الخميس، 5 سبتمبر 2024

رواية المنزل: الفصل السابع عشر - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل السابع عشر - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل السابع عشر

[رسالة واردة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: مجهول

في الواقع لست قارئ نهم، لذلك لا أفهم جيداً تأثير القراءة علينا من الأساس. بالمناسبة قمت بطباعة هذا الكتاب الذي رشحته لي، "التصور الابداعي" قرأت منه القليل، وأعتقد أنه كتاب مثير للاهتمام على الرغم من صغر حجمه، أحببت فكرته وتركيزه على استخدام الخيال بشكل إيجابي وواعي لتحقيق الأهداف والرغبات في الحياة. ولكن هل قراءة مثل هذا الكتاب وغيره من الكتب يساعد على التعافي من الاكتئاب؟ هذا سؤال لا أعرف إجابته. في الواقع لقد أخذ مني الاكتئاب كثيراً من أفكاري، وثباتي العقلي، حتى من حياتي الشخصية. في أوقات كثيرة أقف على الهاوية وأشعر بأن قدماي تأخذاني لأقفز، فربما أجد الخلاص في هذه الخطوة. أنا أعلم تماماً أن هذا تقليل من شأن حياتي، ولكن ما هو شأن حياتي؟ أنا شخص حياته بلا جدوى، بلا قيمة، وأحيانًا أشعر بأنني مجرد عبء على نفسي وعلى الآخرين. يبدو أن كل شيء ينهار من حولي، وأنني فقدت القدرة على رؤية أي ضوء في نهاية هذا النفق المظلم. لكنني أريد أن أكون صادقًا معك، هذه الأفكار التي تراودني قد تكون نتيجة هذا الاكتئاب القاسي الذي يأكل من داخلي. إن الألم الذي أشعر به حقيقي وقاسٍ، لكنني أحاول أن أتمسك بأي شيء يمكن أن يساعدني على البقاء. ربما تكون هذه الرسالة هي محاولة أخيرة لأقول لنفسي إن حياتي تستحق المحاولة. ربما يكون لدي هدف لم أكتشفه بعد، وقيمة لم أتمكن من رؤيتها في خضم هذا الظلام. قد تكون حياتي بلا قيمة في عيني الآن، لكنني أريد أن أؤمن بأن هذا الشعور ليس الحقيقة الكاملة. أريد أن أصدق أن هناك أملًا، حتى لو كان بعيدًا، وأن حياتي تستحق أن أبحث عن هذا الأمل وأتمسك به بكل ما أوتيت من قوة].

***


كانت فرح في غرفتها تتصفح هاتفها وهي تراقب اخوتها التوأم الصغار الذي سقطوا أخيراً في نوم عميق بعد شد وجذب طفولي انتهى بالنعاس، ثم النوم في أحضان بعضهم البعض. وبالطبع ليلى سقطت في النوم منذ ساعة. وضعت فرح هاتفها بجوارها واستعدت هي أيضاً للنوم، وما إن أغمضت عينيها سمعت طرقاً على باب غرفتها، استغربت الفتاة ونهضت من سريرها وهي تتساءل عن هوية الطارق. فتحت الباب لتجد أبيه خالد يقف أمامها. نظر خالد إليها بصراحة مباشرة، ومع ذلك شعرت الفتاة أن هناك بعض التردد في نظراته. سمعته يسأل:

"هل أزعجتك؟".

"لا أبيه، هل تحتاج إلى شيء؟".

"أردت فقط الاطمئنان عليكم".

جاء الرد عليها بطيء وغير مفهوم، مما زاد من حيرة فرح، فلم يكن في قاموسه أن يطرق عليهم الباب أو يدخل غرفهم، خاصةً في الليل. ردت فرح عليه ورأسها يميل بحيرة:

"نحن بخير يا أبيه، ولكنك لا تبدو كذلك، هل تريد أن تدخل؟".

نظر خالد إليها بتشتت شاعراً بالندم لإزعاجها في مثل هذا الوقت، وقال وهو يرى التوأم وليلى مستغرقين في النوم:

"لا أريد أن أزعج الأطفال النائمين".

أمسكته فرح من يده وسحبه وقالت وهي تهمس:

"أنت لا تزعجنا يا أبيه، هم نائمين بعمق، وأيضاً لن يستيقظوا أبداً، حتى لو صرخت بجوار أذنهم لمدة ساعات".

دخل خالد بقيادة فرح التي سحبته وأجبرته ليجلس على كرسٍ مريح، ثم جلست أمامه وقالت:

"أبيه هل أنت بخير، هل تريد أن نتحدث قليلاً؟".

نظر خالد إلى الفتاة المراهقة، وهو يشعر بالإعجاز، وتساءل، هل هذه هي فرح الطفلة الصغيرة الخائفة التي تبنوها منذ سنين. تأملها وهي يرى هذه الطفلة قد تحولت إلى آنسة صغيرة، جميلة، واعية لمن هم حولها. على الرغم من عمر فرح وظروفها، ولكنها كانت مسؤولة عن إخوتها الصغار الذين يشاركونها الغرفة، بعد أن عهدت إليها أنيسة برعايتهم يومياً حتى يخلدوا إلى نومهم، ولم تشتك الفتاة أبداً، بل كانت مسؤولة وعن جدارة. ابتسم خالد إلى فرح وقال:

"نعم أريد أن اتحدث معك".

رأى وجه الفتاة المراهقة يضيء وهي تقول:

"أنا منصتة إليك!".

تأنى خالد قبل أن يدخل في الموضوع الذي جاء على باله قبل ثواني:

"أنا قلق على نور، وأريد منك أن تساعديني".

تبدلت ملامح فرح إلى القلق، وقالت ووجهها يعبس:

"نور؟ ماذا بها؟".

"أعتقد أنه يتم التنمر عليها في المدرسة، أليست لديك فكرة عن ذلك؟".

نظرت فرح إليه وهي تشعر بالصدمة:

"نور يتم التنمر عليها؟ كيف هذا؟ هل هي من أخبرتك!".

تنهد خالد قائلاً:

"إذاً ليست لديك فكرة عن هذا الأمر. زملائها في الفصل يتنمرون عليها، ونور طلبت مني أن أسحب ملفها من المدرسة، وألا تذهب إلى المدرسة مرةً أخرى".

"سمعت من ماما أنك قد جئت إلى المدرسة بنفسك لتأخذها".

استطردت فرح بعد تفكير، وهي تشعر بالذنب:

"أبيه، أعتذر منك، فلم تكن لدي فكرة عن هذا الأمر".

"لا حاجة للاعتذار، ولكن ألم يكن أحمد مرافقاً دائماً لها؟".

"نعم، ولكن علاقتهم لم تكن على ما يرام الفترة الماضية".

نظرت فرح إليه وسألته باستغراب:

"أبيه، لماذا لم يحدث هذا مع رحيم؟ لم أسمع رحيم يشتك يوماً من التنمر".

"ربما يحدث هذا معه كما حدث مع نور، ولكن لا أعتقد أن رحيم قد يلتفت لمثل هذه الأمور، كما أنه لا يرى أن إعاقته تمنعه عن ممارسة حياته، أما نور بطبيعتها أكثر حساسية منه، لذلك تأثرت بما حدث معها".

استرجعت فرح المواقف التي تم التنمر عليها فيها، وظهرت ملامح الغضب والتهديد على وجهها:

"هؤلاء الأغبياء كيف يتنمرون على نور! يجب أن أستعيد حقها، حتى لو اضطررت لضربهم".

"فرح! لا حاجة لمثل هذا الكلام أو التصرفات، هذه المواقف يجب أن نتعامل معها بحكمة، نحن لسنا في غابة".

قالها خالد بتوبيخ، فنظرت فرح إليه وهي تسترجع خطتها للانتقام من زملائها، وشردت الفتاة منه، حتى قال:

"أريد منك أن تهتمي بأختك يا فرح، لا تتركيها، أعلم أنك شخص مسؤول وحريصة على اخوتك الصغار، من فضلك كوني عيني عليها".

نظرت فرح إليه وهي تشعر بأنه يسلمها مسؤولية كبيرة ومهمة، وشعرت بأنها شخص موثوق فيه، فقالت بإصرار:

"لا تقلق يا أبيه، أنا لن اتخلى عنها أبداً".

مرت لحظات ونظر خالد إلى فرح، ثم جال بنظره في الغرفة ولمح هاتفها من بعيد. دارت عينيه بتردد حتى سقطت عليها مرةً أخرى وهي تنتظر أن يتحدث، حتى قال:

"إذاً، ألا تعلمين أية أخبار عن الدكتورة سالي؟".

مال رأس فرح بحيرة، فهذه أول مرة يبدي خالد اهتمام بأحد غيرهم:

"أخبار؟".

قال خالد موضحاً بسرعة:

"أقصد ألا تعلمين إن كانت موفقة في مقابلة هذا العريس أم لا، فقد اتفقنا على أن تكمل عملها هنا لمدة أطول، وأن تمضي العقد، ولكن لا أعتقد أن ستفعل هذا لو سارت أمورها على خير".

سكت للحظات ثم قال موضحاً أكثر:

"أنت تعلمين نحتاج دائماً لطبيب مرافق، أريد أن أتأكد حتى نطلب طبيب آخر".

استوعبت فرح وقالت بتفهم:

"آه، فهمت، لا أعلم كيف سارت الأمور، آخر رسالة كانت تلك الصورة".

نظر خالد إليها بشرود عندما لم يجد الإجابة التي تمناها، ولكنه تدارك نفسه بسرعة وقال:

"حسناً، سنعلم فيما بعد".

"أبيه!".

التفت خالد وفرح إلى مصدر الصوت، كان فؤاد قد استيقظ وهو يمسح عينيه قائلاً بطريقة طفولية:

"هل ستنام معنا؟".

نهض خالد واتجه إلى الطفل الصغير، واحتضنه قائلاً بهمس:

"لا يا حبيبي، كنت فقط أطمئن عليكم".

قال الفتى متمتماً وشفتيه الصغيرتين تتكوران:

"ولكنِ أريدك أن تنام معي".

"لا أستطيع يا فؤاد، هيا أكمل نومك، وأنا سأظل بجوارك حتى تنام".

اطمئن الفتى، وبالفعل استلقى، ولم تمر دقائق حتى نام بعمق، ويبدو أنه لن يتذكر من الأساس أنه استيقظ وتحدث معه. نهض خالد بهدوء، ووجه حديثه إلى فرح هامساً:

"سأذهب أنا الآن، وأنت أخلدي إلى النوم على الفور، ولا تنسي ما طلبته منك".

رافقته فرح إلى باب الغرفة وقالت:

"لا تقلق، سأعتني بها، ليلية سعيدة".

"تصبحين على خير يا فرح".

خرج خالد من الغرفة، ووقف أمامها قليلاً بشرود ثم تحرك في الطرقة، وبينما وهو يمر أمام غرفة أنيسة سمع صوتاً مكتوماً متألماً، وقف منصتاً وهو يشعر بجسده يبرد، وظل على حاله لثواني حتى هدئت الأصوات، فطرق على الباب وهو يشعر بالخوف يتسلل إلى قلبه، حتى سمع صوتها الأنيق محشرج:

"من؟".

مرت لحظات قبل أن يجيب وهو يشعر بأن لسانه قد لُجم:

"ماما هذا أنا".

لم يسمعها خالد ترد عليه، وشعر بأن قلبه يكاد يقفز من صدره من شدة القلق، فطرق الباب مرةً أخرى، وبعد لحظات سمع صوت المفتاح والباب يُفتح أمامه.

نظرت أنيسة إلى خالد الذي وقف أمام الباب وكأنه حارس، كان الظلام يخيم على وجهه، وشعرت أنه أطول قامة عن المعتاد، فرفعت رأسها أكثر، ولمحته يراقبها بشك. أما خالد بدوره رآها تفتح الباب وظهرها منحني قليلاً، تأملها بدقة، كانت ضعيفة جداً وهشة، إلى حد اعتقاده أنها ستتلاشى وتطير في الهواء لو لمسها، كورقة الشجر في فصل الخريف. تردد لحظة قبل أن يقول بصوت منخفض يحمل نبرة قلق مكتومة:

"ما هذا الصوت الذي سمعته؟".

تجنبت أنيسة نظراته، وحاولت أن تخفي ارتجافة يديها بوضعهما خلف ظهرها. كانت تعلم أن عيون خالد الثاقبة تستطيع قراءة أسرارها بسهولة، وهذا ما كانت تخشاه أكثر من أي شيء آخر. أخذ خالد خطوة نحوها، فتسلل شعاع خافت من الضوء عبر الباب ليسقط على وجهه، كاشفًا عن ملامح مختلطة بين الغضب والقلق والحب:

"لماذا لا تجيبين؟ هل حدث شيء ما؟"

تنهدت أنيسة بعمق، وشعرت بثقل الكلمات التي تريد أن تنطق بها. رفعت عينيها ببطء لتلتقي بعينيه، ورأت فيهما صورة الطفل الصغير الذي كانت تحتضنه يومًا ما، والآن يقف أمامها رجلًا يحمل همومًا أكبر من عمره:

"خالد، يا بني..". بدأت بصوت متهدج:

"كنت أنقل الكرسي في الغرفة".

عبس خالد واقترب أكثر، حتى أصبح بينهما مسافة خطوة واحدة فقط:

"هل تعتقديني طفل؟".

ترددت أنيسة مرة أخرى، لكنها مدت يدها ببطء ولمست وجنة ابنها بلطف، محاولة أن تستمد منه القوة التي تحتاجها:

"حبيبي ماذا بك؟ لماذا أنت قلق هكذا؟ لا أراك بخير هذه الأيام".

لم يرد عليها وعيناه لا تفارقان وجهها، فسحبت أنيسة نفسًا عميقًا، ثم تقدمت واحتضنته. أما خالد فقد احتضنها بقوة، وكأنه يحاول أن يجمع شتات قلبها المكسور. أغلقت أنيسة عينيها واستسلمت لدفء حضنه. في تلك اللحظة، أدرك كلاهما أن قوة العائلة والحب بينهما كان موجعاً ومؤلماً بقدر ما كان دافئاً وهانئاً.

***


في الصباح وفي وقت المدرسة ركب جميع الأولاد الباص الخاص بهم، ماعدا نور التي أصر خالد حتى يوصلها بنفسه. الأمر الغريب أنه لم يكن مضطر لإقناع الطفلة حتى ترتدي ملابسها وتستعد كالعادة لمدرستها، بل وجدها بين الأطفال في غرفة الطعام، تتناول طعامها بهدوء كالعادة، وكان هذا أمراً أثار قلقه أكثر. في السيارة جلست الفتاة الهادئة بجواره، ولم يتحدث أحدهما لمدة دقائق، مما جعل خالد يبطأ قليلاً سرعة السيارة. قال لها بينما وهو منتبه للطريق:

"اعتقدت أنك ستكونين في غرفتك، وأنني سأضطر لإقناعك بالذهاب إلى المدرسة".

لم تتفاعل الطفلة معه، فأكمل:

"نور، أنا لن أجبرك على فعل أي شيء لا تريدينه، ولكن لنفكر سوياً فيما يحدث. هل الحل هو الهروب؟"

أكمل خالد وهو يلقي عليها نظرة ثم يعيد انتباهه إلى الطريق، والحزن يكسو ملامحه:

"حتى لو كان الأمر قاسياً ومؤلماً للقلب، لكن الهروب من المشكلة لن يجعلها تختفي، هناك ظروف صعبة في هذه الحياة علينا نتماشى معها رغماً عنا وباختيارنا، حتى لو كانت مؤلمة. لو أعطينا ظهرنا لها ستظل تلاحقنا حتى نقرر مواجهتها أخيراً".

نظر إليها مرةً أخرى قائلاً:

"واجهيها يا نور، أنت أقوى مما تعتقدين. القوة ليست في الهروب من الصعوبات، بل في مواجهتها. أنتِ لا تحتاجين لأن تكوني مثلهم، يكفي أن تكوني كما أنتِ، وهذا شيء يجب أن يفهموه".

ظلّت نور صامتة، لكن رأسها اتجه نحو صوت خالد، وكأنها تستمع لكل كلمة يقولها. أكمل خالد بصوت أكثر دفئاً:

"أنا أعلم أن الناس يمكن أن يكونوا قاسين. يمكن أن يكونوا جهلاء أو غير عادلين. ولكن القوة الحقيقية تكمن في أن تواجهيهم، أن تقفي أمامهم ولا تدعي كلماتهم تؤثر عليك. لا أحد يملك الحق في أن يجعلك تشعرين بالضعف أو النقص".

نور، بصوت هادئ، ولكن بنبرة أكثر ثقة:

"لكن ماذا لو استمروا في مضايقتي؟".

"سيتعلمون بمرور الوقت، وربما لن يتغير الجميع، لكنك ستتغيرين. ستصبحين أقوى. ومهما كان ما يقولونه، تذكري دائماً أنك تعرفين من تكونين، وأن قيمتك لا تتحدد بكلماتهم. عندما تواجهين الخوف وتستمرين في طريقك، سيخرسون في النهاية، ولكنك ستكونين أقوى مما تتخيلين".

نظر إليها خالد بابتسامة مشجعة، وأضاف:

"أريدك أن تذهبي اليوم، لا لتثبتي لهم شيئاً، بل لتثبتي لنفسك أنك قادرة على مواجهة أي شيء".

بعد لحظات أومأت نور برأسها بهدوء، ثم همست:

"سأذهب".

ابتسم خالد وقال وهو يركن السيارة أمام المدرسة:

"بما أنك فتاة مطيعة، هناك مفاجأة لك".

تحرك وهو يمد يده في المقعد الخلفي، ويسحب منه علبة كرتون كبيرة، رفعها ووضعها على قدمي نور قائلاً:

"انتبهي".

على الرغم من تنبيهه لها، لكن الفتاة تفاجأت. ساعدها خالد في فتحها، قائلاً:

"خمني ما هذا".

وضعت نور أصابعها تتحسس ما بداخل العلبة، وعند إدراكها لما هو بين يدها، قالت ووجهها يضيء ويسترجع الروح التي غابت عنه:

"لوحة المفاتيح!".

ابتسم خالد على ابتسامتها قائلاً:

"هل تعلمين كم عانيت حتى تصل بهذه السرعة؟".

ابتسمت نور بخجل وقالت:

"أشكرك يا أبيه، واعتذر لو أزعجتك".

"لا حاجة للاعتذار يا نور، كل ما أريده منك أن تسيري في طريقك دون أن تلتفتي لهراء من هم حولك. وتذكري دائماً، أنه في كل خطوة تخطيها، وفي كل تحدٍ تواجهيه، نحن هنا جميعاً معك وخلفك. عائلتك تساندك، لن تواجهي أي شيء بمفردك. قوتك ليست فقط في داخلك، بل في وجودنا معك، ندعمك في كل لحظة".

مدت نور ذراعيها وتعلقت في كتف خالد، الذي ضمها بحب صادق وعميق تجاه أحد أطفاله. وبعد أن ساعدها في الدخول إلى المدرسة، عاد إلى سيارته، وأمسك هاتفه ليتصل بمحمود الذي أجاب فوراً:

"ما أمرك هذه الأيام! أصبحت تتأخر وتترك العمل مبكراً".

استمع خالد إلى صياح محمود وتذمره بهدوء وصبر، ثم قال:

"محمود أعتذر منك، سأتأخر قليلاً، هناك أمر مهم يجب أن أنجزه، باشر العمل بنفسك نيابة عني".

ابتسم خالد وأغلق الهاتف بسرعة، بعد أن أغلق أذنيه حتى لا تلتقطان الشتائم الموجهة إليه، ثم دارت السيارة وتحرك بها في طريقة لإنجاز مهمة لا يجب أن يتأخر عنها.

***


في المدرسة وفي أحد الفصول، كان المعلم قد بدأ حصته وباشر في شرح الدرس، حتى سمع صوت الطرق على الباب، وأحمد يفتحه وهو يعتذر عن التأخير، لم يعلق المعلم كثيراً نظراً لالتزام أحمد وتفوقه في دروسه. فسمح له بالدخول، وجلس أحمد على مقعده وهو ينظر إلى زميله نظرة جانبية لها مغزى ويومأ برأسه. فتح الكتاب، ولكنه لم يفتحه على الصفحة الخاصة بالدرس، بل أخرج من داخله مظروف باللون الأبيض، وأنتظر أن يلتفت المعلم، ليلتفت هو الآخر إلى زميله ويسلمه المظروف. انتهت الحصة أخيراً وبدأت الأحاديث الجانبية بين الأولاد، وهنا التفت أحمد إلى زميله وهو يهمس:

"العب على هذا المبلغ، وأرسل الأرباح على المحفظة الخاصة بي".

"ولكن أحمد، هذا المبلغ أقل من المبلغ السابق".

"أعلم، أنا أفعل هذا لتجنب خسارة المبلغ بأكمله، أنا سألعب بنصفه وأنت تلعب بالنصف الآخر".

تردد أحمد قليلاً وهو يتفحص نظرات زميله، كانت هناك لمحة من القلق في عينيه، لكن زميله لم يترك له مجالاً للتراجع. ابتسم بثقة وأمسك بهاتفه وقال:

"أحمد، لا تقلق. لقد فعلنا هذا من قبل ونجحنا. الحظ في صفنا اليوم، وأنا لدي شعور قوي بأننا سنحقق مكاسب كبيرة. فقط استرخِ واترك الباقي لي".

نظر أحمد إلى زميله وهو يحاول أن يستمد من ثقته بعض الاطمئنان. تنهد بعمق وأجاب:

"لكن، ماذا لو خسرنا؟ أنا لا أريد أن أضيع كل شيء".

ضحك زميله بنبرة مطمئنة، ووضع يده على كتف أحمد وقال:

"لن نخسر، هذا مبلغ بسيط مقارنة بما يمكننا أن نربحه. تذكر، في المرة الأخيرة حصلنا على ضعف المبلغ. نحن نتعلم من أخطائنا السابقة ونزداد خبرة. ثقتي في قدرتنا على النجاح عالية".

تردد أحمد للحظة أخرى، لكنه أخيراً استسلم لكلمات زميله. أخذ هاتفه وبدأ بفتح التطبيق، فيما كان زميله يراقب الشاشة بعناية. كان الوقت يمضي ببطء، والإثارة تتزايد مع كل رقم يظهر على الشاشة.

ومع مرور الوقت، بدأت الأرباح تتزايد ببطء. كلما زاد الرقم، كانت الثقة تزداد بينهما. ضحك زميله وقال بابتسامة عريضة:

"ألم أقل لك؟ نحن في طريقنا إلى الفوز الكبير. فقط تذكر، يجب أن نعرف متى نتوقف".

أحمد ابتسم، لكنه شعر بمزيج من القلق والإثارة. رغم أنه كان يشك في البداية، إلا أن نجاحاتهما الصغيرة جعلته يشعر بشيء من الراحة. ومع ذلك، كان هناك شيء في داخله يهمس له بأن هذه اللعبة قد تكون أكثر خطورة مما يعتقد.

لكن زميله، الذي كان يبدو أكثر ارتياحاً، قال:

"أحمد، لا تفكر كثيراً. هذه ليست سوى لعبة، ونحن أذكياء بما يكفي لتحقيق الربح".

ومع مرور الوقت، بدأت الأرباح تتضاعف، وأحمد بدأ يشعر بشيء من الثقة، رغم قلقه الذي لا يزال قائماً في الخلفية. لكنه لم يكن يعلم أن هذه اللعبة ستأخذه إلى مسار لم يكن يتوقعه، حيث يمكن أن تتحول المغامرة إلى مخاطرة، والثقة إلى تهور. ومع ذلك، في تلك اللحظة، كان الاثنان مستمران في اللعب، يتبعان أحلامهما الصغيرة على شاشة الهاتف، غير مدركين لما يمكن أن يحدث لاحقاً.

لاحقاً في فصل نور، كانت الفتاة تجلس بمفردها في وقت الراحة وزميلتها الوحيدة المقربة منها تتحدث معها بحماس، ونور الهادئة تنصت إليها مع تعليقات بسيطة، لم يمض على وقت جرس الفسحة إلا دقائق قليلة، وسمعت نور صوت فرح يدوي في فصلها:

"هيا يا نور لنتناول طعامنا سوياً!".

فالتفتت نور في اتجاه مصدر الصوت، ولم تعطها فرح فرصة لتنهض من مقعدها، وأمسكت بذراعها برفق، وصوت ليلى يردد:

"نور، لقد جئنا!".

وسمعت نور بالتوالي أصوات باق اخوتها الفتيات أميرة وليان. أثارت الفتيات الشغب في الفصل، والقت فرح نظرات تهديد على جميع زملاء نور، الذين نظروا إلى بعضهم البعض بريبة، ولم ينطق أحدهم حرفاً. وهكذا، تجمعت الفتيات حول نور، محاطات بضحكاتهن وكلماتهن المرحة، وبدت وكأنها في مركز دائرة حماية لا يُمكن اختراقها. في هذه اللحظة لم تشعر الفتاة بالعزلة أو الوحدة، بل بالدفء والطمأنينة، فالأصوات من حولها أصبحت ملاذًا من القسوة التي كانت تواجهها. شعرت بأنها ليست وحدها في هذا العالم، وأن هناك من سيقف إلى جانبها دائمًا، مهما كانت الظروف. وعلى الرغم من أنها لم تستطع رؤية وجوههن، إلا أن قلبها كان يرى حبهن ودعمهن بوضوح، وكان هذا كافيًا لها.

***


قرأت سالي الرسالة التي كتبتها للمرة السابعة، ثم مسحتها. مضت نصف ساعة وهي تحاول إرسال رسالة إلى والدها تعلمه فيها بعدم موافقتها على هذا العريس، فبالأمس لم تسنح لها الفرصة بعد لقاء العائلتين بأن تخبره بهذا القرار، كما أنها كانت تشعر بالخوف الشديد من مواجهته. لم يكن الأمر وأنها مخطئة، ولكنها كانت تخشى احتداد الكلام بينهم، لذلك قررت تؤجل هذا الإعلان للغد، وها قد جاء الغد وهي تحاول كتابة الرسالة للمرة الثامنة. وبدأت تكتب رسالتها مرةً أخرى:

[بابا صباح الخير، أكتب لك لأخبرك أنني لا أوافق على العريس الذي اقترحته لي. بعد التفكير، لم أشعر بأي توافق أو راحة معه، وهذه أمور لا أستطيع تجاهلها. أعلم أنك ترى الأمور من منظورك الخاص، ولكنني أرى الأمور بشكل مختلف. الزواج ليس قراراً يُتخذ بناءً على اعتبارات سطحية أو مجاملات. هو حياة كاملة تحتاج إلى تفاهم وراحة، وهذين العنصرين غير موجودين في هذه الحالة. أرجو أن تتفهم موقفي، لأنني غير مستعدة للمضي في أمر لا أرى فيه مصلحة لي].

أنهت سالي الرسالة وقرأتها لأكثر من مرة، حتى أنها قرأتها بصوت عالٍ، وأيضاً عرضتها على شقيقتها التي وافقتها وأعطتها إشارة الإرسال. وأخيراً أرسلت سالي الرسالة ثم أغلقت هاتفها بسرعة، حتى لا يقرأ والدها الرسالة ويحاول الاتصال بها. ولم يمر على الظهيرة ساعة إلا ووجدت والدها يقف أمام باب شقتهم الصغيرة، دخل الرجل ويصيح غاضباً:

"ما معنى هذا الكلام، ما هي الأسباب التي لديك حتى ترفضيه!".

أغلقت سالي الباب بهدوء وتبعته قائلةً:

"بابا من فضلك، أخفض صوتك، هناك جيران".

"أنا لا يهمني أحد، أخبريني ما هي دوافع قرارك يا سالي!".

حافظت سالي على صبرها وهدوئها قائلة:

"أنا أخبرتك بكل شيء في الرسالة، لماذا لا تقدر قراري".

"قرارك؟ التفاهم والراحة؟ هل هذه فقط دوافعك أيتها الطبيبة المثقفة؟ شخص قابلتيه لأول مرة تحكمين عليه دون أن تعطيه فرصة أخرى".

"بابا أنا لدي وجهة نظر من فضلك احترمها!".

"احترمها! هل تُعلمين والدك كيف يتعامل معك؟".

تابعت سالي والدها وهو يرى زينة تخرج من غرفتها، ثم يقترب منها ويضع يده على كتفها ويقربها منه بحميمية، وهنا اشتعل غضب سالي وصاحت:

"أنا لن أتزوج منه أو من غيره، وهذا الموضوع منتهي بالنسبة لي، ولا تفتح هذا الموضوع مرةً أخرى، ما هي صفتك من الأساس؟".

سؤالها الأخير كان القشة التي قسمت ظهر البعير وتقدم والدها وهو يرفع كفه قائلاً:

"تأدبي يا سالي ولا ترفعي صوتك أمام والدك!".

حمت سالي نفسها قبل أن يسقط كفه على خدها، وصرخت زينة:

"بابا!".

ولكنهم سمعوا صوت السيدة سهام التي دخلت للتو من باب الشقة، نظرت المرأة بصدمة وفي يدها مفتاح الشقة وسألت بصوت هامس وهي ترى الرجل يرفع يده على ابنتها:

"ما الذي تفعله بابنتي؟".

وتقدمت المرأة بسرعة وهي تمسك يده بقوة وتخفضها بعنف:

"إياك أن تفعلها!".

اقتربت زينة من سالي وابعدتهاK بينما والدتهم تكرر تحذيرها وهي تنظر إليه بعنف:

"إياك أن تمد يدك على بناتي".

ساد الصمت لثواني، وهنا أدرك السيد إيهاب ما كان سيفعله، فسحب يده من قبضة سهام قائلاً:

"أنا كنت أحذرها فقط".

قالت المرأة ودموع الغضب في عينيها:

"كنت ستضرب ابنتي، كيف تجرؤ على ذلك! هل تراها طفلة صغيرة؟".

نظر الرجل إلى غضب المرأة، وظهرت تعابير الندم على وجهه. قال بهدوء بعد لحظات من التفكير:

"سهام ابنتك تجردني من صفتي كأب لها".

نظرت إليه المرأة بذهول وقالت:

"هل هذا ما ضايقك حتى ترفع يدك عليها، ما الذي أخطأت فيه سالي؟ أليست ابنتي محقة؟".

تمتم الرجل وهو يجلس على أقرب كرسٍ له بضعف متأملاً الأرض:

"هل تشجعين ابنتك على ذلك؟".

نظرت المرأة إليه وقالت:

"أنا لم أجرؤ يوماً على ذلك، هي من رأت بعينيها كيف تخلى عنها والدها وتركها هي وشقيقتها منذ صغرهم، أخبرني متى كنت في حياتهم حتى تكون لك صفة فيها؟".

اشتدت النظرات بين إيهاب وسهام، كأن كل منهما يقيّم الآخر من جديد بعد سنوات طويلة من الصمت والجروح المدفونة. ببطء، رفع إيهاب عينيه نحو سهام وقال بلهجة مليئة بالمرارة:

"سهام، كل ما افعله الآن لأجل مصلحة سالي، حتى لو لم ترين ذلك".

سهام لم تتمكن من كبح نفسها، انفجرت بحدة قائلة:

"مصلحة سالي؟ أنت تركتهن، تزوجت وكونت عائلة جديدة، وتركتنا لنواجه العالم وحدنا. لم تكن حتى موجودًا لتعرف ما نحتاجه، والآن تأتي لتتحدث عن مصلحتنا؟"

تدخلت زينة بصوت مرتعش:

"بابا، أنت لم تكن هنا عندما كنا بحاجة إليك".

سالي التي كانت تراقب الوضع بصمت، تقدمت ببطء وقالت ببرود:

"هل تعرف كم ليلة كنت أبكي فيها بسبب غيابك؟ كم مرة انتظرت عودتك ولم تأتِ؟ والآن، بعد كل هذه السنوات، تأتي لتفرض رأيك عليّ وكأن شيئًا لم يكن؟".

نظرت سهام إلى ابنتها بحيرة، أما إيهاب، الذي شعر بأن كلماته تتهاوى أمام قوة الحقائق التي تلقى عليه، حاول التمسك بما تبقى من سلطته كأب وقال بصوت مرتعش:

"أنا أفعل ما اعتقد أنه الأفضل لك.. هذا الرجل سيجعلك تعيشين في مستوى أرقى من هذا".

نظر الرجل من حوله وهو يتأمل البيت البسيط الذي تعيش فيه بناته وأكمل:

"لا أريد أن تعيشي في الفقر والعوز".

قاطعت سهام بصوت خافت لكنه حاد:

"تفعل ما تعتقد أنه الأفضل؟ لكنك كنت تهرب، تهرب من المسؤولية ومن المواجهة. لقد اخترت الحياة السهلة، وتركتنا نواجه الصعب وحدنا".

تفاقم الشعور بالعجز داخل إيهاب، ولم يجد أي كلمات يدافع بها عن نفسه. قام من مكانه ببطء وقال بصوت محشرج:

"ربما كان خطأ، لكنني أردت أن أصلح الأمور الآن".

سالي ردت ببرود:

"الأمور لم تعد كما كانت، والأضرار التي لحقت بنا لا يمكن إصلاحها. نحن لسنا عائلتك الجديدة، نحن مجرد ماضٍ تود أن تنسى خطاياه".

نظر إيهاب إلى سالي وزينة ثم إلى سهام، ورأى في عيونهم نظرات لا تعكس الحب أو الاحترام، بل تعكس الخيبة والغضب. أدرك أن أي محاولة للتقرب منهم ستنتهي بالفشل. بدون أن ينطق بكلمة أخرى، استدار، ولكن قبل أن يخرج من الشقة قال:

"سأترككم الآن، ولكن سآتي مرةً أخرى، أتمنى أن تفكري في الأمر بجدية أكبر".

وخرج من الشقة، تاركًا الباب مفتوحًا خلفه.

ساد الصمت في الغرفة، لكن هذا الصمت لم يكن سلامًا، بل كان ثقلًا لا يطاق. شعرت سالي بأن الغضب والحزن يعتصران قلبها، تمتمت بغض وهي تدخل غرفتها:

"عنيد!".

في حين وقفت سهام وحدها، غير مفهوم ما يدور في خلدها.

***


في الحديقة الخاصة بالمنزل جلست السيدة أنيسة مع الأولاد، وماريا بين ذراعيها تتمتم بكلمات غير مفهومة ممزوجة مع صخب الأطفال الصغار. كانت السماء مزينة بغيوم متفرقة تتخللها أشعة الشمس الذهبية، التي بدأت تفقد دفئها المعتاد، وتتسلل بخجل بين الأغصان العارية، لتضيء بقايا الأوراق المتشبثة بالشجر. الهواء البارد كان يزداد مع مرور الوقت، ويمر بلطف على الوجوه. مما جعل ماريا تصرخ بسعادة وانتعاش، وهنا سمعت أنيسة الأطفال يصرخون ويركضون:

"أبيه!".

التفتت المرأة العجوز، ورأت خالد يدخل من البوابة الخارجية للمنزل، وبجواره شخص تعرفه جيداً. هنا برد جسد المرأة وشعرت بالمغص في معدتها وهي تتعرف على هوية هذا الشخص، كان الطبيب وصديق الأسرة بالأسرة الدكتور 'رشدي'، كان رجلاً عجوزاً يبدو أنه مقبل على ثمانيات عمره، يرتدي بذلة رمادية قديمة الطراز، ولكنها تحافظ على أناقته كطبيب، على وجهه ابتسامة تلقائية وكأنه وُلد بها. التف الأطفال حول خالد الذي استقبلهم بابتسامة محبة، وهو يراهم كالفراخ الصغيرة:

"أبية لقد جئت مبكراً". قالها فؤاد بحماس

"نعم يا فؤاد". مسح خالد على رؤوسهم بحب، ثم نظر إلى أنيسة التي اكتست ملامحها بالريبة وهي تنظر إلى الطبيب:

"ماما، طلبت من الدكتور رشدي أن يأتي ويفحصك حتى نطمئن على صحتك".

تقدم الدكتور رشدي أمامها، وأمسك بيدها يرفعها ويقبل ظهر كفها بخفة قائلاً:

"ست أنيسة، كيف حالك؟ لم أرك منذ مدة طويلة".

نظرت أنيسة إليه وهي تضيق عينيها، ثم حولت نظرها بين الرجلين وقالت على مضض:

"مرحباً بك يا دكتور رشدي، أنا بأتم صحة وعافية".

لمعت نظرة غريبة في عيون الرجل الذي قال بابتسامة خاوية وهو يقول:

"جئت اليوم حتى أتأكد من هذا، ونطمئن جميعاً عليك".

نظر إلى خالد الذي وقف والأطفال من حوله يصيحون:

"مستر خالد قلق جداً على صحتك، لهذا اتصل بي اليوم وطلب مني أن افحصك، إن لم يكن لديك مانع بكل تأكيد".

القت أنيسة على خالد نظرة عتاب باردة ثم التفتت قائلة:

"بالطبع دكتور رشدي، أشكركم على قلقكم. ولكن أريد أن أطمئنكم على صحتي، أنا بخير بفضل الله".

مرت لحظات لم يتحدث فيها أحد إلا ماريا التي مازالت تلقي كلام غير مفهوم، فقطعت أنيسة الصمت موجهة كلامها للأطفال الصغار:

"يا أولاد، رحبوا بضيفنا الدكتور رشدي ومن فضلكم اطلبوا من الست ذكية أن تحضر فوراً".

وبالفعل تسابق الأطفال الصغار، في اتجاه المنزل تحت أنظار الكبار، التفت إليها الدكتور رشدي وعلى وجهه ابتسامة قائلاً:

"هؤلاء الأولاد كبروا حقاً عن آخر مرة رأيتهم فيها، أكبرهم كانوا بالكاد يستطيعون الوقوف".

ابتسمت أنيسة برقي، وقالت وهي تطبطب على ماريا التي تنظر إلى الغريب بحيرة:

"الأطفال يكبرون بسرعة يا دكتور".

قالتها أنيسة ثم نظرت إلى خالد الذي كان يستمع إلى حديثهم وهو واقف:

"اجلس يا خالد".

أطاعها خالد وجلس بجوارها ويلتقط منها ماريا. نظر الطبيب إلى ماريا، ومسح على رأسها الصغير بلطف قائلاً:

"من الواضح أن هناك فرد جديد لطيف، ما أسمها؟".

نظر خالد إلى ماريا بفخر وقال:

"أسمها ماريا، أنا من تبناها".

"طفلة جميلة، يبدو أنها فرحة المنزل".

رفعها خالد وهو يلاعبها كرد عليه. بالفعل كانت ماريا هي آخر فرد في العائلة، ومن الطبيعي أن تكون مصدر سعادة جديد لجميع الأفراد، كما أن الطفلة خفيفة الظل ومرحة، وهذا جعل الجميع يعشقونها. نظر الدكتور رشدي إلى خالد بابتسامة وقال:

"أنت حقاً أب جيد يا بني، بارك الله في عمرك".

وبينما وهم يتحدثون، جاءت الست ذكية من بعيد ملبية نداء أنيسة التي طلبت منها القهوة والشاي والكيك. رشف الدكتور رشدي رشفة من قهوته وسألهم:

"كيف هي الطبيبة الجديدة؟ لقد طلبت من دكتور نوفل أن يرشح أجدر طبيب في نظره".

قالت أنيسة بامتنان:

"وقد كان موفق في ذلك، الدكتورة سالي شابة لطيفة وجديرة بالثقة، مع أني فعلت ذلك بنفسي، ولكن أتمنى أن توصل للدكتور نوفل شكري له وامتناني".

خالد الذي كان يلاعب ماريا قطع تسلية الطفلة فجأة عند سماع اسم سالي، وجعل الطفلة تسكن بين ذراعيه بهدوء وهي ترفع وجهها وتنظر إليه محتارة بعينيها الكبيرتين البريئتين تتساءل عن سبب توقف تسليتها. أنصت خالد إلى الحديث الدائر بين أنيسة وخالد:

"سمعت من الدكتور نوفل، أن ظروفها العائلية غير مستقرة".

نظرت أنيسة وخالد إلى بعضهما البعض باستغراب وقالت المرأة بفضول:

"لم تحدثنا الدكتورة سالي من قبل عن نفسها، من فضلك وضح يا دكتور رشدي".

"لا أعلم إن كان من المسموح لي أن أتحدث عن حياتها الشخصية، ولكن ما أعرفه، أنها ظروفها العائلية لم تكن مستقرة منذ طفولتها، والداها انفصلوا وهي في سن صغير جداً، ووالدتها كافحت عليها وعلى شقيقتها بمرتب شهري صغير من عملها موظفة في شركة الكهرباء. ومع ذلك استطاعت تربية الطفلتين وأنشأتهم نشأة جيدة بمفردها".

ساد الصمت للحظات، قطعته أنيسة بابتسامة صادقة:

"ما سمعته يجعلني أكثر تقديراً واحتراماً لها، الدكتورة سالي شخصية لا خلاف على أخلاقها، نحن سعداء جداً بمعرفتها".

بعد أن انتهى الدكتور رشدي من شرب قهوته، وضع الفنجان على الطبق بهدوء وقال:

"إذاً، ست أنيسة من فضلك أريد أن أفحصك".

نظرت المرأة بين الرجلين وملامحها يكسوها الغموض، ولكنها نهضت بخفة وحيوية وقالت بأجمل ابتسامة لديها: 

"تفضل يا دكتور رشدي من بعدك".

وجهته المرأة إلى غرفة العيادة، وكان خالد من خلفهم يتبعهم كالظل، لم يتركهم طوال الفحص ولو لثانية، أنصت جيداً إلى الأسئلة التي كان يسألها الطبيب وإلى إجابات أنيسة البسيطة. بعد الفحص، جلس الرجل على أقرب كرسي وهو يوجه كلامه إلى خالد قائلاً بصوت منخفض:

"السيدة أنيسة بخير يا مستر خالد، لا تقلق عليها، لديها فقط بعض النقص في المناعة ناتجة عن التقدم في العمر، هذه بعض التحاليل التي ستجريها عندي في المستشفى، هذا لزيادة الاطمئنان، وهذه بعض المكملات والفيتامينات ستأخذها كما هو موصوف، وإذا سمحتي يا ست أنيسة عليك أن تأتي إلى المستشفى في أقرب وقت".

نظر الرجل بابتسامة إلى خالد:

"فعلى ما يبدو أن مستر خالد قلق إلى الحد الذي جعله يترك أعماله المهمة ويختطف طبيب من مقر عمله حتى يكشف عليك".

ابتسم خالد، ولكنه لم يشعر بالراحة، حتى مع كلام طبيب العائلة المطمئن. تدخلت أنيسة وقالت وهي تعدل نفسها على السرير:

"ابني أصبح كثير القلق مؤخراً يا دكتور رشدي، أتمنى أن تطمئنه".

نظرت المرأة إلى الدكتور رشدي الذي التفت إلى خالد متهرباً من نظراتها:

"حسناً يا مستر خالد، اتمنى أن يكون قلبك قد ارتاح قليلاً على السيدة أنيسة، سأذهب أنا الآن".

نهض الرجل ونظر بين الأم وابنها قائلاً:

"ست أنيسة استدعيني في أي وقت تشعرين فيه بالتعب، وأنت مستر خالد كن حريصاً عليها".

قالها الدكتور رشدي وهو ينظر إلى الأرض بملامح غير واضحة معدلاً نظارته. استأذن خالد من أنيسة ورافق الرجل بعد أن أصر عليه ليوصله بنفسه إلى المستشفى كما أخذه منها.

***


جلست أنيسة على سريرها وهاتفها في يدها، تشعر بثقل القرار الذي اتخذته. كانت تعلم أنها طلبت من الدكتور رشدي شيئًا صعبًا، لكنها لم تستطع تحمل فكرة أن يعرف ابنها الحقيقة. وبدأت في كتابة رسالة:

[دكتور رشدي، أتمنى ألا تكون قد أفشيت سرنا إلى ابني خالد].

***


[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: سالي

أشعر بالأسف الشديد على ما تمر به من مشاعر مظلمة، إن الأمر حقاً متعب ومرهق للعقل، لا أستطيع قول تلك الجملة "أنا أفهم مشاعرك" لأنني على يقين من أن الإنسان لن يفهم أبداً معاناة غيره، فنحن لا نملك نفس الأفكار، ولا نفس المشاعر، ولا نفس الظروف والذكريات، إنهم لن يجتمعوا معاً أبداً في أكثر من شخص، فأفكارك هي أفكارك الخاصة، ومشاعرك هي مشاعرك وتفاعلاتك الخاصة مع الحياة، وكذلك ظروفك وذكرياتك. ربما ما يجمعنا هو النتيجة النهائية، الألم والعجز والضعف، وهذا ما أستطيع موافقتك فيه. أنا أيضاً أشعر في كثير من الأحيان بالألم إلى درجة تجعلني غير قادرة على مواجهة الحياة بشكل طبيعي. قد يبدو لي العالم في بعض الأحيان وكأنه مكان مظلم لا يوجد فيه مخرج أو حتى بصيص من الأمل. هذا الشعور بالعجز قد يدفعني إلى التفكير في أسوأ السيناريوهات، ولكنني أحاول أن أذكر نفسي بأنني لست وحدي في هذه المعركة. رغم أن كلمات العزاء قد تبدو فارغة في هذه اللحظات، إلا أنني أريدك أن تعرف أن هناك دائماً من يهتم بك ويقدرك. حتى لو لم تشعر بذلك الآن، فإن الوقت كفيل بتخفيف الألم قليلاً. ربما لا أملك الحلول لكل ما تمر به، ولكنني هنا للاستماع ومساندتك، لأنني أدرك كم هو مؤلم الشعور بالعزلة والوحدة في أوقات كهذه. حاول ألا تخجل من طلب المساعدة أو الحديث عن مشاعرك. قد لا يغير ذلك من الواقع كثيراً، لكنه يمكن أن يخفف من ثقل الألم ولو قليلاً. أعلم أن الأمر ليس سهلاً، وأنه قد يستغرق وقتاً طويلاً لتجد السلام الداخلي، ولكن تذكر دائماً أن قوتك تكمن في استمرارك وفي أنك ما زلت هنا، تحاول رغم كل شيء. أريد أن أخبرك أيضاً، على الرغم من الضعف الذي تمر به، أنا معجبة بتمسكك بالأمل ورغبتك في الاستمرار. إجابةً على سؤالك عن القراءة، ربما يكون الكتاب الذي رشحته لك هو محاولة لالتقاط هذا الخيط الرفيع من الأمل، لكنني أدرك أن قراءة الكتب وحدها لن تكون العلاج الكامل لما تشعر به. قد تساعدك على رؤية الأمور من منظور مختلف، وقد تمنحك بعض الأدوات التي تحتاجها لإعادة بناء نفسك، لكنها ليست الحل الوحيد. ما تحتاجه فعلاً، وربما ما نحتاجه جميعًا في لحظات كهذه، هو أن نتذكر أن حتى في أحلك الأوقات، هناك أمل يمكن العثور عليه. قد يكون هذا الأمل صغيرًا، وقد يبدو بعيد المنال، لكنه موجود. وقد يكون الحل في البحث عن الدعم كما قلت سابقاً، سواء من الأشخاص المقربين أو من متخصصين يستطيعون مساعدتك على تجاوز هذه المرحلة. أتمنى أن تعثر على السلام النفسي، وأرجوك لا تلقي نفسك من الهاوية، فربما يكون الخلاص على بعد خطوات قليلة منك.

سالي].

نهاية الفصل السابع عشر.

***

أعزائي القراء، أنا مبسوطة جداً بنفسي، بحاول على قد ما اقدر استغل كل ثانية أكتب فيها ولو سطرين، عايزة أنزل فصول كتير أوي، بس طبعاً العملية نفسها محتاجة وقت. ولكن، الفصل ده اتكتب في 24 ساعة وده رقم قياسي جداً، كنت بتحدى نفسي اني أخلصه بعد ما سفرت يومين من وقت آخر فصل نزلته، وكنت بقول اني أكيد مش هلحق انزل الفصل ال17 في أقرب وقت ولكني اتفاجأت بالطاقة اللي عندي اللي خلتني من تاني يوم رجعت فيه من السفر أخلصه، على الرغم من الصداع والارهاق الشديد. محتاجة اسقف لنفسي بجد. وعلشان كده عندي ليكم هدية جميلة. لو انت خلصت الفصل ده 17، ادخل على المدونة هتلاقي هدية وهي الفصل 18 موجود وخلصان وزي الفل. علشان كده منزلتش الفصل 17 على طول أول ما خلصته يوم الاتنين. قررت افاجأكم واستغل الطاقة اللي عندي واكتب فصل كمان وبكدة اكون نزلتلكم فصلين في نفس الوقت. الفصل 18 كنت هنزله على المدونة أولاً علشان انشطها شوية، لأني بفكر اختم الرواية عليها ان شاء الله. ولكن تراجعت وقولت أنزلكم الفصلين هنا. بشكركم أوي أوي على دعمكم ليا ومتابعتكم لأحداث الرواية بشغف واهتمام. اتمنى أكون على قدر توقاعتكم. شكراً لإنتباهكم ووقتكم.


***

سؤال الفصل: ايه اللي بين أنيسة والدكتور رشدي؟

***

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق