السبت، 10 أغسطس 2024

رواية المنزل: الفصل التاسع - ءَالَآء طارق


رواية المنزل: الفصل التاسع

رواية المنزل

الفصل التاسع

فضلاً، متنسوش الvote.

***

ظلت سالي طوال الليل بجوار ماريا المريضة، والتي كانت حرارتها تنخفض بمرور الوقت، وما إن اطمأنت إلى أن الطفلة بدأت تتحسن، حتى غلبها التعب، ولم تتذكر كيف غفت على الأريكة.

استيقظت في الساعة السابعة على صوت الطفلة التي تتحدث بثرثرة غير مفهومة. وفتحت عينيها بتثاقل، وبمرور اللحظات لمحت ماريا تقف في سريرها الصغير في محاولة يائسة للخروج منه. نهضت سالي بسرعة وحملتها، كان جسد الطفلة لا يزال دافئًا، لكنها كانت تشع بالحيوية، على الرغم من الإرهاق البادي على وجهها من آثار الليلة الماضية.

"حبيبتي ماريا، يبدو أنك أصبحتِ بخير".

نظرت إليها الطفلة وعيونها الكبيرة مليئة بالحيرة، ثم ابتسمت ابتسامة خجولة، وكأنها نالت مديحًا على إنجاز قامت به، فوضعت رأسها الصغير على كتف سالي كي لا تُظهر خجلها اللطيف. أخذتها سالي لتحميمها بعد ليلة مليئة بالكمادات والعرق، وبينما كانت تغسل جسدها الصغير، دخلت السيدة أنيسة وبرفقتها منى. وفور أن رأت ماريا الاثنتين، رفعت يديها بفرح كي يحملها أحدهما، فتقدمت السيدة منى وساعدت سالي في تحميم الطفلة. تراجعت سالي وتركت الأمر لها، ثم وقفت بجوار أنيسة التي كانت تبتسم، وقالت:

"صباح الخير".

"صباح الخير، حبيبتي. يبدو أنكِ لم تحصلي على قسط كافٍ من النوم، هذه الصغيرة أرهقتك".

ابتسمت سالي:

"على الإطلاق، لقد كنت سعيدة بهذه التجربة، كانت موترة قليلاً لكنها مرّت على خير".

ثم ابتسمت بمرح وقالت:

"كما أنني غيّرتُ حفاضًا لطفل لأول مرة في حياتي".

ضحكت أنيسة وقالت مازحة:

"إذاً أنتِ جاهزة لتُنشئي أسرة".

نظرت المرأة إلى سالي بغموض، ثم تقدمت نحو الطفلة الصغيرة وهي تُداعبها:

"حبيبتي، هيا لنذهب إلى أبيه خالد؟"

فور سماعها اسم خالد، رفعت ماريا يديها بحماس، ولم تمرّ عشر دقائق حتى كانت الطفلة نظيفة، مرتبة، رائحتها لطيفة، وجاهزة لمشاركتهم الفطور.

لم ترغب سالي في مرافقتهم، بل اعتذرت عن مشاركتهم الفطور بسبب إرهاقها. تفهّمت أنيسة وضعها. وقبل أن يخرجوا من الغرفة، التفتت السيدة أنيسة إلى سالي:

"سالي، غدًا الجمعة سيكون يومًا رياضيًا، احرصي على ارتداء ملابس رياضية".

ذهبت سالي إلى غرفتها لتأخذ قسطًا من الراحة بعد تلك الليلة الطويلة، وهي تفكر في اليوم الرياضي الذي أخبرتها عنه أنيسة.

تمددت على سريرها، تتأمل السقف بوهن، وبينما كانت مستغرقة في التفكير، جاءها إشعار على هاتفها.

كانت إحدى الرسائل التي تصلها يوميًا، لكنها هذه المرة مختلفة، فقد وردت إلى بريدها الإلكتروني الشخصي، لا إلى منصات التواصل، ما يعني أن المرسِل لا يرغب في أن تظهر رسائله وسط رسائل الآخرين. وكانت الرسالة:

[صباح الخير أو مساء الخير، بحسب الوقت الذي تقرئين فيه هذه الرسالة،

صادفتني رسائلك، ورسائل متابعيك، ووجدتني قد استغرقت وقتًا طويلًا في قراءتها، حتى نسيت مرور الوقت. وفي النهاية، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أرغب في أن يكون بيننا خط تواصل... لكن من نوع مختلف، وعلى غير العادة.

فكرتُ كثيرًا في شكل هذا التواصل، خاصة أنني لا أُجيد التعبير عن مشاعري أو الإفصاح عنها بسهولة، لذلك أحببت أن يكون تواصلنا على هيئة أسئلة أطرحها عليكِ.

أحب أن أقرأ إجاباتك، وأسمع آراءك. سواء اتفقنا أو اختلفنا، فهذا ما سنكتشفه معًا في النقاش لاحقًا.

ملاحظة:

الأسئلة لن تكون شخصية...]

***

في صباح اليوم التالي، جلست سالي في الحديقة، وقرأت الرسالة مرارًا وتكرارًا، وهي عاجزة عن إيجاد رد مناسب. كانت هذه رسالة مختلفة عن معظم الرسائل التي تصلها، فالجميع يتحدث عن مشاعره ودواخله وينتظر منها إجابة فيها مواساة وتشجيع، أما هذه الرسالة فكانت مختلفة... مختلفة وجذابة أيضًا.

والحقيقة أنها أعجبتها، فلطالما عشقت سالي المناقشات، ولم تجد في حياتها شخصًا لديه القدرة على النقاش إلا جدها، الذي توفي منذ سنين. لذلك، وجدت نفسها تكتب الرد:

[أهلًا..

قرأت رسالتك بإمعان، ولكنني كنت في حيرة من أمري... كيف ستكون إجابتي؟

جعلني أسلوبك أشعر وكأن الأمر اختبار وليس نقاشًا، ولا أعلم إن كنت شخصًا مؤهلًا للإجابة على أسئلتك، ولكنني معجبة جدًا بهذه الفكرة.

أفهم تمامًا صعوبة التعبير عن المشاعر أحيانًا، وأحب أن نتواصل بهذا الشكل المختلف والمثير للاهتمام.

ولأني أحب الخوض في النقاشات، خاصةً لو كانت مثمرة، فأيًا كان اتفاقنا أو اختلافنا، يبقى الحوار هو ما يجعل التواصل ممتعًا وذا قيمة، ويكشف عن عوالم جديدة في نفوسنا.

لذا... أرسل لي أسئلتك في أي وقت تحب، وأنا هنا للإجابة بكل سرور.

ملاحظة أو شرط:

أنا أيضًا سأطرح عليك بعض الأسئلة، لمَ لا؟

في انتظار رسالتك وسؤالك.]

ختمت سالي الرسالة، وانتقلت لأخرى، ثم أخرى، حتى قاطعها صوت خطوات تقترب من خلفها. التفتت بسرعة، لتجد يحيى واقفًا أمامها وهو يقول:

"أشعر بألم هنا".

وأشار إلى حلقه.

***


في غرفة مكتب واسعة وراقية، كان الجو هادئًا، إلا من صوت تقليب الأوراق بين الحين والآخر. جلس خالد أمام الوزير ومساعده، يشبك قدميه براحة وينظر إليهما بتركيز، يقيّم تفاعلهما مع الأوراق الموضوعة أمامهما. في المقابل، جلس محمود إلى جوار خالد بتوتر، يراقب الجميع بريبة.

بعد سلسلة من الأسئلة البسيطة والهامسة، أجاب خالد عليها بثقة ودون تردد. أغلق الوزير الملف، ووضعه جانبًا، ثم شبك أصابعه على سطح المكتب وقال:

"ممتاز، أنا معجب بهذا المشروع".

قالها الوزير بابتسامة هادئة، وهو ينظر إلى خالد، ثم أشار إليه بالقلم وأكمل:

"خاصةً وأنه صادر من شاب في عمرك".

ارتسمت ابتسامة ارتياح على وجه خالد وقال:

"شكرًا جزيلًا، سيادتك. نحن متحمسون للبدء في التنفيذ".

رفع مساعد الوزير نظارته قليلًا وقال:

"ما نحتاج إليه الآن هو مناقشة الميزانية والجدول الزمني. هل لديك تفاصيل إضافية يمكننا الاطلاع عليها؟"

أجاب خالد بثقة:

"نعم، بالطبع. لدينا خطة مفصلة تشمل التكاليف المقدرة والموارد المطلوبة والجدول الزمني لكل مرحلة من مراحل المشروع.
محمود، هل يمكنك تقديم النسخ الإضافية؟"

بسرعة أخرج محمود من حقيبته عدة نسخ من المستندات ووزعها على الوزير ومساعده. وبينما كان يفعل ذلك، قال خالد:

"نحن نؤمن بأن هذا المشروع سيكون له تأثير كبير على المجتمع، وسيساهم في نشر المعرفة وتعزيز الوعي الثقافي".

أومأ الوزير برأسه وقال:

"هذا رائع. ولكن بالنسبة للشباب، كيف تخططون لجذبهم للمشاركة في الأنشطة التي ستوفرها المكتبة؟"

أجاب خالد:

"لدينا استراتيجية شاملة، تشمل تنظيم ورش عمل وندوات تفاعلية، بالإضافة إلى شراكات مع المدارس والجامعات المحلية.
كما سنوفر برامج تدريبية وتنموية تساعد على تطوير مهارات الشباب في مختلف المجالات أما عامة الناس فلدينا الميديا نستطيع التأثير من خلالها".

تبادل الوزير ومساعده النظرات، ثم قال الوزير:

"هذه خطة ممتازة، يبدو أنكم فكرتم في كل شيء. دعونا نحدد اجتماعًا آخر الأسبوع المقبل لمناقشة الخطوات التالية وتوقيع الاتفاقية".

ابتسم خالد وقال:

"بالتأكيد، سيادتك. سنكون مستعدين لأي مناقشات إضافية".

بعد انتهاء الاجتماع الطويل، وقف الجميع وتصافحوا. وأثناء مغادرتهم المكتب، قال محمود لخالد بصوت منخفض:

"لم أتوقع أن يكون الاجتماع ناجحًا".

رد خالد بابتسامة:

"لنستعد للمرحلة التالية".

كان خالد يمشي بسرعة، وفجأة توقف وكأنه تذكّر أمرًا ما. التفت إلى محمود وقال:

"لا تنسَ، لعبة البولينج ليوم غد".

***

قالت سالي وهي تفتح فمها بأداء تمثيلي:

"هيا افتح فمك يا يحيى، قل آه".

أبى الطفل أن يفتح فمه، وقال مُضيقًا شفتيه وضامًّا ذراعيه إلى صدره بعناد:

"لا".

تنهدت سالي، ووضعت يديها الاثنتين بعزم على كتفيه الصغيرين:

"يحيى، ما رأيك أن نعقد اتفاقًا؟ سأفحصك بهذا الخافض الخشبي، وأنت أيضًا تفحصني به؟"

نظر إليها وهو يدرس الصفقة المُغرية، ثم سألها:

"هل أنت مريضة؟"

قالت سالي في سرها:

'ها قد بدأت الأسئلة الوجودية'.

ثم شكت بصوت تمثيلي مضحك:

"أشعر بأن حلقي يؤلمني أنا أيضًا، وأريد من صغيري يحيى أن يفحصه".

وأخذت تكح مدعيةً أنها مريضة، فراح الفتى يراقبها بنظراتٍ مرتابة، ثم قال بتوجّس:

"افحصي نفسك، ألستِ طبيبة؟"

كاد صبرها ينفد، فابتسمت برقة مُبالغ فيها:

"كيف أفعل ذلك؟ يجب أن يساعدني أحد، ربما طبيب صغير لطيف".

رد عليها مُقترحًا، وعيناه الكبيرتان مشبعتان بالفضول:

"سأفعل ذلك أولًا".

تتشبث سالي بهذه الفرصة العظيمة:

"كيف هذا؟ يجب أن تتعلّم مني أولًا، أليس كذلك؟"

فكر الفتى مرة، وأخرى، فقالت وهي تحاول الحفاظ على هذا المستوى من الاقتناع:

"لن يطول الأمر، سنعد من واحد إلى عشرة وينتهي الأمر".

كانت سالي تتحدث مع الفتى العنيد بهدوء، في محاولة لإقناعه، ولإقناع الأطفال عليك أن تتمتع بعقلية سياسية جبّارة حتى تلين عقولهم العنيدة، ولو على مضض.

وبالفعل، وافق الفتى، وهو لا يزال مُترقبًا ويتأملها بحذر.

ففتح فمه، وأدخلت سالي الخافض. لكن الطفل أدرك بدهاء أنه لن يستطيع أن يعد وفمه مفتوح، فنفض يدها:

"لا، لا أستطيع أن أعد!"

تنهدت سالي:

"عزيزي يحيى، سأعدّ أنا بنفسي، وأنت ستعدّ على أصابعك".

وأخيرًا بعد محاولة أخرى، فتح يحيى فمه، وبدأت سالي العد، بينما الفتى يحرك أصابعه بعشوائية، حتى انتهت هذه الجولة الصعبة بسلام.

ثم حان دورها، ففتحت فمها:

"آه".

أخفض الفتى لسانها وهو مستمتع وسعيد بهذه الصفقة المُرضية، حتى حدث ما لم تتوقعه سالي، التي كانت تفتح فمها بثقة. شعرت بالخافض يتعمق داخل مجرى تنفّسها بعنف، فانتفضت ورفست يد الفتى، الذي أخذ يضحك بخبث على ردّ فعلها.

كانت سالي تكحّ بعنف، والفتى المخادع يضحك بصوت عالٍ، فاختلطت الأصوات العالية بين الكحة والضحك، حتى تمالكت الطبيبة الشابة نفسها، وهدأ تنفّسها قليلًا، ومسحت الدموع من عينيها وهي تتأمل الفتى بيأس. ما زال هناك أربعة أطفال ستكشف عليهم. استرجعت بعد ذلك، بفضول، عدد الأيام المتبقية حتى ترحل من هذا المكان.

الكشف على باقي الأطفال كان كارثيًا، ولكنهم كانوا بخير جميعًا، عدا يحيى، الذي قررت وضعه تحت الملاحظة، وعزله احتياطيًا عن باقي إخوته.

ارتمت سالي على كرسي المكتب مُتنهدة، وتفحّصت المكان غير المرتب حولها، وهي تتساءل: من أين أتى هؤلاء الأولاد الخمسة بتلك الطاقة الجبّارة؟ لم تكن تعلم أنهم سيدمّرون المكان بهذا الشكل.

همست وهي تسترخي على الكرسي:

"إنهم مجانين".

***


جلست أنيسة في غرفتها، على سريرها، تغمرها أضواء خافتة، تستمع إلى الراديو الذي أذاع أغنية لعبد الحليم حافظ، 'حاول تفتكرني'.

تبدأ الأغنية، ويأخذ صوت عبد الحليم في ملء المكان برقة وشجن. تجمّد جسدها لبرهة، وصارت حبيسة الكلمات التي تلامسها في أعماق روحها، سجينة مشاهد من ذكرياتها، تلك الذكريات التي أصبحت بعيدة، بعيدة جدًا، تحاصرها من زاوية، وصوت عبد الحليم من الزاوية الأخرى.

ذلك الصوت الرخيم، المليء بالشجن والألم، الصوت الذي رافق شبابها المليء بالحيوية والسعادة والحب، والذي كانت نهايته مؤلمة... كنهاية شبابها.

كرّر عبد الحليم بقسوة على قلبها الحزين:

[وعشنا الحب بالأيام،

وكل بكرة فيه أحلام،

وأتاري كل ده أوهام].

ارتجفت شفتيها، وأخذت نفسًا عميقًا والغصّة ترتفع في حلقها، فأغمضت عينيها بشدّة، وتنهدت مرة أخرى بألم، وعبد الحليم يردد بشجن:

[وسافر من غير وداع، فات في قلبي جراحه

دبت في ليل السهر، والعيون ما ارتاحوا].

وصاح الكورال من ورائه:

[ومنين نجيب الصبر يا أهل الله يداوينا

اللي إنكوى بالحب قبلينا يقول لينا

سافر من غير وداع، من غير وداع، من غير وداع].

وانطلقت الموسيقى التي لا تقل ثقلًا عن المطلع، وبينما هي مستغرقة في أفكارها، سمعت طرقًا على الباب. فتحت عينيها ببطء، تاركةً لحنين الماضي أن يتلاشى رويدًا رويدًا، وكالعادة أدركت من الطارق، كان ابنها وحبها الثاني في هذا العالم. أخفضت صوت الموسيقى وهي تمسح عينيها:

"ادخل يا خالد".

فتح خالد الباب بهدوء، ووجدها تجلس في منتصف سريرها موجهة إليه أجمل ابتساماتها، دلف إلى الحجرة خفيفًا رشيقًا، وقال وهو يجلس على الكرسي المقابل لها:

"ما زلتِ مستيقظة حتى الآن، ما الذي تفكرين به؟"

قالها وهو يتأمل جفونها المنتفخة، مدركًا لحالها، فابتسمت بخفة وأخفضت نظرها متهربة من نظراته الثاقبة التي لطالما سبرت أغوارها، وبعد لحظات رفعت أنظارها إليه قائلةً:

"أخبرني أنت، ما الذي جاء بك؟"

قال خالد متنهدًا براحة وهو يشبك قدميه:

"سمعت صوت الراديو، ولكني في الأساس جئت لأرى أجمل سيدة في العالم".

ضحكت أنيسة بسعادة وقالت:

"إذًا، عملك يسري على أكمل وجه، أخبرني بآخر التطورات".

قال خالد بابتسامة:

"لا أحب المقاطعة، ولكن أبشري، هذه المكتبة ستكون مشروعًا مختلفًا وفريدًا من نوعه".

تنهدت المرأة:

"لو كنت أعلم أنك ستأخذ كلامي على محمل الجد، لكنت خرصت وقتها".

"إذن، هل تقولين إنك نادمة لأنك تسببتِ في إنشاء مكتبة ثقافية كبيرة؟"

"لا أقول ذلك، أيها المتلاعب".

رمقها خالد بنظرة محبة:

"ألم أخبرك يومًا أن كل ما تتمنيه سيصير حقيقة؟"

تذكرت أنيسة ذكرى من الماضي:

كان خالد في عمر الثامنة عشرة ومرحلة الثانوية العامة، حيث كانت تجبره على الدراسة وقراءة الكتب. يومًا ما كانت تساعده في الدراسة والحفظ، وفي لحظة سهو قالت:

"أتعلم يا خالد؟ أحلم بإنشاء دار أيتام، أو مكتبة كبيرة".

ابتسمت بحب وأكملت:

"أريد أن يكون لي دور كبير أخدم به الوطن والمجتمع".

عادت المرأة إلى الواقع، وابتسمت بلطف وامتنان وهي تسحب يده التي قدّمها إليها بطاعة، وقالت وهي تمسح عليها:

"أنت أمنيتي يا حبيبي، وقد حققها الله لي".

"والأطفال؟؟"

أطلقت ضحكة خفيفة وأجابت:

"حلمت أن أنشئ دار أيتام، وقد تحققت الأمنية، ولكن بشكل أجمل، وأكبر".

سكتت لثوانٍ ثم أكملت:

"على الرغم من أن السيطرة عليهم صارت صعبة".

عقد خالد حاجبيه وسألها:

"هل ضايقك أحد الأطفال؟"

"هذا الولد عبد الله صار أعنف من قبل".

"ماذا فعل؟"

"دفع سالي من على السلم، وكاد أن يدفع عليّ".

سألها خالد بفضول عند ذكر اسم سالي:

"هل هي بخير؟"

تأملته المرأة وهي تحاول إخفاء ابتسامتها:

"نعم، حمدًا لله، تداركتُ الأمر".

"لماذا لم تخبريني؟"

تنهدت قائلة:

"كنتَ مشغولًا بأمر المكتبة، لا أريد أن أُعطّلك عن مشاغلك".

مرت لحظات صمت، ثم عدّلت المرأة وضعيّتها على السرير وقالت:

"وأعتقد أن هناك مشكلة بين أحمد ونور، هل لاحظت؟"

هزّ خالد رأسه بشرود، وما زال جزء من أفكاره متوقفًا عند سالي، فنبهته المرأة قائلة:

"خالد، هل أنت معي؟"

نظر إليها بهدوء وقال:

"نعم، أعتقد أن الأمور بينهما ليست على ما يرام".

"هذا غريب، هذان الطفلان لم يفترقا منذ لقائهما. حتى فرح، أظنها تخفي أمرًا ما".

تذكّر خالد فرح، كانت أمه أيضًا تشك في أمرها، وليس هو وحده. سمعها تكمل حديثها مقاطعة أفكاره القلقة التي يخفيها جيدًا:

"وحسن تم رفده، أشعر بالخوف عليهم يا خالد، ألم تخبرك تلك السيدة فايزة من الوزارة متى ستأتي؟"

هزّ رأسه نافيًا، فتنهدت المرأة بيأس وهي تقول:

"أنا قلقة حقًا، جميعهم لديهم مشاكل، ربما تأخذهم الوزارة".

قال وهو يطمئنها:

"ماما، لا تقلقي. هذا أمر طبيعي، هم ما زالوا أطفالًا ومراهقين، وتواجههم المشاكل التي تواجه جميع من هم في مثل أعمارهم".

تجعدت ملامحها بالبكاء:

"أخاف أن تأخذها تلك المرأة ذريعة لسحبهم منّا!"

شدّ على يدها بثقة وقوة وهو يقول:

"لا تقلقي، أنا أثق فيهم".

كان خالد واثقاً من قدرته على حمايتهم جميعاً، وكلمته لم تكن مجرد كلمة بل وعد قاطع.

***

في غرفته، جلس محمود وهاتفه بين يديه يتأمله باهتمام. كانت الساعة التاسعة وتسعًا وأربعين دقيقة. مسح الرسالة التي كتبها للمرة العشرين على الأرجح، ثم كتبها مرةً أخرى:

'دكتورة سالي، مساء الخير. يبدو أنني غير مشغول الآن، ما رأيك أن ترسلي لي اسم كتاب؟'

تساءل في نفسه:

'هل أرسل إليها الرسالة في مثل هذا الوقت؟ أم أنه ليس من اللائق؟'

لم يكن الأمر أنه متلهف ليقرأ، ولكن التواصل معها بشكل طبيعي كان هدفه. الدكتورة سالي التي لفتت نظره من المرة الأولى، كان منجذبًا لها بشكل واضح، وهذا لم يحدث منذ زمن بعيد. والآن، عليه أن يقوم بتلك الخطوات ليتقرّب منها. ولكن شعور الخوف كان يغلبه؛ فمن الواضح أنها شخصية منغلقة، وربما تدفعه بعيدًا عنها. بالإضافة إلى أنه لا يضمن أنها ستبادله نفس الشعور.

كاد أن يمسح الرسالة مرةً أخرى، لكنه انتبه فجأة صارت "متصل".

"إذًا، هي مستيقظة."

ولم يشعر محمود بنفسه إلا وقد ضغط على زر الإرسال. وتعالت دقات قلبه بمرور الثواني حتى وصلت إلى أذنيه. وعندما لمح كلمة "يكتب"، أغلق الهاتف بسرعة. مرت الحظات، حتى سمع نغمة الرسائل ترتفع من هاتفه. وبعد ترددٍ لبضع دقائق، أمسك الهاتف أخيرًا بشجاعة وفتح الرسالة:

[مستر محمود، أعتذر على تأخري. إليك هذا العنوان: "الأمير الصغير – The Little Prince" للكاتب أنطوان دي سانت إكزوبيري.]

وختمت سالي الرسالة:

[أتمنى أن يعجبك. تصبح على خير.]

نهض محمود بسرعة من سريره، وارتدى ملابسه في ثوانٍ، وذهب إلى أقرب مكتبة. وقضى ليلته كاملة في قراءة قصة الأمير الصغير.

***


جاء يوم الجمعة، وقد كان يومًا رياضيًا بالفعل كما قالت السيدة أنيسة. تم تجهيز الحديقة بمعدات رياضية: كرة قدم، كرة سلة، طاولة تنس، مضارب، كرات، حبال، بالإضافة إلى زجاجات المياه والمشروبات المنعشة، ووجبات خفيفة وغداء، وبالطبع جوائز رمزية للفائزين. كما تم إعداد مكبر صوت للإعلانات والموسيقى، يكفي تغطية مساحة المنزل دون إزعاج الجيران، وكانت مهمة تشغيله موكلة إلى ندى، ابنة الأخ الذكية.

كان كل ما تعرفه سالي عن الرياضة هو الركض، وقد كانت أسرع طالبة في مدرستها. لكنها أعجبت بتلك الفكرة التي لم تخضها من قبل، وفكرت في مدى طرافة تلك العائلة، وابتكارهم لأجواء ترفيهية تسعد الأطفال. بالتأكيد، الحياة في هذا المكان كانت مختلفة تمامًا عمّا توقعته، حياة ممتعة وتجارب جديدة ومسلية، وهذا ما جعلها تتأكد أكثر فأكثر أنها ستحزن عند مفارقتها.

كانت قد بحثت في ملابسها عمّا يناسب الرياضة، بينما ارتدى الشباب والأطفال في المنزل جميعًا ملابسهم الرياضية، وجلس الآخرون كمشجّعين، ومعهم يحيى الحزين، الذي بدأت تظهر عليه أمارات المرض.

تحدثت السيدة أنيسة، كبيرة العائلة:

"صباح الخير أعزائي، نظراً لأهمية الأنشطة الرياضية ودورها في تعزيز الصحة البدنية والعقلية، سننظم يوماً رياضياً مليئاً بالفعاليات الممتعة للجميع. اشحنوا طاقتكم فاليوم سيكون حافل، هل أنتم مستعدون؟".

صرخ الأطفال الصغار بحماس، تابعتهم المرأة بابتسامة وقرأت ما في الورقة:

"جدول الفعاليات:

"أولاً: الافتتاح والترحيب (9:00 - 9:15 صباحاً)"

نظرت المرأة من تحت نظارتها وقالت:

"وهذا ما بدأ للتو".

ثم أكملت:

"تتجمع العائلة في الحديقة، ثم كلمة ترحيبية قصيرة من أحد أفراد العائلة الكبار، وهو أنا، ثم توضيح جدول الأنشطة والتوجيهات العامة".

صرخت فرح بملل:

"ماما اختصري، الجو حار!".

لكن أنيسة اكتفت بتوسيع ابتسامتها وأكملت:

"ثانياً: تمارين إحماء خفيفة (9:15 - 9:30 صباحاً)، بإشراف أحد الأفراد المهتمين بالرياضة، ثم تمارين تمدد وتنشيط العضلات".

"ثالثاً: الأنشطة والرياضات الجماعية (9:30 - 11:30 صباحاً)، مباراة كرة القدم في ملعب 1، ومباراة كرة السلة ملعب 2، ثم دوري تنس طاولة بين أفراد العائلة".

"رابعا: استراحة وتناول وجبة خفيفة (11:30 - 12:00 ظهراً)، سنقدم وجبات خفيفة مصنوعة بحب من ست ذكية، وبالطبع مشروبات منعشة، ولا بأس من بعض الأحاديث الجانبية".

"خامساً: أنشطة تنافسية خفيفة (12:00 - 1:30 ظهراً) تتضمن مباراة شد الحبل بين فريقين، ثم سباق الجري بالتناوب، ثم سباق أكياس، سيتم تقسيم الجميع إلى فريقين متعادلين في الأعمار المشاركة، والفريق الفائز في نشاطين هو المنتصر في هذه الجولة".

"سادساً: استراحة وتناول وجبة الغداء الجماعية في الهواء الطلق (1:30 - 2:30 ظهراً)".

"سابعاً: الألعاب الترفيهية (2:30 - 4:00 عصراً)، تتضمن لعبة البحث عن الكنز في الحديقة، وللعلم الكنز مفاجأة، ثم لعبة الكراسي الموسيقية، وهناك لعبة البولينج باستخدام زجاجات بلاستيكية، لأن عزيزنا محمود نسي شراؤها".

نظر الجميع إلى المتهم، الذي عدل نظارته بحرص متفادياً الأنظار الثاقبة الموجه إليه.

"ثامناً: الاختتام وتوزيع الجوائز (4:00 - 4:30 عصراً)، سيتم توزيع الجوائز الرمزية على الفائزين في الأنشطة المختلفة، وبالطبع كلمة ختامية وشكر لجميع المشاركين".

نظرت أنيسة إلى سالي:

"الآنسة سالي، من فضلك تأكدي من وجود أدوات الإسعافات الأولية في حالة حدوث إصابات طفيفة، ومن تنظيم الأنشطة بحيث تكون مناسبة لجميع الأعمار ومستويات اللياقة البدنية. والسيدة منى من فضلك، التأكد من توفير مناطق مظللة للراحة والحماية من أشعة الشمس".

ختمت المرأة حديثها أخيراً:

"وفي النهاية، يهدف هذا اليوم الرياضي إلى تعزيز الروابط العائلية بيننا جميعاً. نتمنى أن يقضي الجميع وقتاً ممتعاً، ولا تنسوا العقل السليم في الجسم السليم".

همس حسن الذي يقف بجوار سالي:

"ماما أنت حقاً تبالغين، وكأنك الرئيس".

سمعته سالي وابتسمت، ولم تمر دقائق حتى جاء عم حمدي يُخبر السيدة أنيسة أن العائلات من المنازل المجاورة أرسلوا أطفالهم، فأخبرته السيدة أنيسة أن يفتح البوابة لهم، وكانت تعلم مسبقًا بقدومهم، فهي من اقترحت على أولياء الأمور والجيران إرسال أطفالهم.

وهكذا تم ترتيب الأمور لتجري حسب الخطة، فبدأ اليوم بتمارين الإحماء التي أدارها حسن بنفسه بصفته الرياضي فيهم، والباقون اتبعوه بجد، حتى خالد، الذي كان يبدو مرتاحًا ومبتسمًا دائمًا. شعرت سالي أنها أُرهقت في أول خمس دقائق، لكنها أكملت بإصرار، رغبةً في الاستفادة من هذا اليوم بدنيًا.

انتهت تمارين الإحماء وبدأت الألعاب الجماعية التي تضمنت كرة القدم والسلة، ولم يكن لسالي أي دور فيها بسبب خبرتها المحدودة، فتولّى الأولاد تنظيم الفرق بأنفسهم، وقُسّموا إلى فريقين: الأحمر والأزرق. أما الآخرون فكانوا مشجعين.

كانت الروح الحماسية طاغية، وكل فريق يسعى للفوز، وبالطبع حدثت بعض الإصابات الطفيفة التي لم تتعدَّ الخدوش والجروح الصغيرة، خاصةً لدى الأطفال، وقد تعاملت سالي معها بسهولة. في نهاية الجولة، وصلت منافسة تنس الطاولة إلى مباراتها الأخيرة بين خالد ومحمود. كانت مباراة حامية، أظهر فيها كلاهما مهارة لافتة، حتى شعرت سالي وكأنها تتابع مباراة محترفين لا هواة. وانتهت بفوز خالد، ليس لأنه الأفضل، بل لأن لارا وفؤاد كانا يتشاجران بالقرب من محمود، فدفعاه بلا قصد ما أفقده تركيزه، ولم يتوانَ خالد عن اغتنام الفرصة ومضايقته بعدها.

بعد الجولة الأولى، أخذ الجميع استراحة نصف ساعة، ووزعت الوجبات الجانبية والمشروبات الباردة. علت أصوات الأولاد وهم يتحدثون عن انتصاراتهم، لكن صوت الصراخ الصادر عن لارا وفؤاد كان الأعلى، إذ استمر شجارهما منذ نصف ساعة بسبب كرة السلة، وانضم إليهما علي وسارة وصغيران من الجيران. وفي النهاية، فضّت السيدة منى الشجار، وعاقبت التوأم بضرب خفيف على مؤخرتيهما، بالطبع بعيدًا عن الأنظار.

بعد الاستراحة، بدأت فقرة الأنشطة التنافسية، والتي شاركت فيها سالي هذه المرة. ومرةً أخرى، تم تقسيم الجميع إلى فريقين: الأحمر والأزرق. الفريق الأحمر ضم: محمود، سالي، فرح، أحمد، ليلى، سارة، علي، وخمسة من أطفال الجيران. أما الفريق الأزرق فضم: خالد، حسن، عبد الله، ليان، أميرة، فؤاد، لارا، إسراء، وأربعة من أطفال الجيران.

وُزعت على كل فرد أشرطة بلون فريقه ليربطها على معصمه، وبدأ التنافس بشد الحبل. كان فريق الأحمر في طريقه إلى الفوز، لكنه تراجع عندما نشط حسن فجأة وأظهر قوته، فحقق النصر لفريقه، وسُجّلت النقطة لصالح الفريق الأزرق.

الجولة التالية كانت سباق التتابع بالعصا. بدأ خالد ومحمود الركض، وكل منهما يحمل عصًا، تقدم محمود وسلمها إلى فرح، وخالد سلمها إلى حسن، وهكذا بالتناوب. تأخر الفريق الأحمر بضع ثوانٍ بسبب الأطفال الصغار، وقد لاحظت سالي ذلك جيدًا. كانت آخر من يركض في فريقها، فرفعت شعرها الأسود إلى أعلى، واستنشقت الهواء بعمق ثم أطلقته بقوة، وأطلقت معه ساقيها إلى أقصى ما يمكن. وبفضل سرعتها التي كانت تُعرف بها منذ المدرسة، تمكنت من منح فريقها الفوز، فتعادلت النتيجة.

أما اللعبة الأخيرة، فكانت سباق الكيس، وكانت الفاصلة. لكن خالد رفض المشاركة، وكذلك حسن، وتركوا المسابقة للأطفال. حسمها لارا وفؤاد اللذان أطلقا طاقتهما غير المحدودة، فانتصر الفريق الأزرق بنتيجتين مقابل واحدة.

خرج الجميع من المنافسة مبللين بالعرق، ووجوههم مصبوغة بلون أحمر من كثرة الحماسة. كانت ماريا الصغيرة تجلس على ساق المربية وتشجع بحماس، تثرثر بكلمات خرقاء غير مفهومة لكنها ظريفة. حملها خالد وربط معصمها بشريطه الأزرق وقبّل خديها السمينين.

لمحت سالي، التي كانت تجفف وجهها بالمنشفة، هذا المشهد. شعرت بدفء يتسلل إلى قلبها وهي تلمح مثل هذه المشاهد الإنسانية يوميًا أمام عينيها.

قاطع تلصصها صوت صادر من خلفها:

"آنسة سالي".

التفتت سالي، لتجد محمود يقف خلفها ويقدم إليها زجاجة مياه مثلجة، أخذتها منه وشكرته على لطفه وهي تجلس على أقرب مقعد.

قرّبت الزجاجة من شفتيها. وجلس محمود بجوارها وهو يقول:

"أنهيت قصة الأمير الصغير".

أزاحت سالي الزجاجة من أمام شفتيها، ثم نظرت إليه وقالت والحيرة في عينيها:

"هل أنهيتها في ليلة؟"

ابتسم محمود بطيبة، وظهرت الهالات تحت عينيه، ما جعل سالي تضحك بصوت منخفض على هذا الرجل، الذي رمقها بحيرة قائلاً:

"هل هناك مشكلة؟"

تنهدت سالي، والابتسامة لم تفارق عينيها، وقالت:

"لا بالطبع، ولكني أرسلت إليك اسمها الساعة العاشرة مساءً، اعتقدت أنك ستقرؤها لاحقاً".

رد محمود، وهو يتذكر ارتداءه ملابسه على عجل وذهابه إلى أقرب مكتبة لشراء الرواية وقراءتها طوال الليل، فقطعت سالي أفكاره:

"حسناً، ما رأيك فيها؟"

قال محمود بحيرة:

"جميلة.. تخيّلت من غلافها أنها للأطفال، لكنها مليئة بالإسقاطات".

اتسعت ابتسامة سالي مرة أخرى، فسألها ببساطة:

"هل قلتُ شيئًا خاطئًا؟"

"لا شيء، ولكن يبدو أنك قارئ متمرس".

تذكّر محمود جملتها التي قالتها سابقًا:

'أي شخص يستطيع فك الحروف، إذن هو قارئ متمرس، لكنه لم يستكشف فقط هذه الموهبة.'

سألته سالي:

"ما القصة التي أعجبتك فيها؟"

تأمل الرجل السماء بحيرة، وهو يتخيل الكواكب التي زارها الأمير الصغير، وقال بهدوء:

"الأمير ووردته".

عقدت حاجبيها وهي تتذكر القصة:

"قصتهم حكمها الكبرياء، ثم انتهت بالفراق والوحدة".

التفت محمود ليتأمل سالي، التي رفعت شعرها المجعّد بنعومة إلى أعلى، وقال وهو يشعر بغصة في قلبه:

"شكراً لك على هذا الاختيار".

نظرت سالي إليه، وضاقت عيناها في ابتسامة جميلة، وهي تقول:

"على الرحب".

كان محمود رجلاً لطيفًا، وشعرت ببعض الاهتمام الصادر منه. لم يكن الأمر وكأن لديها اهتماماً مماثلاً، لكنها قررت أن تتعامل مع الجميع هنا في المنزل ببساطة، دون أية حساسيات، على الرغم من أن هذا لم يكن طبعها.

قريباً سترحل عن هذا المنزل، فلا بأس ببعض الصداقات اللطيفة والأحاديث المريحة.

وبينما هما يتحدثان براحة، غطاهما ظل طويل، كان لخالد، الذي وقف أمامهما وتأمّلهما بغموض. نظرت سالي إليه بحيرة، ونهض محمود على الفور. قال خالد وهو ينظر بين الاثنين ببرود:

"سنلعب جولة أخرى من تنس الطاولة، هل تحبان المشاركة؟"

نظرت سالي بينهما بارتباك، وقالت:

"لم ألعبها من قبل".

نظر خالد إلى محمود بثبات، وقال، وهالة الظلام تنبعث من حوله:

"أنت، تعال معي".

"لكن هذا وقت الغداء!"

"الغداء لم يُجهز بعد، وما زال لديّ بعض الطاقة، هيا تعال".

وتلقّى محمود، الذي يجيد تلك اللعبة بمهارة، هزيمة ساحقة مع بعض الكرات التي تطايرت إلى أماكن متفرقة من جسده، وخرج منها وهو عازم ألا يشارك هذا الرجل المجنون اللعب مرة أخرى.

كان الغداء لذيذًا في هذا اليوم بشكل خاص، رغم أن الجميع تعوّد طعام ذكية الشهي. لكن اختلافه ولذّته اليوم كان سببه التجمع الكبير والجوع الشديد. وعلى الرغم من الصخب والأصوات العالية، خفت العالم في أذني سالي، وكأن الستار ارتفع عن عينيها لأول مرة.

لم تكن هذه الشمس شمس اكتئابها، ولا هذا الصمت هو صمت وحدتها، بل كان صمتًا جميلاً، لذيذًا، تحاوطه الطمأنينة والأمان، لا الخوف والقلق. كان إحساسًا مختلفًا شعرت به لأول مرة منذ إسدال الستار على روحها.

أغمضت عينيها لثوانٍ لتستشعر أكثر تلك المشاعر المختلفة، فإذا بضربة خفيفة على كوعها تقطع شرودها. نظرت إلى جانبها، فوجدت حسن يهمس دون أن يلفت الأنظار:

"هل لديكِ وقت لنتحدث في المساء؟"

مالت سالي برأسها وهي تتأمله، كان الفتى يريد التحدث معها بالتأكيد بخصوص فرح، فردّت عليه بهمس:

"بالطبع، سأنتظرك في مكتبي".

بعد الطعام والاسترخاء لمدة لا بأس بها، بدأت الفقرة الأخيرة، وهي الألعاب الترفيهية الخفيفة، والمخصصة للأطفال. وكانت ندى هي الشخصية الرئيسية في هذه الفقرة، حيث اعتمدت الألعاب عليها بشكل خاص. الفتاة كانت متحدثة طريفة ولطيفة، واستطاعت أن تدير الألعاب بشكل جيد.

اللعبة الأولى كانت الكراسي الموسيقية، والتي فازت فيها سارة، أما لعبة الكنز ففاز بها أحد أطفال الجيران، وكان الكنز صندوقًا كبيرًا يحتوي على تشكيلة من ألعاب الأطفال التي أحضرها خالد. بكت لارا لأنها لم تفز في أي لعبة، وأثارت ضجّة أنهاها خالد بحملها ومواساتها.

في نهاية اليوم، تم توزيع الجوائز على الفائزين في الجولات. كانت الجوائز تتراوح من ألعاب أطفال إلى مستلزمات رياضية، ومن لم يحصل على هدية، حصل على الحلوى. وانتهى اليوم الرياضي الحافل، وكان الجميع حقًا سعيدًا بهذا اليوم، حتى أن أطفال الجيران طلبوا من السيدة أنيسة تكرار هذا اليوم، فوعدتهم المرأة بحب، ثم ألقت كلمتها الختامية:

"أعزائي، في ختام هذا اليوم الرائع، أود أن أعبر عن امتناني العميق لكل من ساهم في نجاحه. لقد كان يومًا حافلًا حقاً بالروح الرياضية العالية."

نظرت المرأة إلى لارا، التي كانت متعلقة برقبة خالد، ثم أكملت:

"أهنئ جميع الفائزين بالجولات على أدائهم المميز، وحماسهم. كما أتمنى أن تكون الجوائز التي حصلتم عليها قد أسعدتكم.

وللأطفال الذين لم يحصلوا على جوائز، المرة القادمة بالتأكيد ستكونون من يحصل عليها.

وأخص بالشكر الست منى، والست ذكية، وندى التي تؤلمها أحبالها الصوتية الآن، لقد بذلوا جميعًا جهدًا كبيرًا في تنظيم هذا اليوم. 

ختامًا، أتمنى أن تحملوا معكم ذكريات جميلة من هذا اليوم، وأن نكرره مرةً أخرى في أقرب."

في نهاية ذلك اليوم الرائع، اتفق الجميع على أن يكون يوم الجمعة القادم مخصصًا لرحلة تخييم، ولكن لم يتم تحديد الوجهة، لذلك تُرك الأمر للتصويت والإجماع على مكان واحد. ومنذ ذلك الحين، أحبت سالي أيام الجمعة في هذا المنزل، وليس في أي مكان آخر.

وفي العشاء، جلس حسن بجوار سالي عمدًا، وتبعته السيدة منى، التي رأت سالي تهمس له بأنها ستنتظره في المكتب. فتدخلت، والقلق على محياها، وهي تقلب نظرها بينهما:

"هل هناك خطب؟"

نظر الفتى للمرأة بضجر، وقال:

"لا شيء، أشعر ببعض التعب".

أخفضت سالي رأسها دون تعليق، وسمعت منى تسأله:

"منذ متى؟"

نظر الفتى إليها بحدة:

"هل أنتِ طبيبة؟"

تأملت منى الفتى الفظ، وظهر اليأس على ملامحها.

"ما الأمر؟"

التفت الثلاثة إلى مصدر الصوت، كان خالد ينظر إليهم بفضول، فردّت السيدة منى بارتباك:

"لا شيء، مستر خالد".

نظر إليهم الرجل بريبة، خاصةً إلى سالي وحسن، اللذين تهرّبا من نظراته العميقة، حتى مرّ الأمر في النهاية مرور الكرام.

***


بعد العشاء، انتظرت سالي في مكتبها حتى سمعت طرقًا خفيفًا، فأمرت بالدخول، ليدخل الفتى مغلقًا الباب خلفه بهدوء. اعتدلت سالي في جلستها أمام الفتى، الذي أخذ مقعدًا يواجهها. بعد ثوانٍ من الصمت، تحدث الفتى:

"تم فصلي بسبب فرح".

سألته سالي، التي كان لديها شعور عميق بذلك:

"وماذا فعلت ليتم فصلك؟"

رد الفتى ببساطة:

"رأيت زميلاتها يحرضنها على القيام بهذا الأمر، فكسرت باب الحمام الخاص بالفتيات".

تفاجأت سالي، فقد توقعت أي تصرف قد يصدر منه، إلا هذا التصرف المريب، فسألته بشك وخوف:

"وكيف كسرته؟"

قال الفتى بفخر، وارتسمت أول ابتسامة على وجهه رأتها منذ تعرفها عليه:

"بقدمي".

رمشت سالي بذهول وهي تتأمل البنية القوية للفتى، ثم وضعت كفها بيأس على صدغها واستندت، وهي تشعر بالعجز:

"وهل علم أحد بأمر فرح؟"

رد الفتى:

"لا، لم أخبر أحدًا حتى الآن، ولكن هذا اختبار لصبري".

نظرت سالي إليه، بالطبع مراهق يكسر الباب بقدمه بالتأكيد لن يمتلك الكثير من الصبر، فقالت والخوف يتملكها:

"حسن، لا داعي للتهور، هل تعرف زميلاتها؟"

فكر الفتى، ثم أجاب:

"أعتقد أنني أعرفهن، ولكن لا أتذكر أسماؤهن".

"هذا جيد، أريدك أن تسأل عن أسمائهن وتخبرني بها في أقرب وقت، وأتمنى أن يكون ذلك غدًا".

أكملت في سرها:

'فلم يعد لدي الوقت الكافي.'

سكت الفتى، ولمحت سالي مشاعر الضيق على وجهه، فسألته:

"هل هناك شيء آخر؟"

توترت نظراته، ثم استقرت فجأة، ونظر إلى سالي مباشرةً:

"سمعتها تقول إن لا عائلة لديها".

تفاجأت سالي، لكنها لم تُعلّق، فأكمل الفتى حديثه وعيناه تلمعان بالضيق فجأة:

"لا أعلم سبب قولها هذا الكلام، ولا أعلم أيضًا سبب غضبي الشديد منها".

كانت سالي في مواجهة مشاعر إنسانية متأججة لم تواجهها من قبل، هذا الغضب والضيق الذي يفيض من جسد الفتى لم يكن عاديًا، وكأن فرح وتلك الفتيات الغبيات أشعلن شيئًا بداخله ولم يعلمن العواقب. وكان عليها أن ترد بسرعة وتتدارك الموقف، لكن بحكمة.

شدد حسن قبضته وهو يسترجع ذلك اليوم، لم يتوقع أن تصدر تلك الكلمة من فرح عن عائلتها وأمام أصدقائها، ومنذ الأمس يتساءل:

'كيف وضعت نفسها في هذا الموقف؟ ألا ترى أن لديها عائلة بالفعل؟ أم أن لديها اعتقادًا آخر؟'

"أعتقد أن تصرفك كان ردًا عليها".

جاءه الرد مباشرة من سالي. رفع الفتى رأسه بحيرة، فقالت بهدوء وابتسامة جميلة على محياها:

"لا أعلم، ولكن لو كسر أحد الباب الخاص بحمام الفتيات من أجلي، فهو بالتأكيد عائلتي".

تسمر حسن أمام ابتسامتها المحبة، لتكمل سالي:

"على الرغم من تهورك، إلا أن تصرفك هذا صدمني وأسعدني في نفس الوقت".

سكتت، ولاحظ حسن أن ابتسامتها تغيب وملامحها تظلم، وهي تتأمل الوهم أمامها قائلة:

"لطالما كنت أتساءل عن معنى العائلة الحقيقي".

رفعت رأسها، ثم أشرق وجهها مرةً أخرى، وهي تقول بخفة ظل:

"واليوم أدركت جزءًا من الإجابة".

صمتت أمام صمت الفتى، وبعد لحظات قالت بخفة:

"لا تخبر أحدًا أنني أخبرتك بذلك، سيعتبرون هذا تشجيعًا لتصرفك الخاطئ تمامًا".

لم يرد حسن عليها، وحديثها السابق يتردد في عقله، فنظر إليها، ثم سألها:

"ما الذي ستفعلينه؟"

قالت سالي، وابتسامتها تستر خلفها غضبًا من هؤلاء الفتيات اللئيمات:

"سأقابل هؤلاء الفتيات".

سألها حسن:

"وهل هذا حل للمشكلة؟ أقصد... هل هذا سيجعل فرح تقلع عن ذلك الأمر؟"

تنهدت سالي عندما فهمت مقصده، ثم قالت:

"علينا أن نبعدها عن هؤلاء الفتيات أولًا، نُسيطر على البيئة من حولها، وفي الوقت نفسه نعالج المشكلة بهدوء. تأكد أن ما تفعله فرح بإيذاء نفسها ليس فقط لأنها تعلّمت ذلك من زميلاتها، بل لأنها نفسيًّا مستعدّة لذلك. هناك دافع داخلي يُحبب إليها هذا التصرف المؤذي. مشكلة فرح يا حسن نفسية، على الأقل جزء منها."

وبعد لحظات من الصمت، قالت براحة:

"ولكن ما يطمئنني أن فرح تشعر بالذنب، وتريد الإقلاع عن هذا الأمر، وهذا في حد ذاته إشارة جيدة".

سألها:

"هل تحدثت معها؟ هل هي بخير؟"

تفاجأت سالي من سؤال الفتى، الذي ظهر الفضول والقلق في عينيه. إنه حقًا قلق على أخته:

"لا تقلق عليها يا حسن، الأمور ستكون بخير طالما نحن بجوارها".

هدأت نظرات الفتى المشتعلة، وسكن غضبه عند رؤيته تلك الابتسامة المطمئنة من سالي، ربما كان هذا ما يحتاجه، شخص يطمئنه على أخته، ويخبره أنها ستكون بخير.

بعد ثوانٍ، استأذن الفتى، وفور خروجه، انساب الضغط من أجواء الغرفة معه، وأطلقت سالي أنفاسها المحبوسة. كان موقفًا تجلت فيه نفس حسن بوضوح، وكان عليها أن تطمئنه وتتعامل معه بحرص وثقة.

وبعد دقائق، نهضت سالي من مكتبها الذي رتّبته، وأغلقت الأنوار، ثم فتحت الباب... لتتفاجأ، وتخطو إلى الخلف خطوتين.

نهاية الفصل التاسع.

وتستكمل القصة في الفصل القادم.

لا تنسوا الvote من فضلكم

***


أعزائي القراء فصل جديد من رواية المنزل خلص، مجهود كبير جداً بذلته ولكن بحب، في الفصل ده كنت حابة أوصل فكرة مهمة، وهي فعاليات الرياضة، على الرغم ان ده مش بيحصل في الأمر الواقع، لكن أتمنى يبقى جزء من ثقافتنا، تنظيم الأسر لفعاليات رياضية يشارك في كل أفراد الأسرة، أتمنى أكون قدرت أوصلكم المشاعر بشكل أدق ومحسوس.

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

رواية المنزل:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.


رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق