رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل السابع والأربعون
"أعزائي القراء، كل سنة وأنتم طيبين بمناسبة عيد الأضحى المبارك. أعاده الله علينا وعليكم بالخير واليُمن والبركات، وتقبل الله طاعتكم وجعل أيامكم كلها فرح وسلام."
فضلاً، متنسوش الvote.
المزيكا انهاردة اغنية لجوليو إغليسياس Ni te tengo ni te olvido “لا أمتلكك ولا أنساك”
الموضوع: الصراع الداخلي بين الرغبة في الاحتفاظ بالحبيب والاضطرار إلى نسيانه، وكأن القلب عالق بين حنين وألم الفراق.
♪
لم تكن سالي تتوقع أن يكون شوقها لعائلتها بهذا العمق. كانت تعلم أنها تحب والدتها وشقيقتها، لكن ما لم تكن تدركه تمامًا هو أنهنّ كل ما تملك، كل ما تبقى لها من دفء هذا العالم. بعد كل ما عاشته مؤخرًا، بعد ما شهدته من تقلبات وأحداث داخل المنزل، أدركت — ولأول مرة بهذا الوضوح — أن العائلة كنز لا يُعوّض.
حين احتضنتهما عند لقائهما، لم يكن عناقًا عابرًا. كان احتضان قلب قبل أن يكون احتضان جسد. شعرت بأنها تحتضن طفولتها، وسكينتها، ومصدر قوتها الحقيقي. كيف للحياة أن تُعاش دون والدتها؟ دون شقيقتها التي كانت دائماً رفيقتها؟ لم تستطع تتخيل ذلك، ولا تريد.
في الواقع، كانت بحاجة ماسة لهذين الأسبوعين. أرادت أن تهدأ قليلاً، أن تفصل عقلها عن كل ما يشتته، أن تريح نفسها من كل ما أثقل كاهلها. أرادت أن تعيد ترتيب فوضى أفكارها، أن تضع مشاعرها أمام عينيها دون أن تخجل منها أو تهرب. الأهم من كل ذلك.. أرادت أن تفكر بهدوء بعيدًا عن حضوره الطاغي. ذلك الحضور الذي كان يربك قلبها كلما اقترب، ويشتتها كلما ابتعد. الآن، حان وقت القرار. كيف ستكمل؟ وأي طريق ستسلك؟
كان قلبها حائرًا.. يتأرجح بين الرجاء والتردد، نابضًا بشوقٍ لا يهدأ، مترقبًا أقل إشارة، أدنى التفاتة، ليتشجع على التقدّم ولو خطوة واحدة. لم تعد تستطيع إنكار ما تشعر به؛ لقد تجاوز الأمر مرحلة الخجل أو الإنكار، لقد سكنها الحب، واستقرّ في أعماقها بهدوء. وكان لا بد من الاعتراف — هكذا كانت تحدث نفسها — فالحبّ ليس عيبًا لنُخفيه، ولا ضعفًا يُخجلنا. بل هو من أصدق ما يمكن للإنسان أن يشعر به. ومن يحب، يجب أن يعترف بذلك. لكن... ماذا لو ظل الطرف الآخر صامتًا؟ ماذا لو كانت مشاعرها تتردد على بابٍ مغلق؟ هل عليها أن تطرق الباب بنفسها؟ أم أن المبادرة، في مثل هذه اللحظة، لا تجوز؟ هل الحبّ ينتظر إذنًا؟ أم ينتظر تلميحًا؟ وهل يكفي أن تظلّ تلوّح بقلبها من بعيد، أم عليها أن تتقدم؟ أسئلة كثيرة كانت تتزاحم في رأس سالي، والجواب.. لم يكن سهلاً. لأنه لم يكن متعلقًا فقط بالعقل، بل بالقلب، وبالكرامة، وبالخوف من أن تخسر أكثر مما تأمل أن تكسب.
هكذا كانت الأفكار في عقل سالي، مزيجاً من الأسئلة التي تتشابك بلا أجوبة واضحة، وكانت تحاول أن تكتب شيئًا، لعل الحروف تنقذها من هذا الضجيج الداخلي. جلست على مكتبها في هدوء المساء، وهي تجمّع شعرها خلف رأسها بإهمال، وانعكس نور المكتب الخافت على جهاز اللاب توب الخاص بها.
طرقة خفيفة على الباب قطعت أفكارها، ثم دخلت السيدة سهام بهدوء، عيناها تراقبان ابنتها في صمت. وقفت للحظة تتأمل هذا المشهد المألوف.. سالي، كما عهدتها دائمًا، منحنية على مكتبها، محاطة بالأوراق، تغرق في عالمها الخاص. لكن شيئًا كان مختلفًا هذه المرة.
شعرت الأم بغصة صغيرة في قلبها، وكأنها ترى شريطًا طويلاً من عمر ابنتها يمرّ أمامها بلقطة واحدة. سالي.. لم تكن يومًا كالفتيات الأخريات، لم تعش سنوات المراهقة كما ينبغي، لم تثر، لم تتدلل، لم تتمرد. كانت دائمًا المطيعة، الحريصة على رضا والدتها، تنفذ كل ما يُطلب منها، بلا نقاش.
وغمرها تساؤل قديم جديد، سؤال ظلّ يراودها في لحظات نادرة من الصدق: هل ظلمتها؟ هل كانت مخطئة حين دفعتها بقوة إلى طريق لم تكن تحبه؟ حين فرضت عليها دراسة الطب فقط لأنها كانت تحلم أن تراها طبيبة ناجحة، تحمل النجاح الذي فشلت هي في أن تحققه لنفسها؟ كانت تعلم — في قرارة قلبها — أن سالي لم تكن مولعة يوماً بالطب. بل كانت ترى في عينيها شغفًا آخر، شيئًا مختلفًا، شيئًا لم تُرد يومًا أن تعترف بوجوده. لكن السنوات مضت، وها هي سالي، تلك الفتاة التي كانت تبدو باهتة دائمًا، بدأت تتغيّر. منذ أن عملت في ذلك المنزل، تغيّرت كثيراً كثيراً.
كانت تراقبها وهي تتحدث عن الأطفال بحماس، عن تفاصيل يومها معهم، عن لحظات الفرح والحزن، وحتى عن سيدة المنزل التي فقدتها مؤخراً، أنيسة. في تلك اللحظات، لم تعد عينا سالي شاحبتين كما اعتادت، بل تلمعان ببريق جديد، بريق الحياة.
كان عقل المرأة لا يكفّ عن التفكير: ماذا تخطط سالي؟ إلى أين تنوي الذهاب؟ كان عقل الشابة غامضًا بالنسبة لأمها.. لكن قلبها كان واضحًا. ولأول مرة، لم تشأ سهام أن تسيطر، بل فقط.. أن تفهم.
رفعت سالي حاجبيها في دهشة خفيفة، وقالت بصوت ناعم تغلّفه الحيرة:
"ماما؟ هل تريدين شيئاً؟"
اقتربت السيدة سهام منها بخطوات بطيئة، وجلست على طرف السرير، ومالت برأسها قليلاً، ترتسم على شفتيها ابتسامة دافئة، وقالت بصوت مفعم بالود:
"لا يا ابنتي.. فقط أردت أن أتحدث معك قليلاً، مضى وقت طويل جداً منذ جلسنا معاً هكذا."
تنفست سالي بعمق، وكأن كلمات والدتها لامست شيئاً عالقاً في قلبها، ثم ابتسمت براحة خفيفة وقالت:
"نعم، مرت فترة طويلة."
بقيت الأم لثوانٍ تتأمل وجه ابنتها بصمت، نظرة أم ترى ما لا يُقال. ثم همست وكأنها تخاطب ذكرى:
"سالي؟ يا ابنتي.. لقد تغيّرتِ كثيراً في الشهور الماضية. يا ترى، ما سر هذا التغيير؟"
ارتبكت سالي، ولم تُخفِ دهشتها من ملاحظة والدتها الدقيقة، فرفعت عينيها إليها وسألت:
"تغيرت؟ كيف؟"
مدّت الأم يدها تلمس خصلات شعر ابنتها بلطف، وعيناها لا تزالان تتفحصان وجهها بعناية، ثم قالت بصوت مفعم بالحنان:
"عيناكِ.. أصبحتا تلمعان بتألق مختلف. أرى فيكِ نضارة لم أرها من قبل، يا ابنتي."
ساد بينهما لحظة من الصمت الهادئ، لم يكن بحاجة لكلمات.. فقط نظرات مشحونة بالعاطفة. شعرت سالي بوهج خفيف يصعد إلى وجنتيها، وخجلٍ ناعم يتسلل إلى ملامحها من وقع كلمات والدتها، فتجنبت نظراتها وهمست بصوت خافت:
"لا أفهم.. ماذا تقصدين يا ماما؟"
رفعت السيدة سهام حاجبًا بخفة، وقالت بابتسامة عميقة:
"حقاً؟"
رمشت سالي للحظة، كأنّها تحاول مقاومة ذلك الكشف المفاجئ، ثم أطرقت رأسها، وصوتها يخرج أشبه باعتراف:
"أنتِ محقة.. هناك الكثير من الأمور التي مرّت بي مؤخراً، وتركت في داخلي شيئاً لا أستطيع تجاهله."
سألتها والدتها برفق:
"وفاة السيدة أنيسة؟"
تنهدت سالي، وحدقت في الفراغ أمامها، وقالت:
"لقد تأثرت كثيراً برحيلها، نعم.. لكنها لم تكن السبب الوحيد. كان هناك شيء أعمق.. شيء جعلني أعيد التفكير بكل شيء حولي."
ثم سكنت الكلمات، بينما امتلأت الغرفة مرة أخرى بذلك الصمت الثقيل.. ابتسمت السيدة سهام ابتسامة مشجعة، وهمست بصوت يحمل الحنان:
"اشرحي لي يا سالي.. أنا أسمعك."
رفعت سالي عينيها إليها، وتوقفت للحظات تتأمل وجه أمها، ثم تنهدت ببطء، وكأنها تزيح حملاً عن صدرها، وقالت بنبرة صادقة:
"لا أعرف كيف أصف مشاعري يا ماما، لكني أحببت العمل في ذلك المنزل.. أشعر وكأنني وجدت فيه هدفاً حقيقياً لحياتي. هناك شيء مختلف، شيء جعلني أتنفس بشكلٍ آخر.. أحببت الأطفال كثيراً، جميعهم كانوا لطفاء معي.. من السيدة أنيسة – رحمها الله – إلى الطفلة الصغيرة ماريا، كأنني وجدت عائلة جديدة.."
رفعت الأم حاجبيها باستغراب خفيف، وقالت:
"ولكن يا سالي.. أنتِ تتحدثين وكأنك تخططين للبقاء هناك إلى الأبد."
تلبكت سالي، وتجنبت نظرات والدتها التي اخترقت صمتها كأنها تقرأ ما خلف الكلمات. تمتمت بارتباك:
"أنا.. أنا فقط.."
قطعتها الأم بنبرة دافئة ولكن حازمة:
"أنتِ تُحبين يا ابنتي؟"
رفعت سالي رأسها فجأة، وعيناها متسعتان من الدهشة، كأن سرّها قد كُشف في لحظة خاطفة:
"ماذا؟ ماذا تقولين؟"
ابتسمت السيدة سهام، واقتربت أكثر، ثم مدت يدها تمسح برفق على شعر سالي، وقالت بصوت يغلبه الحنان:
"أنا أعرفك جيداً يا سالي.. ومن الواضح أن هناك شخصاً ما احتلّ قلبك. وليس من الصعب أن أخمّن من هو."
سكتت لوهلة، ثم أضافت وهي تنظر في عينيها مباشرة:
"قلب الأم لا يخطئ.. خاصة مع ابنتها الكبيرة."
نظرت السيدة سهام إلى ابنتها بنظرة عميقة، نظرة لا تخطئها الأمهات، ثم قالت بنبرة هادئة ولكن تحمل الكثير من المعنى:
"ابن السيدة أنيسة.. خالد، أليس كذلك؟"
احمرّ وجه سالي في لحظة، وكأن النار قد اشتعلت في وجنتيها، وشعرت أن كل محاولاتها في إخفاء مشاعرها قد تهاوت أمام حدس أمها. أنزلت رأسها بخجل، بينما ربتت يد والدتها بلطف على شعرها قائلة بابتسامة خفيفة:
"من الواضح أني محقة."
ثم اقتربت منها أكثر، ونظرت في عينيها نظرة حانية، وسألتها من جديد:
"أليس كذلك؟"
ساد صمت قصير، مشحون بالتردد والخوف، قبل أن تومئ سالي برأسها ببطء وتهمس بصوت بالكاد يُسمع:
"نعم.."
زفرت والدتها زفرة طويلة، وكأنها تستعد لما هو قادم، ثم سألتها بنبرة واقعية ولكن مليئة بالحنان:
"حسناً.. وهو؟ ألا يبادلك نفس المشاعر؟"
هزّت سالي رأسها بيأس، وتمتمت وكأن الكلمات تخرج منها بصعوبة:
"لا أعرف يا ماما.. لا أعرف."
مع كلمتها الأخيرة، انكسرت سالي كليًّا، وبدأت دموعها تتساقط بحرارة على وجنتيها، كأنها كانت تحمل هذا البكاء طويلاً، ولم يعد لها طاقة لتكتمه. لم تنتظر والدتها، بل تقدّمت نحوها بسرعة، واحتضنتها بقوة، تطبطب على ظهرها بكفها الحانية، بينما تهمس بكلمات مطمئنة لا تُسمع، لكنها تُشعر بالأمان.
تمتمت سالي بصوت مخنوق من بين دموعها:
"أنا.. أشعر بالحيرة، لا أعرف ماذا أفعل يا ماما.. هل أستمر؟ أم يجب أن أتوقف هنا؟"
مرّت لحظات ثقيلة، قبل أن تضيف بصوت يقطعه البكاء:
"ولكني.. لا أريد الرحيل عنهم، لا أستطيع حتى تخيّل ذلك.. أشعر أنني أنتمي إليهم، أنني.. أخيرًا في مكان يشبهني."
شعرت الأم بأن قلبها ينقبض، لكنها لم تُظهر ذلك، بل شدت من حضنها أكثر، وكأنها تحاول أن تمنح ابنتها ملاذًا من كل هذا الارتباك، ثم همست:
"لا تتعجلي.. كل شيء سيتضح مع الوقت"
مسحت السيدة سهام دموع ابنتها برفق، وعيناها تلمعان بخليط من القلق والحنان، ثم قالت بصوت منخفض يقطر دفئًا:
"يجب أن تكوني سعيدة يا سالي.. في أي مكان يمنحك الطمأنينة. السعادة يا ابنتي ليست ترفًا، بل حق. لا تسمحي لنفسك أن تبقي في مكان لا يليق بك، حتى لو كان يرضي من حولك."
نظرت إلى سالي نظرة طويلة فيها حب وتحذير، ثم تابعت:
"أنا واثقة.. أنك ستجدين السعادة التي تستحقينها، لأنك ابنتي.. والابنة التي عرفتها كل هذه السنوات، جميلة من الداخل قبل الخارج، وقلبها أطيب من أن يُجرح."
رفعت سالي رأسها ببطء، تتأمل والدتها بدهشة، وكأنها تراها لأول مرة. لم تكن تتوقع أن تسمع هذا الكلام من أمها، ليس بهذه الطريقة.. ليس بهذا الحنان. ولأول مرة في حياتها، شعرت سالي أن والدتها تلمس روحها، لا فقط تراقب تصرفاتها. كانت السيدة سهام اليوم، ولأول مرة، الأم التي لطالما تمنت سالي أن تجدها بجانبها. تساءلت في صمت: ما الذي تغيّر؟ ما الذي حرّك هذا الدفء في قلب أمها؟ هل كانت والدتها دائمًا كذلك، لكنها لم تعرف كيف تعبّر؟ أم أن شيئًا ما.. كسر بينهما الحواجز القديمة؟
لكن رغم الأسئلة، لم تشأ أن تُفسد اللحظة. فقط أراحت رأسها على كتف أمها، وسمحت لصمتٍ دافئ أن يحلّ بينهما، أخيرًا.
***
أنصت خالد إلى صوت أمه الهادئ الصادر من الراديو القديم، صوتها كما عهدَه: دافئًا، حنونًا، كأن الزمن لم يمسّه بسوء. كانت تسرد إحدى المواقف التي جمعتهما في صغره، بنفس النبرة الرقيقة. لكن الغصة كانت حاضرة، كأن الصوت القادم من الماضي يوقظ في صدره حنينًا موجعًا. وفجأة، تسلل صوت طرق خفيف على الباب، فقطع عليه خيط الذكرى. أطفأ الراديو بهدوء، وما زال صدى صوتها يتردد في داخله، ثم استقام في جلسته متسائلًا عن هوية الطارق.
طرقت فرح الباب برفق وهي تنادي بنبرة حذرة:
"أبيه، هل أنت مستيقظ؟"
لم تمر سوى ثوانٍ حتى جاءها صوته من الداخل، هادئًا بعض الشيء لكنه متيقظ:
"ادخلي يا فرح."
فتحت الباب بخفة، تحمل في يديها صينية أنيقة عليها كوبان من المشروبات الدافئة. تقدّمت بهدوء نحو مكتبه، ووضعت الصينية أمامه، ثم جلست على طرف الكرسي القريب وهي تسند خدها بكف يدها، تتأمله بابتسامة صغيرة، خفيفة، تحمل شيئًا من العبث وشيئًا من الحنين.
نظر خالد إليها، عيناه تائهتان بين ملامحها وبين ما وضعته أمامه، ثم قال بنبرة يشوبها الحذر:
"ما معنى هذا؟"
حدّق في الصينية وكأنها تحمل شيئًا مريبًا، فابتسمت فرح ونظرت إليه بثقة:
"جئت لأشرب معك بعض القهوة.. هل أزعجك؟"
كانت كلماتها ناعمة، لكن في صوتها تحدٍ لطيف، فأجاب خالد وهو ما زال يشعر بالحيرة تتسلل إلى صدره:
"لا، لا تزعجيني، ولكن.. لست مرتاحًا. هل هناك ما ترغبين فيه يا فرح؟"
رفعت حاجبيها بدهشة مصطنعة وقالت ببراءة:
"أنت تظلمني يا أبيه.. هل يجب أن أطلب منك شيئًا حتى نتشارك كوبًا من القهوة؟"
ثم دفعت الكوب برفق تجاهه، وأضافت: "انظر، هذه قهوة بالحليب.. أتمنى أن تعجبك."
نظر خالد إلى الكوب بتردد، ثم التقطه ببطء وقال بنبرة لم تخف حذره:
"الوقت متأخر لتشربي القهوة، كما أنها ستتعبك أثناء الصيام."
ضحكت بخفة وهي تتكئ بظهرها إلى الكرسي:
"لذلك خففتها بالحليب، كما أنني كبرت الآن، لا داعي للقلق."
ارتشف خالد رشفة من الكوب ببطء، وكأنه يمنح نفسه لحظة من الصمت قبل أن يسأل بنبرة مباشرة:
"أخبريني الآن، ماذا تريدين يا فرح؟"
رفعت فرح حاجبيها قليلاً وابتسمت، ثم تنهدت تنهيدة خفيفة قبل أن تجيب:
"أنا حقاً جئت لأتحدث معك، في الحقيقة.. أشعر بفراغ كبير بعد رحيل الدكتورة سالي."
كان صوتها رقيقًا، لكنه مشبع بشيء يشبه الحنين. نظرت إليه بطرف عينيها، تتأمله بهدوء، ثم تابعت:
"جميعنا نشعر بالفراغ لرحيلها.. لقد تركت فراغًا لا يمكن تجاهله، خاصة في هذه الفترة الصعبة بعد وفاة ماما."
رفع خالد نظره فجأة وكأن كلماتها اخترقت شيئًا داخله، وتبدلت ملامحه للحظات، قبل أن يتدارك الأمر:
"نعم".
أمسك قلمه ويبدأ بتدوين كلمات مبهمة، فراقبته فرح بعين فاحصة، ثم قالت بصوت فيه تلميح:
"ولكن يبدو أنك لا تشعر بذلك؟"
توقف خالد عن الكتابة، ورفع رأسه نحوها ببطء، وسأل بجمود:
"أشعر بماذا؟"
مالت فرح برأسها قليلاً، وعيناها تلمعان ببراءة ممزوجة بالفضول:
"بالفراغ.. مثلنا."
كأن قلبه انقبض، لكنه تماسك، وأجاب بجفاف حذر:
"وكأنها رحلت إلى الأبد.. إنها فقط في إجازة، ستعود بعد العيد، لا داعي للقلق."
ردّت فرح بابتسامة هادئة، وهي تعيد كلماتها بنغمة أخف:
"نعم.. لا داعي للقلق."
رفع خالد رأسه فجأة، وحدّق في فرح، ثم سألها بنبرة منخفضة لكنها حادة:
"فرح.. ما الذي ترمين إليه؟"
أجابت بسرعة، محاولة إخفاء نبرتها المتسائلة خلف ابتسامة بريئة:
"أنا؟ أرمي لماذا؟ أنا فقط أعبّر عن مشاعري يا أبيه."
حدّق فيها لحظة، كأنه يقرأ ما خلف الكلمات، ثم قال:
"أنا متأكد أن هناك كلامًا آخر.. غير ذلك."
سكتت فرح قليلًا، ثم تحركت بهدوء واقتربت من المكتب، جلست على طرفه برقة، أمام خالد مباشرة، وراحت تتأمله بعينين فيهما جرأة طفلة ووعي فتاة بدأت تدرك ما يحدث من حولها. أسندت كفيها على طرف المكتب:
"أبيه.. لماذا لا تعترف لها؟"
تجمد خالد في مكانه، شعر بأن الزمن توقف للحظة، رفع رأسه ثم رد ببطء:
"أعترف؟ ماذا تقصدين؟"
أجابت فرح بصوت يحمل مزيجًا من الحنان والإصرار:
"للدكتورة سالي.. أنا أعرف أن هناك شيئًا ما يدور بينكما، ربما لم تقولوه، لكننا نشعر به. هذا واضح لنا جميعًا.. ونحن لا نمانع، بل.. أرجوك يا أبيه.. تقدم لخطبتها."
ظل خالد صامتًا، كأن صاعقة صدمته للحظة، لم يتوقع منها كل هذا الوضوح، ولا كل هذا الإلحاح. نظر إليها أخيرًا، وقد لمعت في عينيه مشاعر لم يرد أن يُظهِرها. ثم تمتم بخفوت:
"فرح.. لا تتدخلي في مثل هذه الأمور"
ابتسمت فرح ابتسامة صغيرة حزينة وقالت:
"ولكن يا أبيه.."
قاطعها خالد بهدوءٍ حازم:
"هذا يكفي، لا مزيد من الكلام."
سكتت فرح برهة، ثم نظرت إليه برجاء خافت:
"أبيه، أرجوك استمع إليّ أولًا.. أعلم أنني لا يجب أن أتدخل في شؤونك الخاصة، لكنني فقط أريد أن أفهم ما يدور في رأسك. الدكتورة سالي إنسانة طيبة، جميلة، ونحن جميعًا نحبها.. وأنت، تعتمد عليها كثيرًا. إن كنت متردّدًا بسببنا، فنحن نرحّب بها، ونريدها بيننا.. وإن لم تكن لها مكانة في قلبك، فلا بأس.."
ثم صمتت لحظة، لتلتقط أنفاسها، وأضافت بصوت منخفض:
"لكنني أتمنى.. فقط أن تخبرني أنك تحمل لها مشاعر. وأنا واثقة أنك تفعل."
ظل خالد صامتًا، يفكر بكلماتها، يشعر بحيرةٍ صامتة تتزاحم في صدره. رفع عينيه إليها أخيرًا، وقال بصوت خافت:
"الأمور لا تدار بهذه البساطة يا فرح."
ابتسمت الفتاة ابتسامة هادئة، وكأنها حصلت على ما كانت تريده، حتى دون اعتراف صريح، وقالت:
"ولكنها تستحق، يا أبيه.. وأنتم تستحقان بعضكما البعض."
قالتها وهي تشعر براحة خفيفة، فهو لم ينكر.. لم ينكر مشاعره تجاه الدكتورة سالي. وهذه البداية، في حد ذاتها، كانت كافية.
أكملت فرح بنبرة هادئة لكنها مشبعة بالرجاء:
"ونحن نحتاج إليها بيننا. أنت لا تعلم ما الذي تعنيه لنا الدكتورة سالي.. لا أقول إنها في مكانة ماما، ولكنها.. مثل الأخت الكبرى. تتحدث إلينا، تفهمنا، تساعدنا في أمورنا الصغيرة التي لا نجرؤ أحيانًا على قولها لك."
لمعت عينا فرح بدموع حبيسة، ثم أردفت بصوت متهدج:
"نحن نحتاجكما معًا، يا أبيه. رحيل ماما ترك فراغًا لا يُملأ، داخلنا.. وداخلك أنت أيضًا. نحن نراك، نعرف وحدتك، ونعرف صمتك. وأنت تحتاج إليها، ربما أكثر منا."
ظل خالد صامتًا، وتردد في الرد. كان الألم يثقل صدره، ولم يعرف من أين يبدأ.
فكّر.. نعم، فرح على حق. هو يحتاج إلى سالي. يحتاجها كما لم يحتج أحدًا من قبل. وكان قد قرر بالفعل أن يمضي نحوها، أن يمنح نفسه فرصة أخيرة. لكن اعتراف فرح المباغت أحرجه، باغته كما لم يتوقع.
هو الذي اعتاد الكتمان، الذي تربّى على الصلابة وكبح المشاعر.. كيف له أن يبوح أمام أطفاله بما لم يقدر على الاعتراف به حتى لنفسه؟
خالد لم يكن الرجل الذي يسهل عليه إعلان ضعفه. وكان يرى في حبّه لسالي نوعًا من الضعف.. لكن، ويا للمفارقة، كان ذلك الضعف أجمل ما مرّ به. حلواً بما يكفي ليجعله لا يخجل منه.
رفع بصره إلى فرح، وابتسم بصمت، بعينين تمتلئان بالكثير ولم يقل فيهما شيء. كانت تلك الابتسامة وحدها، اعترافًا كافيًا. وتنم على أنه قد أخذ خطوة بالفعل.
***
كان الاثنان يتواصلان معًا، رسائل عادية في ظاهرها، تخص شؤون الصغار ومواعيدهم وأحوالهم اليومية، لكنها في باطنها كانت تنسج خيوطًا من الألفة، وتخفي بين السطور مشاعر حانية، لم تجرؤ الكلمات على البوح بها صراحة. مشاعر تنبض بالحنين والارتباك، تتمنى لو تخرج إلى النور، لو تعترف بوجودها بلا خوف، بلا حذر.. لكن هكذا هو الإنسان، يُعقّد ما هو بسيط، ويخشى أن يواجه نفسه أكثر مما يخشى مواجهة العالم.
كان عيد ميلاد التوأم ونور قد تقرر الاحتفال به في نهاية العيد، في الليلة الأخيرة قبل أن تعود سالي إلى عملها. وقد استغرقت سالي أيامًا وهي تبحث عن الهدايا المناسبة لهم؟
كانت الهدية الأصعب هي هدية لارا، الصغيرة ذات الخمس سنوات، فقد كانت التحدي الأكبر. شخصية مميزة، تعرف ما تريد، وتُعبّر عنه بوضوح لا يخلو من عناد طفولي محبب. لا تقبل بأي شيء لا يشبهها، ولا تُجامل في ما تختار. أرادت سالي أن تهديها شيئًا يُفرحها بحق، ليست هي فقط بل أيضاً شقيقها التوأم ونور.
وبينما كانت تُفكر، وصلتها رسالة من خالد:
[سننتظرك جميعًا ثالث يوم العيد، لا تتأخري هذا اليوم.]
كانت تجلس على حافة سريرها، ضامة ركبتيها. ارتسمت على شفتيها ابتسامة دافئة، واهتز قلبها بفرح متوتر. شعرت بالحنين إليهم جميعًا. كيف استطاعوا أن ينسجوا خيوطهم في قلبها بهذه السرعة؟ ، كان شعورها بالشوق يتكاثف داخلها، وأخذت تُعد الأيام القليلة المتبقية على نهاية الشهر، وكل يوم يُصبح وكأنه دهر... لم يتبقَ سوى أقل من أسبوع، فقط أيام قليلة... وستراهم من جديد. ستراه.. هو. رفعت هاتفها وقرأت الرسالة مرة أخرى:
[سننتظرك جميعًا ثالث يوم العيد، لا تتأخري هذا اليوم.]
ابتسمت مجددًا، وهمّت أن تكتب له ردًا، لكن هاتفها اهتز بتنبيه جديد. تجمدت قليلًا حين قرأت اسم المرسل. كان والدها.
للمرة الثالثة خلال أسبوع يحاول التواصل معها. لم تكن تلك المحاولات غريبة فقط، بل مثيرة للقلق. كانت ترد أحيانًا بجمل مقتضبة، وأحيانًا تتجاهله تمامًا، لكنها في كل مرة كانت تشعر بشيء ثقيل في صدرها، شيء يشبه الريبة.
لم تكن ترتاح لهذا التواصل المفاجئ، بعد الموقف الأخير الذي جمعهم في المنزل في عيد ميلاد ماريا، ومع ذلك، حاولت أن تقنع نفسها أن لا داعي للتفكير. لكن تلك الليلة، وبينما كانت تحاول الانشغال بكتابة رسائلها، ظهرت رسالة جديدة على الشاشة:
[سالي حبيبتي، كيف هي إجازتك؟ أريد أن أراكِ يا ابنتي. هل لي أن أزورك في المنزل؟ متى ستكونين متفرغة؟]
شعرت سالي بقشعريرة خفيفة تسري في أطرافها. 'كيف عرف أنني في إجازة؟' تساءلت في نفسها بقلق. نظرت حولها في الغرفة كأنها تبحث عن إجابة، ثم أخذت نفسًا عميقًا وفكرت بعمق. هل أخبره أحد؟ زينة؟ والدتها؟ لا، مستحيل.. هي تعلم جيدًا أن لا أحد منهم على اتصال به. ومع ذلك، لم تسكت شكوكها. وضعت الهاتف جانبًا وهي تحدق في الفراغ. كان هناك شيء مريب.. ولم يعد بإمكانها تجاهله. سألتهم لاحقًا لتتأكد. وجاءت الإجابة كما توقعت: لم يحدث أي تواصل.
أرسلت سالي إليه رسالة مقتضبة، يملؤها التحفظ:
[حسنًا، أراك في العيد يا بابا].
ومضت الأيام، وانتهى شهر رمضان، وجاء العيد، لكنه لم يأتِ محمّلًا بالسعادة التي تمنت سالي أن يحملها. بل جاء محمّلًا بثقلٍ غريب، وأحداثٍ غيّرت الكثير من ملامح اليوم الأول وما تلاه.
في ظهيرة العيد، وصل والدها. استقبلته سالي بملامحها الهادئة المعتادة، هي وزينة. كانت نظرتها متحفظة، والمصافحة باردة. وأيضاً والدتها بادلته تحية جافة خالية من العاطفة، كما لو كانا غريبين تفرض عليهما الصدف اللقاء. ولم تلبث السيدة سهام أن غادرت الغرفة، تاركة الثلاثة وحدهم.
اقترب والدها منها وفتح ذراعيه ليحتضنها. ترددت للحظة، شعرت بجسدها يتصلب، وكأن شيئًا فيها أراد أن يهرب.. أن يختفي.
لكنها لم تتحرك. سمحت له أن يضمها بينما ظل هو يبتسم، ابتسامة واسعة بدت غريبة في وجهه.
نظرت إليه بحذر.. أهو في مزاج جيد؟ هل انتهت أزمته المالية؟ هل تغير فجأة؟ لكنها لم تسأله. فضّلت الصمت، كالعادة.
ودار بينهما حديث عابر، سطحِي، تدور كلماته في الهواء دون أن تلمس شيئًا حقيقيًا. ثم التفت الرجل نحو زينة، وسألها بنبرة ناعمة:
"زينة حبيبتي، هل أستطيع الحديث مع أختك بمفردنا؟"
نهضت زينة بهدوء، نظرت نحو سالي نظرة سريعة قبل أن تترك الغرفة بصمت. ساد سكون خفيف قبل أن يقطعه والدها وهو يتأمل وجهها:
"كيف حالك؟"
أجابته سالي ببساطة، دون أن تنظر إليه:
"بخير."
مرت ثوانٍ ثقيلة، ثم قال بصوت وكأنه يتحسس الطريق:
"وعملك؟ متى ستعودين؟"
ردّت وهي تراقب أناملها المتشابكة:
"من المقرر أن أعود غدًا."
تنفس والدها بارتياح ملحوظ، وابتسم:
"ممتاز."
شعرت سالي بالحيرة تتغلغل في أعماقها. ما الذي يسعده في عودتها السريعة؟ ما الذي يحدث بالضبط؟ ثم جاء السؤال الذي لم تتوقعه، بصوته الذي بدا وكأنه يتقصّى شيئًا:
"ومستر خالد؟"
رفعت سالي حاجبًا، وضيقَت عينيها قليلًا، مائلةً برأسها باستفهام حذر:
"ماذا به؟"
اتسعت ابتسامة والدها، وبدت على وجهه ملامح رضا غريب لم تألفه سالي، وقال بنبرة هادئة تحمل شيئًا من الزهو:
"إنه رجل ممتاز، لقد ارتحت إليه كثيرًا."
تجهمت ملامح سالي، وحدّقت فيه باستغراب حائر، وسألته وقد خرج صوتها مرتبكًا:
"من؟"
ردّ ببساطة:
"مستر خالد."
انقبض صدرها، وقالت وهي تحاول كتم ذهولها:
"هل.. تعرفه؟"
أومأ الرجل برأسه، وواصل بنفس الابتسامة الغامضة:
"تحدثنا معًا، وأعتقد أن علاقتنا صارت متينة."
انكمشت سالي في جلستها، ثم تمتمت وهي لا تكاد تصدق:
"عن مَن تتحدث؟ مستر خالد؟"
"نعم، نعم، خالد."
قالها بثقة وكأن ما يقوله طبيعي تمامًا. فتسارعت أنفاس سالي، وشعرت وكأن الأرض تميد تحت قدميها. لم تعرف لماذا، لكن شيء داخلها كان يصرخ.
"متى؟ متى تعرفت عليه؟!"
نطقتها بانفعال لم تستطع كبحه. وللحظة، تلاقت نظراتهما. هي بعينين متسعتين بالقلق والارتباك، وهو بهدوء مريب وكأنه يُخفي أكثر مما يُظهر. كان يجلس مسترخيًا في المقعد، مائلًا قليلاً إلى الأمام، وأطلق ابتسامة مطمئنة لا تناسب الموقف، وقال بنبرة دافئة غريبة:
"لا يهم متى تعرفت عليه، لكن هذا الشاب.. حقًا من أروع الرجال الذين التقيتهم. أنتِ محظوظة يا سالي."
رفعت حاجبيها بدهشة مشوبة بالرفض، ونطقت ببطء، وكأنها تمتحن كلماته:
"محظوظة؟ تقصد ماذا؟"
مد يده ليمسك بكوب الماء أمامه ثم قال وهو يعبث به بين أصابعه:
"أن يتقدّم لخطبتك رجل مثله؟ إنه شرف كبير لنا. ولكِ؟ من أين ستعثرين على شخص بهذه المواصفات؟ شاب وسيم، ثري، ذكي، ويبدو مخلصًا للغاية.."
ومع كل صفة كان ينطق بها، كانت الكلمات تُسحب من وعي سالي، تذوب تدريجيًا حتى لم تعد تسمع سوى طنين خانق يعلو في رأسها. تنفست بعمق، لكن الهواء لم يصل رئتيها، وكأن الغرفة بدأت تضيق. كان صوت والدها لا يزال مستمرًا، لكن صوته تراجع إلى الخلف، خفت وتحوّل إلى صدى بعيد... تمامًا كمن يتحدث من وراء زجاج. شيء ما في داخلها كان ينهار بصمت، وكأن جدارًا من الثقة قد تشقق للتوّ.
تصلّبت في مكانها، وكأن جسدها رفض الاستجابة لما سمعته. كانت تنظر إليه، لكن عيناها لم تعودا تريان وجهه، بل تسبحان وسط دوامة من الذهول والشك والرفض. كان صوته مستمرًا، لكن كلماته تحوّلت في أذنيها إلى خيوط باهتة لا تملك المعنى، ثم طغى ذلك الطنين الثقيل في رأسها، وكأن عقلها نفسه يحاول حماية قلبها من الانهيار.
"محظوظة؟"
ردّدت الكلمة في داخلها، لا تصدق أن والدها قالها بهذا الشكل.. بهذه السهولة. كيف عرف خالد؟ ولماذا تحدث إليه؟ والأهم... لماذا يتحدث عن خطبتها وكأنها حقيقة واقعة وله يد فيها؟ وكأنها تلك الطفلة التي يملك حق التصرف بها؟
رفعت عينيها إليه ببطء، بعينين ممتلئتين ببركان من أسئلة لم تنطق بها بعد، ثم قالت بصوت منخفض لكنه مشحون:
"أنت من طلب منه ذلك؟"
ضحك الرجل بخفة وهو يلوّح بيده:
"طلبت؟ لا، لا.. لم أطلب، لكني لم أمانع. بالعكس، شجعته."
تراجعت سالي بجسدها إلى الوراء، كأنها تحاول أن تجد مسافة تقيها مما يحدث. قلبها يخفق بعنف، وكأن شيئًا ما في داخلها ينكسر ببطء، بإصرار. قالت وهي تحدق فيه بجمود:
"شجعته؟ دون أن تسألني؟ دون أن تعود إلي، أو تعرف رأيي؟"
رفع حاجبيه بدهشة مصطنعة:
"ولمَ؟ أظن أنك لا ترينه شخص غير مناسب، أليس كذلك؟"
مرّت لحظة صامتة طويلة بينهما، صاخبة بكل شيء لم يُقال بعد. لحظة فهمت فيها سالي أن الأمر أكبر مما يبدو.. أن هناك حدودًا تُجتاز باسم الأبوة، وأنها الآن أمام اختبار جديد من اختبارات الحياة، ربما أصعب من أي شيء واجهته من قبل.
"هذا الرجل أرسله لي الله في أشد أوقاتي قسوة، لقد كان منحة حقيقية.. جاء كطوق نجاة، وساعدني في أزمتي الأخيرة."
قالها والد سالي بنبرة عاطفية، كأنه يروي شيئًا مقدسًا، لكن عينيه كانتا تتجنبان عينيها.
سألت سالي، وقد زحف الشك إلى صوتها:
"أزمتك؟"
تغيرت ملامح وجهه لوهلة، وابتلع ريقه، وتردد قليلًا قبل أن يجيب بصوت منخفض:
"نعم."
لم تترك له فرصة لالتقاط أنفاسه، وانطلقت تسأله بحدّة أخفت وراءها خوفًا عميقًا:
"هل أعطاك أموال؟"
ارتبك الرجل. نظراته تحركت نحو الباب وكأنه يتمنى أن تهرب الكلمات من بين الجدران. ثم أجاب مراوغًا، يحاول أن يبدو هادئًا رغم التوتر الظاهر في ملامحه:
"الأمر ليس كذلك... فقط ساعدني في تمويل مشروع بسيط... وسأسدد له الأموال، بالتأكيد."
لكن سالي لم تكن تحتاج لمزيد من الكلمات لتشعر بثقل الحقيقة. الرجل أمامها، والدها، بدا كأنه يقف على أرض رخوة. وكان كل ما فيه — من صوته إلى نظراته — يدل على أمر واحد: هو يخفي أكثر بكثير مما قال.
"بابا... احكي لي، ما الذي يحدث من ورائي؟"
قالتها سالي بصوت خافت، لكنه حمل في طياته هدوءًا يشبه ما قبل العاصفة. كانت عيناها شاخصتين نحو الأرض، تائهتين في دوامة من الصدمة والخذلان، كأنها تحاول أن تلم شتات عقلها قبل أن تنهار.
في تلك اللحظة، شعر والدها بشيء ثقيل يهبط على صدره. لوهلة، لم يجب. حدّق فيها بصمت، يحاول فهم ما يدور خلف نظرتها الجامدة. كان يظن أن تقدّم خالد لخطبة ابنته سيكون خبراً سعيداً، عربون محبة ونُبل من شاب كريم، اختار أن يساعد والد الفتاة التي يريد الارتباط بها، دون تردد. كان يراه نعمة من الله، رجل جاء في أحلك لحظاته لينقذه. فكيف إذن، تقابل سالي هذا كله بهذه البرودة؟ بهذا الذهول الذي لا يشي بشيء من الفرح؟
تجمد في مكانه، وصار قلبه يدق بسرعة لم يعهدها. هل أخطأ؟ هل استعجل في الحديث؟ فنظرة ابنته لم تكن نظرة دهشة فحسب، كانت نظرة جرح. وكأن الماء البارد قد سُكب فجأة على قلبها، لا على رأسها فقط. وبينما ظل جالساً في مكانه حائرًا، حينها فقط، أدرك أن كلماته لم تكن هدية العيد، بل كانت صدمة وقعت فوق رأس ابنته.
"ماذا بكِ يا سالي؟ ما الذي يضايقك الآن؟ ألستِ سعيدة؟ ألم يخبرك برغبته في الزواج منك؟"
كانت عيناه تراقبان وجهها بقلق متزايد، يحاول أن يفهم ما الذي قاله وأفسد اللحظة. لكن سالي نظرت إليه بجمود، شفتاها بالكاد تتحركان، وصوتها خرج مشحونًا بالخذلان:
"سعيدة؟ بماذا؟"
"بخالد، طبعًا.." قالها وهو يرفع حاجبيه باستغراب صادق.
لكنها قاطعته بمرارة، صوتها انخفض وعيونها امتلأت بغصة:
"ولماذا أسعد به وأنا في نظركما مجرد صفقة؟"
انكمش وجه والدها، كأن صفعة خفية باغتته. ارتبك، تطلع في عينيها يبحث عن المعنى، عن تفسير. قال مرتبكًا:
"صفقة؟ لماذا تقولين ذلك؟ خالد قال لي أنه ينوي طلب يدك، ألم يخبرك بنيّته؟ أيعقل أنه لم يتحدث معك عن الزواج؟"
كان صوته يتهدج، يقترب من التوسل، أما سالي، فظلت تحدق فيه، لا بعين ابنته، بل بعين إنسانة تشعر أنها خُدعت، ليس من والدها، بل من الشخص الذي أحبه قلبها.
همست بصوت مخنوق، ودموعها تترقرق كأنها تستجديه ألا يكمل هدمها:
"بابا، أرجوك... اشرح لي، أنا لا أفهم شيئاً."
كان في صوتها رجاءٌ يائس، ونظرتها المرتبكة تحاصر والدها من كل الجهات. نظر إليها بحيرة، كمن بدأ يدرك حجم ما ارتكبه، وقال بتردد:
"كنت أظنك تعرفين.. بأنه يرغب في خطبتك."
هزّت رأسها ببطء، كمن يرفض التصديق، وقالت:
"لا، لا أعرف أي شيء. لكن ما أريد أن أفهمه.. لماذا تضعني في موقف كهذا؟ لماذا أشعر وكأن صفقة تُحاك من خلفي؟"
رفع يده، كأنه يحاول الإمساك بخيط يبرر به الأمر:
"لا، لا، الأمر لم يكن صفقة، صدقيني."
نظرت إليه بعينين ضاقتا من شدة الألم، وردّت بصوت مخنوق:
"أصدقك؟ ولماذا أفعل؟ أنت مُصر على جرحي.. على كسري.. جئت فقط لتوصل لي رسالة، باختصار: وافقي عليه لأنه ساعدني، أليس كذلك؟! ماذا أنا بالنسبة لك؟ لماذا تفعل هذا بي أنا؟ أنا ابنتك يا بابا.. أنا لست صفقة، ولا وسيلة للنجاة!"
ارتبك الرجل، وتحشرج صوته:
"يا سالي.. اسمعيني، أنا فقط.. سعيد، سعيد بك، وبهذا كله. صدقيني هذه مشاعري."
صرخت سالي فجأة ونهضت، كأن جرحًا ما انفجر بداخلها:
"آه!"
وضعت يدها على صدرها، كأن الألم قد استقر في قلبها نفسه، ثم تراجعت خطوة، وعيناها لا تزالان تلمعان بالدموع المكبوتة:
"ابتعد عني.. أرجوك، ابتعد عني."
حاول الرجل أن يمد يده نحو ابنته، كمن يحاول تدارك سقوط شيء ثمين قبل أن يتحطم، لكن سالي تراجعت للخلف بسرعة، وكأن لمسته ستحرقها، ودموعها تنهمر بحرقة من عينين لا تحملان سوى الألم. لقد انكسر قلبها.. لا شرخ بسيط يمكن رتقه، بل كسر عميق امتد في أعماقها، كأن شيئًا بداخلها قد انهار بصمت.
لم تعد ترى بوضوح... كل شيء أصبح ضبابيًا. لم تشعر سالي بشيء بعدها. كأن روحها انسحبت قليلاً تاركة الجسد في مكانه. سمعت فقط صوت أمها يدخل مع زينة إلى الغرفة، خطوات سريعة، أسئلة قلقة، نظرات متوترة، لكن ما جرى بعدها كان خارج وعيها تمامًا. كانت هناك، واقفة، دامعة، لكنها لم تكن.. حاضرة.
***
فتحت سالي عينيها المتورمتين للمرة الثالثة خلال ساعة. كان الظلام يلف الغرفة، ولم يتغير شيء سوى ضوء خافت يتسلل من بين الستائر، ينعكس باهتًا على الحائط المقابل. كانت مستلقية في فراشها، مغطاة ببطانية ثقيلة، لكنها لم تشعر بأي دفء. الوسادة تحت رأسها مبتلّة من الدموع، وجسدها ساكن كمن شُلّت أطرافه، بينما عقلها كان يعجّ بالفوضى.
كانت أنفاسها متقطعة، كأنها تختنق في صمت. شعرت وكأنها محبوسة في كابوس، لا تستطيع الاستيقاظ منه. وكلما أغمضت عينيها، عاد صوته، عاد حديث والدها يهمس في أذنيها، كأنه تسجيل لا يتوقف عن التكرار:
[أن يتقدّم لخطبتك رجل مثله؟ إنه شرف كبير لنا. ولكِ؟ من أين ستعثرين على شخص بهذه المواصفات؟ شاب وسيم، ثري، ذكي، ويبدو مخلصًا للغاية..]
[لا يهم متى تعرفت عليه، لكن هذا الشاب.. حقًا من أروع الرجال الذين التقيتهم. أنتِ محظوظة يا سالي.]
[هذا الرجل أرسله لي الله في أشد أوقاتي قسوة، لقد كان منحة حقيقية... جاء كطوق نجاة، وساعدني في أزمتي الأخيرة.]
ضغطت رأسها بيدها، كأنها تحاول أن تطرد تلك الكلمات من عقلها، لكن الصدى كان أقوى من مقاومتها.
محظوظة؟ هل كانت محظوظة حقًا لأن أحدهم أعطى والدها المال؟ هل المال يكفي ليجعل من إنسانة ما هدية ثمينة؟ هل ما تشعر به الآن من خذلان وألم هو ثمن تلك المنحة؟
لم تعرف إن كانت غاضبة من والدها.. لأنه استغلها وباع ثقتها دون أن يرف له جفن. أم من خالد... لأنه خالف كل ما كانت تؤمن به في الحب، وجاء من الباب الخطأ، وبالثمن الخطأ. أم من نفسها.. لأنها صدقت، لأنها فتحت قلبها.
في ذلك الظلام، وسط صمت الليل الثقيل، لم يكن في قلب سالي إجابة. كان هناك فقط سؤال واحد يدور ويدور في ذهنها: هل كانت صفقة؟ وأنا البضاعة؟
فتحت هاتفها على مضض، كأنها كانت تخشى من شيء تعرفه مسبقًا. كانت هناك رسالة واحدة منه:
"كل عام وأنتِ بخير، عيد سعيد. موعدنا بعد غد"
لم ترد. لم تُحدّق في الرسالة طويلاً، فقط قرأتها بجمود، ثم أغلقت الهاتف ببطء، وهي تشعر وكأن شيئًا انكسر داخلها.
أغمضت عينيها في محاولة يائسة للنوم، لكنها عرفت أن ذلك لن يحدث. الأرق كان حاضرًا، يزاحمها أنفاسها. كل محاولاتها مع أميرة لضبط نظام نومها، لتنظيم أيامها، لاستعادة توازنها النفسي... كل شيء ذهب أدراج الرياح، بسببه. بسبب ذلك الرجل الذي يُدعى والدها.
جاء فجأة، لا ليسندها أو ليحتويها، بل فقط ليُربك كل شيء، ليُفسد أحلامها، ليُفسدها هي. كل ما فعله هو أنه جاء ليأخذ منها راحتها، ليقتحم عالمها الخاص، ظنًا منه أنه يملك الحق، أن غيابه الطويل يمكن غفرانه، أن الأبوة مجرد ورقة هوية يمكن تفعيلها متى أراد. والآن؟ يأتي ليجني من خلفها مصلحة، باسم من تحب.. خالد. ذلك الذي ظنّت للحظة أنه مختلف. لماذا؟ لماذا يحدث لها كل هذا؟ لماذا تشعر وكأنها سلعة؟ كأن كل من حولها يستخدم قلبها لتحقيق أهدافه؟ بداية من والدتها، مروراً بوالدها، حتى هذا الرجل الذي أحبته بصدق.
شعرت بنبضٍ مؤلم في صدغها، كأنه طرقات مطرقة، فنهضت من فراشها كمن يهرب من نفسه، خرجت إلى الشرفة، ليلاً، وقفت هناك، تستنشق الهواء البارد كمن يحاول أن يمنع روحه من الانهيار، لكن لا هواء يكفي حين يكون القلب مكلومًا.
كيف؟ كيف يعقد خالد صفقة مع والدها؟ كيف لم يُخبرها؟ كيف لم يرَ أنه بذلك يخونها؟ يخون كل ما زرعه في قلبها من أمل؟ لم تستطع أن تغفر. ليس له، ولا للأب الذي لم يكن يومًا أباها إلا حين وجد في ذلك مكسبًا. شعرت بالإهانة، وأن لا كرامة، ولا اعتبار. مجرد فتاة، تقف بين رجلين: أحدهما استغلالي، والآخر.. يعقد "صفقة معمارية" ببرود، كأنها مشروع جديد في محفظته الاستثمارية. وهكذا رأت سالي نفسها بينهما: تفصيلة هامشية.. لا أكثر.
***
نهاية الفصل السابع والأربعون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
شكراً على صبركم
كاتبتكم ءَالَآء
سؤال الفصل: توقاعتكم للأحداث الجاية؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركما وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق