رواية المنزل
الفصل الثالث
فضلاً، متنسوش الvote.
المزيكا انهاردة أغنية الفنون لمحمد عبدالوهاب.
***
في محيط غرفة العيادة عمّ صمت عميق. انحنى رأس سالي بتركيز وهي تمسك معصم فرح بقوة، بينما كانت الفتاة تتألم بصمت تحت وطأة التطهير والتضميد الدقيق لجروحها. لم تكن هناك جروح عميقة، كلها سطحية، لكنها تظل في النهاية جروحًا بفعل آلة حادة. كان قلب سالي يرتعد بعنف، بالكاد تتحكم في أعصاب يديها منذ اللحظة التي رأتها فيها، تلك الفتاة ذات السادسة عشرة تؤذي نفسها بمشرط جراحي! لماذا تفعل ذلك؟ هل كانت مُقبلة على الانتحار؟ هل تعاني من اكتئاب؟ تمرّ بأزمة نفسية؟ أسئلة ملحّة كانت تدور في رأسها بشكل لا يتوقف، حتى شعرت أن عقلها سيفقد توازنه، لكنها لم تجد إجابة واحدة تُرضيها أو تُهدّئ من روعها.
الشيء الوحيد الذي بدا واضحًا الآن هو سرّ باب العيادة المفتوح. لقد تسللت فرح وسرقت مشرطًا، وهذا وحده كفيل بأن يجمّد الدم في عروق سالي. انتفض قلبها وهي تتخيل ماذا كان سيحدث لو ضغطت الفتاة على معصمها بقوة أكبر. لكُنّ الآن في مأساة حقيقية.
لم تنطق سالي بكلمة طوال قيامها بالإجراء الإسعافي، ولم ترفع رأسها عن يد الفتاة، لكنها كانت تشعر بنظرات فرح المُركّزة عليها، تلك النظرات المتوترة الممزوجة بالألم، وبترقبٍ ثقيل ينتظر الانفجار القادم. أرادت الفتاة أن تكسر الصمت، فتمتمت بصوت خافت:
"دكتورة..."
لم ترد سالي، فاكتفت فرح بالصمت هي الأخرى، حتى أنهت الطبيبة عملها وأطلقت معصمها. جلست الاثنتان في مواجهة بعضهما البعض، سالي تنظر إليها بثبات ظاهر تخفي خلفه ارتعاشة يديها، وفرح طأطأت وجهها نحو الأرض، تتجنب النظرات وتتحاشى المواجهة. ظل الصمت مُخيّمًا على الغرفة حتى قطعه صوت سالي الهادئ الحازم:
"تحدثي."
لم تجب فرح، واكتفت بتشبيك أصابعها. لم تُكرر سالي طلبها، لكنها انتظرت، وبعد لحظة تكلّمت الفتاة بصوتٍ مرتجف:
"لا تفهميني بصورة خاطئة... أنا... لم أكن أحاول الانتحار."
لم ترد سالي، فأكملت فرح بتوتر واضح:
"صدقيني... أرجوكِ يا دكتورة، لا تخبري ماما."
نظرت إليها سالي بريبة وسألت بنبرة ثابتة:
"إذا لم يكن هذا انتحارًا، فماذا يكون؟"
لم تُجِب فرح على السؤال. كانت سالي على وشك الانفجار، لكنها تماسكت، تنهدت ببطء، ثم قالت بصوتٍ خافت يحمل الغضب المكبوت:
"حسنًا يا فرح... بما أنه ليست لديكِ إجابة على سؤالي، ففي هذه الحالة سأضطر لإخبار السيدة أنيسة، ولتكتشف هي السبب بنفسها."
امتقع وجه فرح وانتفضت:
"لا! سأخبرك بالسبب، ولكن لا تخبري ماما... أرجوك!"
لم ترد سالي، واكتفت بالصمت منتظرة أن تسمع ما ستقوله.
تحدثت فرح، وعيناها تتنقلان بين وجه سالي والأرض:
"أصدقائي في المدرسة... تعلمت ذلك منهم."
ذهلت سالي من الإجابة، سألتها بدهشة:
"أصدقاؤك؟ ولماذا يفعلون ذلك؟"
شبكت فرح أصابعها بتوتر، ثم قالت بصوت خافت:
"هم يقولون إن هذا الفعل يُريحهم نفسيًا."
انتقل التوتر إلى سالي، التي نظرت إلى المشرط الجراحي بجانبها باستغراب، فاختلط داخلها الغضب بالذهول، وتحدثت بانفعال مكبوت:
"تشعرون بالراحة عند قطع معصمكم؟!"
ردّت فرح ببساطة مشوّشة:
"لا... فقط بعض الجروح السطحية... والقليل من الألم."
لم تعد سالي قادرة على كتمان ثورتها، ومع أنها حاولت أن تضبط صوتها كي لا يسمعها أحد، إلا أن انفعالها بدأ يفيض منها وهي تقول:
"ما هذا العبث الذي تتحدثين عنه؟ ألم... وراحة؟! راحة من ماذا؟! هل تعلمين ما الذي استخدمته للتو؟ مشرط جراحي! آلة جراحية حادة! نحن الأطباء لا نستخدمه إلا بحذر بالغ، فكيف بفتاة في مثل سنك تمسكه بهذه البساطة وتضعه على جسدها؟! لو لم تكوني حذرة، لوقعتِ في مصيبة حقيقية! ثم ما هذه المدرسة التي لا تعلم أن طلابها يتداولون أدوات حادة ويؤذون أنفسهم؟!"
كانت سالي تتحدث بسرعة، والغضب بلغ ذروته في ملامحها ونبرتها، حتى فشلت في السيطرة على أعصابها وثارت في وجه الفتاة، التي أجهشت بالبكاء، وناشدتها محاولة تهدئتها:
"أرجوكِ... اهدئي يا دكتورة، قد يسمعك أحد."
هتفت سالي، والغضب ما زال متحكمًا بها:
"أهدأ؟! كيف أهدأ وأنا لا أعلم ما هو التصرف المناسب في مثل هذا الموقف؟!"
قالت فرح بصوت مرتعش، ودموعها تنهمر:
"أرجوكِ، لا تخبري أحدًا... وأعدك، لن أقدم على ذلك مرة أخرى!"
نظرت سالي إليها للحظات، ورمشت مفكرة، ثم تحدثت بصوت حاولت أن تجعله هادئًا، لكنها لم تُخفِ غضبها تمامًا:
"أخبرتِني الآن أنكم تفعلون هذا لتشعروا بالراحة... ترتاحين من ماذا يا فرح؟!"
تلاحقت أنفاس الفتاة بالبكاء، وامتلأت عيناها بالدموع، لكنها لم تُجب.
كانت سالي على يقين أنها لن تتلقى إجابة واضحة، فحاولت أن تستجمع رباطة جأشها. أخذت نفسًا عميقًا وأطلقته ببطء، ثم تحدثت بنبرة هادئة مصطنعة، تحاول أن تحتوي الفتاة:
"هل من المعقول يا فرح أن نقلد ما يقوم به زملاؤنا في المدرسة؟ أليس لدينا عقل؟ وإن كنتِ تشعرين بالحزن، أو الألم، أو الوحدة، أو أياً كان ما تمرين به، فهل الإقدام على مثل هذا الفعل حل سليم؟ تخيلي معي... لو تطور الأمر، واعتدتِ عليه، ولم يعد الألم السطحي يكفي ليمنحك شعور الراحة... إلى أين ستصلين حينها؟ إلى ما هو أخطر... وأبعد بكثير."
كانت سالي تعاتب فرح كما لو أنها تعاتب طفلة صغيرة، بينما الفتاة تبكي وتتنهد، وعيونها وأنفها تلطخا باللون الأحمر. في لحظة صامتة، أحسّت سالي بأنها أخطأت، لم يكن من الصواب أن ترفع صوتها بهذه الطريقة، ولا أن تعلن عن عجزها وعدم قدرتها على التصرف. كان الأجدر بها أن تكون أكثر حكمة، بدلًا من أن تترك الغضب والتوتر يسيطران على منطقها ويقودانها إلى ردود فعل متسرعة. هذا المزيج المتقد من المشاعر المتعارضة داخلها جعلها تشعر بالاختناق والصداع، فمواجهة مثل هذه المواقف التي تتطلب حكمة واتزانًا ليست بالأمر السهل، بل هي مخيفة فعلًا، خاصة حين تكون مع مراهقة، ومراهقة ليست كغيرها من المراهقات، لها ظروفها الخاصة.
لم يكن لديها المزيد لتقوله. ماذا يُقال بعد الذي قيل؟ كل ما كان عليها فعله الآن هو أن توجّه تفكيرها نحو محاولة إيجاد الطريقة الأمثل للتعامل مع هذا الموقف الغريب والمعقّد.
أصبح الصمت هو سيد اللحظة، لا يقطعه إلا شهقات فرح المتلاحقة، المبالغ فيها، والتي بدأت تُفقد سالي السيطرة على أعصابها من جديد، وتزيد من صداعها المزعج.
وفجأة، أحسّت بحركة خلفها، وبالتزامن معها اتجهت أنظار فرح نحو الباب. انتفض جسد الفتاة، وصرخت بذهول:
"أبيه!"
التفتت سالي تلقائيًا، وفي البداية رأت ظلالًا سوداء تقف عند الباب، ثم ما لبثت أن اتضحت الملامح. كان هناك رجلان طويلان يسدان مدخل الغرفة.
تقدمت فرح مسرعة، وارتمت في أحضان أحدهما، تعلّقت في رقبته وأكملت بكاءها بحرقة.
راقبت سالي المشهد بذهول، بالكاد استطاعت تمييز ملامح الرجل، لكنها أدركت سريعًا أنه هو ذاته الذي رأته في الصور المعلقة على الحائط: خالد. بدا في العقد الرابع من عمره، وقد تسلل الشيب بخفة في بعض مناطق شعره المسرّح بعناية. هذا ما لاحظته أولًا، أما الباقي فكان يشير إلى أنه رجل منظم وهادئ الهيئة.
لفت نظرها الرجل الآخر الواقف بجواره، كان أصغر سنًا، يرتدي نظارة، وملامحه لطيفة ومبتسمة، تبعث على الراحة. ولكنها لم تتعرف عليه، فلم ترَ وجهه في أي من الصور المعلقة في الطابق الثاني، لذلك لم تتمكن من تحديد صفته. وفي تلك اللحظة، وجّه الرجل نظره إليها، وابتسم ابتسامة دافئة بعيدة تمامًا عن الانفعال، ثم تقدم نحوها ومدّ يده بطريقة عملية:
"أهلًا بكِ، أنتِ بالتأكيد الدكتورة سالي، أليس كذلك؟"
تحرك جسدها المتسمر منذ لحظة دخولهما، وانتابها شعور بالحرج؛ كانت ترتدي بيجامة نوم خريفية غير مرتبة. لكنها حين تأملتها شعرت ببعض الراحة، فهي فضفاضة ومحتشمة بدرجة مقبولة.
شدّت طرفها بتوتر، ومدّت يدها لتصافحه، ثم ردّت عليه بصوت خافت، جاف، لم يخلُ من الحرج:
"نعم."
اكتفت سالي بذلك الرد، فقد كان صوت بكاء فرح المتواصل يلعب بأعصابها ويزيد من توترها، لكنها فوجئت بالرجل ذي النظارات يصرّ على الحديث، مشكورًا، وكأنه أراد أن يشتت تركيزها عن البكاء المزعج، فأعاد الترحيب بها قائلاً:
"أهلًا بك، أنا محمود... سكرتير خالد، وأحيانًا صديقه."
"أهلًا بك."
خرج الرد مختصرًا، كما لو أن سالي نطقت به على مضض، فقد كانت تودّ الهرب بأي شكل من هذا المكان المليء بالغرباء. حوّلت نظرها إلى المشهد الآخر، حيث رأت خالد ينزل ذراع فرح عن رقبته، وينظر بتركيز إلى الضمادة الملفوفة على معصمها، وقال بصوتٍ هادئ أجش، وقد عقد حاجبيه:
"ماذا حدث لك؟"
ثم نظر إلى وجهها الملطخ بالدموع، وتساءل:
"ولماذا تبكين؟"
لم تجب الفتاة، واكتفت بالنظر إلى سالي، وملامح الذنب والرجاء ترتسم على وجهها، وكأنها تتوسل إليها في نداء صامت ألا تفشي سرها أو تفضح مصيبتها.
ففهمت سالي الرسالة، وتحدثت بالنيابة عنها، محاولة أن تبدو هادئة رغم الضيق المكبوت داخلها:
"لا تقلقوا عليها، مجرد حرق بسيط في معصمها... أسبوع ويكون بخير."
تحدثت وهي تتفادى نظرات الجميع التي بدأت تتجه نحوها.
تأملها خالد باستغراب، ملامحه مرهقة، وعيناه تشي بأن النوم لم يعرف طريقه إليهما منذ أيام. حدّق فيها، محاولًا أن يحدد من تكون هذه المرأة الغريبة التي يراها لأول مرة، لكن ملامحه بقيت حائرة.
تدخّل محمود بسرعة، ليزيل الحيرة:
"خالد، هذه هي الدكتورة سالي... طبيبة المنزل الجديدة، السيدة أنيسة ألم تخبرك عنها قبل سفرك؟".
صمت خالد لثوانٍ، وكأنه يستجمع أفكاره.
أما سالي، فقد كانت تتأمله خلال هذا الصمت القصير، تلاحظ بدقة تفاصيل وجهه الطويل، وملامحه الحادة، لم يكن شديد الوسامة، لكن تنبعث منه هالة مختلفة، هالة تملأ المكان بثقلها وتكهرب الجو من حوله. أكثر ما لفت نظرها كانت عيناه؛ عينان غامضتان، كثيفتا الرموش، تظللّهما حاجبان عريضان يعزّزان ذلك الغموض، وتُضفيان عليه جاذبية خاصة.
ارتخت ملامحه قليلًا، ثم تقدّم بخطوة، واضعًا يده برفق على كتف فرح، وقال بنبرة فيها قدر من الهدوء:
"أهلًا بكِ يا دكتورة. هل كانت إقامتك في المنزل مُريحة؟"
سلّم عليها بتهذيب، وصوته الرخيم الهادئ اخترق مسمعها مثيرًا في أعماقها إحساسًا بالرهبة. كان الجو ثقيلًا بحضوره، أما نظراته الثاقبة فقد زادت من توترها، حتى اضطرت إلى أن تُشيح بنظرها عنه وهي تقول متجنبة عينيه:
"أهلًا مستر خالد... شكرًا لك، أنا مرتاحة بفضل السيدة أنيسة."
"جيد."
قالها سيد المنزل إلى الطبيبة الجديدة ومرؤوسته، بنبرة رسمية قصيرة، ثم وجه حديثه إلى فرح، وقد ظهر القلق في صوته وهو ينظر إلى الضمادة الملفوفة على معصمها:
"وما الذي حدث حتى يحترق معصمك في مثل هذا الوقت المتأخر؟"
نظر إلى ساعته، فوجدها تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل.
أجابت فرح، متجنبة نظرات سالي المحدّقة بها:
"شعرت بالجوع يا أبيه، ولم أستطع النوم، فنزلت إلى المطبخ، واحترق معصمي وأنا أغلي الباستا."
تدخل محمود وهو يتفحص هاتفه وقد بدت على وجهه علامات الاستغراب:
"تطبخين الباستا الساعة الواحدة والنصف ليلًا؟ أليس الوقت متأخرًا قليلًا على هذه الوجبة؟"
خجلت فرح من تعليقه، وطأطأت رأسها إلى الأرض بصمت.
كان الثلاثة يتبادلون الحديث، وفي تلك اللحظة شعرت سالي بأنها غريبة عنهم، وكأنها لا تنتمي لهذا المشهد. تداخل هذا الشعور مع سيل المشاعر التي أنهكتها في النصف ساعة الماضية: القلق، والخوف، والغضب، والانفعال. اللقاء المفاجئ، وتصرف فرح، أربكاها تمامًا، وأوقدا بداخلها رغبة جارفة في الهروب من هذا المكان.
قطع خالد أفكارها حين وجه كلامه إليها بلطف:
"دكتورة، أعتذر إن تم إزعاجك في مثل هذا الوقت."
"لا بأس... هذا عملي. استأذنكم، سأذهب إلى غرفتي."
"حسنًا، تصبحين على خير."
وقبل أن ترد عليه، لمحت بطرف عينها فرح وهي تتابع الحديث بقلق، ثم وجهت إليها نظرة متوسلة.
لكن سالي تجاهلتها، وقالت بصوت هادئ:
"تصبحون على خير جميعًا."
تركت سالي المكان مُنطلقة تجاه غرفتها، وخليط من المشاعر والأفكار يستولي على عقلها وقلبها، كانت تغلي من فعل فرح، وشعرت أنها قُوطعت في لحظة مهمة، ولم تكتفِ بهذا القدر من الحديث معها أو الاستفسار أكثر عن تصرفها الأخرق. أضف إلى ذلك اختراق هذين الرجلين للمنزل فجأة في مثل هذا الوقت، ما زاد ارتباكها. كانت تشعر بالخجل من ملابسها غير المرتبة، فأسرعت في خطواتها، تخبئ عينيها بخجل، واتجهت إلى غرفتها لتمضي ليلة أخرى من الأرق.
وبالفعل، لم ترَ النوم تلك الليلة. كان الحدث الرئيسي فيها كابوسًا، مقتبسًا من المشهد الأخير، لكنه جاء مُشوَّهًا ومبالغًا فيه كما تفعل الأحلام.
استيقظت وجسدها يغلفه العرق حتى التصقت ملابسها بجسدها، فجلست على سريرها في محاولة لتهدئة نفسها ونبضات قلبها المتسارعة، وهي تبعد الملابس المبللة عن جسدها بضيق. وعلى الرغم من أن ألم بطنها قد هدأ، إلا أن الصداع بدأ يستولي على رأسها بقوة، فوضعت أصابعها على صدغيها وأخذت تدلكهما ببطء وهي تتنفس بعمق، مدركةً، وبأسف، أنها لن تستطيع النوم مجددًا حتى تشرق الشمس.
فجأة، انتبهت إلى صوت الحفيف الصادر من نافذتها، ذلك الصوت الذي صار يتكرر ليلاً، وكأن ثمة سرًا خلفه. نهضت بعد لحظات من التحديق في النافذة، لتجد الغصن الذي كان يثير شكوكها يكاد يكون ساكنًا، لا أثر لحركة حقيقية، فقط تمايل طفيف لا يدعمه وجود نسمات ليلية، ولا حتى نسمة واحدة يمكن أن تحركه. وفي الحقيقة، لم تهتم كثيرًا هذه المرة، بل رفعت رأسها إلى السماء تتأملها، حيث كان النسيم البارد يلفح وجهها بلطف، فأغمضت عينيها وتنفست بعمق، محاولة تنظيف رئتيها بذلك الهواء النقي الذي بدا وكأنه يغسل شيئًا من قلقها.
شعرت ببعض الهدوء، وشيء من الراحة بدأ يتسرب إلى قلبها مع كل نفس تأخذه. لطالما كانت سماء الليل مأواها النفسي، منذ نعومة أظافرها، وكانت تتأملها طويلًا كلما ضاقت بها الحياة.
في هذه الليلة، كان القمر منيرًا والسماء صافية، تتلألأ بنجومها البعيدة التي لا تزال تبهر عينيها كلما نظرت إليها. تذكرت دهشتها الأولى، حين علمت وهي صغيرة أن أغلب تلك النقاط المتلألئة ما هي إلا مجرات وكواكب هائلة الحجم، فشعرت حينها بانجذاب غامض لعالم الفلك، وفتنها ذلك الكون المليء بالأسرار والمعجزات.
تنقلت بعينيها بين النجوم في صمت، باحثة عن راحة، حتى قطع تأملها صوت نافذة تُفتح في الطابق الأعلى، الطابق الذي يخص خالد، فانتبهت دون أن ترفع عينيها، وأغلقت نافذتها بهدوء دون أن تُحدث صوتًا، ثم اتجهت إلى المكتب بخطوات هادئة وجلست على مقعدها، وفتحت التابلت الخاص بها.
كانت مدونتها التي اعتادت أن تكتب فيها منذ مراهقتها، وتحديدًا منذ أربعة عشر عامًا، قد امتلأت بمئات الرسائل والخواطر، بعضها نشرته للناس، وبعضها احتفظت به لنفسها. كان هناك قسم خاص لم تنشر منه حرفًا، يحمل عنوانًا بسيطًا غامضًا: "رسائلي إليك."
رسائل موجّهة دومًا لشخص مجهول، لا يعرفه أحد... حتى هي لم تكن تعرفه. فتحت صفحة جديدة، وأخذت نفسًا بطيئًا، ثم بدأت تكتب رسالتها التالية:
]صباح الخير فجراً..
أكتب إليك رسالتي بعد مدة طويلة من الغياب، واعتذر إن شغلتني ظروفي ومشاغلي عن مراسلتك، ولكن لم يكن بيدي حيلة، فقد حدثت مؤخراً الكثير من الأمور، ولم أجد الوقت المُتاح لأفضفض إليك. أتعلم كم الساعة الآن وأنا أكتب هذه الرسالة إنها الثانية صباحاً، وأنا أفضل النوم باكراً، ولكن الأرق يحول بيني وبين هذه الرغبة مؤخراً، لذا أحببت ان أفضفض قليلاً وأحكي لك التطورات، تطورات سريعة جداً وجذرية غيرت من مجرى حياتي.
كما تعلم، قررت أن أحدث تغير في مسار حياتي المهنية، ولكن بطريقة ما حدث ما أعادني إلى هذا المسار مرةً أخرى. باختصار، أصبحت الآن اعمل كطبيبة مُقيمة في منزل للأيتام، بالتأكيد أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو دار للأيتام بالمعنى الشكلي المعروف، ولكنه منزل يعيش فيه أيتام كفلتهم سيدة عجوز، تخيلت الأمر في البداية أن الحياة في هذا المكان ستسري بطريقة روتينية شكلية، ولكن الأمر لم يكن كما تخيلت. أنا أعيش الآن في منزل كبير جداً، مليئ بالأطفال. بغض النظر عن مدى تفكيري في الأمر لكن المسؤولية كبيرة بالفعل، ويبدو أن هؤلاء الأطفال في جعبتهم الكثير، أما مديرة المنزل يبدو أنها سيدة راقية ولطيفة جداً، هي من تدير هذا المنزل الكبير وأم لكل هؤلاء الأطفال،
لم يمض سوى يومين فقط على إقامتي في هذا المنزل وبين هذه العائلة، ولا أعلم بعد كيف ستكون الأمور في المستقبل، ولكني أشعر الأمر مُختلف هذه المرة، لست متأكدة من شيء بعد، ولا أعلم إن كنت أستمر أكثر من شهر أم لا.
لا استطيع أن أخيب ظن هؤلاء المُتحمسين لي، ماما ورئيسي في المستشفى، ولكن ستكون تلك المرة الأخيرة التي سأرضي فيها أحداً فيها على حساب نفسي، ثم سأكمل الطريق الذي خططت له من قبل، سأعيش لنفسي بعد ذلك ولن أقوم إلا بما يمليه عليّ قلبي وعقلي، هذا ما كان يجب أن يحدث من قبل. لا أخفي سراً أنني مُتحمسة قليلاً لهذه التجربة الجديدة القصيرة والتي لن أفرط فيها.
أتدري؟، كم أتمنى لو أنني أستطيع أن أحظى برد حقيقي حكيم منك، يطمئنني قليلاً ويشاركني هذه الوحدة التي أشعر بها، ولكن يكفيني أنني أستطيع أن أكتب لك.. على الأقل.
شكراً لك لأنني أستطيع أن أكتب لك مثل هذه الرسائل.
سالي.[
تفقدت سالي رسائلها على أحد مواقع الأسئلة، حيث لا يظهر اسم المرسِل. كان هذا الموقع أشبه بصندوق بريد يصلها عليه رسائل مجهولة الهوية والاسم. مبادرة كانت قد أطلقتها على مدونتها ومواقع التواصل الخاصة بها تحت عنوان "راسلني دون الإفصاح عن هويتك".
وقد لاقت هذه الفكرة استحسانًا لدى عددٍ من متابعي مدونتها، وبدأت بالفعل الرسائل تصلها.
والحقيقة، أن سالي كانت بحاجة إلى هذه الرسائل أكثر من المرسلين أنفسهم.
كانت تشعر، وهي تقرأها، أنها ليست الوحيدة التي تمر بمثل هذه الأزمات النفسية والفكرية، وليست الوحيدة التي تعيش صراعًا داخليًا مع أفكارها. كثيرون مثلها يعيشون نفس التجربة: يشعرون بالوحدة، والضعف، والتشتت، والحزن العميق.
قرأت الكثير من الرسائل، وخاضت مع أصحابها الكثير من النقاشات النفسية. لم تكن حينها تلعب دور الحكيمة أو الناصحة، بل كانت تصغي، وتُجاري، وتحاول أن تتفهم. وهذا ما شجّع المزيد على مراسلتها، حتى أصبح عدد الرسائل التي تتلقاها يوميًا لا يقل عن خمس رسائل، في حدها الأدنى.
تلك الرسائل كانت تحتاج إلى وقتٍ، وإلى روحٍ صافية، لكي ترد عليها، وكانت تحرص على ذلك قدر استطاعتها.
تفحصت سالي الرسائل، كانت معظمها أسئلة عن أحوالها، وبعضها يحتاج إلى قراءة متأنية قبل أن ترد عليه براحة.
وظلت تقرأ... وتُجيب... حتى سرقها الوقت.
***
وقف خالد في الشرفة الواسعة في الطابق الثالث الذي يعيش فيه. كان هذا الطابق بمثابة شقته الخاصة، وقد انتقل إليه بسبب ضجيج الأولاد الذي كان يمنعه من التركيز في أشغاله. صُمم هذا الطابق بأسلوب يختلف تمامًا عن باقي المنزل، إذ كان خالد من أنصار الطراز الحديث، على عكس والدته التي تفضّل النمط الكلاسيكي. لذلك، صمّم لها ما أرادته في الطوابق السفلى، بينما خصص طابقه لأسلوبه الخاص، العصري، ولكن دون مبالغة. وعلى الرغم من عزلته، لم يمنع ذلك الأطفال من الصعود إليه وإزعاجه، بل إن بعضهم كان يطلب أحيانًا المبيت معه، مما دفعه إلى تجهيز الملحق ليكون ملاذه الأخير إذا اشتدت عليه الفوضى.
كان خالد يتأمل السماء بوجه متجهم وحاجبين معقودين، غارقًا في تفكير عميق، حين جاء محمود من خلفه، وفي يده طبق به القليل من الطعام الخفيف الذي حصل عليه من الثلاجة. قال وهو يمضغ:
"أنا لا أشعر بالراحة عندما تعقد حاجبيك هكذا، ما الذي يشغل تفكيرك؟"
التفت إليه خالد وخرج من الشرفة قائلًا:
"ألم تلاحظ أن هناك أمرًا مريبًا كان يجري بين فرح وتلك الطبيبة؟ أعتقد أنهما كانتا تخفيان شيئًا."
رد محمود متعجبًا وهو يضع لقمة في فمه مازحًا:
"أنا لا ألاحظ شيئًا بعد الواحدة ليلًا... إلا السرير!"
لكن ملامحه تبدلت إلى الجد عندما جلس وقال:
"ما الذي جعلك تفكر هكذا؟ بغض النظر عن مدى ارتيابك الذي يخيفني أحيانًا، لا أعتقد أنني لاحظت شيئًا غريبًا."
تنهد خالد قائلًا:
"أنا متأكد أن هناك أمرًا ما. لدي هذا الإحساس أن فرح لم تكن على سجيتها، ونظراتها للطبيبة كانت مريبة."
قال محمود وهو يعدّل نظارته:
"ربما بسبب إصابة يدها. يبدو أن الحرق آلمها."
ثم دقّق النظر إلى خالد واستطرد بملل:
"من أين تأتي بتلك الأفكار؟ أنت رجل غريب حقًا."
جلس خالد وأغمض عينيه من شدة التعب والإرهاق وقلة النوم، بينما أنهى محمود طعامه وتنهد مرتميًا على أقرب أريكة، وهو يمسح معدته قائلاً:
"ألن يكون رائعًا لو أخذنا يوم الغد إجازة؟ أنا متعب جدًا ولا طاقة لدي للعمل بعد هذه الرحلة الطويلة."
ركله خالد بخفة على ساقه وقال:
"هيا انهض. عليك الذهاب إلى منزلك وأخذ قسط كافٍ من النوم، لديك الكثير من العمل غدًا."
نظر إليه محمود مدعيًا الدهشة:
"هل سمعت ما قلته للتو؟ هل أنت روبوت؟ أحيانًا أشك أنك إنسان طبيعي مثلنا!"
ابتسم خالد وهو يصب الماء في كوب فارغ:
"الوقت مقدس بالنسبة لي، وهناك مسؤوليات علينا إنجازها."
تقلب محمود قائلًا:
"بمناسبة تضييع الوقت... دعني أمضي الليل هنا. لن أستطيع التركيز في القيادة."
شرب خالد الماء ثم نهض وقال:
"أغلق الأنوار واذهب إلى النوم في الغرفة الخاصة بك، لا تستلقِ هنا كالمتسولين."
تمتم محمود وهو يغلق جفونه النعسانة ويحتضن وسادة قريبة منه:
"حسنًا..."
***
كان هناك طرقٌ خفيفٌ على باب الشقة، ولم يأخذ خالد وقتًا طويلًا حتى يتعرف على الطارق، فقد كان ينتظره من الأساس. نهض من سريره بسرعة، وفتح الباب لها، ولم تمضِ لحظات حتى عانقته المرأة العجوز بلهفة.
ابتسم خالد ابتسامة وصلت حتى عينيه، وهو يعانق أهم شخص في حياته، وظلّ الاثنان على هذا الحال لثوانٍ طويلة، ثم قالت المرأة وهي تبتعد عنه وتضربه بخفة على كتفه الصلب:
"لماذا لم تخبرني بموعد وصولك، أيها الشقي؟!"
تحدث خالد وهو يمسح برفق على شعرها الرمادي المعقود إلى الخلف:
"أحببت أن تكون مفاجأة لك."
تذمرت المرأة وهما يتشابكان الأذرع:
"منتهى اللطف منك، ولكنك تعلم أنني لا أحب المفاجآت. في المرة القادمة، يجب أن تُبلغني قبلها حتى أستقبلك في المطار."
تنهد خالد بيأس:
"ألا تملّين من هذا الأمر؟ المطار يبعد عن هنا بضع كيلومترات فقط، ثم إنني أسافر كثيرًا."
"ولو! هذه متعة لا يضاهيها أي متعة يا عزيزي. أخبرني، هل هناك إحساس بالسعادة يضاهي هذا الإحساس عندما تخرج من المطار وتلمحني أنا والأطفال من بعيد ننتظرك باشتياق ونلوّح لك بشغف؟ تخيّل هذا!"
ضحك خالد بخفة على هذه الجملة التعبيرية المبالغ فيها، فسألته أنيسة وهي تجلس على الأريكة التي كان يستلقي عليها محمود منذ قليل:
"كيف كانت الرحلة يا عزيزي؟"
أجابها مبتسمًا وهو يأخذ مقعدًا بجوارها:
"مثمرة، بفضل دعواتك."
تأمل خالد أنيسة عن قرب، ولاحظ أن مظهرها يختلف عن آخر مرة رآها فيها، فسألها:
"كيف حالكِ أنتِ؟"
أجابت المرأة بابتسامة راضية مقتنعة، ثم دققت النظر إليه بشك:
"شكرًا لله، أنا بخير. أما أنت، فمن الواضح أنك انهمكت في العمل ونسيت نفسك كالعادة. هل كنت تُفوّت وجباتك؟"
"لم أفوّت ولا وجبة."
تنهدت أنيسة بسعادة:
"مع أنني أشكّ فيك."
فابتسم خالد وسألها مراوغًا:
"الأطفال، كيف كان سلوكهم في الأيام الماضية؟"
"جميعهم بخير، حدثت الكثير من الأمور مؤخرًا عليك أن تطّلع عليها. أهمها أن الطبيبة الجديدة وصلت أول أمس، وثانيًا، حسن يرفض الالتحاق بالبطولة."
عقد خالد حاجبيه وشبك ساقيه وهو يتساءل:
"لماذا؟ هل أخبركم عن السبب؟"
نظرت إليه المرأة بقلة حيلة:
"وهل هذا الفتى يتحدث بصراحة مع أحد غيرك؟ السيدة منى ألحت عليه في السؤال، لكنه رفض الإدلاء بالسبب، فنبهتها ألا تسأله مرةً أخرى وتنتظر عودتك."
سكتت المرأة، وعلى وجهها نظرات ذات مغزى فهمها خالد، لكنها سرعان ما تبدلت إلى ابتسامة جميلة:
"غير هذا، فالأطفال اشتاقوا إليك. لم يكفّوا عن السؤال عن موعد وصولك. سيتفاجؤون غدًا عندما يرونك على الفطور."
"آسف على تخريب آمالك، ولكن فرح بالفعل تعلم بوصولي."
مال رأس أنيسة باستفهام، فقال خالد:
"قابلتها في العيادة مع الطبيبة الجديدة وقت وصولي."
"وماذا كانتا تفعلان في العيادة؟"
"يبدو أن فرح حرقت معصمها في المطبخ."
تجعد حاجبا أنيسة باستغراب:
"في مثل هذا الوقت من الليل؟"
"كانت جائعة، هذا ما قالته."
عقدت أنيسة حاجبيها وقالت:
"من الجيد أن الطبيبة هنا، هذا سيساعدنا كثيرًا. ألم تقابلها؟"
"نعم، قابلتها."
"شابة ظريفة ولطيفة. أنا حقًا متفائلة بوجودها."
تأملها خالد بابتسامة ممزوجة بالقلق، وهو لا ينصت فعليًا إلى ثرثرتها التي يعشقها. كان يشعر أن العبء صار ثقيلًا عليها، وأن سنّها الكبير لم يعد يسمح لها ببذل المزيد من المجهود مع الأطفال.
شعر أنه يجب أن يغيّر قليلًا من طريقة سير الأمور في المنزل، لتتماشى مع ظروف هذه المرأة العزيزة على قلبه، ويجب أن يحدث هذا قريبًا.
***
ظلت سالي مستيقظة حتى الفجر تجيب على الرسائل، وعقلها المشغول لم يرتح ولو لثانية، بين التفكير في تلك الرسائل وبين ما حدث مع فرح. أنهت عملها أخيرًا واتجهت إلى سريرها، بينما لم تتوقف أفكارها عن الدوران. كان من غير المعقول بالنسبة لها أن يكون هذا هو أول تحدٍّ تواجهه في هذا المكان، وفي يومها الثاني فقط. هل تُبلغ أنيسة بهذه المصيبة؟ أم تنتظر وتفكر في حل آخر بنفسها؟ تقلبت على سريرها وتمتمت بشرود:
"ماذا أفعل؟!"
ما الذي قد يدفع فتاة مثل فرح إلى ارتكاب تصرف خطير كهذا؟ هل له علاقة بيُتمها؟ أم أنها مجرد تبعات طبيعية لمشاكل المراهقة؟ تلك الفترة المليئة بالتقلّبات، التي يحاول فيها الطفل أن يشق طريقه من الطفولة نحو عالم البالغين، حيث تأثير الأصدقاء والزملاء في المدرسة يُصبح طاغيًا وخطيرًا أحيانًا.
تساءلت سالي عن نفسها: هل كانت لتفعل هي أمرًا مماثلًا في مراهقتها؟ فقد مرت هي الأخرى بظروف بعيدة كل البعد عن المثالية. هل كانت لتفكر في إيذاء نفسها يومًا؟ أليس ذلك الفعل مؤذيًا للنفس والروح ولا يجلب إلا راحة كاذبة وهمية؟
بماذا تشعر فرح عند فعلها هذا؟ كيف يمكن للإنسان أن يرتاح عند إيذاء نفسه؟ أم أن المراهقين بطبعهم لا يدركون عواقب تصرفاتهم؟ تذكرت سالي أنها درست هذا الاضطراب في سنوات الجامعة، تحت اسم "إيذاء النفس غير الانتحاري"، لكنها لم تتوقع أن تصادفه وجهًا لوجه في الواقع.
حاولت أن تسترجع ما تعلمته: عادةً ما يُقدم الفرد على إيذاء نفسه عمدًا كوسيلة للتكيف مع آلامه العاطفية وتوتره وغضبه وحزنه ومشاعره السلبية الأخرى. وبعد الأذى، يشعر بهدوء مؤقت، يتبعه شعور بالذنب، ثم تعود المشاعر المؤلمة من جديد. وهكذا، يستمر في حلقة مفرغة لا تنتهي.
تقلبت سالي مرة أخرى في فراشها، غارقة في التساؤلات: هل ما فعلته فرح دافعه نفسي عميق؟ أم فقط محض تقليد لزملائها؟ هل تشعر فرح الآن بالذنب؟ هل تتألم؟ ماذا يدور في قلبها وعقلها؟
لقد مضى يومان فقط على وجود سالي في هذا المنزل، وبصفتها موظفة، فإن واجبها يُحتّم عليها اتخاذ القرار الأنسب، وهو إبلاغ أنيسة بما حدث. لكنها رغبت أولًا في منح الفتاة فرصة للحديث، فرصة لفتح قلبها والبوح بما يُؤلمها.
انهالت عليها الأفكار والاحتمالات، وتشعّبت الحلول في ذهنها حتى اشتد عليها ألم الرأس.
الله أكبر...
سمعت سالي صوت الأذان، فنهضت بطاعة تُلبي النداء، ثم عادت إلى سريرها وعبثت بمنبّه هاتفها لتضبطه على الساعة السادسة صباحًا، أي بعد ساعتين، حتى لا يفوتها موعد الفطور.
***
وفي الساعة السابعة، وعلى الرغم من عدم أخذها القسط الكافي من النوم، نزلت سالي وعزمها يتوقد داخلها. كان المكان حيويًا، والأطفال يستعدون للذهاب إلى المدرسة، ويبدو من الأصوات أن الجميع مجتمعون في المطبخ. وقفت أمام الباب الذي لم يُغلق تمامًا، وملأت رئتيها بالهواء، ثم دفعته بسرعة، بطاقة فلتت منها ولم تستطع السيطرة عليها، وتقدّمت بشجاعة وقالت بإشراق، دون أن تلاحظ الرجال الجالسين إلى رأس المائدة بجوار السيدة أنيسة:
"صباح الخير!"
التفت الجميع لهذا الدخيل ودخوله المفاجئ. وهنا وجدت أن جميع من بالمكان، حتى الكبار، ينظرون إليها باستغراب: السيدة أنيسة، وخالد، ومحمود، والمربيات كذلك. سخن جسدها من شدة الإحراج، فلم تتوقع وجود الرجال في هذه الساعة المبكرة، خاصةً وأنهم قد عادوا من السفر في وقتٍ متأخر من الليل. كانت تظن أنهم سيأخذون قسطًا من الراحة ولن يستيقظوا في السابعة صباحًا يرتدون ملابسهم كاملة.
حاولت أن تتدارك الموقف وتسيطر على خجلها، فتجولت ببصرها والخجل يتصاعد إلى وجنتيها، ثم حددت هدفها سريعًا. توجهت نحو فرح، ووجهت كلامها إلى حسن الذي كان يجلس بجوارها:
"حسن، إذا سمحت، هل أستطيع أن أستعير منك مقعدك؟"
نظر الفتى إليها باستغراب، ثم نهض بهدوء، تاركًا سالي تلاحظ نظرة سخرية خفيفة مررها على وجهه، لكنها تجاهلتها في هذا الوقت.
"شكرًا لك."
جلست بجوار فرح وهي تكاد تذوب من الخجل. تأملتها فرح بنظرات ذات مغزى، فردّت سالي بابتسامة دافئة:
"صباح الخير، فرح!"
ازداد توتر الفتاة، وراحت تمسك بمعصمها الذي كانت تخفيه تحت الجاكيت الخفيف الذي ترتديه، وأجابت وهي تنظر حولها بتوتر:
"صباح الخير، دكتورة."
فقالت سالي بابتسامة هادئة:
"ألم نتفق على أن تناديني باسمي؟"
عجزت الفتاة عن الرد لوهلة، ثم تمتمت بتلعثم:
"حسنًا..."
تدخلت لارا، وهي تجلس على ساق خالد الذي كان يُطعمها:
"أنا أيضًا أريد أن أناديك باسمك!"
نظرت سالي إلى لارا بنظرة مفعمة باللطافة، بينما كان الجميع يتابع هذا الموقف باستغراب وهدوء. ثم قالت السيدة أنيسة بحيرة:
"صباح الخير يا دكتورة."
في الواقع، كان قلب سالي يدق بعنف؛ فهي لم تتصرف يومًا بهذه الجرأة. لم تعتد أن تدفع بابًا بهذه القوة أو تدخل بهذه الطريقة اللافتة للأنظار. شعرت ببلاهتها، وندمت على هذا الدخول الدرامي المتهور. وتساءلت في صمت، وهي تنظر إلى محمود وخالد والسيدة أنيسة:
"هل يعتقدون الآن أنني حمقاء؟"
وضعت كفها على خدها الساخن من شدة الحرج، وأشاحت ببصرها نحو الطعام، تتمنى في داخلها لو أن الأرض تنشق وتبتلعها. فجأة شعرت بنكز خفيف في ساقها. كانت فرح. نظرت سالي إليها ببراءة، وهمست:
"ماذا؟"
فأجابتها فرح هامسة:
"لا تخبري أحدًا."
تحولت نظرة سالي من البراءة إلى ابتسامة باردة، ولم ترد عليها. لم تكن تعلم، هي ولا فرح، أن هناك من يراقبهما ويتابع الموقف بانتباه وريبة.
وعلى الرغم من العاصفة الصغيرة التي أثارتها سالي، إلا أن الأوضاع سرعان ما عادت إلى طبيعتها. اندمج الجميع مجددًا، وعاد الأطفال إلى شغبهم وضجيجهم المعتاد. ما أثار ابتسامة على وجه سالي هو لارا، الطفلة المزاجية، التي جعلت خالد يطعمها كما لو كانت أميرة مدللة. تسبب ذلك في غيرة بقية الأطفال وتذمرهم، مما زاد من بهجة اللحظة.
في الواقع، لم ترَ سالي في حياتها عائلة كهذه. على الرغم من أنهم ليسوا أقرباء بأي شكل، إلا أن الألفة والاندماج بينهم أثارا استغرابها، وربما شيئًا من الغيرة. ذلك الجو الحميم الذي تفتقده في بيتها الصغير، الذي تعيش فيه مع والدتها وأختها فقط. وجدت نفسها تبتسم بدفء وهي تتأمل هذه العائلة السعيدة.
بعدما تناول الجميع فطورهم، ذهب الأولاد الكبار إلى مدارسهم فور وصول الحافلة الخاصة بهم، ثم غادر خالد ومحمود إلى عملهما. في تلك اللحظة، شعرت سالي أنها بلا عمل حقيقي. فالسيدة أنيسة بالتأكيد تختلي بنفسها في مكتبها، والبقية من الموظفين والمربيات منشغلون في مهامهم اليومية.
أحضرت سالي الملفات من المكتب، ثم توجهت نحو الأطفال الصغار في غرفة الحضانة. كان هناك أربعة أطفال تحت سن المدرسة، إضافة إلى ماريا الرضيعة، التي لا تزال تحبو.
رآها الأطفال عند دخولها، لكنهم لم يهربوا كما فعلوا في لقائهم الأول؛ فقط اكتفوا بترقبها. وقبل أن يتحدث أحدهم، قالت سالي بصوت رقيق:
"أهلًا يا أولاد، ما رأيكم أن نلعب في الحديقة؟"
ثار الصغار عند سماعهم اقتراح سالي، فتوجهت إلى الرضيعة التي تحاول الوقوف باجتهاد مستندة إلى عربة الأطفال الكبيرة، وحملتها بلطف، ثم استأذنت المُربيتين في الغرفة، فسمحتا لها وشكرتاها هامستين، إذ ستمنحهم بعض الراحة من شغب الأطفال.
ابتسمت سالي بتواضع وتأملت ماريا الصغيرة. كانت طفلة جميلة، بشرتها ناعمة وبيضاء، ووجنتاها الورديتان المنتفختان تُغريان الناظر إليها. حدّقت فيها ماريا باستغراب، تراقب هذا الوجه الغريب الذي تقابله للمرة الأولى، ثم نظرت إلى المربيتين وإلى إخوتها الذين تعرفهم. صلّت سالي في سرّها ألا تبكي الطفلة، وأخذت تداعبها وتلاعبها حتى أهدتها ماريا ابتسامة صغيرة، باردة وغير متحمسة. قبلت سالي تلك الابتسامة كبداية، وطبعَت قبلة خفيفة على وجنتيها الناعمتين، ثم قالت للأطفال الذين يذكرونها بالفراخ الصغيرة:
"هيا لنذهب جميعًا إلى الحديقة."
وقبل أن تغادر الغرفة، طلبت من المربيتين إبلاغ السيدة ذكية بإحضار بعض الكعك، والشاي، وكرسي الطعام الخاص بالطفلة ماريا.
أثار الأطفال بعض الشغب في طريقهم إلى الحديقة. اختارت سالي الجلوس معهم تحت العريشة المصممة على هيئة كوخ، تتوسطها طاولة تحيط بها أريكتان. كان عقلها مشغولًا بأمر فرح، حتى قطع حبل أفكارها صوت تذمّر ماريا التي سئمت من حملها. لم تكن معتادة على هذا الشخص الغريب، وأخذت تئن وتزم شفتيها الصغيرتين، فحاولت سالي أن تشتت انتباهها، إلا أن الطفلة ذات التسعة أشهر بدت عنيدة يصعب السيطرة عليها. نفخت خديها السمينين وبدأت تبكي.
استسلمت سالي، فأنزلتها برفق على الأرض الخشبية، حيث بدأت ماريا تزحف وتتجول وتثرثر إلى نفسها، بينما تابعتها سالي بنظرات هادئة، وعادت تقرأ الملفات الموضوعة أمامها.
وصلت السيدة ذكية، وبرفقتها إسراء، ابنة أخيها، تحملان الشاي وفطيرة التفاح والبسكويت للأطفال، وقالت وهي تضع الصينية:
"السيدة أنيسة ستأتي بعد قليل، تحب أن تشاركك الشاي."
"حسنًا، سأنتظرها."
تأملت السيدة ذكية الأطفال، ثم سألت سالي بابتسامة:
"هل الأطفال مُهذبون؟"
نظرت سالي إلى الصغار الذين كانوا يتشاجرون، ثم ابتسمت:
"كما ترين، لم يكفّوا عن الجدال منذ الصباح."
حملت السيدة ذكية ماريا الصغيرة، ووضعتها على كرسيها، ثم وضعت أمامها طعامها المهروس وملعقتها الوردية التي أمسكت بها الطفلة بعبث.
"هؤلاء الأطفال الأربعة كالعاصفة. لم يمر على هذا المنزل يومٌ هادئ منذ دخلوا إليه."
سكتت سالي للحظات، ثم قالت بلطف:
"ست ذكية، أحب أن أعرف أكثر عن هؤلاء الأولاد وظروف مجيئهم إلى هذا البيت."
استغربت السيدة ذكية سؤالها، وقالت بتردد:
"لا أعلم ماذا أقول لك، لكن هذا موضوع حساس جدًا. السيدة أنيسة ربما تكون أفضل من يمكنه الحديث في هذه الأمور... لا أعلم إن كان مسموحًا لي بالكلام فيها."
لاحظت سالي أن السيدة ذكية، على الرغم من ظرافتها وطيبتها، إلا أنها حذرة في كلامها، فقالت بابتسامة:
"سأسألها بنفسي، شكرًا لكِ على الشاي والفطير."
"على الرحب يا دكتورة."
غادرت ذكية الحديقة، وركض الأطفال نحو الطاولة لتناول الفطير والبسكويت، واحتساء الشاي الساخن. حاولت سالي أن تهدّئ حماسهم كي لا يسكبوا الشاي من فرط اندفاعهم، وشرعت تقطع لهم الفطيرة الساخنة التي خرجت لتوها من الفرن.
قالت سارة، وهي تضع قطعة في فمها وتغمض عينيها بسعادة:
"يممم، أعشق فطيرة التفاح!"
وضعت لارا يديها على خديها بسعادة مُتلذذة وقالت:
"إنها تذوب في فمي، لارا سعيدة!"
ضحكت سالي وأعطت فؤاد ويحيى نصيبهما، ثم قررت أن تشاركهم الفطيرة بعد أن سال لعابها مثلهم. كانت هذه أول مرة تتذوق فيها فطيرة التفاح على الطريقة الإنجليزية. الطعم كان مذهلًا، لم تتذوق في حياتها شيئًا بهذه الروعة. أغمضت عينيها، كما فعلت سارة، وقالت:
"السيدة ذكية حقًا ماهرة!"
قال فؤاد مؤكدًا:
"نعم!"
حتى ماريا، التي أعطتها سالي قطعة صغيرة جدًا، أشرقت ملامحها وبدأت تشير بلهفة تريد المزيد.
انتهت الهدنة اللذيذة، وانطلق الأطفال من جديد يركضون ويمرحون، بعد أن أعادوا شحن طاقتهم. تأملتهم سالي مُندهشة. لقد وصفوا الفطيرة ببساطة طفولية، والمفاجأة كانت كما وصفوها تمامًا: لذيذة وتذوب في الفم.
كان من المذهل أن ترى العالم من منظور الأطفال، تجربة جديدة ومغامرة لم تعشها من قبل في المستشفى، خاصة بهذا القرب. رأت فيهم طاقة الحياة تتفجر، وهم لا يزالون براعم صغيرة ترى العالم كأنه حكاية خيالية مُلوّنة بالألوان الزاهية. كم هم رائعون حقًا!
بعد نحو ربع ساعة، وصلت السيدة أنيسة ومعها السيدة منى، متشابكتين الأذرع. قالت أنيسة بصوتها الودود:
"كيف حال الأطفال يا دكتورة؟"
أجابت سالي مبتسمة:
"يتجادلون ثم يتصالحون، ولكن دون إصابات."
تنهدت منى، وهي ترفع ماريا التي اعترضت على قطع لعبها لأجل الطعام، وقالت:
"حمدًا لله أنهم لم يثيروا الشغب. السيطرة عليهم باتت صعبة. أظن أن قرار تأجيل دخولهم الحضانة لم يكن موفقًا."
ابتسمت أنيسة وأجابت بثقة:
"العام القادم سيكمل أغلبهم الخامسة وسيلتحقون بالمدرسة مع إخوتهم. أعتقد أن المعلم الخاص بهم قد أسسهم جيدًا، لذا لم تكن هناك حاجة ماسة إلى الحضانة."
أخذت منى تطعم ماريا المتذمّرة من طعامها الممل، بينما سألت سالي، وهي تراقب الطفلة بعين متأملة:
"من أطلق عليها اسم ماريا؟"
ردت أنيسة وهي تضيق عينيها بابتسامة:
"خالد هو من سمّاها. استغربه الجميع في البداية، لكننا أحببناه."
قالت سالي مُتأملة جمال الطفلة:
"الاسم يليق بها."
ثم أضافت وكأنها تذكرت شيئًا:
"بالمناسبة، سيدة أنيسة، لاحظت أن عليّ لديه بعض المشاكل في مناعته."
تنهدت السيدة منى وتدخلت بطريقة أزعجت سالي، قائلة:
"هذا الفتى دائمًا يعاني من مشاكل صحية."
تحدثت أنيسة بنبرة هادئة:
"ظروف علي خاصة جدًا يا دكتورة، هذا الولد وُلد في الشارع."
لم يكن هناك تعليق على تلك المفاجأة التي فجّرتها السيدة العجوز، فأكملت بهدوء:
"أمه مريضة نفسيًا، أنجبته في الشارع بين أكوام القمامة وجموع من حيوانات الشارع الضالة. ولم يحصل على حليب كافٍ من والدته، حتى التطعيمات الأساسية لم يحصل عليها في سنواته الأولى."
سألتها سالي، وقد وُلدت في قلبها شفقة صادقة تجاه هذا الفتى الصغير:
"وأين والدته الآن؟"
"في مستشفى الأمراض العقلية، ووالده... تستطيعين تخمين هويته بنفسك من خلال هذه الظروف."
خرست سالي ولم ترد على كلام المرأة المفهوم ضمنًا، فتنهّدت السيدة أنيسة وقالت:
"عليكِ أن تعلمي، يا سالي، أن ليس كل اليتامى قد توفي ذووهم. ظروف هؤلاء الأطفال ليست واحدة. فمثلًا، ماريا والداها تخلّيا عنها بكامل إرادتهما. وبكل بساطة، لم يتقبّلا وجودها وتركوها تواجه المجهول. لو سألتِهما عن السبب، سيبرّران لكِ بأعذار يقنعان بها أنفسهم فقط. فهل يقنع هذا السبب أي إنسان يمتلك حسّ المسؤولية أو ذرة من الإنسانية؟ قطعًا لا."
نظرت سالي إلى الطفلة الجميلة التي تبتسم بفرح للسيدة منى وهي تلاعبها، وتظهر أسنانها الأمامية الصغيرة كأرنب صغير، فتساءلت في سرّها:
"من ذلك الأحمق قاسي القلب الذي يتخلّى عن هذا الملاك الصغير؟"
فهمت السيدة أنيسة ما يدور في عقل سالي، فابتسمت تعليقًا:
"لا مجال للاستغراب يا دكتورة. كثيرون هم من يمتلكون من جفاء القلب ما يجعلهم يتخلّون عن فلذات أكبادهم، غير عابئين بمصير هؤلاء الصغار. ولكن، تخيّلي لو أن تلك الطفلة المسكينة عاشت مع والدين لا يريدانها، كيف سيكون حالها؟ الآلاف من السيناريوهات، لكنها كلها تؤدّي إلى مصير واحد: الضياع."
تألّم قلب سالي عند سماع هذه الكلمات، وانفتح جرحها القديم، ذلك الجرح الذي، وبلا شك، لن يُقارن بجرح تلك الطفلة الصغيرة إن أدركت حقيقة وضعها في المستقبل. شكرت ربها من بين آلامها أن والدتها أرادتها هي وأختها، ولم تتخلّ عنهما، لكنها، رغم ذلك، لم تستطع أبدًا أن تفهم ما الذي يجعل بعض الآباء يتخلّون عن أطفالهم؟ كيف يمتلكون هذه المقدرة الخارقة على تحمّل ذلك؟
لم تكن سالي تفكر في الزواج كخطوة أساسية في مستقبلها القريب، ولم تحلم يومًا بإنجاب الأطفال، لكنها كذلك لم تتخيل أنها قد تتخلى عن طفل كانت سببًا في قدومه إلى الحياة. على الأقل، إن وُجد، فعليها أن تتحمل مسؤولية وجوده.
قالت السيدة أنيسة بصوتٍ حانٍ ولكنه نافذ:
"هل تعلمين يا دكتورة؟ اليتيم يظل يتيمًا مهما حدث، ومهما توفرت له السبل التي تُعوض ظروفه، ما إن يعلم بيُتمه، سينفتح داخله جرح لا يداويه حتى الزمن. إن احتياج الطفل لأمه وأبيه لا يشبه أي احتياج آخر، وليس هينًا أبدًا على صغيرٍ يتوق إلى والديه بالفطرة."
كان كلام السيدة أنيسة عميقًا، وصادقًا، أظلم وجه منى، واخترق قلب سالي ولم يزدها إلا حزنًا. شعرت وكأن هذا الكلام موجه إليها بشكل خاص، على الرغم من أن السيدة لم تقصد ذلك. لطالما احتاجت سالي إلى والدها. وازداد ألمها كلما أدركت أنه لن يكون هناك يومًا ليُلبّي هذا الاحتياج.
والدها على قيد الحياة، لكنها لم تره منذ رحيله عنهم، سوى مرة واحدة، عندما اضطرت إلى زيارته طلبًا للمال كي تسدد مصاريف دراستها، محاولةً منها لتخفيف العبء عن والدتها. لكنه، وبكل برودة، أعادها خائبة مكسورة. تمنّت حينها لو أنها لم تذهب إليه ولم تطلب شيئًا.
لم تكن سالي تحمل مشاعر حقيقية تجاه والدها، فهي بالكاد عاشَت معه بضع سنوات، لكن غريزة الطفل، وحاجته الفطرية إلى أبيه، كانت تطل برأسها كلما مرّت بضيق أو وجدت نفسها وحيدة. وتأكدت من هذه الحقيقة في تلك الزيارة الوحيدة؛ فقد أدركت أن ما شعرت به لم يكن حبًا، بل مجرّد احتياج داخلي يشتد فقط في لحظات الضعف.
منذ ذلك اليوم، لم تعد تفكر فيه، ولم تشعر أبدًا أن لها أبًا على قيد الحياة. ورغم محاولاته للتواصل معها لاحقًا، إلا أنها تهربت وتجاهلت تلك المحاولات، وأغلقت الباب تمامًا، وكأن الأمر لم يكن يومًا.
تأملت سالي الأطفال وهم يتشاجرون ويلعبون تحت شجرة، وتسائلت كيف يشعر هؤلاء الصغار تجاه اليُتم؟ هل يدركون أنهم مختلفون؟ أم يظنون أن هذا هو الشكل الطبيعي لحياة أي طفل؟ حسن، فرح، ليلى، نور، رحيم... ماذا يدور داخل عقولهم الصغيرة؟
تأملت الملفات التي بين يديها، ثم نظرت مرةً أخرى إلى الأطفال، وتساءلت في داخلها:
'لماذا قادني القدر إلى هذا المنزل؟'
لم تجد إجابة على هذا السؤال. لم تكن تنوي أن تخلق روابط جديدة في حياتها من البداية، فقط ستقوم بواجبها هنا، ثم ترحل. لا مزيد من القيود. كانت تنوي أن تعيش كما حلمت دائمًا... حرّة.
***
في مبنى أنيق يتكوّن من ثلاثة طوابق، وفي غرفة مكتب واسعة تليق بمهندس ناجح، جلس خالد مُنهمكًا في تصفّح بعض الأوراق. طرق محمود الباب، ثم دخَل دون انتظار الإذن، وهو يحمل لوحًا إلكترونيًا. لمح خالد ظلّه، فلم يرفع رأسه، بل قال بنبرةٍ هادئة وقد أدرك هوية الداخل دون أن ينظر:
"لم أسمح لك بالدخول."
جلس محمود براحة على أريكة بعيدة عن المكتب، وأجاب بمرح:
"أنت لم تسمح لي يومًا بالدخول."
خلع خالد نظارته ورفع رأسه ببطء، وقال ساخرًا:
"وأنت لم تدخل يومًا مستأذنًا."
رفع محمود حاجبيه ببراءة مفتعلة:
"لقد طرقت الباب!"
تنهد خالد وقال بلا اكتراث:
"هات ما عندك."
"إنها مفاجأة! لقد حصل التصميم الخاص بنا على المركز الأول كأفضل تصميم لمتحف المدينة. وقريبًا سيتم تمهيد الموقع وتجهيزه للبناء."
عقد المهندس ساقيه الطويلتين على مهل، ونبرة الفخر تلوّن صوته:
"لا أريد إحباطك، لكنني علمت ذلك قبل."
سأله محمود بإحباط واضح:
"يا رجل! تعلم هذا ولم ترقص فرحًا؟ هذا سيكون أهم مشروع حصلت عليه شركتنا!"
ابتسم خالد بمرح وقال بهدوء:
"من السابق لأوانه أن نحتفل. نحن لا نزال في البداية، لم نخطُ سوى خطوة واحدة من بين آلاف الخطوات. وسأشعر بالفوز الحقيقي فقط عندما أرى المشروع قائمًا على الأرض. لذا... دعنا نُركّز الآن على مشروع المكتبة."
أومأ محمود موافقًا:
"آه، نعم... أعتقد أن تلك المكتبة ستكون من مشاريعنا المميزة."
رد خالد بثقة:
"أنا متأكد من ذلك."
فكّر خالد في هذا المشروع المهم، لا لأهميته الثقافية فحسب، بل لأنه ليس مشروعه وحده؛ فقد كان لوالدته دور كبير في إنشائه. لذلك، كان حريصًا على أن يظهر بأفضل صورة، معماريًّا وثقافيًّا في آنٍ واحد.
***
وقفت سالي أمام المرآة في الحمّام وهي تُجفف شعرها بعد يومٍ طويل من اللعب مع الأطفال. وخرجت لتجد فرح جالسة على سريرها، تنتظرها. لم تتفاجأ سالي، فقد كانت تعلم أن الفتاة ستحاول التحدث معها.
كانت فرح لا تزال ترتدي زي المدرسة، ولم تبدّله بعد. بدت نظرات الفتاة مختلفة هذه المرة، فلم تكن متحدّية كما في الأمس، ولا متوترة كما كانت في الصباح. بل بدت قلقة، متوسلة.
جلست سالي على مقعد المكتب الخاص بها، وتنهدت قائلة:
"فرح، أنا لم أخبر أحدًا."
قالت الفتاة بريبة:
"وما الذي يضمن لي أنكِ لن تُخبري أحدًا في المستقبل؟"
سألتها سالي وهي تلوي شفتيها:
"وهل لديكِ النية لتكرري هذا في المستقبل؟"
ترددت الفتاة، ثم قالت بصوت خافت:
"لا... بالطبع لا."
نهضت سالي وهي تبحث في خزانتها عمّا ترتديه استعدادًا للغداء، وقالت:
"حسنًا، ما الذي يقلقكِ؟."
تمتمت الفتاة بخمول، وعيناها على الأرض:
"أنا فقط أتأكّد من أنكِ لن تُثيري المشاكل بيني وبين ماما... أو أبيه خالد."
التفتت سالي نحوها، وقالت باستغراب:
"أُثير المشاكل؟ هل تعلمين أن عدم إخباري لهم بتصرفكِ المتهوّر هو ما قد يُثير المشاكل؟ ليس لكِ فقط، بل لي أيضًا... أنا لم يمضِ على بقائي هنا سوى ثلاثة أيام!"
تحدثت فرح، والهدوء الحزين يستولي على ملامحها:
"أنا لا أريدهم أن يغضبوا مني."
ردّت سالي وهي تتأملها:
"إذًا لا تكرّري هذا الفعل."
قالت الفتاة بصراحةٍ صدمت سالي:
"لا أستطيع."
"لماذا؟"
أشاحت الطفلة بوجهها جانبًا وقالت:
"لأن هذا يشعرني بالراحة."
عقدت كلماتها لسان سالي، ولم تستطع الرد. نظرت إليها فرح نظرة متوسلة، وقالت:
"أنا حقًا أريد أن أتخلّص منه... حاولت، ولكنني فشلت. سأحاول مرة أخرى، ولكن لا تخبري أحدًا، أرجوكِ."
كانت الفتاة تتوسل، وسالي تقف أمامها عاجزة. لم تستطع أن تحدد إن كانت فرح صادقة تمامًا أم لا، فتنفّست بعمق، وجميع الأفكار تتجول في زوايا عقلها تبحث عن رد مناسب. ثم قالت، بعد تنهيدة طويلة:
"حسنًا، لن أخبرهم، ولكن بشرط."
قالت فرح مندفعة:
"ما هو؟"
ردّت سالي، وهي لا تعلم إن كان قرارها صائبًا:
"إن حدث وكرّرتِ هذا التصرف مرةً أخرى، تعالي فورًا وأخبريني. لا تتجاهلي كلامي يا فرح... هذا لمصلحتك."
فكّرت سالي: إن لم تستطع السيطرة على الكارثة في بدايتها، فعلى الأقل يجب أن تُحكم السيطرة على نتائجها.
سكتت فرح للحظة، تفكّر في كلامها، ثم قالت موافقة:
"حسنًا، أنا موافقة... سأخبرك."
نبهتها سالي:
"لكن اعلمي أن هذا الأمر لا يجب أن يستمر وقتًا أطول. أخبريني، هل هناك أحدٌ آخر يعلم بذلك؟"
أجابت الفتاة بخجل:
"أصدقائي فقط."
همست سالي:
"بالطبع... أصدقاؤك."
ثم سألتها بريبة:
"ومنذ متى تفعلين ذلك؟"
ردّت فرح بصوت خافت:
"لا أتذكر بالتحديد، ربما منذ شهور."
أغمضت سالي عينيها بيأس، وتنهدت دون أن ترد. وبما أنها الآن الطرف الوحيد الذي يعلم بسر فرح، قرّرت أن تعذر حداثة سنها. ستتعامل معها بعقلانية، حتى تتوصل إلى قرار حكيم يعالج هذا الموقف الغريب.
كان عليها أن تُحكم السيطرة على المشكلة أولًا، ثم تفكّر في خطوتها التالية. وإن فشلت، ستلجأ إلى السيدة أنيسة لتتولى اتخاذ التصرف المناسب.
غيرت سالي الموضوع، وبدأت ترتدي ملابسها، وهي تتحدث مع فرح، في محاولة لرفع الحرج بينهما، وتعميق القليل من الصداقة والثقة. كانت تلاحظ بقايا الحذر في نظرات الفتاة، لكنها على الأقل نجحت في تهدئة القلق الذي يعتري قلبها.
***
بعد الانتهاء من تناول الغداء، ذهبت سالي برفقة رحيم إلى غرفة الموسيقى، وفاءً بوعدها له. تجوّلت في الغرفة الواسعة وفحصت الآلات الموسيقية المُرتبة بعناية. في النهاية، جذب انتباهها عود موضوع على حامله الخاص. اقتربت منه وتفحصته بدقة، لتكتشف أنه مصنوع بجودة عالية. لمست خشب الأبانوس في تصميمه، وهو من أفضل أنواع الخشب المستخدمة في صناعة الآلات الموسيقية.
في الحقيقة، لم يقع بين يديها عود بمثل هذه الجودة من قبل.
تناولت الآلة برقة وجلست على كرسي، واتخذت وضعية العزف المناسبة، ثم بدأت أصابعها تلامس الأوتار الحساسة بخفة، تدندن نغمات بسيطة.
سألها رحيم بهدوء:
"لماذا اخترتِ العود؟"
رفعت سالي رأسها، وتجول بصرها إلى السقف وهي تفكر:
"ممم... لا أعلم. ممارستي للعود كانت خطوة متأخرة، عندما كبرت في السن. فجأة وجدتني أُحب الطرب الشرقي وأدمنته... فبدأت أمارس العزف على العود."
تأملته قليلاً ثم سألته:
"وأنت يا رحيم، لماذا اخترت الكمان؟"
نظر الفتى بحزن ممزوج بالشوق إلى كمانه المُستهلك، ثم قال:
"لم أختره بنفسي... ماما من اختارته لي."
قالت سالي بإعجاب:
"أعتقد أنها ذات ذوق خاص في الموسيقى... لاحظت ذلك بنفسي."
رد الفتى بصوت خافت:
"نعم."
ثم نظر إليها، وعلى وجهه ابتسامة باهتة فيها من القهر الكثير، وقال:
"ولكنها ليست ماما أنيسة."
ظهر عدم الفهم على ملامح سالي، فسارع الفتى ليُوضح:
"أمي التي أنجبتني، رحمها الله، هي من اختارت لي هذه الآلة."
توترت سالي ولم تجد ما تقوله سوى تأوّه خافت:
"آه..."
ساد صمت مشحون في الغرفة، والأجواء باتت مشبعة بالتوتر بسبب استرجاع الذكريات. شعرت سالي بذلك، فسارعت إلى تغيير الموضوع بلطف:
"ما رأيك أن تبدأ أنت؟ ماذا ستعزف لي الآن؟"
ابتسم الفتى الطيب وقد فهم محاولتها لتخفيف الأجواء، فقال مُجارياً:
"ما رأيك في River Flows in You؟"
فكّرت سالي وهي تحاول أن تسترجع ما إذا كانت تعرف تلك المعزوفة، لكنها لم تتذكرها، فسألته أن يعزفها.
أغمض رحيم عينيه، وبدأ يحرك يديه بعزف هادئ ومتقن. كان الفتى موهوبًا بشكل يفوق التوقع. تعرفت سالي على المقطوعة، فقد سمعتها من قبل، وعلى الرغم من أن التوزيع بدا متوسطاً، فإن عزف الفتى كان مميزًا، سلسًا ومُعبرًا.
أعجبتها اختياراته وراق لها ذوقه. أغمضت عينيها هي الأخرى، وتركت الموسيقى تحملها في رحلة إلى عالم آخر، بعيد عن كل ما يُثقل القلب.
إن كنت تستمع إلى صوت جميل، فعليك أن تُغمض عينيك، تنفصل عن صورة الواقع المشتّتة لحواسك، وتُرهف حاسة واحدة فقط: السمع. حينها، ستشعر بكل جوارحك بتلك النغمات والمقامات. هذا العزف الناعم والسلس قادر على نقلك بين أمواج من المشاعر، تختلف باختلاف نوع المعزوفة؛ فبعضها يأخذك إلى أحزانك، وأخرى تجوب بك بين أفراحك، وبعضها يتنقّل بين الحالتين، وغيرها كثير.
لكن هذه المعزوفة تحديدًا، أخذتها إلى عالم أحلامها وأمنياتها الجميلة، إلى طفولتها الخيالية. سحبتها برفق إلى القاع، وحين انتهت، قذفتها بقسوة إلى سطح الواقع.
فتحت عينيها، لتجد ذلك الفتى الطيب يبتسم. فتح عينيه هو الآخر، ونظر إلى سالي بدهشة، ثم تبادلا الابتسام... استعدادًا لخوض تجربة جميلة أخرى، لكن هذه المرة مع صوت العود الشجي والعميق.
***
في تمام الساعة السابعة مساءً، حين أوصل محمود خالد إلى المنزل ثم غادر. فتحت له ذكية الباب ورحّبت به، وأخبرته أن غداءه سيُجهّز على الفور.
كان متجهًا إلى الطابق الثالث، لكنه توقّف فجأة حين التقط أذنه صوتًا يصدر من غرفة الموسيقى. لم يكن صوت كمان رحيم الذي اعتاده. اقترب من الباب وهمَّ بالدخول، لكنه تراجع على الفور عندما رأى تلك الطبيبة تستند إلى العود، وشعرها الأسود الطويل ينسدل على كتفها، تعزف بانسيابية هادئة، ورحيم يجلس أمامها يبتسم بسعادة وهو ينصت إليها.
شعر خالد أن دخوله عليهما سيكون تصرفًا متطفلًا وغير مرحّب به، فاستند إلى الحائط يُتابع ويُنصت بصمت إلى العزف الجميل، الذي أرفقته الطبيبة بهذه الكلمات:
[الدنيا ليل والنجوم طالعه تنورها
نجوم غير النجوم من حسن منظرها
ياللي بدعتوا الفنون وفي ايدكوا اسرارها
دنيا الفنون دي خميله وانتوا ازهارها
والفن لحن القلوب يلعب بأوتارها
والفن دنيا جميلة وانتوا انوارها].
ردّد رحيم كلمات الأغنية التي يسمعها للمرة الأولى، والسعادة تملأ وجهه. كانت تلك أول مرة يشعر فيها الفتى بأنه يتشارك موهبته مع شخص آخر داخل المنزل يشاركه شغف الموسيقى.
في الواقع، لم يكن خالد يهتم كثيرًا بهوية الموظفين الذين يتم تعيينهم في المنزل؛ فهذه مسؤولية والدته، مديرة ومدبّرة هذا المكان. ما يهمه فقط هو ما يعود بالنفع والراحة على الأطفال. وإن كانوا سعداء، فهو كذلك.
ورحيم، كما يبدو، كان مستمتعًا وسعيدًا، وهذا وحده يكفي ليُشعره بالراحة. لذلك، عدّل من وقفته بهدوء، ثم مضى في طريقه تاركًا إياهما في عالمهما.
نهاية الفصل الثالث.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء..
شكراً على صبركم
كاتبتكم ءَالَآء
سؤال الفصل: توقاعتكم للأحداث الجاية؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
رواية استقرت في قلبي، رواية ملاذي وقسوتي واتباد، رواية خيط حرير، رواية تمارا ورحيم، رواية اسيرة عشقه، رواية الشهيد لتوفيق الحكيم، رواية جاسر وحور، رواية عشق الحور، رواية فراشة في جزيرة الذهب، أرض زيكولا، رواية تمرد عاشق، رواية مكتبة منتصف الليل، روايات أحمد خالد توفيق، رواية في قبضة الأقدار، تعافيت بك واتباد، رواية واتباد، روايات واتباد، روايات، واتباد، روايات واتباد رومانسية، رواية عشق الزين، روايات فريدة الحلواني واتباد، رواية فراشة في جزيرة الذهب، رواية الشيطان شاهين واتباد

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق