رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الثامن والثلاثون
فضلاً، متنسوش الvote.
فضلاً، متنسوش الvote.
المزيكا انهاردة أغنية مدام تحب بتنكر ليه؟ لأم كلثوم من كلمات الشاعر الجميل أحمد رامي ولحن القصبجي. رحمهم الله جميعاً.
***
رفعت سالي رأسها بذهول، عيناها تجولان على المبنى الضخم. على الرغم من أنه ما زال تحت الإنشاء، إلا أن هيبته كانت واضحة، والتفاصيل المعمارية توحي بعظمة المشروع. وقفت للحظة تتأمل الجدران العالية، والزوايا المدروسة، ثم التفتت إلى خالد بنظرة حائرة، وكأنها تحاول استيعاب حجم العمل المبذول هنا، قبل أن تسأله بصوت عكس دهشتها بوضوح:
"أنت من صممه؟"
لم تفارق الحيرة ملامحها، فابتسم خالد ابتسامة تسلية خفيفة على فضولها الطفولي، وأومأ برأسه مجيباً بنبرة هادئة، لكنها تحمل فخرًا غير معلن:
"نعم، أنا من صممته.. لكن التمويل المادي كان محدودًا لدي. في المراحل الأخيرة، لم أتمكن من تحمل التكاليف بمفردي، فاضطررت إلى اللجوء إلى وزارة الثقافة للمساعدة."
تأملته سالي بإعجاب، فهذا الرجل في منتصف الثلاثينات، ورغم ذلك تمكن من تحقيق مشروع كهذا. كانت ترى أمامها مهندسًا معماريًا ناجحًا، يضع بصمته بثبات في مجاله. همست بإعجاب صادق، دون أن تحاول إخفاء انبهارها:
"أنت حقاً مبدع".
ابتسم خالد ابتسامة خفيفة لمجاملتها، لكنه لم يعلق، بل اكتفى بالقول وهو يشير نحو الداخل:
"لندخل، محمود وعمال الكهرباء ينتظرون بالداخل."
أخرج هاتفه وفتح الكشاف، فسار أمامها عبر الممرات التي لا تزال قيد الترتيب. كان ضوء الكشاف ينعكس على الجدران العارية، ليكشف عن تفاصيل البناء غير المكتملة. ما إن دخلا حتى سمعا صدى أصوات العمال يتردد في الفراغ الواسع. اقترب منهم محمود بخطوات سريعة، وعيناه تعكسان نفاد صبر واضح. ما إن لمح خالد حتى زفر قائلاً بلهجة ممتعضة:
"أنت هنا أخيرًا."
ثم التفت إلى سالي التي لم يكن يتوقع وجودها، عقد حاجبيه بعدم فهم، وعدّل نظارته سريعًا قبل أن يسألها بنبرة يغلب عليها الفضول:
"أهلاً يا دكتورة، ماذا تفعلين هنا؟"
شعرت سالي للحظة بالارتباك، فعدّلت خصلات شعرها سريعًا خلف أذنيها، تبحث عن كلمات مناسبة، لكنها لم تجد ما تقوله سوى:
"أنا..."
لكن خالد تدخل بهدوء، مقاطعًا ترددها، وهو يجيب بدلًا عنها بنبرة طبيعية:
"أنا عرضت عليها المجيء لترى المكتبة."
أومأ محمود بتفهم، وإن كان لا يزال مستغربًا قليلاً، لكنه لم يعلّق أكثر من ذلك. قبل أن يفتح فمه مجددًا، اقترب أحد العمال، وألقى تحية احترام على خالد، ثم بدأ الحديث عن مشكلات توصيل الكهرباء.
في هذه الأثناء، تركتهم سالي وسارت ببطء تحت أضواء كشافها، عيناها تتفحصان المكان بفضول واضح. لم يكن المبنى مكتملًا بعد، لكن روحه بدأت تتضح. الجدران الشاهقة، الأرفف المنتشرة في كل زاوية، والممرات التي توحي برحلة ثقافية ممتدة.
دون أن تشعر، وجدت نفسها أمام قاعة تبدو أنها القاعة الرئيسية للكتب. الأرفف مُوزعة بعناية، بعضها فارغ، وبعضها يحمل صناديق لم تُفتح بعد. وفي منتصف القاعة، كانت هناك منصة كبيرة جدًا. اتجهت سالي في الظلام وأخذت تتفقد المكان وتتأمله وتلمس صناديق الكتب وهي مستغرقة في تفكير عميق. وفجأة، غمرت الأضواء القاعة. لا إراديًا، أغمضت سالي عينيها بقوة للحظات بعدما اعتادت الظلام الدامس. رفعت يدها لتدلك عينيها برفق، تحاول التكيف مع الضوء المفاجئ، وعندما فتحتها أخيرًا، سمعت وقع خطوات قادمة من باب القاعة. التفتت سريعًا، فرأت خالد ومحمود يقفان عند المدخل، يحدقان بها بصمت غريب.
تجولت نظراتها بينهما بحيرة، ثم ضيّقت عينيها قليلًا وأمالت رأسها جانبًا، مستمعة إلى ذلك الصمت الثقيل الذي ساد المكان قبل أن تسأل بنبرة متوجسة:
"ماذا؟"
لم يرد أحد لوهلة، حتى تنحنح محمود وتقدم خطوة إلى الداخل، قائلاً بنبرة هادئة ولكن جادة:
"كنا نبحث عنك."
لكنه لم يتمكن من التقدم أكثر، إذ شعر بيد خالد تمنعه، وضعها على ذراعه بإحكام، وصوته يخرج هادئًا لكن يحمل تحذيرًا مبطّنًا:
"العمال يريدون الدخول، ابتعد."
ثبت محمود في مكانه، مترددًا للحظة، قبل أن يتراجع خطوة إلى الخلف، بينما سالي تراقب المشهد بصمت، إحساس غريب بدأ يتسلل إلى داخلها.
كان خالد يتفاعل مع العمال، يوجههم بدقة، لكنه لم يستطع منع عينيه من متابعة سالي، التي كانت تتجول في المكان بهدوء، تتأمله وكأنها تحاول استيعاب كل تفاصيله. كان في نظراتها شغف خفي، وفي خطواتها بطء مدروس، كأنها تمنح نفسها الوقت لتشعر بالمكان.
شعر خالد بتلك المشاعر التي حاول كبتها منذ مرض أنيسة تعود إلى السطح، تفرض نفسها عليه رغم محاولاته لتجاهلها. تسارعت نبضات قلبه مع كل لحظة تمر، ومع كل نظرة يختلسها نحوها. لم يدرك نفسه إلا عندما أطلق تنهيدة طويلة، تحمل بين طياتها عجزًا واضحًا عن السيطرة على مشاعره.
مهما حاول، لم يستطع إنكار ما يشعر به. كانت مشاعره تجاهها صادقة، متأصلة في قلبه، أقوى من أن يتجاهلها أو ينكرها. لكن في المقابل، شعر بشفقة عميقة تجاهها. كانت شابة جميلة وبريئة، لا تستحق أن تُلقى وسط تعقيدات حياته المليئة بالمسؤوليات الثقيلة. هل سيكون من العدل أن يورطها في قصته التي لا تخلو من الألم والتحديات؟
نظر إليها من بعيد، كانت تقف تحت ضوء المصابيح الخافتة، تتأمل المكان بعيون حالمة، وكأنها ترى فيه شيئًا لا يراه هو. كانت لمحات الإعجاب البريء ترتسم على ملامحها، تزيد من شعوره بالذنب.
مجرد التفكير في الأمر جعله يشعر بالأنانية. كيف له أن يسمح لنفسه حتى بالتفكير في إشراكها في عالمه المثقل بالهموم؟ ربما الأفضل أن يبقى بعيدًا، أن يبقى حاجز بينهما، مهما كان ذلك صعبًا عليه.
رنَّ هاتفه فجأة، قاطعًا دوامة أفكاره الثقيلة. سحب خالد الهاتف بسرعة، وعندما رأى اسم الست ذكية على الشاشة، أجاب على الفور. لم تمر سوى ثوانٍ قليلة حتى بدأ وجهه يشحب تدريجيًا، وانكمشت ملامحه توترًا مع كل كلمة يسمعها. أنهى المكالمة بحركة سريعة، زفر بحدة، ثم التفت إلى سالي منادياً بصوت حازم لكنه مضطرب:
"دكتورة، تعالي من فضلك، سآخذك إلى المنزل".
التفتت ساالي إليه بحيرة، وقاطعه محمود الذي كان يقف على مقربة، وهو يتمتم بنبرة يائسة:
"لا داعي لذلك، اذهب إلى المستشفى، وأنا سأوصلها كما اتفقنا."
التفت خالد إلى محمود بعجلة، وعيناه تعكسان التوتر الذي يعتريه:
"لا، هناك مشكلة في المنزل، يجب أن أعود لحلها بنفسي."
تطلع محمود إلى سالي التي وقفت بينهما بحيرة، وعادت نظراته إلى خالد، متفحصًا توتره. ثم زفر ببطء وقال بصوت خافت يحمل شيئًا من الاستسلام:
"حسنًا. سأتصل بك لأطمئن"
راقبهم محمود خالد بصمت وهو يبتعد بخطوات سريعة، بينما استقرت نظراته للحظة على سالي، وكأنه يودّ أن يقول شيئًا لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة. كان قلبه مضطرباً. منذ لحظات، كان يلاحظ كيف لم تفارق عينا خالد سالي، كيف كان يراقبها بصمت عميق، وكيف انعكس ذلك الاهتمام في ملامحه دون أن يشعر. هل هناك إعجاب متبادل بينهما؟ حاول أن يكذب حدسه، لكن شيئًا ما في داخله كان يؤكد العكس.. وبقوة.
***
وصل خالد ومعه سالي إلى المنزل ليجدا الأجواء متوترة وكأن عاصفة ضربت المكان. كان الصغار متجمّعين في ركن الصالة في أحضان الست ذكية وابنتا أخيها والمربيات، تملؤهم الريبة والخوف، بينما وقفت منى أمام باب غرفة المكتب، تسنده بظهرها وهي تنتحب بحرقة. بجانبها، كانت فرح تحاول تهدئتها بوضع يدها على كتفها، لكن دموع المرأة لم تتوقف.
وقف خالد أمام هذا المشهد الفوضوي، وجال بنظره على الجميع قبل أن يتقدم ويقف أمام منى. همس بصوت محمل بالغضب المكتوم، وقد قبض على يديه بقوة:
"ماذا حدث؟"
رفعت منى وجهها إليه، وعيناها مغرورقتان بالدموع، نظرة تحمل الكثير من الرجاء، لكنها لم تنطق بكلمة. زاد ذلك من توتره، فكرر السؤال بحدة أكبر:
"هل أخبرته؟ رغم أنني حذرتك؟!"
حاولت أن تبرر، وصوتها مختنق بالبكاء:
"مستر خالد.. أنا فعلت ذلك حتى.."
لكن خالد لم يدعها تكمل، فقطعها بصوت مشحون بالغضب، يكاد يفيض منه:
"حذرتك! ومع ذلك خالفتِ أوامري! كيف تجرؤين!"
انهارت منى تمامًا، وأخفت وجهها في حضن فرح التي اختلطت نظراتها إلى خالد بالرجاء والحيرة، لكن لم يكن لديه وقت للشفقة الآن. أبعد منى عن الباب بقليل من القوة، ثم دفعه ليفتح على مصراعيه.
داخل الغرفة، كان حسن جالسًا تحت النافذة، تحيط الظلال بعينيه الساهمتين، ذراعاه مستندتان على ركبتيه، ويداه تمسكان بورقة تبدو خفيفة لكنها تحمل وزن جبل. رفع الفتى عينيه ببطء، والتقت نظراته الحادة بنظرات خالد، ثم تحركت سريعًا نحو سالي التي كانت تراقب المشهد بتوتر.
رفع حسن الورقة قليلًا وهو يسأل بصوت منخفض لكنه يحمل داخله عاصفة:
"هل هذا التقرير حقيقي؟"
ظل خالد صامتًا، ينظر إلى الورقة بترقب، لكن حسن لم يتحمل صمته، فرفع صوته بحنق ونفاذ صبر وهو ينهض من مكانه:
"هل هذه المرأة أمي؟! كما يقول هذا التقرير؟"
في تلك اللحظة، دخلت منى وهي تترنح من أثر الانهيار، بينما تسندها فرح التي بدت عليها الصدمة مما سمعته للتو. حاولت المرأة أن تقترب منه، أن تهدئه، فتوسلت بصوت مرتجف:
"بني.."
لكن حسن لم يدعها تكمل، فقط صاح بها وهو يشتعل غضبًا:
"كفى! أنا أوجه سؤالي له".
التفت حسن إلى خالد وكرر سؤاله وهو يدفع الورقة إلى صدر خالد:
"هل كنت تعلم أن هذه المرأة أمي؟".
طارت الورقة، ومرت لحظات طويلة من الترقب حتى نطق خالد أخيراً بصوت منخفض لكنه حاسم:
"نعم".
اتسعت عينا حسن بذهول، وكأن الكلمة التي نطق بها خالد قد هوت عليه كالصاعقة. للحظة، لم يعد يسمع شيئًا سوى صدى الإجابة يتردد في رأسه. قبض أصابعه بقوة ثم رفع رأسه ببطء، نظراته مشتعلة بمزيج من الخذلان والغضب:
"منذ متى؟"
لم يجبه خالد فورًا. مرر يده على وجهه، وكأنه يحاول استجماع شتات نفسه، لكنه في النهاية قال بصوت متعب:
"منذ سنوات.."
قاطعه حسن بصرخة حادة:
"إذن كنت تعلم طوال الوقت؟! وأخفيت عني الحقيقة؟!"
تقدمت منى نحوه بخطوات مترددة، دموعها تتساقط بلا توقف، مدت يدها وكأنها تود أن تلمسه، لكنه تراجع خطوة للخلف، وكأنها شيء محظور عليه الاقتراب منه.
قالت بصوت مختنق:
"حسن، بني.. لم أكن أريد إيذاءك.."
لكنه أطلق ضحكة ساخرة مليئة بالمرارة، ثم نظر إلى خالد مجددًا، وقال بصوت أكثر هدوءًا، لكنه كان أشبه بسكون ما قبل العاصفة:
"أنت خنتني.. كنت أثق بك أكثر من أي شخص آخر."
ثم استدار فجأة، واتجه نحو الباب بخطوات سريعة، لكن خالد تحرك بسرعة، وأمسك بذراعه محاولًا إيقافه:
"حسن، انتظر!"
لكن الفتى انتزع ذراعه بقوة من قبضة خالد، وفي حركة خاطفة، أمسك بياقة معطف خالد وشدّه نحوه بعنف، وانطلقت قبضته في الهواء، مصوبة إلى وجه خالد بقوة حتى شعر وكأن فكه قد كسر من قوة القبضة التي سددها الفتى المراهق. اندفعت سالي بسرعة، متشبثة بذراع حسن بكل ما أوتيت من قوة، بينما أغمضت عينيها وصاحت برجاء:
"حسن، أرجوك أهدأ!"
لكن الفتى التفت إليها، عيناه تقدحان شررًا، وكأن صوته خرج من بين أسنانه وهو يدفعها بعيدًا بحدة:
"ابتعدي!"
لم تستوعب سالي ما حدث إلا حين شعرت بجسدها يهوي نحو الأرض، ارتطمت ركبتها أولًا، ثم استقرت على جنبها، وألم مفاجئ اجتاح كاحلها الأيمن، الذي التوى تحت وطأة السقوط. شهقت بصوت مكبوت، ووضعت يدها على قدمها وهي تشعر بوخز الألم ينتشر منها.
وهنا ارتجّت الغرفة بفوضى المشاعر المتفجرة. حسن، الذي كان يلهث غضبًا، لم يكد يستوعب أنه دفع سالي حتى رآها تسقط أرضًا، ملامحها متألمة وهي تمسك بكاحلها الملتوي. كانت فرح قد هرعت إليها فورًا، يديها المرتعشتان تمسكان بكتفيها، وصوتها المرتبك يملأ الأجواء:
"سالي! هل أنتِ بخير؟!"
لكن سالي لم تجب مباشرة، كانت تحاول استيعاب الألم المفاجئ، شفتيها متشنجتان، وعيناها تلمعان بتوتر.
في تلك اللحظة، التقط خالد المشهد بالكامل، سالي على الأرض، حسن واقف في حالة هياج، وعيناه لا تزالان تشتعلان بالغضب، رغم أنه بدا للحظة وكأنه مصدوم مما فعله. لكن خالد لم يتردد. كور قبضته، وعروق يده انتفضت تحت جلده، ثم رفع يده وسدد لكمة مباشرة نحو حسن. لكن قبل أن تصطدم به، اندفعت منى بجسدها بينهما، ممسكة بذراع خالد بكل قوتها، وهي تصيح بتوسل يائس:
"أرجوك، لا تضربه!"
اهتز جسدها الضعيف من شدّة الانفعال، ووجهها المبلل بالدموع كان يحمل خوفًا ورجاءً في آنٍ واحد.
تصلبت عضلات خالد للحظة، لكنه لم ينزل يده على الفور، أنفاسه كانت متسارعة، والعرق يتصبب من صدغه، وكأنه يصارع نفسه ليمنعها من الانفجار.
أما حسن، فظل في مكانه، صدره يعلو ويهبط في نوبات غضب مكبوتة، لكن شيئًا في ملامحه تغيّر. ربما كانت نظرة الذنب الخاطفة التي مرت بعينيه عندما التقى بوجه سالي المتألم.
لكن سرعان ما تبدلت ملامحه، ورمق خالد بنظرة مليئة بالألم والخذلان قبل أن يقول ببرود وهو يخلص نفسه من قبضة خالد:
"لا تبحث عني"
انحنى الفتى والتقط الورقة الملقة على الأرض. ثم غادر، تاركًا وراءه صوت منى التي تبكي بحرقة. واخوته المذهولين.
***
جلست سالي على كرسٍ، تحاول كبح ألمها وهي تدلّك كاحلها الذي لفّته بعناية، وأنفاسها ثقيلة بعض الشيء. وقفت ذكية خلفها، تراقبها بعينين قلقتين، ثم وضعت يدها برفق على كتفها، تربت عليها بحنان دافئ:
"لا بأس، يا ابنتي.. ستكونين بخير."
رفعت سالي رأسها، ووجهها متعب، لكنها لم تستطع منع نفسها من النظر نحو خالد. كان جالسًا في زاوية بعيدة من غرفة المكتب، وكتفاه منحنية كمن يحمل أثقالًا فوقها، عيناه غائرتان في الأرض، بينما بجواره منى، التي لم تتوقف عن البكاء. كانت تمسح دموعها بأنامل مرتجفة، ثم همست بصوت متهدج:
"أرجوك، يا مستر خالد.. اعثر عليه، وتحدث معه بهدوء، ربما يستمع إليك."
لكن خالد لم يرد، ولم يتحرك حتى. ظلّ صامتًا، كأن الكلام لم يعد له معنى. وبعد لحظات طويلة من الصمت، نطق أخيرًا بصوت خفيض لكنه قاطع:
"ست منى، اخرجي من هنا."
ارتجف وجه منى، وبدت وكأنها تلقت صفعة. نظرت إليه بقهر، ثم قالت بإلحاح وهي تقترب منه:
"هذا ليس وقت التجاهل! لدينا مشكلة، ويجب أن نجد لها حلًا قبل أن يضيع حسن أكثر."
لكن خالد لم يرفع عينيه عن الأرض، واكتفى بتمتمة باردة:
"أنتِ من افتعلتِ هذه المشكلة، لذلك أنتِ آخر شخص يمكنه التحدث عنها."
شهقت منى، وعادت دموعها تتجمع في عينيها، وهزّت رأسها بأسى قبل أن تهمس بصوت مكسور:
"لم أكن أريد افتعال المشاكل، صدقني! كل ما كنت أريده.. هو حقي في ابني."
ثم التفتت إلى ذكية وسالي، وكأنها تبحث عن مخرج، عن شخص يقف بجانبها وسط هذا الجدار الصلب من الرفض. نظرت إلى ذكية برجاء، ثم إلى سالي، وكأنها تتشبث بأمل أخير:
"أرجوكِ، تدخلي، يا ذكية.. وأنتِ أيضًا، دكتورة، قولي له شيئًا."
لكن خالد هزّ رأسه، وأغمض عينيه، محاولًا كبح الصداع الذي أخذ يزداد في رأسه. زفر ببطء، ثم همس بصوت خافت، لكنه كان يحمل في طياته تعبًا لا يوصف:
"من فضلكِ.. اسكتي. لا أريد سماع المزيد."
انهارت المرأة في نوبة بكاء هستيري، ارتجف جسدها وهي تحاول عبثًا كبح شهقاتها المتتالية. نهضت بسرعة، تمسح دموعها المرتبكة بأطراف أصابعها المرتعشة، قبل أن تتجه نحو الباب وتخرج من الغرفة بخطوات متعثرة. ظل صوت بكائها يتردد في أرجاء المنزل حتى بعد اختفائها عن الأنظار.
تنهدت ذكية بعمق، نظرت إلى خالد للحظات بعينين تضجان بالحزن، ثم أدارت وجهها ولحقت بالمرأة الحزينة، تاركة الغرفة الغارقة في صمت ثقيل وحزين.
بقيت سالي وحدها مع خالد، وبينهما ذلك الهدوء المشبع بالتوتر، ومرت دقائق طويلة كأنها دهر، قبل أن يقطع خالد الصمت أخيرًا، تمتم بصوت خافت، كأنه يحدّث نفسه أكثر مما يحدّثها:
"أنا وماما كنا نعرف الحقيقة منذ سنوات، ولكننا قررنا على ألا نصارح حسن بها، على الأقل في سنه الصغير هذا."
توقف خالد للحظة، وكأنه يستعيد ذكريات قديمة، ثم زفر ببطء وأكمل بصوت خافت:
"في البداية، ماما عارضتني، ولكن.."
رفع يده إلى صدغه، دلكه بألم كما لو أن ثقل الأفكار يزيد من صداعه:
"أنا لم أرغب أبدًا أن يتعرض حسن لمثل هذا الموقف، حتى لو وصل الأمر إلى إخفاء الحقيقة عنه للأبد".
همس بعد لحظات:
"هناك حقائق يجب أن تظل مخفية، فظهورها يعقد الحياة أكثر، كما حدث الآن."
قالها بصوت مثقل بالحزن واليأس، حدق في اللا شيء للحظة، قبل أن يهمس كمن يعترف بخطأ لا يمكن إصلاحه:
"لقد تعقدت الحياة الآن بالفعل..."
زفر مكملاً:
"لم أتخيل أبدًا أن الأمور ستسوء إلى هذا الحد..."
نظر إلى الفراغ أمامه، كأنما يبحث عن إجابة ضائعة، ثم تساءل بصوت أكثر وهنًا:
"هل ربما أخطأت في تقدير بعض الأمور؟"
ظلّ ينظر إلى يديه للحظة، ثم أطلق ضحكة قصيرة خالية من الفرح، مسح وجهه بيده، وزفر بحرقة، قبل أن يهمس بسخرية موجعة:
"ظننت أنني قادر على تحمل المسؤولية كاملةً في غياب ماما... لكن يبدو أنني كنت مخطئًا."
نظرت إليه سالي بصمت، لكنها لم تجد كلمات مناسبة لتعزيته أو تطمئنه.
همس ساخراً، وهو يمرر يده في شعره بتوتر:
"وكأن غياب ماما أفلت القيود."
نهضت سالي ببطء، محاولة ألا تضغط على قدمها المصابة، ثم سارت بخطوات مترددة حتى جلست بجواره على الأريكة. تأملت وجهه المتعب للحظات قبل أن تتحدث بصوت هادئ مواسٍ:
"مستر خالد، ربما تكون الحقيقة مؤلمة بالفعل، ولكن مهما حاولنا إخفاءها، ستظهر رغماً عنّا."
توقفت قليلاً لتختار كلماتها بعناية، ثم أكملت:
"لقد أخطأت منى في الطريقة التي أبلغته بها، كان عليها أن تمهد له أو تستشيركم على الأقل، ولكن في النهاية.. ما حدث قد حدث، وهذا حق الأم، وحق الابن أن يعرف كل منهما صلته بالآخر."
نظر خالد إليها نظرة طويلة، مزيج من الحزن والمرارة في عينيه، قبل أن يهمس ببطء:
"وماذا سيحدث بعد أن تظهر الحقيقة؟"
ثم زفر بقوة وأردف بصوت متعب:
"هل تعتقدين أن الولد سيركض إليها فرحاً؟ حسن؟ أنتِ لا تعرفين هذا الفتى جيداً. إنه كالبركان"
هزت سالي رأسها بثقة رغم القلق في عينيها:
"أنا واثقة أنه عاقل، لكنه فقط يمر بصدمة، ربما تكون أكبر صدمة في حياته."
ارتسمت على وجهها ملامح تفكير عميق وهي تضيف:
"تخيّل أن تعيش حياتك كلها على حقيقة مزيفة، ثم تتبدل فجأة لتحل محلها حقيقة صادمة كهذه.. حسن في سن المراهقة، وعقله في حالة اضطراب دائم، إنه يحتاج إلى الوقت، إلى العزلة قليلاً حتى يستوعب ما حدث."
قبض خالد يده بغيظ وهو يهمس بين أسنانه:
"لقد أفسدت تلك المرأة كل شيء."
نظرت إليه سالي بنظرة حازمة وقالت بحزم:
"لا داعي الآن لمثل هذا الحديث، الأهم أن نبحث عن حسن، على الأقل نعرف أين هو. لا يجب أن نتركه لنفسه في مثل هذا الوقت"
تنهد خالد بعمق، ثم تمتم باضطراب:
"لا أعرف.. لا أستطيع التفكير في أي شيء الآن."
ساد الصمت للحظة، قبل أن يسأل خالد بقلق مكبوت:
"هل تعتقدين أنه سيعود؟"
نظرت سالي إلى خالد نظرة طويلة قبل أن تجيبه بصوت مطمئن:
"قد يكون غاضباً الآن، لكنه في النهاية سيعود. ربما يحتاج إلى وقت ليهدأ، لكنه سيعود."
نظر خالد إلى الفراغ أمامه، ثم أغمض عينيه للحظة، وكأن كل كلمة قالتها سالي كانت تحاول تهدئة عاصفة في داخله. التفت إليها وتأملها لثوانٍ، ثم انسحب بصره إلى كاحلها المتورم، وسأل بصوت يشوبه بعض التأنيب:
"أنا آسف على ما حدث لكِ، هل أنتِ بخير؟"
ابتسمت سالي باعتذار وهي تمسح ساقها بتوتر:
"مجرد التواء."
رفع حاجبه قائلاً:
"هل تحتاجين إلى مساعدة؟"
هزّت رأسها نافية:
"لا، ولكن..."
ترددت قليلاً قبل أن تتأمله، ثم نظرت إلى فكه الذي بدأ في التورم، وهمست بتردد:
"أعتقد أنك أيضاً مصاب.. يبدو أن اللكمة كانت قوية. سأحضر لك ثلجاً"
وضع خالد يده على فكه وكأنه نسي إصابته، ثم ضحك بسخرية، وكأنه يجد المفارقة في أن يكون الألم الذي بداخله أشد بكثير من تلك اللكمة.
***
تائهًا في شوارع المدينة، سار حسن بلا هدف، كأن قدميه تتحركان من تلقاء نفسها بينما عقله يغرق في دوامة من الضباب، أشبه بحلم ثقيل.. أو بالأحرى كابوس. ترددت في ذهنه أحداث الساعات الماضية، كل شيء بدأ حين فتح درج مكتبه ليجد ملفًا يحمل اسم معمل تحاليل. دفعه فضوله المعتاد إلى تصفحه، لم يفهم محتواه في البداية، لكن اسمه الذي برز في إحدى الزوايا أثار انتباهه، مما دفعه للتركيز. حينها فقط التقط اسم "منى" لتتكشف أمامه حقيقة لم يكن مستعدًا لها.
"تشير نتائج تحليل الحمض النووي إلى أن احتمال الأبوة هو 99.99%، مما يؤكد أن [منى] هو الأم البيولوجية لـ [حسن]."
الصدمة لها مراحل، وهذا ما مر به حسن. تجمد في مكانه، وكأن الزمن توقف. ضربات قلبه تحولت إلى طنين يصم أذنيه، وعيناه تحدقان في الفراغ بلا إدراك. حاول أن يلتقط أنفاسه، لكن الهواء بدا وكأنه يرفض دخول رئتيه.
رفض عقله استيعاب الحقيقة، فضحك.. ضحكة خاوية، لا طعم لها ولا إحساس:
"مستحيل! لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا!"
خرج صوته مشوهًا، بالكاد يدرك أنه يتحدث بصوت مسموع:
"إنها مزحة.. مجرد مقلب، صحيح؟"
ارتجف جسده، وسرت في صدره لسعة ألم حادة. الهواء من حوله صار ثقيلًا، وكأنه يغرق في فراغ لا نهاية له. لم يدرِ كم مضى من الوقت قبل أن تتحرك قدماه أخيرًا، بخطوات متثاقلة، ليخرج من الغرفة، ويجد نفسه على الباب، ووجدها واقفة هناك، بملامح يكسوها التوتر والترقب. منى.. كانت تنتظره. كانت تعرف أن اللحظة ستأتي. وقفت المرأة بثبات رغم القلق الذي يخنق وجهها، وعيناها تراقبان كل تغير في ملامحه.
همس حسن بصوت بالكاد خرج منه وهو يرفع الورقة أمام عينيها:
"ما هذا؟"
لم ترمش حتى وهي تجيبه بثبات:
"هذه الحقيقة التي كان يجب أن تعرفها منذ سنين طويلة."
رفع عينيه ببطء، وكأنه لا يزال يبحث عن تفسير آخر، عن مخرج لهذا الجنون:
"حقيقة ماذا؟"
لم تهرب من عينيه، لم تحاول التراجع، فقط قالت بصوت هادئ لكنه حاسم:
"أنت ابني يا حسن.. هذه هي الحقيقة."
تردد صدى الجملة في أذنيه، لكنه لم يستطع استيعابها. رغم الأوراق التي لا مجال للشك فيها، رغم الدليل القاطع الذي بين يديه، ظل عقله يرفض تقبل الفكرة. منى.. والدته؟ تلك المرأة التي لم يشعر تجاهها يومًا سوى بالنفور؟ المرأة التي دخلت حياتهم كالغريبة، ولم يستطع أبدًا تقبل وجودها؟ مستحيل.
تخبطت أفكاره بعنف، حتى شعر برأسه يثقل لولا تلك اللمسة الخفيفة على ذراعه:
"حسن، بني.. أنا أمك الحقيقية."
صوتها كان دافئًا، حنونًا بطريقة لم يستطع تحملها. فتابعت منى بسرعة ولهفة:
"تستطيع التأكد من أنيسة وخالد.. إنهما يعرفان الحقيقة."
وكأن صاعقة ضربته. أنيسة، وخالد.. كانا يعلمان؟ كانا يخفيان عنه الحقيقة طوال هذا الوقت؟ خدعاه؟ عيناه اشتعلتا بالشرر، ورفع بصره إليها، النظرة في عينيه كانت كفيلة بتمزيقها، ثم خرج صوته حادًا، غاضبًا، منخفضًا في البداية قبل أن يصرخ بغضب هز أرجاء المنزل:
"لا تلمسيني!".
تحرك حسن بسرعة، كأنه يهرب من كابوس، لكن خطواته كانت ثقيلة بفعل الغضب. لحقته منى، صوتها مرتجف من الرعب:
"إلى أين أنت ذاهب؟!"
التفت نحوها، ودفعها بعيدًا بقسوة:
"ابتعدي عني!"
سقطت المرأة أرضًا، شهقت من الألم، لكن سرعان ما نهضت. لم يكن لديها وقت لتشعر بوجع السقوط، كان الأهم ألا تدعه يهرب. ركضت خلفه بسرعة، قلبها ينبض بعنف وهي تنزل على السلالم:
"لا! كيف أتركك؟ أخبرني، إلى أين أنت ذاهب؟!"
حاولت اللحاق به قبل أن يصل إلى الباب، وقفت أمامه، تمد ذراعيها بعزم رغم الرعب الذي يملأ عينيها. لكن حسن لم يكن في حالة تسمح له بالتفكير. حاول إزاحتها عن طريقه بعنف، لكنها تشبثت بمكانها، تمنعه من الخروج بأي وسيلة. وارتفعت الأصوات. الصراخ كان كافيًا ليوقظ المنزل بأكمله.
تقدمت ذكية بسرعة، القلق مرسوم على ملامحها:
"حسن! منى! ماذا يحدث هنا؟!"
رفعت منى عينيها إليها، نظرتها كانت يائسة، مبللة بالدموع التي انهمرت بلا توقف:
"ذكية، ساعديني! أرجوكِ!"
لكن حسن لم يكن في حالة تسمح له بالاستماع:
"ابتعدي عن الباب حالًا!"
كانت نظراته جامدة، غاضبة، وكأنه على وشك الانفجار. ذكية لم تفهم شيئًا، لكن فوضى المشهد جعلتها تدرك أن الأمر ليس عاديًا، فتحركت بسرعة، أمسكت بذراع حسن، وشدته نحوها بقوة وهي تقول بصوت هادئ رغم التوتر الذي يملأه:
"اهدأ، حسن. أخبرني، ماذا حدث؟"
لكنه قاومها، حاول التخلص منها:
"اتركيني!"
لكن ذكية كانت قوية، أقوى منه جسديًا، وغم غضبه استطاعت السيطرة عليه، دفعت به إلى غرفة المكتب وأغلقت الباب عليه بإحكام. كل ذلك حدث تحت أنظار الجميع، من الكبار إلى أصغر طفل، حتى ماريا الصغيرة التي كانت بين ذراعي رحيم، حدقت بالمشهد بعينيها الواسعتين، لا تفهم ما يجري، لكنها شعرت أن هناك شيئًا كبيرًا يحدث أمام عيونها البريئة.
كانت مشاعر حسن في حالة فوضى تامة. المفاجأة التي واجهها لم تكن مجرد صدمة، بل إعصار اجتاح كيانه بالكامل. طوال حياته، كان يرى نفسه يتيم الأبوين، طفلاً احتضنته عائلة أخرى ورعته كواحد من أبنائها. لكنه الآن يكتشف فجأة أن لديه أمًا... وتلك الأم هي منى.
منى، المرأة التي لم يشعر يومًا بالراحة في وجودها. منذ لحظة دخولها المنزل، كانت تعاملها معه مختلفًا عن باقي إخوته، اهتمامها به كان غريبًا، مبالغًا فيه. كلماتها، نظراتها، وحتى لمساتها جعلته يشعر بعدم الارتياح، لكنه لم يبح بذلك أبدًا. فقط مؤخرًا، حين بدأت تصرفاتها تصبح أكثر وضوحًا وإلحاحًا، بدأ يرفضها علنًا. والآن، تأتيه هذه الحقيقة الصادمة... أو ربما، الكذبة؟
تمنى بكل جوارحه أن تكون كذبة. لو كانت حقيقة، فإن كل ما اعتقد أنه ثابت في حياته سينهار. الأسس التي بنى عليها ذاته ستتزعزع، وستثير عاصفة من التساؤلات والاضطراب.
وفجأة، قفز إلى ذهنه سؤال أكثر إيلامًا: إذا كانت منى أمه.. لماذا تخلت عنه منذ البداية؟ ومن يكون والده الحقيقي؟ من هو الرجل الذي شاركها في هذه الجريمة؟ كيف تجرأ كلاهما على التخلي عنه؟ ولماذا عادت منى الآن، تحمل لهفة مستفزة وكأنها تتوقع منه أن يرحب بها بعد كل هذه السنوات؟ ثم هناك خالد وأنيسة.. لماذا أخفيا عنه الحقيقة؟ لماذا سمحا لمنى بالبقاء قريبة منه بينما هو يعيش في جهل تام عن هويته الحقيقية؟
لذلك، كان الغضب يشتعل بداخله كبركان لا يجد منفذًا سوى الانفجار. لم يكن بحاجة إلى تفسير، لم يكن يريد سماع أي أعذار. كل ما شعر به في تلك اللحظة هو الخيانة، الغدر الذي غرس أنيابه في صدره بلا رحمة. وحين وجد نفسه أمام خالد، لم يتردد، لم يفكر، فقط ترك الغضب يقوده، وأطلق قبضته لتستقر بقوة على وجهه.
كان يعلم أنه لم يمنح خالد حتى فرصة لشرح موقفه، لكن هل كان هناك شيء يبرر ما حدث؟ هل هناك كلمات قادرة على إصلاح الشرخ العميق الذي أحدثته هذه الخديعة؟
الغضب كان أقوى من العقل، من المنطق، من أي محاولة لضبط النفس. كان مجرد صبي جُرّد من هويته، محاصرًا بشعور قاتل بالخيانة، ولم يجد سوى هذه اللكمة ليعبر عن كل ما يعتمل في داخله.
هذه المشاعر والأسئلة لا نهائية كانت تدور داخل قلبه وعقله كعاصفة هوجاء، تدفعه إلى السير بلا هدف، تمامًا كما فعل أحمد من قبله.
***
وقف حسن أمام المستشفى، يحدق في المبنى الذي يرقد داخله أكثر شخص أحبه في حياته، أنيسة. كان يعلم أن خالد قد يكون هناك، لكنه لم يهتم. الأسئلة في داخله كانت ملحة، تحاصره من كل اتجاه. كان يريد التحدث إليها، يريد إجابات، وأيضاً.. يريد أن يبكي بين ذراعيها. أنيسة، المرأة التي لم يعرف أماً سواها.
شعر بحرارة الدموع تتجمع في عينيه، لكنه مسحها سريعًا بكبرياء قبل أن يخطو إلى الداخل. توجه إلى مكتب الاستقبال، سأل عنها، ولحسن الحظ سُمح له بالزيارة.
بخطوات هادئة، فتح باب الغرفة بحذر. هناك، على السرير الأبيض، رأى أنيسة كما لم يرها من قبل—هزيلة، ضعيفة، تتصل بها الخراطيم والأجهزة التي تقيس أنفاسها بصمت. قلبه انقبض لرؤيتها بهذه الحالة.
بعد لحظات، وكأنها شعرت بوجوده، تحركت قليلًا، فتحت عينيها ببطء وهمست بصوت متعب، فيه رجاء وانتظار:
"خالد؟ أهذا أنت؟ لماذا تأخرت يا بني؟"
تجمد حسن في مكانه. للحظات، لم يعرف كيف يتصرف. كانت تنتظر خالد... وليس هو. شعر بوخزة حادة في قلبه، بغصة جعلته يشعر بالشفقة على نفسه. تمنى لو كان هو الشخص المنتظر. لكنه سرعان ما تخلص من هذا الشعور، تحرك بخفة نحوها، وهمس بصوت متهدج:
"ماما، أنا حسن."
فتحت عينيها بسرعة، تأملته بتركيز، وكأنها تحاول التأكد أنه ليس حلمًا. وبعد لحظات، حين تأكدت من ملامحه، أشرق وجهها بابتسامة دافئة، تلك الابتسامة التي لطالما جعلته يشعر بالأمان، وقالت بحنان:
"حسن، حبيبي.. هذا أنت؟"
ابتلع ريقه بصعوبة، وقال بصوت مبحوح:
"نعم يا ماما، هذا أنا..."
لم يتمالك الفتى نفسه، وسالت دموعه دون أن يشعر، كانت حارة، ثقيلة، كما لو أنها تحرق وجنتيه وهو يهمس بصوت مرتجف، وكأنه يحاول التمسك بحقيقة بدأت تتلاشى بين يديه:
"أنا حسن.."
قالها وكأنه يحاول إقناع نفسه قبل أي شخص آخر، وكأنه يعلن عن هويته التي لم يعد متأكدًا منها، كأن الاسم ذاته بات غريبًا عنه، وكأن حياته التي عاشها حتى هذه اللحظة لم تكن سوى كذبة كبيرة.
رفع يده بسرعة، غطى وجهه ليخفي دموعه التي فضحته. سمع صوت حركة خفيفة على السرير، ثم جاءه صوتها القلق، المليء بالحنان رغم ضعفها:
ابتلع حسن غصته، محاولًا التحدث وسط دموعه، لكنه لم يجد سوى كلمات بسيطة خرجت بصوت مكسور:
"ماما.. أنا أفتقدك، أحتاجك بشدة."
ابتسمت أنيسة برقة رغم ضعفها، ومدت يديها إليه، وقالت بحنان:
"حسن حبيبي، تعال هنا."
سحبته إليها برغم وهنها، واحتضنته بقوة كما لو كانت تعطيه كل ما تبقى لها من قوة. غمرته بحرارتها، وهو تشبث بها كما لو كانت طوق نجاته الوحيد في عالم أصبح فجأة غريبًا ومخيفًا.
مرت أصابعها على ظهره بحنان، همست بصوت دافئ يربت على جرحه العميق:
"حسن، ابكِ كما تشاء... حتى تهدأ."
سكنت الغرفة للحظات، لم يكن هناك سوى صوت أنفاسه المتقطعة، وارتجاف جسده بين ذراعيها.
ثم همست برقة:
"هل تتذكر ذلك اليوم؟ عندما عاقبك خالد وحبسك في الغرفة ليلتين؟ يومها سمعت صوتك من نافذة غرفتي وأنت تناديني.. ماما"
تشنج جسده للحظة، أغمض عينيه بشدة وهو يستعيد الذكرى.
كانت أنيسة قد طلبت منه هو وفرح أن ينادياها "ماما"، لكنها كانت كلمة ثقيلة عليه، لم يكن مستعدًا لقبولها. أصر على مناداتها "أنتِ" و "أنتِ فقط"، رافضًا الاعتراف بها كأم، بعناده المعتاد. لكن في تلك الليلتين، عندما أقفل خالد الباب عليه، عندما تسلل الخوف إلى قلبه لأول مرة.. عندما شعر بالوحدة القاتلة في ظلام الغرفة.. وقف عند النافذة، وأطلق صوته المرتجف إلى الخارج، إلى الغرفة الأخرى، إلى أنيسة. نادى عليها كما لم ينادِها من قبل، بدموع طفل خائف، يبحث عن أمان لم يكن يدرك أنه صار يملكه بالفعل.
"ماما!"
كان الصوت يخرج منه دون إرادة، دون تفكير.. كان نداءً خالصًا، نابعًا من قلب طفل مذعور، يريد حضنًا يأويه. والآن، وهو يقف أمامها، دموعه تتساقط كأنها تحمل وزناً أثقل من الزمن، تذكر كل شيء. رفع رأسه نحوها، رأى وجهها المبتسم رغم الألم، وسمعها تهمس من جديد:
"تلك الليلة، حين سمعتك تناديني للمرة الأولى، شعرت أنني أمك حقًا، حتى لو كنت لا تريد الاعتراف بذلك.."
تمسك بها أكثر، كأنها طوق نجاته الوحيد وسط بحر هائج من الحقائق المتضاربة:
"ماما، أنا أفتقدك"
كانت كلماته تتقطع بين شهقاته، لكنها خرجت بصدق لم يستطع إنكاره.
مررت أنيسة أناملها برفق على وجنتي حسن، تمسح دموعه بحنان وهمست:
"وأنا أيضًا، يا حسن.. اشتقت إليك كثيرًا."
تأملته للحظات، وعيناها تلمعان بإدراك خفي، ثم سألت بصوت دافئ يغلفه الحنو:
"والآن، أخبرني يا حبيبي.. ما سبب هذه الدموع الغالية".
نظر إليها حسن بعينين غارقتين في الدموع، وكأنها كانت الملجأ الأخير لحيرته وألمه. تردد للحظات، وكأنه يخشى أن ينطق بالكلمات، لأن النطق بها يعني الاعتراف بالحقيقة التي يحاول إنكارها.
أخفض عينيه، قبض على يديه بقوة، ثم همس بصوت بالكاد يُسمع:
"لماذا لم تخبريني؟ لماذا كذبتم علي كل هذه السنوات؟"
لم تحتج أنيسة إلى سؤال عمّا يقصده، كان الألم في صوته كافيًا لتعرف أنه قد عرف الحقيقة. وضعت يدها على وجهه بحنان ومسحت على رأسه كما اعتادت أن تفعل منذ طفولته، ثم همست:
"لأنني كنت أخشى عليك، حسن. كنت أريد أن أحميك".
توقفت أنيسة لوهلة، وكأنها تزن كلماتها بعناية، ثم تنهدت بعمق قبل أن تقول بصوت هادئ:
"منى جاءت في وقت كنتَ قد بلغتَ فيه سنًا حساسًا، وكنتَ قد وجدتَ استقرارك أخيرًا داخل عائلتك الجديدة. لم نرغب، أنا وخالد، في أن نربكك أو نعيد إليك الشعور بالضياع مرة أخرى."
ارتجف جسده، رفع رأسه إليها بعينين تضيقان بين الغضب والخذلان، وسأل بصوت مختنق:
"تحميني؟ لماذا إذًا سمحتم لها بالعيش معنا؟!"
أغمضت أنيسة عينيها بألم. ثم قالت بهدوء:
"لأنه حقها يا حسن.. في النهاية، هي أمك التي أنجبتك، وجاءت إلينا متوسلة، راجية أن نسمح لها بالبقاء بجوارك. كيف لي أن أمنعها، يا بني؟"
توقف صوتها للحظة، وكأنها تبحث عن الكلمات التي قد تخفف من وقع الحقيقة، ثم أضافت:
"كنت أريدك أن تكبر في أمان، أن تشعر بالاستقرار، لم أردك أن تعيش في صراع لا ذنب لك فيه، لكن في الوقت نفسه.. لم أستطع أن أحرمكما من فرصة أن تلتقيا."
ضحك حسن بسخرية مريرة، هز رأسه وهو يشيح بوجهه عنها، ثم قال:
"ولكني في صراع الآن، ماما.. في صراع لا أعرف كيف أخرج منه."
همس الفتى بصوت متهدج، يخفي خلفه ألمًا لا يُحتمل:
"هل تعلمين ما الذي فعلته لي تلك الحقيقة؟ لم أعد متأكدًا حتى من هويتي… المرأة التي لم أستطع تقبّلها يومًا… التي كنتُ أكرهها، هي أمي؟!"
توقّف لالتقاط أنفاسه، ثم تابع بصوت يملؤه الاضطراب:
"هذه الحقيقة فتحت في رأسي آلاف الأسئلة.. أسئلة أخشى معرفة إجاباتها."
نظرت إليه أنيسة بعينين تحملان الحزن والحب معًا، ثم قالت برفق، لكن بحزم:
"أعلم، يا حسن.. أعلم أن الصدمة قاسية، لكن هذا قدرك. وعليك أن تواجهه الآن بقوة.. الهروب من الحقيقة لن يغيّرها."
نظر الفتى إليها بعينين غارقتين في الخذلان، ثم قال بصوت متهدّج:
"وكيف أفعل ذلك؟ كيف أواجهها؟".
التزمت أنيسة الصمت وهي لا تعرف إجابة على سؤاله، ليكمل الفتى:
"كيف أتعامل معها من الآن فصاعدًا؟ هل أناديها ماما؟ أم أستمر في معاملتها كما كنت أفعل دائمًا.. كمربية تهتم بي؟".
دقق الفتى النظر إليها، محاولًا العثور على إجابة في عينيها، لكن كل ما وجده كان الحزن والصمت. ابتسم بسخرية يائسة قبل أن يقول:
"انظري إلى نفسك… أنتِ البالغة، ولا تجدين إجابة على أسئلتي. فكيف لي، وأنا لم أبلغ سوى السادسة عشرة، أن أجدها؟ كيف تتوقعين مني أن أواجه شيئًا لم تستطيعي أنتِ تفسيره؟".
تبدلت نظرات السخرية إلى حزن عميق:
"فكري في الأمر، الحقيقة صعبة جدًا… وربما الهروب الآن هو الحل الأفضل."
نهض الفتى، نظر إلى أنيسة نظرة يملؤها الحزن، وكأنه يحاول حفظ ملامحها في ذاكرته قبل أن يغادر. سألته بلهفة، تحاول التمسك به ولو بكلمة:
"إلى أين ستذهب؟"
توقف حسن للحظة، دون أن ينظر إليها، ثم أجاب بصوت خافت لكنه مثقل بالحيرة:
"لا أعلم يا ماما… حقًا لا أعلم."
استدار قليلًا وهمس بصوت مرتجف:
"إلى اللقاء… أتمنى أن تتحسني قريبًا."
ثم التفت متجهاً إلى باب الغرفة، تاركًا وراءه قلبًا قلقًا وعينين تترقبان عودته.
كانت يداه متجمدتان وهو يمدها نحو المقبض، لكنه لم يتمكن من فتحه، لأن أحدهم سبقه. تحرّك المقبض ببطء، وانفتح الباب ليكشف عن خالد واقفًا أمامه. للحظة، ارتسمت على ملامح الرجل علامات المفاجأة، لكن سرعان ما تبدّلت إلى البرود والهدوء المعتادين.
نهاية الفصل الثامن والثلاثون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء.. عاملين ايه في رمضان، يارب تكونوا مبسوطين.
يارب تكون الفصول جديدة عجباكم. وشكراً على صبركم.
كاتبتكم ءَالَآء
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق