الخميس، 17 أكتوبر 2024

رواية المنزل: الفصل الرابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل الرابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الرابع والعشرون




مزيكة انهاردة تتر مسلسل أين قلبي، واحد من مفضلاتي للموسيقار ياسر عبدالرحمن.

***

أمام باب المنزل كانت هُناك حقيبة سفر، ووقف الجميع يودعون خالد الذي يتشبث به الصغار باكيين. وضعت أنيسة يدها على خده بحب وقالت:

"إلى اللقاء بُني، لا تتأخر علينا".

كانت المرأة عاطفية جداً في هذا الموقف، فابتسم خالد قائلاً:

"إلى اللقاء ماما، لا تقلقي سأعود في أقرب وقت".

ذرفت أنيسة دموعها الساخنة وقالت:

"سأنتظرك يا بُني".

تذمرت فرح وهي تضع يدها على كتف المرأة العجوز:

"ماما، لماذا أنت عاطفية جداً اليوم، هذه ليست أول مرة يسافر فيها أبيه".

ولكن الجميع لم يفهموا لماذا كانت المرأة عاطفية جداً هذه المرة. في الواقع كانت أنيسة تفكر في مدى دمار حالتها، وعدم شعورها بأي أمل. ومع كل فكرة تُهاجمها، زاد شعورها باليأس. كان يُناوبها شعور بأنه ربما لا تكون لديها الفرصة لاستقبال خالد على قدمها هذه المرة، أحاطتها الكثير من الشكوك والتنبؤات أن حالتها ستتدهور، أو لأن حالتها بدأت بالتدهور بالفعل، والحقيقة ستظهر بالتأكيد قريباً. مسحت المرأة عينيها بالمنديل، بينما أحاط خالد كتفها بذراعه قائلاً للجميع:

"يا أولاد كونوا جميعاً مهذبين، لا أريد أن أسمع عنكم أية مشاكل".

نظر إلى فرح التي تذمرت وقالت:

"لماذا تنظر إليّ أنا يا أبيه، انظر إليهم جميعاً".

فابتسم خالد وبدأ يودع جميع الأطفال، وخلفه محمود يشاغب الصغار، وعندما وقف خالد أمام سالي، قال مُبتسماً وهو يمد يده إليها:

"إلى اللقاء دكتورة، أراك قريباً".

احمر وجه سالي وشعرت بالتوتر وهي تضع يدها في يده قائلةً:

"إلى اللقاء مستر خالد، أتمنى أن تكون رحلتك ناجحة".

حتى محمود ودعها بحرارة وهو يتمنى أن يحين الوقت ليفصح لها عن مشاعره الخاصة، فالفترة السابقة كان قد تأكد من مشاعره تجاهها. كان حقاً مُغرماً بها إلى الدرجة التي جعلته ينشئ مكتبة صغير في غرفته، ويضع فيها كل الكتب التي رشحتها له، وكتب على كل كتاب التاريخ الذي رشحته فيه سالي، والحرف الأول من أسمها. كان حقاً مُغرماً بها إلى درجة فائقة، سألها وهو يتأملها مُغرماً:

"هل هُناك ما ترغبين فيه كهدية؟".

فكرت سالي قليلاً وقالت:

"بالتأكيد أرغب في هدية، ولكنِ سأترك الأمر لك، انتقي ما تراه مُناسبا".

"إذاً..".

وقبل أن يرد محمود عليها، قاطعه خالد:

"إذاً هيا بنا يا محمود، سنتأخر".

نظر محمود إلى خالد الذي راقبهم بضيق، والتفت مرةً لأخرى إلى سالي قائلاً:

"إذاً إلى اللقاء".

غادر خالد في رحلة عمل هامة، تاركاً المنزل في عهدة السيدة التي تحمل في قلبها سرًا ثقيلًا، سرًا يكاد يكون أكبر من قدرتها على تحمل المسؤولية التي أوكلت إليها. ذلك السر الذي سيعوقها عن تولي شئون المنزل في غياب خالد، وسرعان ما سيضعها أمام مواجهة لا مفر منها.

***

تجولت أنيسة بخطوات هادئة داخل دفيئتها، حيث امتزجت رائحة التربة الرطبة بعبق الورود زاهية الألوان. كانت أصابعها تمر برفق على بتلات الزهور، وكأنها تتحدث معها بلغة لا يفهمها سواها. بعض الورود كانت في كامل رونقها، تتباهى بألوانها الزاهية، وأخرى كانت تحتاج لبعض الرعاية، فانحنت لتسقيها مراقبة قطرات الماء وهي تنساب بين الأوراق. شعرت بالطمأنينة وسط هذا العالم الصغير الذي صنعته بيديها، وكأن الوقت توقف هنا. وبينما كانت منهمكة في تفقد إحدى الورود التي بدأت تتفتح للتو، سمعت صوتًا من الخارج. رفعت رأسها بانتباه، وأخذت تستمع، حتى اخترق السكون صوت سالي يناديها برقة، فأفاقت من تأملاتها والتفتت نحو الصوت:

"ست أنيسة".

لم يصل إلى سالي رد فوري على ندائها، ولكنها سمعت صوت أقدام المرأة تقترب وتفتح الباب وتمد رأسها:

"سالي، هناك خطب ما؟".

"أريد فقط الحديث معك".

قالتها سالي بتردد، فألقت المرأة نظرة سريعة نحو الحديقة الفارغة، وكأنها تتأكد من خلو المكان، ثم فتحت الباب ببطء ونظرت إلى الشابة بابتسامة خفيفة، قائلة:

"إذاً ادخلي يا ابنتي".

توقفت سالي للحظة مترددة قبل أن تخطو إلى الداخل، فهي تدرك جيدًا أن هذه المرأة تفضل الحفاظ على خصوصية دفيئتها. لكن سرعان ما بادرتها المرأة بدعوة دافئة، قائلة بترحاب:

"ادخلي معي إلى الدفيئة أنا أحب ذلك".

ودخلت سالي بتردد لأول مرة إلى دفيئة أنيسة، وسارت على أرض حصوية وهي تتفقد الدفيئة من حولها بذهول وإعجاب من جمال المنظر وكأنها ترى عملاً فنياً مُبهراً، في داخل الدفيئة، انتشرت رائحة زهور عطرة تغمر المكان، فشعرت سالي وكأنها دخلت لوحة من الألوان الطبيعية الحية. الجدران الزجاجية العالية تحيط بالمكان، تسمح بدخول الضوء الطبيعي الذي يتسلل بلطف ليغمر النباتات برعاية دافئة. الأعمدة المعدنية التي تحمل السقف ترتفع بشكل مستقيم وثابت، مطلية بطبقة لامعة من الطلاء الأخضر الداكن، لتندمج بتناغم مع خضرة النباتات. السقف نفسه مقوس بانسيابية، مصنوع من ألواح زجاجية كبيرة تسمح للضوء بالمرور بكثافة، مما يجعل الأجواء داخل الدفيئة مشبعة بالدفء. تلتف حول الأعمدة دعامات معدنية متشابكة، تربط بين الزوايا، وتضفي قوة وثباتًا على الهيكل. الأنابيب الممتدة على طول الدفيئة تكون متراصة عند القاعدة، وهذا جعلها تتساءل ما وظيفتها.

أصص الورود كانت في كل مكان، على الأرض وعلى ما يُشبه الطاولات، وتتدلى أيضاً من السقف. سمحت أنيسة للشابة المتعجبة لأن تتفقد وتتأمل كل جزء من الدفيئة دون مُقاطعتها، وارتسمت على شفتي المرأة ابتسامة جميلة مُتسامحة. بعد أن انتهت جولتهما في الدفيئة، وتخللتها تعليقات سالي المتقطعة التي كانت أنيسة ترد عليها بصبر وهدوء، جلسوا أخيرًا على الطاولة في منتصف الدفيئة. مدت أنيسة يدها بهدوء نحو إبريق الشاي، وصبت لسالي فنجانًا من الشاي الدافئ. لكن سالي لم تستطع تجاهل وجود فنجان آخر على الطاولة، وكأن أنيسة كانت تنتظر ضيفًا آخر. ارتفع حاجباها قليلاً من الاستغراب، لكنها لم تطرح أي أسئلة. أخذت فنجانها ببطء، وارتشفت رشفة صغيرة، بينما أنيسة بدأت تتحدث بدفء:

"أنا سعيدة جدًا لأنكِ تمكنتِ من رؤية الدفيئة".

وضعت سالي فنجان الشاي برفق على الطبق، ورفعت رأسها تتأمل المكان بإعجاب واضح:

"إنها مذهلة حقًا، هذه أول مرة أدخل فيها إلى دفيئة".

ابتسمت أنيسة وقالت:

"ليس من الشائع أن يقوم الناس بإنشاء دفيئة كتلك في منازلهم".

أومأت سالي برأسها وأضافت:

"أعتقد أن الأمر يتطلب مساحة كبيرة من المنزل".

همست المرأة وهي تضع الفنجان على شفتيها:

"بالطبع، هذا صحيح".

بعد لحظات سألت أنيسة سالي بفضول:

"إذاً أخبريني، هل هُناك ما أردتِ الحديث فيه؟".

توقعت المرأة ما أرادت سالي قوله، ولكنها أرادت أن تستمع إليها، فترددت سالي قليلاً، ولكنها سرعان ما قالت بحزم:

"نعم، علينا الذهاب إلى المستشفى قريباً يا ست أنيسة، يجب أن تُجري منظاراً على القولون".

تنهدت أنيسة وقالت وهي تمسح بإصبعها طرف الفنجان مُتأملة الفراغ:

"كما توقعت".

قالتها بصوت هادئ، بعد لحظات، التفتت نحو سالي وقالت بنبرة مستسلمة:

"إذًا، متى تودين الذهاب؟"

ردت سالي بسرعة:

"غداً يجب أن تذهبي معي، لقد وعدت دكتور رشدي بأنك ستكونين هناك في أقرب وقت لإجراء المنظار".

أومأت أنيسة برأسها:

"إذاً لنذهب غداً".

قالتها أنيسة وصوتها مشبعًا بيأس عميق ارتسم على صفحة وجهها الحزين. لم يكن اليأس نتيجة للسوداوية، بل إحساسًا غامضًا بأن الأيام القادمة قد تحمل ما لا يُحتمل. ومع ذلك، لم تستطع أن تبوح بهذه الأفكار، بل اكتفت بنظرة جانبية إلى سالي وهمست:

"سالي، أريد أن أطلب منك معروفاً".

بدا على ملامح سالي انتباهٌ وترقب، وكأنها تستعد للموافقة على ما ستسمعه حتى قبل أن تنطق أنيسة. وبهدوء غريب، نظرت أنيسة حولها كأنها تستمد القوة من المكان، ثم قالت

"لو حدث أي شيء لي، اعتني بدفيئتي، أرجوك لا تُهمليها".

تغيرت نظرة سالي لتصبح أكثر حزنًا واستنكارًا. لم تستطع قبول تلك النبرة المتشائمة، فقالت بحزم:

"ست أنيسة، لا رد لدي على تقولينه الآن، أنا لا أُفكر إلا في صحتك، والإجراءات التي سنأخذها مع الدكتور رشدي".

ابتسمت أنيسة ابتسامة باهتة، وقالت بهدوء:

"ابنتي، لا تكوني عنيدة مثل خالد. أنا أطلب منك طلبًا بسيطًا، أو اعتبريه وصية".

لم تجد أنيسة رداً من سالي فأخذت نفسًا عميقًا، ووجهت إليها نظرة مليئة بالتأمل والحزن معًا، ثم قالت بصراحة:

"سأكون واضحة... في الحقيقة، أريدك أن تكوني جزءًا من هذا المنزل، وهذا لن يتحقق إلا بطريقة واحدة، وهي أن تقبلي بابني".

"...".

تجنبت أنيسة النظر إلى عيني سالي المندهشة، وتناولت فنجان الشاي بين يديها لتشرب منه مجددًا. كانت سالي تحاول جاهدة أن تجد ردًا مناسبًا على تصريح أنيسة المباشر، لكن الكلمات خانتها. ولأول مرة، بدأت ترى خالد من منظور مختلف. لم تعد تراه فقط ذلك الرجل الهادئ المسؤول الذي يتحمل عبء رعاية منزل يضم أكثر من 25 فرداً، بل أصبحت تفكر فيه كزوج محتمل، وهذا الشعور جعلها تشعر بغرابة عميقة. ليس لأن خالد غير مناسب، ولكن لأنها اعتادت إغلاق باب المشاعر تمامًا إلى أجل غير مسمى. والآن يأتي هذا الرجل الذي يحاول ببطء إعادة فتح ذلك الباب. هل كان خالد هو الشخص الذي يمكنه ذلك؟ بحثت سالي في أعماق قلبها عن إجابة، لكنها لم تجد سوى الحيرة.

همست أنيسة وهي تضع فنجان الشاي برفق:

"آسفة إذا تسببت في إرباكك أو وضعك تحت ضغط".

"...".

قامت أنيسة بإنارة مصباح الحديقة، إذ بدأ الظلام يزحف مع غروب الشمس. وفي ضوء المصباح الخافت، أدركت سالي أن حالة أنيسة أسوأ مما كانت تتخيل. وجهها الشاحب وحالتها البائسة جعلت سالي تشعر بألم عميق في قلبها.

"أنا أتحدث كأم قلقة على ابنها التائه في البحر، بينما حبل نجاته يطفو على سطح الماء قريباً، أنتِ حبل نجاة ابني يا سالي".

وقفت أنيسة وقامت بإنارة مصباح الدفيئة، إذ بدأ الظلام يزحف قليلاً مع اختفاء الشمس لثوانٍ وراء الغيوم، وفي ضوء المصباح الخافت، أدركت سالي أن حالة أنيسة أسوأ مما كانت تتخيل. وجهها الشاحب وحالتها البائسة جعلت سالي تشعر بألم عميق في قلبها.

تمتمت سالي بصوت خافت:

"سيدة أنيسة، من الصعب عليّ إيجاد الكلمات المناسبة. هذا الموضوع حساس جدًا وشخصي للغاية".

كان الإحراج بادياً على ملامح سالي، لكن أنيسة لم تتوقف. جلست في كرسيها مجددًا وقالت بلطف:

"ابني معجب بك يا سالي. في كل مرة يراك فيها، ألاحظ شيئًا جديدًا في وجهه، بريقًا لم أره من قبل. خالد مغرم بك".

شعرت سالي بصدمة تجتاحها، ازداد إحراجها وهي تشبك أصابعها معًا بتوتر. أكملت أنيسة بصوت هادئ:

"كما قلت من قبل، لا أريد الضغط عليك لاتخاذ أي قرار لا ترغبين فيه. لكن فكري في خالد. إنه يستحق حب شابة جميلة وراقية مثلك".

أضفت كلماتها شعورًا عميقًا بالتقدير تجاه سالي، فقد كانت تقدرها بصدق وتتمنى بشدة أن تكون هذه الشابة شريكة حياة ابنها. بعمق الأمومة، أضافت أنيسة:

"أريد أن أطمئن عليه قبل أن أرحل، فهو يميل إلى الانطواء والوحدة".

رغم أن الدموع لمعت في عينيها، إلا أنها تمالكت نفسها ومنعت تلك الدموع من السقوط. تذكرت السنوات التي ربت فيها خالد، الذي لم يكن ابنها البيولوجي، لكنها خاضت معه كل تقلباته النفسية، وعانت حتى أوصلته إلى بر الأمان. لقد كرست حياتها له بالكامل، حيث أمضت معظم أيامها تحمل همومه وتفكر فيه بلا توقف، حتى خلال نومها. كان خالد بالنسبة لها ابنًا بُنيَّ على سنوات من الرعاية والتفاني حتى أصبح رجلاً ناضجًا ومسؤولًا بطريقة تفوق معظم الرجال في سنه. كان خالد بدوره دائمًا يعبر عن امتنانه، ليس فقط بالهدايا أو الكلام الرقيق، بل من خلال أفعاله ونظراته الحنونة. العلاقة بينهما كانت متينة، فقد عبر الاثنان موج الحياة سويًا بأمان.  لذلك كان عليها قبل أن ترحل أن تعثر على شريكة حياة، تكون له حبل النجاة له.

لكن، رغم حبها العميق، شعرت أنيسة بالذنب. كان يجتاحها شعور أنها ربما تورط سالي في علاقة مع رجل لديه مسؤوليات ضخمة و15 طفلاً تحت رعايته. للحظة، نسيت أن سالي ما زالت شابة جميلة تستحق أن تعيش حياة هادئة خالية من التعقيدات، لا أن تجد نفسها محاطة بمسؤوليات ضخمة. وهنا كان ضمير أنيسة يواجها بلا رحمة، مما دفعها إلى التراجع بسرعة والابتسام بمرارة:

"اعتبري ما قلته لم يُقال يا دكتورة، سامحيني على أنانيتي".

فتطلعت سالي إليها. كان التفكير في الكلام الذي قالته جعل عقلها يتعقد أكثر، ولكنها قالت بهدوء:

"لا داعي للقلق على مستر خالد. في الحقيقة، لم أتعامل معه كثيرًا، لكنني في تلك المرات القليلة رأيت فيه رجلاً محترمًا ومسؤولًا ومتفتحًا. أما عن الحب، فليس بيد الإنسان سلطة على مشاعره. مشاعري دائمًا ما تتشابك مع عقلي في كل قرار مصيري. أقدر مشاعرك وتقديرك لي، لكني حقًا لا أعلم إلى أين ستقودني مشاعري".

ابتسمت أنيسة وهي تضع كفها على يد سالي الموضوعة على طاولة الشاي وقالت:

"سالي، صدقيني، مهما كان قرارك، لن يقل احترامي وتقديري لك أبدًا. أنت تستحقين أن تجدي حب حياتك، سواء كان ابني أو غيره".

تاهت نظرات أنيسة في الفراغ للحظة وهي تتأمل بحزن، ثم أضافت بنبرة اعتذار:

"سيطرت عليّ أنانيتي للحظات، اعذريني."

شعرت سالي بأن كلمات أنيسة لامست قلبها بقوة، وفي تلك اللحظة، تأكدت أنها على وشك خوض مرحلة جديدة ومفصلية في حياتها. فشدت على كف أنيسة بإحكام، وكأنها تمدها بالقوة التي تحتاجها لمواجهة الأيام الصعبة القادمة.

***

رمشت سالي بعينيها للحظات، ثم تقلبت على سريرها غارقة في أفكارها العميقة. كان قلبها ينبض بسرعة منذ حديثها الأخير مع السيدة أنيسة، ذلك الحديث الذي حمل معها تصريحًا مفاجئًا هزّ مشاعرها وقلبها رأسًا على عقب. هل كان خالد معجبًا بها حقًا؟ وهل كانت هي غافلة تمامًا عن مثل هذا الأمر المهم؟ كيف لم تلاحظ شيئًا كهذا؟ ولكن، كيف لها أن تنتبه وهي منشغلة تمامًا بعملها والأطفال الذين ملأوا حياتها وسلبوا لبها؟

ومع ذلك، ماذا لو كانت أنيسة قد بالغت في ملاحظاتها؟ ربما تهيأ لها أن ابنها يحمل مشاعر خاصة نحوها. ولكنها أم، والأم دائمًا تعرف ابنها جيدًا، أليس كذلك؟ تقلبت سالي مرة أخرى في فراشها، وضعت ذراعيها خلف رأسها وهي تحدق في السقف، تسأل نفسها نفس السؤال للمرة الألف. ثم احمرّت وجنتاها ووضعت كفيها على وجهها، وقد أدركت في أعماقها أن حاجزًا ما قد زال بينها وبين خالد، حاجز منعها لفترة طويلة من رؤية ما لاحظته أنيسة.

تساءلت سالي وهي تشعر بدهشة من نفسها: لماذا تملؤها هذه السعادة الآن؟ لم تشعر بمثل هذا الشعور حتى عندما اعترف لها خطيبها السابق بحبه ورغبته في الزواج بها. مشاعرها في تلك اللحظة كانت بعيدة كل البعد عما تشعر به الآن. ربما أدركت أخيرًا أن لا أحد يرغب في الحياة بدون حب، وأن الجميع يسعى للفوز بشخص يحبه، مهما كانت الظروف المحيطة به.

ولكن مع هذه السعادة، تسللت إلى قلبها مشاعر الخوف. ماذا يعني حب خالد لها؟ وكيف سيكون شكل حياتها إذا بادلت خالد هذا الحب؟ وما هي المسؤوليات التي ستقع على عاتقها إذا قبلت أن تكون شريكته في الحياة؟ تلك الأفكار والتساؤلات تدفقت دون توقف في عقلها، تدور كالدوامة، حتى أخذها النوم أخيرًا، لكنه كان نومًا قلقًا متقطعًا كما هو الحال دائمًا.

***

في اليوم التالي، استيقظ الجميع على واحدة من أبشع المجازر التي قام بها الاحتلال، وهي قصف مستشفى المعمداني التابع للكنيسة الأسقفية في غزة. كان المشهد مروّعًا؛ المبنى الطبي الذي كان ملجأً للمرضى والمصابين، وحتى للنازحين الباحثين عن مأوى وسط الحرب، تحول إلى أنقاض. صرخات الأهالي اختلطت بصوت سيارات الإسعاف، بينما كانت فرق الإنقاذ تحاول البحث عن ناجين وسط الدمار. قصف المستشفى المعمداني أدى إلى مقتل وإصابة مئات المدنيين، بما فيهم عائلات بأكملها، أطباء، ومرضى، في حادثة هزت العالم. الاحتلال الإسرائيلي ادعى أن المستشفى كان يستخدم لأغراض عسكرية، وهو ما نفته التقارير الطبية والإنسانية التي أكدت أن المستشفى كان مليئًا بالمدنيين الفارين من القصف العشوائي في أحياء غزة. تلك الواقعة أشعلت الغضب الشعبي والإدانات الدولية، وخرجت احتجاجات في مختلف دول العالم تندد بهذه الجريمة. المشاهد المؤلمة التي انتشرت عبر وسائل الإعلام، لأطفال مصابين ونساء ينتحبن على جثث أحبائهم، أكدت حجم الفاجعة.

في المنزل، وفي ذلك الصباح التعيس والمظلم، حيث اجتمع الجميع حول مائدة الفطور، كان الحديث كله يدور حول القصف الذي طال مستشفى المعمداني في غزة. أصبح هذا المكان رمزًا آخر للكارثة الإنسانية المتفاقمة في ظل صمت دولي مريب. خيم صمت ثقيل ومشحون بالحزن على جميع الكبار. الأخبار التي وصلت كانت أشد وقعًا من أن تُترجم إلى كلمات. لم يكن هناك روح تُنير المكان، حتى صخب الأطفال، الذين لم يكونوا واعين بحجم الكارثة، بدا مُزعجًا للكبار الذين غرقوا في التأمل الحزين.

ورغم هذا الصمت المهيب، كانت الحياة تستمر بشكلها المعتاد، كما هو الحال في كل مكان من العالم، غير مكترثة بالمآسي العميقة التي تتخلل أجزاءه. قطعت أنيسة فجأة هذا الصمت وقالت بهدوء بينما ترتشف كوبها الرابع من الماء:

"سأذهب إلى المستشفى اليوم لأجري بعض الفحوصات اللازمة بسبب السكري".

كان شرب الماء جزءًا من تحضيراتها قبل العملية، لذا لم تمد يدها إلى الطعام، واكتفت بشرب الماء فقط. نظرت إليها أميرة بقلق وعدّلت نظارتها قائلة:

"لكن ماما، لقد ذهبتِ من قبل. لماذا تحتاجين إلى الذهاب مرة أخرى؟"

تذمرت أنيسة أيضاً وهي تُجيب على أميرة:

"صدقاً يا أميرة لو كان الأمر بيدي، لما أزعجت نفسي مرة أخرى، لكن دكتور رشدي مُصر على المتابعة المنتظمة، وحتى سالي تؤكد دائمًا على ضرورة الفحوصات المستمرة. لذلك، إذا تأخرت، فلا تقلقوا علي".

في تلك اللحظة، كانت سالي غارقة في أفكارها الخاصة، بعيدة تمامًا عن العالم من حولها منذ الليلة السابقة، ولم تسمع شيئًا مما دار حولها. لاحظت فرح ذلك، فنكزتها برفق في ذراعها قائلة:

"سالي، فيما أنت سارحة؟".

انتبهت سالي فجأة، واستيقظت من أحلامها، وقالت بتردد:

"آه نعم".

"نعم ماذا؟ أنت لست معنا".

ابتسمت سالي بضعف وقالت:

"المعذرة، لم أنل قسط كافي من النوم".

وفي تلك اللحظة، كانت ذكية تضع طبقًا أمام السيدة منى، فسألتها بحيرة وهي تتأمل وجهها:

"منى، هل أنت بخير؟ تبدين متعبة ووجهك شاحب".

"لا أنا بخير ست ذكية".

نظرت منى إلى حسن نظرة منكسرة كانت تحمل الكثير من الألم، ثم نظرت إلى طبقها ووجهها بدا خاليًا من الحياة، غارقًا في شرود. لاحظت أنيسة هذه النظرة، وازداد وجهها كآبة. أما سالي، التي كانت تراقب من بعيد، تذكرت فجأة الحديث الغامض الذي سمعته صدفة بين حسن ومنى عبر نافذة غرفتها. الاضطراب الذي بدا على منى بعد ذلك الحديث لم يزدها إلا شكوكًا.

***

في المستشفى، كانت سالي تقف خارج الغرفة تنتظر بفارغ الصبر انتهاء عملية المنظار الخاصة بالسيدة أنيسة. مضت 45 دقيقة منذ دخولها، وكانت سالي تتوقع أن العملية ستنتهي خلال 15 إلى 20 دقيقة أخرى. رغم أن هذه الإجراءات لا تستغرق وقتاً طويلاً، إلا أن القلق تسلل إلى قلبها، ربما بسبب شعورها بالمسؤولية تجاه أنيسة. الوقت مر ببطء، إلى أن خرج الطبيب، الذي رشحه الدكتور رشدي، ليطمئنها بأن أنيسة بخير، لكنها ما زالت تحت تأثير المخدر وستستيقظ قريباً.

تنهدت سالي براحة وهي تقف بجوار الباب تنتظر أن يتم نقل أنيسة إلى غرفة الإفاقة. حين استعادت أنيسة وعيها جزئيًا، تطوعت سالي لتبقى بجانبها، تراقب حالتها وتتأكد من استقرار علاماتها الحيوية، ليس فقط بصفة رفيقة، بل بصفة طبيبة. عندما استيقظت أنيسة تماماً، جاء الطبيب والممرضون ليوجهوا التعليمات اللازمة حول الرعاية بعد المنظار، مثل الأكل والشرب والأنشطة المسموح بها خلال الساعات المقبلة. وبعد مغادرة الطاقم الطبي، جلست سالي على كرسي بجوار سرير أنيسة التي كانت شبه مُستيقظة، وأمسكت بيدها برفق وهمست:

"حمداً لله على سلامتك ست أنيسة".

تمتمت أنيسة بكلمات غير مفهومة، بفعل تأثير المخدر، وكان على الجميع الانتظار لساعات قليلة حتى تستعيد كامل قوتها وتستطيع الذهاب إلى المنزل على قدميها بشكل طبيعي وكأنها لم تُجري أي إجراء، ولكن توقعات سالي لم تكن عالية، فالمرأة سيظهر عليها التعب بكل تأكيد بسبب سنها الكبير، وهذا كان يربكها. نفضت سالي تلك الأفكار، وفكرت في شيء واحد وهو صحة السيدة أنيسة مهما كانت الظروف.

مرت أربع ساعات حاولت فيهم أنيسة أن تستعيد قوتها للنهوض، واستمر الهاتف في الرنين، مع اتصالات الأطفال والسيدة منى التي كانت قلقة. تولت سالي الرد على المكالمات بهدوء وطمأنت الجميع بأن الفحوصات تأخذ وقتاً أطول من المتوقع، لكن كانت تشعر بقلق الأطفال، وبالشك الذي يتسلل إلى صوت السيدة منى.

أمام باب المنزل، أمسكت أنيسة بذراع سالي لتستعين بها على المشي، وهي تُحاول الحفاظ على توازنها، فدعمتها سالي بقوة، وفجأة، فُتح الباب وانقض الأطفال نحو أمهم، التي تأخرت عنهم. شعرت أنيسة بالذهول من المفاجأة، ولم تشعر بنفسها وإلا بالدموع تتجمع في عيونها وهي تمسح على رؤوس الأطفال. سألها علي بحماس:

"ماما لماذا تأخرتِ علي، اشتقت إليك".

"وأنا اشتقت إليكم يا عزيزي".

قالتها المرأة بصوت متهدج مُتعب، وأنفاسها ضعيفة ومُتسارعة، ومع ذلك لم تتوان عن الرد على كل اسئلة الأطفال وطمأنتهم عليها. سألتها فرح بقلق:

"ماما هل أنتِ بخير؟".

قالت أنيسة بابتسامة متعبة:

"نعم يا فرح أنا فقط مرهقة قليلاً".

لم تستوعب أنيسة كيف للأطفال أن يكونوا بهذا التعلق بها، هل كان غيابها مخيفا لهم؟ هل هم حقاً افتقدوها بشدة؟ أغمضت المرأة عيونها بإرهاق وهي تطرد عن ذهنها هذه التساؤلات المؤلمة، فلم تكن لديها القوة على سكب المزيد من الدموع الآن.

أثناء ذلك، كانت السيدة منى تراقب المشهد بعينين مليئتين بالشك وهي تشعر بأن هناك شيئًا لم تقله أنيسة وأيضاً سالي. بعد أن ساعدت سالي أنيسة على الوصول إلى غرفتها، خرجت من الغرفة برفقة منى وهي تعطيها بعض الإرشادات. وعندما همّت سالي بالذهاب إلى غرفتها، سمعت صوت منى خلفها يقول:

"دكتورة سالي، انتظري من فضلك، أريد أن أسألك سؤالاً".

تجمدت أطراف سالي وهي تُمسك بقبضة الباب الخاص بغرفتها، وشعرت أن المرأة ستحاول استجوابها بشأن حالة أنيسة التي لم تكن على ما يرام. استدارت سالي ببطء وهي ترسم علامات الحيرة على وجهها:

"نعم، ست منى".

نظرت منى إليها بتساؤل وقالت:

"كيف كانت فحوصات الست أنيسة؟".

مال رأس سالي وهي تدعي الحيرة، وقالت:

"كانت جيدة".

"لا، أعني كيف جرت، الست أنيسة يبدو أنها ليست على ما يرام".

أجابت سالي بنبرة هادئة، لكن حازمة:

"وعلى أي أساس قررتِ ذلك؟ هل أنتِ طبيبة؟".

عقدت منى حاجبيها بضيق وقالت:

"لا، لكن لا أعتقد أن مجرد فحوصات عادية تُسبب كل هذا الإرهاق".

"لا تقلقي، هي بخير. كنا نجري فحصًا شاملاً للاطمئنان على صحتها. غداً ستكون بخير بإذن الله. فقط تأكدي من اتباع التعليمات التي أعطيتك إياها، ولا تقدمي لها طعامًا اليوم، فقط السوائل".

التفتت سالي ودخلت إلى غرفتها بهدوء وهي تُغمض عينيها بتعب وحزن، لتترك السيدة مُنى تقف أمام الباب الذي أُغلق للتو، غارقة في شكوكها التي لم تتبدد بعد.

***

تناولت سالي غداءها وحيدة، بعدما سبقها الأطفال، حيث عادت برفقة أنيسة متأخرين من المستشفى. بعد أن انتهت من طعامها، شعرت برغبة في التوجه إلى الحديقة للابتعاد قليلاً عن الأجواء المزدحمة، والتفكير في هدوء. وبينما كانت تسير متأملة الأشجار والهواء العليل، سمعت فجأة صوتًا خلفها يقول بحدة:

"أنتِ ماذا تفعلين هنا؟".

التفتت سالي بسرعة ودهشة، وقلبها ينبض بقوة. وقفت لتستوعب ما حدث، قبل أن تلتقط أنفاسها المذعورة. أمامها كان يقف عبدالله، الفتى الذي لطالما أظهر لها عداءً في السابق، لكنه الآن لم يبدو بنفس النظرات العدائية المعتادة. بادلته النظر للحظات ثم قالت:

"مرحباً عبدالله، أنا فقط أتمشى في الحديقة".

"لماذا؟".

سأل بحدة وهو يخفي يده اليسرى في جيبه وكأنه يخفي شيئاً.

شعرت سالي ببعض التوتر وهي تراقب حركته، وقبل أن ترد عليه، نظرت إلى النافورة التي تقف بالقرب منها، وتذكرت الحادثة السابقة عندما دفعها في تلك النافورة. فانسحبت بخطوات قليلة آمنة لتتفادى أي حادث آخر محتمل، ثم قالت بهدوء واطمئنان:

"لأنني أريد أن أستنشق بعض الهواء، ما رأيك أن تتمشى معي؟".

مدت يدها بلطف نحو الفتى، محاولة إظهار حسن النية. عبدالله نظر إلى يدها بتمعن للحظات، ثم أمسك بكفها بشكل غير متوقع، مما جعل سالي تشعر بالدهشة لسهولة قبوله العرض. استمرا في التمشية بهدوء، ومرت دقائق قبل أن يتحدث عبدالله بصوت متردد، وعيناه تعكسان مزيجًا من الحذر والترقب:

"أنتِ، هل يمكنني أن أخبركِ سراً؟".

أضاء وجه سالي بابتسامة دافئة، إذ شعرت أن الفتى قد بدأ يتغير وأن هناك رابطًا جديدًا يتكون بينهما. أجابته برفق:

"نعم بالطبع، يمكنك ذلك".

قال الفتى بنبرة جادة وقد ظهرت في عينيه علامات التردد:

"هل ستحفظينه، ولن تفشيه؟".

وضعت سالي إصبعها السبابة على خدها مُدعية التفكير، ثم ابتسمت بلطف وانحنت نحوه قائلة:

"سأحفظه ولن أفشيه، ولكن بشرط!".

رفع عبدالله حاجبيه بتوتر وسأل بفضول:

"شرط؟ ما هو؟"

ردت سالي وهي تحافظ على ابتسامتها وتظل قريبة منه:

"أن تناديني باسمي. قل سالي، أو حتى دكتورة سالي، وسأعدك حينها أن سرك سيبقى في أمان".

ظهر الخجل على وجه عبدالله، فأشاح بنظره عنها وقال بتردد:

"ولكني لا أريد".

أدركت سالي أن كبرياءه يمنعه، فأخذت تفكر للحظة ثم أجابته برفق:

"كيف لك أن تفتح بئر الأسرار دون أن تعرف اسمها؟ إذا أردت أن تودعني سرك، عليك أن تناديني باسمي".

أشارت سالي في الهواء وكأنها تلوح بعصاً سحريه:

"نادني باسمي، وأنا سأكون مستعدة لسماع سرك وحفظه".

تلعثم عبدالله قليلاً، محاولًا جمع شجاعته:

"لكن... أنا..."

ابتسمت سالي وشجعته قائلة:

"هيا! قلها."

تنفس عبدالله بعمق وهمس بصوت متقطع:

"سا.. سا.. سالي".

بدا الحرج على وجهه، لكن سالي ابتسمت بسعادة وقالت بحماسة:

"نعم يا عبدالله، أسمعك!".

تفاجأ عبدالله من رد فعلها المرح، وازداد خجله. لكنها، بلمحة من الحنان في صوتها، سألته:

"والآن، أخبرني، ما هو سرك الذي تود أن تبوح به؟".

نظر إليها الولد نظرة صادقة، ولمعت عيناه ببراءة وثقة، مما جعل سالي تقف في صمت للحظات قبل أن يفاجئها قائلاً:

"أريد أن أريك شيئًا مهمًا".

سحبها الفتى بسرعة دون أن ينتظر أي رد فعل منها، وأخذها نحو تلك الشجرة التي كانت شاهدة على حادثة النافورة السابقة. هناك، تحت ظلالها، رأت سالي صندوقاً كرتونياً صغيراً، مفروشاً ببطانة ناعمة حمراء، ما جعلها تتساءل في صمت عن غايته. ولكن قبل أن تدرك، سمعت عبدالله ينادي بهدوء:

"يا قطة، أين أنتِ؟ تعالي أنا هنا، أحضرت لك الطعام".

أخرج علبة تونة كان يُخفيها في جيبه، وانحنى لفتحها بتركيز، غير مبالٍ بنظرات سالي المتفاجئة. وضع العلبة بجانب الصندوق وبدأ ينادي القطة بصوت منخفض. بعد لحظات من الانتظار والترقب، ظهرت قطة صغيرة من بين الشجيرات، تسير بخطوات حذرة، تراقب الفتى وسالي بتمعن. لم يتحرك عبدالله، بل اكتفى بالجلوس على الأرض، مشيرًا نحو الطعام وهمس بلطف:

"تعالي، لا تخافي".

نظرت سالي إلى الفتى باستغراب، وهي تراقب الطريقة التي يتعامل بها مع القطة بلطف وهدوء، وكأنها تشهد جانبًا جديدًا من شخصيته. اقتربت القطة شيئًا فشيئًا، حتى وصلت إلى العلبة، وبدأت تأكل بحذر.

ابتسم الفتى بانتصار وقال بصوت منخفض:

"هي تحب التونة، تأتي كل يوم تقريبًا".

سالي، التي لم تستطع إخفاء دهشتها، جلست بجواره وسألته بلطف:

"أترعاها منذ فترة؟".

سألته وهي تدرك أنها القطة التي تسببت في دفعها في النافورة من قبل. هز الفتى رأسه بالإيجاب دون أن ينظر إليها، مركّزًا على القطة التي كانت تأكل، ثم قال:

"نعم، لكن لا أحد يعرف. إنها سرّي، مثلك الآن".

تأملت سالي عبدالله الذي يمسح على ظهر القطة ورأسها وهو ينظر إليها بحب، ورأته فتاً صغيراً لطيفاً، وحنوناً، لم تستطع منع نفسها من الابتسام بحنان، لتنحني هياً أيضاَ وتمسح على شعره الأسود بحب قائلة:

"أنت حقاً ولد طيب يا عبدالله".

جلست سالي بوضع مريح، وأسندت ذقنها على ركبتيها وهي تراقب القطة الصغيرة ذات الفرو الذهبي، ثم سألت وهي شاردة:

"ماذا ستفعل معها الآن.....".

"سأعتني بها، ولكني أخاف من ماما فهي ترفض دخول الحيوانات المنزل".

سألت سالي بتعجب:

"لماذا؟".

"لا أعلم، طلبت منها من قبل أن تشتري لي عصفور، ولكنها رفضت".

شعرت سالي بالغرابة تجاه رفض السيدة أنيسة، وتساءلت عن السبب الذي يجعلها تمنع دخول الحيوانات الأليفة. كان عليها أن تستفسر عن أسبابها، خاصة وأن عبدالله بدا شغوفًا بالحيوانات، ووجود القطة ربما يجعله أكثر هدوءًا وسعادة.

بينما كانا يتأملان القطة، سمعا فجأة صوتًا من خلفهما يسأل بفضول:

"ماذا تفعلان؟".

استدار الاثنان بسرعة ليشاهدا علي واقفاً على مسافة، وملامح الحيرة البريئة ترتسم على وجهه. وقبل أن ينطق أي منهما بكلمة، انطلق الصغير، الذي لم يتجاوز السادسة، يركض نحوهم بحماس. لكن فجأة، تعثر بحجر وسقط على وجهه، مما جعل سالي تقفز بسرعة وهي تصرخ بقلق:

"علي! علي هل أنت بخير؟".

أمسكت كتفه برفق، ورفعته لتتفاجأ بمشهد جمد الدم في عروقها وتركها شاحبة الوجه؛ كان وجهه الصغير مغطى بالدماء.

في الداخل، التف الجميع حول سالي التي كانت تتفحص فك علي الصغير بعناية، تلمس موضع السن التي سقطت. بعد لحظات من القلق، ابتسمت بهدوء وقالت وهي تحمل السن بين أصابعها:

"يبدو أنها كانت على وشك السقوط. انظروا، ليس لها جذر، لقد تآكل تماماً لتفسح المجال للسنة الجديدة".

رفعت السنة الصغير في وجه الفتى الباكي، ومسحت دموعه الساخنة بابتسامة قائلة برقة:

"لا تبكِ يا علي، ستنمو لك سن أكبر وأقوى. افتح فمك الآن لأضع لك القطن."

فتح علي فمه، وسالي بدأت بمسح الدماء، قائلة بابتسامة مطمئنة:

"سنأخذ السنة ونرميها من السطح، ونطلب من العصفور أن يحضر لنا واحدة جديدة".

سألت السيدة منى:

"هل نذهب به إلى طبيب أسنان؟".

ردت سالي بلطف:

"لا داعي لذلك، ولكن لو أردتِ الاطمئنان من متخصص فلا بأس".

اقتربت لارا من علي وأخذت تمسح على ظهره برقة قائلة بصوت طفولي:

"علي، لا تحزن أنت بخير، الدكتورة قالت ذلك".

ابتسمت سالي بسعادة وهي تشاهد هذا المشهد الرقيق. كم هم هؤلاء الأطفال لطيفون! كيف يمكنها أن تفكر في مغادرة مكان مليء بهذه البراءة والجمال؟ لا، لا شيء يدفعها للرحيل، على الأقل في نظرها.

***

في المساء وقبل أن تذهب سالي إلى سريرها، رأت هاتفها يُضيء بمكالمة واردة، وكان خالد هو المتصل، فتحت سالي الهاتف بسرعة ووضعته على أذنها ونبضات قلبها تتسابق، لتسمع صوته على الجانب الآخر يأتي هادئاً:

"دكتورة سالي مساء الخير".

بلعت سالي ريقها وقالت بخجل:

"مساء الخير مستر خالد. كيف حالك؟".

"أنا بخير، وأنتِ؟".

مرّت لحظة صمت قصيرة قبل أن تجيب وهي تزيح خصلات شعرها خلف أذنها:

"أنا أيضاً بخير".

تمتم خالد مُجيباً عليها بأسلوبه العملي المعتاد:

"هذا جيد".

ثم تابع بقلق واضح: 

"سمعت أن ماما أجرت فحوصات اليوم، هل هناك ما يدعو للقلق؟".

استندت سالي على الحائط خلفها وكأنها تطلب الدعم منه على الكذبة التالية:

"لا تقلق، هي بخير. كانت مجرد فحوصات روتينية لمتابعة حالتها مع العلاج".

تردد خالد قليلاً ثم قال:

"ولكني سمعت من السيدة منى أنها عادت مُرهقة جداً، في الواقع حاولت أن أتواصل معها، ولكنِ لم أجد الفرصة لذلك بما أنها في سريرها".

فكرت سالي قليلاً قبل أن ترد عليه:

"ربما كانت مرهقة هذه الفترة بسبب التغيير الذي طرأ فجأة على اسلوب حياتها، لا داعي للقلق".

كانت تشعر أنها تلفظ كلمات لا تصدقها هي نفسها، ولكن لم يكن لديها عذر أفضل. سمعت خالد من الطرف الآخر:

"حسناً، أشكرك على اعتنائك بها، أعتقد أننا أثقلنا عليكِ بمشاكلنا".

ابتسمت بخفة وقالت:

"لا داعي لهذا الكلام مستر خالد، هذا عملي".

مرت لحظات قليلة ساد فيهم صمت ثقيل، ثم سمعت صوت خالد مرةً أخرى:

"والأولاد هل هم بخير؟ هل يُثيرون المشاكل؟".

ابتسمت سالي قائلة:

"نعم جميعهم بخير، ولكن..".

ابتسمت سالي قبل أن تكمل حديثها وقالت:

"عليّ سقطت سنته اليوم".

سمعت صوت همسة ضاحكة من الطرف الآخر، لتبتسم أكثر هي الأخرى وهي تسمعه يقول بخفة:

"سمعت من السيدة منى، هذا أمر كبير حقاً، كيف حاله الآن؟".

"هو بخير، لقد رمى السنة من فوق السطح وتمنى أن تعود إليه سنة جديدة، الأمر كان مثيراً بما أنها أول سنة تقع لديه".

ضحك خالد هامساً ثم قال:

"يبدو أنهم يخوضون معك تجارب جديدة، أشكرك على هذه التحديثات المهمة والتجارب الجديدة".

ردت سالي الضحكة برقة وقالت:

"لا شكر على واجب".

مرت لحظات وقال خالد بهدوء:

"إذاً سأغلق الآن، أتمنى لك ليلة سعيدة".

"ليلة سعيدة مستر خالد".

أغلقت سالي الهاتف، ثم استدارت لتسند جبينها على الحائط. تنهدت بعمق في محاولة لتهدئة دقات قلبها المتسارعة. لم تكن تعرف تمامًا ما الذي تعيشه في هذه اللحظة، فمشاعرها كانت غامضة وغير مفهومة.

***

في اليوم التالي، بدت أنيسة أكثر تماسُكًا من اليوم السابق، لكنها لم تتمكن من تناول الطعام واكتفت بالسوائل، وهو ما أثار دهشة الجميع. سالي، على دراية بالسبب، أدركت أن معدة أنيسة لم تعد قادرة على تحمل الطعام، وأصبح من الأسهل لها الاعتماد على السوائل. تدهور حالتها بات واضحًا للبعض، خاصة منى وذكية.

مع حلول وقت الغداء، عاد الأطفال من مدارسهم، وبينما كانت العائلة تتناول الطعام، نهضت أنيسة فجأة من كرسيها بخطوات متعثرة واتجهت خارج المطبخ. سالي هرعت خلفها، وتبعتها منى، بعد أن طلبت من الست ذكية إبقاء الأطفال في أماكنهم واستكمال تناولهم الغداء. كان صوت أنيسة وهي تستفرغ ما تناولته للتو مؤلمًا، ومؤثرًا. سالي ومنى دعمتاها وساعدتاها على الاغتسال بصمت. وبينما كانتا منشغلتين، سُمِع صوت طرقات على الباب. فتحت سالي الباب، لتجد ذكية ومعها فرح وحسن واقفين بقلق. تقدمت فرح متسائلة بلهفة:

"سالي، ماذا حدث لماما، هل هي بخير".

أوقفتها سالي وهي تهمس وتخرجهم برفق مُغلقة الباب خلفها:

"ماما متعبة قليلاً يا فرح، دعوها ترتاح قليلاً".

تدخلت ذكية بقلق:

"ماذا بها؟ ما هو تعبها؟".

توترت سالي قليلاً وهي تبحث عن إجابة مُقنعة، ثم قالت بعد تفكير:

"علاج السكري ثقيل على معدتها، وهذه واحدة من الأعراض الجانبية".

فجأة، فتحت منى الباب من خلفهم وقالت بلهجة حازمة:

"الست أنيسة نائمة، من فضلكم لا تزعجوها".

ثم نظرت إلى سالي بنظرة صارمة، والتفتت إلى ذكية والأطفال قائلة:

"من فضلكم ذهبوا، سأعتني أنا والدكتورة بها، وسنطمئنكم عليها".

نظر الثلاثة إلى بعضهم البعض بتردد قبل أن يذهبوا ويتركوا منى وسالي أمام غرفة أنيسة، استأذنت سالي من السيدة منى لتغير ملابسها، وقبل أن تتحرك سالي في تجاه غرفتها أمسكتها السيدة منى من ذراعها وأوقفتها. شعرت سالي بالريبة وهي تلتفت إلى منى التي كانت تحدق بها بنظرة ضيقة وسألتها:

"أخبريني الآن؟ ماذا حدث معكم في المستشفى؟، الست أنيسة ليست بخير".

تمالكت سالي أعصابها وهي تنظر إلى ذراعها الذي تُمسكه منى بالقوة، وقالت:

"من فضلك أفلتي يدي".

لكن منى كانت مُصرة وقالت بشدة:

"لن افلتها حتى تخبريني، وأنتِ الآن ستخبرينني، ماذا بها؟".

ضغطت المرأة بقوة على ذراع سالي، التي حاولت التمسك بهدوئها رغم الألم. وبنبرة حازمة قالت سالي:

"ست منى، هذا الأسلوب غير مقبول، أفلتي يدي حالًا".

ضغطت منى بشدة، وسحبت يد سالي بعنف، مما جعلها تشعر بألم شديد. قبل أن تتمكن سالي من دفعها بعيدًا، سمعوا صوتًا خلفهم، فنظرت سالي إلى حيث كان يقف حسن خلف السيدة منى، وعلامات الحيرة تكسو وجهه البارد من هذا المشهد، فالتفتت منى تلقائياً، ثم سألته بجفاء:

"ماذا تريد؟ اذهب الآن".

ولكن حسن تجاهلها، ونظر إلى سالي قائلاً:

"هناك ضيفة في الأسفل تنتظر ماما".

أفلتت سالي ذراعها من يد منى التي خففت قبضتها، وسألت الولد باهتمام وهي تدلك الألم في المنطقة التي أمسكتها منى بقوة:

"هل أخبرتك عن هويتها يا حسن".

"تقول إنها موظفة من وزارة التضامن الاجتماعي".

نظرت سالي بتساؤل إلى منى التي امتلأت ملامح وجهها بالخوف والتوجس. وسمعت المرأة تتمتم بصوت مرتجف:

"وزارة التضامن الاجتماعي؟"

ثم قالت بقلق شديد:

"غير معقول، هل سيأخذون الأطفال!"

***

[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: سالي

عزيزتي بيسان، أنتظر ردك على رسالتي، وأنا أشعر بالحيرة والقلق عليك، هل كُنتِ في تلك المستشفى التي تم قصفها؟ أقصد مستشفى المعمداني التي قصفها الاحتلال، أتمنى ألا يكون قلقي محله. أعلم أنه تم قطع الاتصالات عنكم ولا تستطيعين استخدام الانترنت بسهولة، ولكن أرجوكِ فور استعادة الاتصال، أرسلي لي رسالة ولو من كلمة واحدة حت أطمئن عليك. أدعو الله لكِ ولكل أهلك وشعبك بالنجاة، وأن ينقشع عنكم ظلام الحرب والاحتلال. أنت دائماً على بالي ولا أنساك من دعواتي

كل الحب والدعاء،

سالي].

نهاية الفصل الثالث والعشرون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم بإذن الله

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

رواية المنزل: الفصل الرابع والعشرون - ءَالَآء طارق

***

أهلاً أهلاً، قربنا على نهاية الجزء الثاني من الرواية، وإن شاء الله الأحداث القادمة مهمة جداً، طبعاً أنيسة مرضها بقى واضح وحالتها بدأت تتدهور بشكل ملحوظ وده أكيد هيغير كتير في حياة كل المنزل. وطبعاً واضح كمان ان علاقة سالي والأولاد بقت أقوى جداً عن الأول وده برضو هيأثر عليها جداً، ولكن هل بالسلب ولا الايجاب؟ لسه هنشوف.

حاولت كثير أنزلكم فصلين الاسبوع ده بس فعلا وقتي مش سامح خالص لكدة، ولكن هحاول الاسبوع الجاي برضو وإن شاء الله تيجي معايا وأنزلكم فصلين.

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصل: يا ترى الوزارة هتعمل ايه، هتاخد أطفال ولا هتعمل ايه؟

***

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق