السبت، 10 أغسطس 2024

رواية المنزل: الفصل التاسع - ءَالَآء طارق


رواية المنزل: الفصل التاسع

رواية المنزل

الفصل التاسع

ظلت سالي طوال الليل بجوار ماريا المريضة، والتي كانت حرارتها تنخفض بمرور الوقت، وعندما انتابتها الراحة من تحسن الطفلة، ولم تعرف كيف سقطت في النوم على الأريكة.، استيقظت الساعة السابعة على صوت الطفلة التي تتحدث بكلام غير مفهوم، فتحت سالي عينيها بتعب ولمحت الطفلة تقف في سريرها الصغير في محاولة يائسة لتخرج منه، نهضت سالي بسرعة، وحملتها، كانت جسد الطفلة مازال دافئ ولكن الطفلة تشع بالحيوية، على الرغم من الإرهاق الباد على وجهها من أثار الليلة الماضية:

"حبيبتي ماريا، يبدو أنها أصبحت بخير".

نظرت إليها الطفلة بحيرة، ثم ابتسمت ابتسامة خجولة، وكأنه تم مدحها على إنجاز قامت به، فوضعت رأسها الصغير على كتف سالي حتى لا ترى خجلها اللطيف. أخذتها سالي لتأخذ حماماً بعد هذه الليلة المليئة بالكمادات والعرق، وبينما وهي تغسل جسدها الصغير، دخلت عليها السيدة أنيسة وبرفقتها منى، وفور رؤية ماريا لهم، رفعت يديها بفرح حتى يحملها أحدهم، ولكن السيدة منى تقدمت وساعدت سالي في تحميم الطفلة، تراجعت سالي وتركت الأمر لها ثم وقفت بجوار السيدة أنيسة التي تقف بابتسامة، وقالت:

"صباح الخير".

"صباح الخير حبيبتي، يبدو أنك لم تأخذي قسط كاف من النوم، هذه الصغيرة أرهقتك".

ابتسمت سالي:

"على الإطلاق، لقد كنت سعيدة بهذه التجربة، كانت موترة قليلاً ولكنا مرت على خير".

ابتسمت سالي بمرح وقالت:

"كما أنني غيرت حفاض طفل لأول مرة في حياتي".

ضحكت أنيسة وقالت مازحة:

"إذا أنت جاهزة لتكوني أسرة".

نظرت المرأة إليها بغموض، ثم تقدمت إلى الطفلة الصغيرة وهي تُلاغيها:

"حبيبتي هيا لنذهب إلى أبيه خالد؟".

فور سماع الطفلة أسم خالد رفعت يدها بحماس، ولم تمر عشر دقائق وكانت الطفلة نظيفة وجاهزة للنزول، لم ترغب سالي في مرافقهم، بل اعتذرت عن مشاركتهم الفطور بسبب إرهاقها، وتفهمت أنيسة وضعها، وقبل أن يخرجوا من الغرفة التفتت السيدة أنيسة إلى سالي:

"سالي، غداً الجمعة سيكون يوم رياضي، احرصي على ارتداء ملابس رياضية".

ذهبت سالي إلى غرفتها لتأخذ قسطاً من الراحة بعد تلك الليلة الطويلة، وهي تفكر في اليوم الرياضي الذي أخبرتها عنه أنيسة. نامت على سريرها وتأملت السقف بوهن، وبينما وهي مستغرقة في التفكير، جاءها إشعار على هاتفها، كانت من الرسائل التي تصلها يومياً، فتحت الرسالة مجهولة الهوية كانت على البريد الشخصي الخاص بها وليس على منصة الرسائل، وهذا معناه أن المرسل لا يريد أن تظهر رسائله بين رسائل الآخرين وكانت:

[صباح الخير أو مساء الخير، في الوقت الذي تقرأين فيه تلك الرسالة

صادفتني رسائلك ورسائل متابعيك، ووجدتني وقد استغرقت وقتاً طويلاً في قراءتها حتى نسيت الوقت، وفي النهاية لم أشعر بنفسي إلا وأنني أرغب في أن يكون لدينا خط تواصل، ولكنه مختلف وعلى غير العادة، فكرت كثيراً كيف سيكون شكل هذا التواصل، مع العلم أنني لا أستطيع التعبير عن مشاعري وإفصاحها بسهولة، لذلك أحببت أن يكون شكل تواصلنا على هيئة أسئلة أطرحها عليك، أحب أن أقرأ إجابتك وأسمع آرائك، نتفق أو نتخلف هذا أمر نترك للنقاش فيما بعد.

ملاحظة:

الاسئلة لن تكون شخصية]

أغلقت هاتفها، وتقلبت على السرير حتى سقطت في نوم عميق، لم تستيقظ منه إلا في المساء.

***

في اليوم التالي صباحاً جلست سالي في الحديقة، وقرأت الرسالة مرارً وتكراراً وهي عاجزة عن إيجاد رد مناسب، كانت هذه رسالة مختلفة عن معظم الرسائل التي تصلها، فالجميع يتحدث عن مشاعره ودواخله، وينتظر منها إجابة فيها مواساة وتشجيع، ولكن هذه الرسالة كانت مختلفة، مختلفة وجذابة أيضاً، والحقيقة أنها أعجبتها، فلطالما عشقت سالي المناقشات ولم تجد في حياتها شخصاً لديه القدرة على النقاش إلا جدها الذي توفى منذ سنين، لذلك وجدت نفسها تكتب الرد:

[أهلا..

قرأت رسالك بإمعان، ولكنني كنت في حيرة من أمري، كيف ستكون إجابتي؟ جعلني اسلوبك أشعر وكأن الأمر اختباراً وليس نقاشاً، وأيضاً لا أعلم إن كنت شخصاً مؤهلاً لإجابة على أسئلتك؟ ولكنني معجبة بهذه الفكرة، أفهم تمامًا صعوبة التعبير عن المشاعر أحيانًا، وأحب نتواصل بهذا الشكل المختلف والمثير للاهتمام، وحباً في الخوض في النقاشات، خاصة لو كانت مثمرة، وسواء اتفقنا أو اختلفنا، فإن الحوار هو ما يجعل التواصل ممتعاً وذا قيمة، ويكشف عن عوالم جديدة في نفوسنا. لذا أرسل لي أسئلتك في أي وقت تحب، وأنا هنا للإجابة بكل سرور.

ملاحظة أو شرط:

أنا أيضاً سأطرح عليك بعض الأسئلة، لما لا؟

في انتظار رسالتك وسؤالك]

ختمت سالي الرسالة وانتقلت لأخرى ثم أخرى، حتى قاطعها صوت خطوات تأتي من خلفها، التفتت بسرعة لتجد يحيى الذي وقف أمامها وهو يقول:

"أشعر بألم هنا".

وأشار إلى حلقه.

***

في غرفة مكتب واسعة وراقية، كان الجو هادئاً إلا من صوت تقليب الأوراق بين الحين والآخر. جلس خالد أمام الوزير ومساعده، يشبك قدميه براحة وينظر إليهما بتركيز، يقيم تفاعلهما مع الأوراق التي أمامهما. في المقابل، كان محمود، يجلس مقابله متوتراً، يراقب الجميع بريبة. بعد سلسلة من الأسئلة البسيطة والهامسة، أجاب خالد عليها بثقة ودون تردد. أغلق الوزير الملف ووضعه جانباً، ثم شبك أصابعه على المكتب وقال:

"ممتاز، أنا معجب بهذا المشروع". قالها الوزير بابتسامة هادئة بينما ينظر إلى خالد، ثم أشار إليه بالقلم وأكمل:

"خاصة وأنه صادر من شاب في عمرك".

ارتسمت ابتسامة ارتياح على وجه خالد وقال:

"شكراً جزيلاً، سيادتك. نحن متحمسون للبدء في التنفيذ".

نظر مساعد الوزير الذي كان يقف بجواره، وهو يرفع نظارته قليلاً، وقال:

"ما نحتاج إليه الآن هو مناقشة الميزانية والجدول الزمني. هل لديك تفاصيل إضافية يمكننا الاطلاع عليها؟".

أجاب خالد بثقة:

"نعم، بالطبع لدينا خطة مفصلة تشمل التكاليف المقدرة والموارد المطلوبة والجدول الزمني لكل مرحلة من مراحل المشروع. محمود، هل يمكنك تقديم النسخ الإضافية؟".

نهض محمود بسرعة من مقعده، وأخرج من حقيبته عدة نسخ من المستندات ووزعها على الوزير ومساعده. بينما كان يفعل ذلك، قال خالد:

"نحن نؤمن بأن هذا المشروع سيكون له تأثير كبير على المجتمع الثقافي، وسيساهم في نشر المعرفة وتعزيز الوعي الثقافي".

أومأ الوزير برأسه وقال:

"هذا رائع. ولكن كيف تخططون لجذب الشباب للمشاركة في الأنشطة التي ستوفرها المكتبة؟"

أجاب خالد:

"لدينا استراتيجية شاملة تشمل تنظيم ورش عمل وندوات تفاعلية، بالإضافة إلى شراكات مع المدارس والجامعات المحلية. كما سنوفر برامج تدريبية وتنموية تساعد على تطوير مهارات الشباب في مختلف المجالات".

تبادل الوزير ومساعدته النظرات ثم قال الوزير:

"هذه خطة ممتازة، يبدو أنكم فكرتم في كل شيء. دعونا نحدد اجتماعاً آخر الأسبوع المقبل لمناقشة الخطوات التالية وتوقيع الاتفاقية".

ابتسم خالد وقال:

"بالتأكيد، سيداتك. سنكون مستعدين لأي مناقشات إضافية".

بعد أن انتهى الاجتماع، وقف الجميع وتصافحوا. بينما كانوا يغادرون المكتب، قال محمود لخالد بصوت منخفض:

"لم أتوقع أن الاجتماع سيكون ناجحاً".

رد خالد بابتسامة:

"لنستعد للمرحلة التالية".

كان خالد يمشي بسرعة وفجأة توقف وكأنه تذكر أمر ما، فالتفت إلى محمود وقال:

"لا تنس، لعبة البولينج ليوم غد".

***

"هيا أفتح فمك يا يحيى، قل آه".

أبى الطفل أن يفتح فمه وقال مُضيقًا شفتيه وضاماً ذراعيه إلى صدره بعند:

"لا".

تنهدت سالي ووضعت يديها الاثنتين بعزم على كتفيه الصغيرين:

"يحيى ما رأيك أن نعقد اتفاقاً، سأفحصك بهذا الخافض الخشبي وأنت أيضًا تفحصني به؟".

نظر إليها وهو يدرس الصفقة المُغرية ثم سألها:

"هل أنت مريضة؟".

سالي في سرها:

'ها قد بدأت الأسئلة الوجودية'.

فتحدثت بأداء تمثيلي:

"أشعر بأن حلقي يؤلمني أنا أيضاً، وأريد من صغيري يحيى أن يفحصه".

وأخذت تكح مُدعية انها مريضة، فقال الفتى الذي يراقبها مُرتاباً:

"افحصي نفسك، ألست طبيبة؟".

كان صبرها ينفذ، فابتسمت برقة قائلةً:

"كيف أفعل ذلك؟، يجب أن يساعدني أحد، ربما طبيب صغير لطيف".

رد عليها مُقترحاً، وعينيه الكبيرتان مشبعتان بالفضول:

"سأفعل ذلك أولاً".

تتشبث سالي في هذه الفرصة العظيمة:

"كيف هذا، يجب أن تتعلم مني أولاً، أليس كذلك؟".

فكر الفتى مرةً، أخرى فقالت وهي تحاول الحفاظ على هذا المستوى من الاقتناع:

"لن يطول الأمر، سنعد من واحد إلى عشرة وينتهي الأمر".

كانت سالي تتحدث مع الفتى العنيد بهدوء في مُحاولة لإقناعه، ولإقناع الأطفال عليك أن تتمتع بعقلية سياسية جبارة حتى تلين عقولهم العنيدة ولو على مضض، وبالفعل وافق الفتى وهو لا يزال مُترقبًا ويتأملها بحذر، فتح فمه وأدخلت سالي الخافض فأدرك الطفل بدهاء أنه لن يستطيع ان يعد وفمه مفتوح فنفض يدها:

"لا، لا أستطيع أن أعد!".

تنهدت سالي:

"عزيزي يحيى، سأعد أنا بنفسي وأنت ستعد على أصابعك".

وأخيراً فتح يحيى فمه وبدأت سالي العد والفتى يحرك أصابعه بعشوائية، حتى انتهت هذه الجولة الصعبة بسلام، ثم حان دورها ففتحت فمها:

"آه".

أخفض الفتى لسانها وهو مستمتع وسعيد بهذه الصفقة المُرضية، حتى حدث ما لم تتوقعه سالي التي تفتح فمها، شعرت بالخافض يتعمق داخل مجرى تنفسها بعنف، فانتفضت ورفست يد الفتى الذي أخذ يضحك بخبث على رد فعلها، كانت تكح بعنف والفتى المُخادع يضحك بصوت عال، فاختلطت الأصوات العالية بين الكحة والضحك، حتى تمالكت سالي نفسها وهدأ تنفسها قليلاً ومسحت الدموع في عينيها وهي تتأمل الفتى بيأس، ما زال هناك أربع أطفال ستكشف عليهم، فاسترجعت بفضول عدد الأيام الباقية حتى ترحل من هذا المكان. كان الكشف على باقي الأطفال كارثياً، ولكنهم كانوا بخير جميعاً إلا يحيى الذي قررت وضعه تحت ملاحظتها، وعزله احتياطياً عن باقي أخوته.

ارتمت سالي على كرسي المكتب مُتنهدة وتفحصت المكان الغير المرتب حولها وهي تتساءل من أتي هؤلاء الأولاد الخمسة بتلك الطاقة الجبارة؟ لم تكن تعلم أنهم سيدمرون المكان بهذا الشكل، همست وهي ترتاح على الكرسي:

"إنهم مجانين".

***

العاشرة مساءاً، وأنيسة في غرفتها وعلى سريرها تغمرها أضواء خافتة، تستمع إلى الراديو الذي أذاع أغنية لعبد الحليم حافظ، "حاول تفتكرني"، تبدأ الأغنية، ويأخذ صوت عبدالحليم في ملء المكان برقة وشجن. تجمد جسدها لبرهة، وكأن الزمن توقف ليستمع معها، وصارت حبيسة اللحظات التي تلامسها الكلمات في أعماق روحها، سجينة مشاهد من ذكرياتها، تلك الذكريات التي أصبحت بعيدة، بعيدة جداً، تحاصرها من زاوية، وصوت عبد الحليم من الأخرى، هذا الصوت الرخيم المليء بالشجن والألم، الصوت الذي رافق شبابها المليء بالحيوية والسعادة والحب، والذي كانت نهايته مؤلمة كنهاية شبابها، كرر عبد الحليم بقسوة على قلبها الحزين:

[وعشنا الحب بالأيام،

وكل بكرة فيه أحلام،

وأتاري كل ده أوهام].

ارتجفت شفتيها، وأخذت نفسًا عميقًا والغصة ترتفع في حلقها، فأغمضت عينيها بشدة وتنهدت مرة أخرى بألم، وعبد الحليم يقول بشجن:

[وسافر من غير وداع، فات في قلبي جراحه

دبت في ليل السهر، والعيون ما ارتاحوا].

وصاح الكورال من ورائه:

[ومنين نجيب الصبر يا أهل الله يداوينا

اللي إنكوى بالحب قبلينا يقول لينا

سافر من غير وداع، من غير وداع، من غير وداع].

وانطلقت الموسيقى التي لا تقل ثقلاً عن المطلع، وبينما وهي مستغرقة في أفكارها، سمعت طرقاً على الباب، ففتحت عينيها ببطء، تاركةً لحنين الماضي أن يتلاشى رويدًا رويدًا، وكالعادة أدركت من الطارق، كان ابنها وحبها الثاني في هذا العالم، أخفضت صوت الموسيقى وهي تمسح عيونها:

"أدخل يا حبيبي".

فتح خالد الباب بهدوء، ووجدها تجلس في منتصف سريرها موجهة إليه أجمل ابتساماتها، دلف الحجرة خفيفاً رشيقاً وقال وهو يجلس على الكرسي المقابل لها:

"مازلت مستيقظة حتى الآن، ما الذي تفكرين به؟".

قالها وهو يتأمل جفونها المنتفخة وهو مدرك لحالها، فابتسمت بخفة وأخفضت نظرها متهربة من نظراته الثاقبة التي لطالما سبرت أغوارها، وبعد لحظات رفعت أنظارها إليه قائلةً بتهرب:

"أخبرني أنت ما الذي جاء بك؟".

قال خالد متنهداً براحة وهو يشبك قدميه:

"سمعت صوت الراديو، ولكني في الأساس جئت لأرى أجمل سيدة في العالم".

ضحكت أنيسة بسعادة وقالت:

"إذاً عملك يسري على أكمل وجه، أخبرني أيها الولد المتلاعب بآخر التطورات".

قال خالد بابتسامة:

"لا أحب المقاطعة، ولكن أبشري، هذه المكتبة ستكون مشروعاً مختلفاً وفريداً من نوعه".

تنهدت المرأة:

"لو كنت أعلم أنك ستأخذ كلامي على محمل الجد، لكنت خرصت وقتها".

"إذاً هل تقولين إنك نادمة، لأنك تسببت في إنشاء مكتبة ثقافية كبيرة في البلاد؟".

"لا أقول ذلك أيها المتلاعب".

رمقها خالد بنظرة محبة:

"ألم أخبرك يوماً أن كل ما تتمنيه سيصير حقيقية؟".

تذكرت أنيسة ذكرى من الماضي:

[كانت قد استأجرت شقة صغيرة لها ولخالد الذي كان في عمر الثامنة عشر ومرحلة الثانوية العامة، حيث كانت تجبره على الدراسة وقراءة الكتب، يوماً ما كانت تساعده في الدراسة والحفظ، وفي لحظة سهو قالت:

"أتعلم يا خالد؟ أحلم بإنشاء دار أيتام، أو مكتبة كبيرة".

ابتسمت بحب وأكملت:

"أريد أن يكون لي دور كبير أخدم به الوطن والمجتمع"]>

عادت المرأة إلى الواقع، وابتسمت بلطف وامتنان وهي تسحب يده التي قدمها إليها بطاعة، وقالت وهي تمسح عليها:

"أنت أمنيتي يا حبيبي وقد حققها الله لي".

قال خالد معقباً:

"والأطفال، ألم يكونوا أمنية".

قالت المرأة وهي تتذكر الأطفال:

"حلمت أن انشئ دار ايتام، وقد تحققت الأمنية ولكن بشكل أجمل".

سكتت لثوان ثم أكملت:

"على الرغم من أن السيطرة عليهم صارت صعبة".

عقد خالد حاجبيه وسألها:

"هل ضايقك أحد الأطفال".

"هذا الولد عبدالله صار أعنف من قبل"

"ماذا فعل؟"

"دفع سالي من على السلم، وكاد أن يدفع علي"

سألها خالد بفضول عند ذكر اسم سالي:

"هل هي بخير؟".

"من؟".

تأملته المرأة وهي تحاول اخفاء ابتسامتها:

"نعم حمداً لله، تداركت الأمر".

"لماذا لم تخبريني؟".

تنهدت قائلة:

"كنت مشغولاً في أمر المكتبة، لا أريد أن أعطلك عن مشاغلك".

مرت لحظات صمت، ثم عدلت المرأة وضعيتها على السرير وقال:

"وأعتقد أن هناك مشكلة بين أحمد ونور، هل لاحظت؟".

هز خالد رأسه بشرود ومازال جزء من أفكاره متوقف عند سالي، فنبهته المرأة قائلة:

"خالد هل أنت معي؟".

نظر إليها بهدوء وقال:

"نعم، أعتقد أن الأمور بينهم ليست على ما يرام".

"هذا غريب هذان الطفلان لم يفترقا منذ لقائهما، حتى فرح أظنها تخفي أمراً ما".

تذكر خالد فرح، كانت أمه أيضاً تشك في أمرها وليس هو وحده، سمعها تكمل حديثها مقاطعة أفكاره القلقة التي يخفيها جيداً:

"وحسن تم رفده، أشعر بالخوف عليهم يا خالد، ألم تخبرك تلك السيدة فايزة من الوزارة متى ستأتي؟".

هز رأسه بالنفي، فتنهدت المرأة بيأس وهي تقول:

"أنا قلقة حقاً، جميعهم لديهم مشاكل، ربما تأخذهم الوزارة".

أخذ خالد يدها قائلاً وهو يطمئنها:

"ماما لا تقلقي، هذا أمر طبيعي، هم مازالوا أطفال ومراهقين وتواجهم المشاكل التي تواجه جميع من هم في مثل أعمارهم".

تجعدت ملامحها بالبكاء:

"أخاف أن تأخذها تلك المرأة ذريعة لسحبهم منا!".

شد على يدها بثقة وقوة وهو يقول:

"لا تقلقي أنا أثق فيهم".

تأملته المرأة وفكرت، منذ أن نضج خالد لطالما استمدت ثقتها وطمأنينتها منه، كان حقاً ولدها وسندها في هذه الدنيا بعد الله.

***

في غرفته جلس محمود وهاتفه بين يديه يتأمله باهتمام، كانت الساعة العاشرة التاسعة وتسع واربعون دقيقة، مسح الرسالة التي كتبها للمرة العشرين على الأغلب ثم كتبها مرةً أخرى:

'دكتورة سالي مساء الخير، يبدو أنني غير مشغول الآن، ما رأيك أن ترسلي لي أسم كتاب'

تساءل:

'هل أرسل إليها الرسالة في مثل ذلك الوقت أم ليس من اللائق؟'.

لم يكن الأمر وأنه متلهف ليقرأ، ولكن التواصل معها بشكل طبيعي كان هدفه، الدكتورة سالي التي لفتت نظره من المرة الأولى، كان منجذباً لها بشكل واضح، وهذا لم يحدث منذ زمن بعيد، بل كان من النادر أن يشعر بهذا الشغف تجاه شخص ما، والآن عليه أن يقوم بتلك الخطوات التي كان يراها سخيفة من قبل ليتقرب من الشابة التي تعجبه، ولكن شعور الخوف كان يغلبه، فمن الواضح أنها شخصية منغلقة وربما تدفعه بعيداً عنها بالإضافة إلى أنه لا يضمن أنها ستبادله نفس الشعور.

كاد أن يمسح الرسالة مرةً أخرى، ولكنه انتبه بعد أن تحول رقمها إلى متصل.

'إذاً هي مستيقظة'.

ولم يشعر محمود بفعلته إلا بعد أن ضغط على علامة الإرسال، وتعالت دقات قلبه بمرور الثواني حتى وصلت إلى أذنيه، وعندما لمح كلمة 'يكتب' أغلق الهاتف بسرعة، سمع الهاتف يعلو بنغمة الرسائل، وبعد تردد دقائق أمسكه بشجاعة وفتح الرسالة:

[مستر محمود، أعتذر على تأخري، إليك هذا العنوان، الأمير الصغير The Little Prince للكاتب أنطوان دي سانت أكزوبيري].

ختمت سالي الرسالة:

[أتمنى أن تعجبك، تصبح على خير].

نهض محمود بسرعه من سريره وارتدى ملابسه في ثوان وذهب إلى أقرب مكتبة، ويقضي ليلته كاملة في قراءة قصة الأمير الصغير.

***

يوم رياضي

جاء يوم الجمعة، وقد كان يوماً رياضياً بالفعل كما قالت السيدة أنيسة. تم تجهيز الحديقة بمعدات رياضية (كرة قدم، كرة سلة، طاولة تنس، مضارب، كرات، حبال شد)، وزجاجات المياه والمشروبات المنعشة، ووجبات خفيفة وغداء. وبالطبع جوائز رمزية للفائزين، بالإضافة إلى مكبر صوت للإعلانات والموسيقى يكفي مساحة المنزل حتى لا يزعج الجيران، وكانت مهمته موكلة إلى ندى ابنة أخ ذكية.

كان كل ما تعرفه سالي عن الرياضة هو الركض، وقد كانت أسرع طالبة في مدرستها. ولكنها أعجبت بتلك الفكرة التي لم تخضها أبداً، وفكرت في مدى طرافة تلك العائلة، واختراعها للأجواء التي ترفه عن الأطفال. بالتأكيد الحياة في هذا المكان مختلفة تماما عما توقعته، حياة ممتعة وتجاربها جديدة ومسلية، وهذا جعلها تتأكد أكثر فأكثر أنها ستحزن لمفارقتها. كانت قد بحثت في ملابسها عما تستطيع ارتداءه أثناء ممارستها الرياضة، وارتدى الشباب والأطفال في المنزل جميعاً ملابسهم الرياضة، وجلس الباقيين كمشجعين ومعهم يحيى الحزين الذي بدأت تظهر عليه أمارات المرض، تحدثت السيدة أنيسة كبيرة العائلة:

"صباح الخير أعزائي، نظراً لأهمية الأنشطة الرياضية ودورها في تعزيز الصحة البدنية والعقلية، سننظم يوماً رياضياً مليئاً بالفعاليات الممتعة للجميع. اشحنوا طاقتكم فاليوم سيكون حافل، هل أنتم مستعدون؟".

صرخ الأطفال الصغار بحماس، تابعتهم المرأة بابتسامة وقرأت ما في الورقة:

"جدول الفعاليات:

"أولاً: الافتتاح والترحيب (9:00 - 9:15 صباحاً)"

نظرت المرأة من تحت نظارتها وقالت:

"وهذا ما بدأ للتو". ثم أكملت:

"تتجمع العائلة في الحديقة، ثم كلمة ترحيبية قصيرة من أحد أفراد العائلة الكبار، وهو أنا، ثم توضيح جدول الأنشطة والتوجيهات العامة".

صرخت فرح بملل:

"ماما اختصري، الجو حار!".

لكن أنيسة اكتفت بتوسيع ابتسامتها وأكملت:

"ثانياً: تمارين إحماء جماعية (9:15 - 9:30 صباحاً)، ثم تمارين إحماء خفيفة بإشراف أحد الأفراد المهتمين بالرياضة، ثم تمارين تمدد وتنشيط العضلات".

"ثالثاً: الأنشطة والرياضات الجماعية (9:30 - 11:30 صباحاً)، مباراة كرة القدم في ملعب 1، ومباراة كرة السلة ملعب 2، ثم دوري تنس طاولة بين أفراد العائلة".

"رابعا: استراحة وتناول وجبة خفيفة (11:30 - 12:00 ظهراً)، سنقدم وجبات خفيفة مصنوعة بحب من ست ذكية، وبالطبع مشروبات منعشة، ولا بأس من بعض الأحاديث الجانبية".

"خامساً: أنشطة تنافسية خفيفة (12:00 - 1:30 ظهراً) تتضمن مباراة شد الحبل بين فريقين، ثم سباق الجري بالتناوب، ثم سباق أكياس، سيتم تقسيم الجميع إلى فريقين متعادلين في الأعمار المشاركة، والفريق الفائز في نشاطين هو المنتصر في هذه الجولة".

"سادساً: استراحة وتناول وجبة الغداء الجماعية في الهواء الطلق (1:30 - 2:30 ظهراً)".

"سابعاً: الألعاب الترفيهية (2:30 - 4:00 عصراً)، تتضمن لعبة البحث عن الكنز في الحديقة، وللعلم الكنز مفاجأة، ثم لعبة الكراسي الموسيقية، وهناك لعبة البولينج باستخدام زجاجات بلاستيكية، لأن عزيزنا مستر محمود نسي شراؤها".

نظر الجميع إلى المتهم، الذي عدل نظارته بحرص متفادياً الأنظار الثاقبة الموجه إليه.

"ثامناً: الاختتام وتوزيع الجوائز (4:00 - 4:30 عصراً)، سيتم توزيع الجوائز الرمزية على الفائزين في الأنشطة المختلفة، وبالطبع كلمة ختامية وشكر لجميع المشاركين".

نظرت أنيسة إلى سالي:

"الآنسة سالي، من فضلك تأكدي من وجود أدوات الإسعافات الأولية في حالة حدوث إصابات طفيفة، ومن تنظيم الأنشطة بحيث تكون مناسبة لجميع الأعمار ومستويات اللياقة البدنية. والسيدة منى من فضلك، التأكد من توفير مناطق مظللة للراحة والحماية من أشعة الشمس".

ختمت المرأة حديثها أخيراً:

"وفي النهاية، يهدف هذا اليوم الرياضي إلى تعزيز الروابط العائلية من خلال الأنشطة الرياضية والترفيهية. نتمنى أن يقضي الجميع وقتاً ممتعاً، وأن يكون هذا اليوم استمراراً لعاداتنا الرياضية الصحية التي تجمع العائلة بشكل دوري".

همس حسن الذي يقف بجوار سالي:

"ماما أنت حقاً تبالغين، وكأنك الرئيس".

سمعته سالي وابتسمت، ولم تمر دقائق وجاء عم حمدي يخبر السيدة أنيسة أن العائلات من المنازل المجاورة أرسلوا أطفالهم، فأخبرته السيدة أنيسة أن يفتح البوابة لهم، وقد كانت تعلم بالفعل بقدومهم، فهي من اقترحت على أولياء الأمور والجيران بإرسال أطفالهم.

وهكذا تم ترتيب الأمور لتجري حسب الخطة، في البداية كانت تمارين الإحماء والتي أدارها حسن بنفسه بصفته الرياضي فيهم، والباقين اتبعوه بجد، حتى خالد الذي كان مرتاحاً ومبتسماً باستمرار. شعرت سالي أنها أرهقت في أول 5 دقائق، ولكنها أكملت بإصرار، رغبة في الاستفادة من هذا اليوم بدنياً. انتهت تمارين الإحماء، وبدأت الألعاب الجماعية التي تتضمن كرة القدم والسلة، ولم يكن لسالي أي دور فيها، بسبب خبرتها الصفرية فيهم، فتولى مهمة تلك الألعاب الأولاد الذين قسموا نفسهم إلى فريقين الأحمر والأزرق، والباقين كانوا يشجعون، كانت هناك روح حماسية من الجميع، وكل فرد كان يريد انتزاع النصر له ولفريقه، وبالطبع كانت هناك إصابات طفيفة لم تتعد الخدوش والجروح الصغيرة جداً، خاصة للأطفال، أدارتها سالي بسهولة. في النهاية كانت دوري تنس الطاولة قد انتهى بين خالد محمود، كانت مباراة محمومة والاثنان كانوا ماهرين حقاً، شعرت سالي أنها ترى مباراة بين محترفين وليس مجرد هواة، وحصل خالد في النهاية على المركز الأول ليس لأنه الأفضل، بل لأن لارا وفؤاد كانا يتشاجران، ودفعا بعضهما البعض بالقرب من محمود الذي فقد تركيزه على الكرة، ولم يتوان خالد عن إغاظته واستفزازه.

بعد الجولة الأولى من اليوم الرياضي، أخذ الجميع استراحة لمدة نصف ساعة، وتم توزيع الوجبات الجانبية والمشروبات الباردة، كانت الأصوات عالية بين الأولاد الذي كانوا يتحدثون عن انتصاراتهم، ولكن كان هناك صوت صريخ يغلب الجميع صادر من لارا وفؤاد اللذان يتشاجران منذ نصف ساعة، بسبب الكرة السلة وانضم إلى المعركة علي وسارة وصغيران من الجيران، وفي النهاية تم فض المعركة من قبل السيدة منى التي عاقبت التوأم بالضرب الخفيف على مؤخراتهم، بالطبع بعيداً عن الجميع حتى لا يرونهم وهو يُعاقبون.

بعد الاستراحة، بدأت فقرة الأنشطة التنافسية، والتي بالطبع شاركت فيها سالي، ومرةً أخرى تم تقسيم الجميع ولكن إلى فريقين، الأحمر والأزرق، الفريق صاحب اللون الأحمر يتكون من محمود، سالي، فرح، أحمد، ليلى، سارة، علي، وخمسة من أطفال الجيران، أما الفريق الأزرق كان يتكون من خالد، حسن، عبدالله، ليان، أميرة، فؤاد ولارا، وإسراء وأربعة من أطفال الجيران. تم توزيع على كل فرد من أفراد الفريقين أشرطة بلون فريقه ليربطها على معصمه، والبداية كانت من شد الحبل، الفريق الأحمر كان في طريقه إلى النصر، ولكنه تراجع بعد أن تحمس حسن ونشط، وظهرت روح البطل الرياضي داخله، وكان سبباً في نصر فريقه، واحسبت نقطة للفريق الأزرق. الجولة التالية كانت الركض بالتناوب وإيصال العصا إلى نقطة النهاية، بدأ خالد ومحمود وكل واحد يمسك عصاً بيده، وركضا بسرعة تقدم محمود ثم سلم العصا إلى فرح، وخالد سلمها إلى حسن، وهكذا بالتناوب، تأخر الفريق الأحمر لثوانٍ بسبب الأطفال الصغار، وهذا ما حسبته سالي التي كانت آخر المشتركين، فشدت شعرها الأسود إلى أعلى، وسحبت الهواء إلى رئتيها ثم أطلقته وأطلقت معه العنان إلى ساقيها، وكانت أسرع طالبة في مدرستها سبباً في نصر فريقها، وهكذا نقطة للفريق الأحمر. اللعبة الأخيرة كانت سباق الكيس وكانت هي الحاسمة، لكن خالد رفض المشاركة وتبعه حسن، وتركوها للأطفال، لتحسمها لارا وفؤاد اللذين أطلقوا العنان لطاقتهم غير المحدودة، وانتصر في المسابقة الفريق الأزرق الذي حصل على نقطتين مقابل واحدة للفريق الأحمر. خرج الجميع من تلك المنافسة مبللين بالعرق، ووجوههم مصبوغة بلون أحمر، كانت ماريا الصغيرة تجلس على ساق المربية وتشجع بحماس كما يفعل الجميع، وتتفوه بكلمات خرقاء غير مفهومة لكن بظرافة، حملها خالد وربط معصمها بشريطه الأزرق وقبلها من خديها السمينين، لمحت سالي التي كانت تجفف وجهها بالمنشفة هذا المشهد، وشعرت بالدفء يتسلل إلى قلبها وهي تلمح مثل تلك المشاهد الإنسانية أمام عينيها كل يوم. قاطع تلصصها صوت صادر من خلفها:

"آنسة سالي".

التفتت سالي، لتجد محمود يقف خلفها ويقدم إليها زجاجة مياه مثلجة، أخذتها منه وشكرته على لطفه وهي تجلس على أقرب مقعد وتقرب الزجاجة من شفتيها، فجلس بجوارها وهو يقول:

"أنهيت قصة الأمير الصغير".

أزاحت سالي الزجاجة من أمام شفتيها ثم نظرت إليه وقالت والحيرة في عينيها:

"هل أنهيتها في ليلة؟".

ابتسم محمود بطيبة وظهرت الهالات تحت عينيه مما جعل سالي تضحك بصوت على هذا الرجل الذي رمقها بحيرة قائلاً:

"هل هناك مشكلة؟".

تنهدت سالي والابتسامة لم تفارق عينيها وقالت:

"لا بالطبع، ولكني أرسلت إليك اسمها الساعة العاشرة مساءاً، اعتقدت أنك ستقرؤها فيما بعد".

رد محمود وهو يتذكر ارتدائه ملابسة بسرعة والذهاب إلى أقرب مكتبة ليشتري الرواية واستغراقه طوال الليل في قراءتها، قطعت سالي أفكاره:

"حسناً ما رأيك فيها؟".

قال محمود بحيرة:

"جميلة.. تخيلت من غلافها أنها للأطفال، ولكن كلها إسقاطات".

اتسعت ابتسامة سالي مرةً أخرى فسألها بغباء:

"هل قلت شيء خاطئ".

"لا شيء، ولكن يبدو أنك قارئ متمرس".

تذكر محمود جملتها التي قالتها سابقاً:

[أي شخص يستطيع فك الحروف إذاً هو قارئ متمرس، ولكنه لم يستكشف فقط هذه الموهبة]

سألته سالي:

"ما القصة التي أعجبتك فيها".

تأمل الرجل السماء بحيرة هو يتخيل الكواكب التي زارها الأمير الصغير وقال بهدوء:

"الأمير ووردته".

عقدت حاجبيها وهي تتذكر القصة:

"قصتهم حكمها الكبرياء ثم انتهت بالفراق الوحدة".

التفت محمود ليتأمل سالي التي رفعت شعرها المجعد بنعومة إلى أعلى وقال وهو يشعر بغصة في قلبه:

"شكراً لك على هذا الاختيار".

نظرت سالي إليه وضاقت عيناها في ابتسامة جميلة وهي تقول:

"على الرحب".

كان محمود رجلاً لطيفاً، وشعرت ببعض الاهتمام الصادر منه، لم يكن الأمر وأن لديها اهتماماً مماثلاً، ولكنها تحاول أن تتعامل معه ببساطة دون أية حساسيات على الرغم من أن هذا لم يكن طبعها، ولكن بما أنها سترحل بعيداً عن ذلك المنزل، لذلك لا بأس ببعض الصداقات اللطيفة والأحاديث المريحة. وبينما وهم يتحدثون براحة، غطاهم ظل طويل، كان لخالد الذي وقف أمامهم وتأملهم بغموض، نظرت سالي إليه بحيرة، ونهض محمود على الفور، قال خالد وهو ينظر بين الاثنين ببرود:

"سنلعب جولة من تنس الطاولة هل تحبان المشاركة؟".

نظرت سالي بينهما بارتباك، وقالت:

"لم ألعبها من قبل".

نظر خالد إلى محمود بثبات، وقال وهالة الظلام تنبعث من حوله:

"انت تعال معي".

"لكن هذا وقت الغداء!".

"الغداء لم يجهز بعد، ومازال لدي بعض الطاقة، هيا تعال".

وتلقى محمود الذي يجيد تلك اللعبة بمهارة هزيمة ساحقة مع بعض الكرات التي تطايرت في أماكن متفرقة من جسده، وخرج منها وهو عازم ألا يشارك هذا الرجل المجنون اللعب مرةً أخرى.

كان الغداء لذيذ في هذا اليوم بشكل خاص، على الرغم من أن الجميع تعود على طعام ذكية اللذيذ، ولكن اختلافه ولذته هذا اليوم، بسبب التجمع الكبير والجوع الشديد، على الرغم من الصخب والأصوات العالية، هدء العالم في أذني سالي، ولأول يرفع الستار عن عيونها، كان العالم من حولها مختلفاً عما اعتادت عليه، لم تكن هذه الشمس هي شمس اكتئابها، ولا هذا الصمت هو صمت وحدتها، كان صمتاً جميلاً، لذيذاً تحاوطه الطمأنينة والأمان، وليس الخوف والقلق، قطعاً كان إحساساً مختلفاً تشعر به ولأول مرة من اسدال الستار على عيونها، أغمضت عينيها لثوانٍ لتستشعر أكثر تلك المشاعر المختلفة، لتشعر بضربة خفيفة على كوعها من حسن الذي يجلس بجوارها، فخرجت من شرودها بسرعة ونظرت إليه بحيرة، همس الفتى دون أن يلفت الأنظار إليه:

"هل لديك الوقت لنتحدث في المساء".

مال رأسها وهي تتأمله، كان الفتي يريد التحدث معها بالتأكيد بخصوص فرح، فردت عليه بهمس:

"بالطبع، سأنتظرك في مكتبي".

بعد  الطعام والاسترخاء لمدة لا بأس بها، بدات الفقرة الأخيرة وهي الألعاب الترفيهية الخفيفة، وهذه مخصصة للأطفال، كانت الشخص الرئيسي في هذه الفقرة هي ندى والتي كانت الألعاب تعتمد عليها هي بشكل خاص، الفتاة كانت متحدثة طريفة ولطيفة واستطاعت أن تدير الألعاب بشكل جيد، اللعبة الأولى كانت الكراسي الموسيقية والتي فازت فيها سارة، أما لعبة الكنز ففاز بها أحد أطفال الجيران وكان الكنز صندوق كبير يحتوي على تشكيلة من ألعاب الأطفال التي أحضرها خالد، بكت لارا لأنها لم تستطع الفوز في أية لعبة، وأثارت ضجة انهاها خالد بحملها ومواساتها.

في نهاية اليوم تم توزيع الجواز على الفائزين في الجولات، كانت الجوائز تتراوح من ألعاب الأطفال إلى ألعاب ومستلزمات رياضية، ومن لم يحصل على هدايا، حصل على الحلوى. وانتهى اليوم الرياضي الذي كان حافلاً، كان الجميع حقاً سعيد بهذا اليوم، حتى أن أطفال الجيران طلبوا من السيدة أن تكرر هذا اليوم، وعدتهم المرأة بحب، ثم ألقت كلمتها الختامية:

"أعزائي، في ختام هذا اليوم الرائع، أود أن أعبر عن امتناني العميق لكل من ساهم في نجاح هذا الحدث المميز. لقد كان يومًا حافلًا بالمرح والتحدي والروح الرياضية العالية"

نظرت المرأة إلى لارا التي كانت متعلقة برقبة خالد، ثم أكملت كلامها:

"أهنئ جميع الفائزين بالجولات على أدائهم المميز وحماسهم الذي أضفى على اليوم جوًا من التنافس الصحي والممتع. كما أتمنى أن تكون الجوائز التي حصلتم عليها قد أسعدتكم. وللأطفال الذين لم يحصلوا على جوائز، المرة القادمة بالتأكيد ستكونون من يحصل عليها. شكرًا لكل من حضر وشارك في هذا اليوم، لقد كنتم جميعًا جزءًا لا يتجزأ منه. وأخص بالشكر ست منى وست ذكية وندى التي تؤلمها أحبالها الصوتية الآن، لقد بذلوا جميعاً جهدًا كبيرًا في تنظيم هذا اليوم، ونعدكم أن نكرر هذا اليوم مررةً أخرى. ختامًا، أتمنى أن تحملوا معكم ذكريات جميلة من هذا اليوم، وأن نلتقي مجددًا في مناسبات قادمة تجمعنا بالفرح، شكرًا لكم جميعًا، ودمتم بخير وسعادة".

في نهاية ذلك اليوم الرائع، اتفق الجميع على أن يكون يوم الجمعة القادم رحلة تخييم، ولكن لم يتم تحديد الوجهة، لذلك تُرك الأمر للتصويت والإجماع على مكان واحد، ومنذ ذلك الحين أحبت سالي أيام الجمعة في هذا المنزل وليس في مكان آخر.

وفي العشاء جلس حسن بجوار سالي عمداً، وتبعته السيدة منى التي رأت سالي تهمس له بأنها ستنتظره في المكتب، فتدخلت والقلق على محياها وهي تقلب نظرها بينهم:

"هل هناك خطب؟".

نظر الفتى للمرأة بضجر وقال:

"لا شيء أشعر ببعض التعب".

أخفضت سالي رأسها دون تعليق، وسمعت منى تسأله:

"منذ متى؟".

نظر الفتى إليها بحدة:

"هل أنت طبيبة؟".

تأملت منى الفتى الفظ وظهر اليأس على ملامحها.

"ما الأمر؟".

التفت الثلاثة إلى مصدر الصوت، كان خالد ينظر إليهم بفضول، فردت السيدة منى بارتباك:

"لا شيء مستر خالد".

نظر إليهم الرجل بريبة، ومر الأمر في النهاية مرور الكرام.

***

بعد العشاء، انتظرت سالي في مكتبها حتى سمعت طرقاً خفيفاً فأمرت بالدخول، ليدخل الفتى مغلقاً الباب خلفه بهدوء، واعتدلت سالي في جلستها أمام الفتى الذي أخذ مقعداً يواجها، بعد ثوان من الصمت تحدث الفتى:

"تم فصلي بسبب فرح".

سألته سالي التي كان لديها شعور عميق بذلك:

"وماذا فعلت ليتم فصلك؟".

رد الفتى ببساطة:

"رأيت زميلاتها يحرضنها على القيام بهذا الأمر، فكسرت باب الحمام الخاص بالفتيات".

تفاجأت سالي فقد توقعت أي تصرف قد يصدر منه، إلا هذا التصرف المريب، فسألته بشك وخوف:

"وكيف كسرته؟".

قال الفتى بفخر، وارتسمت أول ابتسامة على وجهه رأتها منذ تعرفها عليه:

"بقدمي".

رمشت سالي بذهول وهي تتأمل البنية القوية للفتى، ثم وضعت كفها بيأس على صدغها واستندت وهي تشعر بالعجز:

"وهل علم أحد بأمر فرح؟".

ردت الفتى:

"لا لم أخبر أحداً حتى الآن، ولكن هذا اختبار لصبري".

نظرت سالي إليه، بالطبع مراهق يكسر الباب بقدمه بالتأكيد لن يمتلك الصبر، فقالت والخوف يتملكها:

"حسن لا داعي للتهور، هل تعرف زميلاتها؟".

فكر الفتى ثم أجاب:

"أعتقد أنني أعرفهم، ولكن لا أتذكر أسماءهم".

"هذا جيد أريدك أن تسأل عن أسمائهن وتخبرني بها في أقرب وقت، وأتمنى أن يكون ذلك غداً".

أكملت في سرها:

'فلم يعد لدي الوقت الكافي'

سكت الفتى، ولمحت سالي مشاعر الضيق على وجهه فسألته:

"هل هناك شيء آخر؟".

توترت نظراته ثم استقرت فجأة ونظر إلى سالي مباشرةً:

"سمعتها تقول أن لا عائلة لديها".

تفاجأت سالي، ولكنها لم تعلق، فأكمل الفتى:

"لا أعلم سبب قولها هذا الكلام، ولا أعلم أيضاً سبب غضبي الشديد منها".

كانت سالي في مواجهة مشاعر إنسانية متأججة لم تواجهها من قبل، هذا الغضب والضيق الذي يفيض من جسد الفتى لم يكن عادياً، وكأن فرح وتلك الفتيات الغبيات أشعلنه ولم يعلمن العواقب، وكان عليها أن ترد بسرعة وتتدارك الموقف لكن بحكمة. شدد حسن قبضته، وهو يسترجع ذلك اليوم، لم يتوقع أن تصدر تلك الكلمة من فرح عن عائلتها وأمام أصدقائها، منذ الأمس يتساءل كيف وضعت نفسها في هذا الموقف، ألا ترى أن لديها عائلة بالفعل، أم أن لديها اعتقاداً آخر؟

"أعتقد أن تصرفك كان رداً عليها".

رفع الفتى رأسه بحيرة، فقالت سالي بهدوء وابتسامة جميلة على محياها:

"لا أعلم، ولكن لو كسر أحد الباب الخاص بحمام الفتيات من أجلي فهو بالتأكيد عائلتي".

تسمر حسن أمام ابتسامتها المحبة، لتكمل سالي:

"على الرغم من تهورك، إلا أن تصرفك هذا صدمني وأسعدني في نفس الوقت".

سكتت ولاحظ حسن أن ابتسامتها تغيب وملامحها تظلم وهي تتأمل الوهم أمامها قائلة:

"لطالما كنت أتساءل عن معنى العائلة الحقيقي".

رفعت رأسها ثم أشرق وجهها مرةً أخرى وهي تقول بخفة ظل:

"واليوم أدركت جزءاً من الإجابة".

صمتت أمام صمت الفتى، وبعد لحظات قالت بخفة ظل:

"لا تخبر أحد أنني أخبرتك بذلك، سيعتبرون ذلك تشجيعاً لتصرفك الخاطئ تماماً".

لم يرد حسن عليها وحديثها السابق يتردد في عقله، فنظر إليها ثم سألها:

"ما الذي ستفعلينه؟".

قالت سالي وابتسامتها تستر خلفها غضباً من هؤلاء الفتيات اللئيمات:

"سأقابل هؤلاء الفتيات".

سألها حسن:

"وهل هذا حلاً للمشكلة؟ أقصد هل هذا سيجعل فرح تقلع عن ذلك الأمر"

تنهدت سالي عندما فهمت مقصده ثم قالت:

"علينا أن نبعدها عن هؤلاء الفتيات أولاً، نسيطر على البيئة من حولها، وفي نفس الوقت نعالج الأمر بهدوء".

بعد لحظات من الصمت قالت:

"ما يطمئنني أن فرح تشعر بالذنب، وتريد الإقلاع عن هذا الأمر وهذا في حد ذاته إشارة جيدة".

سألها:

"هل تحدثت معها، أقصد هل هي بخير؟".

تفاجأت سالي من سؤال الفتى الذي يظهر الفضول في عينيه، إنه حقاً قلق على أخته:

"لا تقلق عليها يا حسن، الأمور ستكون بخير طالما نحن بجوارها".

هدئت نظرات الفتى المشتعلة وسكن غضبه عند رؤيته تلك الابتسامة المطمئنة من سالي، ربما كان هذا ما يحتاجه، شخص يطمئنة على أخته ويخبره أنها ستكون بخير. بعد ثوانٍ استأذن الفتى، وفور خروجه انساب الضغط من أجواء الغرفة معه، وأطلقت سالي أنفاسها المحبوسة، كان موقفاً تجلت فيه نفس حسن بوضوح، موقفاً غريباً لم تمر به سالي من قبل، وكان عليها أن تتعامل معه بحرص وثقة.

بعد دقائق نهضت سالي من مكتبها الذي رتبته وأغلقت الأنوار، ثم فتحت الباب لتتفاجأ وتخطو إلى الخلف خطوتان.

نهاية الفصل الثامن

***

أعزائي القراء فصل جديد من رواية المنزل خلص، مجهود كبير جداً بذلته ولكن بحب، في الفصل ده كنت حابة أوصل فكرة مهمة، وهي فعاليات الرياضة، على الرغم ان ده مش بيحصل في الأمر الواقع، لكن أتمنى يبقى جزء من ثقافتنا، تنظيم الأسر لفعاليات رياضية يشارك في كل أفراد الأسرة، أتمنى أكون قدرت أوصلكم المشاعر بشكل أدق ومحسوس.

شكراً جداً لصبركم عليا، واسفة على أي أخطاء غير مقصودة بالتأكيد.

كاتبتكم ءَالَآء

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

TikTok: hakayaalaa للقص القصيرة

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالة، متأكدة انها هتعجبكم

رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق