رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الرابع والثلاثون
المزيكا انهاردة المقدمة الموسيقية من أغنية انت الحب الحان الموسيقار محمد عبد الوهاب. وكلمات شاعري المفضل أحمد رامي رحمة الله عليهم جميعاً.
الأغنية دي بتوصف مشاعر الشجن في حكاية أنيسة الحزينة. اتمنى تستمتعوا.
"حكاية أنيسة" الجزء الرابع.
نظرت أنيسة إلى سالي بابتسامة دافئة وقالت:
"هل تعلمين كم هو لطيف أن تستمعي إلى الموسيقى مع شخص تحبينه؟".
ثم رفعت عينيها إلى السقف وتنهدت قليلاً، قبل أن تضيف بابتسامة مليئة بالتأمل:
"أنا وكمال كنا نتشارك الاستماع إلى الموسيقى في كل مرة كان يزورني فيها. نتناقش حول صوت المطرب، كلمات الأغنية، وألحانها، وأحيانًا نتعارك بسبب آرائنا".
ضحكت بلطف وأكملت:
"يالها من ذكريات!".
التفتت أنيسة إلى سالي وقالت:
"ما رأيك أن نستمع معًا إلى أغنية؟ بما أنني أحبك كما لو كنت ابنتي".
أمسكت سالي بهاتفها وسألت برقة:
"ما الذي تفضلين سماعه؟"
قالت أنيسة بتفكير:
"ممم، ربما نستمع معًا إلى أم كلثوم، اعذريني فهي مفضلتي".
سألت سالي:
"أنت الحب؟".
تفاجأت أنيسة قليلاً، ثم ابتسمت إبتسامة مشرقة وقالت:
"أنت الحب".
وبدأت الموسيقى تتصاعد من هاتف سالي الذي وضعته بالقرب من أنيسة، بعد أن خفضت الصوت قليلاً لتتيح للمرأة فرصة إكمال حديثها كما تشاء. وبعد دقائق من الاستماع إلى مقدمة الأغنية، بدأت أنيسة تسترجع باقي قصتها.
في صباح اليوم التالي، بعد أن رحلت سرًا في الليل من منزل جدي لأبي إلى منزل جدي لأمي، وصلتني رسالة قاسية وواضحة، حملها أحد الخدم الذين أرسلهم جدي:
[لا تعودي إلى هنا مرة أخرى. لم يعد لديك جدٌّ اسمه أنور أو أخٌ اسمه أسعد].
كنت على يقين أن هذا سيكون رد فعل جدي بعد هروبي، لكن عندما سمعت الرسالة، شعرت للحظة أنني قد ارتكبت خطأً كبيرًا بقراري الرحيل.
توقفت أنيسة عن الكلام فجأة، وبدت علامات الندم واضحة على وجهها، قبل أن تضيف:
"حتى الآن، لا أعلم إن كان تصرّفي الجريء بالهروب من منزل جدي تصرّفًا صحيحًا أم لا. نحن البشر نختار في لحظات ما نظنّه صوابًا، وقد اخترتُ ما رأيته صوابًا في تلك اللحظة. ولكن كان هروبي من بيت جدي مدمّرًا له؛ فقد علمتُ فيما بعد من إحدى الخادمات أنه كان منهارًا، رغم ما يظهره من قوة وتسلّط. لقد كان جدي إنسانًا في نهاية الأمر، وهروبي بالتأكيد كسره؛ فأنا حفيدته المحبوبة، وما فعلته يُعدّ إنكارًا لفضله عليّ".
نظرت أنيسة إلى سالي بحسرة وأضافت
"أعلم أنني كسرتُ قلبه، وهذا ما يؤلم قلبي حتى اليوم. ولكن، ماذا لو كان جدي أكثر رحمة بمشاعري؟ ماذا لو كان مرنًا ومتفهّمًا لتلك العواطف التي وُلدت في قلبي لأول مرة تجاه ذلك الشاب الذي كان حبي الأول؟ ماذا لو تركني أخوض التجربة وساندني؟ لكنه حوّل حبي لكمال إلى حرب لفرض رأيه. ولم تكن شخصيتي ضعيفة لأتقبّل تسلّطه وكبرياءه؛ فأنا إنسانة أفكّر بعقلي وأحكم على الأمور من خلال خبرتي التي كان جدي يراها قليلة".
تنهدت أنيسة وعلّقت:
"ربما كنا نحن الاثنين مخطئين في تصرّفاتنا؛ وهذا ما توصلتُ إليه بعد تلك السنين".
تأملت سالي ملامح التشتت والحيرة التي ارتسمت على وجه أنيسة. فمازالت عيونها الحزينة المشتتة تحمل تساؤلات لم تجد عليها إجابة شافية رغم مرور تلك السنين الطويلة.
حتى سالي نفسها، التي جلست تستمع إلى القصة الطويلة بكل اهتمام، لم تجد في داخلها تعليقًا أو حكمًا واضحًا على تصرف أنيسة. فهي لم تكن في موقفها، ولم تعش مشاعرها التي حملتها تجاه كمال أو عائلتها. ولهذا آثرت أن تلتزم موقعها كمستمع، دون أن تحاول وضع نفسها في موقع الحكم. فهذا لم يكن حقًا تدعيه، خصوصًا أمام تجربة شخصية وعواطف بهذا التعقيد والتشابك.
أفاقت أخيرًا من دوامة أفكارها، وعادت تُنصت باهتمام إلى بقية الحكاية.
على الرغم من أن تصرّفي فتح الطريق المسدود بيني وبين كمال، إلا أنني فوجئت بتأنيبه الشديد لي على هروبي. وصف قراري بالأحمق وغير المتزن، وطلب مني بوضوح أن أعود إلى منزل جدي فورًا. لكنني رفضت بشدة، مما أدى إلى خلاف حاد بيننا. ومع ذلك، هدأ كمال لاحقًا وطلب مني، بأسلوب أكثر هدوءًا، أن أمنح نفسي فرصة أخرى، وأن أحاول العودة إلى منزل جدي ومصالحته.
استجبت لنصيحته وحاولت بالفعل. أرسلت رسائل إلى جدي أطلب فيها الصفح وأسترضيه، لكن لم يصلني أي رد. حتى أخي أسعد تبنّى نفس موقف جدي، ولم يبدِ أي تجاوب. كنت أبحث عن أي إشارة تطمئنني وتشجعني على العودة، لكن كانت الإجابة دائماً لا رد.
وذات يوم، سمعت أنباء عن زواج أخي. لم أكن أصدق ما سمعت؛ أخي العزيز تزوّج دون أن يدعوني لحضور حفل زفافه. كنت مصدومة، وامتزج حزني بسخطي عليهم. شعرت بالخيانة والخذلان، ورفضت بشكل قاطع أي محاولة من كمال للحديث عنهم مرة أخرى. وكان كمال متفهّمًا لحزني العميق وواساني بعاطفته الصادقة. وفي ذلك اليوم، عرض عليَّ أن نعلن خطبتنا في أقرب وقت، ليكون ذلك بداية جديدة تمحو آلام السنين الماضية. لم أتردد في الموافقة، وتمت خطبتنا بالفعل بحضور عائلته وعائلة أمي.
في اللحظة التي وضع فيها كمال خاتم الخطبة في إصبعي، شعرت وكأنني أطير من الفرح. كانت تلك اللحظة التي طالما حلمت بها وانتظرتها لسنوات طويلة، لحظة غمرتني بالسعادة وبدت وكأنها تعوّض كل ما مررت به من ألم وعناء. لكن، وللأسف، لم تكن فرحتي مكتملة. كان غياب جدي وأخي عن هذه المناسبة المهمة كالجرح الذي لم يلتئم، حضورهم كان سيمنح تلك اللحظة الكمال الذي افتقدته.
ومرت الأيام وأنا أستعد لفرحتي المنتظرة، محاطة بدعم جدودي الذين كانوا يشاركونني كل التفاصيل بحب واهتمام. خلال تلك الفترة، حصل كمال على ترقيته من نقيب إلى رائد، مما زاد من حجم مسؤولياته بشكل كبير. أصبح غيابه عني أمرًا مألوفًا؛ كنا بالكاد نلتقي أيامًا معدودة في الشهر، وأحيانًا حتى في تلك الأيام لم نتمكن من رؤية بعضنا. كان وقته موزعًا بين مهامه العسكرية في حرب الاستنزاف، وأسرته في قريته، والإسكندرية حيث أعيش.
وفي عام 1973، حدّد كمال موعد زفافنا في شهر نوفمبر، وأصرّ على ذلك بشدة. إصراره كان غريبًا وأثار شكوكي للحظة، لكنني وافقت في نهاية الأمر، وبداخلي تمنيت أن يكون الموعد أقرب، فأنا لم أكن أرغب في المزيد من الانتظار، لكنني أقنعت نفسي أن الأهم هو أن يأتي ذلك اليوم، مهما طال الوقت.
في تلك الفترة، كانت حرب الاستنزاف تشتد ضراوتها بيننا وبين العدو، وكنت أعلم جيدًا أن كمال يشارك فيها بشكل مباشر. ومع ذلك، لم يتطرق أبدًا للحديث عن أي تفاصيل تخص عمله الحساس، وأنا احترمت ذلك. أو ربما، بمعنى أدق، كنت أهرب من سماع أي شيء يتعلق بعمله، لأنني كنت أدرك تمامًا أن كمال دائمًا ما يواجه خطر الموت.
كنت أبتعد عن متابعة الأخبار والجرائد التي تسرد أخبار استشهاد الضباط والجنود في عمليات المقاومة. كان مجرد التفكير في احتمال رؤية اسمه أو صورته بين تلك الصفحات أمرًا يفوق قدرتي على الاحتمال. ولم تكن ذكريات اعتقاله خلال النكسة تغيب عن ذهني، بل كانت تطاردني يوميًا ككابوس يقض مضجعي ويزيد من خوفي وقلقي عليه.
في كل مرة كنت ألتقي بكمال، كان يقول لي بأمل: 'هانت يا أنيسة'. كان ينطقها بعيون تشتعل حماسًا وجرأة، وكأنه يتوقع أن الغد قريب جدًا، ثم يذهب ويعود ليكرر نفس الجملة، وهكذا استمرت الأيام والشهور حتى جاء شهر سبتمبر.
ذهبنا معًا لنتفقد شقتنا التي كنا سنعيش فيها معًا، تلك الشقة التي جمعنا فيها كل قطعة بحب، تفقدناها ونحن نطّلع إلى اليوم الذي سيجمعنا فيها. كان كلانا متحمسًا بشدة، وكان الحماس الذي يتقد في عيونه يوحي لي بأن المستقبل سيكون أفضل. ولكن في قلبي كانت هناك غصة لا أدري من أين ولدت، فها نحن نعيش أسعد أيامنا، وكلانا متحمس وسعيد، فلماذا تعاودني تلك الغصة من لحظة إلى أخرى؟
حاولت أن أزيح تلك الغصة جانبًا وأركز على سعادتنا في تلك اللحظة. قضينا إجازته مستمتعين بالأجواء الصيفية اللطيفة، وأمام ذلك البحر الذي شهد مولد قصة حبنا. كنا نعيش اللحظة بكل تفاصيلها، وقطعنا وعودًا جميلة، وعودًا كانت تحمل أحلامنا المشتركة. ومن بين تلك الوعود، تعاهدنا أنه عندما ينعم الله علينا بالمال، سنشتري بيتًا صغيرًا بحديقة نزرعها بالورود الجميلة. فقد كان كمال يعشق الورود، وهذا العشق هو ما دفعني فيما بعد لإنشاء دفيئتي، التي أصبحت ذكرى حية لحبه الذي لم يغب عني يومًا.
وجاء يوم الرحيل أخيرًا، وكان ذلك اليوم مختلفًا تمامًا. شعرت من تصرفات كمال وكلماته أنه الوداع الأخير. كان كمال هذه المرة مختلفًا عن كل المرات السابقة، فقد ودعني بحرارة غير معهودة، وفي عينيه بريق غريب، بريق جعلني أشك للحظة، لا.. بل جعلني متأكدة مما هو قادم. في تلك اللحظة، ودعته وأنا واعية تمامًا، وربما متأكدة، أنني قد لا أراه مرة أخرى. كان ذلك الإحساس ينبع من أعماق قلبي، وكان هذا هو الفرق بين تلك المرة وكل ما سبقها — كنت أتوقع ما سيحدث، أو على الأقل كنت أخشاه. ورغم هذا الإحساس الخطير الذي غمرني، لم أظهر شيئًا. ودعته بأجمل ابتسامة أستطيع رسمها على وجهي. تأملته وقتها كما لو كنت أحاول حفر ملامحه في ذاكرتي للأبد، تلك الملامح التي لم تُمحَ أبدًا من ذهني، ولا من قلبي، طوال حياتي.
حاولت بعد رحيله وبطبيعة الإنسان في التغاضي والنسيان أن أطمئن قلبي وأمحو منه تلك التنبؤات المزعجة التي ظلت تطاردني. كنت أحاول إقناع نفسي أن ما شعرت به مجرد وهم، وأنه سيعود كما كان دائمًا، بابتسامته الواسعة وكلماته الدافئة.
إلى أن جاء يوم السبت، 6 أكتوبر، ذلك اليوم الذي لو حاولت نسيانه، تأتي الاحتفالات في ذكراه كل عام تذكرني بكل تفاصيله.
كنت في غرفتي في الساعة الثانية والربع بعد الظهر، منشغلة بأفكاري، حين سمعت جدي يصيح بجانب الراديو بصوت مفعم بالحماس والانتصار:
"لقد عبرنا، عبرنا القناة! حطمنا خط بارليف!".
التففنا جميعاً حول الراديو ونحن نسمع بيان العبور الأول، الذي بدأ فيه الجيش المصري بتنفيذ عملية العبور التاريخية لقناة السويس وتحطيم خط بارليف.
[نجحت قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس على طول المواجهة، وتم الاستيلاء على منطقة الشاطئ الشرقي للقناة، وتواصل قواتنا حاليًّا قتالها مع العدو بنجاح. كما قامت قواتنا البحرية بحماية الجانب الأيسر لقواتنا على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وقد قامت بضرب الأهداف الهامة للعدو على الساحل الشمالي لسيناء، وإصابتها إصابات مباشرة].
فور سماع البيان، خرج الناس إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة تدعم للجيش وتهلل بالإنجاز التاريخي. وتجمعوا أمام أجهزة الراديو والتلفزيون للاستماع إلى البيانات العسكرية ومشاهدة الأخبار العاجلة التي تصل من أرض الميدان. في ذلك اليوم.. اختلطت المشاعر بين الفرح والأمل في تحرير الأراضي المحتلة. وانتشرت الأغاني الوطنية التي ألهبت المشاعر. كانت حالة هائلة من الحماس والوطنية هزت البلد بأكملها. من لم يعايش تلك اللحظات على أرض الواقع قد يصعب عليه إدراك مدى اشتعال المشاعر حينها، وكيف تحول ذلك اليوم إلى مصدر فخر واعتزاز لكل من شهده وعاش تفاصيله.
وأنا كنت سعيدة، بل في قمة السعادة بتحرير أرضنا. وهل هناك شعور يضاهي شعور استعادة الحق المسلوب؟ كانت فرحتي عارمة، وفي غمرة تلك السعادة، نسيت للحظات أن كمال كان بالتأكيد هناك، وربما في الصفوف الأمامية، وأحد الأبطال الذين صنعوا هذا النصر. وعندما تذكرت، تبددت فرحتي سريعًا لتحل محلها غصة وقلق شديد. كيف حاله الآن؟ هل أصيب؟ هل أُسر كما حدث في السابق؟ أم.. هل استُشهد؟ لكن البيانات التي كانت تصلنا من الإذاعة في الأيام الأولى من الحرب كانت مطمئنة إلى حد كبير، فقررت أن أتمسك بالأمل وأتجنب سماع الأخبار التي قد تُذكر فيها أسماء الشهداء الذين ارتقوا في عملية التحرير.
مر الأسبوع الأول من الحرب دون أن تصلنا أي أخبار عنه، لا رسالة ولا مكالمة. كان جدي يشفق عليّ ويحاول مواساتي بمتابعة الجرائد والاستماع إلى الإذاعة بانتباه، لعل هناك ما يطمئنني. مع مرور الأيام، اشتدت شراسة المعارك. أتذكر يوم 14 أكتوبر بوضوح، حين وصلت الأنباء مساءاً عن المعركة الجوية الكبرى في المنصورة، المعروفة بـ"معركة المنصورة الجوية". في ذلك اليوم، حاولت القوات الجوية الإسرائيلية تدمير القواعد الجوية الرئيسية بدلتا النيل في طنطا والمنصورة والصالحية، ولكن الطائرات المصرية تصدت لها بشجاعة. كانت الأخبار في ذلك اليوم مشجعة ومليئة بالفخر، لكنني رغم ذلك لم أستطع التخلص من كوابيسي التي لم تفارقني سواء كنت مستيقظة أو نائمة.
وهكذا، مر يوم ثقيل آخر، تبعته يومان آخران كنت أحمد الله خلالهما على انقضائهما دون أن تصلني أي أخبار سيئة. ورغم أن الأخبار كانت تصل متأخرة في أغلب الأحيان، إلا أن مرور تلك الأيام الصعبة، التي كنا نعيشها في ترقب دائم للتحديثات، كان يمنحني شعورًا بالتفاؤل وأملًا بأن الأمور ستسير على ما يرام.
في يوم 17، استيقظت وأنا أشعر بثقل في قلبي بسبب كابوس مزعج رأيته في منامي. خرجت إلى العمل، لكن اليوم كان غريبًا للغاية؛ مشاعري كانت مضطربة وثائرة، ولا أستطيع أن أصفها إلا بعدم الاستقرار. في تلك الأثناء، كانت الصحف المصرية تركز بشكل أساسي على تعزيز الروح المعنوية للمواطنين والجنود، لكنني لم أكن أستطيع التخلص من شعوري بأن هناك شيئًا مقلقًا يحدث. أمسكت بالجرائد وبدأت أتصفحها بعينين قلقتين، وفي الوقت ذاته كنت أستمع إلى الإذاعة بانتباه طوال اليوم، لكن لم يكن هناك أي جديد.
"كنت أشعر بذلك يا سالي". أكملت أنيسة وهي تتنهد بثقل:
"أحسست أن هناك خطبًا ما يتعلق بكمال، لكن الأخبار كانت تصل متأخرة دائمًا. ومع ذلك، كان إحساسي هو دليلي الوحيد في ذلك اليوم. شعرت أن روحي تحترق، لم أكن على ما يرام أبدًا، وهذا الشعور زاد من توتري وتشتيتي".
ومرت ثلاثة أيام أعاني فيهم من نوم مليء بالأرق، وفي اليوم الرابع استيقظت لأستعد للذهاب إلى العمل، وعندما خرجت من غرفتي وجدت سكوناً ثقيلاً يعم أرجاء المنزل، والفطور الذي وضعته جدتي على الطاولة كما هو لم يمسه أحد حتى جدي الذي كان يستيقظ باكراً في مثل هذا الوقت، كانت حالة المنزل الهادئ مريبة تنذر بالسوء، وعندما ههمت بمناداتهم.. انتبهت إلى همسات صادرة من غرفتهم، كانت الهمسات غير طبيعية ويقطعها تنهدات جدتي وشهقاتها وصوت جدي المواسي الذي يحاول تهدئتها برفق وهو يهمس:
"أرجوكِ اهدئي قليلاً.. أنيسة ستسمعنا!".
أجابت جدتي بصوت مختنق، وسط شهقاتها التي لم تستطع كبحها:
"كيف أهدأ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا أستطيع التصديق! ما زال شابًا، لم يلحق حتى بزفافه! حبيبتي أنيسة.. لم تكتمل فرحتها!".
سمعت جدي يرد عليها بصرامة، يحاول السيطرة على الموقف:
"اخفضي صوتك! أنيسة قد تسمعنا".
لكن جدتي لم تتراجع، وأجابت بنبرة يملؤها الحزن واليأس:
"لا داعي لإخفاء الخبر، فأنيسة ستعرف الحقيقة مهما حاولت إخفاءها".
حاول جدي أن يتمسك بالهدوء وهو يرد:
"لن نخفيها، لكن علينا أن نتصرف بحكمة ونفكر في الطريقة المناسبة لإخبارها. لا أريد أن يصدمها الخبر دفعة واحدة، أنيسة حساسة جدًا، والمفاجأة قد تحطمها".
قالت جدتي بصوت مخنوق يتخلله الأنين:
"حبيبتي.. كان الله في عونها! ماذا ستفعل الآن؟ لقد تركت كل شيء خلفها لأجله.. كيف ستتقبل الخبر؟".
تنهد جدي بحزن عميق، وأجاب بصوت خافت لكنه ثابت:
"هذا قضاء الله، ولا اعتراض على حكمه".
ردت جدتي وهي تكرر:
"ونِعم بالله.. ونِعم بالله..".
لكنها لم تستطع أن تخفي انهيارها وهي ترددها وسط دموعها.
في تلك اللحظة، فتحت الباب بهدوء شديد، بينما كنت قد استنتجت الحقيقة من كلماتهم المتقطعة. وقفت أمامهم، وسمعت نفسي أسأل بصوت هادئ وثابت بشكل غير متوقع، كأنني أهيئ نفسي لما سأسمعه:
"ماذا حدث؟".
انهارت جدتي على الفور بالبكاء عند رؤيتي، بينما التفت جدي مرتبكًا، يتأملني بنظرة حذرة ومضطربة.
"أنيسة.. ابنتي.. أنتِ مستيقظة؟". قالها بصوت مرتجف.
كنت أحتاج أن أسمعها. أن أزيل أي أمل زائف من عقلي. وبعد لحظات بدت وكأنها دهر، تقدم جدي نحوي، ضمني إلى صدره وهو يبكي لأول مرة أراه بهذا الشكل:
"أنيسة، البقاء لله يا ابنتي.. كمال استُشهد".
برد جسدي فوراً عند سماع تلك الجملة التي لن أنساها أبدًا بصوت جدي المتهدج، خنقت كل صوت من حولي، وجعلت أنفاسي تتوقف للحظات بدت وكأنها أبدية، باستثناء صوت الصمت ممزوجًا بالأنفاس الثقيلة لمن حولي. شعرت بأن قدمي لم تعد تقويان على حملي، فألقيت حملي على جدي الذي أمسك بي بلطف وساعدني على السير حتى جلست على أقرب كرسي.
مرت دقائق طويلة شعرت فيها بخمول يسري في حواسي التي بدت وكأنها قد تخدرت تمامًا بعد سماع الخبر. ربما كان جدي وجدتي يحاولان مواساتي بكلماتهم، لكنني لم أسمع شيئًا. كانت أذناي مغلقتين تمامًا على جملة واحدة تتردد في عقلي: كمال استشهد.
عندما بدأ الواقع يعود تدريجيًا إلى محيطي، استعدت بعض انفاسي، ورفعت نظري إليهما. كان جدي يحاول مواساتي بهدوء، بينما كانت جدتي تبكي بصمت. سألت بصوت خافت، بالكاد أتعرف عليه:
"كيف عرفتم؟ أقصد.. من أين جاءكم الخبر؟".
نظر جدي إلى جدتي للحظة، ثم التقط جريدة كانت موضوعة على السرير. رفعها بحذر وقال:
"ورد اسمه في الجريدة الرسمية، استُشهد في معركة بالقرب من الدفرسوار".
مددت يدي المرتجفة لألتقط الجريدة منه. فتحتها ببطء، وعيني تدوران على الصفحة بترقب مخيف. كان هناك عنوان رئيسي ينعي الأبطال، وبدأت عيني تبحث عن اسمه بين القائمة. كان صغيرًا جدًا مقارنة بالعنوان الكبير. ولكن بالنسبة لي، كان أكبر من كل شيء. كان ذلك الاسم.. اسمه.
الاسم الذي يعني لي كل شيء، الاسم الذي كان يمثل حياتي، مكتوب الآن بخط صغير ضمن قائمة أسماء أخرى. لم أكن أرى شيئًا سواه. والآن اسمه بات يسبقه لقب الشهيد، ليؤكد حقيقة للجميع بما فيهم أنا، وهي رحيله الأبدي.
قلبي صدق هذه المرة ونال كمال الشهادة، ولكنِ في تلك اللحظة التي وصلني فيها الخبر المؤلم، كنت غائبة، فلم أبكِ أو أنهار، بل كنت متماسكة بشكل أثار استغراب الجميع من حولي، مما جعل جدتي تطلب مني أن أبكي:
"ابكي يا أنيسة، ابكي يا ابنتي.. أخرجي ما بداخلك ولا تكتميه".
صدقًا لم أستطع، ليس لأنني لم أصدق الخبر، بل لأنني كما قلت كنت غائبة، فلم أجد الدموع التي أبكي بها، وربما كانت الدموع أقل بكثير مما كان يعتمر داخل قلبي الملكوم. وربما راودني شعور بأنه سيعود كما عاد بعد النكسة، وأن خبر استشهاده ليس إلا خطأ سيتم تصحيحه قريباً بعودته حياً سالماً، كما حدث في المرة السابقة. وربما أيضًا لأن قلبي هذا كان يشعر بما سيحدث في تلك اللحظة التي ودعت فيها كمال آخر مرة رأيته فيها، مما مهد لي تقبل الخبر ببعض الثبات. الكثير من الاحتمالات التي يمكن أن تفسر ثباتي في تلك اللحظة الصعبة.
في الحقيقة أستطيع أن أصرح الآن بعد تلك السنين أنني عندما ودعته، كنت أعلم أن حياتي معه وأحلامي لم تكونا يومًا من نصيبي في هذه الحياة. وأن زواجي منه ربما لم يُكتب لي أبدًا. لكن فاجعة الرحيل تترك الإنسان في حالة من عدم الاستيعاب لهذا التغيير الكبير الذي عليه أن يتأقلم معه لبقية حياته.
عندما اصطحبني جدي إلى قرية كمال، مسقط رأسه، لتقديم واجب العزاء لعائلته، اكتشفت قصة البطل الذي كان يدعى الرائد كمال. كان يومها يوم 17 أكتوبر، الذي شهد اشتباكات عنيفة في منطقة الدفرسوار بين القوات المصرية والجيش الإسرائيلي الذي عبر القناة في الضفة الغربية لتعزيز وجوده هناك. في هذا اليوم، اندلعت معارك ضارية بين الجانبين، حيث تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة في المعدات والأرواح بفضل مقاومة الجيش المصري الشرسة. ولكن مع الأسف، تكبد الجيش المصري أيضاً خسائر جسيمة، وكان من بين الشهداء البطل كمال الذي ضحى بحياته في تلك المعركة.
في ذلك اليوم، تقدم قريبه إليّ وسلمني رسالة مكتوبة بخط يد كمال، أوصى أن تصلني في يوم عزائه، كما أوصى بأخرى لعائلته. ولم أفتح الرسالة إلا عند رجوعي إلى منزلي، وفي غرفتي الخاصة، فقد كانت تلك الرسالة تستحضر روح كمال، وأنا رغبت أن أكون بمفردي مع روحه الحبيبة.
[الثلاثاء، 2 أكتوبر 1973
عزيزتي وحبيبتي أنيسة،
كيف حالك يا غاليتي؟
وأنتِ تقرئين هذه الرسالة، ستكون روحي قد صعدت إلى السماء. وأكون، بأمر الله، قد استشهدت، كما تمنيتُ أنا ومن هم مثلي. فتلك الرسالة تم إعدادها لتُسلم إليكِ عندما يتم التأكد من خبر استشهادي وتتم إجراءات دفني.
تلك الرسالة أكتبها الآن في يوم وداعنا الأخير، وأنا أشعر بأنها ربما تكون رسالتي الأخيرة لكِ، بل أنا متأكد من ذلك. وأتمنى أن نكون في ذلك الوقت قد حققنا الانتصار الساحق، وهزمنا العدو بأشد هزيمة. فنحن نعد لهذا النصر منذ سنوات، وها قد حانت اللحظة أخيراً.
في البداية، أود أن أؤكد لكِ مكانتك الثمينة في قلبي، وأنني لم أحب أبداً امرأة كما أحببتكِ أنتِ. كنتِ طوال تلك السنين مؤنستي الغالية التي حلمت دائماً بمستقبل مشترك بيننا، في بيت دافئ يجمعنا معاً. وأعتقد أنه لو كان مكتوباً لي النجاة في هذه الحرب، لعدت على الفور لأكمل باقي عقد قراننا في منزلنا الذي بنيناه سوياً. ولكن، هذه الرسالة التي بين يديكِ هي بالتأكيد دليل على أن النجاة لم تكن من نصيبي.
عزيزتي أنيسة، لم يكن لدي خيار في تقرير مصيري. كان هذا الواجب الذي ظل يناديني منذ النكسة، وخاصة منذ خروجي من الأسر. الواجب الذي يحتم علي أن أقوم بدوري تجاه وطني وعقيدتي، دون أن أسمح لأي تقصير أن يجعلني فيما بعد أتحسر ندماً على ما فات. ربما حكيت لكِ القليل مما حدث في الأسر، ولكن لم أستطع أن أخبركِ كيف كانت حياتي وكيف كنت أمضي الليالي الطويلة وأنا أعد الأيام التي تقربني من ذلك اليوم الذي نسترجع فيه كرامتنا وأرضنا المحتلة. لقد كان ذلك شغفاً لي أن أقاتل، والمقاتل لا يهنأ له بال إلا عندما يسترجع ما كان له. والمعادلة كانت في نظري بسيطة: إما الانتصار أو الموت. لذلك، لم يكن لدي خيار أبداً يجعلني أترك كل شيء خلفي وأركض إليك، واضعاً حياتي بين يديك. صدقيني، لم يكن لدي الخيار لفعل ذلك. وأرجو منكِ ألا تتهميني بالأنانية، فأنا مشتت بين حبي لكِ وبين حبي لوطني، وتمسكي بالعقيدة والأصل. أرجو أن تتفهمي ذلك يا غاليتي.
هناك بعض النقاط التي أود أن أوضحها لك، حتى تتمكني من فهم الأمور المخفية التي لم أستطع مصارحتك بها، وأتمنى منكِ أن تغفري لي.
أولاً: أعلم أن تأخير عقد قراننا كان يسبب لكِ الضيق، لكن ضميري كان يواجهني في الآونة الأخيرة بسبب خوفي من أن أرحل وأترككِ وحيدة تحت لقب "أرملة". لهذا السبب، رغبت في أن أترك لكِ الفرصة للحفاظ على نقائكِ، وأن تستطيعي متابعة حياتكِ بشكل طبيعي. ربما بعد غيابي، ستلتقين بشخص طيب يساعدك على الحصول على الحياة التي تستحقينها. أنتِ شابة جميلة، من عائلة محترمة، ويحق لكِ أن تعيشي حياتكِ كما تستحقين. اتركي الماضي خلفكِ يا أنيسة، وتزوجي وكوني زوجة وأماً صالحة. في الحقيقة يملؤني شعور بالغيرة وأنا أكتب هذه الكلمات الصعبة، لكن لا يحق لي أن أطلب منكِ أكثر من ذلك؛ فلو فعلت، سأكون أنانياً وظالماً.
ثانياً: الحقيقة أنني لم أرغب أبداً أن أكون سبباً في انهيار علاقتك بجدك وشقيقك، وهذا ما جعلني أشعر بالذنب. كنت قد خططت لإعادة ربط الأواصر بينكم، حتى تعود العائلة كما كانت من قبل. حاولت تسريع تلك الخطوة قبل الحرب، ولكن للأسف لم يسعفني الوقت. لذلك، أرجوك يا أنيسة حاولي بنفسك أن تعودي إليهم وتصلحي ما بينكم. فهم في النهاية عائلتك التي نشأتِ بينها، ويعز علي أن أكون سبباً في قطع العلاقات بينكم. جدك وأخيك هما الأقرب إليك من أي شخص آخر، ولو كنت ما زلت على قيد الحياة، لكنت أكملت واجبي تجاهكم بكل حب وإخلاص.
ثالثاً: أرجو منك أن تبقي على تواصل مع أبي وأمي بين الحين والآخر. هما الآن حتماً يشعران بالحزن الشديد، وكل كلمة مواساة منك ستكون لها وقع كبير على قلوبهما، فأنت أعز إنسانة في حياتي، وهم يقدّرونك كثيراً. لطالما تمنوك زوجة لابنهم، وبالتأكيد وجودك سيكون عزاءً كبيراً لهم في هذه المحنة.
رابعاً: بالنسبة للشقة التي استأجرتها لتكون عش الزوجية، كنت أتمنى لو كانت ملكاً لي لأهديها لكِ بالكامل. لكنني أعتبر كل ما فيها من أثاث ملكك أنتِ يا أنيسة. افعلي بها ما تشائين، سواء قررتِ بيع الأثاث أو الاحتفاظ به، فالقرار يعود لكِ وحدك. ولكنني أتمنى أن تقومي بالتخلص منه وتفتحي صفحة جديدة في حياتك، إلا أنني أترك لكِ الحرية المطلقة للتصرف كما ترين مناسباً.
أخيراً، عزيزتي أنيسة، وأغلى ما لدي للأبد.. لقد ضاع من عمرك الكثير في الإنتظار، وهذا يكفي. أنا متأكد أن الزمن قادر على محو الضغائن والآلام. وأنتِ إنسانة نقية وصالحة، قادرة على التغلب على كل ما مررتِ به، وأنه بمرور الوقت ستجدين السلام الداخلي وتستعيدين قوتك. أرجوك احزني باعتدال. عيشي حياتك بسعادة، ولا تفرطي في عمرك بسبب الماضي. عيشي لحظتك بكل حب وإخلاص، واحلمي بما تريدين، واعملي على تحقيق أحلامك. كوني زوجة ثم أم، ثم جدة جميلة يغزو الشيب شعرك، وعندما يحدث ذلك، سأكون سعيدًا ومطمئنًا لأنني أعلم أنك ستعيشين الحياة التي تستحقينها.
أشكرك من أعماق قلبي على كل اللحظات الجميلة التي قضيناها معًا، وعلى حبك الذي منحني القوة، وستظل محبتك في قلبي إلى الأبد. وبإذن الله، سنلتقي في دار الخلود، حيث لا فراق ولا ألم، بل لقاء دائم في رحاب الله.
المخلص لك، كمال].
انهارت أنيسة باكية وهي تمسك بالرسالة التي أخرجتها من صندوق خشبي قديم:
"وأنا أقرأ تلك الرسالة في غرفتي، بكيت لأول مرة. بكيت وأنا استوعب أخيراً ما حدث.. كمال استشهد في حرب 73، استشهد بالفعل وعرفت مصيره. وعلى الرغم من الفاجعة، شعرت بنوع من الاطمئنان، وكأن يقيني بما حدث قد أنهى عذاب الانتظار. واطمأننت على روحه، ولكن..".
سكتت فجأة، والدموع انحدرت بهدوء يعاكس العاصفة المستعرة داخلها. وبعد ثوانٍ واصلت بصوت يختلط بالحنين والألم:
"ذلك الاطمئنان لم يكن كافياً ليخفف عني ألم الفقد، مهما حاولت التماسك، لقد حطمني رحيله. رحيل كمال كسر قلبي، كسراً لم يلتئم حتى الآن. خمسون عاماً تقريباً مرت منذ تلك اللحظة، لكنني أشتاق إليه في كل يوم كما لو أنه رحل للتو.. يتجدد هذا الشوق في كل لحظة وأنا أتمنى أمنية واحدة.. أريد أن أراه، ولو للحظة واحدة فقط، أن أراه مرة أخرى".
بكت أنيسة كالطفلة الصغيرة، تلك المرأة التي عهدتها سالي قوية وصارمة في أوقات الجد، كانت في تلك اللحظة ضعيفة جدًا ومنكسرة. شعرت سالي بأن الدموع تتجمع في عينيها وهي تشاهد تلك المرأة المنكسرة تبكي رجلاً رحل عن الحياة منذ ما يقارب الخمسين عاماً. كان حباً صادقاً ونقياً، يحمل في أعماقه أسمى معاني الوفاء والإخلاص. تساءلت سالي متعجبة، هل هذا ما يفعله الحب بالإنسان؟ تلك المشاعر الصادقة وذلك الإخلاص الذي لا حدود لهما، هل كانا حقيقة؟ أم أن الزمن خفف من نقاء العواطف، فبات البشر يفتقدون البراءة والصدق اللذين يظهران الآن جلياً في هذا المشهد الحزين؟ لكن سالي، في هذا الموقف الجلل، شعرت بالصدق الذي تغلغل إلى كيانها وقلبها، وأجبر دموعها على الهبوط مرةً أخرى. أخفضت وجهها وهي تحيط بساقيها على الأريكة. وللعجب، رأت أمامها صورة، صورة وحيدة له.. خالد. تساءلت بحيرة لماذا هو من خطر على بالها الآن؟
وفي تلك اللحظة، تصاعد صوت أم كلثوم بصوت مليء بالشجن، وكأنها إجابة متسترة على حيرة سالي:
وعمرى ما اشكى من حبك مهما غرامك لوعنى.
شعرت سالي بالصدمة وهي تشعر بأن الإجابة بدأت تتسلل إلى قلبها الحائر. ولكن قطعها صوت أنيسة التي أكملت بحسرة على الحب الراحل:
"الرسالة التي أرسلها كمال لي بعد استشهاده جعلتني أدرك أنه كان أنبل وأصدق وأرقى إنسان عرفته في حياتي. لم أشكّ يوماً في صدق مشاعره نحوي، ولم أندم أبداً على حبي له. لو عاد بي الزمن، لأحببته مراراً وتكراراً حتى نهاية العالم. ندمي يتلاشى أمام إخلاصه الذي تجلّى في كلماته التي خطها بيده، ولو أُتيحت لي الفرصة لتكرار حياتي، لفعلت ما فعلته. ربما كنت سأحاول إصلاح علاقتي بجدي وأخي، لكن علاقتي بكمال لن تكون أبداً موضع ندم. لهذا السبب، أغلقت قلبي على حبي لهذا الرجل واخترت، بكامل إرادتي، أن أبقى عزباء طيلة حياتي. أنتظر اليوم الذي سألتقيه فيه مجدداً، وحينها سأكون له وإلى الأبد".
ابتسمت أنيسة وأكملت بفخر ممزوج بالحزن:
"تعلمت الكثير من هذا الرجل، تعلمت أن أعيش من أجل هدف عظيم، وأن قيمة الحياة لا يجب أن تكون محكومة بالماديات فقط، بل يجب أن تقوم على فكرة وغاية حقيقية وصادقة. ومن هنا يبدأ التأثير في حياة الناس. تلك الإرادة التي تحلى بها كمال هي من جعلته، مثلما فعل آخرون مثله، يحررون أرضنا ويكتبون التاريخ بأحرف من نور. تعلمت منه كيف يكون الإنسان شهماً في أخلاقه، راقياً في أفكاره، وكيف يكون معنى التضحية والإخلاص والوفاء بالعهد حقيقياً في كل تصرفاته. كل هذه الصفات التي جعلتني أقع في غرامه، غرستها في ابني خالد. لكن ما يؤلمني هو أنني لن أستطيع أن أراها في باقي الأطفال كما أردت. كان غرس تلك الصفات في صغاري هو هدفي العظيم، الهدف الذي تعلمت السعي وراءه بسبب كمال".
تمازج صوت أنيسة الحزين مع أنغام الموسيقى المنخفضة التي ملأت الأجواء بشجن عميق، ولم تستطع سالي أن تجد كلمات شافية تشفي قلب هذه المرأة المثقل بالأحزان، فاكتفت بالصمت، وهي تشاركها هذا الشعور الثقيل، بينما صوت أم كلثوم يتصاعد بشجن..
تجرى دموعى وأنت هاجرنى ولا ناسينى ولا فاكرني.
لتجري معها المزيد من الدموع وتتصاعد التنهدات من المرأة العجوز.
نهاية الفصل الرابع والثلاثون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق