رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الأربعون
فضلاً، متنسوش الvote.
المزيكا انهاردة أغنية جميلة للمغني الأسباني Julio Iglesias (خوليو إكلسياس) j'ai besoin de toi.
تابعت سالي المشهد أمامها بعينين تملؤهما عاطفة صامتة. كانت منى تبدو وكأنها تتلمس في ماريا عمّا عجزت عن لمسه في ابنها حسن، لم يكن ذلك غريباً على سالي، فقد لاحظت منذ البداية عمق العلاقة بين منى وماريا. على حسب معلوماتها، منذ دخول الطفلة إلى هذا البيت، ومنى هي من تولّت رعايتها والاهتمام بها، لذلك كان من الطبيعي أن تتعلق ماريا بها بهذا الشكل العفوي الصادق. وللحظة، شعرت سالي وكأن ماريا ليست مجرد طفلة، بل ملاك صغير نزل من السماء، يحمل في ملامحه البريئة سكينة كافية لتهدئة قلب منى المثقل بالجراح.
همست سالي لنفسها، بصوت خافت بالكاد يسمع، وكأنها توجه حديثها إلى منى دون أن تنطق به مباشرة:
"أعتقد أن ماريا.. هي رسالة طمأنينة من الله، انظري كيف تتعلق بكِ، كأنها خُلقت من أجل أن ترمّم شيئًا داخلك."
احتضنت منى الطفلة الصغيرة بقوة، وأغمضت عينيها لوهلة، متمنية لو كان هذا الجسد الصغير هو جسد حسن، طفلها، من تحلم باحتضانه منذ سنوات.
ساد الصمت لحظات، سوى من أنفاس الطفلة الهادئة، ثم، وبهدوء تام، نهضت سالي عن الكرسي الذي كانت تجلس عليه، واتجهت نحو الباب بخطوات خفيفة، وكأنها لا تريد أن تُفسد هذه اللحظة المقدسة، وقبل أن تضع يدها على مقبض الباب، جاءها صوت منى، مبحوحًا، هشًا، مليئًا بالرجاء:
"دكتورة.."
توقفت سالي فورًا، والتفتت بسرعة، لترى منى تنظر إليها بعينين تسبحان في الدموع، وشفاه ترتجف بكلمات ثقيلة:
"أرجوكِ.. أعيدي لي ابني."
ثم همست مجددًا، كأنها تتوسل:
"ساعديني."
نظرت سالي إليها بعينين يملؤهما الصدق، ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة لكنها دافئة، وملأ صوتها الغرفة بثقة لطيفة:
"سأفعل ما بوسعي.. أرجوكِ، اطمئني."
خرجت سالي من الغرفة بهدوء، وقد أثقلها المشهد الذي تركته خلفها. شعور بالخمول تسلل إلى أطرافها، وكأن الحكاية التي سمعتها للتو سحبت منها طاقتها كلها. كان العالم فعلًا، كما فكّرت، مليئًا بالحكايات القاسية، لكن حكاية منى تحديدًا.. كانت مؤلمة بكل تفاصيلها. مؤلمة إلى حد يصعب فيه الفصل بين الصح والخطأ، بين الجاني والمجني عليه.
سارت سالي ببطء في الممر الطويل، وعقلها لا يزال منشغلًا بما سمعته. كيف يمكن للمرء أن يحكم على منى دون أن يفكر مرارًا وتكرارًا؟ كيف يمكن أن تُختصر حياة بهذا التعقيد في جملة: "لقد أخطأت"؟
ربما كانت الظروف التي أحاطت بمنّى هي الشرارة، لا العذر، لكنها تفسّر الكثير. تلك العائلة المتشددة، الأم التي تخلّت عن دورها وسلّمت دفة التربية لأبناء لم ينضجوا بعد، فصاروا يتعاملون مع شقيقاتهم كأنهن عبء يجب تقويمه بالعنف.. أو التخلص منه.
فكّرت سالي: أحيانًا، الحبل المشدود أكثر من اللازم.. ينقطع فجأة. ومنى الشابة السجينة قليلة الخبرة وضعيفة الإرادة، لم تتحمّل. فقدت والدها، وسقطت من حضن الحنان إلى سجن لا ترى فيه سوى الجدران وأوامر الإخوة، وسياط الخوف والعار.
نعم، أخطأت منى. لا شيء يبرر ما حدث. لكنها اليوم.. لم تعد تلك المراهقة الخائفة أو الشابة المتمردة. هي أم، مكسورة، تتلوى ألمًا، تشتاق إلى ابنها في كل نفس، في كل كلمة، في كل حركة. وهذا كان المهم في نظرها، أن تساعد في ترميم ما كُسر، لعل عودة طفلها إلى حضنها، يكون عفو من الله، وغفران لذنوبها.
بينما كانت سالي تسير ببطء في الرواق المؤدي إلى غرفتها، مثقلة بالأفكار والمشاعر، سمعت همسة خافتة تناديها:
"سالي!"
توقفت وأدارت رأسها في استغراب، فرأت فرح تُطل برأسها من فتحة الباب، عيناها تتألقان بفضول ولهفة.
"تعالي هنا بسرعة!"، قالتها فرح بصوت خافت ولكنه ملح.
مالت سالي برأسها قليلاً وقد ارتسمت على وجهها ملامح الحيرة، ثم اقتربت من الباب بخطوات مترددة. وما إن وصلت حتى جذبتها فرح من يدها بسرعة إلى داخل الغرفة.
داخل الغرفة، فوجئت سالي بالأطفال متجمعين في دائرة غير مرتبة. بعضهم يجلس على السرير والبعض الآخر على الأرض، ملامحهم متحفزة، وعيونهم تلمع بترقب. أما الخمسة الصغار فقد كانوا يلعبون بألعابهم في ركن من أركان الغرفة غير مهتمين بما يجري حولهم من مشاكل.
قالت سالي بدهشة وهي تتأمل الوجوه الكثيرة المتطلعة:
"أنتم؟ لماذا لم تناموا حتى الآن؟ الوقت متأخر، وغداً لديكم مدرسة!"
لوّحت فرح بيدها بلا اهتمام وهي تدفع سالي لتجلس بينهم على الأرض:
"هذا غير مهم الآن! أخبرينا ما الذي حدث اليوم، هل ما سمعناه حقيقي؟"
رفعت سالي حاجبيها مدعية الجهل، وقالت بتلك النبرة المتظاهرة بالبراءة:
"ما هو؟"
لكن أميرة، كعادتها، لم تمنحها مهربًا. اعتدلت في جلستها، وعدلت نظارتها بعفوية وقالت بثبات:
"لا تتظاهري بالجهل يا دكتورة. يبدو أنك تعلمين جيداً ما حدث. نحن نقصد حسن والست منى.. هل هي أمه فعلاً؟"
كانت جرأة أميرة تدهش سالي دائمًا. فتنهدت مدركة أنه لا مجال للتهرب مع هؤلاء الأطفال الأذكياء. أجابت بصوت خافت يحمل شيئًا من الحذر:
"نعم.. لكن لن أدخل في تفاصيل أكثر من ذلك، هذا أمر يخص حسن."
ساد لحظة من الصمت، ثم خفضت فرح رأسها، وعيناها تمتلئان بمزيج من الحيرة وما يشبه الغيرة، وقالت بصوت خفيض:
"هذا أمر جيد، أن يعثر أحدنا على أحد أبويه."
أثقل كلامها الأجواء، وأحنى الصغار رؤوسهم وكأن كلمات فرح أيقظت شيئاً داخلهم. ثم قطعت نور السكون:
"هل هذا يعني أن حسن، لن يعيش معنا بعد الآن؟"
رفعت سالي عينيها إليها، ونظرت لكل طفل في الغرفة، شعرت بثقل نظراتهم عليها، وكأنهم ينتظرون منها إجابة معينة، فأغمضت عينيها واستلقت على الأرض وهي تتأمل السقف بخدر، وأجابت:
"لا أعرف بعد يا نور.. الأمور ما زالت معقدة".
تبادلت العيون الصغيرة نظرات صامتة، ثم قالت ليان وهي تضم ركبتيها إلى صدرها:
"إنه حقاً محظوظ لأنه عثر عليها".
لكن سالي ظلت صامتة، تفكر بعيداً عن خيال الصغار البريء الذي لا يفهم كم يكون الواقع أقسى من خيالهم.
سأل رحيم بفضول، وقد تركزت عيناه على سالي وهو يحاول فهم ما حدث:
"لكن لماذا غضب حسن ورحل بتلك الطريقة، أليس سعيداً لأنه عرف أخيراً من هي أمه؟"
أجابت فرح وعيناها مليئتان بالحزن. بصوت منخفض:
"ما فهمته من المشهد الذي حدث أمامي، أنه غاضب لأنه شعر بالغدر من الجميع.. من الست منى التي لا يحبها واكتشف أنها أمه، ومن أبيه خالد لأنه لم يخبره بالحقيقة قبل الآن، كل شيء كان مفاجئاً بالنسبة له، ولم يكن مستعداً لهذه الصدمة."
أكملت فرح حديثها بصوت منخفض، كأنها تسترجع ذكريات طويلة:
"أنا أعرف حسن جيداً منذ صغرنا، هو لا يمني نفسه أبداً بأية آمال عاطفية، وليس من السهل أن يدخل في صدمة عاطفية إلا لو.. لو كانت الصدمة هذه تمس شيئا عميقاً داخله، شيء يتعلق بمفاهيمه عن العائلة والانتماء. هو شخص منطوي، لا يظهر مشاعره بسهولة، لكن عندما يتعلق الأمر بالثقة والحب.. فالأمر مختلف."
ساد الصمت للحظات، بينما كانت وجوه الأطفال تعكس الحزن والقلق. حتى كسرت ليلى الصمت بسؤالها:
"أين هو الآن؟"
همست سالي، وهي تحاول أن تُخفي القلق الذي بدأ يظهر في ملامح وجهها:
"لا أعلم، ولكن أنا واثقة أنه سيكون بخير."
فجأة، اندفعت سارة نحو سالي بحماس، وكان وجهها مشرقًا بعفوية طفولية، وكأنها تحمل فكرة رائعة. قالت بصوت مرتفع متحمس:
"لننام معاً!"
ثم أضافت وهي تضيق عينيها برجاء لطيف كأنها تحاول أن تجعل طلبها أكثر إلحاحًا:
"أرجوكي، أرجوكي."
ابتسمت سالي، رغمًا عنها، وكان قلبها يذوب تجاه لطافة الطفلة البريئة. لكن مع ابتسامتها الخفيفة، قالت بحذر:
"أعتذر يا سارة، لا مكان لي حتى أنام معكم، كما أنني أعاني من الأرق، وسيصعب علي النوم مبكرًا، أما أنتم، يجب أن تناموا مبكرًا."
حاولت أن تكون حازمة قدر الإمكان، لكن كلماتها كانت مزيجًا من اللطف والاعتذار.
نهضت أميرة بهدوء، وكأنها تشعر بأن الوقت قد حان لإيجاد حل. تقدمت إلى مكتبتها الصغيرة، التي كانت مليئة بالكتب. مدت يدها نحو الرف، واختارت كتابًا ذا غلاف أزرق، ثم قالت بصوت هادئ:
"أنا سأساعدك في التخلص من الأرق."
أضافت أميرة وهي تفتح الكتاب بحركة رشيقة، عيونها تتألق بنية جادة:
"هذا الكتاب سيجعلك تشعرين براحة."
كان الكتاب بين يدي أميرة بعنوان "لماذا ننام؟" فتحته بحذر وشرحت باختصار:
"هذا الكتاب اسمه لماذا ننام، لماثيو ووكر هو دراسة علمية معمقة حول النوم وتأثيراته على الصحة العقلية والجسدية. يعتمد على أبحاث علمية حديثة ويوفر معلومات قيمة حول وظائف النوم وفوائده."
أضاءت عيون سالي بشيء من الاهتمام، ونهضت من مكانها مقتربة أكثر، بينما سارة التي كانت تتعلق بها بإلحاح، ثم سألت بفضول:
"هل يقدم تمارين تساعد على النوم؟"
أميرة أغلقت الكتاب قليلاً، وأجابت بابتسامة واثقة، وهي تراقب انتباه سالي:
"لا يقدم تمارين، ولكنه يستعرض أهمية النوم، أنواعه، تأثيراته على الصحة، ونصائح لتحسين جودته. نصائحه ستفيدك، وأنا سأساعدك في تطبيق النصائح. ستكونين تجربتي العملية، يا دكتورة."
شعرت سالي بشيء من الغدر المُسلي في كلمات أميرة، وكأنها تُعاملها كموضوع تجربة علمية. لكنها ابتسمت بلطف، ثم قالت بنبرة مرحة:
"إذاً، لتبدأ تجربتك العملية."
صاحت سارة بحماس:
"ستنامين بجواري؟"
أجابت سالي بحذر، وهي تحاول تهدئة الأمور:
"لا يا سارة، سأنام على سريري، وأنت ستنامين على سريرك."
لكن سارة لم تستسلم، وأمسكت بذراع سالي أكثر، عينيها مملوءة بعناد طفولي بريء:
"أرجوك، نامي معنا."
شعرت سالي بقبضة الطفلة الصغيرة على ذراعها، وقبل أن تتمكن من الرد، تدخلت لارا، التي كانت تقف بالقرب منها، وأمسكت بذراع سالي الأخرى قائلة بحماسة:
"نعم، لننام جميعاً بجوار بعضنا البعض!"
انتشر الصخب في الغرفة، وتدافعت الضحكات الصغيرة بين الأطفال، مما خفف قليلاً من التوتر الذي ساد المنزل طوال اليوم. لكن رغم ذلك، لم يستطع عقل سالي التوقف عن التفكير في حسن. تساءلت في نفسها: أين هو الآن؟ ماذا يفعل؟ كانت تشعر بقلق مستمر يحيط بها، وتساءلت أيضًا عن خالد، هل كان قد بحث عنه؟ أم أنه ذهب مباشرة إلى أنيسة، كما اعتادت عليه الأمور في الآونة الأخيرة؟
بينما كانت تحاول شغل نفسها مع الأطفال، لم تستطيع منع نفسها من التفكير في تلك التساؤلات التي كانت تدور في رأسها.
***
نظر أحمد إلى حسن الذي كان مستلقيًا على الأريكة في المستشفى، وشعر بشيء من الحيرة. منذ لحظة دخوله عليه فجأة، شعر بشيء غريب يسري في الجو، كما لو أن التوتر يعم المكان. على الرغم من أن أحمد لم يعتاد الوحدة في المستشفى، إلا أن قدوم حسن المفاجئ أضاف شيئًا غير متوقع إلى الصمت الثقيل الذي كان يحيط به. كان شكل أخوه غريبًا، ملابسه غير مرتبة، وعيناه محمرتان وكأنهما تحملان بقايا دموع. حتى حالته الباردة كانت تُظهر مزاجًا ناريًا وكأن هناك شيئًا داخليًا يشتعل بداخله.
أخذ أحمد نفسًا عميقًا، يشعر بألم جسده المكسور، وفكر في الكلمات التي سيقولها. همس بصوت منخفض:
"حسن."
أجاب حسن مهمهماً وكأنه نومه قد قُطع:
"نعم."
"هل حدث شيء لا أعرفه؟"
أجاب حسن بإيجاز:
"لا."
حدق أحمد بصعوبة في وجه أخيه للحظة، ثم سأل بصوت مشوب بالقلق:
"إذا لما جئت؟"
لم يظهر حسن أي تعبير على وجهه، ولكن كان من الواضح أنه يفكر وكأنه لا يعرف كيف يشرح ذلك. قال أخيرًا، دون أن يرفع نظره عن السقف:
"ما الغريب؟ أبيه طلب مني أن أقضي الليلة معك حتى لا تكون بمفردك."
رفع أحمد حاجبيه بدهشة، لكنه لم يستطع إخفاء شكوكه:
"حقًا؟"
أجاب حسن باقتضاب، وهو يلف نفسه أكثر بالبطانية:
"حقًا. فلتخلد إلى النوم الآن، أريد أن أنام."
أطاع أحمد أمر أخيه وأغمض عينيه، ولكنه لم يستطع أن يطرد الأفكار التي تملأ رأسه. لم تمر دقائق قليلة حتى سمع صوت حسن يتسلل في الظلام:
"أحمد."
فتح أحمد عينيه بسرعة، وأجاب بلهجة متلهفة:
"نعم؟"
"لو استيقظت مبكرًا، قبل مجيء أحدهم، أيقظني معك."
حدق أحمد في أخيه بفضول:
"ماذا تقصد بأحدهم؟"
"أبيه، أو الدكتورة سالي، أو الست مـ..."
توقف حسن عن الكلام فجأة، كأنه لا يستطيع أن ينطق اسم تلك المرأة أو حتى تخيل شكلها. ثم صحح نفسه بسرعة:
"أيقظني مبكرًا جدًا."
"لماذا؟ هل أنت متأكد أنه لم يحدث شيء؟"
همس حسن بضيق، وهو يغير وضعه على الأريكة كما لو كان يحاول الهروب من سؤال أحمد:
"أنت حقًا لحوح ومتطفل."
حاول أحمد أن يظهر التأثر، فقال بسخرية وهو يدعي البكاء:
"ومكسور."
ابتسم حسن ابتسامة ساخرة وأجاب:
"لأنك غبي."
التفت حسن إلى أحمد وهو يساند رأسه على يده، وقال بنبرة ماكرة:
"لم أكن أعرف أن الحب قد يدفعك للعب القمار."
احمر وجه أحمد خجلاً، وقال بتلعثم، محاولًا التهرب:
"ما الذي تقوله؟ ما الذي تعنيه؟"
عاد حسن إلى وضعه الأول، ونظر إلى السقف، ثم أغمض عينيه مبتسمًا:
"أنت تفهم جيدًا ما أعنيه."
نظر أحمد بصعوبة إلى أخيه، وعاد يتأمل السقف الذي حفظ تفاصيله. فجأة، ظهرت صورة نور في مخيلته، وعاد قلبه يتألم. تساءل بحزن: كيف تراه الآن؟ هل تراه سارقًا؟ أم حقيرًا يلعب القمار؟ هز أحمد رأسه بحزن عميق، وكأن محاولته لطرد هذه الأفكار كانت غير كافية. تمنّى في قرارة نفسه أن تبقى فكرة نور عنه كما هي، وألا تتغير أبدًا.
***
كانت أعصابه مشدودة إلى أقصى حد، وهو يفكر في أحداث اليومين الماضيين، من حادث أحمد إلى تفاقم مشكلة حسن. نهض، وشعر بتوتر عميق ينتفض داخل جسده، ثم وقف أمام النافذة. لم يرَ الشارع كما كان معتادًا، بل رأى نفسه في المرآة المقابلة. تأمل ملامح وجهه، ليكتشف لأول مرة رجلاً غريبًا عليه، رجلاً تجاوز منتصف الثلاثينات، والشيب بدأ يظهر في بعض الأماكن. كانت الهموم قد أثقلت عينيه المتعبتين، اللتين لم تذوقا النوم لأيام طويلة. تأمل شريط حياته الممتد، بكل أحداثه المؤلمة، وصولًا إلى لحظته هذه، وفجأة سمع نفسه يهمس بصوت منخفض:
"من أنت؟"
تفاجأ من السؤال الذي تردد في عقله، ثم همس مرة أخرى، وكأن الإجابة لا تأتيه:
"من أنت؟"
لم يسأل خالد هذا السؤال لنفسه منذ ذلك اليوم الذي اقتنع فيه بأنه يتيم ولا أهل له. حتى مع تذكره بعض تفاصيل حياته التي ضاعت مع ذاكرته، لم يكن لديه الفضول لمعرفة من هو، أو حتى ما الذي كان يميز عائلته. لكن الآن، كان السؤال يظهر أمامه من منطلق آخر، من منطلق عاطفته المتألمة التي أضعفها الحرمان والاشتياق والخوف. شعور غريب اجتاح قلبه، كأنما كان هناك دائماً شيء مفقود، شيء عميق يريد أن يحصل عليه، لكنه لا يستطيع أن يوضحه حتى لنفسه.
في تلك اللحظة، كان خالد يحاول أن يفسر الكثير من الأمور التي كانت غائبة عنه طوال السنوات الماضية. أو بالأحرى، هو من كتمها بداخل نفسه، ومنعها عن الظهور رغم كل ما كان يعانيه. لكنه الآن بدأ يدرك شيئًا فشيئًا، وهذه الأمور بدأت تتجلى أمامه كما لو أنها كانت تطفو على السطح رغماً عنه. كان يلاحظ الآن أن شعوره الدائم بالفراغ لم يكن بسبب غياب العائلة فحسب، بل لأن تلك الصورة عن الحياة الطبيعية التي يتخيلها الجميع كانت دائماً غائبة عنه، وكأنها شيء محرم عليه أن يعيشه. كان محروماً من أن يعيش كما يفعل الآخرون، أن يشعر كما يشعر الآخرون. وهنا، بدأ الأشتياق يتسلل إلى قلب خالد، أشتياق لشيء بعيد، شيء أصبح فجأة حلمًا يراوده. كان يتمنى حياةً لم يكن قد تخيلها من قبل، مجرد حياة عادية فقط.
بينما كان يحدق في الزجاج، ظهرت أمامه صورة مشوشة في الخيال، خيالٌ غير واضح، لكنه كان يحمل شيئًا حقيقيًا. رأى نفسه يحمل طفلاً، لكن هذا الطفل لم يكن واحدًا من الأولاد، كان طفلاً ينتمي له هو، بشيء غريب يشبهه. وبجانبه، كانت هناك شابة، لم يستطع أن يحدد ملامح وجهها، أو بمعنى أدق، خاف أن يتأمل ملامحها. وهنا شعور غريب اجتاحه، كما لو أن الخوف قد تلبسه فجأة، هذا الخوف الذي طالما راوده كلما شعر برغبة في التحرر من قيوده. كان أشتياقه في تلك اللحظة يعبر عن نوع من التحرر الذي لم يقدر عليه، لكن هذا التحرر سرعان ما جلب معه الخوف مرةً أخرى، الخوف الذي كان دائمًا لديه مبرراته الخاصة، دوافعه التي كان يخفيها داخل نفسه.
نظر خالد إلى أمه، التي كانت نائمة بعمق، تلك التي أصبح شكلها المرهق مألوفًا له. كان قد اعتاد على هذا، في تلك اللحظة، شعر بشيء مختلف. بدأ الخوف من رحيلها يتلاشى بوضوح، لكن ليس لأن قلبه تحجر أو أصبح قاسيًا، بل لأنه وصل إلى يقين مرير: هي سترحل، كما هو حال كل شيء في هذه الحياة، كما هي فطرة الحياة نفسها.
لكن في تلك اللحظة، عندما أدرك الحقيقة، تداخلت الأسئلة في عقله بشكل مفاجئ: ماذا سيبقى له حين ترحل؟ ما الذي سيبقى له في هذه الدنيا؟ ما هو الضمان؟ كانت تلك الأسئلة تتردد في ذهنه مرارًا، لكنه لم يكن متأكداً من الإجابة. وهنا مرةً أخرى عاد الخوف من رحيلها لكن بشكل أكثر حدة، لم يكن مجرد خوف بسيط، بل كابوس يلتهم قلبه. شعور بالرعب سيطر عليه فجأة. تحرك بسرعة وامسك يدها بقوة، كأنه يمسك بحبل نجاته الوحيد في هذا العالم، الحبل الذي يربطه بكل ما يعرفه، بكل أمانه وحبه في الحياة. ونسي حرمانه واشتياقه العاطفي وحتى خوفه، عاد ليغمر نفسه في صمت عميق، ويغلق تلك الأبواب التي كان قد فتحها للتو. دفن مشاعره مرة أخرى، وكأن شيئًا لم يكن. وليعود كل شيء كما كان، وكأن الخوف والاشتياق لم يعكروا صفو قلبه أبدًا.
***
أضاء هاتف سالي بضوء خافت دون صوت، فقط اهتزاز خفيف كان كفيلاً لتفتح عينيها ببطء وسط سكون الغرفة. كانت مستلقية على السرير، بينما التفّت سارة ولارا حولها كأنهما قطتان صغيرتان تبحثان عن الدفء، أذرعهما الصغيرة تلتفان حول خصرها، أنفاسهما هادئة بريئة.
في البداية تذكرت تحذير أميرة من استخدام الهاتف في الليل، ولكن فضولها تغلب على التحذير، ومدّت يدها بحذر، التقطت الهاتف دون أن تُوقظهما، وفتحت الرسالة التي ظهرت على الشاشة:
"حسن مع أحمد في المستشفى، طمأني الست منى."
كتبت بسرعة دون أن تفكر كثيرًا:
"سأخبرها، ولكن.. هل أنت بخير؟ أقصد الكدمة."
أرسلت الرسالة وانتظرت.. ثوانٍ، دقيقة، ثم أخرى.. لكن لا إجابة.
رفعت سالي عينيها إلى السقف، تأملته وهي تبحث عن تفسير، لماذا يفعل هذا؟ لماذا هو صامت؟ في لحظة.. تشعر أنه يقترب منها بلطف وود، وفي لحظة أخرى.. كأنه يبتعد عنها بملايين الأميال.
اعترفت سالي لنفسها أخيرًا، بصمت داخلي. كانت مشاعرها تجاهه حقيقية، نقية وصادقة، لكنها مقيدة، محاصرة بالخوف. كانت تخشى أن تبادر بشيء لا يُرد، أو أن يخيب أملها مرة أخرى. قلبها الذي ضمدته بعناية بعد كل كسرة، لم يكن مستعدًا لتحمل وجع جديد.
لم تكن تطلب الكثير، فقط كلمة، أو حتى إشارة صغيرة منه، إشارة تبعث في روحها الطمأنينة، وتفتح هذا الطوفان المحبوس في صدرها، المحمّل بالشوق والرغبة في القرب.
وضعت الهاتف برفق إلى جانبها على السرير، وتجنبت أن تنظر إليه مرة أخرى، كأنها تخشى أن يرد، أو ربما تخشى ألا يفعل. نظرت إلى السقف في صمت، ولم تستطع أن تغمض عينيها مجددًا. النوم، في تلك اللحظة، كان طلباً صعب المنال.
***
في صباح اليوم التالي، حدث أمر غير متوقع كعادة المنزل في هذه الأيام الثقيلة. كانت سالي قد استيقظت بعد ليلة طويلة من الأرق، عيناها مثقلتان بالسهاد، وصوت أميرة لا يزال يتردد في رأسها وهي تنصحها – بكل جدية – بالابتعاد عن الكافيين كخطوة أولى نحو نوم أفضل. رضخت سالي للنصيحة واكتفت بكوب من الحليب الفاتر، تحتسيه ببطء بينما تجلس في المطبخ وتثرثر مع إسراء وندى عن أمور خفيفة. ومنتظرة خالد الذي عاد من المستشفى ليبدل ملابسة، كانت تحاول جاهدة أن تبدأ يومها بهدوء، أن تتجاهل التوترات التي تحيط بها، ولكن ذلك لم يدم طويلًا.
وفجأة، انقطع حديثهنّ بصوت هادئ أتى من خلفها:
"دكتورة".
التفتت سالي، لتجد منى تقف خلفها، ملامحها حزينة ومكسورة منذ الأمس، ولكن حائرة. توقعت سالي أن يكون السؤال عن حسن، لكن بدلاً من ذلك، مدّت منى يدها نحوها، وفيها كيس بلاستيكي شفاف صغير، وداخل الكيس ثلاث حبوب رمادية اللون:
"ما هذا الدواء".
أخذت سالي الكيس من يد منى، ونظرت إليه، ولم تحتج لأكثر من لحظة حتى اتسعت عيناها، وتبدّل لون وجهها، كأن الحياة سُحبت منه. تأملت الحبوب ذات اللون الرمادي جيدًا، شحبت ملامحها، ثم شعرت بوخز مؤلم في بطنها، وتصبب العرق على جبينها، فخطت خطوتين متعثرتين وجلست على أقرب كرسي، وقدماها بالكاد تحملانها.
بصوت مرتجف، خرجت الكلمات من بين شفتيها:
"أين.. أين عثرتِ عليها؟"
مالت منى برأسها، وعيناها لا تخفيان قلقها وهي تجيب:
"في ملابس أحمد.. التي ذهب بها إلى المستشفى.. كنت أغسلها ووجدت الكيس في جيبه."
رفعت سالي الكيس بيد مرتجفة، وحدّقت فيه مرة أخرى، ثم همست بنبرة مكسورة:
"هذه.. حبوب 'غ'..."
وما إن خرجت الكلمة من فمها، حتى تجمد المطبخ للحظة، ثم انتفضت ذكية التي كانت تقف أمام الحوض، والتفتت إليها في صدمة، وابنتا أخيها وقفتا بجوارها وقد سقطت الأطباق من أيديهما، وصاح الثلاثة معًا، بصوت واحد ملؤه الفزع:
"حبوب 'غ'؟!"
كانت الصدمة قد سكنت المكان، وسادت لحظة صمت ثقيل، كأن الهواء نفسه توقف عن الحركة. نظرت منى إليهم جميعاً، ملامحها يغمرها ارتباك لم تعرف له سببًا، ثم قالت بتردد، صوتها خافت لكنه متوتر:
"ماذا؟"
تقدمت ندى بخطوات سريعة نحو سالي، وانتزعت الكيس من يدها برفق، حدّقت في الحبوب الرمادية بعينين متسعتين، ثم استدارت بسرعة إلى ذكية وقالت:
"عمتي.. إنها هي، أليس كذلك؟!"
تأملتها ذكية بصمت، وعيناها تتنقلان بين الحبوب ووجه ندى، ثم تنهدت ببطء، وكأنها تحاول استيعاب ما أمامها، وهمست:
"نعم.. يبدو أنها هي."
انفجرت منى فيهم جميعًا باستغراب، حاجباها مرفوعان ويداها ممدودتان في الهواء:
"ماذا تقصدون؟! أنا لا أفهم شيئًا!"
تقدمت إسراء قليلًا، وعلى وجهها علامات قلق حاد، ثم قالت بنبرة خافتة وكأنها تخشى أن تنطق بالحقيقة:
"إنها.. حبوب قاتلة. تُستخدم في الزراعة للتخلص من الحشرات والآفات التي تأكل المحاصيل."
قطبت منى جبينها وقالت باستغراب أكبر:
"وما المشكلة؟! إذاً هي دواء زراعي؟"
همست سالي وهي تكاد لا تستطيع رفع عينيها عن الأرض، صوتها ضعيف مائل للخمول:
"يتم استخدامها للانتحار.."
سحبت منى أنفاسها بقوة، واتسعت عيناها، ثم صاحت:
"ماذا؟!"
نظرت إلى سالي التي لم ترفع رأسها، وصوتها مليء بالذهول:
"ماذا تقصدين بالانتحار؟!"
نظرت سالي إلى منى بعينين غائمتين، ثم همست بصوت خافت بالكاد يُسمع:
"قلتي إنك وجدتيه في ملابس أحمد؟"
أومأت منى برأسها، وجهها ما يزال شاحبًا، وعيناها معلقتان بالكيس في يد ندى، ثم ردّت بصوت مرتجف:
"نعم... في جيب بنطاله."
رفعت ذكية نظرها نحو السقف ثم قالت بنبرة قلقة، وكأنها تخاطب نفسها:
"ما الذي سيفعله ولد في مثل سنه بهذه الحبوب؟ ومن أين حصل عليها؟!"
لكن الصمت كان الإجابة الوحيدة، وسكن المكان تمامًا، لتكسر ندى الصمت وتقول ببطء، وكأنها تخشى من وقع كلماتها:
"هل.. يعقل أنه أراد أن يتناولها؟"
هزت سالي رأسها برفق كمن يرفض تصديق الفكرة كلها، وقالت:
"دعونا لا نستبق الأحداث يا ندى.." ثم نظرت إلى باب المطبخ، وأكملت:
"مستر خالد وصل منذ قليل.. لنستشيره أولًا."
تحركت ندى ببطء نحو سالي ووضعت الكيس في يدها، وكأنها تضع قنبلة تخشى أن تنفجر، بينما نظرات الجميع كانت معلقة بذلك الكيس الشفاف، والقاتل.
تأملته سالي بقلق وتساءلت في نفسها:
'هل يمكن أن يكون أحمد.. فكر بذلك حقًا؟'.
***
أغلق خالد باب شقته بهدوء، وأخذ ينزل درجات السلم بخطوات متزنة. عند الدور الأرضي، لمح ظل جسدٍ يجلس بصمت على درجات السلم، رأس منحنٍ وكتفان مرتعشان. اقترب بخفة، وقبل أن يصل، خمّن بصوت منخفض:
"دكتورة؟"
رفعت سالي رأسها ببطء، ونظرت إليه. كانت عيناها زجاجيتين، غارقتين في أفكار بعيدة، ولكن ما جذبه حقًا كان جسدها، الذي بدا وكأنه يرتجف من الداخل، وكأنه سينهار. اقترب منها أكثر وسأل بقلق:
"ماذا حدث؟ هل أنتِ بخير؟"
نهضت سالي ببطء، متشبثة بسور السلم كأنها تحاول النهوض من هوّة، ثم أدخلت يدها المرتجفة في جيب معطفها، وأخرجت كيسًا صغيرًا شفافًا. وضعته في كف خالد دون أن تنظر إليه. نظر إلى الكيس بحيرة، ثم إلى وجهها:
"ما هذا؟"
همست:
"حبوب 'غ'."
تجمد خالد للحظة، ظل ينظر إلى الكيس بتركيز بينما عقله يحاول تفسير هذه الكلمة. وقبل أن ينطق، أكملت سالي بصوت منهك:
"وجدناها في جيب أحمد.. في ملابس الحادث."
بدت الكلمات وكأنها صفعة. شحب وجه خالد، تسمرت عيناه في عينيها وسأل، بتوتر بدأ يتصاعد:
"ماذا تقصدين؟"
استدارت سالي كأنها تهرب من عينيه، لكن قدمها كادت أن تتعثر على الدرجة. اندفع خالد وأمسك بذراعها بسرعة، حاول أن يثبتها، وعيناه تبحثان عن أي تفسير على ملامحها المرتبكة:
"أجيبيني، ماذا تقصدين؟"
همست أخيرًا:
"تلك الحبوب السامة... وجدناها في جيب أحمد. وليس لدي تفسير واحد لوجودها هناك."
بقي خالد صامتًا، لكنه نطق أخيرًا، بصوت خافت، محمّل بالصدمة:
"ألستِ تقصدين.. تلك الحبوب التي يستخدموها في.. الانتحار؟"
هزّت سالي رأسها بالإيجاب ببطء، وعينيها تدمعان وهي تتذكر الحالات التي شاهدتها في قسم الاستقبال أثناء عملها في المستشفى. كانت تلك لحظات صعبة، حيث كانت الحالات تتوافد وهي تعاني من تأثير تلك الحبة اللعينة. كانت من أقسى المشاهد التي مرت بها في حياتها. أغلب الحالات كانت لشباب وشابات تناولوا الحبة إما رغبة في الانتحار أو كتهديد لعائلاتهم، معتقدين أنهم سينجون منها، ولكن للأسف كانت نسبة النجاة منها ضئيلة جدًا.
نظر خالد إلى سالي، وتمتم بصوت منخفض، كما لو كان يحاول إقناع نفسه أولاً:
"لا أعتقد أنه كان سيستخدمها في الانتحار، هذا مستحيل."
رفعت سالي رأسها ببطء، وعينيها مليئتان بالحزن. نظرت إليه بشفقة، ثم همست بصوت يتسرب منه الألم:
"إذاً، لماذا هي في جيبه؟"
صمت للحظة، وكأن السؤال أثار في نفسه العديد من الأجوبة المحتملة التي لا يستطيع إخبارها. ثم قال بسرعة، وكأنه يحاول التخلص من الفكرة المزعجة:
"ربما أخطأت في تقدير الأمور، ربما لا تكون تلك الحبة من الأساس."
لكن سالي كانت أكثر يقينًا من أي وقت مضى، فقاطعت كلامه بحزم، نظرتها حادة كأنها لا تقبل الشك:
"إنها هي.. أنا أعرفها جيداً، من المستحيل ألا أميزها."
أخذ خالد خطوة إلى الوراء، وكأن الكلمة التي خرجت منها فم سالي كانت ضربة قاضية، وهو يحاول استيعاب حقيقة ما قالته. كانت صدمتة واضحة في عينيه، وقال بصوت مملوء بالتساؤل:
"لو كان أحمد بالفعل ينوي ابتلاعها، لكانت النهاية؟"
رمقته سالي بنظرة طويلة، مليئة بالألم، ثم أغمضت عينيها تحاول حبس دموعها. تنفست بعمق، وهمست بصوت مخنوق، يكاد يكون همسًا:
"لو ابتلعها بالفعل.. لكانت نهايته."
كان جو الغرفة يصبح ثقيلًا مع كل كلمة تتردد بينهما، همس خالد بعد لحظة:
"لماذا؟"
ترددت سالي قليلًا، ثم قالت بصوت منخفض:
"ربما... كان خائفًا. أعتقد أنه كان تحت ضغط نفسي شديد دفعه لشراء تلك الحبوب."
أغمض خالد عينيه بأسى، ولم يجب. كانت ملامحه ساكنة، لكن الحزن واضح فيها. شعرت سالي بثقل حزنه، ذلك الحزن الذي يتجدد كلما ظن أنه انتهى. هذا الرجل لا يكاد يخرج من أزمة حتى يُدفع إلى أخرى. نظرت إليه بحزن، وتمنت لو تستطيع أن تخفف عنه، ولو قليلاً. لكن كيف؟
همست بصوت منخفض:
"لماذا لا تتحدث معه؟ تطمئنه.. هذا مهم، خاصة وأن أحمد في وضع الآن لا يسمح له بالحركة."
زفر خالد ببطء، وعيناه تحدّقان في اللاشيء، قبل أن يقول بصوت أقرب للوجع منه للكلام:
"هل تعتقدين أن مجرد الحديث معه سينتزع تلك الفكرة من رأسه؟ لقد اخترقت عقله، إلى الدرجة التي دفعته ليشتري مثل تلك الحبوب الخطيرة. أحمد.. كان سيفعلها، لو أن أزمته تجاوزت ما وصلت إليه."
ساد بينهما صمت ثقيل، قطعته سالي بهدوء:
"المهم.. أنه لم يصل إلى وضع أخطر من مجرد شرائها."
أغمض خالد عينيه للحظة، ثم تمتم بصوت خافت بالكاد يُسمع:
"الحمد لله."
***
تأمل أحمد الساعة وهو يتنهّد بملل. عقاربها تتحرك ببطء يكاد يتوقف. لم يأتِ أحد، لا أبيه خالد، ولا الدكتورة سالي، ولا حتى منى. أما حسن، فقد غادر منذ وقتٍ مبكر جداً. بدا له أن حسن كان يهرب من شيء، شيء لم يفصح عنه، وكأن هناك ناراً تحت جلده لا يطيق الجلوس فوقها.
وبينما كان مستغرقاً في أفكاره، سمع طرقات خفيفة على الباب. ظن أنها الممرضة التي دخلت منذ دقائق، فالتفت دون اهتمام قائلاً بفتور:
"تفضّلي."
لكن المفاجأة عقدت لسانه للحظات، فقد كانت نور من فتحت الباب، تتبعها سالي وخلفهما خالد. تقدمت سالي بخطى خفيفة، وبصوت مفعم بالحيوية والدفء قالت:
"صباح الخير يا بطل.. كيف حالك اليوم؟"
رد أحمد بتحية خافتة، وعيناه لا تفارقان نور التي دخلت بخطوات هادئة وقادها خالد حتى جلست على الكرسي القريب من سريره. ثم وضع خالد يده على كتف أحمد وربّت عليه بلطف، وقال بنبرة هادئة تشوبها لمسة من الحزن:
"كيف حالك؟"
رفع أحمد رأسه إليه بحيرة وتأمل ملامحه المتعبة التي رسم الحزن ظلاله عليها، فأشاح ببصره بخجل وأجاب بصوت خفيض:
"أنا بخير... شكراً."
ثم جاء صوت نور، ناعمًا كنسمة باردة:
"أحمد..."
التفت إليها سريعاً، مستعداً لسماع كلماتها، فقالت:
"سمعت من أبيه أنك تعرضت لإصابات كثيرة، كنت قلقة عليك جدًا، كيف حالك الآن"
رمق أحمد حاله بنظرة حزينة. لكنه شعر بالامتنان لأنها لا تستطيع رؤيته. لا ترى وجهه الشاحب أو الغرز في رأسه أو الضمادات التي تغطي جسده. قال بصوت هادئ:
"أنا بخير يا نور، لا تقلقي علي."
"نحن جميعًا نتمنى أن تعود بسلام إلى المنزل، تعافى سريعًا حتى تعود إلينا بسرعة."
قالتها بابتسامتها الجميلة، ثم أخذ الأولاد يتحدثون بهدوء بينما كانت ملامح خالد وسالي تحمل الترقب الشديد. وبعد نصف ساعة من الحديث، قال خالد:
"من فضلكم، أريد التحدث مع أحمد بمفردنا."
وكأنها كانت إشارة فهمتها سالي، التي نهضت بسرعة وقالت برقة:
"حسنًا، تعالي معي يا نور لنتحدث قليلًا مع طبيب أحمد، ما رأيك؟"
أومأت نور برأسها بطاعة، وابتسمت بسكون، ثم رافقتها إلى خارج الغرفة.
راقبهم خالد للحظات، ثم توجه للجلوس على الكرسي الذي كانت نور تجلس عليه للتو. مرت لحظات طويلة كان أحمد يتجنب خلالها النظر إلى خالد، الذي أخرج زفيرًا عميقًا ثم تحدث بصوت هادئ لكنه يحمل في طياته جدية:
"أريد أن أخبرك أن الشرطة عثرت على الشباب الذين فعلوا ذلك بك."
تجمد أحمد للحظة، ثم التفت إليه وأنصت له باهتمام شديد، ليكمل خالد:
"تم القبض عليهم، ويجري التحقيق معهم الآن. لا تقلق، سيتم معاقبتهم."
شعر أحمد بارتياح غامر وهو يسمع تلك الكلمات. كان هذا الموضوع قد أرعبه لأيام عديدة، وكان يخشى أن يعود هؤلاء الشباب ليؤذوه مرة أخرى. لكن مع هذه الأخبار، بدأت ملامح الارتياح تظهر على وجهه. ثم تحدث خالد مرة أخرى:
"أما بالنسبة للأموال، فقد سددت الدين مناصفة مع والد زميلك."
لقد كان هذا أيضًا من أكبر همومه. كان العبء المالي جزءًا من ضغطه النفسي، لكنه الآن قد زال، مما جعله يشعر بالراحة قليلاً.
ثم تردد خالد للحظات قبل أن يواصل حديثه:
"فكرت كثيرًا في الأمر، وتوصلت إلى قرار أراه جيدًا."
نظر أحمد إلى خالد، وملامح الاستفهام واضحة على وجهه. ثم قال خالد:
"سأنقلكم إلى مدرسة أخرى. لا أعتقد أنكم سترتاحون في تلك المدرسة بعد المشاكل الكثيرة التي حدثت مؤخرًا."
أحس أحمد بشيء من التردد فقال:
"ولكن.."
قاطع خالد حديثه بلطف لكنه حازم:
"دعني أكمل حديثي أولاً، ثم تحدث أنت."
أكمل خالد حديثه بنبرة تجمع بين الحزم والتفهم:
"في البداية، شعرت بالقلق من أن أعودكم على الهروب من مشاكلكم، لكن بعد تفكير طويل، أدركت أن المسألة ليست هروبًا.. بل حماية. المدرسة، بكل بساطة، لن تتقبلكم بعد كل ما حدث. لقد شعرت بذلك بوضوح وأنا أتحدث مع المديرة.. الأمر لم يعد كما كان، أنتم لم تعودوا مرغوبين هناك."
توقف لحظة، تنهد، ثم أردف بصوت هادئ:
"لهذا قررت أن نبدأ صفحة جديدة، في مكان جديد، مع بداية الفصل القادم. ستكون لكم فرصة للبدء من جديد."
ثم صمت برهة قبل أن يتابع:
"ولكن.. نور لن تكون معكم في نفس المدرسة. ستنتقل إلى مدرسة أخرى، تناسب احتياجاتها بشكل أفضل."
سكت للحظة، يراقب ملامح وجه أحمد، يتوقع ردّة فعل أو اعتراض. كانت نظرات الفتى مثقلة بالأسى، لكنه لم ينبس ببنت شفة.
اقترب خالد قليلًا، وانحنى نحوه قائلاً بهدوء:
"أحمد، ارفع رأسك وانظر إلي."
رفع الفتى رأسه بطاعة، وعيناه تلمعان بالارتباك. نظر إليه خالد نظرة مباشرة، نظرة عميقة تنفذ إلى الداخل، ثم قال بصوت ثابت لا يعرف التردد:
"حياتك ثمينة، أثمن مما تتخيل. إن لم تستطع أن ترى قيمتها الآن، فاسأل من حولك، وستعرف. لا تفرط فيها، لا بأي شكل ولا لأي سبب. ومهما كانت الظروف، أو الأخطاء التي ارتكبتها، لا تجعل اليأس يخدعك ويأخذك في طريق مظلم."
مدّ يده ومسح على كتف أحمد بلطف، وأكمل:
"كل إنسان يخطئ، لكن الخطأ ليس نهاية الطريق. هو بداية.. بداية فهم، وتعلّم. لذلك، كلما شعرت أنك وقعت في مشكلة، لا تكتمها. لا تصمت. تحدث. حتى لو كنت خائفًا من العقاب، فصدقني، العقاب، مهما كان، أهون بكثير من نتائج الكتمان. الصمت أحيانًا عواقبه أقسى من العقوبة."
"أحمد.." قالها خالد بصوت منخفض لكنه عميق، ثم أكمل بنبرة ممتزجة بالرجاء والتحذير:
"تذكر أن أي محاولة تُفرّط فيها بحياتك، ستترك وراءك قلوبًا مكلومة، حزينة، تتألم كل يوم. أرجوك، لا تكن سببًا في ألم من يحبك.. لا تكن السبب في دموع أم، أو وجع أخت، أو كسر قلب أخ."
صمت للحظة، وعيناه ما زالتا ثابتتين على وجه أحمد الذي شعر بأن السر الذي ظنّه مخفيًا قد كُشف، وأن النية التي خبّأها في أعماقه لم تعد خفية، فخفض رأسه، والدموع تنسال بصمت على وجنتيه، ثم قال بصوت متحشرج، هامس:
"أعدك يا أبيه.."
ابتسم خالد بعطف، ومدّ يده مرةً أخرى ليربت على كتف الفتى برفق، وكأنما يسكب في لمسته طمأنينة وحنانًا يواسيان الفتى الحزين النادم.
نهاية الفصل الأربعون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء..
يارب تكون الفصول جديدة عجباكم. وشكراً على صبركم.
كاتبتكم ءَالَآء
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق