السبت، 10 أغسطس 2024

رواية المنزل: الفصل الثاني - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل الثاني

رواية المنزل

الفصل الثاني




فضلاً، متنسوش الvote.

المزيكا انهاردة أغنية ذكريات لأم كلثوم، كلمات الشاعر أحمد رامي، وألحان رياض السنباطي".

***

قضت سالي بقيّة يومها في غرفتها الجميلة. كانت الست ذكية تحضر لها الغداء والعشاء في موعديهما، بينما انشغلت هي بتفريغ حقيبتها وتنظيم خزانة ملابسها. أعادت ترتيب الغرفة قليلًا لتناسب ذوقها، لكنها، في العمق، كانت تعيد ترتيب أفكارها. تخيّلت لقاءها بالأطفال، وتفكّرت في حجم المسؤولية التي أُلقيت على عاتقها. فمع ستة عشر طفلًا وطفلة، لا يبدو الأمر سهلًا على الإطلاق.

تقلبت على سريرها الجديد والمريح، وهمست مُفكّرة:

"ستة عشر طفلًا... هذا عدد كبير فعلًا."

كانت لا تزال مذهولة من تقلّبات القدر. فمنذ أسبوعين فقط، كانت قد حسمت أمرها بعد الاستقالة، ورسمت ملامح حياة جديدة لطالما حلمت بها. كانت تمتلك الكثير من الأحلام التي راودتها طويلًا، وسعت إلى تحقيقها بشغف. وعندما خطَت أولى خطواتها في ذلك الطريق، جاءها ذلك الاتصال القدري من مدير المستشفى، الدكتور "نوفل"، الذي عارض استقالتها بشدّة، بل ودبّر لمنعها من المضي فيها. ويبدو أنه نجح، بالفعل.

استرجعت كلمات الدكتور نوفل في ذاكرتها:

"سالي، أنتِ تلميذة قديرة، والأهم من ذلك، ابنة عزيزة. أنا فقط أحاول أن أجنّبك الانحراف عن الطريق. أنتِ مستقبل طبيبة ممتازة. لا يهم إن مشيتِ ببطء، أو تعثّرتِ، طالما لم تضيعي الطريق. وهذا، بصفتي رئيسك، هو واجبي: أن أوجّهك وأساعدك، وأبعدك عن القرارات المتهوّرة."

في الحقيقة، لم ترَ سالي يومًا أن استقالتها كانت قرارًا متهورًا، بل على العكس، اعتبرته أهم وأصدق قرار اتخذته في حياتها، وتحمّست له كثيرًا. أما الآن، فقد تبدّل كل شيء. لا تدري كيف ستسير الأمور، ولا كيف سيكون شكل مستقبلها، خاصّة أنها لم تبتعد تمامًا عن المسار المهني الذي كانت قد قررت بثقة مغادرته. لكنها، في قرارة نفسها، شعرت بشيء من الأمل. ربما ما كانت تحتاجه حقًا هو تغيير البيئة. ربما كانت بحاجة إلى ممارسة مهنتها بأسلوب مختلف عما اعتادت عليه.

فرصة جديدة أطلّت في الأفق. وإن راقتها، أكملت؛ وإن لم تعجبها، انسحبت ببساطة. شهر واحد فقط، وكل شيء سيتّضح. ولكن، للأسف، لا يزال الخوف حاضرًا، والتوتّر قائمًا، والأرق يرافقها كظلّ ثقيل. تغيّرت حياتها، لكنها ما زالت ملتصقة بتلك المشاعر السلبية، كما يلتصق الفأر بالمصيدة.

نفضت أفكارها، وتقلبت على سريرها مُتنهدة، ثم التقطت هاتفها واتصلت بوالدتها. لم تمضِ ثانيتان حتى جاءها الصوت المتلهّف، فوالدتها كانت أكثر من شجعها على قبول عرض الدكتور "نوفل":

"سالي، كيف حالكِ؟! اتصلت بكِ مرارًا! كيف سارت الأمور؟ أخبريني!"

ابتسمت سالي على الحماس المُتفجّر من الهاتف.

قالت بهدوء:

"أعتذر، ماما، لم أنتبه للهاتف. الأمور بخير."

سألتها والدتها بلهفة:

"كيف هو المكان عندك؟"

تأملت سالي غرفتها بعين متفحّصة، ثم أجابت:

"المكان مختلف قليلًا عمّا تخيّلته، ولكنه جيد. سيدة المنزل لطيفة جدًّا."

سمعت في الجهة الأخرى زفرة ارتياح:

"هذا جيّد."

ساد صمت قصير، ثم قطعته والدتها قائلة:

"ابنتي، هل تشعرين بالراحة؟ لا تتردّدي في الاستقالة على الفور إن شعرتِ بعدم الراحة."

ردّت سالي بثقة:

"ماما، لا تقلقي. هذا يومي الأوّل فقط. اتفقتُ مع مديرة المنزل أن أتعايش مع الوضع لمدة شهر، فإن لم أعتد عليه، سأرحل فورًا."

سكتت والدتها لثوانٍ، ثم قالت بصوت خافت متردد:

"سالي."

"نعم؟"

قالت الأم بكلمات دافئة محمّلة بالعاطفة:

"حبيبتي، أيًّا يكن ما تفعلينه، وأيًّا يكن قراركِ فيما يخصّ مستقبلك، سأكون أول داعم لكِ. اعلمي دائمًا أن أمّك لن تتخلّى عنكِ أبدًا."

صُدمت سالي من هذه الكلمات التي صدرت من والدتها لأوّل مرّة. فلم تكن العلاقة العاطفية بينهما تُعبَّر عنها بمثل هذه المشاعر الصادقة، وهذا ما أثار استغرابها. لم تشعر بنفسها وهي تبتسم، ولكنها شعرت بدموع ميّتة في عينيها توشك على الاستيقاظ، فأغمضت عينيها لتمنعها.

قالت بصوت مرتجف:

"شكرًا ماما."

ردّت والدتها بحنان:

" اهتمي بنفسك وبصحتك، عزيزتي، ولا تخسري المزيد من الوزن."

ضحكت سالي بخفة:

"حسنًا، لا تقلقي."

جاء صوت أمها صارمًا هذه المرة:

"سالي، أنا جادّة في حديثي. لا أريد أن أراكِ في المرة القادمة ووزنكِ أقل من ستين كيلوغرامًا."

قالت سالي بمزاح مرح:

"سأخبرهم هنا أن يهتموا بغذائي حتى أصبح كالبقرة! ماما، أنا في التاسعة والعشرين، لقد كبرت على مثل هذا الكلام!"

ردّت والدتها بعناد واضح:

"ستون كيلو، هل تفهمين؟"

غيّرت سالي مجرى الحديث محاولةً التهرب من الجدال:

"حسنًا، أخبريني ما أخباركم؟"

ساد صمت لثوانٍ على الطرف الآخر من الخط، ثم قالت والدتها بصوت مبحوح:

"نحن بخير، لا تقلقي علينا. اهتمي فقط بنفسك."

"حقًا؟"

ردّت والدتها بسرعة:

"حقًا. اهتمي فقط بنفسك."

سألتها سالي:

"أين زينة؟"

"ليست هنا، ستحدّثك فور عودتها."

"لا بأس، سأتصل بها فيما بعد."

أنهت سالي المكالمة وهي تشعر بالخجل من هذا الموقف العاطفي غير المعتاد بين الأم وابنتها. بعد الكثير من الخلافات وسوء الفهم بينهما، ربما بدأت والدتها تُدرك الآن ما تمرّ به من تشتّت وضياع نفسي، وهذا خفّف قليلًا من خوفها وأحاطها ببعض الطمأنينة.

استرجعت المكالمة في ذهنها مرةً أخرى، فتدحرجت على السرير بخجل.

بعد ذلك، التقطت سالي كتابًا عن تاريخ الموسيقى، وأمضت وقتها في قراءته حتى قاطعها ضجيج الأطفال في الخارج، فقالت برهبة:

"يبدو أنهم عادوا."

***

في غرفة الطعام الكبيرة، جلس خمسة عشر ولد وبنت، أكبرهم حسن، البالغ من العمر ستة عشر عامًا، وأصغرهم ماريا، التي لم تُكمل عامًا. كان الأطفال يثيرون الشغب مع إخوتهم الأكبر سنًّا، وكانت أصواتهم عالية، تختلط بأصوات الملاعق والأطباق والتذمّر والضحك والأحاديث الجانبية.

فقاطعتهم السيدة أنيسة، وهي تضرب بكفّها على الطاولة لينتبه إليها الجميع:

"يا أولاد، اهدأوا قليلًا! أريد أن أحدثكم في أمرٍ ما."

صمت الأولاد بسرعة، وبعد ثوانٍ من الهدوء، تأكدت السيدة أنيسة من أنّ الجميع يُصغي إليها، فقالت مُعلنة:

"اليوم وصلت الطبيبة الجديدة، اسمها سالي."

فصرخت لارا بحماسة:

"لقد رأيتها! إنها مُخيفة وستعطينا جميعًا الحقن!"

قالت أنيسة، وهي تمسح ظهر الطفلة التي تجلس بجوارها:

"اصمتي يا لارا، أريد أن أكمل كلامي. أتمنّى منكم أن تعاملوها بصبرٍ وأدب."

تدخّل حسن، وملامحه يكسوها الملل والبرود:

"لا أعلم ما الحاجة لوجود طبيب؟ هذه رفاهية مبالغ فيها."

قالت السيدة أنيسة بصرامة:

"حسن، أنت الأكبر، فأحسن التصرّف. نحن نحتاج بالفعل إلى طبيبٍ مُقيم يتعامل بسرعة مع الحالات الطارئة. كما ترى، عليّ كان مُصابًا بالإنفلونزا، واحتجنا إلى طبيب بصفة مستمرة. أختكم الصغيرة ماريا ما زالت رضيعة، ومشاكلها الصحية كثيرة ومتكرّرة، كما أن عددكم كبير، لذا فنحن نحتاج إلى طبيب بشكلٍ ضروري."

قالت ليان عندئذٍ:

"أتمنى ألا تكون مثل الدكتورة نادية."

قالت أنيسة، وهي تتنهّد:

"ما زالت شابة صغيرة، أعتقد أنكم ستتوافقون معها."

قالت فرح، وهي تعبث بهاتفها وتسند خدها بقبضتها، وعلى يدها سوار مصنوع من الصوف:

"جميعهم في النهاية أطباء."

قالت لارا بصوت مرتعب:

"إنها فظيعة يا فرح! لقد رأيت الحقنة!"

ردّت عليها سارة:

"لا يا لارا، لم يكن معها حقنة."

أغمضت أنيسة عينيها بيأسٍ للحظات، ثم قالت:

"كفاكم تذمّرًا يا أطفال، ستتعرّفون عليها قريبًا، وستُدركون كم هي لطيفة جدًّا."

قالت نور بابتسامتها اللطيفة:

"ماما، لماذا لم تنضم إلينا على الغداء؟"

ردّت أنيسة عليها:

"أخبرتني أنّها مُتعبة وتُفضّل قضاء باقي اليوم بمفردها."

جاء ردّ حسن سريعًا:

"هذا أفضل. أتمنى ألا تنضم أبدًا."

تنهدت السيدة أنيسة، ثم تذكّرت ملاحظة، ووجّهت حديثها إلى رحيم:

"رحيم، بالمناسبة، الآنسة سالي تعزف على العود."

استبشرت ملامح رحيم بهذا الخبر:

"حقًّا؟ هل أخبرتها عنّي؟"

"لا، تحدّثنا فقط في التفاصيل المُهمة. طلبتُ منها فقط أن تُعلّمكم الموسيقى في أوقات فراغها، ولكنك يا رحيم ستنتظم على دروسك مع الأستاذ أحمد."

تدخّل حسن بعنف:

"نحن لم نطلب أن نتعلّم الموسيقى!"

نظرت إليه أنيسة بصرامة وقالت:

"ومن سيُجبركم على هذا؟ من يُريد التعلُّم، فليطلب من الآنسة سالي أن تُعلّمه."

قال فؤاد بكلماته المتلعثمة:

"أنا سأتعلّم يا ماما."

وانقاد وراءه "الفراخ الأربعة"، كلٌّ منهم يُريد أن يتعلّم أيضًا، لتتدخّل السيدة منى -أكبر المربيات سناً- وهي تغرف القليل من الأرز في طبق عبد الله:

"لا أرى حاجة لتعلُّم الموسيقى، وقت الأطفال لن يسمح بذلك من الأساس."

"كلامي واضح يا منى، من يُريد أن يتعلّم، فليطلب منها. أنا فقط أطرح الفكرة."

قالت نور بهدوء:

"أحب أن أُجرّب يا ماما."

نظر أحمد إلى نور باستغراب ولم يُعلّق، فأكملت الطفلة الكفيفة:

"أشعر أنني أُريد أن أُجرّب، ربّما أحبّ الأمر وأُمارسه كهواية، مثل رحيم."

ردّ رحيم على نور قائلاً بحماس:

"ستُحبين ذلك يا نور."

كانت فرح تُدقّق النظر في هاتفها، فصعد يحيى على الكرسي المجاور لها، وهو يتطفّل عليها ويُريد مشاركتها، ولكن فرح أبعدته برفق قائلة:

"يحيى، ابتعد، لا يجوز التطفّل على الآخرين."

ولكن الفتى نظر إلى الهاتف بفضول قائلاً:

"أريد أن ألعب مثلك."

"ولكنّي لا ألعب عليه يا يحيى، هيا ابتعد عنّي وأكمل طعامك."

دفعت فرح الفتى عنها، فكَوّر شفتيه بحزن وقال:

"ماما فرح ترفض أن ألعب على هاتفها."

نظرت أنيسة إلى فرح وقالت بصوت صارم:

"فرح، اتركي الهاتف قليلاً! وأنت يا يحيى، تعال هنا بجوار إخوتك لتتناول غداءك."

لم تستطع فرح مجادلة أمها، فأغلقت هاتفها وهي تنظر بعتاب إلى الفتى الصغير الخبيث الذي قاطع محادثتها المهمّة مع أصدقائها. غيّرت أميرة الموضوع وقالت:

"ماما، متى سيعود أبيه خالد؟"

تدخّلت فرح بسرعة، وردّت نيابةً عن أنيسة:

"تحدّثت معه بالأمس، كان مشغولًا للغاية، وأخبرني أنّه لا يعلم بعد متى سيعود هو ومحمود."

أكملت حديثها بتنهد:

"اشتقت إليه كثيرًا."

قالت أنيسة وملامحها يكسوها القلق:

"أعتقد أنّه سيعود في أي وقت خلال اليومين القادمين، هذا الولد الغامض لا يمنحني إجابات واضحة أبداً."

ردّت عليها أميرة بنبرة جادّة مُعاتبة:

"ماما، هو ليس ولد، أبيه خالد رجل كبير، لا يجوز أن نُقلّل منه بكلمة ولد."

ابتسمت السيدة أنيسة على عتاب أميرة الرزين والمشروع، والذي يحمل بين طيّاته لمساتٍ طفولية لذيذة. كان قلبها مغمورًا بالامتنان لله، وهي ترى ثمارها الصغيرة تنضج وتكبر أمام أنظارها لتُصبح بهذا الجمال الخلّاب، حتى أنها شعرت بالخوف أن تُصيب ما يخصها بالحسد، فقالت بابتسامة جميلة:

"هيا، أكملوا طعامكم يا أولاد."

***

اجتمع الأطفال مساءً في غرفة المعيشة، داعبت فرح أختها الصغيرة ماريا التي استيقظت لتوّها من نومها، وشدّت برفق وجنتيها المصبوغتين باللون الأحمر، وهي تقول:

"من منكم يستطيع تخمين المدة التي ستقضيها تلك الطبيبة هنا في المنزل؟"

تنهدت ليلي قائلةً:

"لا أعلم لماذا ماما وأبيه خالد مصرّان على وجود طبيبة معنا."

أخفضت الفتاة صوتها وهي تمثّل البكاء:

"يكفي علينا الست منى، لقد أصبحت لا تُطاق مؤخرًا."

عقّب حسن، الذي كان يلعب مع أحمد البلايستيشن، على كلام ليلي:

"إنها لا تكفّ عن التدخل في شؤوني."

قالت أميرة وهي تقلّب صفحة كتابها:

"من الأفضل أن تبقى معنا ولا ترحل، حتى لا يأتي غيرها ونستمر داخل تلك الحلقة المفرغة. كما أنّ ماما وأبيه لم يعد لديهم الوقت ولا الجهد الكافي لملاحقة مشاكلنا، وجود الطبيبة معنا هنا سيوفّر كثيرًا عليهم."

تساءلت ليان وهي ترتّب لعبة البازل مع عبد الله:

"لماذا أنتِ متضايقة من وجودها يا فرح؟ لا أعتقد أنّها قد تكون مثل الدكتورة نادية."

قالت فرح وهي ترفع ماريا وتُداعبها حتى تقهقه:

"ولماذا أفعل هذا؟ أنا فقط أتساءل، بما أنّ الدكتورة نادية لم تبقَ معنا خمسة شهور. لارا، أنتم رأيتموها كيف هيّ؟"

سألت فرح لارا التي كانت تجلس بجوار أحمد في انتظار دورها، فردّت عليها الطفلة الشاردة في اللعبة دون أن تلتفت:

"مُخيفة، كانت ستُعطينا حقنة."

قالتها وكأنّه نصٌّ حفظته من قبل، فعاتبها شقيقها التوأم الذي يقف مثلها في انتظار دوره:

"لارا تكذب يا فرح."

تنهدت فرح، وأدركت أنها لن تحصل على إجابة واضحة من أطفال لم يبلغوا الخامسة بعد. فقالت نور بهدوء:

"ماما قالت إنّها طبيبة صغيرة السن، ربما تكون ألطف من الدكتورة نادية، أليس كذلك؟"

عقّب أحمد على كلام نور، وهو يتمايل بجسده مع الذراع الخاص باللعبة:

"أنا أعتقد ذلك أيضًا."

قال عبد الله دون تفكير:

"وهل جرّبتِ أنتِ ورحيم قسوتها يا نور؟ نحن من تمّ معاملتنا بقسوة وإهمال، وليس أنتم."

صدمت تلك الكلمة جميع من في الغرفة، فصاح حسن بصوت خشن:

"عبد الله!"

قالت فرح وهي تضع ماريا على ساقيها وتنظر بغضب إلى عبد الله:

"عبد الله، التزم حدودك عند الكلام، وإلا سأخبر أبيه وماما، وأنت تعرف كيف يكون عقابهما لك."

اقشعرّ جسد ليلي وهي تقول:

"تلك الدكتورة كانت مخيفة... من الجيد أنها رحلت. لن أنسى لها يوم جلوسها فوق علي! أتمنى ألا تكون الطبيبة الجديدة مثلها، لن أتحمّل هذا!"

قال رحيم، الذي يتابع لعب أخويه:

"الدكتورة سالي موسيقية، وبالتأكيد هي شخص لطيف. أنا متحمّس جدًا لمقابلتها."

صرخت ليان على عبد الله، الذي فكك اللعبة بعد أن قطعا شوطًا كبيرًا فيها:

"عبد الله! لماذا فعلت هذا؟ سنضطر لإعادتها!"

نهض الفتى وهو يقول بمكر:

"افعليها بمفردك."

قال حسن، المشغول في اللعبة أمامه:

"دعيه يا ليان، فصباحه غدًا سيكون طويلًا جدًا."

نظر حسن إلى أخيه بخبث، فاحمرّ وجه عبد الله وخرج مسرعًا من غرفة المعيشة. سألت ليان حسن:

"ماذا تقصد يا حسن؟"

لم يرد حسن، واكتفى بالابتسامة، وهو يتذكر أمه وهي توبّخ الفتى على سرقته للكيك.

رفعت ماريا يديها السمينتين لتلتقط زجاجة الحليب الخاصة بها من يد فرح، حتى جاء لفرح إشعار على هاتفها. تفحّصته من الخارج، ثم نهضت بسرعة، وسلّمت الطفلة لحسن على عجل وهي تقول:

"حسن، أرجوك أطعم ماريا قبل أن تأتي الست منى!"

قهقهت الطفلة عندما رأت أخاها الكبير، الذي تأمّلها قليلًا بحيرة، ثم أعطاها مرادها اللذيذ، والذي شربته بنهم.

***

أمسى الليل، وأصوات الضجيج الصادرة من الطابق الأول ما زالت تغمر أجواء المكان. انتبهت سالي لها جيدًا، وهي تفكّر في مستقبلها في هذا المنزل ومع هؤلاء الأطفال. غرقت في أفكارها حتى خلدت إلى الفراش باكرًا، في التاسعة، وهي تدعو الله أن تنام بسلام، دون أن يبقيها الأرق مستيقظة حتى ساعات الفجر الأولى. أغمضت عينيها مُستعدة لليوم الجديد، والذي بالتأكيد سيكون حافلًا بالأحداث.

في التاسعة والنصف صباحًا من اليوم التالي، جلست سالي على سريرها، وحول عينيها هالات سوداء، وهي تتمتم بسخط:

"لم أستطع النوم بسبب تلك الشجرة المجنونة..."

نهضت من سريرها وفتحت النافذة لتتفقد الشجرة المعنيّة. كانت شجرة كبيرة، لم تستطع تحديد نوعها، بعض أغصانها تواجه نافذتها، هذه الأغصان منعتها من النوم بهناء. ظلّت تتقلب طوال الليل تحت أنغام تلك الشجرة، ولم تنم إلا عند الخامسة فجرًا.

حاولت التفكير بمنطقية، ولاحظت أن الشجرة ليست مُلتصقة مباشرةً بالنافذة إلى الحد الذي يُبقيها مستيقظة طوال الليل.

"ربما كانت الرياح..."

من الوارد، مع حلول الخريف، أن تهبّ الرياح. ولكن بهذه الشدة؟ وطوال الليل؟ الجو مُشرق ولا غبار فيه. فتحت هاتفها لتتفقد الأرصاد، فلم تجد خبرًا يُفيد بهبوب رياح في تلك الليلة. فزادت حيرتها.

ولكن الساعة في هاتفها جعلتها تنهض على عجل، لتغتسل وترتدي ملابسها. فاليوم ستتفقد عيادتها الصغيرة وتتعرف على الأولاد الخمسة عشر، بعد أن فوّتت أول فرصة على الفطور للتعرف عليهم.

خرجت سالي من غرفتها ومشت بهدوء، تتأمل المكان. الحوائط البيضاء النظيفة مُزينة بصور كثيرة للأطفال في لحظاتهم السعيدة. وقفت تتأمل الصور، وارتسمت ابتسامة جميلة على شفتيها. لكنها لاحظت أن معظم الصور يظهر فيها رجل... نفس الرجل يقاسم الأطفال في الكثير من اللحظات، حتى الأطفال في بعض الصور يقفون أو يتعلقون به بسعادة. خمّنت سالي أنه خالد، ابن السيدة أنيسة، الذي تحدّثت عنه بالأمس.

وبينما هي تتأمل تلك اللقطات السعيدة، قاطعها صوت:

"هذه أنتِ يا دكتورة؟"

التفتت لترى ذكية، تقف في الطرقة.

"صباح الخير ست ذكية."

"صباح الخير يا دكتورة. السيدة أنيسة أرسلتني لأطمئن عليكِ، الساعة الآن قاربت على العاشرة."

"أعتذر عن التأخير، أرجوكِ أرشديني لمكان السيدة أنيسة."

كانت السيدة أنيسة في مكتبها في الدور الأول. وقفت سالي أمام الباب، عدّلت من وقفتها، ثم طرقت الباب، ولم تدخل إلا عندما سمعت صوت السيدة يخالطه صوت أغنية لأم كلثوم:

"أدخلي يا دكتورة."

أغلقت سالي الباب وهي تقول:

"صباح الخير."

كانت أنيسة تجلس على أريكة مُريحة، وأمامها فنجان من القهوة، يخرج من هاتفها صوت الست العذب في مطلع أغنية "ذكريات"، تقول:

]ذكريات عبرت أفق خيالي... بارقًا يلمع في جنح الليالي،
نبهت قلبي من غفوته... وجلت لي ستر أيامي الخوالي.[

شعرت سالي وكأنها قطعت خلوتها الخاصة، خاصةً أن على وجه المرأة العجوز بقايا مشاعر خاصة، يبدو أنها كانت مُسترسلة وتائهة فيها. كافحت المرأة لتُخفي هذه المشاعر، ثم ابتسمت وخفضت صوت الراديو الصغير حتى صار كالهمس، واعتدلت في جلستها مُتحدّثة:

"اجلسي يا دكتورة."

جلست سالي، والمرأة تتابع حديثها:

"هذا الباب لا يطرقه إلا القليلون، ويبدو أنكِ صرتِ منهم. فكما تعلمين، خمسة عشر طفلًا لن يطرق جميعهم الباب."

ردّت سالي بابتسامة لطيفة:

"نحتاج مع الأطفال الكثير من الصبر وطول البال."

تنهدت المرأة قائلة:

"هذا صحيح... أخبريني، كيف كانت ليلتكِ الأولى؟"

ظهر الاستياء للحظات على وجه سالي حين تذكرت الشجرة، لكنها بدّلته باعتذار سريع:

"أعتذر حقًا على التأخير. كنتُ مُرهقة، ويبدو أنني استغرقت في النوم ولم أنتبه إلى الساعة."

"إطلاقًا، عزيزتي، لا تعتذري. الأيام الأولى ستكون هكذا نظرًا للتغيير المُفاجئ، وليس مطلوبًا منكِ الاستيقاظ أو النوم في موعد محدد. هل تفقدتِ مكتبكِ؟"

"ليس بعد."

وضعت أنيسة فنجان القهوة الذي فرغت منه، وقالت:

"حسنًا، تناولي فطوركِ أولًا، وذكية سترشدك بعدها إلى المكتب. ستجدين ملفات صحية للأطفال تستطيعين الاطلاع عليها، وإن أردتِ أن تتفقدي المكان وتأخذي جولة، فافعلي على راحتكِ. وبالنسبة للأطفال، فتوقيت عودتهم من المدرسة هو الساعة الثالثة مساءً، والغداء في الرابعة."

كانت سالي مُشتتة، تُصغي دون وعي لهمس أم كلثوم في الخلفية وهي تُكرر:

]كيف أنساها وقلبي لم يزل يسكن جنبي... إنها قصة حبي[.

لاحظتها السيدة أنيسة، ورفعت حاجبيها مُتسائلة:

"ألا تُحبينها أنتِ أيضًا؟"

ردّت سالي بسرعة، تنفي عن نفسها هذه التهمة الشنيعة:

"على الإطلاق!"

ثم أكملت دفاعها عن نفسها بصدق:

"في الواقع، لم تكن تستهويني وأنا صغيرة. ولكن بعد ممارستي للموسيقى، تغيّر مزاجي الموسيقي، وصرتُ لا أستمتع إلا بالكلاسيكيات."

قالت أنيسة براحةٍ ظاهرة:

"كم أسعدني هذا. كما تعلمين، الأطفال والشباب هذه الأيام لا يشعرون بالراحة عند سماع هذه الأغاني، ولا يستسيغون حتى صوت أم كلثوم. أسمعها دائمًا وهم في الخارج."

اعتذرت سالي نيابةً عنهم بابتسامة خفيفة:

"هم معذورون. فالألحان والكلمات مُعقدة من وجهة نظرهم، ووقعها صعب على مسامعهم، خاصةً في زمن مثل هذا، لم نعد نتقيد بمعظم هذه الجمل الموسيقية أو المُصطلحات اللفظية. الشباب يحبون الأسرع والأسهل."

رفعت المرأة حاجبيها بإعجاب، وقالت:

"أنتِ محقة. لم أتوقع أنك ستُوضحين هذا الأمر بهذه الطريقة السلسة. من الواضح أنكِ موسيقية جيدة."

تنهدت أنيسة وأكملت:

"معظم الشباب هذه الأيام يفتقدون إلى العمق، وأنا ألاحظ فيكِ عمقًا خاصًا وجميلًا، يتلاءم مع ذوقي."

ابتسمت سالي بحرج لمدح السيدة، التي استأنفت كلامها بحماس:

"في الحقيقة، أنا مُتحمسة للاستماع إلى عزفك على العود. أنا شخص يحب الجلسات الموسيقية، وافتقدها هذه الأيام. لذلك، أتمنى ألا يكون لديكِ مانع، وتتحمليني كرفيقة، رغم أنني امرأة عجوز."

عدّلت الطبيبة الشابة جلستها غير المُرتاحة، وقالت بهدوء:

"لا مانع لديّ بالتأكيد، ولكنني لم أجلب العود الخاص بي معي."

ردت أنيسة ببساطة محببة:

"ليست بمشكلة كبيرة. لدينا هنا غرفة للموسيقى، إن أحببتِ أن تتفقديها، فأطلبي من ذكية أن تريها لك. لا أحد يدخلها هنا في المنزل غيري أنا ورحيم."

ظهرت إشراقة حقيقية على وجه سالي، وقالت:

"حسنًا، سأتفقدها في أقرب وقت."

أدركت سالي بفطنتها أن هذا هو ختام الحديث. ومن المهم، كما كانت تقول لها والدتها، أن يمتلك الإنسان حاسة التوقيت الصامت، فقالت وهي تنهض بهدوء:

"سأستأذن الآن، سيدتي."

ابتسمت المرأة بلطف ورفعت يدها إشارة وداع:

"حسنًا، تفضلي، عزيزتي."

كان حوارًا قصيرًا، نهضت بعده سالي تاركةً المرأة لحالها الذي كانت عليه قبل قليل. وما إن أوشكت على الخروج من الغرفة، حتى نادتها السيدة أنيسة:

"سالي."

التفتت لها، فابتسمت المرأة باعتذار لطيف:

"اسمحي لي أن أناديكِ سالي بين بعضنا البعض، فأنتِ في عمر أبنائي."

ابتسمت سالي ابتسامةً صادقة، وصلت لعينيها اللتين تقوستا برقة:

"لا بأس، سأكون أكثر راحة دون رسميات."

أومأت أنيسة برأسها موافقة، وقالت:

"هذا ما أردتُ قوله. لا أحب أن تشعري أنكِ في عمل رسمي. خذي راحتك في المنزل، وتجوّلي كما تشائين. لا تترددي في طلب ما تحتاجينه مني أو من ذكية. والعيادة ليست لزامًا عليكِ، هي فقط لحالات الطوارئ. وأتمنى أن تعاملي الأطفال أيضًا دون رسميات، حتى لا يشعروا بعدم الراحة."

أشارت سالي برأسها في هدوء:

"تمام."

ثم خرجت من الغرفة، بينما كان صوت أم كلثوم يعلو من خلفها بالتدريج:

]ذكريات داعبت فكري وظني... لست أدري أيها أقرب مني،

هي في سمعي على طول المدى... نغمٌ ينساب في لحن أغنى،

بين شدو وحنين وبكاءٍ وأنين... كيف أنساها وسمعي لم يزل يذكر دمعي.[

وبدأت سالي جولتها في المنزل، وهي تلقي التحية من حين إلى آخر على أمّ بديلة، خادمة، أو عامل. كانت الأجواء حيوية جداً في المكان، وهذا ما أحبّته.

تفقدت القاعتين الرئيسيتين في المنزل: القاعة التي تم استقبالها فيها والمخصصة للضيوف، وأخرى منفصلة عنها، لا تحتوي على الكثير من الأثاث، ويتوسطها نافورة شبيهة تماماً بتلك التي رأتها في الحديقة، ولكنها أصغر قليلاً. كانت سالي في حيرة من وجود نافورة ماء داخل المنزل، لكن الفكرة أعجبتها. ظلت تتأملها قليلاً، منبهرة بجمالها الأخّاذ، خاصةً عندما تتسلل أشعة الشمس من النوافذ وتنعكس على سطح الماء كما في الخارج.

لم تمكث سالي طويلاً في القاعة وغادرتها، تبحث عن وجهتها التالية: المطبخ. كانت معدتها تتلوى من الجوع الشديد، فهي لم تأكل منذ التاسعة مساءً، وقد أصبحت الآن العاشرة والنصف صباحاً.

عثرت على قاعة الطعام وتجولت فيها. كانت كبيرة جداً، أنيقة، ومنفصلة عن المطبخ الفعلي. تجولت حول طاولة الطعام الطويلة والواسعة، والتي يمكنها استيعاب عدد كبير من الأفراد. حاولت سالي أن تقدّر طولها، فخمنت:

"خمسة أو ستة أمتار مثلاً؟ إنها ليست طاولة بل مائدة طعام."

همست لنفسها وهي تلمس سطحها:

"بالتأكيد، منزل كهذا يليق به مثل هذه القاعة وهذه المائدة."

كان في المطبخ ثلاث نوافذ كبيرة تطل على الحديقة. وقفت سالي تتأمل من خلالها الدفيئة الزجاجية التي أثارت شغفها، خاصةً أنها المرة الأولى التي ترى فيها دفيئة في حياتها.

وبينما كانت على هذا الحال، قطع تأملها صوت خطوات قادمة من المطبخ. التفتت لترى فتاة شابة تدندن، تمسك بين يديها طبقاً مليئاً بالفاكهة، يبدو أنه قد تم غسله لتوه.

تفاجأت الفتاة فور رؤيتها للدخيلة الواقفة في منتصف قاعة الطعام، فسارعت سالي بالكلام:

"أعتذر، يبدو أنني فاجأتك. أنا الدكتورة سالي."

تحولت تعابير الفتاة من الدهشة إلى الترحيب، وقالت بلطف:

"صباح الخير يا دكتورة، لقد أخبرتني عمتي عنك."

ثم نادت بصوت عالٍ:

"عمتي ذكية! تعالي!"

جاءت المرأة على الفور، ومعها فتاة شابة أخرى، يبدو أن النداء قد فاجأهما أيضاً.

"آه، هذا أنتِ يا دكتورة! ارتاحي هنا، وفطورك سيكون جاهزاً على الفور. إسراء وندى، بنات أخي، تُساعدانني هنا في المطبخ."

رحبت سالي بابتسامة لطيفة، وقالت:

"مرحباً، كيف حالكم؟"

بدأت الفتاتان تثرثران مع سالي، بينما كانت عمّتهما تُجهّز الفطور. لاحظت سالي أنهما جميلتان كعمّتهما، وخفيفتا الظل، واستمتعت بثرثرتهما التي اعتادت مثلها أثناء عملها في الاستقبال مع أهالي الأطفال؛ فقد صارت لديها ملكة الاسترسال والتوافق في الحديث معهم.

حضّرت لها ذكية الفطور، الذي اكتفت فيه سالي ببعض الجبن والطماطم والخبز البلدي، وبجواره الشاي بالحليب الذي طلبته بامتنان، وبالطبع الكيك الذي كان متوفراً اليوم.

قالت الست ذكية بابتسامة مرحة وهي تقدمه لسالي:

"هذا الكيك من صنع عبدالله، نهض في السادسة صباحاً مشكوراً ليساعدني في خبزه."

نظرت سالي إليها وهي لا تفهم، لكن كان هناك سؤال مُلحّ يشغلها أكثر، فسألت ذكية التي كانت تُغلق إحدى النوافذ:

"ست ذكية، لمن هذا المنزل؟"

التفتت لها ذكية بحيرة، فقالت سالي بسرعة:

"أقصد... هل هناك راعٍ للمكان؟"

بدت ذكية مترددة أمام السؤال المفاجئ، ثم قالت بعد لحظة صمت:

"هذا المنزل ملك للست أنيسة ومستر خالد، لا راعٍ له غيرهم."

هذه المرة، كانت سالي هي من ارتسمت الحيرة على وجهها، لكنها آثرت الصمت حتى لا تبدو فضولية أو متطفلة، وكتمت السؤال الذي ظل يدور في ذهنها:

'مستر خالد؟ من هو؟ أقصد، ما هي صفته؟'

كان عقلها يربط الصور التي رأتها على الحائط في الطابق العلوي بذلك الرجل. فتدخلت ندى هامسة:

"ألم تقابلي مستر خالد؟"

فنهرتها إسراء:

"كيف هذا وهو في رحلة عمل!"

تجاهلت ندى شقيقتها، وقالت وهي توجّه كلامها لسالي:

"مستر خالد هو ابن الست أنيسة، وهو الأكبر بين الأولاد."

أكملت ندى حديثها بعد لحظات:

"لا أعلم... ولكني أخاف منه، ولا أحب التعامل معه. كما أنه قليل الكلام، ولا يرد على أغلب الحديث الموجّه له."

تدخلت إسراء على الفور:

"لا تستمعي لهذا الهراء يا دكتورة، مستر خالد رجل محترم جداً. هو فقط شخص عملي ولا يُحب الكلام الكثير."

سألتهما سالي بصوت هامس حتى لا تسمعها ذكية:

"ما هي وظيفته؟"

قالت ندى بنبرة فيها شيء من الحسد:

"مهندس معماري. لديه شركة معمارية، ومصنع للألعاب، ومشاريع أخرى."

سألت سالي بفضول:

"هل يقطن هنا مع الأطفال؟"

تدخلت إسراء مجيبة:

"الطابق الثالث يخص مستر خالد، وأحياناً يعتزل في الملحق."

رفعت سالي حاجبيها وكأنها حلّت لغزًا:

"آه، ذلك الملحق الصغير؟ اعتقدت أنه يخص الحراس!"

صححت لها إسراء المعلومة:

"لا، الحراس يبيتون في الملحق بجوار البوابة."

كانت سالي قد كوّنت فكرة عامة عن هذا المكان وأصحابه من خلال أحاديث ندى وإسراء، لكن فضولها انصبّ تحديدًا على ذلك الرجل الذي يُدعى خالد. ورغم أنها لم تكن في العادة فضولية، ولم تعتد التطفل على شؤون الآخرين، لكن طبيعة هذا المنزل الغريبة كانت كفيلة بإثارة فضول أي شخص، حتى هي.

بعد الفطور الخفيف، قادتها ذكية إلى مكتبها أو ما يشبه العيادة. تفقدته باهتمام، كان فيه سرير كشف، ودولاب للإسعافات الأولية، وآخر للأدوية الشائعة، وأدوات جراحة بسيطة في حالة التعرض للجروح. بدا المكان كعيادة استقبال بسيطة، لكنه أكثر أناقة وراحة.

أحبت سالي المكتب، وأعادت ترتيبه كما يحلو لها. وبعد قليل من العمل، جلست أخيرًا على كرسيها تتنهد، وتتأمل ما يحيط بها. لفتت الأدراج انتباهها، ففتحَتها بدافع الاستكشاف، ووجدت بداخلها ملفات الأطفال الصحية، فراحت تتصفحها باهتمام.

كان أول ملف لفتى يُدعى حسن، عمره 16 عاماً، ويبدو أنه أكبرهم. ثم فرح (16)، أحمد (15)، نور (14) كفيفة، رحيم (12) مصاب بالشلل ولا يستطيع المشي، أميرة (12)، ليلى (10)، ليان (8)، عبدالله (8)، علي (5)، لارا (4)، فؤاد (4)، سارة (4)، يحيى (3)، ماريا (10 شهور).

كانت أعمار الأطفال مختلفة، مما يعني أنها تحتاج إلى قدر كبير من الصبر والهدوء لتتعامل معهم بحرفية. خاصة أن التعامل لن يكون فقط على المستوى المهني، بل أيضاً على المستوى الشخصي، في أغلب الأوقات، لأنها ستُقيم في المنزل بشكل دائم على الأقل لمدة شهر.

هذا العدد الكبير جعلها تتوتر، فوضعت يدها على بطنها بعدم راحة. وبينما هي مُستغرقة في تصفح الملفات الطبية، شعرت بصوت صادر من وراء الباب الذي لم تُغلقه تماماً. حافظت سالي على ثباتها، لكنها نظرت بطرف عينها، فرأت رأساً صغيرة تمتد من وراء الباب، ولمحت الشعر البني الناعم الذي أعجبت به بالأمس.

كان هناك مُتلصص ماكر يراقبها. حاولت أن تكتم ضحكتها حتى لا تُنبهه أنه تم الإمساك به، فظلت تراجع الأوراق بين يديها، وعيناها تتابعان الموقف باستمرار. كانت تشعر بنفاد الصبر يكاد ينفجر من وراء الباب، لكنها حافظت على هدوئها، تراقب الوضع بصمت.

حتى فُتح الباب باندفاع، وسقط المتطفلون الأربعة الصغار فوق بعضهم البعض. نهضت "لارا" وهي تنفض الغبار عن فستانها، صارخة:

"أيها الأغبياء، لقد كُشفنا! الدكتورة ستُعطينا الحقنة!"

وضعت يدها على ظهرها وهي تقول آخر جملة، فصرخ توأمها فؤاد في وجهها:

"أنتِ من دفعنا، أيتها الغبية!"

قالت سارة وهي تخلي مسؤوليتها:

"أنا لم أفعل شيئًا، ولن آخذ الحقنة."

ثار مزاج لارا الحاد، فصرخت مشيرة إلى يحيى الذي كان يقف هادئًا ويتأمل سالي:

"يحيى، أنت من دفعنا!"

كانت تلقي التهمة على أي أحد لتتهرب من المسؤولية، فدافع فؤاد عنه:

"أيتها الكاذبة!"

كان الشجار قائمًا كالحرب، حتى شعروا جميعًا بنظرات يحيى إلى سالي، فالتفتوا في وقت واحد.

"أهلًا يا أطفال."

رحبت بهم سالي بابتسامة وهي تكتم ضحكتها. لم يردّ أحد، فتابعت:

"يا تُرى، هل ضيوفي الأعزاء يحتاجون إلى شيء ما؟"

قال فؤاد وهو يغيظ شقيقته التوأم:

"نعم، لارا تحتاج إلى حقنة..."

فرفسته لارا بكوعها وأسكتته على الفور:

"ماما أخبرتنا أن نأتي ونعلمك أن إخوتنا سيصلون قريبًا."

تفقدت سالي ساعة يدها التي تقترب من الثالثة، وقالت:

"آه، حان الوقت."

تأملت العصابة الصغيرة التي تقف أمامها بغير صبر:

"حسنًا، ما رأيكم أن نذهب جميعًا معًا؟"

نظروا إلى بعضهم البعض في استشارة صامتة، فمدت كفها إليهم:

"من يريد أن يمسك بيدي؟"

بعد ثوانٍ من التفكير، مدّ يحيى يده بجرأة وقبض على كفها بقوته الصغيرة، فتشجع فؤاد وأمسك بالأخرى.

في قاعة الجلوس، اجتمعت السيدة أنيسة التي تحمل الرضيعة النائمة ماريا، وتسعة أولاد عادوا للتو من مدرستهم، في انتظار الترحيب بالضيف الجديد. كان الجو مشوبًا بالملل، وعدم الاكتراث بالحدث، هذا غير النقاشات الجانبية الدائرة بينهم.

قاطعهم دخول سيدة شابة مُبتسمة تُحيط بها العصابة الصغيرة المكونة من إخوتهم الأربعة. كان يحيى يمسك بإحدى يديها، ولارا التي يبدو أنّ لها رأيًا آخر فيمن يستحق الإمساك بكف الطبيبة الجديدة، وبجوارها فؤاد الذي تسيل الدموع من عينيه بسبب عنف توأمه، وسارة.

ركض فؤاد إلى أحد إخوته الكبار فور رؤيته، وهو يبكي شاكيًا له سطوة أخته عليه.

لاحظت سالي تفاوت الأعمار: كانوا خمسة صبية من بينهم علي، وخمس فتيات، بالإضافة إلى هؤلاء الأطفال الأربعة، وكانت هناك الرضيعة ماريا، إذًا عددهم خمسة عشر.

كان من بين الأطفال فتى يجلس على كرسي متحرك.

"هذا بالتأكيد رحيم."

حاولت أن تميز نور من بينهم، ولكنها لم تفلح. كان الأطفال هادئين، ولم يصدر عنهم ما يشير إلى العداء. لكن هناك شيئًا من عدم الاهتمام واللامبالاة في الأجواء.

سقفت السيدة أنيسة لتنبه الحضور:

"انتبهوا جميعًا يا أولاد، أعرّفكم على الدكتورة سالي. من اليوم ستكون أحد أفراد أسرتنا. رحّبوا بها."

فكّرت سالي بعناد:

'لمدة شهر تجريبي.'

عمّ الهدوء المكان، ولم تسمع كلمة ترحيب واحدة. فبررت لنفسها، وهي تشعر بالإحراج:

'بالتأكيد بعد المدرسة لا حماس ولا طاقة لديهم للترحيب بالطبيبة الجديدة.'

لكن أنيسة لم تقبل هذا الصمت، فتحدثت بصوت صارم:

"عرّفوا عن أنفسكم!"

تقدمت فتاة يبدو أنها في عمر المراهقة، رشيقة، تشد شعرها البني الطويل إلى ذيل حصان، تحمل ابتسامة لطيفة ممزوجة ببعض الدهاء، وسلّمت على سالي:

"أهلًا بكِ يا دكتورة. اسمي فرح. سأعرّفك على باقي إخوتي، فكما ترين، هم يشعرون بالخجل قليلًا، لذا سأتولى أنا هذه المهمة بسعادة. هذا حسن، أخونا الكبير، ثم لدينا هنا أحمد، ونور."

أومأ حسن وأحمد لها بابتسامة مهذبة فيها شيء من الملل وعدم الصبر، وابتسمت نور ابتسامة شاردة وصلت إلى عينيها.

أكملت فرح:

"ثم رحيم."

وأشارت إلى الفتى الذي يجلس على كرسي متحرك، وعلى وجهه ابتسامة ودودة مشعة بالطاقة.

"وهذه أميرة، ثم ليلى، وليان، وعبد الله، وأختنا الصغيرة ماريا، والتي تأخذ الآن قيلولتها. وبالنظر إليهم..."

أشارت إلى إخوتها الصغار المتجمعين حول سالي وأكملت بابتسامة مرحة:

"يبدو أنكِ بالفعل تعرفتِ عليهم."

أحبت سالي فرح ونبرة صوتها الجميلة؛ كان حديثها خفيفًا وظريفًا يقع على الأذن كالموسيقى. فردّت:

"أهلًا بكم، أنا سالي، طبيبتكم الجديدة. سعيدة جدًا بالتعرّف عليكم، وأتمنى أن نقضي وقتًا رائعًا معًا."

"ولكنكِ أصغر من تلك العجوز الشمطاء التي كانت قبلكِ."

حذّرتها أنيسة بصرامة:

"فرح!"

أشارت فرح بكفّيها دفاعًا عن نفسها:

"حسنًا، أنا أعتذر، لا تنفعلي."

تأملت سالي وجوه الأولاد التسعة، وحاولت أن تراجع أسماؤهم الكثيرة؛ بالكاد استطاعت تذكّرها. وبينما كانت منشغلة في مراجعة الأسماء، همست لها فرح:

"هل أستطيع مناداتكِ باسمكِ؟ أقصد، أن نتعامل دون رسميات؟"

همست سالي وهي تقابل ابتسامتها الماكرة بواحدة مثلها:

"خذي راحتكِ... في هذا الأمر فقط."

تقدّم رحيم وهو يحرك عجلات كرسيه المتحرك، وعلى وجهه ابتسامة لطيفة:

"أنا رحيم."

أمسكت سالي كفه الممدود وصافحته:

"أهلًا يا رحيم، أنا سالي. كيف حالك؟"

قال الفتى بسرعة:

"أنا بخير. سمعت من ماما أنكِ تحبين الموسيقى، أنا أيضًا أتعلم الكمان."

تحمّست سالي:

"حقًا؟ أحب أن أرى موهبتك قريبًا."

"لن أُضايقك؟ فإخوتي يتضايقون من صوته."

"بالعكس، أنا متحمسة جدًا لأستمع إلى عزفك."

قاطعت حديثهم ذكية في وسط التجمع الصاخب، وقالت بصوت عال:

"يا أولاد، الغداء سيكون جاهزًا بعد دقائق. اصعدوا وغيّروا ملابسكم، وليبلغ أحدكم المربيات والسيدة منى."

قال حسن بصوت منخفض:

"أنا سأبلغهم."

كان حسن مراهقًا قويّ البنية مقارنةً بأقرانه، وأول من غادر المكان، ثم تسلل الأولاد واحدًا تلو الآخر، واصطحبوا معهم إخوتهم الصغار إلى المربيات، كي يبدّلوا ملابسهم بعد يومٍ طويل من اللعب.

امتلأ المنزل بأصواتهم العالية، ودبّت فيه الحيوية مجددًا بعد عودتهم من المدرسة. صعدت سالي أيضًا إلى غرفتها لترتدي ملابس أكثر راحة. وبعد نصف ساعة، اجتمع الجميع على طاولة الطعام. جلست السيّدة أنيسة في مكانها المعتاد على رأس الطاولة، بينما ساد الضجيج الغرفة، وتخبطت الأطباق والملاعق مُحدثة أصواتًا عالية.

كانت أصناف الطعام كثيرة ومتنوعة، تفوح منها رائحة شهية ملأت القاعة. أخذت سالي على عاتقها عدّ الأصناف: المكرونة بصوص البشاميل، وصينية الرقاق باللحم المفروم، والملوخية، بالإضافة إلى العديد من الأطباق الأخرى التي زينت الطاولة كأنها وليمة حقيقية.

بدأت ذكية، بصحبة ابنتي أخيها، توزيع الطعام في الأطباق. وراح الصغار يتناولونه بحماس، ملوّثين ملابسهم التي لم يمر وقت طويل على تغييرها. حاولت المربيات جاهدات كبح جماحهم، لكنهن فشلن فشلًا ذريعًا.

جلست سالي إلى جوار نور، فتاة هادئة، شاردة، ولكنها لطيفة. انتظرت نور بهدوء أن تملأ ذكية طبقها، ثم شكرتها بتهذيب. كان أحمد يجلس إلى الجهة الأخرى منها، يمسك يدها ويوجّهها أحيانًا، وأحيانًا أخرى يهمس في أذنها فتومئ برأسها في صمت.

راقبت سالي الأولاد من بعيد، دون أن يلاحظها أحد، إلى أن تحدثت أنيسة بصوت عالٍ، قائلة:

"كيف كان يومكم؟"

أجابت ليلى بحماس:

"كانت هناك مسابقة رسم اليوم، وقد حصلتُ على المركز الأول!"

قالت أنيسة:

"برافو! وماذا كان موضوعها؟"

"الكائنات الفضائية."

سألتها ليان بدهشة:

"وكيف رسمتِ كائنات فضائية؟ هذا موضوع صعب جدًّا!"

ردّت ليلى بفخر:

"لحسن حظي، كنتُ قد شاهدتُ برنامجًا على التلفاز عن الكائنات الفضائية، ومع قليل من الخيال، رسمتُ أجمل لوحة بين المتسابقين."

تحدثت أميرة بصوت رزين وهي ترفع نظّارتها:

"أتذكرين ذلك الوثائقي الذي رغبتِ في استبداله بمسلسل؟"

قالت ليلى، مشيرة إلى نفسها ثم إلى أختها:

"أنا شاهدتُ معك الوثائقي، وأنتِ شاهدتِ معي المسلسل، وقد أعجبتك قصته فلا تُنكري. إذًا نحن متعادلتان."

قالت أميرة بكبرياء، وهي تعدّل نظّارتها:

"أعجبني لأنه مأخوذ عن رواية قرأتها من قبل."

سألتها أنيسة باهتمام:

"ما هي الرواية؟"

"البؤساء."

فكرت أنيسة للحظات، ثم سألتها:

"هل هي لفيكتور هوجو؟"

أجابت أميرة بعد أن ابتلعت لقمتها:

"نعم."

قالت أنيسة مبتسمة:

"أتذكر أنني قرأتها وأنا شابة. تلك القصة مأساوية حقًّا. هل هي معك؟"

"نعم، تستطيعين أن تستعيريها مني يا ماما."

ابتسمت أنيسة للطفلة الجادة، ثم التفتت إلى عبد الله الذي كان يتسلى بتقليب طعامه دون أن يأكل، ويبدو عليه السأم:

"عبد الله، لماذا لا تأكل؟"

تدخل أحمد ممازحًا أخاه الجالس قبالته:

"ربما يخزن الطعام لأصدقائه العصافير."

نظر إليه عبد الله بشراسة:

"اخرس!"

تذمرت أنيسة:

"أحمد، لا تستفزه. وعبد الله، لا تتحدث هكذا مع أخيك الأكبر."

قال أحمد بأدب:

"أعتذر."

ثم تذكر شيئًا وقال بلهفة:

"ماما، تم تحديد موعد بطولة الجمهورية للملاكمة، ألم تخبريها يا حسن؟"

سألت أنيسة حسن:

"هل قدمت أوراقك؟"

رد حسن بهدوء وهو يأكل دون أن ينظر إليها:

"لن أُقدِّم."

تدخلت السيدة منى بحدة:

"لماذا؟!"

توجهت جميع الأنظار إليها باستغراب، فتوتّرت وتحدثت متلعثمة:

"أقصد... لماذا؟ وحسن كان متحمسًا لهذه البطولة!"

رد حسن:

"لم أعد متحمسًا الآن. أحمد يستطيع التقديم فيها."

قال أحمد:

"ولكنني لست مثلك يا حسن، أنت أكثر مهارة مني."

تدخلت لارا بطفولة مُتحمسة:

"أخي حسن أقوى واحد في العالم!"

رد فؤاد، مُقتنعًا بكلام شقيقته:

"سيحصل على المركز الأول!"

قال حسن موجهًا كلامه لأحمد:

"سأساعدك في التمرين."

رد أحمد، وقد علت صوته نبرة توسل:

"لا أريد مساعدتك، أريدك أنتـ..."

فقاطعتهم السيدة أنيسة وهي تصفق بيديها:

"حسنًا، اصمتوا الآن ولننتهِ من الطعام، ونناقش هذا لاحقًا."

كانت سالي تُنصت إلى حديث الأطفال باستمتاع، غير أنّ ألمًا في معدتها شغلها عن كل شيء. لم تقترب من طبقها، رغم امتلاء المائدة بالأصناف التي تحبها. لم تتحمل سوى لقمتين، ثم اكتفت بهما. لاحظت السيدة أنيسة ذلك، فسألتها باهتمام:

"ألم يعجبك طعامنا يا آنسة سالي؟ أراك بالكاد تأكلين."

ابتسمت سالي باعتذار:

"لا مشكلة في الطعام، ولكن..."

وضعت يدها على بطنها دون أن يلاحظها أحد، وأكملت:

"أعتقد أنه ليست لديّ شهية الآن."

صاح فؤاد بنشاط، وهو يرفع شوكته المغروسة في قطعة دجاج:

"الطعام لذيذ!"

قالت له السيدة منى بصرامة:

"فؤاد، لا تضع هذه الكمية الكبيرة في فمك! وكُل ببطء. وأنت يا يحيى، لا تضع الطعام على الطاولة!"

ابتسم الفتى الصغير بمكر، ثم أخذ قطعة من الدجاج الممزوج بالصلصة ووضعها على الطاولة، وهو ينظر للسيدة منى بابتسامة ماكرة متحدّية. لكنه نال حظه من التوبيخ، وتلقى صفعة صغيرة على ظهر يده.

بعد الطعام، بدت القاعة وكأنها مرت بإعصار مدمر. الأطفال المفعمون بالحيوية بعثروا كل شيء. ولكن، تدخلت ذكية بسرعة مع ابنتي أخيها، وتداركوا الموقف، فعادت القاعة إلى حالتها الأصلية: نظيفة، مرتبة، لامعة، ولا ذرة غبار فيها.

جلست سالي مع السيدة أنيسة والسيدة منى، بينما تفرّق الأطفال؛ منهم من صعد إلى غرفته، ومنهم من ذهب إلى غرفة الدراسة. لكن ألم بطنها لم يهدأ، بل تفاقم بمرور الوقت. تحاملت على نفسها، وشربت الشاي برفقة السيدتين أنيسة ومنى، سيدتان يفوق عمرهما عمرها بسنين كثيرة، مما جعلها تجلس على أهبة الاستعداد، تُنصت إلى الحوار الذي دار حول مشكلة حسن. وقد لاحظت أن السيدة منى مهتمة جدًا بالأمر:

"حاولي إقناعه بالتقديم في المسابقة. أنا متأكدة من أنه سيحصل على المركز الأول."

ارتشفت السيدة أنيسة رشفة من فنجان الشاي وتحدّثت براحة:

"أنتِ تعلمين كم هذا الفتى عنيد، وأنا لن أجبره على فعل ما لا يريده."

قالت منى بإلحاح:

"ربما مستر خالد يقنعه."

أجابت أنيسة بثقة:

"سأتحدّث مع خالد فور عودته، هو فقط من يستطيع إقناعه والتأثير عليه."

"لا تنسي أرجوكِ، أنا متأكدة أنه سيقنعه، فهو من دفعه منذ البداية لممارسة الجودو."

تنهدت أنيسة من إلحاح المرأة وقالت:

"سننتظر عودته، ونرى رأيه."

ثم تبدّلت ملامح وجهها إلى القلق وأضافت:

"ولكن... أنا قلقة عليه، لم يتصل بي هذا الولد منذ يومين."

قالت منى محاولة التخفيف من قلقها:

"أنتِ مفرطة القلق على مستر خالد، أكثر من باقي الأولاد، هو رجل بالغ الآن، وناجح جداً، فلا داعي لهذا القلق المفرط."

ابتسمت السيدة أنيسة بلطف، بينما كانت تفكر كم أن هذه المرأة جاهلة بما يربطها بهذا الولد الكبير.

كانت سالي تستمع بإنصات، وهي تحرّك كوب الشاي بين كفيها، محاولة نسيان ألم معدتها. فقطع تفكيرها صوت السيدة منى، التي وجّهت حديثها إليها فجأة:

"سمعتُ يا دكتورة أنكِ استقلتِ من الحكومة، هل لي أن أسألك عن السبب؟"

شعرت سالي وكأن صقرًا يلاحقها بعينيه الحادتين، فتململت في جلستها بسبب هذا السؤال المفاجئ الذي تكرهه بشدة. فكّرت للحظات، ثم تحدّثت، محاوِلةً إخفاء الألم عن ملامح وجهها:

"ليس لديّ سبب خاص لذلك، فقط... انتهى بي الحال بعدم الراحة، ثم الاستقالة."

كان ردّها مختصرًا، دون الدخول في تفاصيل لا طائل منها. لكن السيدة منى تأمّلتها بنظرة فاحصة، ثم سألتها بفضول فاق الحد:

"اعذريني يا دكتورة، ولكن... هل من المعقول أن يستقيل الإنسان من عمله كلما شعر بعدم الراحة، خاصة في سنك هذا؟"

شعرت سالي بعداوة خفية تشعّ من كلمات المرأة، ولم تفهم مصدرها. لكنها أجابت بنبرة رزينة:

"بالتأكيد لا، ولكن أظنّكِ تفهمين أنه ليس من الضروري أن تتماثل ردود أفعالنا واعتباراتنا، أليس كذلك؟ خاصة أننا لسنا متماثلين في العمر."

ابتسمت السيدة أنيسة على ردّ سالي، واكتفت برشفة أخرى من الشاي.

لكن منى لم تتراجع، واستمرت في أسئلتها الملحّة:

"وهل تعتقدين أن ظروف المكان هنا لن تكون مختلفة عن ظروف عملك في المستشفى؟"

'أنتِ مصرّة إذًا على استفزازي.'

قالتها سالي في نفسها، لكنها تمالكَت أعصابها وردّت بهدوء وثبات:

"لا أعلم، ولا أحاول التفكير في مثل هذه الأمور. فما زالت الحياة أمامي لمختلف التجارب."

تنهدت المرأة بلا مُبالاة:

"حسنًا، من المهم أن تكوني مرتاحة."

ابتسمت سالي:

"أنا كذلك بالفعل."

اتجهت أنظار أنيسة إلى الباب:

"ادخل يا رحيم."

دخل رحيم وهو يدفع كرسيه المتحرك، تعلو وجهه ابتسامة خجولة، وعلى قدميه يستقر كمانه الخاص، ثم قال لسالي:

"لا أريد أن أقاطعكم، ولكني جئت أسألك عن أوقات فراغك."

تفاجأت سالي من لطف الفتى، ففكرت قليلاً، ثم تحدثت:

"حسنًا، ما رأيك في مساء الغد بعد أن تنهي واجباتك؟ ولكن، أخبرني، ماذا ستحضر لي؟"

"ماذا تحبين أنت؟ شرقي أم غربي؟"

"هممم، أفضل الشرقي كبداية، ولكني سأحب أن تختار بنفسك."

انتفض الحماس في وجه رحيم قائلاً:

"حسنًا، سأجهز لك شيئًا سيعجبك."

"اتفقنا، وأنا سأستعير العود من غرفة الموسيقى، ربما نتوافق في شيء ما."

كانت سالي قد وصلت إلى حدّها، والألم أصبح لا يُطاق. استأذنت وصعدت إلى غرفتها، لكن استوقفتها الصور التي تأملتها في الصباح. ثم قاطعها صوت باب يُفتح من غرف الأولاد. كانت فرح، وقد تفاجأت برؤية سالي:

"دكتورة؟"

التفتت إليها سالي، ويداها تضغطان على بطنها بألم، فلاحظت فرح حالتها وسألتها بقلق:

"هل أنتِ بخير؟"

أجابت سالي وهي تحاول التماسك:

"نعم، لا تقلقي." ثم حولت نظرها إلى الصور المعلّقة على الجدار.

تابعتها فرح بنظرها، ثم ما لبثت أن أشرق وجهها بابتسامة:

"هذا أبيه خالد. لم تلتقيه بعد، فهو في رحلة عمل. ويبدو أن ماما لم تخبرك عنه."

قالت سالي:

"أخبرتني فقط أنه ابنها الأكبر."

وضعت فرح يدها برفق على كتف سالي وقالت:

"هممم... خالد هو أهم شخص هنا. هو أخونا الكبير وقائد هذا البيت."

ردّت سالي، وهي في حيرة، بصوت منخفض:

"أليست ماما أنيسة...؟"

قاطعتها فرح:

"ماما أنيسة هي الشخص الذي يدير هذا المكان، المدير التنفيذي بلغة رجال الأعمال. لكن خالد هو الرئيس، رجل هذا المنزل، وكل القرارات المصيرية ترجع إليه في النهاية، وهو ابن ماما الأول."

اشتد الألم على سالي فقطعت الحديث، رفعت ذراع فرح عن كتفها راكضة تجاه غرفتها وهي تقول:

"اعذريني يا فرح."

دخلت غرفتها واستلقت على سريرها، تحاول التنفس ببطء لتخفيف الألم الذي سببه لها القولون العصبي بعد يومين من التوتر المتواصل. بدأت تسترجع في ذهنها أحاديث ندى وإسراء، وكلمات فرح، وحتى ما قالته السيدة منى عن مستر خالد، الابن الأكبر للسيدة أنيسة... رجل يبدو أن له ثقلاً في هذا المنزل.

تأملت الساعة الموضوعة بجوار سريرها، كانت تقترب من الخامسة، فقررت أن تنام لمدة ساعة لعلّ ألم بطنها يزول. غير أن الألم لم يخفّ بحلول المساء. طرقت ليلى باب غرفتها لتُنبئها بموعد العشاء، فشعرت سالي بالحرج من الرفض، ونزلت لمشاركتهم الطاولة، لكنها لم تستطع تناول أي شيء. بعد انتهاء العشاء، سألتها السيدة أنيسة إن كانت تشعر بالمرض، فنفت سالي، واحتجّت بالرغبة في النوم مبكرًا، ثم صعدت إلى غرفتها.

ظلت تتقلب على سريرها حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل بسبب الألم، حتى ضاقت ذرعًا وقررت أن تنزل إلى العيادة لتبحث عن دواء يُسكن آلامها. فتحت باب غرفتها ومشت بهدوء حتى لا يسمعها أحد الأطفال ويستيقظ، لكنها تفاجأت بأن باب العيادة غير مغلق تمامًا، مما أثار استغرابها. تجاهلت الأمر، ودخلت تبحث في خزانة الأدوية حتى عثرت على مُسكّن، وهمست لنفسها:

"سيفي هذا بالغرض."

وبينما كانت تشرب الماء، شعرت بحركة في الخارج، فتسمرت لثوانٍ. ورغم أنها تخاف من مثل هذه المواقف، إلا أن فضولها لمعرفة مصدر الحركة غلب خوفها. أحيانًا، حين يكون الإنسان في قلب العاصفة، تدبّ فيه شجاعة مفاجئة تجعله ينسى خوفه ويتقدم.

خرجت من العيادة، وأخذت تتجول في المكان المظلم، حتى وصلت إلى باب قاعة النافورة، وكان الباب مفتوحًا قليلاً، تتسلل منه إضاءة خافتة. وقفت سالي خلف الباب، ونبضات قلبها تتسارع حتى شعرت أنها وصلت إلى طبلتي أذنيها. كان هناك شخص يجلس على حافة النافورة، فدققت النظر أكثر فأكثر، حتى فوجئت بهوية ذلك الشخص. كانت فرح، تركز نظرها على معصمها، بينما تمسك في يدها الأخرى شيئًا لامعًا. برد جسد سالي، وشحب وجهها، وأحسّت أن نبضاتها توقفت لثوانٍ فور إدراكها لما يحدث.

إنها... تقطع معصمها.

صرخت سالي بفزع:

"فرح!"

نهاية الفصل الثاني.

وتُستكمل القصة في الفصل القادمبإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل

***

أهلاً أعزائي القراء..

شكراً على صبركم

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصلتوقاعتكم للأحداث الجاية؟

***

اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق