الثلاثاء، 14 يناير 2025

رواية المنزل: الفصل الثالث والثلاثون: حكاية أنيسة الجزء الثالث - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الثالث والثلاثون

المزيكا انهاردة آخر كوبيله من أغنية فكروني. "فكروني ازاي هو انا نسيتك" ألحان محمد عبدالوهاب وكلمات عبدالوهاب أحمد. أكتر كوبليه حسيته مناسب مع الفصل ده.

وكأن النكسة كانت سحابة مظلمة سبحت فوق رؤس الناس جميعاً، كابوس يطاردنا في أوقات الصحوة والغفوة. كل العالم كان يتحدث عن الانتصار الكاسح لإسرائيل والهزيمة الساحقة للعرب. الحياة تعطلت تماماً وتنحى جمال عبد  الناصر، مما أدى إلى خروج ملايين المصريين في مظاهرات حاشدة تطالبه بالعدول عن قراره والاستمرار في القيادة. استجاب عبد الناصر لهذه المطالب، وتراجع عن قرار التنحي في اليوم التالي. وبعد التراجع عن قرار التنحي، اتخذ عبد الناصر خطوات لإعادة بناء القوات المسلحة والاستعداد لاستعادة الأراضي المحتلة. بدأت مصر في إعادة تنظيم الجيش وتحديث تسليحه، مما مهد الطريق لحرب الاستنزاف التي استمرت فيما بعد حتى عام 1970.

ومن المثير للعجب أنه على الرغم مرارة الهزيمة الساحقة، لم يستسلم المصريون ليأس. فقد استمروا في دعم عبد الناصر، معتبرين إياه رمزًا للصمود والتحدي. ساهمت خطاباته وقراراته في تعزيز الروح الوطنية، وتحفيز المجتمع على المشاركة في جهود إعادة بناء القوات المسلحة ودعموا مبادرات الدولة لتعزيز القدرات الدفاعية. هذا التكاتف الشعبي كان له دور محوري في التحضير لحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر.

مال رأسها وهي تتذكر تلك الأحداث بمشاعر متباينة على صفحة وجهها المرهق، وقالت:

"أما أنا فكنت أعيش في حالة صدمة استمرت شهوراً طويلة، وصلت بي إلى حد جعل جدي يشفق علي ويحاول مواساتي بكل وسيلة ممكنة. عاد جدي الذي أحببته، طيباً وحنوناً كما كان، ولكن بشرط، وهو اختفاء كمال تماماً من حياتي.

ورغم ذلك، لم يكن الحزن يخفف من قسوة المجهول الذي ينهشني. ما كان يمزقني أكثر هو جهلي بمصير كمال؛ فلا اسمه ورد في قوائم الشهداء الذين ارتقوا في النكسة، ولا قريبه الذي أعطاني رقماً للتواصل معه حمل إلي أي خبر يطمئنني. حتى عائلته نفسها ظلت بلا خبر عن مصيره، تتمسك ببصيص أمل أنه قد يكون أسيراً لدى العدو.

لكن مجرد التفكير في فكرة الأسر كان يعذبني. فالعدو الذي نقابله ليس ممن يعرفون معاني الإنسانية، وقد سمعت قصصاً مروعة عن الأسرى وما يلاقونه في معسكرات العدو. كمال الذي كان رمز القوة والكرامة في نظري، كيف يمكن أن يحتمل ذلاً كهذا؟

كانت الحياة من حولي قد فقدت كل معانيها. كل شيء بدا غريباً ومظلماً، وكأن ألوان العالم قد بهتت تماماً. لم يعد هناك ما يجذبني أو يبعث في داخلي أي شعور بالفرح. فبدون كمال، لم يكن هناك شيء في حياتي يمكن أن يوصف بأنه حلو".

شعرت سالي، وكأن كلمات أنيسة تعكس جزءاً من مشاعرها الداخلية، تلك المشاعر التي حاولت دائماً كتمانها. رغم أن أسباب ألم كل منهما كانت مختلفة تماماً، إلا أن الحزن الذي في عيني أنيسة وكلماتها المشبعة باليأس جعلا سالي تشعر وكأنهما تتشاركان نفس النظرة إلى الدنيا؛ نظرة يغلبها الوجع وتغيب عنها ألوان الفرح. طردت تلك الأفكار، وأخذت تستمع إلى باقي القصة على لسان بطلتها.

على مدار الشهور التالية، كانت الأخبار تتمحور حول الأسرى المصريين والجهود المكثفة التي تبذلها الحكومة المصرية لاستعادتهم. إلى أن جاء اليوم الذي أعلنت فيه عن نجاح عملية تبادل الأسرى بين مصر وإسرائيل، حيث أُطلق سراح الآلاف من الأسرى المصريين، من بينهم ضباط، وجنود، ومدنيون. كان الخبر يحمل معه بصيصًا من الأمل وفرحةً كبيرة، إلا أن تلك الفرحة سرعان ما تلاشت أمام الصدمة التي تلقيتها.

عندما تواصلت مع قريب كمال لأطمئن عليه، أخبرني بصوت خافت متردد أنه لا يملك أي أخبار عنه، وأن اسمه لم يرد ضمن العائدين. ورغم محاولاتي المتكررة للتأكد، وإصراري على الاتصال به مرتين يوميًا، لم تتغير إجابته أبدًا. كانت كلماته ذاتها تتكرر، ثقيلة على مسامعي:

"أنا آسف، آنسة أنيسة".

كانت تلك صدمة أخرى قضت على ما كان لدي من أمل حول نجاته. لقد مات كمال بالفعل في النكسة، وتركني خلفه لأعيش ألم الفراق. هكذا كان آخر سطر تم نقشه في قصتنا الصغيرة التي رسمنها لها يوماً ما توقعات لمستقبل مشرق سعيد. 

ومرت الحياة ثقيلة، تُجرني معها رغم الألم ورغماً عني، وأنا أعيش كإنسانة بلا روح، أساير الأيام فقط دون رغبة أو شغف. أكملت دراستي، وتخرجت بشهادة البكالوريوس في الآداب قسم اللغة الفرنسية. وساعدني شقيقي أسعد في العثور على وظيفة كمعلمة للغة الفرنسية في إحدى مدارس البنات. لكن لم تكن الأمور سهلة؛ فقد اعترض جدي بشدة على فكرة عملي، متمسكًا بعناده الذي اعتدت عليه، ورافضًا بشراسة أن أعمل في مدرسة. إلا أن أخي وقف في وجه جدي، وتحدث معه بكل قوة، مدافعًا عن حقي في العمل. وبعد محاولات عدة وصدامات لم تخلُ من التوتر، رضخ جدي أخيرًا لإصراره، وسمح لي بتولي الوظيفة، ولو على مضض.

كنت أجد العزاء في وظيفتي، بين الفتيات الصغيرات اللطيفات. كانت لحظاتي معهن هي الأكثر إشراقًا في يومي، حيث كنت أعيش بينهن كما لو كنت طفلة، أشاركهن أحلامهن وأفكارهن وأتعلم من نشاطاتهن بكل شغف. كان حبي للأطفال ينمو بداخلي أكثر مع كل يوم عمل، وأعتقد أن تلك الفترة كانت بداية ارتباطي العميق بهم.

لكن حياتي بعد المدرسة كانت فارغة، كما لو أنني كنت أعيش بدون روح. كنت أنهي دوامي المدرسي يومًا بعد يوم، وفي كل مساء، كنت أذهب لزيارة شاطئ البحر، سواء في الصيف أو الشتاء. كان البحر بالنسبة لي بمثابة ضريح لحبيبي كمال، كنت أذهب إليه لأغسل حزني وأبحث عن الراحة في أمواجه.

مع مرور الأيام، كنت أعيش حياتي بشكل طبيعي أمام عائلتي وفي عملي، حتى أن من حولي بدأوا يعتقدون أنني قد نسيت أمر كمال. لكن في بعض الأوقات، كنت أختلي بنفسي وأغرق في لحظات من الحزن والضعف، حيث كان جرحي عميقًا في داخلي، وما زال ينزف، يتركني هشّة وضعيفة.

لكنني كنت أخرج من تلك اللحظات المنفردة بابتسامة عادية، وأعيش حياة معتدلة، أتحدث باعتدال، أضحك باعتدال، وأتفاعل مع من حولي باعتدال، اعتدال بعيد كل البعد عن الصدق أو العاطفة الحقيقية. كانت هذه محاولاتي لتخطي ما بداخلي، حتى وإن كانت تلك التفاعلات غير حقيقية.

كان جدي وجدتي وشقيقي يحاولون إقناعي بالموافقة على الزواج، خوفًا من أن أمضي حياتي بمفردي. في البداية، حاولت بصدق، ولكنني فشلت فشلًا ذريعًا. لم أتمكن من رؤية أي شخص فيهم ككمال، وكان ذلك خطأي. فحبي لكمال كان يعميني عن رؤية الأشخاص الآخرين بوضوح، ويمنعني من إدراك حقيقتهم. ومع مرور الوقت، بدأت أرفضهم بإصرار، كنت أنتظره، احساس داخلي يدفعني لأن أنتظر عودة حبيبي الميت، الذي لم أكن متأكدة من مصيره حتى الآن.

مرت 3 سنين منذ النكسة، ومن ثم جاء الحدث المفاجئ بوفاة جدتي العزيزة، الحنونة التي كانت سندي في هذه الحياة. كانت تلك صدمة أخرى تركتني في حالة من الفراغ العاطفي، فقد كانت جدتي هي دعمي الأول في الحياة، وها هي رحلت بعيداً، وانضمت إلى والديّ وكمال.

سالت دموع أنيسة بحرارة على وجنتيها، وبدأت تتنهد بصعوبة، مستذكرة أيام الألم التي مرت بها. نهضت سالي من على الأريكة، ومسحت على ظهر المرأة برقة وحنان، في لفتة مليئة بالمواساة والصدق. انتظرت حتى أمسكت أنيسة دموعها بمنديلها، ثم ألقت على سالي نظرة ممتنة وقالت:

"أشكرك يا ابنتي، لا تقلقي، أريد أن أكمل".

وفي أحد أيام شهر آذار 'مارس' من عام 1971، حدث ما لم أتخيله أبداً منذ رحيل كمال

وفي أحد أيام شهر آذار 'مارس' من عام 1971، حدث ما لم أتخيله أبداً منذ رحيل كمال. بعد شهرين من وفاة جدتي، في بداية نوة الإسكندرية، انتهيت من عملي في المدرسة وخرجت في طريقي إلى الشاطئ. كنت ما زلت أرتدي الأسود حداداً على جدتي، وسرت بخمول بينما الرياح الشديدة تضرب وجهي. ورغم وجود بعض الأشخاص من حولي، شعرت وكأنني مستهدفة. لم أستطع تفسير شعوري، ولكنني تابعت السير دون أن ألتفت. وصلت إلى الشاطئ ووقفت أمامه أتأمله، وفي تلك اللحظة كان جزء من عقلي مشغولاً بالتساؤل عن هوية الشخص الذي كان يسير خلفي. بعد دقيقة، أخذت نفساً عميقاً، ثم التفت.

لم أكن أدرك كم من الوقت مر وأنا أركز في هذا المشهد الغريب. بدا لي وكأن الزمن توقف في تلك اللحظة. لم أصدق عيني، فالشخص الذي كان يقف أمامي كان يشبه كمال تماماً، بل كان هو كمال. تأملته بذهول، وكانت هيئته قد تغيرت، أصبح أنحف، وشعره الأسود الذي كان يلمع تحت ضوء الشمس، وبشرته السمراء التي كنت أحبها، وعيناه الداكنتان المليئتان بالرموش الكثيفة التي بدا عليهما شيء من التعب والفراغ.

كان هذا هو كمال.. ولكن كيف؟ كيف يحدث هذا؟ هل كان حلمًا أو هل اختلطت الأحلام بالواقع؟! لم أستطع استيعاب ما كنت أراه، ولكن لم أستفق من صدمتي إلا عندما اخترق صوته أذني، ممزوجاً مع هواء البحر العاصف:

"لقد مضى وقت طويل.. كيف حالكِ يا أنيسة؟"

كان هذا صوته الأجش، لكن مع انخفاضٍ واضح فيه، وصدى حزن عميق بدا في نبراته.

ثلاث سنوات، ثلاث سنوات مرت منذ آخر مرة رأيته فيها، ثلاث سنوات وأنا أعيش على أمل أن يعود إلى الحياة وأراه مجددًا، حتى ولو في أحلامي. ثلاث سنوات منذ سمعت صوته الجميل، ثلاث سنوات منذ انفصلنا، والآن، ونحن على بعد عدة أمتار فقط، بعد أن كانت تفصل بيننا بلدان وعوالم كما كنت أظن سابقًا. لكنه كان كمال. نعم، كمال هو من كان يقف أمامي، وليس شخصًا يشبهه.

حاولت أن أتكلم، لكن الكلمات خانتني، فكنت في حالة صدمة شديدة جعلتني عاجزة عن النطق.

ابتسم ابتسامة صافية، ثم قال: "هذا أنا، يا أنيسة. هل تعلمين كم افتقدتكِ؟".

وفي اللحظة نفسها، تدفقت دموعي على وجنتي، ولم أشعر بها إلا وأنا أرتمي بين ذراعيه، وضاغطة وجهي على كتفه، صارخة:

"كمال!".

كانت الكلمة الوحيدة التي خرجت من فمي، وأنا في حالة ذهول تام، لا أصدق ما يحدث. لم أكن أستطيع أن أستوعب كيف أنني هنا، في هذا المكان، مع هذا الشخص الذي كنت أظن أنني فقدته للأبد. كان بيننا الكثير من الزمن، من الألم، ومن الانتظار الذي لم ينتهِ، والآن هو أمامي، بين ذراعيّ.

شعرت بدفء جسده وهو يحتويني، وبطء دموعي التي كانت تتساقط على كتفه. كان شعوراً غريباً ومؤلماً في نفس الوقت، فرح وحزن مختلطان في قلبي، كأنني وجدت شيئاً فقدته طويلاً، ولكنني أيضاً كنت خائفة أن يكون كل هذا مجرد حلم، أو أنني سأستيقظ منه في أي لحظة.

تسللت كلماته إلى أذنيّ وهو يقول بهدوء:

"حاولت، لكني لم أتمكن من العيش بدونك. ظننت أنك قد نسيتيني".

تمسكت به بقوة دون أجيب، فلم تكن لدي كلمات تصف حجم ما شعرت به في ذلك الوقت، كان كل الكلام لا يساوي شيئاً أمام تلك الحظة التي تجلت بعودة كمال. وبعد لحظات طويلة تمسك به فيها به وكأنه طوق النجاة ابتعدت عنه قليلاً وأنا أقول بلهفة:

"كيف أنساك؟ لقد كنت معي في كل لحظة. أنا سعيدة لأنك بأمان، ماذا حدث؟ أين كنت؟ ولماذا غبت طوال تلك السنين؟ ثلاث سنوات هل تعلم كم كانت طويلة جداً؟".

كانت أسئلتي متلاحقة، متلهفة، أرددها بسرعة حتى لا أنساها. ولكن فجأة، توقفت. تأملته بعمق، محاولًا استيعاب التغيرات التي طرأت عليه. هذا لم يكن كمال الذي أحمله في ذاكرتي. فقد الكثير من وزنه، غارت عيناه وفقدت بريقهما، برزت عظام وجنتيه، وظهرت على جبهته تجاعيد لم تكن هناك من قبل. بدا وكأنه تجاوز الخمسين رغم أنه لم يبلغ الثلاثين بعد.

لاحظ تأملي العميق فيه، فأبعدني عنه برفق وهدوء أشبه بالموت، فتمتمت بتردد:

"كمال.. ماذا حدث لك؟".

ضيق عينيه قليلًا كأنه يحاول إخفاء شيء، ثم أجاب بصدق:

"أنيسة.. لقد اشتقت إليك".

اغرورقت عيناي بالدموع، وارتسمت على وجهي ابتسامة تعبّر عما يموج في قلبي من سعادة لرؤيته حيًا بعد كل هذا الغياب. قلت بصوت يملؤه الحنين:

"وأنا أيضًا يا عزيزي.. لا أصدق أنك أمامي الآن. لقد انتظرتك بشوق طوال تلك السنين".

أكملت بصدق:

"لقد عشت تلك السنين بين الأمل وفقدانه، وفي وسط هذا الشتات لم تهتز مشاعري تجاهك أبدًا. بل كانت تزداد بمرور الأيام... يزداد حبي واشتياقي لك".

ابتسم كمال بعاطفة، ثم وضع يده على شعري يمسحه برفق وكأنه يهدئ اضطرابي:

"أنت كما عهدتك دائمًا يا أنيسة.. ما زلتِ عاطفية ومخلصة".

ارتسمت ابتسامة خجولة على وجهي، بينما أخذ هو يتأمل ملابسي السوداء للحظة، ثم قال بصوت يحمل أسفًا:

"آسف لخسارتك.. البقاء لله".

نظرت إليه بحيرة قبل أن أسأله:

"هل تعلم أن جدتي توفيت؟".

أومأ برأسه وأجاب بهدوء:

"توفيت جدتك يوم وصولي إلى الإسكندرية. طوال تلك الأيام كنت أراقبك من بعيد".

تذكرت فجأة خسارتي الكبيرة، ودمعت عيناي مرة أخرى، وهمست بصوت مملوء بالألم:

"ولماذا لم تظهر أمامي خلال تلك المدة يا كمال؟".

كنت أتحدث وكأنني أعاتبه، وصوتي يحمل خليطًا من الحزن والغضب:

"لم أجرؤ أبدًا.. كنت خائفًا".

قالها كمال بصوت خافت، وكأن الكلمات تثقل عليه، فسألته بهمس حزين:

"لماذا؟ لقد كنت في حاجة إليك في مثل هذا الوقت".

وكأن كلماتي صدمته، فضمني إليه بعاطفة وقال بصدق:

"أنا آسف.. آسف".

مرت لحظات من الصمت، ثم أكمل:

"ربما تعذريني فيما بعد".

تشبثت بذراعه بينما نسير على شاطيء البحر. نظر كمال إلى أصابع يدي التي كانت تلامس ذراعه وسأل بنبرة منخفضة:

"لم تفكري بالزواج خلال تلك المدة؟".

أخفضت رأسي بحزن وأجبت بصوت خافت:

"حاول جدي أن يزوجني، ولكنِ لم أجرؤ على ذلك. كيف يمكنني أن أمنح مشاعر كهذه لرجل آخر؟ كل ما شعرت به معك كان.. لك أنت فقط".

رفعت عيني إليه، وارتسم الخجل على ملامحي مع لمسة من الشوق:

"إنها لك أنت.. وحدك".

وسرنا وتحدثنا كثيرًا في ذلك اليوم، كان معظم الحديث يدور حولي أنا، أو بالأحرى كان كمال يدفع الحوار نحوي كلما اقتربنا من الحديث عنه أو عن ظروف الحرب. لاحظت ذلك وتقبلته في البداية، لكن مع مرور الوقت لم أستطع مقاومة فضولي. كان السؤال الذي يحترق بداخلي يتفوق على صبري، فسألته بتردد:

"كمال.. ماذا حدث لك في النكسة؟".

تجمد كمال للحظة، وبدت ملامحه مضطربة وكأنه يبحث عن الكلمات المناسبة. لم يطل الأمر كثيرًا قبل أن تستقر تعابير وجهه، لكن الصمت الذي تلا سؤالي كان طويلًا جدًا، حتى بدأ يهمس أخيرًا بصوت بالكاد مسموع:

"لقد كنت في الأسر".

شعرت بأنفاسي تتقطع، لكنني حافظت على صمتي منتظرة أن يكمل، محاولةً أن أفهم عبء ما يحمله داخله.

"لقد أسرني العدو في النكسة.. بالتأكيد سمعتي الأخبار عن أسر الجنود..".

أكمل بعد لحظات:

"في ذلك اليوم كنت في الخطوط الأمامية، أقود فصيلتي منفذاً الأوامر المباشرة من القادة الأعلى.. شنّت إسرائيل هجومًا مفاجئًا، بدأ بضربات جوية مكثفة استهدفت القواعد الجوية المصرية. هذا الهجوم أدى إلى تدمير جزء كبير من سلاح الجو المصري وهو على الأرض، مما أفقد قواتنا القدرة على التصدي للهجوم الجوي الإسرائيلي".

تنهد كمال قبل أن يكمل، وكأنه يستدعي ذكريات غير مرغوب فيها:

"وعلى الأرض، تقدمت القوات الإسرائيلية بسرعة في سيناء، مستغلة عنصر المفاجأة والتفوق الجوي. كنا جميعاً نفتقر إلى معلومات دقيقة عن حجم الهجوم وطبيعته، وجدنا أنفسنا في مواجهة قوة معادية متفوقة ومجهزة بشكل أفضل. هذا الوضع أدى إلى ارتباك في صفوف قواتنا، خاصة مع غياب التنسيق والاتصالات".

أخفض كمال رأسه بانكسار وقال هماساً:

"حاولنا يا أنيسة.. حاولنا رغم هذه الظروف الصعبة، ولكن لم تفيد محاولتنا مع تدهور الأوضاع. صدرت أوامر بالانسحاب من سيناء دون تخطيط كافٍ، مما أدى إلى وقوع الجنود في كمائن إسرائيلية أثناء هذا الانسحاب، تم أسر أعداد كبيرة من الجنود المصريين.. وكنت أنا منهم".

أنهى حديثه بحسرة ممتزجة بحقد، قبضته تشتد بغيظ وكأنه يحاول قمع مشاعر غليان داخله، لكن فجأة ارتخت تعابيره. لأول مرة، رأيت كمال بهذا الانكسار وتلك الهزيمة. عيناه امتلأتا بالدموع كطفل صغير يحاول إخفاء ألمه. وضع كفه عليها كي لا أرى دموعه التي بدت غالية عليه.

تسمرت مكاني، وخرس لساني أمام خليط المشاعر المتأججة التي بدت وكأنها تسكن جسد كمال. ثم قال بصوت مختنق، يحمل وجع سنوات مضت:

"كان الموت أهون بكثير من أسر العدو يا أنيسة. كل لحظة كنت أُترك فيها وحدي مع أفكاري، كنت أتمنى لو أنني لم أعطهم ظهري وأنسحب كما جاءت الأوامر.. ما رأيته في الأسر كان مفزعًا وقاسيًا. القتل كان أرحم ما فعله جنود العدو بالأسرى".

نظرت إليه متوسلة، خائفة مما قد أسمعه، لكنه أكمل هامساً:

"كان كالكابوس.. كانوا يعدمون الجنود فجأة وفي أي وقت، بدم بارد وبأبشع الطرق. الجنود تعرضوا لإطلاق نار عشوائي، ورؤوسهم وُضعت تحت الأسلاك الشائكة".

ارتجف صوته وهو يكمل:

"أما الناجون، أو من لم يُكتب لهم الموت، فقد كانت أرواحهم تُكسر. إهانات جسدية ونفسية لا حدود لها".

صمت كمال للحظة، ثم أردف بصوت مملوء بالندم:

"لا أستطيع مسامحة نفسي على ضعفي.. لا أستطيع."

انفجرت في البكاء وقلت بتوسل:

"يكفي.. أرجوك، لا تكمل. لا أريد أن أسمع المزيد".

نظر إلي بعينين غارقتين في الحزن، وارتسمت على شفتيه ابتسامة واهنة تحمل مرارة الذكريات، ثم قال بنبرة هادئة:

"لا تقلقي، لن أكمل.. لكن أريدك أن تعرفي أمرًا واحدًا: لا تتخيلي أبدًا أنهم استطاعوا كسر روحي. ما يؤلمني حقًا ليس الأسر، بل ضعفي، وكوني نجوت بفضل الله دونًا عن قادتي وبعض أعضاء سريتي الذين غُدر بهم، هذا جعلني اشعر وكأنني لا شيء".

كانت كلماته ثقيلة، مشبعة بالألم، لكنها حملت أيضًا بقايا كبرياء روح لم تنكسر رغم الجراح:

"بعد خروجي من الأسر، طلبت من قائدي أن أعود فورًا لمهامي دون تأخير".

رفع كمال عينيه إلى السماء، وقال بحماس وثقة:

"هل تعلمين؟ نحن نتقدم يا أنيسة.. سنستعيد الأرض مهما كلفنا الأمر".

نظرت إليه بحيرة وسألته:

"ماذا تقصد؟".

خفض نظره إلي، وارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة تحمل بريق الأمل:

"ستفهمين بالتأكيد يومًا ما".

صمت للحظة، ثم أكمل وهو يتأملني بشوق واضح:

"أنيسة، لنتزوج. لنحاول مرة أخرى مع جدك، سننجح بالتأكيد".

تفاجأت بكلامه، وقلت بتردد:

"ولكن..".

أمسك يدي بإصرار ونظرات تحمل العزم:

"لأكثر من سنتين بعد خروجي من الاسر كنت في صراع داخلي. بين تركك وشأنك حتى تعيشي حياة هادئة، وألا أعود لأثير الفوضى في حياتك مرة أخرى، وبين شوقي لك ورغبتي في العودة لأخذك. عندما قررت المجيء، كنت قد وضعت في اعتباري أنك ربما تكونين قد تزوجت من رجل طيب وأنجبتِ طفلًا أو أكثر. لكني لم أستطع منع نفسي من الاطمئنان عليك، خاصة عندما توقفت عن التواصل مع قريبي".

سألته بتوجس:

"هل كان يعلم أنك بخير"

أومأ برأسه وقال:

"نعم، أرجوك لا تحملي داخلك ضغينة، كنت أطلب منه أن يخبرني عنك، لكنني طلبت منه في الوقت نفسه ألا يخبرك عني، على أمل أن تنسيني. لكن الحقيقة هي أنني أنا من لم أستطع نسيانك. وعندما توقفتِ عن التواصل معه، شعرت وكأنني أفقد صوابي".

ثم أضاف بإصرار ونبرة تحمل العزم:

"لقد أتيت إليك الآن يا أنيسة، وأنا أعرض عليك الحياة التي حلمنا بها معًا. أعلم أن جدك سيكون عائقًا، ولكن لا شيء يُنال في هذه الحياة إلا بالحجة والإصرار. وأنا هنا لأقف بجانبك، لن أتركك تواجهين جدك وحدك. سنحاول معًا إقناعه، وسنبني مستقبلنا كما تمنيناه دائمًا".

كان كمال غريبًا في تلك اللحظة. الرجل الذي حمل في داخله منذ دقائق مرارة الهزيمة الساحقة، تحول فجأة إلى شخص يشع الأمل من عينيه. ذلك التغير المفاجئ أضاء بداخلي شعورًا جديدًا، وكأن إشراقته أعادت لي الإيمان بأن المستقبل قد يحمل جمالًا يفوق كل ما مضى.

ابتسمت مدفوعه بهذا الأمل الذي أشرق داخلي وقلت بأجمل ابتسامة أمتلكها:

"دعنا لا نفترق مرة أخرى".

في تلك اللحظة شعرت أنني قادرة على مواجهة أي شيء لأجل مستقبلي مع كمال.

وبدأت الحرب مجددًا مع جدي، لكنها هذه المرة كانت مختلفة. لم أكن منهزمة أو ضعيفة كما كنت في الماضي، بل كنت أتحدث من منطلق قوتي وإيماني العميق بصدق علاقتي بكمال. كانت المواجهة شرسة، لكن أكثر ما صدمني هو موقف أخي، الذي وقف إلى جانب جدي. كان يتعامل معي ببرود أحيانًا، وأحيانًا أخرى يوبخني ويحاول إقناعي بأن زواجي من كمال محكوم عليه بالفشل بسبب اختلافاتنا.

لم يتركني كمال وحدي في هذه المعركة. بل كان يزور منزلنا مرارًا وتكرارًا في إجازاته محاولًا كسب موافقة جدي، لكن الأخير قابله دائمًا بالرفض والإهانة. لم يكتفِ بذلك، بل كان يحرق الخطابات التي يرسلها كمال دون أن يكلف نفسه عناء قراءتها. ورغم كل ذلك، لم نيأس. لجأت إلى جديّ من جهة أمي، اللذين حضرا إلى منزلنا وحاولا إقناع جدي، لكنه تعامل معهما بقسوة وشبه طردهما من المنزل، وأمر بعدم استقبالهما مرة أخرى.

تحدثت أنيسة وهي تشعر بالقهر على السنوات التي ضاعت في معركة مع جديها:

"وهكذا، لمدة تجاوزت السنة، كنا نحاول دون جدوى الحصول على موافقة جدي. تلك الموافقة التي منحها بسهولة لأخي أسعد عندما خطب شابة جميلة من عائلة أرستقراطية، تمامًا كما كان جدي يتمنى. كان يحلق في السماء فخرًا به، بحفيده الذي لطالما رفع رأسه. شعرت بالقهر في اللحظة التي سمعت فيها نبأ خطبة أخي. كانت السنين تمر بسرعة بينما أنا عالقة في محاولاتي لإقناع جدي بالزواج من كمال، وأخي يبدأ حياة جديدة مع شابة أحبها.

أما أنا، فالشاب الذي أحببته لا أستطيع حتى التواصل معه بحرية. شعرت بظلمٍ شديد بسبب تسلط جدي، لكنني لم أجد حلًا سوى الاستمرار في محاولات إقناعه. عقلي كان يرفض أن أسلك أي طريق آخر لتحقيق ما أريد، رغم أن قلبي كان يتوق للحرية".

في حفل خطبة أخي، اقترب مني شاب ليجاذبني أطراف الحديث. كان شابًا وسيمًا، من عائلة راقية، ويعمل طبيبًا ولديه عيادة خاصة. أدركت منذ اللحظة الأولى أن ظهوره لم يكن محض صدفة، بل جزءًا من خطة جدي لإبعادي عن كمال. لكنني كنت أكبر سنًا وأكثر حكمة ونضجًا من السابق. تعاملت معه بأدب شديد، لكن موقفي كان واضحًا وممزوجًا بعلامات الرفض.

في تلك الليلة، قررت مواجهة جدي مرة أخرى. أخبرته بحزم أنني لن أتزوج أبدًا من أي رجل سوى كمال. غضب جدي بشدة وقرر معاقبتي بحبسي في غرفتي. لم يكتفِ بذلك، بل هددني بتزويجي قسرًا إذا استمررت في عنادي.

كان ذلك اليوم نقطة تحول بالنسبة لي. شعرت أن الكيل قد فاض، وأن جميع الحلول السلمية مع جدي العنيد قد استنفدت. قررت أنني سأتبنى طرقًا أخرى، حتى لو لم تعجبه، لأنني لم أعد أستطيع تحمل المزيد من الظلم. بقيت محبوسة في غرفتي لأسبوع كامل، بينما كان جدي مشغولًا بترتيب موعد للقاء الشاب الذي تحدث معي في الحفل.

عندما سمح لي أخيرًا بالخروج من غرفتي، كنت قد أعددت خطتي بعناية. في الوقت نفسه، قررت أن أستجيب لطلبه ظاهريًا، خاصة بعد أن حدد موعدًا رسميًا مع العريس المرتقب، وأمرني بتجهيز نفسي لهذا اللقاء.

جاء الموعد المنتظر، ووجدت نفسي مجبرة على مقابلة الشاب. جلست معه على مضض، لكنني حرصت على أن أبدو متقبلة أمامه وأمام عائلته لإرضاء جدي وكسب المزيد من الوقت. بعد انتهاء اللقاء، بدا واضحًا أن الشاب وعائلته قد أعجبوا بي، وكان جدي مسرورًا للغاية، معتقدًا أنه انتصر أخيرًا.

لكن، بعد أن أوهمتهم جميعًا بقبولي، نفذت خطتي الجريئة التي لم يتوقعها أحد.

الساعة كانت الواحدة بعد منتصف الليل، وكان الهدوء يخيّم على المنزل بعدما غفى الجميع. كنت أقف أمام نافذتي، أرتدي ملابسي الكاملة، أراقب الطريق بشوق وتوتر. فجأة، ظهرت السيارة التي كنت أنتظرها على أحر من الجمر. كانت سيارة يقودها أحد أبناء أخوالي، وبجواره جدي لأمي. توقفت السيارة بعيدًا عن المنزل، وأرسل ابن خالي إشارات خافتة من مصباح السيارة كعلامة متفق عليها.

أمسكت حقيبتي بيد ترتعش، ثم فتحت باب غرفتي بحذر شديد. تحركت على أطراف أصابعي نحو السلالم، خطواتي بالكاد تلمس الأرض، كأنني أخشى حتى أن يسمع الهواء حركتي. عندما وصلت إلى باب المنزل، مددت يدي ببطء لتفتح القفل، لكن فجأة سمعت صوتًا قطع السكون:

"إلى أين أنت ذاهبة يا أنيسة؟"

تجمدت في مكاني، وكأن الزمن توقف. شعرت بالدماء تنسحب من جسدي، وقلبي ينبض بعنف كأنه يريد الهروب من صدري. استدرت ببطء، وجسدي يرتجف من المفاجأة، لأجد أمامي أخي أسعد يقف على السلم الداخلي. كان يحدق بي بنظرات غاضبة، ولكن ملامحه تحمل خليطًا من الغضب والمكبوت والدهشة، فسألته بصوت منخفض يملؤه الصدمة والتوتر:

"أسعد.. لماذا أنت مستيقظ حتى الآن؟".

مرّت لحظات ثقيلة قبل أن يجيب، وصوته خرج بارداً كالثلج:

"أنا من يجب أن يسألك هذا السؤال يا أنيسة..".

تأملني بنظرة حادة، عينيه تتنقلان بين وجهي وملابسي، ثم ركز نظره على الحقيبة التي كنت أمسكها بقوة، وكأنها تكشف كل ما حاولت إخفاءه. رفع عينيه نحوي مجددًا وقال بنبرة تحمل استنكارًا واضحًا:

"ماذا تفعلين في مثل هذه الساعة، مع حقيبة ملابسك؟".

"أنا.. أنا..".

قاطعني بصوت يكتم الغضب بصعوبة:

"أنت تهربين.. أليس كذلك؟"

تسمرت مكاني للحظة، عاجزة عن الرد على تخمينه الذي أصاب كبد الحقيقة. فأكمل دون أن ينتظر إجابتي:

"أنت تهربين من منزلك يا أنيسة، بعد ساعات من خطبتك؟"

هززت رأسي بسرعة، محاولًة الدفاع عن نفسي:

"أنا لم تتم خطبتي بعد..".

رفع حاجبه ساخرًا وقال بحدة:

"إذاً بعد الاتفاق؟ هل هذا تعبير أدق؟".

شعرت بسخرية كلماته تضربني كصفعة، فأخفضت رأسي في محاولة لتجنب مواجهة نظراته التي كانت تحمل الاتهام بوضوح. خطا نحوي بخطوات ثابتة حتى وقف أمامي مباشرة. في تلك اللحظة، شعرت بضآلتي أمامه، وبثقل الذنب الذي كنت أحمله على كتفي.

صمت للحظات ثم قال بنبرة أخف لكنها لا تخلو من العتاب:

"لماذا تفعلين هذا يا أنيسة؟ ما الذي يدفعك لتفضليه على عائلتك، وتتركي كل شيء خلفك بهذا الجفاء؟".

مرت لحظات ثقيلة قبل أن أرفع رأسي وأجيب بصوت خافت، لكنه مليء بالإصرار:

"لأنني أحبه يا أسعد.. وهو أيضاً يحبني. لأنني سأكون أتعس إنسانة في حياتك إذا فقدت كمال. لم أجد مبررًا واحدًا يقنعني بأنه غير مناسب لي، ولأن جدي هو من امتلك من الجفاء ما يكفي ليطغى بصوته وإرادته على صوتي وإرادتي وقناعاتي".

رمقني أخي بنظرة متفحصة وقال بسخرية تحمل غضبًا مكتومًا:

"إذًا أنت تعاقبين جدنا؟".

هززت رأسي بشدة وأجبت بحزم:

"لا! أنا لا أجرؤ على معاقبة جدي! إن له كل الفضل علي، ولكن هذا لا يعطيه الحق أن يظلمني أو يحركني كدمية، كما حاول أن يفعل مع أبي وأمي! وهذا ما دفعهما للهروب منه، ثم حدث ما حدث".

بهتت ملامح أسعد للحظة، ثم همس وكأن ما سمعه هز كيانه:

"هذا الكلام غير صحيح".

نظرت إليه بعينين مشحونتين بالألم وقلت:

"بل صحيح يا أسعد. جدي كان دائمًا رجلاً متسلطًا ومتحكمًا. أعلم أن قضاء الله هو من حكم في النهاية، لكن تلك الرحلة التي ذهب فيها أبي وأمي لم تكن إلا هروبًا من تسلطه. جدتي رحمها الله أخبرتني بكل شيء. لم يكن يمر يوم إلا وترى أمي تبكي، وأبي يواسيها بسبب قسوة جدي عليها. لقد كانت الرحلة فكرة أمي للهروب، وكانوا يخططون للاستقرار هناك والعودة لأخذنا، لكن إرادة الله سبقت تدبيرهم. هذه هي الحقيقة، حتى وإن كنت ترفض سماعها".

ظل أخي صامتًا للحظات، ثم قال بصوت متماسك يخفي اضطرابه:

"ربما يكون ما تقولينه صحيحًا، لكن هذا ليس مبررًا لأن تهربي من عائلتك الآن".

نظرت إليه بعزم وقلت:

"لم يعد لدي خيار".

رد بنبرة حاول أن يجعلها حاسمة:

"ستنسينه".

ابتسمت بمرارة وقلت بصوت مختنق:

"صدقني، حاولت بكل ما أملك، لكنني فشلت يا أخي. كنت أعيش في عذاب لا يوصف حين اعتقدت أنه استُشهد.. لكنه عاد".

نظرت إليه بأعين مليئة بالدموع وأضفت:

"كمال عاد من أجلي يا أسعد. إنه يحبني حقًا".

قلت كلماتي وأنا أبكي بحرقة، تلك الحرقة التي لا يشعر بها إلا يتيم أدرك في تلك اللحظة حجم وحدته ويتمه.

رد أسعد بصوت يحمل مزيجًا من الألم والغضب:

"ونحن عائلتك، هل تفهمين معنى العائلة؟ أم أنك نسيتها أمام نزوة عاطفية؟ تريدين الرحيل بهذه السهولة؟"

نظرت إلى شقيقي وعلى وجهي علامات الظلم والعذاب بسبب اتهامه لي، لكنني فوجئت بأن أخي أيضًا كان يحمل على وجهه ملامح الظلم والألم.

قالت أنيسة لاحقًا، وهي تروي تلك اللحظة التي اختلطت فيها مشاعرها بالحزن والشفقة:

"ربما لو كنت أكثر دقة في ملاحظتي حينها، لأدركت أن أخي كان يتيمًا مثلي. وجهه في تلك اللحظة كان يعكس خوفًا عميقًا من الخسارة.. خسارة العائلة التي ذاق مرارتها وهو صغير. لقد كان يعاني مثلي تمامًا، ومع ذلك كنت أظن أنني الوحيدة التي تعاني. لكن ربما كانت معاناته أعظم؛ فقد تعرض لصدمة فقدان والدينا وهو أكبر عمرًا مني، مما جعله أكثر وعيًا بألم الفقدان".

أخذت أنيسة نفسًا عميقًا وأكملت بصوت خافت، وكأنها تخاطب نفسها:

"أخي العزيز كان أكثر يتماً مني، لكنه لم يتحدث قط عن معاناته. ربما ظننت أنه قوي بما يكفي لتجاوزها، لكنه في الحقيقة كان يصارع يتمه بصمت. بعد سنوات، أدركت أنه كان معذورًا. كان مثلي تمامًا، يعبر عن يتمه بطريقة مختلفة، لكن دوافعه كانت مختلفة عن دوافعي. أنا كنت مدفوعة بحبي العاطفي الصادق لكمال، بينما هو كان مدفوعًا بخوفه من فقدان ما تبقى من عائلته. كنا، أنا وأخي، نحمل نفس الجرح، لكنه اختار التعبير عنه بالصراع بينما اخترت التعبير عنه بالهروب."

ابتسمت أنيسة بمرارة وهي تضيف:

"مع مرور الزمن، لم أعد أشعر تجاهه بالظلم. فهمت أنه كان يحاول حمايتي، بطريقته الخاصة. في النهاية، كان أخي شريكي في يتمي، وإن لم نعترف بذلك في حينه".

قلت والدموع تنساب من عيني بسهولة، وقلبي يكاد ينفطر من الألم:

"أنا لا أريد التخلي عنكم أبدًا، أنا أحبكم كثيرًا، أحبك يا أخي وأحب جدي، أنتم عائلتي التي أعشقها. ولكن كمال ليس نزوة، إنه الشخص الذي اخترت أن أعيش معه. أليس هذا حقي؟ لماذا تضعونه في مقارنة بينكم؟ هذه مقارنة ليست عادلة. أنا أهرب حتى لا تتعقد الأمور بيننا أكثر. أهرب وأنا على أمل أن تستقر مشاعرنا جميعًا. لا أريد أن أكون في مواجهة دائمة مع جدي ومعك. لو اعتقدت أنني أكره جدي، فأنت مخطئ، أنا أحبه وأقدره، ولكنك أنت أخي، أغلى ما أملك. لا أريد أن أخسرك أبدًا".

مددت يدي ووضعتها على ذراعه بتلقائية، محاولة إيصال صدقي ومحبتي، لكن أسعد ابتعد خطوتين إلى الوراء، وكأنه يكره لمستي العفوية. نظرت إليه بصدمة، وقد بدا لي شخصًا مختلفًا تمامًا عن أخي العطوف الذي أعرفه. قلت بصوت مخنوق من الذهول:

"أسعد.. أرجوك، لا تدفعني بعيدًا عنك. أنا بحاجة إليك. أحتاج دعمك الآن أكثر من أي وقت مضى".

بكيت بحرقة، وكل كلمة تخرج مني كانت تستنزف روحي، بينما أخي ظل واقفًا، يتأملني بعمق لا يمكنني فهمه. ثم خطا نحو الباب، فتحه على مصراعيه، وقال بصوت جاف يحمل مزيجًا من الألم والغضب المكتوم:

"أنا لن أدعمك أبداً في تدمير تلك العائلة".

ضيق عينيه وأكمل:

"اذهبي يا أنيسة. أنتِ حرة فيما ترغبين. ولكن لا أعتقد أن هذا البيت سيكون مفتوحًا لك مرة أخرى. اذهبي".

كانت كلمات أخي هادئة وجامدة، لكن برودها أثارت قشعريرة في جسدي كما لو أن الثلج قد تسرب إلى عظامي. كنت أبكي بحرقة، دموعي تنهمر دون توقف، وفي المقابل لم أجد في عينيه سوى البرود والقسوة، ملامح كانت غريبة عليَّ. لم يكن أسعد الذي أعرفه، بل شخص آخر لا يشبهه. كانت عيناه محملتين بشيء من الجفاء.

قطعت تلك اللحظة الحزينة صوت السيارة التي كانت تنتظرني في البعيد. ألقيت نظرة أخيرة على أخي، ثم أمسكت حقيبتي بقوة، والتفتُ مبتعدة، أحمل معي كل أحزاني، وصورة أخي أسعد كانت تلاحقني في كل خطوة.

"وتلك كانت المرة الأخيرة التي أري فيها شقيقي أسعد، منذ ما يقارب خمسين عامًا".

سمعت سالي تلك الكلمات، وشعرت أن قلبها ينهار من شدة الحزن على السيدة أنيسة، تلك المرأة العجوز التي كانت تجسد في عينيها السعادة والأمل والإخلاص. بدا أن ماضيها كان محملاً بتلك الذكريات الحزينة التي كانت تخفيها وراء ابتسامتها، وهي تروي قصتها وكأنها أبدًا لم تتجاوزها.

لكن هكذا هي الحياة، مليئة بالاختيارات. وتلك المرأة اختارت أن تسلك طريقًا مليئًا بالأشواك والتحديات. كان على سالي أن تستمع لبقية الحكاية لتستطيع أن تحكم على هذه المرأة التي كانت تخفي في جعبتها حكايات وأسرار لم تكن سالي تتوقعها أبدًا.

نهاية الفصل الثالث والثلاثون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

أهلاً أعزائي القراء..

شكراً على صبركم

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصل: توقاعتكم للأحداث الجاية؟

***

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق