أهلاً أعزائي القراء معاكم "ءَاَلآء طارق" كتابة روايتكم الجميلة "المنزل". طبيبة أسنان ولا داعي لذكر العمر فهو مجرد رقم.
قررت انهاردة أفتح باب لمناقشة فصول الرواية معاكم ومحاولة تبادل الآراء مع بعض علشان أقدر أوصل الرواية لأعلى مستوى يليق بي ككاتبة وبيكم كقراء عايزة أوصلهم عمل راقِ ملهم ومؤثر وممتع في نفس الوقت. وهنا مجردتعريف بسيط عن نفسي ككاتبة ليس أكثر.
هدف.
من أول ما قررت كتابة الرواية وأنا كل هدفي أدمج الثقافة والمعرفة والقضايا الاجتماعية الهامة مع متعة الأحداث والحبكة والسرد والحوار، باختصار إني أقدم ليكم نوع جديد من الروايات، نوع جديد يدمج الثقافة مع المتعة.
إعداد.
الحقيقة إني أول ما قررت ابدأ طريقي ككاتبة، حبيت يكون فيه فترة إعدادية قبلها علشان أكون جاهزة بنسبة كبيرة ومناسبة لكتابة رواية، بدأت أكثف القراءة، وفضلت أقرأ بنهم لمدة سنتين كاملين، مبعملش فيهم حاجة مع شغلي غير القراءة وسماع الموسيقى الكلاسيكة ومشاهدة المسرحيات والأعمال الفنية الراقية، والسير الذاتية. قرأت كتير جداً وفي كل حاجة روايات، مسرحيات، شعر، تطوير ذات وعلم نفس. الفترة دي اتعلمت فيها كتير وهي الفترة اللي اتشكل فيها فكري الثقافي والطريق اللي عايزة أمشي فيه في شكل الكتابة والقصص اللي عايزة أقدمها للناس. أكتفشت نفسي في الفترة دي وعرفت إن رسالتي اللي عايزة أقدمها هي إني أكتب عن المشاعر، مشاعرنا اللي مش عارفين نعبر عنها كمجتمع مصري وعربي، أكتشفت ان فيه ناس كتير مش بتعرف تعبر عن نفسها ولقيت إن سبب ده بكل بساطة هو قلة الثقافة والفكر بسبب سيطرة التكنولوجيا على عقولنا، والثقافات اللي تلقيناها خلال العشرين سنة اللي فاتوا من خلال السوشيال ميديا، وده أدى إلى تحديد وتأطير مشاعرنا وخيالنا، بعد ما كنا كمجتمع مصري مثقف وواعي ومتفتح تحولنا إلى مجرد مستقبلات بنقلد فقط ما هو ناجح، ومعدش عندنا فكر خاص بينا، ولا ثقافة متطورة مع الزمن، ولا خيال، ولا ارتباط بماضينا وتاريخنا العريق، حتى العلاقات الإنسانية مبقتش عميقة وصادقة زي زمان، مجتمعنا بقى بتسيطرعليه حالياً أفكار ومعتقدات غريبة للأسف، فصار مجتمع مجرد صورة، من برة ملونة جميله، ومن جوة مشوهة كل دي كانت تحديات شفتها بعيني كإنسانة كبيرة واعية، اتعلمت وقرأت واشتغلت وشافت ألوان كتيرة من الناس والشخصيات المختلفة.
رسالة.
وهنا اتشكلت رسالتي هي الدمج بين كل حاجة حسيت فيها نقص لازم يكمل، وإيماناً مني بأهمية الأدب وتأثيره على الثقافة والوعي واللي بيظهر في زمنا ده من خلال السينما والتلفزيون، قررت إني أكتب نوع من الأدب المعاصر، أستعرض فيه التحديات المجتمعية من خلال قصة جذابة ممتعة أدس فيها العسل في العسل، مش السم في العسل - آسفة على اللعب بالمثل - وهنا بدأت...
المنزل.
بدأت رواية المنزل شهر 9 2023، والحقيقة إني كنت بعتبرها في البداية تجربة أقيم بيها مستوى الكتابة اللي وصلته من خلال السنتين اللي اتدربت فيهم، مكنتش مدياها حقها الكامل، لحد ما لقيت نفسي بتعلق بيها وبالشخصيات وحاسة إني عايزة أتكلم عنهم أكتر، أحكي مشاكلهم وعواطفهم، ومن خلالهم أسلط الضوء على كتير من المشاكل اللي بتواجه مجتمعنا المصري المسكين، اللي يستحق الكثير من الحقوق الفكرية والثقافية، كامتداد لحضارة تزيد عن 7000 سنة، مجتمع يستحق يكون الأفضل عن جدارة واستحقاق، وهنا كان لازم أفهم أهمية السيطرة الثقافية والفكرية على العقول وتوجيها لما هو في صالح مجتمعنا وبلدنا العظيمة الجميلة، ورواية المنزل هي بدايتي في الطريق ده.
قرار إني أكتب رواية المنزل على النت هو اختيار بمحض إرادتي لأني أهدف لجمع المتابعين عن طريق النت بشكل أسرع، عن طريق ما يسمى برواية النت أو كما هو معروف عالمياً web novel اللي بتلاقي إنتشار واسع على جميع مستوى العالم، وبيتم بناءً عليها صنع مسلسلات وأفلام عالمية كانت في الأصل web novel، وده كان سبب اختياري نشر الرواية على النت.
رواية المنزل مش رواية كاملة من مجاميعها ولكنها مجرد محاولة أولى أظهر بيها آراء واعتقادات في نظري أنا هي الأهم، من خلال قصة عادية ممكن تكون فكرتها اتهرست في حكايات كتير، ولكني بحاول أعرضها بصورة وشكل مختلف عن المعتاد، وهنا اتعرفت على سالي بطلة روايتي اللي فيها جزء مني، طبيبة تعاني من الأكتئاب الوجودي والفراغ اللي بيوصلوها في النهاية للاستقالة من وظيفة ناس كتير بتحلم بيها وتقرر تشتغل كطبيبة مقيمة في منزل للأيتام، منزل وليس دار. وتبدأ التحديات مع 15 طفل وطفلة أيتام نشأوا في ظل حب ورعاية سيدة مسنة وابنها رجل شاب يتيم هو أيضاً، جميعاً كعائلة كبيرة تمارس حياتها كما تمارسها أية عائلة طبيعية. وهنا تبدأ القصة الإجتماعية الممتعة تحمل في طياتها تراجيديا وكوميديا وقضايا مهمة، وأخيراً لمسة عاطفية راقية بين البطل والبطلة لازمة لجذب القراء. وتتوالي الفصول في 15 فصل وقصة مازالت مستمرة مكتملتش لحد الوقت اللي بكتب فيه المقال ده. 15 فصل تعبت فيهم جداً كتبتهم بكل ما لدي من معرفة وطاقة وجهد كبير مع احترام لعقلية القارئ الذكي، المشاهدات تعدت ال 3000 مشاهدة وده رقم في نظري كبير من قليل، كونت من خلالهم متابعين قليلين اه ولكنهم مخلصين للرواية ومتابعين ليها بنهم، وهما فعلا جمهوري الكبير أوي اللي بكتب كل يوم علشانهم. في انتظار المزيد والمزيد من القراء لروايتي الأولى المنزل، وعلى عهد لتقديم الأفضل دائماً. شكراً ليكم.
أتمنى أن تكوني على ما يرام، شكراً لك على اقتراحك، يجب أن أبحث عنه وأقرأه. أخبريني ما هو نوع الأفلام التي تحبينها، دعيني أخمن ربما تكون الأفلام العاطفية؟].
***
فتحت سالي عينيها في الصباح الباكر، لم تنم الليلة الماضية بسبب التفكير وتأنيب الضمير، كانت تعلم أن والدتها تأثرت بسبب اسلوبها الجاف الذي تبنته أثناء الحديث معها، تأملت الساعة بجوارها، كان هذا وقت ذهاب والدتها إلى العمل. عملت والدتها لمدة 30 سنة في شركة الكهرباء دون كلل أو ملل على مدار تلك السنين، حتى وصلت إلى درجة لا بأس بها، ولكن مع وجود طفلتين كان الأمر مازال صعباً، رغم كل ذلك، كافحت المرأة لتوفير حياة كريمة لطفلتيها، وقد نجحت في ذلك بالفعل، لم تتذكر سالي أن والدتها قد غابت عن عملها يومًا لتستريح في البيت بإرادتها الخاصة، إلا في أوقات المرض، غير ذلك كان تستيقظ كل يوم الساعة السادسة صباحاً تجهز الفطور لها ولشقيقتها، وتذهب إلى عملها بعد إيصالهم إلى مدارسهم، والآن، كانت تسمع والدتها تتحرك خارج الغرفة، تجهز نفسها للذهاب إلى العمل كما اعتادت طوال حياتها، لا جديد، أمها هي أمها لم تتغير أبداً. تلك المرأة الهادئة جداً التي لا تنفعل إلا في أندر الأوقات، حرمت نفسها من ملذات الحياة لأجل طفلتيها. ارتدت أرخص الملابس وبخلت على نفسها إلى أقصى حد، لكي توفر احتياجاتهما وتعوضهما إحساس النقص. تقلبت سالي في سريرها وهي تشعر بعدم الراحة في ترك والدتها تذهب إلى العمل دون أن تصالحها وتراضيها. وقبل أن تنهض من سريرها بلهفة، سمعت صوت باب الشقة يُغلق ليغلق في وجهها فرصة مصالحتها في أسرع وقت. رحلت السيدة سهام وتركت سالي تشعر بالذنب وبتأنيب الضمير الشديد.
***
في الظهيرة كانت سالي تتفقد بعض الكتب في مكتبتها الصغيرة، بينما هاتفها يرن منذ دقائق، ولكنها كانت تنظر إليه من حين إلى حين وتتجاهله، لم بالرغبة في الرد علي هذه المكالمة الآن، حتى مرت نصف ساعة واقتحمت شقيقتها غرفتها وهي تمسك الهاتف قائلة بهمس:
"سالي بابا يريد الحديث معك!".
نظرت سالي إلى اختها بضيق ثم التقطت منها الهاتف:
"بابا أنا سالي".
"حمداً لله على سلامتك يا سالي، متى عدتي؟".
"شكراً، رجعت بالأمس، فقط إجازة لمدة أسبوع".
كان هناك صمت على الطرف الاخر لمدة ثوانٍ، قطعه صوت والدها الهادئ وهو يسألها:
"هل أنت متفرغة؟".
"نعم متفرغة".
"سأمر عليك بعد العمل، هل هذا مناسب".
"نعم سأنتظرك".
أنهت سالي المكالمة ببرود ثم أعطت الهاتف لشقيقتها التي سألتها:
"سيأتي؟".
أجابت سالي بهدوء وهي تعود إلى تصفح الكتب:
"نعم، سيمر علينا بعد عمله".
جلست زينة بجوارها على السرير وهي تقول بيأس:
"أتمنى ألا يثير المشاكل كما حدث المرة الماضية".
سألتها سالي باهتمام:
"نسيت أن أسألك، ما الذي فعله عندما زاركم؟".
"يا الهي لا أريد أن أتذكر، لقد حدث بينه وبين ماما جدال كبير جداً، ولكنها هدئت قليلاً عندما عرض عليها هذا العريس".
"آه".
جالت سالي بنظرها على ملامح شقيقتها، ثم سألتها بفضول:
"وأنت يا زينة كيف كان شعورك تجاه بابا؟ أنت لم تقابليه إلا مرات قليلة جداً".
تفاجئت زينة من السؤال، ولكنها أجابت عليه ببساطة:
"لا أعلم، لا أشعر أنني أعرفه، رأيته فقط منذ طفولتي عدة مرات، لم أكن حتى أتذكر وجهه".
ابتسمت سالي بحسرة وتذكرت حسرتها وندمها حتى الآن، ندمها على ماذا؟ لا تعلم. مثل هذا السؤال يغلبها حتى في نومها، ويجعلها تدخل في نوبات تفكير تجبرها على الاستيقاظ طوال الليل تسأل عن إجابة لم تعثر عليها حتى الآن. قطع أفكارها صوت زينة وهي تسألها:
"ما هو قرارك هل ستقابلين هذا العريس؟ بابا قال انه ابن رئيسه في العمل، ومستواه المادي جيد للغاية".
"سأقابله، ولكن لا تهمني مكانته ولا أمواله، الأهم شخصه".
نظرت زينة بقلق إلى سالي، فما رأته من إصرار والدها على هذا الشاب وموقف سالي الغير مفهوم كان مقلقاً. نفضت الشابة تلك الأفكار ثم انقضت على شقيقتها وهي تحتضنها بسعاد:
"وافقي يا سالي حتى أرتدي فستان!".
قالت سالي بابتسامة وهي تحاول الحفاظ على توازنها:
"كل ما يهمك هو ارتداء فستان؟".
"نعم هذا ما يهمني، أنا أحلم بهذا اليوم الذي ستتزوجين فيه".
ابتسمت سالي وهي تحتضن أختها الصغيرة بحب. وفي نفس الوقت يسيطر عليها شعور بالحسرة.
***
في صالة المنزل جلست سالي أمام والدها السيد جمال وبجوارها والدتها التي وصلت للتو من عملها، كان المشهد في نظر زينة التي وضعت الشاي أمامهم وكأنهم في تحقيق، جلست الشابة الصغيرة من بعيد تراقب هذا الموقف المريب. التقط السيد جمال كوب الشاي الخاص به وقال:
"أحمد شاب محترم ووالده رجل فاضل، إن سارت الأمور على مايرام ستعيشين معهم في بيت عائلة كبير، وبالطبع لديك شقتك الخاصة واسعة وراقية، أنا على ثقة من أنك ستتفقين معه".
ابتسمت سالي بسخرية وقالت:
"ما الذي يجعلك متأكد من أنني سأتفق معه إلى هذا الحد؟".
"سالي أنا لست في مزاج يجعلني اتحمل اسلوبك الفظ، عليك أن تقدمي استقالتك فوراً بعد لقاء أحمد".
تنهدت سالي قائلةً:
"بابا لنترك هذه الخطوة جانباً حتى ألتقي به، فربما لا يعجبني الأمر برمته".
نظرت إليه بتحدي، لتتدخل والدتها قائلة:
"لماذا تقولين هذا يا سالي، يبدو مما حكاه والدك أنه شاب مناسب".
كان لدى سالي قنابل لترد بها ولكنها قررت أن تمرر الأكر حتى لا يحتد النقاش. تدخل والدها:
"ستقابلينه بعد غد إن شاء الله الساعة السابعة مساءاً، سأمر عليكم قبل الميعاد".
قالت السيدة سهام:
"لا حاجة لتتعب نفسك، سنأتي بمفردنا".
نظرت سالي إليها متفاجئة بنظرات البرود في عيون والدتها، ليرد عليها الرجل بنفس النظرات الباردة:
"افعلوا ما تشاءون، المهم أن تصلوا في الميعاد المحدد".
حول الرجل نظره إلى سالي وقال:
"بالنسبة إلى الاستقالة، عليك أن تقدمي الاستقالة فوراً أنا لست موافق على تركك المنزل والعيش في محافظة أخرى، ماذا لو حدث لك شيء، كيف سنطمئن عليك؟".
تمالكت سالي أعصابها ولم ترد عليه، فأكمل هو قائلاً:
"إن أحببت سأنوب أنا عنك في ذلك".
"أبي أتمنى أن تؤجل هذا الحديث".
"لا، تأجيله معناه أنه باب النقاش فيه مسموح، وأنا رافض رفضاً قاطعاً لتلك الفكرة من الأساس".
"لا تضغط على ابنتي يا جمال، لقد أصبحت بالغة وتستطيع تحديد مصيرها بنفسها".
"لا تتدخلي من فضلك بيني وبين أبنتي".
وبدأ النقاش يحتد بينهما، فتدخلت زينة برفق:
"أرجوكم دعونا نؤجل هذا النقاش لوقت آخر".
نظر الزوجان إلى أطفالهما وخرصا، وقبل أن ينهض السيد جمال، نهضت سالي وقالت بهدوء وغمامة سوداء على وجهها:
"سأذهب إلى غرفتي".
جلست سالي على حافة سريرها، عيناها تجوبان الغرفة في استسلام. شعرت كأن الجدران تضيق عليها شيئًا فشيئًا، تخنق أنفاسها وتثقل قلبها. صوت الخلافات المستمرة بين والديها كان يتردد في رأسها كالطبول، حتى باتت تتمنى لو أنها تستطيع الهروب من كل شيء. نظرت إلى النافذة، إلى السماء التي بدأت تلبد بالغيوم بعينين فاقدتان للحياة، شعرت بأن حياتها كلها محاطة بغيوم كثيفة من اليأس. ابتلعت دموعها، وشعرت بألم في صدرها. "ليتني أستطيع أن أختفي"، فكرت سالي بصمت. ليت كل هذه الضغوط تختفي معها. شعرت بأن العالم قد تخلى عنها، وأنها أصبحت عالقة في دوامة من المشاكل التي لا تستطيع الهروب منها. عادت بها ذكرياتها إلى الماضي الذي لم تتمكن أبدًا من الهروب منه. تذكرت تلك اللحظات الحادة التي شاهدت فيها والديها يتشاجران بعنف، وكأنهما نسيا تمامًا وجودها هي وأختها. في تلك اللحظة، شعرت سالي وكأنها تحولت إلى طفلة مرة أخرى، طفلة عاجزة تقف في وجه عاصفة من الكلمات القاسية. الندم الذي شعرت به حينها لم يكن فقط بسبب عجزها عن فعل شيء، بل لأنه رغم كل تلك السنوات، لم تستطع أن تمنع نفسها من الاعتقاد بأنها كانت السبب في انهيار كل شيء. كانت تتمنى لو استطاعت أن تفعل شيئًا، أن تقول كلمة، أن تغير مجرى الأحداث. الآن، أدركت أن تلك اللحظة لم تكن مجرد ذكرى بعيدة، بل كانت جزءًا من تكوينها. كان الجرح القديم ينفتح من جديد، يذكرها بأن الماضي لا يندمل تمامًا، وأن الألم يظل هناك، ينتظر اللحظة المناسبة ليعود. أدركت أنها لم تتجاوز أبدًا انفصال والديها، وأن رؤية احتداد نقاشهم اليوم قد أحيا كل تلك الأحاسيس القديمة. كانت تتساءل كيف يمكن لأحد أن يتجاوز شيئًا كهذا، وكيف يمكن لها أن تعيش حياتها بشكل طبيعي بينما ظل هذا العبء جاثمًا على صدرها. منذ طفولتها، حاولت أن تبني جدارًا عاطفيًا حول نفسها، لتحمي قلبها من الذكريات التي تؤلمها. لكنها اليوم، وهي الطبيبة الشابة التي استطاعت التغلب على الكثير، شعرت بأن الجرح القديم الذي دفنته عميقًا قد عاد لينزف من جديد.
خرجت من أحزانها على صوت هاتفها، نظرت إليه وهي تشعر برغبة في تجاهله ولكن الاسم الذي ظهر أجبرها على التقاطته، كانت فرح التي أرسلت إليها رسالة:
[ماذا تفعلين؟ هل أنتِ معه؟ هذا العريس؟].
ابتسمت سالي رغماً عنها وأجابت عليها:
[يبدو أن الأمر وصل إليكم].
[نعم أنا وأخوتي الصغار نرتدي الفساتين وندعو الله ألا يعجبك هذا العريس].
كانت تغني الأغنية التي تعلمتها من سالي "الحنة". سمعتها سالي بابتسامة، وهي تشعر بالاشتياق إليهم، أعادت تشغيل التسجيل وهي تستمع إلى الأغنية مراراً وتكراراً، ثم أرسلت رسالة:
[لقد تطور صوتك يا فرح، أصبح ساحراً حقاً].
[حقاً؟ أشعر بالخجل].
[عندما أعود سأعلمك المزيد من الأغاني].
[سأنتظرك، لا تتأخري].
ابتسمت سالي وهي تتخيل الأطفال ينتظرونها. تسائلت هل هي شخص مهم إليهم؟ هل الأطفال الصغار نسوا أمرها بالفعل؟ خافت أن تكون مهووسة بهم بطريقة مبالغ فيها، ولكنها وقعت في حبهم بقوة، وأرادت أن تقضي معهم المزيد والمزيد من الوقت، لم تشعر بتلك السعادة في وجود أحدهم كما شعرت في وجود الأطفال. فكرت في عدد الأيام المتبقية للعودة، عليها أن تعود إليهم.
***
جلس حسن على الأرض في قاعة التدريب في النادي والابتسامة لم تفارق وجهه وهو ينصت إلى اللكمات المتتالية التي توجه إلى ريم تلك المتدربة الجديدة، الفتاة المسكينة كانت تحاول تفادي اللكمات بصعوبة، وتنجح تارة وتفشل تارةً أخرى. لم تكن هذه الفتاة مناسبة لمثل هذه اللعبة، ليس لأنها فتاة بل لأنه من الواضح أنها شخصياً غير مناسبة لممارسة هذه اللعبة، كانت خائفة ومتوترة ومرتابة من الجميع. ما الذي جعلها تأخذ مثل هذا القرار الجريء. لم تكن ريم تعلم أنها مراقبة من جميع من في القاعة وأن هناك من يسخر منها، بعد جولة من التمرين سقطت على الأرض بتعب، تجمعت الدموع في زوايا عينيها، ولكنها أغمضتهم بقوة حتى لا تسقط الدموع أمام الناس، لم يكن لديها وسيلة حتى تتعامل مع مثل هذه اللعبة، ولكنها كانت مضطرة لذلك. وبينما وهي تمسح عينيها لمحت حسن ينظر إليها فالتفتت ونهضت عن الأرض وهي تحاول استعادة طاقتها لتكمل تمرينها، حتى انتهي وقت التمرين وخرج حسن من دورة المياه وشعره مبلل، وبينما وهو يسير في تجاه البوابة الخاصة بالنادي سمع صوتاً من وراءه ينادي أسمه:
"حسن!".
التفت الفتي بحيرة ليرى ريم تجري تجاهه وفي يدها عصير بارد، وقفت الفتاة والتقطت انفاسها قبل أن تتحدث معه:
"أعتذر عن مقاطعتك، ولكن أريد أن أشكرك على أجرة السائق المرة الماضية، هذا تعبير عن شكري".
قدمت الفتاة العصير البارد إليه بامتنان، فنظر إليه حسن لثوان وهو يشعر بالحيرة، ولكنه التقطته منها في النهاية قائلا:
"لم يكن هناك حاجة لذلك".
قالت الفتاة الخجولة بفخر:
"ولكن عليّ أن أرد لك الجميل، أنا ريم".
سألها الفتى وهو يشرب عصير البرتقال البارد الذي يكرهه من قلبه:
"وأنا حسن، كيف عرفت أسمي؟".
"من المدرب، التقطته وهو يناديك".
التفت حسن ليخرج من البوابة الخاصة بالنادي، فتتبعته الفتاة وهي تتحدث:
"ولكن يبدو وأنك ماهر حقاً في اللعبة".
نظر الفتى إلى الفتاة ذات الشعر القصير وقال:
"وأنت سيئة للغاية في هذه اللعبة".
صدمت الفتاة من صراحة الفتي وشعرت بالخجل:
"أهذا واضح؟".
"للغاية، ابحثي عن لعبة غيرها".
لم ترد عليه الفتاة فنظر إليها ليجدها متوترة، وقال مصححاً أسلوب حديثه:
"أعني أن تجربي لعبة غيرها، أجدك غير متوافقة مع مثل هذه اللعبة القتالية".
"آه".
اكتفت الفتاة بهذا الرد، فقال حسن وهو يشعر بأنه أفسد مزاجها:
"أعتذر لو ضايقتك، كنت فقط أعبر عن رأي".
نظرت إليه الفتاة وابتسمت بطيبة:
"لا لم تضايقني ولكني مضطرة لممارسة هذه اللعبة".
تأملها حسن وشعر بأنه عليه أن يخرص قليلاً ويكف عن إلقاء الكلام الجاف في وجهها. سارت الفتاة بجواره وهي تسأله:
"إذاً، أين منزلك؟".
لم يرد عليها حسن ولكنه أكمل السير تجاه الشارع وأشار إلى سيارة أجرة، أخبر السائق بمنطقة ريم، ثم نظر إليها وقال:
"اركبي".
ركبت ريم وانتظرت أن يركب حسن بجوار السائق ولكن الفتى أشار إلى السائق ليتحرك، نظرت الفتاة إليه من الزجاج بحيرة، ولكنهما غابا عن أنظار البعض مع تحرك السيارة.
***
اجتمع كل من في المنزل أمام شاشة التلفاز ما بين تركيز مع الفيلم المعروض والأحاديث الجانبية، اقتربت ليلى من اختها أميرة التي تنظر إلى التابلت بين يدها باهتمام شديد، كانت ليلى تشعر بالفضول الشديد تجاه ما تقرأه أميرة في التابلت، ولطالما أحبت أن تحكي لها أميرة عن القصص والمعلومات التي تقرأها كل يوم، حاولت ليلى كثيراً أن تقلدها وتتطلع على نفس الكتب التي تقرأها اختها، ولكنها فشلت، لم تكن تستسيغ الكتب ولا القراءة، بالكاد كانت لديها طاقة للكتب التي تدرس فيها، الأمر كان دائماً مملاً في نظرها. سألت ليلي أختها:
"ماذا تقرأين يا أميرة؟".
كانت أميرة مشغولة جداً في القراءة لتنصت إلى سؤال اختها. كررت ليلى السؤال:
"أميرة! أحكي لي ما تقرأين؟".
أخيراً، استمعت أميرة إليها، والتفتت إلى أختها بنظرة شاردة وكأنها كانت بعيدة في عالم آخر:
"أقرأ عن المركزية الأفريقية."
مال رأس ليلى بتعجب، ولم تفهم الكلمة بشكل كامل. كررت أميرة الكلمة باللغة الإنجليزية:
"Afrocentrism."
قالتها وكأنها تحاول جعلها أكثر وضوحاً.
ليلى، بلهجة ممزوجة بالاستغراب والابتسام: "هل تعتقدين أنني لا أفهم العربية حتى تترجميها بالإنجليزية؟ أريد أن أفهم معناها".
نظرت أميرة بقلق إلى التابلت، وهي تشعر بالحيرة في كيفية شرح الموضوع بشكل مبسط. هنا تدخلت فرح، التي كانت تجلس بالقرب وتستمع إلى الحديث باهتمام:
"سمعت عنها، أليست هي تلك الحركة التي أسسها الأفارقة ذوو البشرة السمراء والذين ينسبون تاريخ مصر إليهم؟".
لم تمر ثوان على تلك الجملة وصوت التلفاز تم خفضه، نظر الجميع إلى المصدر وكان أنيسة التي تراقبهم باهتمام وتسأل شابكة كفيها مع بعضهم البعض:
"من فضلك يا أميرة اشرحي لي ما قرأته؟".
أومأت أميرة لأمها وأجابت في نفس الوقت على فرح وأيضاً وجه شرحها للجميع:
"نعم، هذا جزء منها. لكن الموضوع أعمق بكثير من ذلك. إنها حركة تسعى لإعادة كتابة التاريخ وتفسيره من منظور أفريقي بحت. يعتقدون أن كل الحضارات العظيمة في العالم أصلها أفريقي، وبالذات الحضارات الأفريقية القديمة التي يرون أنها الأهم."
ليلى بتعجب: "ولكن لماذا يشكل ذلك خطرًا؟"
أميرة وهي تعدل نظارتها:
"المشكلة تكمن في أن هذه الحركة تأخذ منحى أكثر عدوانية. إنهم يحاولون تهميش أو حتى إنكار مساهمات حضارات أخرى، خاصة الحضارة المصرية."
أنيسة بنبرة قلقة:
"لكن كيف ذلك؟ الحضارة المصرية لها تاريخ طويل ومجيد، معروف منذ آلاف السنين."
أميرة، وهي تحاول شرح الأمور بتأنٍ:
"بعض مؤيدي المركزية الأفريقية يروجون لفكرة أن الحضارة المصرية القديمة كانت حضارة أفريقية سوداء بشكل كامل، وأن كل ما نعرفه اليوم عن الحضارة المصرية قد تم تحريفه لصالح الأوروبيين والعرب. هم يعتقدون أن الفراعنة كانوا أفارقة ذوي بشرة سوداء، وأن هناك مؤامرة كبرى لإخفاء هذا الحقيقة."
أنيسة بانفعال:
"هذا لا يبدو منطقيًا. لدينا أدلة تاريخية وأثرية تؤكد على تنوع الحضارة المصرية القديمة، والآثار واضحة في هذا الأمر".
أميرة بنبرة جادة: "بالضبط، وهذه هي النقطة. المشكلة ليست في أن لديهم رأيًا أو نظرية، بل في أنهم يحاولون فرض هذا الرأي كنظرية وحيدة صحيحة، ويحاولون إعادة كتابة التاريخ بطريقة تتجاهل أو تشوه الحقائق المعروفة. هذا قد يؤثر على كيفية فهم الناس لتاريخهم، وقد يؤدي إلى نزاعات وصراعات نحن في غنى عنها".
أجابت أنيسة وهي تعدل جلستها بتوتر: "التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو تفسير لتلك الأحداث وتأثيرها على الحاضر. إذا سمحنا لتفسيرات غير دقيقة بأن تصبح شائعة، قد نفقد فهمنا الحقيقي لجذورنا وتاريخنا. الحضارة المصرية لها دور كبير في تشكيل هوية المنطقة بأكملها".
ليلى بتساؤل: "لكن ألا يجب علينا أن نستمع لكل الآراء؟ ماذا لو كانت هناك حقائق جديدة لا نعرفها؟".
أنيسة التفتت إليها مجيبة: "بالطبع، يجب أن نستمع لكل الآراء، وعلينا دائمًا أن نكون منفتحين على المعلومات الجديدة. ولكن الفرق هنا هو بين الاستماع للرأي وبين القبول بالتشويه. تلك المركزية الأفريقية كما فهمت من أميرة تحاول تقديم صورة مشوهة للتاريخ لتحقيق أهداف سياسية أو أيديولوجية".
فرح: "لكن هل تعتقدين أن هذه الحركة لها تأثير حقيقي؟ أعني، في النهاية، التاريخ المصري معروف وواضح".
أنيسة بقلق وهي تتذكر قضية مماثلة، وهي قضية فلسطين والصهيونية: "ربما ليس لدينا تأثير كبير هنا في مصر حتى الآن، لكن في الخارج، وخاصة في المجتمعات الأفريقية والجامعات الغربية، تجد هذه الأفكار صدى كبيرًا. إنها تشكل تهديدًا لفهم العالم لتاريخنا، وإذا لم نكن حذرين، قد تنتشر هذه الأفكار وتصبح جزءًا من الوعي العام".
سألت ليلى: "لكن كيف يمكننا مواجهة هذا التحدي؟ كيف نستطيع حماية تاريخنا؟".
أنيسة بابتسامة خفيفة متوترة: "الأمر يتطلب وعيًا وفهمًا عميقًا للتاريخ. يجب أن نعمل كمصريين على نشر المعرفة الحقيقية، وأن نكون نحن من يقدم التفسيرات المدروسة والدقيقة لتاريخنا. إذا أردنا أن نواجه هذه التحديات، علينا أن نكون نحن المصدر الرئيسي للمعلومات حول حضارتنا".
فرح: "وهل تعتقدين أن هذا يكفي؟".
أنيسة: "لن يكون الأمر سهلاً بالطبع. ولكن، إذا تمكنت الحكومة من الوصول إلى الشباب بشكل سلس وعاطفي لتعلمهم حقيقة وبديهيات تاريخهم وتربطهم به عاطفياً، فإننا سنكون قد خطونا خطوة كبيرة نحو حماية هويتنا وتاريخنا".
أميرة بنبرة تأمل: "علينا أن نكون فخورين بتاريخنا، ولكن في نفس الوقت يجب أن نحميه من أي تشويه قد يحدث له".
أنيسة موافقة: "بالضبط يا أميرة. الفخر بالتاريخ ليس فقط بالاحتفاء بما أنجزناه، بل أيضًا بحمايته من أي محاولات لتشويهه. إذا كنا نحب حضارتنا بالفعل، فعلينا أن نكون مستعدين ومنتبهين للدفاع عنها بطريقة علمية وموضوعية".
أكملت بعد لحظات من التفكير: "التعليم هو الحل. يجب التأكد من أن الجيل الجديد يعرف تاريخه جيدًا. وألا نترك مجالًا لأي تحريف أو تلاعب. الفهم الحقيقي لتاريخنا سيحمينا من أي تهديدات، سواء كانت داخلية أو خارجية".
تدخلت السيدة منى:
"ولكن كيف سنصل للجيل الجديد مع الانحدار الثقافي الذي نعيشه، معظم الأطفال حتى لا يذهبون إلى المدارس ويعتمدون على الدروس الخصوصية حتى ينجحوا فقط".
قالت ليان:
"ولكن نحن نذهب إلى المدرسة يا ماما!".
تنهدت أنيسة:
"نعم يا حبيبتي، أنتِ في مدرسة خاصة، ولكن الأطفال في مستوى مادي أقل يذهبون إلى المدارس الحكومية، وظروف المدارس الحكومية أفظع مما تتخيلين، هناك أطفال لا يذهبون إلى المدرسة إلا في فترة الامتحانات وربما لا يذهبون من الأساس، للأسف التعليم في أسوأ في حالاته"
تنهدت منى وهي تسترجع طفولتها:
"لا أتذكر يوماً في طفولتي لم أردد نشيد بلادي بلادي، كان لدينا دائماً فخر واعتزاز بوطننا".
"نعم يا منى، المدرسة هي الوسيط الأول في العلاقة بين الطفل ووطنه، وأيضاً الأهالي كانوا حريصون على تعليم أطفالهم وتثقيفهم، ولكن الوضع حالياً من سيء لأسوأ".
قالتها أنيسة وهي تشعر بثقل في قلبها، وبعد دقائق من التفكير:
"أستأذنكم سأذهب إلى غرفتي".
صعدت إلى غرفتها وهي تشعر بأن مزاجها تعكر بسبب ما سمعته، وتذكرت تلك الفترة التي سببت لها الألم في حياتها، النكسة وحرب 73، استلقت على السرير بإرهاق وهي تشعر بالدوار ورغبة جديدة في القيء، وضعت يدها على جبينها وترددت جملة في ذاكرتها:
"سأعود يا أنيسة، انتظريني".
ظلت تلك الجملة تتردد في ذهنها حتى غلبها النوم والدموع تتجمع في طرف عينيها.
***
كانت نور في فصلها تستمع جيداً إلى شرح المعلمة، وهي تحاول التقاط المعلومات، وهاتفها يسجل ما تشرحه المعلمة، لم تسعف لغة برايل الطفلة التي اعتادت على أحدث التقنيات للمكفوفين، فاضطرت للتسجيل بهاتفها ومراجعة الشرح في المنزل حتى يصل جهازها الجديد، وفي منتصف الشرح تدخلت إحدى زميلات نور تتنمر عليها:
"معلمة من فضلك، لماذا تسمحين لنور باصطحاب هاتفها إلى الفصل، أليس هذا ممنوع؟".
"نور استأذنت مني، كما أن جهازها معطلاً وأنا سمحت لها بتسجيل الدروس، كما أنني أخبرتك من قبل أن تكفي عن مثل تلك التصرفات الغير مقبولة".
لاحظت المعلمة أن نور تلتقط هاتفها وتضعه في حقيبتها فنظرت إلى الأولاد وتحدثت في خطاب حكيم:
"يا أولاد، من فضلكم اسمعوني جيداً، نحن هنا في المدرسة وفي بيتنا الثاني، هذا يعني أننا عائلة كبيرة، نحن لسنا هنا فقط في مكان نتعلم فيه المواد المقررة بل هي أيضًا مكان نبني فيه شخصياتنا ونعزز فيه قيمنا. أنتم تقضون هنا ساعات طويلة كل يوم، تتفاعلون مع زملائكم ومعلميكم، وهذا يعني أن كل تصرف صغير له تأثير كبير على من حولكم. كل واحد منكم يساهم في صنع الجو العام في المدرسة، كل كلمة طيبة، وكل تصرف محترم، يصنع فرقًا كبيرًا. نحن هنا لندعم بعضنا البعض، لنشجع بعضنا البعض ليس فقط بسبب ما نتعلمه من كتب، ولكن بسبب ما نتعلمه من بعضنا البعض. أن تكونوا جزءًا من هذا المجتمع يعني أن تتحملوا مسؤولية الحفاظ على روح الاحترام والمحبة بينكم، الارتقاء بأخلاقكم يتجلى في تعاملنا مع بعضنا البعض. من فضلكم لنعمل على بناء بيئة يسودها الاحترام والتقدير المتبادل. لا تنسوا أن كلماتكم وتصرفاتكم يمكن أن تؤثر على زملائكم بشكل كبير، لسنا هنا لنكون عداءات أو أرجو منكم ألا نصعب الأمور على بعضنا البعض، وأخيراً إذا واجهتم صعوبة أو خلافاً مع أحدهم، أرجوكم ألا تترددوا في التحدث مع معلميكم أو مديري المدرسة. أتمنى منكم الالتزام بهذه المبادئ والقيم".
نظرت المعلمة بصرامة إلى تلك التلميذة التي تتنمر على نور وختمت حديثها:
"شكراً لاستماعكم".
نظر الأولاد إلى بعضهم البعض ثم إلى نور زميلتهم التي كانت سبباً مباشراً في هذه الخطبة، وأخذوا يتهامسون حتى انتهت الحصة. ذهبت نور إلى دورة المياه بين الحصتين وهي تشعر بالضيق الشديد الذي جعل نبضات قلبها تتسارع وجسدها يهتز، أمسكت هاتفها وذكرت أسم معين حتى يتصل به الهاتف.
***
كان خالد في مكتبه يمارس عمله كالمعتاد، وبينما وهو منخرط فيه سمع هاتفه يهتز فترك ما كان يشغله والتقطه وهو يشعر بالحيرة من الاسم الذي يتصل به، فتح المكالمة وهو يشعر بإحساس غير مرغوب فيه، وقال بلهفة وقلق:
"نور، هل حدث شيء ما معك؟".
كان هناك صوت تنهدات مكتومة، ثم مرت لحظات وسمع الطفلة تقول:
"أبيه، تعال وخذني".
لم ينتظر خالد المزيد ونهض مسرعاً وهو يقول:
"سأكون عندك خلال 10 دقائق".
خرج من مكتبه محاولاً ضبط توتره، وطلب من محمود والسكرتير المساعد أن يقوموا بأية مهام مطلوبة، نظر الأثنان إلى بعضهما البعض بحيرة وهما يتأملانه بحيرة، كان قلقاً وبدأت حركاته الهادئة في التسارع، فسأله محمود:
"خالد هل هناك مشكلة؟ هل أرافقك؟".
نظر إليه خالد بتوتر وهو يمد يده:
"نور اتصلت بي، كانت تبكي، أعطني مفتاح السيارة سأذهب بنفسي".
أخرج محمود مفتاح السيارة من جيبه وهو يقول:
"هل هي على ما يرام؟".
"لا أعلم، ولكنها طلبت منى أن أذهب واصحبها".
لم يتفوه خالد بأكثر من ذلك وخرج من مكتبه تجاه سيارته. فتح السيارة وهو يحاول الاتصال بأحمد الذي لم يرد عليه. قاد وعقله طوال الطريق يسترجع ذلك الحوار الذي دار بينه وبين نور:
"لا أعرف كيف أتحدث أبيه، الكلام لا يريد الخروج من فمي، أنا أحاول ولكني لا أستطيع".
تذكر تلك الجملة التي قالتها نور. ما الذي تريد أن تبوح به ولكنها لا تستطيع، شعر خالد بأنه كان من الأفضل في ذلك أن يجبرها على الحديث. تلك الطفلة منذ وصولها إلى المنزل بتلك العاهة، لم تكن عبئاً على أحد بكل صدق، بل كانت مجتهدة وتتعلم كل الوسائل التي تجنبها الحصول على المساعدة من أي أحد، حتى أنها طلبت ممارسة الطبخ وإمساك السكين حتى تشعر بطبيعتها وسط أخوتها، هذا جعل الجميع حريص عليها من بعيد لبعيد، حتى المساعدة من يعرضها فهو يعرضها وقتما لا تجد الطفلة حل غيرها. تذكر خالد صوتها وهي تتنهد: "أبيه، تعال وخذني". ما الذي حدث ليجعل شخص قوي مثل نور يصبح بمثل هذه الهشاشة، وصل خالد إلى مدرسة الأطفال وسأل عن فصل نور، طرق باب الفصل وهو يسمع شرح المعلم الذي فتح الباب وتأمل بحيرة ولي أمر نور مستر خالد الذي قال بهدوء:
"أنا ولي أمر نور، من فضلك هل تسمح لي أن أصحبها".
نظر المعلم إلى نور وبجواره خالد الذي مد رأسه من الباب قائلاً بصوت عالٍ وهو يجول باحثاً عنها بنظره:
"نور، أنا هنا".
ليجدها تجلس بمفردها في زاوية بعيدة. انتفضت الفتاة عند سماع صوت خالد ونهضت من على كرسيها وهي تحاول جمع حاجياتها. سأل المعلم خالد:
"هل حصلت على إذن من المديرة لاصطحابها؟".
"لا ليس بعد، سأذهب إليها بعد اصطحاب نور".
نظر المعلم بين الطفلة وولي أمرها وقال بحيرة:
"ولكن لا يجوز أن تأخذها إلا بعد سؤال المديرة".
"من فضلك الطفلة تشعر بالمرض، ولا تستطيع البقاء أكثر من ذلك في الفصل".
نظر المعلم إلى نور التي بدت شاحبة بالفعل وعلى وشك الانهيار، وسألها بقلق:
"نور هل تحتاجين الذهاب إلى العيادة؟".
لم ترد الطفلة عليه وهي تشعر بخالد يسحبها تجاهه ويضع يده على كتفها بحماية قائلاً نيابةً عنها:
"سآخذها بنفسي إلى العيادة".
وأخيراً سمح المعلم لخالد باصطحاب نور وخرجوا من الفصل. وقبل أن يذهبوا إلى مكتب المديرة جلس خالد على أقرب كرسي وجلست نور بجواره. سألها:
"نور ما الذي يجري معك؟ ما سر هذه المكالمة".
كان متأكداً من أنها لن ترد عليه، فقال بنفاذ صبر:
"نور لا أستطيع مساعدتك إلا بمعرفة ما يجري معك، هل هذا بسبب الجهاز الذي تعطل؟ إن هذا الــ".
وقبل أن يكمل خالد كلامه أمسكته نور من كم قميصه بقوة قائلةً:
"أبيه من فضلك لا أريد أن أذهب إلى المدرسة، اسحب ملفي من فضلك، أو حوله إلى مدرسة أخرى".
ذُهل خالد من قرار الطفلة الصادم ونظر إلى قبضتها القوية على قميصه، وقال مصدوماً:
"لماذا تقولين ذلك؟ هل حدث معك أمر ما ضايقك؟".
"لا أشعر أن هذا المكان مناسب لي، أرجوك أبيه حقق رغبتي".
كانت الفتاة تلح عليه والدموع تتجمع في زوايا عينيها مما جعل قلب خالد يتألم وهو يراها على هذا الحال، فقال برفق وهو يفك قبضتها ويحتضن يدها الصغيرة بين كفيه قائلاً:
"نور دعينا نفكر بعقلانية، أولاً نحن مازلنا في بداية الفصل الدراسي من الصعب جداً سحب الملف الخاص بك ووضعه في مدرسة أخرى، ثانياً إن كان هناك أمر ما يضايقك في المدرسة عليك أن تصارحيني حتى نحل تلك المشكلة، ثالثاً أخوتك هنا معك إن احتجتِ لشيء فأطلبي من أحدهم مساعدتك، سأكون مطمئناً عليكم وأنتم جميعاً معاً".
انهارت نور في البكاء، واحتضنها خالد محاولاً مواساتها وهو يشعر بالعجز الشديد أمام الطفلة، تمنى لو أنه هو من يتلقى هذا الألم وليس تلك الطفلة الهشة، ظل نور تبكي وخالد يواسيها حتى هدئت قليلاً، ثم ذهبوا إلى مكتب المديرة. في مكتب المديرة نظرت مديرة المدرسة إلى نور بشفقة ثم إلى خالد الذي تحدث بهدوء:
"سيدتي لاحظت أن صحة نور النفسية غير مطمئنة مؤخراً، وأنا متأكد أن للمدرسة دور في ذلك".
قالت المرأة وهي تعدل نظارتها:
"صدقني مستر خالد نحن حريصون دائماً على صحة الأطفال النفسية، كما أنه هناك مشرفة اجتماعية تتحدث معهم من حين إلى آخر، أليس كذلك يا نور؟".
أومأت الطفلة الكفيفة برأسها، فتألم قلب خالد وهو يراها على هذا الحال المثير للشفقة. التفت قائلاً بجمود:
"إذاً ما الذي دفعها لتطلب مني سحب ملفها من هذه المدرسة؟".
نظرت المرأة بصدمة إلى نور وقالت بتلعثم:
"ماذا؟ هل قالت نور هذا الكلام؟ حقاً يا نور؟".
لم ترد الطفلة على مديرة المدرسة التي شعرت بالخطر من رحيل تلميذة من ذوي الاحتياجات الخاصة التي تدخل دخلاً مرتفعاً عن باقي زملائها في المدرسة، فالتقطت المرأة سماعة الهاتف، وضغطت على زر يتصل بغرفة المعلمين، واستدعت بالاسم المعلمة المشرفة على فصل نور، وقبل أن تصل المعلمة طلب خالد من نور الانتظار في الخارج. بعد دقائق وصلت السيدة هبة معلمة نور التي نظرت بحيرة بين خالد والمديرة. راقبها خالد ولاحظ أن ملامح الحيرة تبدلت إلى إدراك، جلست المرأة وسمعت مديرة المدرسة تسألها:
"هبة من فضلك، بما أنك مشرفة الفصل الخاص بنور، هل لاحظتي أمراً قد يجعل نور غير مرتاحة وتطلب سحب ملفها؟".
ترددت المعلمة ونظرت إلى خالد بريبة، ولكنها جمعت شتات أفكارها، وقالت بهدوء:
"في الواقع مستر خالد الأطفال في الفصل لا يندمجون مع نور بشكل طبيعي، يصبون كامل تركيزهم عليها بشكل غير طبيعي، أحياناً أشعر بأنهم يغارون منها".
سألت المديرة بصدمة:
"يغارون من طفلة كفيفة؟".
نظر خالد إلى المديرة بغضب، ثم التفت مرة أخرى إلى المعلمة وقال:
"ماذا لدى نور أكثر منهم؟ جميعهم متساوون في كل شيء، لا أعتقد أن أحدهم يفوق الآخر في أي ميزة، أم هل تجاملينها على حساب زملائها مما جعل الأطفال يشعرون بالغيرة منها".
قالت المعلمة بهدوء:
"مستر خالد، في الواقع كنت متخوفة جداً في البداية من انضمام طفلة من نظام الدمج في صفي، ولكن نور سرعان ما أثبتت أنها تلميذة مجتهدة ومتفوقة، صدقني أنا لم أجامل نور يوماً منذ انضمامها للصف، بالعكس كنت حيادية معها دائماً وأمينة على مستواها، لم أرفع يوماً من قدرها إلا وكانت بالفعل تستحق. ولكن عليك أن تفهم أن الغيرة عند الأطفال في سن 11-12 سنة هي شعور طبيعي قد يظهر نتيجة لتطور الوعي الاجتماعي والعاطفي لديهم. في هذه المرحلة العمرية، يبدأ الأطفال في مقارنة أنفسهم بشكل أكبر مع أقرانهم. يمكن أن تنبع الغيرة من الشعور بأنهم أقل تميزًا، إذا شعر الطفل بأن أحد إخوته أو أصدقائه يحصل على اهتمام أو تقدير أكبر من الوالدين أو المعلمين، فقد يشعر بالغيرة. ومع نور كان الأمر غريباً عنهم، فالامتيازات التي تحصل عليها تلقائياً كونها كفيفة مثل الجهاز الذي تحضره معها كل يوم للتعلم في نظرهم هو امتياز، لو تفوقت نور في بحث عن جدارة كما حدث منذ فترة فهذا أيضاً يعتبر في نظرهم امتياز، لأنهم للأسف يرونها ناقصة في نقطة ما عنهم، أعتذر عن قول هذا ولكن هذا هو تفكيرهم".
استمع خالد إلى الكلام المنطقي جداً وشعر بالتخبط والحيرة، ولم تدع له المعلمة مجالاً للتفكير وأكملت:
"أرجوك مستر خالد لا تفكر في أن هذا الأمر هو تقصير من المدرسة، أنا أحاول دائماً مع جميع زملائي المعلمين أن نقرب بين نور وزملائها، الأمر فقط يحتاج إلى المزيد من الوقت، مازالت نور في سنتها الأولى في نظام الدمج، كما أنها شخص هادئ ومنطوي عن باقي زملائها، وهذا أمر طبيعي، ولكن مع الوقت الأمور ستتحسن بالتدريج".
تدخلت المديرة وقالت:
"ومع ذلك، أنا أعتذر عما بدر من الطلاب، سأتأكد من التحدث مع أولياء أمورهم بالطبع بمساعدة الأخصائية الاجتماعية ومس هبة، وأعدك أن هذه المشكلة سيتم حلها فوراً".
خرج خالد من مكتب المديرة وقال لنور التي تنتظره شاردة في عالمها الخاص:
"نور هيا لنذهب إلى المنزل، حصلت على إذن من المدير".
ساعدها خالد وحمل حقيبتها المدرسية، وأمسك كفها بقوة، وبينما وهما يخرجان من المدرسة سمعا صوتاً من الخلف:
"أبيه، ماذا تفعل هنا؟".
التفت خالد ليرى أحمد يقلب نظره بينه وبين نور بقلق:
"نور هل أنتِ بخير؟".
نظر إلى خالد متسائلاً:
"ماذا حدث؟".
"نور مرهقة قليلاً سأصحبها إلى المنزل، اذهب إلى فصلك يا أحمد".
التفت خالد الذي يمسك كف نور وخرجوا من بوابة المدرسة تحت أنظار أحمد الذي يتأملهم، تفاقم شعور أحمد بالريبة والقلق منذ أن لمحهم من الطابق الأول للمدرسة بينما وهو عائد من المكتبة، ركض الفتى مسافة طويلة حتى يلحقهم، وها هو أبيه خالد يعطيه إجابة مبهمة غير مفهومة زادت من قلقه، وأيضاً ملامح نور الشاحبة الحزينة أقلقته، كانت نور حزينة، هو متأكد من ذلك بما أنه الأقرب إليها، وعليه الآن أن يعلم السبب. أخرج الفتى هاتفه ليجد مكالمة فائتة من خالد لم يتم الرد عليها. نظر إلى نور وهي تدخل السيارة بمساعدة أبيه خالد، وضغط على إحدى تطبيقات المقامرة.
***
[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: سالي
أحب بالفعل الأفلام العاطفية، شاهدت مؤخراً فيلم معبودة الجماهير أنا أحب هذا الفيلم للغاية. ولكني لست مهووسة بالأفلام العاطفية إلى هذا الحد الكبير. أميل في العموم إلى الأفلام الإنسانية المؤثرة، وأنت، ما هي نوع الأفلام التي تفضلها، وسؤال آخر هل تذهب إلى السينما باستمرار؟ فأنا لم أعد أستسيغ ما يعرض من أفلام في وقتنا الحالي.
مع خالص الاحترام
سالي].
نهاية الفصل الرابع عشر
***
أهلاً أهلاً، عايزة أرحب بمتابعيني الجداد، وبشكرهم جداً على كلامهم الجميل، سعيدة أوي بردود الأفعال اللطيفة اللي بتجيلي من فترة للتانية، وده بجد بيشجعني أوي، كل كومنت بيجيلي بيمحي أي شعور بالكسل أو اليأس، محتاجة اوي ردود أفعالكم ونقاشكم، حتى نقدكم محتجاه. حبيت في الفصل ده أتطرق لمشكلة الأفروسينترك علشان دي قضية مهمة يجب ألا تخلو من أي عمل، مهم أوي أوي يبقى فيه وعي تجاه القضية دي لأنها بتهديدها لمصر هي بتهدد كل الدول في المنطقة العربية خاصةً دول شمال أفريقيا أخواتنا، مهم الوعي، مهم جداً، هو السلاح اللي بنحارب بيه، تمرير الوعي ده لأولادنا والأجيال الجاية مسؤولية واجبة علينا، حتى لو كنت جنسية عربية مختلفة. بشكركم جداً مرة تانية واستنوني في الفصل الجاي بإذن الله.
سؤال للنقاش، يا ترى ايه الحل المفروض خالد يتبعه لحل مشكلة نور؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
رواية المنزل:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم