاثة".

لم يكن بين العدة الثالثة ونهوض الفتى المتأخر سوى لحظات، وقبل أن يتحرك جسده شعر بنفسه يطفو في الهواء ممسوكاً بقوة من ملابسه، ذهل الفتى من الغضب المتطاير من قسمات وجه خالد، وصرخ باكياً:

"أبيه!".

***

كان كل من في المنزل يبحث عن عبدالله، وكلما تأخر الوقت كلما ازادت انيسة غضباً وقلقاً في نفس الوقت على الفتى الصغير، حتى سمعوا فرح تنادي وهي تنظر تجاه الدفيئة الذي جاء من ناحيتها عبدالله يتبعه خالد:

"ماما ها هو!".

نظرت المرأة إلى الفتى بغضب وقلبها يطمئن لرؤيته بخير، توجهت إليه مباشرةً وقدميها تدوسان على الأرض بقوة:

"قليل الأدب!".

كادت المرأة تمسك بياقة الفتى ولكن خالد منعها بهدوء:

"ماما اهدئي!".

"كيف اهدأ! هل علمت ما فعله مع الدكتورة سالي؟ لقد دفعها في الماء".

"أعلم لقد رأيتهم".

"هذه ليست المرة الأولى يا خالد! هذا الفتى غير المهذب دفعها من قبل على السلم".

كان عبدالله يقف وبصره مثبت على الأرض، كادت المرأة أن تصل إليه مرةً أخرى بسبب ارخاء خالد قبضته عنها، ولكنه لحقها وقال:

"اتركي هذا الأمر بيني وبينه".

نظر إليها نظرة ذات مغزى فهدئت المرأة على الفور وهي تنظر إليه بارتباك:

"ماذا ستفعل؟".

قال بصوت عال يسمعه الجميع:

"لا حديث في الأمر بعد الآن، ولا حديث مع عبدالله حتى يفهم خطئه ويقدم الاعتذار للدكتورة".

نظر إلى الفتى ببرود وقال بصوت ثقيل:

"اسبقني على غرفتك فلدينا حديث طويل".

جرر الفتى ساقيه تجاه المنزل دون التفوه بأية كلمة، فنظرت أنيسة إلى خالد بقلق وقالت:

"لا تكن قاسياً عليه".

ابتسم خالد ابتسامة صافية فيها القليل من الاستغراب:

"اعتقدت أنك ستضربينه للتو!".

***

ساعدت ذكية سالي الهادئة في خلع ملابسها، ودفعتها برفق لتأخذ حماماً دافئاً يهدئ من ارتعاش جسدها النحيف. وقفت سالي تحت الماء لمدة ربع ساعة وعقلها فارغ تماماً إلا من صوت الماء المندفع فوق رأسها، وعندما عاد مجرى أفكارها لطبيعته، لمست ظهرها وشعرت بالألم يدوي في ظهرها وانتقل إلى كامل جسدها، فاتجهت إلى أقرب مرآة ولمحت ظهرها مكدوماً بقوة، تأملته بخمول وهي تسترجع ما حدث منذ أن رأت الفتى حتى لحظة دفعها، وتذكرت أنها تلقت صدمتها الأولى من حافة النافورة، شعرت بالألم يزداد الآن، لامست الكدمة مرةً أخرى برفق ولكنها تأوهت بصوت حاولت كتمه حتى لا تسمعها ذكية التي تنتظرها في الغرفة، اغتسلت كالإنسان الآلي وهي تحاول تجنب مكان الكدمة قدر المستطاع، ثم ارتدت ملابسها كاملة حتى لا ترى ذكية الكدمة التي الحقت بها.

خرجت ذكية بعد الاطمئنان عليها، وتركت سالي نائمة ولكنها في الواقع لم تكن كذلك، كانت مستيقظة تماماً وواعية تفكر في الموقف الذي تعرضت له اليوم، كان تصرف عبدالله غير طبيعي، هذا الغضب الذي رأته في عينيه كان كفيلاً ليثبت لها أن هذا الطفل يكرهها. تساءلت، ما الذي فعلته له حتى ترى كل هذه الكراهية، ولكنها لم تجد إجابة فبقائها هنا لا يتعد الأربع أسابيع، ولم تفعل أي شيء على وجه الخصوص يضايق الفتى في تلك المدة، لماذا إذاً هذه العداوة الغير مبرر لها. وبينما وهي تبحث عن السبب، جاءها تنبيه على هاتفها، تحركت بسرعة دون انتباه للإصابة في ظهرها، فشعرت وكأن هناك كهرباء عبرت جسدها مما جعلها تضع يدها على فمها وهي تحاول كتم تأوهها بسبب الألم الشديد. أمسكت هاتفها وهي تتحسس مكان الألم برفق، كانت رسالة من والدها:

"سالي لا تنسي معادنا".

***

جلس عبدالله على السرير وأمامه خالد يستند على الباب شابكاً ذراعيه يتأمل الفتى دون أية مشاعر خاصة على وجهه، بعد لحظات من الصمت العقابي تحدث خالد بهدوء:

"هل فكرت في نتيجة فعلك قبل أن تقدم عليه، دفعك للدكتورة في الماء هل كان ذلك تصرفاً سيحل مشكلتك أياً كانت؟".

لم يرد عبدالله على خالد الذي أكمل حديثه:

"أخبرني ما الذي دفعك لذلك، هل ضايقتك؟ إن لم يكن هذا مبرراً لتصرفك".

"أنا أكرهها".

"لماذا؟".

"لأنني أكرهها".

قال خالد بصرامة:

"عبدالله، لست في السن الذي يسمح للتحدث مثل اخوتك الصغار، تحدث معي بوضوح، إن كان هناك مشكلة لنحلها معاً".

"لن أتحدث، ليس لدي ما اقوله لك".

كانت ردود عبدالله فظة جداً وجريئة، فكر خالد لو كان في مثل السن الذي تم فيه كفالة حسن لكان تصرفه مع عبدالله قاسياً وعنيفاً كما كان مع حسن، لحسن حظ هذا الطفل أنه أكبر الآن وأكثر حكمة. اقترب خالد بخطر من عبدالله، فشعر الفتى بالرهبة وتذكر ما حدث منذ نصف ساعة، عندما سحبه خالد من ملابسه بشده، ولكن ما توقعه لم يحدث، لم يضربه خالد ولكنه قال وهو يقف فوق رأسه وقسمات وجهه مظلمة:

"هنا ينتهي الحديث الودي بيننا، لا تواصل معي من اليوم إلا للضرورة، لا ألعاب، لا خروج من المنزل إلا للمدرسة، وايضاً لا نزول إلى الحديقة، سيتم خفض مصروفك إلى الربع، ستظل طوال اليوم في غرفتك إلا في أوقات الغداء. كل هذا سينتهي بمجرد الاعتذار للدكتور، واعتذار صادق بعد التفكير العميق في خطئك، صدقني يا عبدالله هذا أقل عقاب سأعطيه لك، وإن لم تراجع تصرفك سيزداد هذا العقاب بمرور الوقت".

القى خالد نص العقاب واتجه إلى باب الغرفة، ثم التفت وكرر:

"الأمر بيدك، اعتذر وينتهي العقاب".

 قالها ثم خرج من الغرفة بهدوء تاركًا الفتى بمفرده ليبدأ عقابه المشدد.

نهاية الأمر تم إبلاغ الجميع بالعقاب الذي فُرض على عبدالله، ونبه خالد أن من يكسر كلامه سيعاقب كالفتي، وهنا خرص جميع الأطفال، حتى خرج خالد من المنزل يتبعه محمود تجاه الملحق.

***

غطت سالي في نوم عميق حتى موعد الغداء، فأمرت أنيسة بعدم إزعاجها وتركها على راحتها. وفي المساء نهضت عن سريرها بألم ووجدت غدائها على مكتبها، نظرت إليه بحيرة، فلم تشعر اثناء نومها بأن أحداً دخل غرفتها. تناولت كمية قليلة جداً من الطعام، ثم ارتدت ملابس للخروج، أرادت شراء بعض اللوازم التي تحتاجها بشدة في هذا الوقت.

خرجت من غرفتها، وبينما وهي تمشي في الطرقة، لفتت نظرها الصور المعلقة على الحائط فوقفت تتأملها، وقعت عينيها فيها على شخص واحد - على خالد - كانت نادراً ما تراه مبتسماً كما يبتسم في تلك الصور مما دفعها هي أيضاً للابتسام. وعلى الرغم من أن بعض الصور يبدو عليها أنها ليست من وقت بعيد بالنظر إلى سن الأطفال فيها ولكن ابتسامته جعلت مظهره أصغر سناً مما يبدو عليه الآن. وبينما وهي تقف سارحة أمام الصور شعرت بأحد يشد ملابسها، فنظرت للأسفل لتجد سارة تنظر إليها بعينين واسعتين فضوليتين:

"إلى أين أنتِ ذاهبة".

قالت سالي بلطف وهي تمسح على شعرها القصير الغير مرتب بسبب اللعب والعبث مع اخوتها:

"سأخرج قليلاً يا سارة، أريد شراء بعض الأشياء الضرورية".

احتضنت الطفلة ساقيها وقالت بحماس:

"سأذهب معك!".

حاولت سالي أن تتحرك قليلاً ولكن ظهرها آلمها، فقالت وهي تتحامل على نفسها:

"يجب أن تستأذني ماما أولاً، أليس كذلك؟".

سحبتها الطفلة من يدها وهي تقول:

"لنستأذنها معاً".

تبعتها سالي وهي تتحرك بصعوبة، ووجدت السيدة أنيسة في غرفة الجلوس مع جميع الأطفال والسيدة منى، صرخت سارة وهي تركض تجاه أنيسة:

"ماما!".

"مساء الخير جميعاً".

قالتها سالي وهي تنظر إلى حسن الذي كان يحمل لارا التي تضحك بشدة، وفور رؤيته لسالي ترك اخته وخرج من الغرفة فوراً، نظرت أنيسة إلى الفتى باستغراب، ثم إلى سالي وفهمت الموقف. سألتها المرأة العجوز:

"هل أنت بخير؟".

"نعم".

ولم تستطع قول المزيد بسبب ألم ظهرها، نظرت المرأة إليها بشك ثم قالت:

"هل تناولتِ غداءك؟".

"نعم".

نظرت المرأة إليها باعتذار وهي تشعر بالذنب:

"أعتذر عما بدر من عبدالله، تأكدي أنه نال العقاب، ولن يسلم منه إلا عندما يعتذر منك".

قالت سالي ببساطة:

"لا بأس سيدتي، أخبريه أنني لست متضايقة منه، ولا حاجة للعقاب".

"لا يا دكتورة، على هذا الفتى أن يتأدب، فتلك لم تكن المرة الأولى".

قالتها أنيسة بصرامة وصوتها يعلو على صوت الشغب الصادر من الأطفال، كانت المرأة بالفعل غاضبة:

"خالد عاقبه، وسيظل في غرفته ممنوعاً من أي نشاط إلا عندما يعتذر إليك".

لم تكن سالي تنتظر الاعتذار من الفتى الصغير، في الواقع لم تكن شخصاً يتوقع شيئاً من أحد، كما أنها شعرت أن مزاجها لم يكن بخير مع هذا الألم الذي يسكن جسدها، ولم تجد الرد المناسب على المرأة ففضلت وعدم التعليق ومط الحديث إلى حد أكبر من طاقتها. تدخلت سارة التي نفذ صبرها وهي تدير عينيها ببراءة أثناء الحديث بين أنيسة وسالي:

"ماما هل تسمحين لي بالذهاب معها لشراء بعض الأشياء؟".

سألت سارة هذا السؤال والتفتت معه أزواج من العيون الصغيرة الفضولية إليها، تدخل فؤاد:

"وأنا أيضاً!".

ووجدت سالي الفراخ صغيرة الحجم تلتف حولها بفضول، فقالت أنيسة:

"لا خروج الآن فالوقت متأخر يا أطفال".

"ولكن لماذا تسمحين لها يا ماما!".

"لأنها كبيرة بما يكفي لتخرج بمفردها".

"ماما أرجوك اسمحي لنا بالخروج معها".

"قلت لكم لا! هل نسيتم ما فعلتموه معها من قبل؟".

بدأ الصغار في البكاء فنظرت سالي إلى أنيسة باعتذار:

"يبدو أنني أثرت الفوضى قليلاً".

"لا يا عزيزتي إنها دموع التماسيح، هؤلاء الأشقياء المدللين علينا ربطهم، كما أنهم سيضايقونك ويثيروا الشغب لو ذهبوا معك. صدقيني لن تستطيعي التحكم بهم".

ولما لا تصدق سالي فقد جربت الأمر من قبل. وكدليل مسبق أثار الصغار الصخب بالفعل في المنزل بسبب رفض أنيسة لطلبهم، بكاء هنا وإلحاح هناك، مما جعل فرح تتدخل:

"ماما ما رأيك أن نذهب جميعاً معاً؟ أحمد، رحيم، أميرة ما رأيكم؟".

قالت أميرة:

"ليس لدي وقت، علي مراجعة بعض الدروس".

قالت ليلى:

"أنا أريد الذهاب".

ثم أحمد وليان ونور، وهكذا كان معظم الأطفال متحمسين، مما جعل أنيسة تنظر إليهم بحيرة، فتدخلت سالي:

"لا بأس سيدتي، دعيهم ونحن الكبار سنراقبهم".

قالتها سالي بتهور وهي تسترجع احداث اليوم الذي تشاجر فيه الأطفال مع بعضهم البعض في المول، فشعرت بالندم لأنها لم تدرس قرارها الآن جيداً. تدخلت السيد منى موجهةً حديثها إلى أنيسة:

"سأرافقهم، اعتني أنت بماريا".

وبعد تفكير اطمأنت أنيسة قليلاً ثم قالت لها:

"الأطفال في عهدتك، راقبيهم جيداً".

نظرت إلي سالي بقلق، فابتسمت سالي تطمئنها، وهكذا اعلنت أنيسة موافقتها لهم بالذهاب ولكن بشروط كان أهمها الأدب والهدوء وعدم إثارة الفضائح، وذهب الجميع متحمسين إلى غرفهم ليبدلوا ملابسهم، وليستدعوا باقي اخوتهم إلا عبدالله الذي يجلس في غرفته معاقباً، أما حسن فرض الذهاب معهم.

خرجوا من المنزل، سالي، ومنى تجر كرسي رحيم، والأطفال الخمسة الصغار، وأحمد، وفرح، ونور، وليلى، وليان، وللمفاجأة صادفوا خالد ومحمود عائدان إلى المنزل، وقفت السيارة بجوارهم وفُتح الزجاج بهدوء، نظر خالد إليهم بريبة:

"إلى أين أنتم ذاهبون؟".

قالت لارا بحماس:

"إلى المول!".

صاح علي:

"أبيه تعال معنا!".

***

وقف عبدالله يراقبهم من نافذة غرفته حاقدًا، فلولا تلك الطبيبة الغبية لكان معهم الآن وليس محبوساً في غرفته كالسجين، شعر بالحزن الشديد وهو يراهم مجتمعين وسعداء من غيره، كيف لهم أن يكونوا سعداء وهو ليس معهم. لم يتحدث معه أحد منذ الصباح، حتى حسن وعليّ الذين يشاركونه الغرفة تجنبوه قدر المستطاع، هذا آلمه حقاً وشعر بالظلم وأنه تم نبذه بقسوة. تذكر حديث خالد:

"الأمر بيدك، اعتذر وسينتهي العقاب".

كان بين نارين، أن يتنازل عن كرامته ويعتذر لتلك الطبيبة الغبية، أو البقاء في غرفته محبوسًا معاقباً لا يتواصل مع أحد. شعر عبدالله بالظلم والغضب يتصاعدان داخله، تأمل سالي من النافذة وشعر بالكره الشديد تجاهها فأغلق نافذته بغضب واستلقى على سريره يفكر في طريقة للانتقام منها

***

تجولت سالي في المول الكبير بهدوء شديد، كانوا قد جاءوا جميعاً إلى المول سيراً على الأقدام، بعد أن ركن خالد سيارته في المنزل. تنقلت بين الأقسام وقلبها مطمئناً على الأطفال الصغار بسبب وجود البالغين معهم. أمسكت قربة لحفظ الماء الساخن، ووضعتها في سلتها. كان جسدها يؤلمها أكثر بمرور الوقت، وشعرت أن الأمر تعدى الكدمة على ظهرها، فتنفسها أصبح ثقيلاً وطاقتها بدأت في الانخفاض، والألآم لم تقتصر على ظهرها فقط بل شملت كل انحاء جسدها. ذهبت إلى الصيدلية وأحضرت بعض الأدوية التي نفذت من العيادة، وعند خروجها وجدت فرح تشرح لنور بعض المنتجات، فاتجهت سالي إليهم ورافقتهم، وبينما وهم يتجولون سألت سالي فرح:

"فرح هل تعلمين ما الأشياء التي يفضلها كل من عبدالله وحسن وأميرة؟".

نظرت فرح إليها بحيرة، فوضحت سالي بابتسامة خفيفة:

"أريد أن أشتري لهم هدايا صغيرة بما أنهم لم يأتوا معنا".

قالت نور:

"أميرة ستفضل كتاب، أو أدوات الدراسة".

وافقت فرح:

"نعم أعتقد هذا أيضاً، أما حسن فلا يوجد شيء بعينه".

ولكن بعد ثوان قالت فرح بحماس:

"البطيخ! حسن يعشق عصير البطيخ".

تساءلت سالي في سرها بيأس:

'ومن أين أشتري عصير البطيخ الآن؟'.

قالت فرح وهي تفكر:

"أما عبدالله فلا أعلم حقاً ما الذي يفضله".

"البراونيز".

قالتها نور بهدوء وأكملت:

"يحب البراونيز، سألني أنا وست ذكية من فترة أن نخبزها له، ولكن لم تأت الفرصة لذلك".

سجلت سالي في عقلها ما قالته الفتيات، وهكذا تجولت في المول لتشتري للأطفال هداياهم، وبينما وهي تتجول رأت خالد يحمل يحيى الذي يشير له على الحلوى، لكن خالد رفض أن يشتريها له وأخبره أن الحلوى في يده ستكفيه، كان الطفل يأن وخالد يتجاهله، حتى وقعت عينيه على الطبيبة التي صادفتهم.

وقفت سالي أمامه، فتأملها قليلاً وهو يفكر، أراد أن يعتذر إليها في الصباح عن تصرف عبدالله ولكنه لم يجد الفرصة المناسبة لذلك. سألها:

"هل أنتِ بخير؟".

تهربت سالي من نظراته وقالت:

"نعم بخير".

قالت تلك الجملة وهي تشعر بالعكس تماماً، لم تستطع القول إنها ليست بخير، ما الفائدة من قولها ذلك؟ لم يكن لديها الطاقة للتعامل مع المزيد من الاسئلة أو حتى الاعتذارات، أرادت فقط أن تكون بمفردها وأن تذهب إلى غرفتها وسريرها لتريح جسدها المتعب وتنام بعمق دون أن يوقظها أحد. قاطع خالد أفكارها وقال وهو يشعر بالذنب:

"أعتذر عن التصرف العنيف الذي بدر عبدالله".

أجابت سالي بهدوء دون أن تظهر أية مشاعر خاصة على وجهها:

"لا بأس مستر خالد، أعتقد أنني من قام باستفزازه أولاً".

أكملت وهي تتنهد بألم:

"هو في النهاية طفل يحتاج إلى الصبر".

تجاهل خالد الرد ودقق النظر إلى وجهها المرهق:

"متأكدة أنك بخير؟ هل تحتاجين الذهاب إلى المستشفى؟".

نظرت إليه سالي باستغراب وهي تتساءل:

"مستشفى؟ لا بالتأكيد".

نظر إلى السلة في يدها وسألها:

"هل أحضرتِ ما تحتاجينه؟".

نظرت سالي إلى السلة في يدها ورفعتها وهي تقول:

"هناك بعض النواقص".

"ما الذي تحتاجينه".

"البطيخ".

تفاجأ خالد بالكلمة، ثم أجرى حساباً عقلياً وسألها:

"أيعقل أنه لـ".

"لحسن".

قاطعته سالي بهدوء قبل أن ينطق أسم حسن، فابتسم:

"حسناً لنبحث عنه".

رافقها إلى قسم الفاكهة والخضراوات، وعثرا على البطيخ أخيراً. وقف الأثنان أمامه بحيرة، نقل خالد يحيى من ذراع إلى ذراع وهو يقول:

"هل تعرفين كيف ننتقيه؟".

مال رأس سالي متأملة جمع البطيخ أمامها، وكأنها تحاول فك لغز حسابي:

"لا، ربما نطلب المساعدة من أحد".

وقبل أن تتحرك سالي سمعت صوت يأتي من خلفها:

"ماذا تفعلان؟".

التفتت سالي وخالد إلى مصدر الصوت ليجدا محمود ينظر إليهم باستغراب وهو يسحب فؤاد الذي يبكي، نظرت سالي إلى الطفل ثم إلى محمود وقالت:

"نشتري البطيخ ولكننا لا نعرف كيف ننتقيه".

نظر محمود بينهم ثم سلم فؤاد إلى خالد، ووقف أمام البطيخ وهو يعدل نظارته بإصرار قائلاً:

"هناك ما يسمى فن اختيار البطيخ، وهذا لا يتقنه أي أحد، دعوا لي هذه المهمة".

ابتسم خالد ساخراً وهو يقول:

"يا له من فن!".

وبالفعل كان من اختار البطيخ هو محمود، وبعد الكثير من التجوال في المول، استطاع خالد ان يجمعهم كلهم ويأخذهم إلى المنزل سيراً على الأقدام.

***

في المطبخ وقف الجميع من بينهم حسن وهو أهم شخص في هذا التجمع مترقبين ينظر أحدهم إلى الآخر بريبة، أمسك محمود السكين وهو يبلع ريقه ونظر إلى خالد الذي يوجه إليه ابتسامة متحدية، رفع خالد حاجبيه إلى سكرتيره يحثه على بدأ عمله، ليخترق محمود البطيخة التي اختارها بنفسه بالسكين الحاد ويشقها إلى نصفين، وقبل أن يفصلها نظر إلى الجميع، كانوا متحمسين وخاصة حسن الذي كان مهتماً بالبطيخة بشكل خاص ويترقب نتيجتها، ضرب خالد كتف محمود قائلا:

"هيا يا بطل لنرى نتيجة اختيارك".

بلع محمود ريقه للمرة الثانية ثم فصل البطيخة تحت أزواج كثيرة من العيون المترقبة، ولم تمر لحظات وكانت تنهدات الاستياء والإحباط صادرة من الجميع، فقلب البطيخة لم يكن كما توقعوا، كان باللون الأحمر الفاتح الأقرب إلى الأبيض وهذا جعل الجميع يصابون بالخذلان من اختيار محمود الذي وقف بينهم وهو يشعر بالفشل. كان أكثر المستائين حسن الذي قال بملل وهو يخرج:

"ألم تجدوا غيره ليختار البطيخة بنفسه؟".

ضرب خالد كتف محمود بقوة أكثر من قبل وهو يقول بسخريه:

"قلت فن اختيار البطيخ؟ ها؟".

قالها بسخرية ثم خرج من المطبخ والجميع انسلوا من حوله يتمتمون عبارات الخذلان منه، تابعت سالي الموقف بابتسامة وكادت أن تفلت منها ضحكة، ولكنها فيما بعد نظرت إلى البطيخة ثم التفتت إلى السيدة ذكية:

"ست ذكية هل سنرميها، ألا نستطيع عصرها؟".

نظرت المرأة إلى البطيخة قليلاً:

"من الخسارة أن نرميها، ربما نستطيع عصرها ولكننا سنضيف السكر بكمية أكثر".

"لا بأس لنحاول".

***

جلس حسن فوق السطح رافعاً وجهه إلى السماء يتأملها بعمق، كانت جلوسه على السطح متأملاً السماء هو أحب شيء إليه في يومه. شعر فجأة بأحد يتحرك خلفه، التفتت بسرعة ليجد سالي تمسك في يديها كوبين من عصير البطيخ، صدم الفتى لثانية ثم اكتست ملامحه بالبرود والتفتت مرة اخرى يراقب السماء دون أن يعيرها انتباه، جلست سالي بجواره وهي تتغلب على ألم جسدها وحرصت على أن يفصلها عنه بضع سنتيمترات، رفعت الكوب أمام وجهه وظلت يدها على حالها لثوان، حتى التقط الفتى الكوب منها أخيراً، كان الصمت هو سيد الموقف وهما يشربان العصير بهدوء دون أن يوجه أحدهما حديث للآخر. قطعت سالي أخيراً الصمت بصوتها الرقيق:

"لن أرحل".

لم يستجيب الفتى لكلامها بسرعة وبعد ثوان طويلة من الصمت قال:

"هذا أمر لا يهمني".

"أعرف أنه لا يهمك، ولكني لم أجد شخص في المنزل أعلمه أولاً بقراري إلا أنت".

أكملت وهي تتأمل السماء:

"لا أعلم ولكني شعرت بأنني أريد أن أعلمك أنت اولاً".

لم يرد الفتى عليها، فابتسمت بألم وهي تقول:

"لم أخذ هذا القرار لأنني أردت أن اراضيك أو أصالحك".

نظر إليها الفتى متسائلاً، فابتسمت وهي تسأله:

"هل تمنيت أن يكون كذلك؟".

لم يرد حسن عليها وحول بصره إلى السماء مرةً أخرى، لتكمل سالي:

"حسناً أردت أن أصالحك ولكن هذا ليس السبب الرئيسي، هل تعلم أن القدر يسخر مني؟"

"كيف؟"

شعرت سالي بالفرح لمجرد أنه استجاب أخيراً حتى ولو بكلمة واحدة:

"في البداية لم يكن لدي سبب واقعي ملموس يجبرني على الرحيل، كان قرار اخذته وأنا مرتاحة تماماً، البقاء لشهر ثم الذهاب بلا عودة، ولكن الآن أنا مجبرة على الرحيل وعلي أن أخوض معركة خاصة بي لأبقى هنا".

التفت الفتى قائلاً:

"ما الذي يجبرك على خوض تلك المعركة الآن وأنت من الأساس كنت تنوين الرحيل؟ استغليها وارحلي".

نظر الفتى إلى سالي التي لم ترد على الفور، ولكنها قالت بعد تفكير:

"هناك أشياء ندركها متأخرين قليلاً ربما لأننا أحياناً لا نستطيع فهم مشاعرنا الخاصة واحتياجاتنا".

كان جسدها متصلباً من الألم مما أجبرها على السكوت قليلاً، وبعد لحظات أقرت:

"وأنا أدركت أخيراً أنني أريد البقاء هنا، أحتاج لأن أكون معكم".

"تحتاجين؟".

تنهدت وهي تشعر بأن هناك غصة في قلبها:

"في هذا الشهر الذي عشته هنا خضت معكم مشاعر لم أخضها من قبل، مشاعر خاصة كان وقعها على قلبي دافئاً ومحبباً للغاية، لم أكن أعرف سرها. كنت حائرة وأشعر بالحذر منها وكأنها فخ، وأنا وقعت في هذا الفخ".

نظرت إليه بتصميم:

"حسن، أعلم أنني مجرد موظفة في هذا المكان، لا علاقة لي بكم ومصيري يوماً ما هو الرحيل عنكم، وأعلمه أنه سيستغرق منكم أمر نسياني عدة أيام، ستنسونني جميعكم وتلتفتون إلى بعضكم البعض مرةً أخرى، ولكني حقاً لا أريد أن يكون هذا الوقت هو الآن".

أرادت أن تحتضن ساقيها وتخبئ وجهها ولكن جسدها منعها عن ذلك، فأشاحت وجهها قليلاً وهي تغمض عينيها لتتمالك الدموع التي تجمعت فيهما، وبعد دقائق قطع حسن الصمت قائلاً وهو يتجنب النظر إليها:

"إن أدرتي البقاء فلتبقي".

"هناك معركة علي أن أخوضها أولاً، يجب أن انتصر فيها أولاً ثم سأعود".

أكملت وهي تتلمس ظهرها وتستنشق نفساً صعباً مدركةً أن الليلة التي ستمر عليها اليوم ستكون ليلة صعبة جداً:

"سأعود لأبقى معكم، وحتى نجد حلاً لمشكلة فرح".

عطست قبل أن تكمل حديثها، ثم تنهدت بألم. تأملها حسن ثم سألها وهو يعقد حاجبيه:

"هل أنت بخير؟".

"نعم بخير".

أمسكت العصير وبدأت تشرب منه وهي تحثه على الشرب، فقال حسن:

"أريد أن أصارحك بأمر ما ولكن لا تحزني مني".

مال رأسها بتساؤل فقال:

"هذا أسوء عصير بطيخ شربته في حياتي كلها".

ضحكت سالي برقة وهي تقول:

"ولكن هذا ليس ذنبي، مستر محمود هو من اختار البطيخة، أنا فقط حاولت أن أصلح الأمر قليلاً".

تمتم الفتى بسخرية:

"يا ليتك لم تفعلي".

ظل الأثنان يتحدثان حتى موعد العشاء. وتحاملت سالي على نفسها حتى صعدت إلى غرفتها وارتمى جسدها المنهك على السرير أخيراً ولم تشعر بالعالم بعدها، لتبدأ ليلة صعبة ومريرة عليها.

***

في المساء بعد خلود الجميع إلى نومهم، جلس خالد يقرأ كتاباً في شقته، حاول التركيز في الصفحة التي يقرأها، ولكنه فشل في ذلك، فهناك الكثير من الأمور التي تشغل تفكيره، حاول أن يصارح نفسه بأسباب انشغاله، وأقر أن المكتبة هي السبب. حدثته نفسه سراً:

'كاذب، ليست المكتبة'.

وجد نفسه يهز رأسه وكأنه لا يوافق على حديث نفسه، وحاول أن يتلفت ويركز فيما يقرأه مرةً أخرى، ناحياً تلك الأفكار في ركن بعيد من عقله، حتى سمع صوت الجرس، فتح خالد الباب ليتفاجأ بحسن يقف أمامه، سأله خالد بحيرة:

"لماذا أنت مستيقظ في مثل هذا الوقت؟".

***


فتحت سالي عينيها بصعوبة وهي تشعر بالخمول والرعشة تسري في جسدها، كانت تلك أعراض المرض التي تعرفها جيداً، وضعت يدها على جبينها لتجد أن حرارتها مرتفعة جداً إلى درجة أرعبتها، أمسكت هاتفها بصعوبة لتتفقد الساعة، فوجدت أنه لم يمر على نومها إلا ساعتين فقط تخيلتهم هيّ ساعات طويلة، فكرت في النهوض من سريرها ولكنها كانت تؤجل تلك الفكرة كلما سرت الرعشة في جسدها. وأخيراً نهضت من سريرها مجبرة عندما شعرت بأن معدتها ليست على ما يرام، اتجهت إلى الحمام لتستفرغ الطعام القليل الذي تناولته على العشاء، ثم اتجهت إلى ثلاجتها، واحضرت الماء البارد لتملأ به القربة، وجهزت كمادات باردة، أخذت علاجها، واستلقت مرةً أخرى في السرير، وضعت القربة الباردة تحت ظهرها المكدوم، وبدأت تمسح جسدها الساخن بالكمادات الباردة، بعد نصف ساعة من تناولها الدواء بدأ جسدها يدفأ ويعرق والحرارة تنخفض قليلاً. وهكذا كانت تلك الجولة الأولى من الليلة الطويلة. نامت سالي أخيراً واستغرقت في النوم حتى راودتها لا تعلم أحلام أم ذكريات من ماضيها الذي كان بعيداً جداً في تلك اللحظة.

كانت في الحادية عشر من عمرها، في ذلك اليوم خرجت والدتها في السادسة صباحاً كعادتها لتلحق عملها في محافظة أخرى، استيقظت سالي وهي تشعر بالتعب، كانت حرارتها العالية هيّ من دفعتها للاستيقاظ من نومها:

"ماما!".

لم تجد الرد فنظرت إلى السرير المقابل حيث تنام والدتها بجوار شقيقتها الصغيرة، ولكن شقيقتها كانت بمفردها على السرير، نحبت سالي بألم وهي تبكي مدركة أن والدتها ذهبت إلى عملها:

"ماما أنا متعبة".

وضعت يدها على جبينها كما تفعل والدتها معها ومع شقيقتها عندما تمرضان، كانت طفلة صغيرة لتميز درجة الحرارة، ولكنها شعرت بالخوف وهي تتلمس جبينها الحار. تحسست جسدها الدافئ تحت ملابسها، فنهضت من سريرها بصعوبة، وأحضرت الماء البارد من الثلاجة وقطعة من القماش النظيف، واستلقت منهكة على السرير تمسح جسدها بالكمادات الباردة القاسية على جسدها وهي تأن:

"ماما، أنا مريضة".

وكأن والدتها ستسمعها وتركض لتداويها، فكرت في ذلك في يأس، ولكن للمفاجأة سمعت صوت والدتها وهي تقترب منها قائلة بصوتها الطيب الدافئ:

"سالي حبيبتي، أنا بجوارك".

قالت الطفلة التي تهذي:

"ماما أنا مريضة".

"لا تقلقي يا طفلتي، أنا أعتني بك، ستكونين بخير قريباً".

على الرغم من المرض والحرارة العالية التي جعلتها تهذي، شعرت سالي بالأمان يسكن قلبها وهي مطمئنة لوجود والدتها بجوارها تمرضها وتعتني بها، هذا كان غير متوقع، متى عادت؟ فمازال الوقت مبكراً على ميعاد خروجها من العمل. هذه الأفكار أصبحت غير مهمة، فالمهم الآن هو أن والدتها بجوارها. فتحت سالي عينيها المتعبتين، كان الظلام من حولها والرؤية باهتة في عينيها، تأوهت متألمة:

"ماما ظهري يؤلمني".

"استديري يا سالي حتى أراه".

أدارتها والدتها وكشفت عن ظهرها المكدوم، سمعتها تقول بدهشة ممزوجة بالقلق:

"حبيبتي هل كنت تعانين طوال هذا الوقت دون أن تتحدثي".

شعرت بأصابع دافئة تمسح الكدمة وأن هناك شيء بارد يلامس ظهرها، ابتسمت سالي على الرغم من الألم، وفكرت مرةً أخرى، والدتها بجوارها، لم تذهب إلى العمل اليوم وبقيت لأجلها. أغمضت عينيها بهدوء وهي تشعر بالراحة أخيراً لأنها ليست بمفردها.

***

خرجت ذكية من الغرفة لتجد خالد يقف مستنداً على جدار الطرقة، اعتدل فوراً فور رؤيتها وسألها:

"كيف هي؟".

تحدثت ذكية بحزن:

"تعاني من نزلة برد، ولكن..".

"لكن ماذا؟".

تأمل خالد ذكية تلك المرأة الريفية الحساسة التي تحدثت بحزن وهي تمسح طرف عينيها متنهدة:

"ظهرها، يبدو أنه اصيب عندما دفعها عبدالله في النافورة، الكدمة كبيرة جداً".

نظر خالد إلى الساعة في يده التي كانت تشير إلى الرابعة فجراً:

"لنطلب الطبيب، أو نأخذها إلى المستشفى".

"لا أعلم مستر خالد، ربما نطلب طبيباً مبدئياً ويقرر هو إن كان من اللازم نقلها إلى المستشفى أم لا".

تنهدت المرأة:

"المسكينة كانت تضع الكمادات لنفسها".

تأمل خالد الأرض وهو يشعر بالغضب من عبدالله الذي أوصلها إلى هذه الحالة. أخرج هاتفه من جيبه وأخذ يبحث عن طريقة يطلب بها طبيباً يأتي في الرابعة فجراً.

***

أزاح عبدالله غطائه ونظر حوله ولم يجد حسن في سريره، منذ قليل سمع باب الغرفة يتم فتحه وإغلاقه، وكان هذا حسن الذي خرج، اطمأن الفتى أن أخيه عليّ نائم في سريره، ونهض هو من سريره متجهًا إلى الحمام، التقط كرسي صغير بجوار الباب ووضعه تحت نافذة الحمام، صعد عليه ومد يده خارج النافذة ممسكاً بغصن شجرة أخذ يحركها تجاه غرفة سالي التي كانت بجوار غرفتهم، وبينما وهو مستغرق في هذا الفعل، شعر بأن أحداً يسحبه من ملابسه ويدفعه تجاه الحائط، شعر الفتى بالفزع وأغلق عيونه لثوانٍ ثم فتحهما ليرى أخيه حسن يقف أمامه، شدد حسن قبضته على ملابس عبدالله وقال والغضب يتطاير من عينيه:

"ألا يكفيك ما فعلته بها!".

كان عبدالله مذهولا وقال بتلعثم:

"ماذا تقصد؟".

"الدكتورة سالي، هل تعلم أن الطبيب جاء حالاً ليتفقدها بسببك؟".

دفع حسن أخوه بقوة أكثر إلى الحائط مما جعل الفتى يشعر بالألم:

"هل تعلم أنها تعاني من نزلة بردية وكدمات في ظهرها بسببك؟".

نظر حسن إلى عبدالله بقرف وقال:

"إلى متى ستظل هكذا؟".

شعر عبدالله بالملابس تتمزق فدمعت عيناه، وأمسك بيد أخيه محاولاً ابعاده ولكن كيف هذا وخصمه يلعب الملاكمة:

"حسن ابتعد عني".

تركه حسن وهو يدفعه قائلاً:

"لو كنت طفلاً مثلك، لأخبرت الجميع بتصرفاتك الطفولية المؤذية، ولكني لست مثلك".

نظر حسن إلى أخاه الصغير الذي يبلغ من العمر ثمان سنوات، وقال هو يشعر بأنه كان قاسياً عليه:

"اذهب إلى سريرك يا عبدالله، وكف عن تصرفاتك الطفولية".

ذهب الفتى باكيًا بصوت خافت حتى لا يسمعه أحد، واستلقى في سريره وهو يتذكر التصرفات التي صدرت منه اليوم. كان يشعر بالظلم من كل الناس، حتى اخوه حسن كاد أن يضربه، رفس الفتى غطائه بغضب وهو يمسح عينيه، وظل يبكي حتى غلبه النوم.

***

فتحت سالي عينيها على صوت يناديها:

"آنسة سالي، هل تسمعيني؟".

شعرت بالضيق فلم يكن صوتاً مألوفاً لها، حاولت فتح عينيها وهي تشعر بالحرارة تعلو مرةً أخرى، تأوهت قائلة:

"من أنت؟".

سمعت صوت آخر مألوف يقول:

"دكتورة هذا الطبيب جاء ليفحصك".

فتحت سالي عينيها أخيراً ولكن بصعوبة لتجد أمامها رجلا يبدو أنه في خمسينات عمره عرف عن نفسه فوراً حتى لا تخاف، ثم قال:

"أنا زميل يا دكتورة، اطمئني".

تأوهت سالي، فقال بهدوء:

"اسمحي لي أن أرى ظهرك من فضلك".

"لماذا؟".

قالت ذكية مطمئنة:

"حبيبتي الطبيب يريد فحص ظهرك، أنا بجوارك لا تقلقي".

كان هذا صوت ذكية وليس صوت والدتها، من بقي بجوارها طوال الليل كانت مدبرة المنزل الست ذكية ذات الصوت الدافئ التي أكملت عندما لم تستجب لها سالي:

"دكتورة نحن قلقين عليك من فضلك اسمحي للطبيب أن يكشف عليك".

سألت سالي في سرها:

'من هم القلقين؟'.

بعد القليل من الحديث المنخفض ومحاولة شرح الموقف للشابة التي تهذي، وافقت أخيراً على كشف ظهرها، حاول الطبيب ألا يطيل الكشف، وتفحص ظهرها بسرعة ودقة، ثم غطاه بهدوء، وأكمل الكشف عليها متفقداً حرارتها وضغطها، وبعد انتهائه، خرج من الغرفة ليجد خالد وأنيسة ومنى يقفون أمام الباب، قالت أنيسة بقلق:

"كيف حالها".

"حمداً لله لا كسر، مجرد كدمة ثقيلة، تحتاج فقط كمادات وعلاج وستكون بخير".

سأله خالد:

"ألا تحتاج إلى اشعة أو أمر من هذا القبيل؟".

"لا تقلق مستر خالد، ربما تطمئنوا بالأشعة ولكن بعد أن تستعيد عافيتها".

تنهدت أنيسة قائلة:

"الحمدلله".

قال الطبيب:

"من المهم الآن أن نعمل على خفض الحرارة، هذه الروشتة إذا سمحتم التزموا بما فيها، ومن الضروري أن تقوموا بإجراء بعض التحاليل لها، فأنا أراها ضعيفة جداً".

"حسناً".

أخذ خالد الروشتة من الطبيب متأملاً التعليمات فيها، ليتساءل هل كانت حالتها صعبة إلى حد كبير؟ كان قلقاً ويشعر بالغرابة من نفسه، منذ أن جاء حسن وطرق على باب غرفته يخبره أن يشك أن الدكتورة سالي ليست بخير، منذ تلك اللحظة لم يكن هو نفسه، لأول مرة يختبر مثل هذا الشعور تجاه أحد غير أمه والأطفال. نفض أفكاره تلك عن رأسه في هذه اللحظة، وأرشد الطبيب إلى الخارج، ثم ذهب هو إلى أقرب صيدلية متاحة في مثل هذا الوقت ليحضر الدواء الذي كتبه الطبيب لسالي.

***


[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: سالي

قرأت رسالتك وأنا أتساءل، لماذا تنظر إلى الوحدة وكأنها وحش؟ ربما تكون صديقاً يحاول التقرب منك، يريد أن يفشي سراً أو يكشف الغمامة عن عينيك. علمني شخص ما من قبل أن أنظر إلى مخاوفي والصور السيئة في عقلي من منظور آخر، إليك مثال، هناك شارع في مدينتي كنت أمشي فيه بمفردي وأنا صغيرة في موسم الشتاء، كان مظلماً كئيباً ولا حركة فيه، حتى كرهته وتجنبت السير فيه فيما بعد، على الرغم من أنه الأقرب والمختصر إلى بيتي. وذات يوم قررت أن أتحدى هذا الخوف، أغمضت عيني وسرت فيه وأنا أتخيل أنني أسير في شارع مليء بالأشجار الكثيفة، أوراقها الخضراء تتراقص مع نسيم لطيف، وزهور متنوعة الألوان تملأ الهواء بعطرها الفواح. شعرت بدفء الشمس يلامس وجهي ورأيت الطيور تغني وهي تتنقل بين الأغصان. كان الطريق تحت قدمي مغطى بسجادة من العشب الناعم، وكأنني أمشي في حديقة ساحرة. وبالفعل نسيت للحظات كل ما هو حولي من ظلام، استمتعت بكل التفاصيل التي صنعها خيالي هربًا من الواقع المظلم. هكذا أحاول تحدي مخاوفي. اعتقد لو نظرت إلى وحدتك بمنظور آخر، ربما تجد فيها صديقاً عظيماً. حاول وأنا أشجعك من قلبي.

مع خالص الاحترام

سالي]

نهاية الفصل الثاني عشر

***


أهلا يا أصدقائي، اعتذار واجب عن التأخير الغير مقصود، وأتمنى يكون الفصل عجبكم، عارفة امن متابعين الرواية حالياً مش كتير، ودي حاجة ساعات بتحبطني جداً، بس بجد بشكر الناس اللي متابعاني بحب وبيستنوا الفصل بحماس، حقيقي بحس اني عايزة اخلص الرواية على طول علشان فضولكم بس الوقت الوقت الوقت مش بيسعفني، بحاول على قد ما أقدر اكتب في اوقات فراغي، علشان كدة بحب اكتب فصل طويل نسبياً يعوض فترة الانتظار عليكم، بشكركم على تفهمكم بجد.

سؤال الفصل: مين اللي بيراسل سالي؟

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

المدونة:

https://hakayalaa.blogspot.com/p/main-page.html

رواية المنزل:

https://hakayalaa.blogspot.com/p/blog-page.html

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم







رواية المنزل: الفصل الثاني عشر

رواية المنزل: الفصل الثاني عشر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق