رواية المنزل
الفصل الثالث
اللقاء الأول
في مُحيط غرفة العيادة عم صمت عميق، انحنى رأس سالي بتركيز وهي تمسك معصم فرح بقوة، تألمت الفتاة المراهقة التي يتم تعقيم جروحها وتضميدها بعناية، لم يكن هناك ولا جرح عميق، كلها جروح سطحية، ولكنها في النهاية جروح بفعل آلة حادة، كان قلب سالي يرتعد بعنف وبالكاد تتحكم في أعصاب يديها منذ رؤيتها لفرح، تلك الفتاة في السادسة عشر من عمرها تؤذي نفسها بالمشرط الجراحي! لماذا تفعل ذلك هل كانت مُقبلة على الانتحار؟ هل هي مُكتئبة أو تمر بحالات نفسية؟ كانت الأفكار والأسئلة الملحة تدور وتدور في عقل سالي الذي شعرت أنه سينفجر من التفكير، ولم تصل في النهاية إلى إجابة مُريحة، كل ما استنتجته الآن هو سبب باب العيادة المفتوح، هذه الفتاة تسللت وسرقت مشرط جراحي، انتفض قلبها وهي تتخيل لو كانت فرح قد ضغطت بقوة أكثر على معصمها، لكنا الآن في مُصيبة حقيقية. لم تتحدث سالي وهي تأخذ الإجراء الإسعافي، ولم ترفع رأسها حتى، ولكنها كانت تشعر بنظرات فرح المُسلطة عليها، كانت الفتاة متوترة بالإضافة إلى الألم الناتج عن قبضة سالي التي تشد على معصمها الرقيق، وتترقب رد فعل القادم بلا شك، لذلك سبقتها وتحدثت بصوت خافت:
- "دكتورة.. ".
لم ترد سالي عليها، فخرصت الفتاة ولم تكرر النداء مرةً أخرى حتى أنهت الطبيبة عملها وأطلقت معصمها. كانت الاثنتان تجلسان في مواجهة بعضهما البعض، سالي تحدق فيها بهدوء بارد وتشبك يديها المُرتعشتين كي لا تلاحظ فرح توترها، وفرح طأطأت وجهها إلى الأرض بخجل وتوتر، حتى قطع صوت سالي الصمت المُريب في الغرفة:
- "تحدثي".
ساد الصمت مرةً أخرى، ولم تجيب فرح التي تمسك بمعصمها، وأيضًا لم تكرر سالي كلامها، وبعد ثوانٍ تحدثت الفتاة بتلعثم:
- "لا تفهميني بصورة خاطئة، أنا.. أنا لم أكن أحاول الانتحار".
لم تجيب سالي عليها، فأكملت الفتاة بتوتر وتعلثم:
- "صدقيني.. أرجوك يا دكتورة، لا تخبري ماما".
سألتها سالي بريبة:
- "إذا لم يكن هذا انتحارًا، فماذا يكون؟".
صمتت الفتاة ولم تجيب على السؤال الصريح. كانت سالي في أقصى حالات الغضب، ولكنها منعت نفسها من الانفجار في وجه الفتاة، فتنهدت قائلة:
- "حسناً يا فرح، بما أنه ليس لديك إجابة على سؤالي، ففي هذه الحالة سأضطر لإخبار السيدة أنيسة، وهي ستتكشف السبب بنفسها".
امتقع وجه فرح وانتفضت:
- "لا!، سأخبرك بالسبب، ولكن لا تخبري ماما، أرجوك!".
لم ترد سالي مُنتظرة السبب، فتحدثت فرح وعينيها تتنقل بين سالي والأرض:
- "أصدقائي في المدرسة.. تعلمت ذلك منهم".
ذهلت سالي من الإجابة:
- "أصدقائك؟ ولماذا يفعلون ذلك؟".
شبكت فرح أصابعها بتوتر:
- "هم يقولون أن هذا الفعل يُريحهم نفسيًا".
انتقل توتر فرح إليها ونظرت باستغراب إلى المشرط الذي استخدمته فرح فأختلط التوتر بالغضب داخلها، وتحدثت بارتباك:
- "هل تشعرون بالراحة عند قطع معصمكم!".
- "لا، فقط بعض جروح سطحية والقليل من الألم".
بدأت سالي التي لم ترغب في الكشف عن مشاعر الغضب والثورة بالتنفيس عن غضبها، ولكنها حافظت على مستوى صوتها حتى لا يسمعها أحد:
- "ما هذا العبث الذي تتحدثين عنه!، ألم وراحة؟ راحة من ماذا؟ هل تعلمين ما الذي استخدمته الآن، مشرط جراحي!، آلة جراحية حادة! نحن الأطباء نستخدمها بحذر فما بفتاة في مثل سنك تمسكه بجرأة وتضعه على جسدها دون خوف، تخيلي معي لم لو تكونِ حذرة وأنت تفعلين مثل هذا الأمر المُقزز، إنها مُصيبة!، وما هي المدرسة التي لا تعلم أن طلابها يؤذون أنفسهم بالآلات الحادة".
كانت سالي تتحدث بسرعة وبلغ بها الغضب أقصاه، وللأسف فشلت في السيطرة على أعصابها، وثارت على الفتاة التي بكت وقالت وهي تحاول تهدئة سالي:
- "أرجوك اهدئي يا دكتورة!".
هدرت سالي غاضبة:
- "أهدأ؟ كيف أهدأ وأنا لا أعلم ما هو التصرف المناسب في مثل هذا الموقف!".
قالت الفتاة بصوت مرتعش:
- "أرجوك لا تخبري أحد، وأنا لن أقدم على ذلك مرة أخرى!".
نظرت سالي إليها ورمشت مُفكرة، ثم أكملت وهي تُحاول قمع ثورتها:
- "أخبرتني الآن أنكم تفعلون هذا الأمر لترتاحوا، ترتاحين من ماذا يا فرح؟".
تلاحقت أنفاس الفتاة بالبكاء والدموع ولم ترد عليها، وسالي كانت على يقين أنها لن تتلقى إجابة صريحة، فحاولت أن تتمالك نفسها وتسيطر على أعصابها الثائرة، فأخذت نفسًا عميقًا وأطلقته، ثم تحدثت بهدوء مُصطنع:
- "هل من المعقول يا فرح أن نقلد ما يقوم به زملاؤنا في المدرسة، أليس لدينا عقل؟، وإن كنت تشعرين بالحزن أو عدم الراحة أو أياً كان شعورك، هل الإقدام على مثل هذا الفعل حل سليم؟، لنتخيل معًا لو تطور الأمر معك، واعتدت على الأمر ولم يعد الألم السطحي يكفي ليشعرك بالراحة، سيصل الأمر بك في النهاية لما هو أخطر وأبعد من ذلك".
كانت سالي تعاتب فرح كما لو أنها تعاتب طفلة صغيرة، أما فرح فكانت تبكي وتتنهد وعيونها وأنفها تلطخوا باللون الأحمر. أحست سالي بأنها كانت على خطأ عندما رفعت صوتها وأعلنت عن عدم قدرتها على التصرف، كان عليها أن تكون أكثر حكمة بدلاً من أن يقودها الغضب والتوتر بهذه الطريقة ويسيطران على منطق تفكيرها، هذا المزيج من المشاعر المُتقدة المُتعارضة داخلها جعلها تشعر بالاختناق والصداع، فمواجهة مثل تلك المواقف التي تتطلب حكمة أمر صعب جداً ومُخيف، خاصةً أنها تتعامل مع مُراهقة، ومراهقة ظروفها خاصة تختلف عن غيرها من أقرانها، لذلك لم يكن لديها المزيد من الكلام، فماذا يُقال بعد الذي قيل. حالياً وبطبيعة الحال عليها أن توجه أفكارها إلى محاولة اكتشاف الطريقة الأمثل لمعالجة هذا الموقف الغريب. أصبح الصمت هو سيد الموقف لا يقطعه إلا شهقات فرح المُبالغ فيها والتي بدأت تُفقد سالي السيطرة على أعصابها مرةً أخرى وزادت من صداعها، وفجأة أحست بحركة خلفها وبالتزامن اتجهت أنظار فرح نحو المصدر والذي كان الباب الخاص بالغرفة، وفجأة انتفض جسد الفتاة وصرخت بذهول:
- "أبيه!".
التفت سالي تلقائياً، وللوهلة الأولى رأت ظلالاً سوداء، ثم تبين لها أنهما رجلان طويلان يقفان أمام الباب يسدانه فلا ملجأ لأي شخص ليهرب من هذا المكان، تقدمت فرح بسرعة وأرتمت على أحدهما مُتعلقة في رقبته وأكملت فقرة البكاء، بالكاد رأت سالي ملامح هذا الرجل، ولكنها استطاعت تمييز أنه الرجل في الصور التي رأتها معلقة على الحائط "خالد"، رجلاً يبدو أنه في العقد الرابع من عمره، الشيب تسلل بخفاء في بعض مناطق شعره المُسرح على الجنب بانتظام، هذا فقط ما لاحظته، ولكن يبدو أنه رجل مرتب بالنظر إلى هيئته العامة، لفت نظرها الرجل الآخر بجواره، يبدو أنه أصغر في السن، يرتدي نظارة وملامحه لطيفة ومبتسمة وتبعث على الراحة للرائي، لم تره في الصور التي تم تعليقها في طرقة الطابق الثاني فلم تعرف صفته، وفي تلك اللحظة وجه الرجل أنظاره إليها وابتسم بعيون بعيدة عن الانفعال، ثم تقدم إليها يمد يده بطريقة عملية:
- "أهلاً بك، أنت بالتأكيد الدكتورة سالي، أليس كذلك؟".
تحرك جسدها الذي تسمر فور رؤية الرجلين، وانتابها الحرج فقد كانت ترتدي بيجامة نوم خريفية غير مرتبة، ولكن عندما تأملتها سرى بداخلها احساس بالراحة لأنها فضفاضة ومُحتشمة إلى حد كبير، فشدتها بتوتر وسلمت عليه وهي ترد عليه بصوت خافت وجاف فيه البعض من الحرج:
- "نعم".
اكتفت سالي بهذا الرد فقد كان صوت بكاء فرح يلعب بأعصابها ويشدها، ولكن هذا الرجل ذو النظارات أصر على الحديث معها مشكوراً وشتتها عن بكاء فرح مكرراً ترحيبه:
- "أهلاً بك، أنا محمود سكرتير خالد وأحياناً صديقه".
- "أهلاً بك".
رد آخر مُختصر خرج منها وهي تشعر بالضيق بسبب قرب الرجل منها، فقد كانت تريد الهرب بأي شكل من الأشكال من هذا المكان المليء بالغرباء، حولت نظرها إلى المشهد الآخر، فرأت خالد ينزل ذراع فرح عن رقبته ويركز في الضمادة على معصمها وقال عاقداً حاجبيه وخرج صوت هادئ أجش:
- "ماذا حدث لك؟".
ثم نظر إلى وجهها الملطخ بالدموع مُتسائلاً:
- "ولماذا تبكين؟".
لم تجيب الفتاة على سؤاله ونظرت إلى سالي وملامح الذنب والتوتر ترتسم على صفحة وجهها الجميل وهي تتوسل في نداء صامت إلى سالي ألا تفشي سرها ومصيبتها، فتحدثت سالي بالنيابة عن الفتاة وهي تتظاهر بالهدوء على الرغم من الضيق الذي تكتمه داخلها:
- "لا تقلقوا عليها، مُجرد حرق بسيط في معصمها، أسبوع وسيكون بخير".
خرج الكلام منها وكأنها إنسان آلي وهي تتفادى نظرات الجميع المسلطة عليها بينما كان رأسها ينبض بعنف، فتأملها الرجل باستغراب وملامحه مُرهقة من شدة التعب وتُشير إلى أنه لم ينل قسطًا كافيا من النوم، حاول تحديد هوية هذه المرأة الغريبة التي يراها لأول مرة، ولكنه فشل، ليتدخل محمود بسرعة:
- "خالد هذه الدكتورة سالي، طبيبة المنزل الجديدة".
صمت الرجل لثواني وكأنه يستجمع أفكاره، فتأملته سالي أثناء هذا الصمت القصير، كان وجهه طويل وملامحه حادة، لم يكن شديد الوسامة، ولكن تنبعث منه هالة مُختلفة تُكهرب الجو. أكثر ما لفت نظر سالي هي عيون هذا الرجل الغامضة كثيفة الرموش تظللها حاجبان كثيفان يُعززان هذا الغموض الصادر منه. لانت ملامحه قليلاً ثم تقدم ويده مرتاحة على كتف فرح:
- "أهلاً بك يا دكتورة، هل كانت إقامتك في المنزل مُريحة؟".
سلم عليها بتهذيب وصوته الرخيم الهادي يخترق مسمعها مُثيراً داخلها إحساسًا بالرهبة، حتى شعرت أنها تلميذة أمام أستاذها، كان الجو ثقيلاً بحضوره، ونظراته الثاقبة زادت من توترها، فقالت وهي تُحاول أن تتجنب نظراته الخارقة:
- "أهلاً مستر خالد، شكراً لك أنا مرتاحة بفضل السيدة أنيسة"
- "جيد".
قالها سيد المنزل إلى الطبيبة الجديدة ومرؤوسته، ثم نظر إلى فرح مُتحدثًا بقلق:
- "وما الذي حدث حتى يحترق معصمك في مثل هذا الوقت المتأخر؟".
نظر خالد إلى ساعته ليجدها الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، فأجابت فرح وهي تتجنب نظرات سالي المحدقة بها:
- "شعرت بالجوع يا أبيه ولم أستطع النوم فنزلت إلى المطبخ واحترق معصمي وأنا أغلي الباستا".
تدخل محمود وهو ينظر في هاتفه متفحصاً الساعة باستغراب:
- "تطبخين الباستا الساعة الواحدة والنصف ليلاً؟ أليس الوقت متأخراً قليلاً على هذه الوجبة؟ ".
خجلت فرح بسبب تعليق محمود وطأطأت رأسها إلى الأرض. كان الثلاثة يتناقشون، وهنا شعرت سالي بأنها غريبة عليهم، وبدأت الوحدة تتسلل أيضاً إلى باقي إخوتها من المشاعر التي استهلكتها في آخر نصف ساعة، هذا اللقاء المفاجئ بالإضافة إلى تصرف فرح أربكوها وشعرت بالرغبة في الهروب بسرعة من هذا المكان. وجه خالد كلامه لسالي مُقاطعاً أفكارها المحصورة بين مشاعرها:
- "اعتذر إن تم إزعاجك في مثل هذا الوقت".
- "لا بأس هذا عملي، استأذنكم سأذهب إلى غرفتي".
"حسنًا تصبحين على خير يا دكتورة".
قبل أن ترد عليه لمحت بطرف عينيها فرح وهي تتابعهم بقلق ثم تنظر إليها بتوسل، فتجاهلتها سالي وقالت:
- "تصبحون على خير جميعاً".
وتركت سالي المكان مُنطلقة تجاه غرفتها، وخليط من المشاعر والأفكار تستولي على عقلها وقلبها، كانت تغلي من فعل فرح، وشعرت أنه تم مُقاطعتها في لحظة مُهمة، فلم تكتف بهذا القدر من الحديث معها والاستفسار أكثر عن تصرفها الأخرق، هذا بالإضافة لاختراق هذين الرجلين المنزل فجأة في مثل هذا الوقت، كانت تشعر بالخجل من ملابسها غير المرتبة، فأسرعت من وتيرة مشيتها وهي تخبئ عينيها بخجل، واتجهت إلى غرفتها لتمضي ليلة أخرى من الأرق. وبالفعل أمضت سالي ليلة كان حدثها الرئيسي كابوسًا مُقتبسًا من الموقف الذي حدث مؤخراً، رأت فرح تقف في الظلام على النافورة وتمسك بمعصمها الذي تنزف منه الدماء سيولاً، حاولت الصراخ على الفتاة، ولكن صوتها كان يخرج فقط كالحشرجات، التفتت فرح ووجهها الحزين تقطر منه الدموع، والدماء تسيل وتمتد حتى وصلت تحت قدمي سالي التي تسمرت ولم تستطع التحرك. وفي النهاية انهارت فرح تحت صراخ سالي:
- "فرح!".
استيقظت وجسدها يغلفه العرق، حتى التصقت ملابسها بجسدها، فجلست على سريرها في محاولة لتهدئة نفسها ونبضات قلبها المُتسارعة وهي تبعد الملابس التي التصقت بجسدها، على الرغم من ألم بطنها الذي هدأ لكنها شعرت بالصداع يستولي على رأسها هذه المرة، فدلكت صدغيها، وأدركت آسفة أنها لن تستطيع النوم حتى تشرق الشمس، وفجأة انتبهت إلى صوت الحفيف الصادر من نافذتها مرةً أخرى، نهضت بعد لحظات من تأمل النافذة، لتجد الغصن يكاد يكون ساكناً ولا أثر إلا لحركة بسيطة، مع عدم وجود أثر لنسمات الهواء التي قد تحرك هذا الغصن. وفي الواقع لم تهتم سالي ورفعت رأسها إلى السماء تتأملها، كان نسيم الليل مُنعشًا، فأغمضت عينيها وتنفست بعمق وهي تنظف رئتاها بهذا الهواء النقي، شعرت بالهدوء نسبياً وهي تتأمل جمال صنع الله، لطالما استغرقت في تأمل سماء الليل منذ نعومة أظافرها، كان القمر مُنيراً والسماء الصافية تتلألأ بالنجوم البعيدة والتي مازالت تبهر عيونها. وهي صغيرة ثارت دهشتها عندما علمت أن أغلبها مجرات وكواكب عظيمة الحجم، لذلك أحبت الخوض في هذا العالم الكبير المليء بالأسرار والمعجزات، تجولت بعيونها فوجدت الراحة والصفاء في تأمل هذه اللوحة الجميلة المُبهرة، حتى قطع تأملها صوت نافذة تُفتح من الطابق الأعلى الخاص بخالد، فأغلقت نافذتها بهدوء دون أن تصدر أي صوت، واتجهت إلى المكتب مُتخذة مقعدها وفتحت التابلت الخاص بها، كانت مدونتها التي تنشر عليها رسائلها منذ مراهقتها قد امتلئت بخواطرها ورسائها من 14 عاماً. خصصت في مدونتها قسم أخفته ولم تنشره تحت عنوان "رسائلي إليك"، رسائلها موجهة دائماً لشخص لا يعلمه أحد ولا حتى هي، بدأت سالي رسالتها:
[صباح الخير فجراً..
أكتب إليك رسالتي بعد مدة طويلة من الغياب، واعتذر إن شغلتني ظروفي ومشاغلي عن مراسلتك، ولكن لم يكن بيدي حيلة، فقد حدثت مؤخراً الكثير من الأمور، ولم أجد الوقت المُتاح لأفضفض إليك. أتعلم كم الساعة الآن وأنا أكتب هذه الرسالة إنها الثانية صباحاً، وأنا أفضل النوم باكراً، ولكن الأرق يحول بيني وبين هذه الرغبة مؤخراً، لذا أحببت ان أفضفض قليلاً وأحكي لك التطورات، تطورات سريعة جداً وجذرية غيرت من مجرى حياتي، كما تعلم، قررت أن أحدث تغير في مسار حياتي المهنية، ولكن بطريقة ما حدث ما أعادني إلى هذا المسار مرةً أخرى. باختصار، أصبحت الآن اعمل كطبيبة مُقيمة في منزل للأيتام، بالتأكيد أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو دار للأيتام بالمعنى الشكلي المعروف، ولكنه منزل يعيش فيه أيتام كفلتهم سيدة عجوز، تخيلت الأمر في البداية أن الحياة في هذا المكان ستسري بطريقة روتينية شكلية، ولكن الأمر لم يكن كما تخيلت. أنا أعيش الآن في منزل كبير جداً، مليئ بالأطفال. بغض النظر عن مدى تفكيري في الأمر لكن المسؤولية كبيرة بالفعل، ويبدو أن هؤلاء الأطفال في جعبتهم الكثير، أما مديرة المنزل يبدو أنها سيدة راقية ولطيفة جداً، هي من تدير هذا المنزل الكبير وأم لكل هؤلاء الأطفال، لم يمض سوى يومين فقط على إقامتي في هذا المنزل وبين هذه العائلة، ولا أعلم بعد كيف ستكون الأمور في المستقبل، ولكني أشعر الأمر مُختلف هذه المرة، لست متأكدة من شيء بعد، ولا أعلم إن كنت أستمر أكثر من شهر أم لا. لا استطيع أن أخيب ظن هؤلاء المُتحمسين لي، ماما ورئيسي في المستشفى، ولكن ستكون تلك المرة الأخيرة التي سأرضي فيها أحداً فيها على حساب راحتي، ثم سأكمل الطريق الذي خططت له من قبل، سأعيش لنفسي بعد ذلك ولن أقوم إلا بما يمليه عليّ قلبي وعقلي، هذا ما كان يجب أن يحدث من قبل. لا أخفي سراً أنني مُتحمسة قليلاً لهذه التجربة الجديدة القصيرة والتي لن أفرط فيها. أتدري؟، كم أتمنى لو أنني أستطيع أن أحظى برد حقيقي حكيم منك، يطمئنني قليلاً ويشاركني هذه الوحدة التي أشعر بها، ولكن يكفيني أنني أستطيع أن أكتب لك.. على الأقل.
شكراً لك لأنني أستطيع أن أكتب لك مثل هذه الرسائل].
تفقدت سالي رسائلها على أحد مواقع الأسئلة، حيث لا يظهر اسم المرسل، هذا الموقع اتخذته كالبريد تصلها عليه رسائل مجهولة الهوية والاسم، تلك كانت مبادرة قد بدأتها على مدونتها ومواقع التواصل الخاصة بها "راسلني دون الإفصاح عن هويتك"، وهذا لاقى استحسان من بعض متابعين المدونة الخاصة بها، وبالفعل بدأت تصلها الرسائل، أحتاجت سالي إلى تلك الرسائل أكثر من المرسلين أنفسهم، كانت تشعر بأنها ليست الوحيدة التي تمر بمثل تلك الأزمات النفسية والفكرية، وتعيش صراع مع أفكارها، وأن الكثير مثلها يعيشون نفس تجربتها، يشعرون بالوحدة، بالضعف، بالتشتت والحزن العميق. قرأت الكثير والكثير من الرسائل، وخاضت مع أصحابها الكثير من النقاشات النفسية، ولكنها لم تكن الشخص الحكيم الناصح، بل كانت تنصت إلى أفكارهم وتجاريهم وتحاول أن تتفهمهم، وهذا جعل المزيد من المتابعين يراسلونها وأصبح عدد الرسائل التي تصل في اليوم أكثر من خمسة رسائل كحد أدنى، وتلك الرسائل تتطلب منها وقتاً لتجيب عليها باستمرار. تفحصت سالي الرسائل كانت معظمها سؤال عن أحوالها وبعضها تحتاج قراءة متمعنة لترد عليها براحة، فظلت تقرأها وتجيب بحرص حتى سرقها الوقت.
***
وقف خالد في الشرفة الواسعة في الطابق الثالث الذي يعيش فيه، كان هذا الطابق بمثابة شقته الخاصة، انتقل إليها بسبب ضجيج الأولاد الذي كان يمنعه عن التركيز في أشغاله، هذا الطابق تم تصميمه بصورة تختلف تماماً عن باقي المنزل بما أنه من أنصار الطراز الحديث، على عكس أمه التي تفضل النمط الكلاسيكي، فصمم لها ما أرادته، أما هو فاتجه لأسلوبه الخاص الحديث ولكن دون مبالغات، وعلى الرغم من عزله لنفسه فيه، هذا لم يمنع الأطفال من الصعود وإزعاجه بل أحياناً يرغبون في المبيت معه ويثيرون الشغب، لذلك جهز أيضاً الملحق ليكون ملاذه الأخير منهم. تأمل السماء عاقداً حاجبيه ومُستغرقاً في تفكير عميق، حتى جاء محمود من خلفه وفي يده طبق به القليل من الطعام الخفيف حصل عليه من الثلاجة، وقال وهي يمضغ الطعام:
- "أنا لا أشعر بالراحة عندما تعقد حاجبيك هكذا، ما الذي يشغل تفكيرك؟".
التفت له خالد وخرج من الشرفة قائلاً:
- "ألم تلاحظ أن هناك أمراً مريباً كان يجري بين فرح وتلك الطبيبة؟ اعتقد انهما كانا يخفيان أمراً".
رد محمود متعجباً وهو يضع لقمة في فمه مازحاً:
- "أنا لا ألاحظ شيئاً بعد الواحدة ليلاً، إلا السرير".
ولكن ملامحه تبدلت إلى الجد عندما جلس قائلاً:
- "ما الذي جعلك تفكر هكذا؟ بغض النظر عن مدى ارتيابك الذي اخاف منه الآن، ولكن لا أعتقد أنني لاحظت شيئاً غريباً".
تنهد خالد قائلاً:
- "أنا متأكد أنه هناك أمر ما، لدي هذا الإحساس أن فرح لم تكن على سجيتها، ونظراتها للطبيبة كانت مريبة".
قال محمود وهو يعدل نظارته قائلاً:
- "ربما بسبب إصابة يدها، يبدو أن الحرق آلمها".
ثم دقق النظر إلى خالد واستطرد بملل:
- "من أين تأتي بتلك الأفكار؟ أنت رجل غريب حقاً".
جلس خالد وأغمض عينيه من شدة التعب والإرهاق وقلة النوم، حتى أنهى محمود طعامه، وتنهد مرتمياً على أقرب أريكة وهو يمسح معدته قائلاً:
- "ألن يكون رائعاً لو أخذنا يوم الغد إجازة، أنا مُتعب جداً ولا طاقة لدي للعمل بعد هذه الرحلة الطويلة".
ركله خالد بخفه على ساقه قائلاً:
- "هيا انهض، عليك الذهاب إلى منزلك وأخذ قسط كاف من النوم، لديك الكثير من العمل غداً".
نظر إليه محمود مدعياً الدهشة:
- "هل سمعت ما قلته للتو؟ هل أنت روبوت؟ أحياناً أشك أنك إنسان طبيعي مثلنا!".
ابتسم خالد وهو يصب الماء في كوب فارغ:
- "الوقت مُقدس بالنسبة لي، وهناك مسؤوليات علينا إنجازها".
تقلب محمود قائلاً:
- "بمناسبة تضييع الوقت دعني امضي الليل هنا، لن أستطيع التركيز في القيادة".
شرب خالد الماء الذي صبه في الكوب ثم نهض قائلاً:
- "أغلق الأنوار واذهب إلى النوم في الغرفة الخاصة بك، لا تستلقي هنا كالمتسولين".
تمتم محمود وهو يغلق جفونه الناعسة ويحتضن وسادة قريبة منه:
- "حسناً".
***
كان هناك طرقاً خفيفاً على الباب الشقة، ولم يأخذ خالد وقتاً طويلاً حتى يتعرف على الطارق، فقد كان ينتظره من الأساس، ونهض من سريره بسرعة، وفتح الباب لها، ولم تمض لحظات حتى عانقته المرأة العجوز بلهفة، ابتسم خالد ابتسامة وصلت حتى عينيه وهو يعانق أهم شخص في حياته، وظل الأثنان على هذا الحال لثوانٍ طويلة ثم قالت المرأة وهي تبتعد عنه وتضربه بخفة على كتفه الصلب:
- "لماذا لم تخبرني بموعد وصولك، أيها الشقي!".
تحدث خالد وهو يمسح برفق على شعرها الرمادي المعقود للخلف:
- "أحببت ان تكون مفاجأة لك".
تذمرت المرأة وهما يتشابكان الأذرع:
- "هذا منتهى اللطف منك، ولكنك تعلم أنني لا أحب المفاجآت، في المرة القادمة يجب أن تبلغني قلبها حتى أستقبلك في المطار".
تنهد خالد بيأس:
- "ألا تملين من هذا الأمر؟ المطار يبعد عن هنا بضع كيلومترات فقط، ثم أنني أسافر كثيراً".
- "ولو، هذه متعة لا يضاهيها أي متعة يا عزيزي، أخبرني هل هناك إحساس بالسعادة يضاهي هذا الإحساس عندما تخرج من المطار وتلمحني أنا والأطفال من بعيد ننتظرك باشتياق ونلوح لك بشغف، تخيل هذا".
ضحك خالد بخفة على هذه الجملة التعبيرية المبالغ فيها، فسألته أنيسة وهي تجلس على الأريكة التي كان يستلقي عليها محمود منذ قليل:
- "كيف كانت الرحلة يا عزيزي؟".
أجابها مبتسماً وهو يأخذ مقعداً بجوارها:
- "مثمرة بفضل دعواتك".
تأمل خالد أنيسة عن قرب ولاحظ أن مظهرها يختلف عن آخر مرة رآها فيها فسألها:
- "كيف حالك أنت؟ هل تأخذين أدويتك بانتظام، أم تنسين كالعادة؟".
أجابت المرأة بابتسامة راضية مقتنع، ثم دققت النظر إليه بشك:
- "شكراً لله أنا بخير، أما أنت فمن الواضح أنك انهمكت في العمل ونسيت نفسك كالعادة، هل كنت تفوت وجباتك؟".
- "لم أفوت ولا وجبة".
تنهدت أنيسة بسعادة:
- "مع أنني أشك فيك".
فابتسم خالد وسألها مراوغاً:
- "الأطفال، كيف كان سلوكهم الأيام الماضية؟".
- "جميعهم بخير، حدثت الكثير من الأمور مؤخراً عليك أن تتطلع عليها، أهمهم أن الطبيبة الجديدة وصلت أول أمس، وثانياً حسن يرفض الالتحاق بالبطولة".
عقد خالد حاجبيه وشبك ساقيه وهو يتساءل:
- "لماذا هل أخبركم عن السبب؟".
نظرت إليه المرأة بقلة حيلة:
- "وهل هذا الفتى يتحدث بصراحة مع أحد غيرك؟ السيدة منى ألحت عليه في السؤال، ولكنه رفض الإدلاء بالسبب، فنبهتها ألا تسأله مرةً أخرى وتنتظر عودتك".
سكتت المرأة وعلى وجهها نظرات ذات مغزى فهمها خالد، ولكنها تبدلت بسرعة إلى ابتسامة جميلة:
- "غير هذا فالأطفال اشتاقوا إليك، لم يكفوا عن السؤال عن موعد وصولك، سيتفاجؤون غداً عندما يرونك على الفطور".
- "آسف على تخريب آمالك، ولكن فرح بالفعل تعلم بوصولي".
مال رأس أنيسة باستفهام فقال خالد:
- "قابلتها في العيادة مع الطبيبة الجديدة وقت وصولي"؟
- "وماذا كانوا يفعلون في العيادة؟".
- "يبدو أن فرح حرقت معصمها في المطبخ".
تجعد حاجبي أنيسة باستغراب:
- "في مثل هذا الوقت من الليل؟".
- "كانت جائعة، هذا ما قالته".
عقدت أنيسة حاجبيها وقالت:
- "من الجيد أن الطبيبة هنا، هذا سيساعدنا كثيراً، ألم تقابلها؟".
- "نعم قابلتها".
- "شابة ظريفة ولطيفة، أنا حقاً متفائلة بوجودها".
تأملها خالد بابتسامة ممزوجة بالقلق وهو لا ينصت فعلياً إلى ثرثرتها التي يعشقها، كان يشعر أن العبء صار ثقيلاً عليها، وسنها الكبير لم يعد يسمح لها ببذل المزيد من المجهود مع الأطفال، شعر أنه يجب أن يغير قليلاً من طريقة سير المنزل ليتماشى مع ظروف هذه المرأة العزيزة على قلبه، ويجب أن يحدث هذا قريباً.
***
ظلت سالي مُستيقظة حتى الفجر تجيب على الرسائل، وعقلها المشغول لم يرتاح ولو لثانية بين الرسائل وبين فرح، انهت عملها واتجهت إلى سريرها وهي تفكر، كان من غير المعقول بالنسبة لها أن يكون هذا أول تحدي لها في هذا المكان وفي اليوم الثاني من وصولها، هل تبلغ أنيسة بهذه المصيبة؟ أم تنتظر وتفكر في حل آخر بمفردها، لطالما وضعتها الحياة في مواقف كثيرة أثارت حيرتها، ولكنها كانت تخصها في نهاية الأمر، وليس شخصاً غيرها. تقلبت على سريرها وتمتمت بشرود:
- 'ماذا أفعل؟!'.
ما الذي يدفع هذه الفتاة لفعل مثل هذا التصرف الخطير، هل له علاقة بيتمها؟ أم هي مشاكل المراهقة فقط؟ تلك الفترة المتوترة التي ينطلق فيها الطفل من مرحلة الطفولة إلى البلوغ، ومُجاراة زملائه في المدرسة والذين بالتأكيد لهم تأثير كبير عليه. فكرت سالي في نفسها، هل كان من الممكن أن تفعل هي مثل هذا الأمر في مُراهقتها؟ ظروفها أيضاً لم تكن الظروف المثالية لفتاة في مثل عمرها، هل كانت ستقوم بهذا الفعل الخطير الذي يؤذي النفس والروح ولا يجلب إلا راحة كاذبة وهمية؟ بماذا تشعر فرح عند قيامها بهذا الأمر؟ كيف يرتاح الإنسان عند أذية نفسه؟ أم كعادة المراهقين لا يعلمون عواقب أفعالهم، تذكرت أنها درست هذا المرض النفسي في سنين الجامعة، "إيذاء النفس غير انتحاري" لكنها لم تتوقع أن تصادفه في الحياة الواقعية، حاولت أن تتذكر ما درسته، كان على الأغلب أن المرء الذي يؤذي جسده عمداً يفعل هذا حتى يتأقلم مع الآلامه العاطفية وتوتره وغضبه وحزنه وغيرها من المشاعر المؤذية، هذا الشخص يشعر بعد أذية نفسه بالهدوء ويتخلص من توتره ومشاعره السلبية، ولكن لفترة وجيزة، ثم يشعر بعدها بالذنب والندم، وبعد هذا تعود المشاعر التي تؤلمه مرةً أخرى، وهكذا يدور في حلقة مُفرغة لا نهاية لها. تقلبت سالي مرةً أخرى وهي تفكر في سبب فرح، هل هو سبب نفسي أم مُحاولة لتقليد أقرانها؟ هل هي تشعر بالذنب الآن؟ هل تتألم؟ كيف هي مشاعرها؟ مر يومين على وجود سالي في هذا المكان، وبصفتها موظفة فقط فعليها أن تقوم بالتصرف الأنسب وهو إخبار أنيسة، هذا هو الحل الأمثل لشخص في مثل موقفها، ولكن قبل هذا عليها إمهال الطفلة مدة لتتحدث معها وتستفسر أكثر عن أسبابها ودوافعها. الكثير من الأفكار والعديد من الحلول أخذت سالي تفكر فيها حتى تفاقم الألم في رأسها.
الله أكبر..
سمعت سالي صوت الأذان، فنهضت بطاعة تلبي النداء، ثم خلدت إلى النوم بعد أن عبثت في منبه هاتفها لتستيقظ في الساعة السادسة، أي بعد ساعتين حتى لا يفوتها موعد الفطور. وفي الساعة السابعة، وعلى الرغم من عدم أخذها القسط الكافي من النوم، نزلت وعزمها يتوقد داخلها. كان المكان حيويًا، والأطفال يستعدون للذهاب إلى المدرسة، ويبدو من الأصوات أن جميعهم مُجتمعون في المطبخ، وقفت أمام الباب الذي لم يُغلق تماماً، وملئت رئتاها بالهواء، ثم دفعت الباب بسرعة وطاقة فلتت منها ولم تستطع السيطرة عليها، ثم تقدمت بشجاعة وقالت بإشراق دون أن تلاحظ الرجال الذين يجلسوا على رأس المائدة بجوار السيدة أنيسة:
- "صباح الخير!".
التفت الجميع لهذا الدخيل ودخوله المُفاجئ، وهنا وجدت الجميع حتى الكبار، السيدة أنيسة وخالد ومحمود والمربيات أيضًا ينظرون إليها باستغراب، سخن جسدها من الإحراج، فلم تتوقع وجود الرجال في هذه الساعة، خاصةً وأنهم عادوا ليلاً من السفر، على الأقل سيرتاحون اليوم، ولن يستيقظوا في الساعة السابعة صباحاً يرتدون ملابسهم بأناقة، حاولت أن تتدارك الأمر وتسيطر على خجلها، فتجولت ببصرها والخجل يتصاعد إلى وجنتيها وحددت هدفها، ثم ذهبت في تجاه فرح ووجهت كلامها لحسن الذي يجلس بجوارها:
- "حسن إذا سمحت هل أستطيع أن أستعير منك مقعدك؟".
نظر الفتى إليها باستغراب ثم نهض تاركاً سالي تُلاحظ نظرة سخرية، مررتها على الأقل في هذا الوقت:
- "شكراً لك".
وجلست بجوار فرح وهي تذوب من الخجل، تأملتها فرح إليها بنظرات ذات مغزى، ردت عليها سالي وقالت بابتسامة جميلة:
- "صباح الخير فرح!".
كان توتر الفتاة يزداد وهي تمسك بمعصمها الذي تخبئه بالجاكيت الخفيف الذي ترتديه، وأجابت وهي تنظر حولها بتوتر:
- "صباح الخير دكتورة".
- "ألم نتفق على أن تناديني باسمي؟".
عجزت الفتاة عن الرد لوهلة ثم قالت متلعثمة:
- "حسنًا".
تدخلت لارا وهي تجلس على ساق خالد الذي يطعمها:
- "أنا أيضًا أريد أن أناديك باسمك!".
نظرت سالي إلى لارا ببراءة، كان الجميع يتابع الموقف باستغراب، وقالت السيدة أنيسة بحيرة:
- "صباح الخير يا دكتورة".
في الواقع كان قلب سالي يدق بعنف، فهي لم تتصرف يوماً بهذه الجرأة، أن تدفع الباب بهذا العنف وتدخل بهذه الطريقة الجريئة لافتة لها الأنظار، شعرت ببلاهتها، وندمت على هذا الدخول الدرامي المتهور، وتساءلت بصمت وهي تنظر إلى محمود وخالد والسيدة أنيسة:
- 'هل يعتقدون الآن أنني حمقاء؟'.
فوضعت كفها على خدها الساخن بحرج ونظرت إلى الطعام وهي تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها، لتشعر بنكز في ساقها، كانت فرح، فنظرت سالي إليها ببراءة وهمست:
- "ماذا؟".
فهمست الفتاة:
- "لا تخبري أحد".
تحولت نظرة سالي من البراءة لابتسامة باردة ولم ترد عليها، ولم تعلم الفتاتان بأن هناك من يراقبهما ويتابع الموقف بانتباه وريبة، وعلى الرغم من العاصفة الصغيرة التي أثارتها سالي، إلا أن الأوضاع عادت كما كانت عليه، وأندمج الجميع مرةً أخرى، وطاقة وشغب الأطفال خاصةً عادوا إلى ما كانوا عليه، وما أثار ابتسامة سالي، هي لارا الطفلة المزاجية التي جعلت خالد يطعمها وكأنها أميرة، مما أدى إلى غيرة باقي الأطفال وتذمرهم. في الواقع لم تر في حياتها عائلة مثل هذه العائلة الكبيرة، على الرغم من أن جميعهم لا قرابة بينهم بأي شكل من الأشكال، إلا أن الاندماج الطبيعي بينهم أثار استغراب سالي، وأيضاً أثار القليل من الغيرة، فهذا الجو المحب كان نادراً في بيتها الذي تعيش فيه مع والدتها وأختها، ولم تشعر بنفسها وهي تبتسم بدفء وهي تتأمل العائلة السعيدة.
بعدما تناول الجميع فطورهم، ذهب الأولاد الكبار إلى مدارسهم فور وصول الحافلة الخاصة بهم، وبعدها ذهب خالد ومحمود إلى عملهم، وهنا شعرت سالي أن لا عمل لها، فالسيدة أنيسة بالتأكيد تختلي بنفسها في المكتب ولن تتطفل عليها، والباقين من الموظفين والمربيات مشغولون في أمورهم وأعمالهم، فأحضرت الملفات من المكتب، ثم توجهت إلى الأطفال الصغار في غرفة الحضانة، كان الأربعة الصغار تحت السن، ومعهم ماريا الرضيعة التي تحبو وبالكاد تمشي على قدميها الصغيرتين، رآها الأطفال، ولكنهم لم يهربوا منها كما حدث في أول لقاء، فقط ترقبوا دخولها وقبل أن يتحدث أحدهم قالت سالي:
- "أهلا ً يا أولاد، ما رأيكم أن نلعب في الحديقة؟".
ثار الصغار عند سماعهم اقتراحها، فتوجهت إلى الرضيعة التي تُحاول الوقوف باجتهاد مُستندة على عربة الأطفال الكبيرة، وحملتها سالي بلطف وهي تستأذن المُربيتان في الغرفة فسمحوا لها وشكروها هامسين لأنها ستريحهم قليلاً من شغب الأطفال، ابتسمت سالي بتواضع وتأملت ماريا الصغيرة، كانت طفلة جميلة، بشرتها ناعمة بيضاء، ووجنتاها الورديتان المُنتفختان تُغريان الناظر لها، استغربتها الطفلة وتأملت هذا الشخص الغريب الذي تقابله لأول مرة، ثم نظرت إلى المربيات وإلى إخوتها الذين تعرفهم، صلت سالي في سرها ألا تبكي وأخذت تلاغيها حتى أهدتها الطفلة ابتسامة صغيرة، باردة وغير مُتحمسة، فقبلت سالي الهدية كبداية، وقبلت الطفلة بخفة من وجنتيها الناعمة المُنتفخة، وقالت للأطفال الذين يذكرونها بالفراخ الصغيرة:
- "هيا لنذهب جميعاً إلى الحديقة".
وقبل أن تترك المكان، طلبت من المربيتين إبلاغ السيدة ذكية بإحضار بعض الكيك، والشاي وكرسي الطعام للطفلة ماريا. أثار الأطفال الشغب في الطريق حتى وصولهم إلى الحديقة، واختارت سالي الجلوس معهم تحت العريشة التي على هيئة كوخ، تتوسطها طاولة تُحيطها أريكتان، كان عقلها مشغول بأمر فرح، حتى خرجت من افكارها على صوت تذمر ماريا التي سئمت من حملها، كانت الطفلة غير معتادة على هذا الشخص الذي تراه لأول مرة، وأخذت تئن وتزم شفتيها الصغيرتين جداً، فحاولت سالي أن تشتتها وتلاغيها حتى يأتي الكرسي الخاص بها، ولكن يبدو أن الطفلة العابسة ذات التسعة شهور عنيدة وليس من السهل السيطرة عليها، فنفخت خديها السمينين وبدأت تبكي، استسلمت سالي وأنزلتها على الأرض الخشبية لتزحف الطفلة وتتجول وهي تثرثر إلى نفسها تحت أنظار سالي التي أخذت تقرأ الملفات. وصلت السيدة ذكية مع إسراء أبنة اخيها بالشاي وفطيرة التفاح والبسكوت للأطفال، وقالت لها:
- "السيدة أنيسة ستأتي بعد قليل، تُحب ان تُشاركك الشاي".
- "حسناً سأنتظرها".
تأملت ذكية الأطفال وهي تسألها:
- "هل الأطفال مُهذبون؟".
نظرت سالي إلى الأطفال الذين يتشاجرون وابتسمت:
- "كما ترين، لم يكفوا عن الجدال منذ الصباح".
حملت الست ذكية ماريا الصغيرة ووضعتها على كرسيها، وأمامها طعامها المخفوق وملعقتها الوردية التي أمسكتها بعبث:
- "هؤلاء الأطفال الأربعة كالعاصفة، لم يدم على المنزل يومًا واحدًا هادئًا منذ أن دخلوه".
سكتت سالي لثواني ثم تحدثت:
- "ست ذكية، أحب أن أعرف أكثر عن هؤلاء الأولاد وظروف مجيئهم إلى هذا البيت".
استغربت المرأة سؤالها وقالت:
- "لا أعلم ماذا أقول لك، ولكن هذا موضوع حساس جداً، السيدة انيسة ربما تكون أفضل من يحكها لك، لا أعلم إن كان مسموحًا لي الكلام في هذه الأمور".
لاحظت سالي أن ذكية على الرغم من ظرافتها وطيبتها، إلا أنها حذرة في كلامها، فقالت:
- "سأسألها بنفسي، شكراً لك على الشاي والفطير".
- "على الرحب يا دكتورة".
غادرت ذكية الحديقة، وجاء الأطفال ركضاً ليتناولوا الفطير والبسكوت ويشربون بعض الشاي الساخن، حاولت سالي أن تكبح جماحهم حتى لا يسكبوا الشاي باندفاعهم، وقطعت لهم الفطيرة الساخنة التي خرجت للتو من الفرن، قالت سارة وهي تضع قطعة من الفطيرة في فمها وتغمض عينيها بسعادة:
- "يممم، أعشق فطيرة التفاح!".
وضعت لارا يديها على خديها بسعادة مُتلذذة:
- "إنها تذوب في فمي، لارا سعيدة!".
ضحكت سالي وأعطت فؤاد ويحيى نصيبهم، وقررت أن تشاركهم الفطيرة بعد أن سال لعابها مثلهم، كانت تلك أول مرة تتذوق فطيرة التفاح الإنجليزية، الطعم كان مُذهلاً، لم تتذوق في حياتها شيئًا بهذه الروعة، أغمضت عينيها وهي تقضم قطعة كما فعلت سارة، وقالت وكأنها في النعيم:
- "الست ذكية حقًا ماهرة!".
قال فؤاد مؤكداً على كلامها:
- "نعم!".
حتى ماريا التي أعطتها سالي قطعة صغيرة جداً أشرق وجهها ورغبت بلهفة في المزيد. انتهى الأطفال من الهدنة القصيرة اللذيذة، وركضوا مرةً أخرى بعد إعادة شحن طاقتهم، فتأملتهم سالي مُتعجبة، لقد وصفوا الفطيرة ببراءة، والمفاجأة كانت كما وصوفها، لذيذة وتذوب في الفم، إن رؤية العالم من منظور الطفل تجربة جديدة ومُغامرة تستحق أن تُعاش، تجربة لم تخضها سالي في المستشفى من قبل وبهذا القرب، رأت طاقة الحياة تتفجر منهم وهم مجرد أطفال، براعم صغيرة، العالم في نظرهم ليس إلا حكاية خيالية جميلة ملونة بالألوان الزاهية، كم هم رائعين حقاً!
بعد ربع ساعة وصلت السيدة أنيسة والسيدة منى معها متشابكتان الأذرع وقالت بصوتها الودود:
- "كيف حال الأطفال يا دكتورة؟".
ابتسمت سالي بإشراق:
- "يتجادلون ثم يتصالحون، ولكن دون إصابات".
تنهدت منى وهي تحمل ماريا التي اعترضت على حملها وقطع لعبها بالطعام:
- "حمداً لله لم يثيروا الشغب، السيطرة عليهم باتت صعبة، كان قراراً غير صائب عندما أجلنا دخولهم الحضانة".
ابتسمت أنيسة وهي تقول:
- "العام القادم سيكمل أغلبهم الخامسة وسيدخلون المدرسة مع اخوتهم، وأعتقد أن المعلم الخاص بهم أسسهم بطريقة كافية لذلك لم يكن هناك حاجة إلى الحضانة".
أخذت منى تطعم ماريا المُتذمرة من طعامها الممل، فسألتهم سالي وهي تنظر إلى الطفلة:
- "من أعطاها اسم ماريا؟".
ردت السيدة أنيسة وهي تضيق عينيها بابتسامة:
- "خالد هو من أعطاها الاسم، استغربه الجميع في البداية، ولكننا أحببناه".
قالت سالي مُتأملة جمال الطفلة:
- "الاسم يليق بها".
ثم قالت وكأنها تذكرت شيئًا:
- "بالمناسبة سيدة أنيسة، لاحظت أن عليّ لديه بعض المشاكل في مناعته".
تنهدت السيدة منى، وتدخلت بطريقة ضايقت سالي:
- "هذا الفتى دائماً يعاني من مشاكل صحية".
قطعت السيدة أنيسة صمتها وتحدثت:
- "ظروف علي خاصة جداً يا دكتورة، هذا الولد وُلد في الشارع".
لم يكن هناك تعليق على هذه المُفاجأة التي فجرتها السيدة العجوز التي أكملت بهدوء:
- "أمه مريضة نفسياً، أنجبته في الشارع بين أكوام القمامة وجموع من حيوانات الشارع الضالة، ولم يحصل هذا الفتى على حليب كافٍ من والدته، حتى التطعيم لم يحصل عليه في سنواته الأولى".
سألتها سالي والشفقة تولد في قلبها على الفتى المسكين:
- "أين والدته؟".
- "في مستشفى الأمراض العقلية، ووالده تستطيعين أن تخمني هويته بنفسك بالنظر إلى الظروف".
خرصت سالي ولم ترد على كلام المرأة المفهوم، فتنهدت المرأة قائلة:
- "عليك أن تعلمي يا سالي أنه ليس كل اليتامى توفيّ ذويهم، ظروف هؤلاء الأطفال ليست واحدة، فمثلاً ماريا والداها تخلوا عنها بكامل إرادتها، وبكل بساطة لم يتقبلوا وجودها وسلموها لدار أيتام، لو سالتيهم ما السبب، سيبررون لك ذاكرين سبباً يقنعهم هم فقط، هل يقنع هذا السبب المسؤولية أو الإنسانية داخل أي إنسان طبيعي؟، قطعاً لا".
نظرت سالي إلى الطفلة الجميلة التي تبتسم بفرح للسيدة منى وهي تلاعبها، وتظهر أسنانها الأمامية الصغيرة كالأرنب، تساءلت سالي في سرها:
- 'من الأحمق قاسي القلب الذي يتخلى عن هذا الملاك الصغير؟'.
فهمت السيدة أنيسة ما يدور في عقل سالي وعلقت:
- "لا تستغربي يا دكتورة، فكثيرون هم من يمتلكون من جفاء القلب يا ما يجعلهم يتخلون عن فلذات أكبادهم غير عابئين بمصير هؤلاء الأطفال، ولكن تخيلي لو أن تلك الطفلة المسكينة عاشت مع والدين لا يريدانها، كيف سيكون حالها؟، الآلاف السيناريوهات كلها ستؤول إلى مصير واحد، الضياع".
تألم قلب سالي عند هذه الكلمات، وأنفتح جرحها القديم والذي بلا شك لن يُقارن بجرح تلك الطفلة إن أدركت ذلك فيما بعد، لذا شكرت ربها من بين الآلامها أن والدتها أرادتها هي وأختها ولم تتخل عنهم، ولكنها لم تفهم أبداً ما الذي يجعل الآباء يتخلون عن أطفالهم، كيف تأتيهم مثل هذه المقدرة الخارقة لتحمل ذلك، لم تكن سالي تُفكر في الزواج كخطوة أساسية في المستقبل القريب، ولم تحلم يومًا بإنجاب الأطفال، ولكنها لم تتخيل أنها ستتخلى عن طفل كانت سببًا في مجيئه إلى الحياة، على الأقل يجب أن تتحمل المسؤولية بصفتها شخصاً لطالما تحمل المسؤولية حتى لو لم يكن لها الاختيار.
- "هل تعلمين يا دكتورة اليتيم يظل يتيمًا مهما حدث؟ ومهما توفرت له السبل التي تعوض ظروفه، ما إن يعلم اليتيم بيتمه سينفتح داخله جرح لن يداويه حتى الزمن، إن احتياج الأب والأم غير كل الاحتياجات، وليس هينًا أبداً على الطفل الذي يتوق إلى والديه بالفطرة".
كان كلام السيدة أنيسة في الصميم، أخترق قلبها ولم يزدها إلا حزنًا، شعرت بأن هذا الكلام موجه لها بشكل خاص، ودون أن تقصد تلك المرأة. لطالما احتاجت والدها، وألمها كان يتفاقم عند إدراكها أنه لن يلبي هذا الاحتياج، على الرغم من أن والدها على قيد الحياة، فهي لم تره منذ رحيله عنهم إلا مرة واحدة عندما طلبت منه الأموال لتسديد مصاريف دراستها، في مُحاولة منها لتخفيف العبء عن والدتها، ولكنه بكل برودة أرجعها خائبة مكسورة، تمنت لو أنها لم تتواصل معه من الأساس. الأمر ليس وكأنها كان لديها مشاعر تجاه والدها يوماً ما، فهي لم تعش معه إلا القليل من السنوات، ولكن غريزة الطفل وحاجته للأب كانت تلح عليها في أيامها الصعبة والمحن التي مرت بها على مدار حياتها، وتأكدت من هذا عندما قابلته لأول مرة بعد سنين، عند سؤالها عن مصاريف دراستها، تأكدت أن مشاعرها لم ولن تكن حباً، ولكنها إحساس غريزي واحتياج يلح عليها في الأوقات الصعبة فقط، لذا لم تعد تفكر فيه، ولم تشعر بعد هذا اليوم بأن لديها أبًا على قيد الحياة، على الرغم من أنه حاول في وقت لاحق التواصل معها، ولكنها لم تبال وتهربت من هذا التواصل، ولم تعد تفكر أبداً في وجوده بأي حال من الأحوال. تأملت الأولاد وهم يلعبون ويتشاجرون تحت شجرة، وتساءلت كيف يشعر هؤلاء الأطفال تجاه اليتم، هل يعلمون شيئًا أم يعتقدون أن هذا هو الوضع الطبيعي لأي طفل مثلهم، وحسن وفرح وليلى ونور ورحيم...إلخ، هؤلاء الأطفال ما الذي يدور داخل عقولهم، تأملت الملفات بين يديها ثم تأملت الأطفال، وتساءلت لماذا قادها القدر إلى هذا المنزل؟ لا إجابة على مثل هذا السؤال، لم تكن تنوي في الأساس أن تكون روابط جديدة في حياتها، ولكنها ستقوم بواجبها في هذا المكان ثم ترحل، لا مزيد من القيود، ستعيش بحرية كما تمنت دائمًا.
***
في مبنى أنيق يتكون من ثلاثة طوابق، في غرفة مكتب واسعة جداً تليق بمهندس ناجح، جلس خالد مُنكب على بعض الأوراق، طرق محمود الباب، ودخل دون أن يُسمح له بالدخول في بيده لوح تابلت، ليجد خالد في الصورة المُعتادة مُنكباً على عمله، ودون أن يرفع رأسه أدرك هوية المُتطفل:
- "لم أسمح لك بالدخول".
جلس محمود براحة على أريكة بعيدة عن المكتب قائلاً:
- "أنت لم تسمح لي يوماً بالدخول".
خلع خالد نظارته وقال وهو يرفع رأسه:
- "وأنت لم تدخل يوماً مُستأذناً".
رفع محمود حاجبيه ببراءة مزيفة:
- "لقد طرقت الباب".
قال خالد متنهدا:
- "هات ما عندك".
- "إنها مفاجأة، لقد حصل التصميم الخاص بنا على المركز الأول كأفضل تصميم للمتحف، وقريباً سيتم تمهيد الموقع وتجهيزه للبناء".
عقد المُهندس العبقري ساقيه الطويلتين على مهل مُتفاخراً:
- "لا أريد احباطك، ولكنني علمت هذا قبلك، أبلغني السيد صلاح".
سأله محمود بإحباط:
- "يا رجل تعلم هذا ولم ترقص فرحاً، هذا سيكون أهم مشروع حصلت عليه شركتنا".
ابتسم خالد بمرح:
- "من السابق لأوانه أن نرقص فرحاً، نحن مازلنا في البداية، لم نخط إلا خطوة واحدة من الآلاف الخطوات، وأنا لن أشعر بمعنى الفوز الحقيقي إلا عندما أرى المشروع قائماً على أرض الواقع، لذا علينا الآن التركيز في المكتبة".
- "آه نعم، أعتقد أن تلك المكتبة ستكون من مشاريعنا المميزة".
قال خالد بثقته المعهودة:
- "أنا متأكد من ذلك".
تذكر محمود هدف مجيئه من الأساس:
- "حسنا لدي أمر آخر أريد أن اخبرك به".
رفع الرجل حاجبيه مُتسائلاً، فقال محمود:
- "هذا بخصوص شحنة الألعاب التي سيتم توزيعها على دور الأيتام".
جعد خالد حاجبيه الكثيفين هذه المرة وسأله:
- "ماذا بها؟".
- "عليك أن تراها".
- "ألم تتفقدها؟".
قال محمود وهو يعدل جلسته المرتاحة لأخرى مُنتبهة وهو يشبك أصابعه ويسند على ساقيه:
- "تفقدتها، هناك العديد من العيوب في بعض الألعاب".
نظر له خالد باستغراب:
- "عيوب؟".
- "نعم، لذا أظن أنه عليك أن تتفقدها بنفسك".
فرد خالد جسده على كرسي مكتبه بكل قوته قائلاً بكسل:
- "ألا تستطيع أن تتصرف بنفسك؟".
تنهد محمود:
- "لماذا أنت قاسٍ معي دائمًا؟، ألست أنت من قال ألا تخرج شحنة قبل أن تتفحصها بنفسك؟".
نهض خالد وارتدى بذلته قائلاً لسكرتيره:
- "حسناً هيا، كف عن الكسل وتعال معي لنتفقد الأمر".
***
في المستودع كان العمال مشغولين في نقل البضائع إلى الشاحنات، وفي المنتصف يقف خالد ومحمود يتفحصان أعداد الشحنات وأصنافها في التابلت، أشار محمود إلى الشاحنة التي تفقدها، فاتجه خالد إلى الشاحنة المُمتلئة وفتح لعبه من الألعاب ليجد فيها عيوب تصنيعية، فتح واحدة أخرى، ثم أخرى، ثم العديد من الألعاب ليجد في جميعهم عيوب تصنيع، فطلب من محمود أن يستدعي المسؤول في هذا المصنع والذي كان رجلاً في الستين من عمره، فسأله خالد بهدوء:
- "هذه الألعاب جميعها فيها عيوب، أتمنى ألا يكون هذا الخطأ غير مقصود".
- "مستر خالد هذه الألعاب هي هبات وتبرعات، ما هي المشكلة لو كان فيها بعض العيوب التي لن يلتفت إليها أحد لم يدفع ثمنها من الأساس".
وضع خالد يديه في جيبيه ببرود، ووقف أمام الرجل كالسد ينظر إليه مُشدداً تعابيره، فتراجع الرجل العجوز خشيةً منه، سأله خالد بصوت خافت:
- "ما اسمك؟".
تجنب الرجل نظراته وقال:
- "حامد".
- "حسنًا سيد حامد جميع هذه الألعاب ستخرج من الشاحنات، وستستبدل بالشحنة التي سيتم توزيعها على المتاجر".
نظر إليه الرجل وقال مُعترضًا:
- "ولكن يا مستر التوزيع سيكون بعد غد".
تحدث خالد ببرود:
- "هذا ليس شأني، أنت المسؤول أمامي، تصرف وبأدنى الخسائر".
قال الرجل وهو يشير إلى الألعاب:
- "ولكن ماذا سنفعل بهذه الألعاب إنها كمية كبيرة جداً".
التفت خالد متوجها إلى وسط المستودع:
- "لا شأن لي بهذا، تصرف بها، أعد تصنيعها مثلاً".
كان خالد يكافح لكبح مشاعر الغضب التي غمرته من الداخل، وتمكن من السيطرة عليها وكبحها كما تعود دائماً ليظهر بشكل طبيعي وحل محلها برود قاتل، توسل إليه الرجل:
- "مستر أرجوك مررها هذه المرة".
تجاهله خالد وحول سهامه إلى العمال قائلاً بصوت عالٍ:
- "جميعكم أخرجوا هذه الألعاب واستبدلوها بالشحنة التي سيتم توزيعها للمتاجر".
غادر خالد، وقبل أن يلحقه محمود أمسكه الرجل العجوز من كمه متوسلاً له بعينيه أن يتصرف، فهز محمود رأسه آسفًا ولحق برئيسه، وبعد خروجهم من المستودع قال محمود:
- "خالد تغاضى هذه المرة، هذا سيكبدنا الكثير الخسائر في المال والوقت ومع أصحاب المتاجر".
وقف خالد والتفت له وهو يسبقه بخطوات:
- "أنا لن أعطي هؤلاء الأطفال بقايا تصنيع".
- "أنا معك، ولكن لا بأس لو تأخرنا على دور الأيتام عدة أيام، الشحنة الأخرى من المفترض أن تصل ب...".
التفت خالد مرةً أخرى وتحدث وهو يمشي:
- "لا تهمني هذه الشحنة، الأخرى أكثر أهمية بالنسبة لي، يجب أن تصل دون أي عيوب، هل كلامي مفهوم؟".
اتبعه محمود باحترام:
- "مفهوم، سأشرف عليها بنفسي..".
***
وقفت سالي أمام المرآة في الحمام وهي تجفف شعرها بعد يوم لعب طويل مع الأطفال، ارتدت الروب الخاص بها وخرجت لتجد فرح تجلس على سريرها تنتظرها، لم تتفاجأ سالي فقد كانت تعلم أن الفتاة ستحاول التحدث معها، كانت بزي المدرسة ولم تبدله بعد، فنظرت سالي إلى الساعة لتجدها قد جاوزت موعد خروج من الأطفال من المدرسة، كانت الفتاة تنظر إليها بهدوء، على عكس موقفها بالأمس وصباحاً كانت نظراتها قلقة متوسلة، جلست سالي على مقعد المكتب الخاص بها وتنهدت قائلة:
- "فرح أنا لم أخبر أحد".
قالت الفتاة بريبة:
- "وما الذي يضمن لي أنك لن تخبري أحد في المُستقبل؟".
سألتها سالي وهي تلوي شفتيها:
- "وهل لديك النية لتكرري هذا في المستقبل؟".
ترددت الفتاة قائلة:
- "لا بالطبع".
نهضت سالي وهي تبحث في دولابها على ما ترتديه استعداً للغداء قائلة:
- "حسناً ما الذي يقلقك؟ كما أنني وعدتك بعدم اخبار أحد".
تمتمت الفتاة بخمول وهي تتأمل الأرض:
- "أنا فقط أتأكد أنك لن تثيري المشاكل بيني وبين ماما أو أبيه خالد".
التفتت سالي قائلة باستغراب:
- "أثير المشاكل؟ هل تعلمين أن عدم إخباري لهم بتصرفك المتهور هو ما سيثير المشاكل؟ ليس لك فقط بل لي، أنا لم يمض على بقائي هنا ثلاثة أيام".
تحدثت فرح والهدوء الحزين يستوليان على مشاعرها:
- "أنا لا أريدهم أن يغضبوا مني".
ردت سالي وهي تتأملها:
- "إذاً لا تكرري هذا الفعل".
قالت الفتاة بصراحة صدمت سالي:
- "لا أستطيع".
- "لماذا؟".
أشاحت الطفلة وجهها قائلة:
- "لأن هذا يشعرني بالراحة".
عقدت صراحة الطفلة لسان سالي ولم تستطع الرد عليها، فنظرت الفتاة لها بتوسل:
- "أنا حقاً أريد أن أتخلص منه، حاولت ولكنني فشلت في ذلك، سأحاول مرة أخرى، ولكن لا تخبري أحد أرجوك".
كانت الفتاة تتوسل إلى سالي التي تقف أمامها عاجزة عن الرد، لم تستطع تحديد إن كانت الفتاة صادقة أم لا، فتنفست بعمق وجميع الأفكار تجوب في زوايا عقلها وهي تبحث عن رد مُناسب، ثم تنهدت قائلة:
- "حسناً لن أخبرهم، ولكن بشرط".
قالت فرح مندفعة:
- "ما هو؟".
ردت سالي وهي لا تعلم إن كان تصرفها صحيح أم لا:
- "إن حدث وكررتِ هذا التصرف مرةً أخرى، تعالي فورًا وأخبريني، لا تتجاهلي كلامي يا فرح، هذا لمصلحتك".
فكرت سالي، إن لم تستطع أن تسيطر على الكارثة في البداية، فالسيطرة على نتائجها خطوة مهمة جداً. سكتت فرح لوهلة وهي تفكر، ثم قالت موافقة على اقتراح سالي:
- "حسناً أنا موافقة، سأخبرك".
نبهتها سالي:
- "ولكن أعلمي أن هذا الأمر لا يجب أن يستمر لوقت أطول، أخبريني هل هناك أحد آخر يعلم بهذا الأمر؟".
قالت الفتاة بخجل:
- "اصدقائي فقط".
همست سالي:
- "بالتأكيد اصدقائك".
ثم سألتها بريبة:
- "ومنذ متى تفعلين ذلك؟".
ردت فرح بصوت خافت:
- "منذ شهرين".
أغمضت سالي عينيها بيأس وتنهدت ولم ترد عليها. بما أنها الوحيدة التي تعلم بسر فرح، قررت أن تعذر حداثة سن الفتاة المُراهقة، ستتعامل معها بالعقل حتى تستطيع التوصل إلى قرار حكيم يعالج هذا الموقف الغريب الذي تتورط فيه لأول مرة في حياتها، ستحاصرها أولاً ثم تفكر في الخطوة التالية، عليها أن تعالج هذا الموقف أو على الأقل أن تحاول، وإن لم تستطع ستخبر السيدة انيسة لتتولى امر التصرف السليم. غيرت الموضوع وارتدت ملابسها وهي تتحدث مع فرح في مُحاولة لرفع الحرج بينهما وتعميق القليل من الصداقة والثقة، ومع ذلك كانت تلاحظ من الفتاة بعض الحذر، لكنها على الأقل طمأنت مشاعرها تجاهها. ونزلت الاثنتان رفقة بعضهما البعض إلى المطبخ لتناول الغداء.
***
بعد الانتهاء من تناول الغداء ذهبت سالي مع رحيم إلى غرفة الموسيقى بناءً على وعدها مع الفتى، تجولت في الغرفة وفحصت الآلات الموجودة، ثم في النهاية اتجهت إلى العود الموضوع على الحامل الخاص به، تفحصته سالي لتجده مصنوعًا بجودة عالية، وميزت خشب الأبانوس المُستخدم في تصنيعه من أفضل أنواع الخشب المُستخدم في صناعة الآلات الموسيقية، في الحقيقة لم يقع بين يديها أبداً عود بمثل هذه الجودة، تعاملت معه برقة وجلست على كرسي، بينما اتخذت الوضعية المُناسبة وبدأت أصابعها تلامس الأوتار الحساسة بخفة وتدندن قليلاً فسألها رحيم:
- "لماذا اخترتِ العود؟".
رفعت سالي رأسها وتجولت ببصرها إلى السقف مُفكرة:
- "ممم، لا أعلم.. ممارستي للعود خطوة اخذتها عندما كبرت في السن، وجدتني احببت الطرب فجأة وادمنته فمارست العود".
تأملته قليلاً ثم سألته:
- "وأنت يا رحيم لماذا اخترت الكمان؟".
نظر الفتى بحزن مخلوط بالشوق إلى الكمان المُستهلك الخاص به قائلاً:
- "لم أختره بنفسي، ماما من اختارته لي".
- "أعتقد أنها لها مزاج خاص في الموسيقى، لاحظت ذلك بنفسي".
قال الفتى بصوت خافت:
- "نعم".
ثم نظر إليها وعلى وجهه ابتسامة فيها من ألوان القهر:
- "ولكن ليست ماما أنيسة".
ظهر عدم الفهم على محيا سالي، فتحدث الفتى:
- "أمي التي أنجبتني رحمها الله، هي من اختارت لي هذه الآلة".
توترت سالي ولم تعلم كيف ترد عليه سوى بتأوه وحيد:
- "آه..".
كانت الأجواء في الغرفة مُكهربة بسبب الفتى، فغيرت سالي الموضوع بسرعة دون أن تستفسر أكثر وتزيد من التوتر، فقالت برقة:
- "ما رأيك أن تبدأ أنت، ماذا ستعزف لي الآن؟".
ابتسم الفتى الطيب وقد فهم مُحاولة سالي وقال مُجارياً:
- "ما رأيك في river flows in you ؟".
فكرت سالي وهي تحاول أن تتذكر إن كانت تعرف تلك المعزوفة، ولكنها لم تستطع فسألته أن يعزفها، أغمض رحيم عينيه وبدأ يحرك يديه بالعزف، وكان الفتى موهوبًا بشكل لا يصدق، عرفت سالي تلك المقطوعة التي سمعتها من قبل، وعلى الرغم من أن التوزيع يبدو متوسطًا لكن الفتى كان جيداً جداً، يعزف بمهارة وبأسلوب سلس، كما أن اختياره للمعزوفة أعجبها وراق لها ذوقه، أغمضت عينيها وتنقلت بين صوت الكمان المُتحايل، وسحبتها الموسيقى إلى عالم آخر.
إن كنت تستمع إلى صوت جميل عليك أن تغمض عيناك، تنفصل عن صورة الواقع المُشتتة لحواسك، وترهف حاسة واحدة فقط وهي حاسة السمع، لتشعر بكل جوارحك بهذه النغمات والمقامات، هذا العزف الناعم السلس سينقلك بين أمواج من المشاعر تحددها نوع المعزوفة، فهناك معزوفة تأخذك إلى أحزانك، وأخرى تجوب بك بين أفراحك وأخرى تنوع بينهما، وغيرها وغيرها، ولكن هذه المعزوفة أخذتها إلى عالم أحلامها وأمنياتها الجميل، إلى عالم طفولتها الخيالي، أخذتها وسحبتها إلى القاع وفور انتهائها قذفتها بقسوة إلى الواقع، فتحت عينيها لتجد هذا الفتى الطيب يبتسم، فتح عيونه ثم نظر إلى سالي مُتفاجئاً، فابتسم الاثنان لبعضهما البعض، ليخوضا تجربة جميلة أخرى، ولكن هذه المرة مع صوت العود الشجي العميق.
كانت الساعة السابعة مساءًا، أوصل محمود خالد إلى المنزل وغادر هو، فتحت له ذكية الباب ورحبت به، وأعلمته أن غداءه سيجهز على الفور، كان متوجهًا إلى الطابق الثالث، لكن أوقفه صوت يصدر من غرفة الموسيقى، لم يكن صوت كمان رحيم الذي يعرفه، فتوجه إلى الغرفة وكان سيدخلها، ولكنه رجع على الفور عندما رأى تلك الطبيبة تستند على العود وشعرها الأسود الطويل ينسدل على كتفها وتعزف على العود بكل انسيابية، ورحيم يبتسم بسعادة وهو يستمع إليها. شعر أنه لو دخل عليهم فسيكون مُتطفلاً غير مرغوب فيه، فأستند على الحائط مُتابعا ومُستمعاً بإنصات إلى هذا العزف الجميل الذي أرفقته الطبيبة بكلمات كالآتي:
[الدنيا ليل والنجوم طالعه تنورها
نجوم غير النجوم من حسن منظرها
ياللي بدعتوا الفنون وفي ايدكوا اسرارها
دنيا الفنون دي خميله وانتوا ازهارها
والفن لحن القلوب يلعب بأوتارها
والفن دنيا جميلة وانتوا انوارها].
ردد رحيم معها كلمات الأغنية التي يسمعها لأول مرة والسعادة على محياه، كانت تلك أول مرة يتشارك الفتى موهبته مع شخص آخر في المنزل لديه شغف بالموسيقى مثله، في الواقع قلما أهتم خالد بهوية الموظفين الذين يتم إحضارهم إلى المنزل، فهذه وظيفة أمه مديرة ومدبرة هذا المنزل، كل ما يهمه فقط هو ما يصب في مصلحة وراحة الأطفال، وإن كانوا سعداء إذاً هو سعيد، ورحيم يبدو أنه مُستمتع وسعيد وهذا يُريحه، لذلك عدل وقفته ثم ذهب ليتركهم وشأنهم.
نهاية الفصل الثالث
***
شكراً جداً لصبركم عليا، واسفة على أي أخطاء غير مقصودة بالتأكيد.
كاتبتكم ءَالَآء
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
TikTok: hakayaalaa للقص القصيرة
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالة، متأكدة انها هتعجبكم
رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق