رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الرابع عشر (الجزء الثاني)
فضلاً، متنسوش الvote.
***
[رسالة واردة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: مجهول
لم تردي على رسالتي الأخيرة، أتمنى أن يكون المانع خيراً].
***
في الساعة الواحدة ظهراً استلقت سالي على سريرها أخيراً بعد ثلاث ساعات من السفر، كانت والدتها وشقيقتها زينة في انتظارها ورحبوا بها ترحيباً حاراً وكأنها قد عادت من خارج البلاد، حكت سالي لهم تجربتها في المنزل الذي عاشت فيه لمدة شهر، قصت عليهم قصص الأطفال وحكاياتهم، وذكرت تفاصيل وتغاضت عن أخرى رغبة منها في الاحتفاظ بهذه التفاصيل لنفسها فقط، وكانت تقص حكاياتها ما بين تعجب من شقيقتها واستهجان من والدتها. تأملت السيدة سهام ابنتها وقالت بقلق:
"أنت شاحبة حقاً، هل ظهرك الآن بخير؟".
"نعم ماما لا تقلقي".
تنهدت المرأة قائلة:
"لقد خسرتِ وزناً أكثر من قبل، هل هذا وعدك لي؟".
لم تجد سالي التي تأكل ساندويتشاً رداً مناسباً على والدتها، حتى تدخلت زينة قائلة بابتسامة ماكرة لعوبة:
"أخبريني عن مستر خالد، هل هو رجل وسيم؟".
دهشت سالي من سؤال شقيقتها المفاجئ، وتمنت لو أنها اجابت على والدتها واستكملت الحديث على وزنها، نكزتها زينة في ذراعها قائلة:
"هيا أخبريني؟ كم عمره؟ هل هو متزوج؟".
ابتسمت سالي بتوتر وقالت:
"زينة ما هذه الأسئلة؟؟".
"هيا يا ليلو! أخبريني الحقيقة". كانت أختها تناديها من حين إلى آخر بهذا اللقب
نظرت سالي إليها مدعية الصرامة، التقطت كوب الشاي الخاص بها ونهضت قائلة:
"دعكِ من هذا الهراء، سأذهب إلى غرفتي لأرتاح قليلاً".
صاحت على باب غرفتها:
"لا تأتي وتزعجيني!".
جلست على السرير وكوب الشاي بين يديها، تفكر في أحداث الشهر الماضي. كان بالفعل شهرًا واحدًا، لكن أحداثه كانت أطول من مدته. أغمضت عينيها وهي تسترجع تفاصيله، وترسم صورًا خيالية لوجوه كل من كانوا في المنزل.
الشخص الوحيد الذي لم تجد له صورة واضحة في ذاكرتها كان خالد. لم تكن له ملامح معينة مطبوعة في ذهنها، ربما لأنها لم تكن تواجهه طوال الوقت، أو لأنها كانت أحيانًا تتعمد ألا تنظر إليه مباشرة. في الواقع، كانت تتجنب الاحتكاك به من الأساس.
فكرت في الحديث الأخير الذي جمعها بالسيدة أنيسة. كلماتها كانت صريحة ولكن مراوغة ، وهي فهمت ما تقصده جيدًا. سالي، بحسها الدقيق وقدرتها على قراءة ما بين السطور، التقطت تلك النية الخفية: محاولة السيدة أنيسة أن تقرب بينها هي وخالد.
تلك الفكرة وحدها كانت كفيلة بأن تزيد من اضطراب مشاعرها. في الحقيقة، لم تكن سالي تملك رؤية واضحة تجاه خالد، ربما لأنها قررت منذ زمن بعيد أن تُغلق أبواب قلبها بإحكام. كان هناك جزء منها يخشى الاقتراب، ويخشى أن تتسلل مشاعر جديدة إلى قلبها المكسور، وتحطم جدار السكينة الذي بنته بصعوبة.
كانت تشعر بالضياع، ضياع من النوع الذي يدفعك أحيانًا إلى التفكير في الهروب. لكنها، كلما فكرت في ذلك، تذكرت الأولاد، واجتاح قلبها دفء عجيب. هي لا تريد الرحيل عنهم، بل أرادت المزيد والمزيد من الوقت معهم.
عندما تذكرتهم، شعرت بمشاعر أذابت قلبها، مشاعر حلوة، دافئة، ترافقها ذكريات مليئة بضحكاتهم، ورائحتهم اللطيفة، وأحاديثهم المسلية الطريفة. حتى مشاكلهم وشقاوتهم، كل تلك التفاصيل وقفت أمام خوفها كالحصن المنيع. لذلك ستعود إليهم. وكان هذا قرارها النهائي.
وبينما كانت مستغرقة في التفكير، سمعت صوت طرق خفيف على الباب. أدركت فورًا أنها والدتها، التي دخلت بهدوء وجلست أمامها على السرير، ثم بدأت الحديث بصوت خافت:
"سالي، أعرف أنكِ تتوقعين ما سأتحدث عنه، لكن يجب أن نتحدث بصراحة."
سالي متنهدة:
"ماما، من فضلك، إذا كان الأمر يتعلق بذلك العريس، فأنا أريد بعض الوقت لترتيب أفكاري".
نظرت المرأة إليها بضعف وقالت:
"والدك جاء إلى هنا اليوم. وكان غاضباً جداً. أثار جدالاً كبيراً بسبب سماحي لك بالعمل في هذا المنزل".
شعرت سالي بالغضب يتسلل داخلها وهي تسمع حديث والدتها وقالت:
"أنا لست طفلة صغيرة حتى آخذ الأمر بالعمل في مكان أو لا، إنها حياتي أنا، وأنا أرسم طريقي بنفسي".
نهضت سالي تجاه النافذة وكأنها تبحث عن مخرج للهروب من هذه المحادثة وهي تقول:
"ولماذا يظهر أبي الآن؟ أليس هو من اختار الرحيل؟ تركنا لنعيش بمفردنا وقرر الرحيل لينشأ أسرة أخرى، بعد تلك السنين الطويلة يأتي ويأمرني أن أترك عملي وأتزوج من أختاره لي، ألا ترين أن هذا ظلم".
نهضت السيدة سهام وأمسكت كتف ابنتها تديرها قائلة وعينيها تنظران إليها بضعف:
"سالي، انسي والدك. لا تهتمي بما يقوله. أنا فقط أريد أن أراك سعيدة. حبيبتي، قابلِ هذا العريس. ابدأي حياة جديدة، كوني أسرتك الخاصة." نظرت سالي إلى والدتها بصدمة وقالت:
"ماما، هل أنتِ موافقة؟ بعد كل ما فعله بنا؟ كيف يمكنكِ أن تقبلي برجل اختاره أبي؟"
لم ترد سهام على ابنتها، ولم تترك لها سالي مساحة للرد، ابتعدت عن والدتها وخطت خطوتين إلى الوراء وهي تقول بدهشة:
"أنتِ موافقة على عريس اختاره لي بابا، وتسمحين له باقتحام حياتنا بعد كل ما صدر منه، أيعقل؟ لقد تخلى عنك ورحل تاركاً لك مسؤولية طفلتين، بابا حتى لم يصرف علينا قرشاً واحداً أنا وزينة، والآن أنتِ تجارينه؟".
قالت المرأة بسرعة تدافع عن نفسها:
"لا، هذا الرجل لا يهمني من الأساس، أنتِ من يهمني، ما أريده هو مصلحتك، العريس الذي تقدم إليك ظروفه أكثر من جيدة وسيفهم مكانتك كطبيبة وشابة جميلة، يا ابنتي أرجوك لا تكوني عنيدة، إن العمر يتقدم وفرصة اليوم قد تكون غداً حلماً صعباً".
"لا يمكنني قبول هذا. كيف تريدين مني أن أسمح لرجل تخلى عنا بأن يحدد لي مستقبلي بعد كل ما مررنا به؟ كيف يمكنني أن أثق في قراره؟".
قاطعتها السيدة سهام بإلحاح:
"أرجوك يا سالي، أرجوك حبيبتي أريد أن أراك سعيدة، أنا أحلم بك ليل نهار وأنتِ ترتدين فستان الزفاف الأبيض، أرجوك يا ابنتي لو كان غرضك هو الحب، فالحب يولد بعد الزواج".
سالي بسخرية مريرة:
"أنتِ تتحدثين عن الحب؟ ألم تقولي هذا لنفسك قبل أن توافقي على الزواج من بابا؟"
ضحكت سالي بسخرية وقهر ثم التفتت لتجلس على سريرها قائلة:
"ماما أنت حقاً غريبة".
تأملت الأرض بحزن، وكررت نفس الجملة حتى لا تقول المزيد من الكلام الذي قد يجرح والدتها:
"أنت حقاً غريبة".
انحنت المرأة بغضب وقالت وهي تقترب منها:
"إذا لما أتيتي؟ لماذا أطعت كلامه وجئتِ؟".
صُدمت سالي لثوانٍ، ثم قالت بتوتر:
"جئتُ لأنهي الأمور، جئتُ حتى لا يُضايقكم ويكرّر زياراته. هذا الرجل لا علاقة لنا به الآن."
ثم أكملت بحزن عميق:
"وأيضًا جئتُ لأقابل هذا العريس... إن كنتِ لا تعلمين كيف تفكر ابنتك، فلم تكن لدي النية لرفضه دون لقائه. أنا فقط أشعر بالغيظ من تحكمات أبي، ومن تسليمكِ له بتلك البساطة. أشعر بأنني محاصَرة في زاوية لا أستطيع الإفلات منها."
همست بعد لحظات:
"صدقيني، أنا لا أعترض على مبدأ الزواج، لكن أعترض على كيفية حدوثه. لا أستطيع تحمّل أن يكون لوالدي دور بهذه السهولة... دور في الوقت الضائع."
نظرت سالي إلى والدتها بألم:
"أنتِ من تحمّلتِ المسؤولية بأكملها دون مساعدة منه أو من أي أحد آخر. أنتِ من أخذتِ الدورين معًا، دور الأب والأم. قمتِ بتربيتنا وتعليمنا وتحمّلتِ مسؤولية الإنفاق على طفلتين حتى دخولهما الجامعة. ويأتي هو ليجمع المحصول في لحظة؟ ألا تشفقين على نفسك؟"
صُدمت السيدة سهام للحظة، وبلعت ريقها. تأملت سالي، ابنتها الكبرى، ولأول مرة تراها متمردة بتلك الطريقة. لطالما كانت تلك الطفلة المطيعة، التي تتحمّل المسؤولية دون نقاش. هذه المرة الأولى التي تتحدث فيها بتلك الطريقة. متى حدث هذا التغيير؟
همست السيدة سهام:
"وأنا أقول لكِ: لا بأس، أنا أوافق على ذلك. أوافق أن يجمع والدكِ محصولي الذي زرعته لسنين طويلة."
ثم أكملت برجاء:
"ولكن، سعادتكِ هي فقط كل ما يهمني."
أجابت سالي باعتراض:
"أنتِ في كل قرار يخصني تقولين تلك الجملة: (أريد سعادتكِ يا سالي)، ثم تأخذين القرار نيابة عني. لكن ماذا عني أنا؟ ماذا عن حرية اختياري لقراراتي؟ ماما، أرجوكِ، اسأليني ولو مرة واحدة، ما الذي ترغبين فيه يا سالي؟ سأكون وقتها سعيدة حقًا."
صاحت والدتها:
"ما الذي جرى لك؟"
خرست سالي وهي ووالدتها تنظران إلى بعضهما بغضب، حتى قطع الصمت صوت الهاتف، فالتقطته سالي بسرعة ولهفة وهي تتفحصه قائلة:
"إنها السيدة أنيسة".
نظرت السيدة سهام إليها بغرابة ثم اتجهت إلى باب الغرفة قائلة:
"سأترككِ الآن، لنتحدث فيما بعد".
خرجت المرأة من الغرفة وهي تشعر أن ابنتها سالي غريبة بعض الشيء. لم يكن هذا الشعور يراودها منذ وصول ابنتها بسبب جدالهما فقط، ولكن حديثها عن تلك العائلة، ونظرة الحب في عينيها وهي تحكي مواقفها مع الأطفال، ولهفتها للحديث مع السيدة أنيسة، كلها كانت ملاحظات جعلت السيدة سهام تشعر بالضيق في صدرها.
لم يكن هذا الحماس في نظرات ابنتها وردود أفعالها موجودًا من قبل. لطالما وصلها شعور من ابنتها أنها فاقدة للشغف والرغبة، خاصة بعد انفصالها عن خطيبها. كانت طفلتها تذهب إلى العمل وتعود منه كالإنسان الآلي، تنام وتستيقظ على نفس الروتين الممل، حتى استيقظت ذات يوم مقررة تقديم استقالتها.
كان قرارًا مفاجئًا وخطيرًا جعل السيدة سهام تخوض جدالات وأحاديث عميقة مع ابنتها لتفهم سر هذا القرار وتحاول أن تثنيها عنه. لكنها، ولأول مرة في حياتها، فشلت في إخضاع ابنتها لرغبتها. في البداية، شعرت بالغضب منها، ولكنها فيما بعد حاولت أن تتفهم شعورها، ووجدت نفسها تتساءل: هل كانت ابنتها تعيسة؟ هل قرار الاستقالة كان دليلًا على أن تلك الطفلة تعاني في حياتها؟
وفي النهاية، خضعت لرغبة سالي، وتركتها لتقرر مسارها بنفسها، حتى جاءها عرض الدكتور نوفل: أن تعمل كطبيبة مقيمة في منزل.
وهنا، اطمأنت السيدة سهام على ابنتها مرةً أخرى، فذهبت سالي لمدة شهر، وعادت الآن شخصًا آخر. لم تكن عيناها تلمعان من قبل بهذا الشكل الساحر، وكأن هناك طاقة دبت في جسدها واستولت على روحها.
حتى طريقة جدالها معها الآن كانت مخيفة، لأول مرة تشعر السيدة سهام بالخوف من ابنتها العاقلة الرزينة، سالي. كانت حقًا خائفة.
***
سمعت السيدة أنيسة صوت سالي الهادئ الذي يبعث على الراحة وهي تشكرها على اتصالها واطمئنانها عليها. أنهت الاتصال، وبجوارها فرح التي تحتك بها منذ دقائق. ابتسمت أنيسة، وهي متأكدة أن تلك الطفلة تريد منها شيئاً:
"ابتعدي يا فرح، لا يجوز أن تحتكي وتقتربي من الناس بهذا الشكل".
قبلتها فرح على خدها قائلة:
"ولكني أحبك ماما!"
أبعدتها أنيسة بابتسامة وهي تقول:
"وأنا أيضاً أحبك كثيراً، ولكني أيضاً لا أحب تلك المقدمات. هيا أخبريني، ما الذي تريدينه؟"
"ممم... هل تتذكرين العشاء الذي أخبرتك عنه من قبل؟"
نظرت أنيسة إلى طفلتها وهي تعقد حاجبيها بتفكير:
"آه، نعم، تذكرت. ما الخطب؟"
أجابت فرح بحماس:
"الخميس القادم سيكون موعده، هل أخبرتِ أبيه؟"
"لقد نسيت بالطبع، لم تذكّريني."
"إذاً هيا أخبريه، وإذا رفض أرجوكِ أقنعيه."
ألحت فرح على أمها:
"أنا أريد الذهاب بشدة، أصدقائي جميعهم سيكونون هناك."
"لا أستطيع إقناعه يا فرح دون أن أعلم التفاصيل، مثل المكان والساعة، ومن سيصحبك؟"
توترت الفتاة عندما سمعت أنها بحاجة لمرافق:
"ماما! لا داعي لذلك. سأذهب بنفسي، لقد كبرت."
قاطعتها أنيسة بصرامة:
"لا يجوز يا فرح، ما زلتِ صغيرة في السن، ولنفترض أن الموعد سيكون متأخراً، ماذا ستفعلين؟"
تأملت فرح الأرض لثوانٍ، ثم قالت بعد تفكير:
"حسناً، أقنعيه فقط الآن."
"أريد التفاصيل: الموعد، والمكان الذي ستقيمون فيه العشاء، ثم سأخبره."
كانت أنيسة تتحدث بصوت واضح وهي تضع الشروط اللازمة للموافقة على طلب فرح، فصمتت فرح للحظات ثم أجابت:
"حسناً ماما، أريد منكِ خدمةً أخرى."
تنهدت أنيسة قائلة:
"ما هي الخدمة؟ وأتمنى أن تكون الأخيرة."
قالت فرح بظرافة:
"أريد مصروفاً أكبر هذا الأسبوع. بالتأكيد تفهمين، إنه عشاء، ويجب أن يكون معي أموال كافية."
نظرت أنيسة إلى فرح بغرابة، وتذكرت أمر الرواتب الناقصة، ثم قالت وهي تتأملها بعمق:
"أموال كافية؟ ألا يكفيكِ مصروفكِ؟"
"بالطبع لا ماما. مصروفي لن يكفي لعشاء مثل هذا، فأصدقائي يقترحون أن نختار مكاناً راقياً، وبالتأكيد المكان الراقي يحتاج إلى أموال كثيرة، أليس كذلك؟"
لم ترفع أنيسة عينيها عن فرح، ثم قالت بغموض:
"حسناً." واكتفت بهذا الرد.
قبلتها فرح على خدها بقوة وهي تقول:
"أحبك". ورحلت المراهقة وأنيسة تتأملها بشك، تساءلت في نفسها:
'هل لفرح علاقة بالأمر؟
لا أعتقد هذا، تلك الطفلة لم تسرق يوماً.
إذاً، ربما يكون أحد الأطفال؟'
هزت المرأة رأسها بقوة وهي تشعر بالضيق، وأكملت محدثةً نفسها:
'لماذا تشكّين في الأولاد يا أنيسة؟ ربما يكون أحد الموظفين؟ نعم، ربما، فأنتِ من ربّى هؤلاء الصغار، وعلّمتِهم أن السرقة حرام.'
هكذا كان عقلها مزدحماً بالكثير والكثير من الأسئلة التي راودتها على مدار اليومين الماضيين أثارتها فرح مرةً أخرى الآن. مسحت المرأة وجهها بقوة وهي تتنهّد بحيرة، متمنيةً ألا يكون السارق من بين الأطفال.
***
كان خالد يراسل أحد منفذي مشروع المكتبة، وعقله مستغرق في اتجاه آخر. لقد أصبح يشرد هذه الأيام ويفكر كثيراً، إلى درجة أثرت على عمله. لأول مرة منذ فترة طويلة، يتمنى ترك العمل والذهاب للاسترخاء. كان يشعر بأنه يحتاج إلى الراحة والهدوء، فصخب عقله لا يتوقف أبداً، والصداع حين يرافقه يكاد يدفعه إلى الجنون.
وبينما وهو سارح في أفكاره، شعر بأن هناك نظراتٍ مسلّطة عليه، لو كانت سهاماً لأودت به في الحال. كان محمود يراقبه من تحت نظارته، ولم يكن هناك سوى أصوات الكتابة على لوحة المفاتيح. شعر خالد بنظرات محمود، لكنه تجاهلها، ومع إصرار الرجل أمامه، تنهد خالد وترك لوحة المفاتيح:
"ماذا لديك؟"
"لماذا أمرتني ألا أمر عليك اليوم؟"
قال خالد وهو يلتقط ورقة مدعياً قراءتها:
"كان علي أن أوصل الآنسة سالي إلى المحطة."
وهنا بدأت الحرب الباردة بين الرجلين، قال محمود وهو يعدل نظارته بخطر:
"وما المشكلة لو كنتُ أنا من يقود السيارة، ويأخذها للمحطة؟"
"على أحدنا أن يذهب مبكراً إلى العمل، وجاءت الظروف ليكون هذا الشخص هو أنت."
رفع خالد رأسه عن الورقة وقال ببديهية:
"هل هناك شخص آخر غيرك قد يفعل ذلك؟"
"آه."
صمت محمود قليلاً:
"إذاً، متى ستعود الدكتورة؟"
"بعد أسبوع على الأغلب."
تأمله خالد قائلاً:
"لماذا أنت مهتم إلى هذا الحد؟ أَيُعقل أنك معجب بها؟"
"وما المشكلة في ذلك؟ أَيُعقَل أنك أيضاً؟"
نظر الاثنان إلى بعضهما البعض بشك لثوانٍ معدودة، وكل منهما يحاول سَبر أغوار الآخر، حتى رمى خالد الأوراق التي بيده بصوت عالٍ ونهض:
"هذا هراء. يبدو أنني تهاونت معك الفترة الماضية. ستذهب إلى المكتبة وتتفقد الكتب الجديدة، ثم تذهب إلى المصنع لمراجعة شحنة الألعاب التي ستُصدر قريباً."
نهض محمود معترضاً:
"أنت ظالم، لماذا تفعل هذا بي؟ نحن معاً في هذا."
نظر محمود إلى الساعة وأكمل:
"كما أن الوقت مازال مبكراً لذهابك."
أمسك خالد هاتفه قائلاً:
"نعم، ولكن هناك أطفال ينتظرونني على الغداء."
رفع هاتفه الذي كان يهتز وقال:
"أرأيت؟ ماما تتصل بي، ربما افتعل الأطفال مشكلة."
اتجه نحو الباب، ثم التفت إليه وهو يقول بابتسامة:
"العمل ينتظرك يا صديقي."
خرج خالد وأغلق الباب خلفه، لتكون هذه المرة الأولى التي يهرب فيها من عمله الذي يحبه. وعاد إلى المنزل في وقت مبكر، فلم تكن لديه رغبة في البقاء ساعاتٍ أكثر في مكتبه كما تعود دائماً.
وفي موعد الغداء، نظر خالد حوله إلى الطاولة المكدسة بالأشخاص كالعادة، لكنه شعر بالنقصان على الرغم من امتلاء غرفة الطعام بالصخب والفوضى.
تأمل طعامه بشرود، وسمع أميرة تسأل:
"ماما، متى سترجع الدكتورة سالي؟"
ابتسمت أنيسة بحرارة وهي تجيب:
"لماذا تسألين، هل افتقدتها؟"
عدلت أميرة نظارتها بكِبر قائلة:
"آه، إنها لطيفة وتحب القراءة مثلي."
"هذا جيد أن يشاركك أحد هوايتك. في الواقع، لم أسألها عن موعد عودتها، من المفترض أن تعود خلال أسبوع، ولكن لست واثقة من ذلك."
"لماذا؟" سألها رحيم.
ابتسمت السيدة أنيسة وهي تقول بمكر:
"هناك احتمال أن توافق على العريس الذي تقدم إليها ولا نراها مرةً أخرى."
ترك خالد ملعقته بطريقة أثارت صوتاً عالياً، فالتفتت إليه أنيسة لثوانٍ، ثم التفتت بابتسامة مستمعة إلى فرح التي سألت بدهشة:
"هل ستتزوج؟ ولكن لماذا لم تخبرني؟"
"إنه أمر شخصي جداً يا فرح، ربما لم ترغب في الخوض في تفاصيل حياتها الشخصية."
اجابت فرح وهي تقلب طعامها بخذلان:
"ظننت أننا صديقتان."
قالت ليان:
"ماما، هل الدكتورة سالي سترتدي فستان زفاف؟ هل سنحضر زفافها؟"
"نحن لا نعلم بعد يا ليان."
قالت فرح بتذمّر:
"أتمنى أن ترفضه."
أجابت أنيسة على فرح بصرامة:
"فرح، عليكِ أن تدعي لها بالخير، وتتمني أن يرزقها الله زوجاً شهماً وصالحاً."
"ولكن لو استجاب الله دعوتي، لن أراها مرةً أخرى." قالتها فرح بيأس.
"حبيبتي، نحن لا نملك أي فكرة عما يخبئه لنا المستقبل."
التفتت أنيسة مرةً أخرى إلى خالد، ثم أكملت وهي تعيد نظراتها إلى فرح:
"علينا فقط أن نتمنى لها السعادة والخير، أليس كذلك؟"
قال رحيم بأمل يائس:
"إنها تحبنا كثيراً، أشعر بأنها ستعود."
قالت سارة بثرثرة:
"ماما، أنا أريد أن أرتدي فستان زفاف."
وافقت لارا على كلام أختها:
"وأنا أيضاً، سنكون جميلتين يا سارة."
وبدأت ثرثرة الأطفال الصغار، الذين أصبحوا متحمسين للغاية لحضور الزفاف الذي لم يحدث بعد. وهنا نهض خالد دون أن يمسّ طعامه قائلاً:
"استأذنكم، سأذهب لأرتاح قليلاً."
نظرت فرح إلى خالد بلهفة، ثم التفتت إلى أنيسة التي أشارت إليها مطمئنةً بأنها ستتحدث معه بخصوص العشاء.
***
جلس خالد في غرفته على كرسٍ مريح يقابل نافذة غرفته، كانت الأضواء خافتة جداً وهو يتأمل النيل من النافذة، ها هو القمر يتوسط السماء منيراً، يلقي بضيائه الفضي على صفحة النيل الهادئ، وتنساب أشعته برقة، لترسم لوحة طبيعية خلابة تأسر الألباب. تتراقص الأضواء على سطح الماء من بعيد، فتتحول إلى ألوان من الفضة الزاهية، تعكس جمال السماء وصفاء الليل.
تأمل المياه من بعيد كمرآة عاكسة لصورة السماء، بينما تندمج حركة الأمواج الهادئة مع هدوء الليل، لتخلق مشهداً يستحق التمعن والتأمل. مشهدٌ يجعل الإنسان يشعر وكأن الطبيعة قد أجمعت قواها لتقديم هذه اللحظة الفريدة، حيث يجتمع سحر القمر مع عظمة النيل ليصنعا لوحة لا تُنسى، كانت تلك حالة التأمل التي ينخرط فيها خالد من حين إلى آخر، جال بعينيه في النيل مرةً أخرى ووجد فيه وصفاً لشخص ما أسر تفكيره الأيام الماضية، كانت كالنيل ليله ساكن غامض، وصباحه مشرق يهب الناس من سحره وخيره. هادئة وعميقة، لكن تحت سطح تلك الهدوء كان هناك تيار قوي يسحبه نحوها ببطء، دون أن يستطيع مقاومته أو حتى فهمه. شعر بالضيق في قلبه، مشاعره كانت مرتبكة غير مستقرة، وكأن شيئًا ما يثقل صدره دون أن يدرك سببه.
تأمل خالد أكثر فأكثر، في حركة الماء التي بدت وكأنها تجسد تيارات مشاعره المتضاربة. كانت أفكاره تعود باستمرار إليها، ولكن كان هناك شيء ما يجعله يتردد، وكأن هناك حاجزًا غير مرئي يقف بينه وبين فهم هذه المشاعر، شعر وكأن قلبه يريد أن يخبره بشيء، شيء لا يستطيع وضعه في كلمات.
ظل غارقًا في تأملاته، حتى سمع من بعيد طرقاً على باب شقته يقطع تأملاته، فنهض بهدوء شديد، وفتح باب شقته ليجد أنيسة تقف أمامه:
"هل أستطيع الدخول؟".
أفسح خالد المجال لأمه حتى تدخل براحة، لم يكن لديه مزاج ليتحدث، ولكنها أمه في نهاية الأمر، قالت المرأة وهي تجلس على أريكة قريبة:
"أعتقد أنه لا مزاج لديك حتى تتحدث".
اكتفى خالد بالصمت، لتقول أنيسة:
"لا أعلم إن كان هناك أمر ما تود الإفصاح عنه لي، لكن إن أردت أنا اسمعك".
حاولت أنيسة جذب الحديث معه ولكنه كان عنيداً كالعادة، فتنهدت وقالت:
"حسناً كما تشاء، لقد أتيت هنا لغرض آخر يخص فرح".
"ماذا هناك؟".
أخيراً أجاب خالد مثبتاً أنه لا يريد أن يكون هذا الحديث عن نفسه، فقالت أنيسة:
"هنا حفل عشاء يريد الأطفال في صفها الذهاب إليه، وبما أنه سيكون عشاء فبالتأكيد ستتأخر، لذلك استأذنت أن تسمح لها بالذهاب".
عقد حاجبيه باهتمام:
"متى سيكون؟ وأين؟".
"يوم الخميس الساعة السابعة مساءاً".
ثم أخبرته عن مكان العشاء الذي يستغرق من المنزل ثلاثون دقيقة. فكر خالد قليلاً ثم قال:
"حسناً سأوصلها بنفسي".
سيطرت لحظات من الصمت على أجواء الغرفة، فنظر خالد إلى أمه التي كان لديها المزيد من الكلام:
"هناك أمر آخر؟".
"هي تريد مبلغاً من المال أيضاً، بما أنه سيكون عشاء ويتكفل كل طفل بطعامه".
عقد خالد حاجبيه مستفسراً:
"ألم تدخر من مصروفها؟".
"خالد، أنت تعلم أن فرح مبذرة".
تنهد خالد قائلاً:
"حسناً، سأعطيها المال، ولكن عليك سؤالها عما أنفقته".
نظرت إليه أنيسة بتردد فلمحها خالد وابتسم قائلاً:
"ماذا أيضاً؟".
أخفضت أنيسة رأسها بحزنٍ وتردّد، ثم رفعت عينيها إليه بطرفٍ قلق وقالت:
"هل تعتقد أن السارق أحد الأطفال؟".
عقد خالد حاجبيه بحيرة متسائلاً:
"ما الذي يجعلك تفكرين بهذه الطريقة؟ هل تشكين في فرح".
"أنا لا أشك في أطفالي، ولكن لا أخفي عليك، عندما طلبت مني فرح الأموال، خفت قليلاً من أن تكون هذه الحقيقة".
قال خالد ببساطة:
"لا أعتقد أن فرح قد تسرق، فإذا احتاجت الأموال ستطلبها كما فعلت الآن".
أجابت أنيسة بحزن:
"أتمنى ألا يكون أحد الأطفال."
تنهد خالد قائلاً:
"لا أريدك أن تفكّري كثيراً في هذا الأمر، السارق سيُظهر نفسه دون الحاجة إلى وضع احتمالات."
أخفضت أنيسة بصرها بحزن وقالت:
"لا أستطيع منع نفسي من التفكير في الأمر، كما أنني قلقة من السيدة فايزة، مسؤولة الوزارة، لم تتواصل معنا حتى الآن... أخاف أن تفاجئنا."
"لا حاجة إلى الخوف، أنتِ تعطين الأمر أكبر من حجمه، الأطفال مهذبون."
نظرت إليه أنيسة بشك وهي تسأله:
"هل أنت متأكد؟ حسن تم رفده أسبوع، ماذا لو وصلها هذا الأمر؟"
"ماما، حسن في السادسة عشر من عمره، اقترب من عمر البلوغ، كما أنه لا يجوز لها محاسبته على خطأ حدث في مدرسته وتم عقابه عليه بالفعل".
نظرت إليه أنيسة بفضول:
"ألا تريد إخباري ما الذي فعله؟".
ابتسم خالد على فضول أمه ثم قال:
"لا أستطيع إخبارك، لقد وعدته."
وفجأة، وكأنها تذكّرت أمراً ما، قالت والحزن يغلب ملامحها:
"ماذا سنفعل مع السيدة منى؟"
تبدلت ملامح خالد إلى الضيق عندما سمع اسم منى وقال:
"لا أريد الحديث في هذا الموضوع الآن."
أخفضت أنيسة عينيها بحزن وقالت:
"خالد، لا أريدك أن ترتكب خطأً تندم عليه باقي حياتك، أرجوك، عليك أن تجد حلاً لهذا الموضوع."
لم يرد خالد عليها، وشعرت أنيسة أنها قد أنهت هذا الحوار بنفسها، فنهضت وهي تقول:
"حسناً، سأذهب الآن يا بني، انتبه لنفسك."
رحلت أنيسة، تاركة خالد لنفسه مرةً أخرى. ولم تمضِ ساعة حتى سمع طرقاً جديداً على باب شقته، لم ينتبه إليه في البداية، حتى تكرر الطَرق، فنهض ليفتح الباب ويتفاجأ بنور تقف أمامه. عقد خالد حاجبيه باستغراب:
"نور؟"
"أبيه، هل لديك وقت؟"
"بالطبع، تعالي."
أمسك خالد ذراعها بيده الثابتة الكبيرة، التي شعرت من خلالها بالتوتر والتردد الصادرين من جسد الطفلة. لم تُظهر نور أنها ضاقت من مساعدته لها في المشي، لأنها تعلم أن إحساس المسؤولية والأبوة يصدران منه تلقائياً.
جلس خالد بجوارها، ومسح على شعرها بحب وهو يقول:
"أخبريني، هل هناك ما يضايقك؟"
رفعت نور رأسها وهي تشعر بالاستغراب من إدراكه لمشاعرها دون أن تنطق بحرف، وفي نفس الوقت شعرت بالأمان من صوته ويده الحنونة. أبيه خالد يعرف أنها متضايقة من أمر ما.
كانت تحمل في قلبها ألماً عميقاً وشعوراً بالضياع بعد تجربة التنمر وتخريب جهاز الكتابة المحمول الخاص بها. فقدت نور الوسيلة الوحيدة التي كانت تمكنها من التعامل رأساً برأس مع زملائها، وشعرت بالخوف والإحباط، لأنها لا تستطيع إخبار خالد، الشخص الذي يعتني بها ويحبها.
التنمر الذي تعرضت له جعلها تشعر بالعجز والخوف من التحدث بصراحة، فالعالم من حولها يبدو مظلماً هذه الأيام ومخيفاً، وليس فقط بسبب فقدان بصرها، ولكن بسبب الطريقة التي يعاملها بها بعض زملائها.
الألم الذي تشعر به نور لا يتجلى فقط في خسارة جهازها، بل في الشعور بأنها وحدها في مواجهة هذه التجارب المؤلمة، غير قادرة على الدفاع عن نفسها أو شرح ما حدث لها.
كانت مترددة في التحدث بصراحة مع خالد خوفاً من أن تشعره بخيبة أمل، أو ربما لأنها لا تريد أن تثقل عليه بمشاكلها. ورغم ذلك، تشعر ببعض الأمان بالقرب منه.
وأخيراً نطقت بعد تفكير:
"أبيه أريد اعتذر منك."
جاءها صوت خالد الرخيم الدافئ:
"لماذا تعتذرين يا نور؟".
قالت نور بتردد، وهي تشعر بأنها تريد الهروب بعيداً:
"لوحة المفاتيح الخاصة بي معطلة، كنت مهملة في الحفاظ عليها، أنا أعتذر".
تأمل خالد الطفلة بحيرة وحاول البحث عن رد مناسب. في العادة هو لا يفرق بين التعامل مع الأطفال ونور ورحيم لأنهم ذوي احتياجات خاصة، بل كان دائماً يعدل بينهم ومراعياً للظروف الخاصة في نفس الوقت، ولكن نور كانت دائماً شخص يجبره على التفكير دائماً قبل الحديث، تصرفاتها لطالما كانت أكبر من عمرها وتتجاوز اعاقتها والأهم أنها ليست الشخص الذي يشتكي. مجيئها اليوم كان دليلاً أن الطفلة في مشكلة، سألها بهدوء:
"هل كان هناك سبب لتتعطل؟ حتى تتجنبيه المرة المقبلة؟".
لم ترغب نور في الرد على هذا السؤال، لا تريد اخباره أنه يتم التنمر عليها في المدرسة وأن أحداً ألقى العصير على لوحة المفاتيح الغالية حتى تعطلت. وهنا ردت الكرة عليه ولم يجد رداً من نور كما لم تجد أمه منه رداً، وأعترف أنه شعور بغيض، وهو لن يستطع اجبار أحد على الكلام غصباً. لذلك لم ينتظر المزيد من الوقت لترد عليه الطفلة وقال:
"حسناً لا مشكلة، كل جهاز له عمر افتراضي وهذا عمره الافتراضي قد انتهى، سأطلب واحداً جديداً لك".
كان هناك ألماً على وجه الطفلة وأخفضت رأسها دون أن ترد عليه، فوضع خالد يده على رأسها يمسح شعرها بلطف قائلاً:
"لا أريدك أن تشعري بالحرج أو الخوف من مصارحتي بما تمرين به من مشاكل، ربما أغضب وربما أتهاون، ولكني هنا في النهاية معك أسمعك وأتفهمك".
تمتمت نور بألم:
"أبيه أنا أعتذر، لم أقصد أن أخرب الجهاز".
"لا حاجة للاعتذار يا حبيبتي، أنا واثق أنك لم تقصدي أن تخربيه".
خالد، من جانبه، حاول بكل ما أوتي من حب وحنان أن يطمئنها ويقدم لها الدعم، لكنه يدرك أن هناك شيئاً أعمق يزعجها، وأنها بحاجة إلى وقت لتبوح بما في قلبها.
كان يشعر بقلقها وألمها، وهو يحاول الآن بلمساته وكلماته أن يخفف من هذا الألم:
"هناك شيء آخر يضايقك؟".
كان الثقل في قلب نور هو ثقل الصمت والإحساس بالعجز، الشعور بأنها محاصرة بين ألمها الداخلي ورغبتها في أن تكون قوية ومستقلة، لكنها في الوقت نفسه تشتاق للدعم والاحتواء، تريد أن تبوح بما يؤلمها، ولكن الكلمات كانت ثقيلة وجعلت القلب يزداد ثقلاً مع كل لحظة تمر، فتشبثت بقميص خالد:
"لا أعرف كيف أتحدث أبيه، الكلام لا يريد الخروج من فمي، أنا أحاول ولكني لا أستطيع".
ذهل خالد من الألم الذي أظهرته الطفلة، وشعر بمزيج من الحزن والقلق عندما أدرك أن نور تمر بتجربة مؤلمة وأنها لا تستطيع البوح بها.
شعر بالحزن لأنها كانت تخفي عنه معاناتها، وتملكه القلق لأنه يعرف أن ما تتعرض له أكبر من مجرد عطل في جهازها. في الوقت نفسه.أراد أن يكون داعماً لها، وأن يكسر حاجز الصمت بينها وبينه. وشعر أيضاً بالعجز بشكل ما، لأنه رغم محاولاته، لا يمكنه تخفيف ألمها تماماً أو حمايتها من كل شيء، فقال وهو يضمها إليه:
"وأنا أنتظرك دائماً لأسمعك، وقتما شعرتي بأنك تستطيعين الكلام، ستجديني هنا لأجلك".
قال تلك الجملة منتظراً اللحظة التي تستطيع فيها نور أن تتحدث وتبوح بما يثقل قلبها.
***
في المساء، كانت السيدة سهام قد خلدت إلى النوم مبكراً بعد تبادلٍ قليلٍ من الكلام البارد، الذي ظل على هذه الوتيرة منذ جدال الصباح.
جلست سالي تشارك زينة مشاهدة الأفلام في صالة شقتهم الصغيرة، بينما كانت سالي غارقة في التفكير في الجدال الذي حدث مع والدتها. لم تتوقع أبداً أن يكون اللقاء مشتعلاً بهذا الشكل. شعرت بالندم لانفعالها، لكنها فقدت السيطرة على نفسها عندما رأت هذا الضعف المثير للغضب صادراً من والدتها. كانت مغتاظة بحق، وتشعر بغضبٍ أشد تجاه والدها، الذي جاء بكل برود وعكر صفو علاقتهم.
وبينما وهي مستغرقة في التفكير، نظرت زينة، التي كانت تأكل الفشار، إلى أختها الشاردة الذهن. تلك الملامح التي اشتاقت إليها لمدة شهر كانت الآن حزينة منذ الجدال مع والدتهما صباحاً.
أخفضت زينة صوت التلفاز، ثم أخذت حبة فشار ووضعتها في فم شقيقتها، التي تفاجأت من هذه الحركة المباغتة.
قالت زينة بصوتٍ مرح:
"أنا لم أنتظرك لمدة شهر حتى يكون هذا لقاؤنا في النهاية."
مازالت سالي تحت تأثير مباغتة أختها، ولكنها سرعان ما ابتسمت واحتضنت شقيقتها بسعادة:
"اشتقت إليك حقاً يا زيزي!".
احتضنت الشقيقتان بعضهما البعض بحب وهما يتهاوشان بخفة:
"وأنا أيضاً! أتعلمين نحن لم نتحدث كثيراً منذ سفرك، كنت أشعر بالوحدة حقاً".
"ولكن أين أصدقاؤك؟"
أجابت زينة وهي تلتفت إلى الشاشة:
"أخرج معهم من حين إلى آخر، ولكن معظمهم صار مشغولاً، فقد حصلوا على وظائف."
كان القلق واضحاً في عينيها وهي تجيب، فسألت سالي بقلق:
"وأنتِ؟ ألم تجدي بعد؟"
"ما زلت أبحث عن وظيفة، ولكن لم يحالفني الحظ."
تأملت سالي أختها زينة، كانت جميلة حقاً، أجمل منها دائماً، أو هكذا كانت ترى الأخت الكبيرة شقيقتها الصغيرة، التي بدت على ملامحها الجميلة أمارات التعاسة. وضعت يدها على شعرها بحب ومسحته:
"لا تقلقي يا زيزي، ستجدين وظيفة تليق بك."
نظرت شقيقتها إليها وهي تحاول ألا تُبدي الضيق على ملامحها، لكنه كان واضحاً جداً:
"لا أريد أن أتأخر عن زميلاتي. هل تعلمين يا سالي؟ أشعر أحياناً بالضيق عندما أخرج معهن، أشعر أنني أقل منهن دائماً. لا أريدك أن تأخذي كلامي على أنني أريد مصروفاً أكبر، أنا فقط أبوح لكِ بما في قلبي."
أكملت زينة بعد لحظات:
"أنا حقاً ممتنة لك، لقد تحملتِ مسؤوليتي مع ماما دون تذمر، وأريد أن أخلّصكم من هذا العبء."
اغرورقت عيون سالي بالدموع وقالت:
"زينة، لا تكوني ممتنة، أنتِ لستِ عبئاً علينا أبداً، هذه المشاعر لا أساس لها. أنا أقوم بدور اخترته بنفسي، ولم يجبرني أحد على المشاركة في مصروفك."
تأملتها شقيقتها بحزن وشفقة:
"ولكنكِ تحملتِ مسؤوليتي في وقت كان راتبكِ لا يكفيكِ أنتِ شخصياً."
أجابت سالي فوراً وبصدق:
"وكنتُ سعيدة حقاً بهذا. أن أتحمل مسؤولية شقيقتي الصغرى كان أمراً يملأ قلبي بالسعادة، فأنا صرتُ مسؤولة وقادرة على تخفيف الحمل عن ماما، وتوفير ما ينقصك، وها أنا هنا الآن... مرتبي أصبح الضعف، بل وأكثر، وأستطيع تحمل مسؤولية المنزل بأكمله."
زينة ونظراتها ممتزجة بين الحزن والإعجاب:
"أعرف يا سالي، وأنا فخورة جداً بك. لكنني أخاف عليكِ، أخاف أن تتحملي أكثر من طاقتكِ. أنتِ قوية، لكنكِ أيضاً إنسانة، ولا أريد أن أراكِ تنكسرين تحت ثقل المسؤوليات."
أجابت سالي بمرارة:
"نحن لم نعد أطفال يا زينة لقد كبرنا وأصبحنا نتحمل المسؤولية، لم نعد نحتاج إلى الحماية طوال الوقت. وحتى إن شعرت بالضعف أحياناً، فهذا لا يعني أنني سأنهار. سأقف على قدميّ مرة أخرى، وسأواصل. لأنني أملككِ وأملك ماما".
أكملت وقد تحولت ملامحها للصرامة:
"وأيضاً أنت لست أقل من أحد، يجب أن تثقي في نفسك أكثر، ولا يجوز أن تظهري أي ضعف أو تردد أمام الآخرين. الناس يأخذونك بالثقة التي تظهرينها لهم. إذا كنتِ واثقة بنفسكِ، سيشعرون بذلك وسيتعاملون معكِ على هذا الأساس. أريدك أن تفهمي أن الأمر ليس سهلاً، لكني متأكدة أنكِ قادرة على فعلها."
ثم أكملت بحب:
"ستجدين وظيفة، فقط ابحثي عنها وستأتيك".
اقتربت من شقيقتها واحتضنتها بحب، وهي تشعر أن هذه اللحظة منحتها سبباً جديداً للعودة إلى البيت؛ بيتها، وملاذها، وأمانها الدائم... بين أمها وشقيقتها العزيزة.
***
الساعة الحادية عشر مساءاً والجميع خلد إلى النوم. خرج خالد من شقته حائراً يمشي على غير هدىً، نزل على سلالم المنزل ووجد نفسه يتجول في الطرقة أمام أبواب الغرف الخاصة بالأطفال، ثم نزل مرةً أخرى على السلالم إلى الطابق الأول، وقف حائراً أمام النوافذ بجوار قاعة النافورة. كان دائماً يمر بتلك الحالة عندما يكون عقله منشغلاً بأمر ما. خرجت فرح من القاعة وهي تغطي معصمها لتجد شخصا ما يقف في الظل أمام القاعة، شعرت الفتاة بالخوف وقالت بصوت مرتجف:
"من هنا؟".
وعندما دققت النظر وجدت أن هذه الهيئة تعرفها جيدا.
التقطت أذني خالد صوتاً من خلفه:
"أبيه هذا أنت؟ ماذا تفعل هنا؟".
التفت خالد عندما ميز صوت فرح وشعر بالتوتر عندما رآها، ثم نظر مرةً أخرى إلى النوافذ قائلاً:
"جئتُ لأتفقّد النوافذ وأتأكد من أنها مغلقة."
تأملت فرح النافذة من ورائه وقالت:
"آه حسنا".
تحرك خالد بدوره وسألها بحيرة وشك، ورأسه يتجه إلى غرفة المكتب، التي كانت في الجهة المقابلة لقاعة النافورة:
"ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت؟".
وهنا جاء دور فرح لتتوتر هي:
"أنا... كنت أبحث عن المعصم الخاص بي. لارا وفؤاد سرقاه مني وأضاعاه هنا، فجئت أبحث عنه ووجدته."
رفعت فرح معصمها وقلبها ينبض بذعر، خوفاً من أن يتم اكتشافها.
وبالطبع، تلك الكذبة لم تنطلِ على خالد، لكنه مررها وقال بهدوء:
"اذهبي إلى النوم يا فرح."
وقبل أن يتحرك، أمسكته فرح من كم قميصه وسألته:
"أبيه، انتظر.. أريد أن أسألك شيئاً."
توقف خالد، منتظراً أن تتحدث.
ترددت فرح قليلاً، ثم نظرت إلى عينيه مباشرة وسألته:
"هل أخبرتك ماما عن العشاء؟"
كان عقله منشغلاً، لكنه عندما سمع كلمة "العشاء" أجاب:
"آه، نعم، أخبرتني."
نظرت إليه فرح بترقّب وقالت:
"حسناً.. ما رأيك؟"
تأملها خالد قليلاً، وهو يشعر بعدم التركيز، ثم قال:
"لنتحدث في هذا غداً يا فرح."
أجابها، ثم أزاح يدها واتجه إلى باب المنزل، ليسمعها تسأله من الخلف:
"أبيه، إلى أين أنت ذاهب في مثل هذا الوقت؟"
لم يلتفت إليها وأجاب بهدوء:
"سأركض قليلاً حول المنزل.. اذهبي أنتِ إلى غرفتك."
وقفت فرح تتأمله حائرة، وهي تتمتم:
"ما خطبه؟"
***
[رسالة صادرة بتاريخ: ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: سالي
أعتذر إليك من أعماق قلبي، فلم تكن صحتي على ما يرام في الأيام الماضية.
من المؤسف أن تكون غير قادر على استخدام خيالك بحرية كاملة، فالخيال هو البوابة التي تفتح أمامك عوالم لا حدود لها، وتأخذك إلى أماكن لم تكن لتصل إليها بغيره.
الأمر ليس كما لو أنك لا تملك خيالاً، بل إنك فقط لا تستطيع استخدامه كما ينبغي. مع ذلك، يمكنك أن تجده في أي لحظة؛ في أحلامك، في تأملك، بل وحتى في أبسط الأفكار.
كل ما عليك فعله هو أن تسمح لنفسك بالتحرر من القيود التي تفرضها الحياة اليومية، وأن تطلق العنان لأفكارك... حينها، ربما تجده.
نصيحة من صديقة مراسِلة: اقرأ كتاب "التصوّر الإبداعي" لـ شاكتي غاون، هذا الكتاب سيساعدك على التأمل، ويُنشّط قوى خيالك.
مع خالص الاحترام،
سالي.]
نهاية الفصل الرابع عشر.
وتستكمل القصة في الفصل القادم.
لا تنسوا الvote من فضلكم
***
مرحباً أعزائي، أزيكم،
من سنة تقريباً، تحديداً من شهر 9 سنة 2023 قررت أبدأ رواية المنزل، وللغرابة الفكرة دي مكنتش موجودة غير قبل قراري بفترة قصيرة، كان عندي أفكار تانية خالص، ويشاء القدر اني أميل للبدء بفكرة وقصة رواية المنزل، بصراحة كانت الرواية زي تجربة اشوف نفسي بعد سنين من التجهيز قادرة اكتب رواية ولا لأ، مكنتش يعني متفائلة بيها، ولكن بدأت كتابة الرواية وأنا مخططة ليها بنسبة 50 في المية، كنت بلعب بجرب بختبر نفسي، ولكن بمرور الوقت واهتمامي اكتر بالرواية لقيت نفسي فيها، عايزة اتكلم من خلالها مع الناس، أعرضلهم افكاري وقناعاتي واعتراضي على أمور كتيرة في حياتنا، الشخصيات حبيتها، حبيتها أوي، ومستمتعة جداً وأنا بكتبها رغم الضغط، وبحب الأطفال فيها، كل طفل حاولت أطلع من خلاله فكرة معينة، حتى الأبطال الأساسين عايزة أقول حاجة من خلالهم، أنا بكتب الكلام ده وأنا ماسكة نفسي مش عايزة انخرط أكتر في الكلام، لأني لسة في نص الرواية وفيه أحداث كتير لسه هحكيها. ولكن هتكلم عن المشاهدات اللي لسة قليلة جداً في نظرة بالمقارنة مع المجهود المبذول في الكتابة، مش مدايقة خالص بصراحة، بالعكس سعيدة جداً بالمتابعين القليلين اللي بيناقشوا معايا الرواية وبالمناسبة بشكرهم جداً، لأنهم اللي بيشجعوني أكمل - وتعليقاتهم نزلتها تحت -، عندي اه مشكلة مع المشاهدات القليلة وفي نفس الوقت الموضوع مش شاغل بالي أوي، أنا مكملة بإذن الله وبجتهد بكل ما أملك من طاقة علشان أنزل الفصول بسرعة وبجد التأخير غصب عني بسبب ظروف شغلي، فاعذروني.
كده اقدر أقول إن الجزء التاني من رواية المنزل بدأ الحمدلله، وانتظروا الفصل الجاي أجمل وأحداث قادمة أثقل.
شكراً
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
المدونة:
https://hakayalaa.blogspot.com/p/main-page.html
رواية المنزل:
https://hakayalaa.blogspot.com/p/blog-page.html
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
تعلقيات أصدقائي المتابعين:
أشكركم جميعاً ❤️🥹
تعلقيات أصدقائي المتابعين:
أشكركم جميعاً ❤️🥹

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق