فضلاً، متنسوش الvote.
المزيكا انهاردة أغنية حاول تفتكرني لعبد الحليم حافظ، وألحان بليغ، أكتر أغنية بتفكرني بأنيسة، كلمات الأغنية لمحمد حمزة من أرق وأعذب الكلمات، رغم الشجن والحزن اللي فيها.
تنويه: الفصل انهاردة حزين.
***
مدّت أنيسة يدها المرتجفة تتحسس ملامح أخيها، كأنها تتحقق من حلم قديم عاد فجأة للحياة. لامست بأطراف أصابعها وجنته، ثم ضحكت ضحكة واهنة اختلط فيها التعب بالدهشة:
"لقد صرت عجوزاً يا أسعد، هل هذا أنت حقاً؟".
انفرجت شفتا أسعد عن ابتسامة واسعة، وبدت على وجهه علامات الشوق الممزوج بالسعادة:
"أصبحت بشعاً، أليس كذلك؟"
هزّت أنيسة رأسها بخفة وابتسامة مرهقة تتراقص على شفتيها:
"كلانا صرنا بشعين."
ضحك الاثنان بضحكة خافتة، قصيرة، سرعان ما انطفأت ليحل مكانها صمت دافئ. نظر أسعد إلى وجه أخته طويلاً، ثم رفع يده ليمررها بلطف على شعرها الأبيض المبعثر، وقال بصوت ملؤه الحنان:
"ما زلتِ جميلة يا أنيسة، خاصة عيناكِ... لم تفقدا بريقهما. لم أكن أظن أنك ستظلين بهذا الجمال."
رفعت أنيسة نظرها إليه، وعيناها تغرورقان بالدموع، ابتسمت تلك الابتسامة التي تجمع بين الشكر والحزن، وكأنها تعرف أنه يبالغ قليلاً فقط ليواسي قلبها.
غير أسعد الموضوع بابتسامة خفيفة وهو يعطيها وردة حمراء فقدت بعض بتلاتها:
"انظري، أحضرت لكِ وردة... حمراء جميلة، لكنها للأسف تمزقت قليلاً."
مدّ يده بالوردة، فأخذتها أنيسة بأصابع مرتعشة، وتأملتها بنظرة دافئة كأنها تحتضن ذكرى من زمن بعيد. ثم ضمتها إلى صدرها برفق، وقالت بصوت خافت، يحمل من الحنين أكثر مما تحتمل الكلمات:
"كم هي جميلة! هذه أجمل وردة رأيتها في حياتي"
وكأن الزمن توقف بينهما... وكأنهما سُجنا معًا داخل فقاعة زمنية شفافة، لا يدخلها صوت ولا بشر، فقط هما وذكرياتهما، وعناق طويل طال انتظاره. العالَم من حولهما بدا باهتًا، بلا ملامح. وحدها نظراتهما، وضحكاتهما، ولمسات أيديهما المرتجفة، كانت تشع بالحياة.
لكن شيئًا ما خطر في ذهن أسعد فجأة، فالتفت بسرعة وكأنما عاد إلى الواقع، وقال بنبرة متحمسة:
"انظري يا أنيسة.. نسيت أن أُعرّفك، هذه ابنتي زينب."
أشار بيده نحو امرأة كانت تقف عند طرف الغرفة، فمدّت أنيسة رأسها قليلًا، محاولة تتبع اتجاه أصابعه. لم ترها من قبل ابنة أخيها.
قال أسعد وهو يتقدم خطوة نحو الفتاة:
"ابنتي الوحيدة."
ابتسمت أنيسة بحنانٍ غامر، ودموعها تكاد تفلت من عينيها دون إذن، وقالت بصوت متهدّج:
"سميتها زينب؟"
أجاب أسعد بابتسامة فيها دفء الذكرى:
"نعم... على اسم جدّتنا."
أشارت أنيسة إلى السيدة الواقفة في طرف الغرفة، ومدّت يدها بدفءٍ وحنان:
"تعالي هنا يا حبيبتي."
تقدمت زينب ببطء، خطواتها مترددة، وعيناها تتأملان المرأة، عمتها التي سمعت عنها كثيرًا ولم ترها من قبل. وما إن اقتربت، حتى ضمّتها أنيسة بقوة، بعناق طويل لم يعترف بالزمن ولا الغربة. كانت أنيسة تحتضن أكثر من جسد، دمًا من دمها، وقطعة من أخيها. بقيتا على هذا الحال للحظات، وبعد أن افترقت ذراعاها برفق، أشار أسعد إلى الجالسين على مقربة، وقال بفخر يملأ صوته:
"وهذه حفيدتي سلمى، أصغر أحفادي، وهذا زوجها، وابنتهما... حفيدتي الصغرى، اسمها آسية."
أضاء وجه أنيسة بحب عميق وهي تتأملهم كأنهم لوحة حيّة، وقالت بانبهار وحنان:
"يا جميلات... تعالوا هنا، لأعناقكم."
تقدمت الطفلة آسية نحوها أولًا بدفعة من أمها، وهي تضع إصبعها في فمها بخجل، تلتها سلمى، وضمّتهم أنيسة جميعًا بذراعيها النحيلتين، رغم ضعف جسدها، كأنها تستمد قوتها من دفء أجسادهم. ثم مررت كفّها المرتعشة على شعر آسية، وقالت والابتسامة ترتجف على شفتيها:
"يا صغيرتي... كم أنتِ جميلة."
ثم انحنت قليلًا تداعبها، وأضافت:
"في منزلي، ستة أطفال صغار... ستُحبين اللعب معهم كثيرًا."
ابتسمت سالي بمرح وهي تتذكر العصابة الصغيرة، ولم تشعر بعلامات توافق بينهم وبين هذه الصغيرة الرقيقة.
كان التعب بادياً على ملامح أنيسة، ولكنها قاومت لتبقى بينهم، وفجأة، وكأنها تذكرت شخصاً ما، التفتت نحو أخيها وسألت:
"وزوجتك يا أسعد؟ كيف حالها؟... كان اسمها سعاد، أليس كذلك؟"
ساد صمت خفيف، تبادلت خلاله النظرات بين أسعد وابنته، قبل أن يشيح بعينيه نحو الأرض. ثم أجابت زينب، بصوتٍ خافت يملؤه الحزن:
"ماما توفيت منذ سنين."
شهقت أنيسة بخفة، كأنها تلقت خبراً لم تكن مستعدة له، وغابت في ذاكرتها للحظات... تتخيل الشابة سعاد في فستان خطوبتها، ضاحكة، جميلة، تمسك بذراع أسعد.
همست بأسى:
"أنا آسفة... فليرحمها الله... كانت جميلة... كما أذكرها."
مرت لحظات صمت، ثقيلة ومحبطة، فقط صوت النفس كان يملأ المكان. نظرت أنيسة إلى أسعد نظرات جانبية مترددة، وكأنها تريد قول شيء وتنتظر منه أن يبادر. التقط أسعد نظرتها، وحدّق فيها بشيء من القلق، ثم سأل بصوت خافت:
"كمال... أنا... آسف.."
وكأنها كانت تتوسل أن يُفتح الحديث عنه، أجابت بسرعة، ولكن بصوت متهدج، مليء بالوجع:
"لقد استشهد، يا أسعد..."
انفلتت دموعها بلا مقاومة، وببطء. أسرع أسعد إليها، وضمّها برفق، وهمس في أذنها وكأنه يطفئ نار قلبها:
"أرجوكِ... لا تبكي، لندعُ له بالرحمة... هو شهيد."
رفعت أنيسة وجهها، نظرت إليه بعينيها الممتلئتين بالحزن، بعينين تحكيان كل ما لم تستطع الكلمات أن تصفه، وقالت بصوت خافت:
"رحل عني... قبل أن نتزوج... تركني بمفردي."
كان وقع الكلمات كالسهم في قلب أسعد. شعر بالعجز، بالذنب، بالحنين للأيام التي كان فيها قادرًا على حمايتها. نظر إليها مطولًا، ثم همس والمرارة تعتصر صوته:
"أنا آسف.. آسف لأني تخليت عنك.. لو لم أتركك، لكنتِ الآن محاطة بعائلتك.. أنا آسف يا أختي.. سامحيني."
أطرقت أنيسة رأسها، وكأنها لا تحتمل سماع المزيد. ثم رفعت عينيها بعزم ودموع، وقالت بإصرار ممزوج بالحزن:
"لا.. هذا خطئي.. أنا التي هربت.. وتركتك أنت وجدي.. أستحق كل ما حدث لي."
همس أسعد بصوت مبحوح، كأنه يحاول أن يرمم شقوق قلب أخته:
"لا تقولي هذا يا أنيسة… هذا نصيبك. كما أننا جميعاً كنا مخطئين".
تنهد للحظات ثم أكمل:
"هل تعرفين؟ كمال كان يتواصل معي بالرسائل، حاول أن يفهمني طبيعة حبكما. كنت أعرف أنه صادق، وأنا كنت جبان… لم أستطع الوقوف أمام كلمة جدي. خفت أن أخسره، كما خسرت أبي وأمي. أنا… أنا هو المخطئ."
رفعت أنيسة رأسها بصعوبة، نظرتها المرتبكة تفضح ما بداخلها:
"لم يخبرني.. أنه كان يتواصل معك!"
هزّ رأسه بأسف، وكأن الندم يأكل قلبه قطعة قطعة:
"أرسل لي رسائل عديدة.. توسل فيها أن نستعيد علاقتنا. حتى أنه كان يرغب في إجبارك على مصالحتنا. كان يشعر بالذنب الشديد لأنه كان سبباً في هروبك."
عينا أنيسة امتلأتا بالدموع، حاولت أن تتماسك لكن صوتها انكسر:
"كمال.. أنا آسفة.. لقد كنت طائشة"
"اهدئي يا أنيسة".
قالها أسعد بعاطفة، ثم جذبها إليه واحتضنها بقوة، وكأن ذراعيه تحاولان لملمة ما تناثر منها عبر السنوات. لم يقولا شيئًا، لكن الصمت بينهما حمل كل ما عجز اللسان عن البوح به. كان صمتًا كثيفًا، متخمًا بالندم، والذكريات، والاحتمالات الضائعة.
وبهدوء حذر، خرجت سالي من الغرفة، تمنح هذه العائلة المنكسرة لحظة من الخصوصية التي يستحقونها. سارت بخطوات صامتة. ثم جلست على كرسٍ أمام الباب المغلق، وأسندت ظهرها إليه، تحدق في الفراغ بصمت، غارقة في أفكارها وأحلامها.
فجأة وبعد دقائق، ظهر كوب من النسكافيه أمام عينيها، دافئًا، يتصاعد منه البخار في هدوء. رفعت سالي رأسها ببطء، وقد ارتسمت على ملامحها دهشة ناعمة، لتجد خالد واقفًا أمامها، يمد لها الكوب بيد، وفي اليد الأخرى منديلاً ورقيًا.
تناولت المنديل بعفوية، ومسحت دموعها التي لم تنتبه أنها كانت تنساب، ثم ضمّت الكوب بكلتا يديها، تمتص حرارته وكأنها تتدفأ من برد داخلي لم تعرف سببه.
جلس خالد بجوارها وفي بين يديه نفس الكوب الساخن، ثم قطع الصمت بصوت خافت:
"في الحقيقة... أنا أشعر بالغيرة منك."
رفعت سالي حاجبيها في استغراب، تنظر إليه بعينين تملأهما الحيرة، فأكمل بنبرة صادقة، وهو يلتقط في عينيها دهشتها:
"لقد فعلتِ ما لم أستطع فعله... كم امتلكت كلماتك من السحر لتقنعي عم أسعد بالمجيء اليوم؟"
ثم تنهد، ونظر أمامه، إلى نقطة بعيدة وهمية في الجدار:
"أو ربما كنت أنا المقصر... مع أنني كنت ألح عليه كل يوم."
سكنت الكلمات بينهما للحظات ثم أكمل خالد:
"لقد عانت ماما كثيرًا طوال حياتها، منذ ولادتها حتى الآن.. مرت بحياة درامية أكثر منّا جميعًا، حتى نحن، اليتامى الذين رعتهم في بيتها."
كان ينظر للأرض، كأن الذكريات تتدفق أمامه، وكأنه يخشى أن تنهار الكلمات إن نظر في عينيها.
"ربما حكت لك قصتها الحزينة.. كانت حياتها كلها فراق: والديها، جدها، أخيها، وحبيبها كمال."
رفع عينيه إليها ببطء، وصوته ينكسر في حنان حقيقي:
"حياة قاسية على امرأة رقيقة القلب مثلها."
تنهد بعمق، ثم أكمل:
"لذلك، بدأت أبحث عن عم أسعد. كنت أحمِل في داخلي أمنية أن يكون لا يزال على قيد الحياة... وقد كان."
مرت لحظة صمت، ثم تابع كأن شيئًا ثقيلًا يحمله عن كتفيه:
"حاولت التواصل معه، وظللت أتردد عليه مرارًا، أحاول الوصل بينهما من جديد. ولم أخبرها، حتى لا تعلّق آمالاً.. كنت خائفًا أن تتلقى صدمة أخرى.. لن تتحملها، أنا أعرف ذلك."
ثم التفت إلى سالي، ونظر في عينيها مباشرة، وقال بصوت يحمل مزيجًا من الذهول والامتنان:
"وجئتِ أنتِ... وفعلتِ ذلك كالسحر."
توقّف لحظة وهو يتأملها، ثم همس بإحساس صادق:
"أنا ممتن لأنك ساعدتِ في منحهم تلك اللحظة المهمة... ربما لو لم تكوني هنا، لضاعت تلك الفرصة."
هدأ صوته في النهاية، لكنه ترك أثرًا عميقًا.
رفعت سالي رأسها نحوه، تتأمله بصمت، لم تكن تلك نظرة الرجل الهادئ المتماسك دائمًا، بل كانت نظرة رجل يحمل في قلبه وجعًا كبيرًا، ويخفيه ببراعة عن الجميع.
تابع بصوت بدا وكأنه يحاول أن يظل قويًا لكنه خانته النبرة في آخره:
"أريد أن ترحل ماما بسلام... دون أي ندم. إنها تستحق ذلك. ربما يكون هذا هو المسكن الأخير لكل ما مرت به من آلام."
كان كلامه كمن يسلّم بحقيقة حاول في البداية إنكارها. العاطفة التي خنقت صوته وهو يتحدث عنها كشفت عن عمق المحبة والألم.
تابعته سالي بعينيها، ولم تنطق. فقط هزّت رأسها ببطء، في تفهم عميق. كانت تلك لحظة نادرة، أن ترى في رجلٍ مثله، الصدق المجرد من الكبرياء، والاستسلام الممزوج بالشجاعة. والأهم، أنه بدا وكأنه يدرك أنه المسؤول الآن، أنه "رأس المنزل"، الذي عليه أن يحتوي، ويفهم، ويقود... لأجل الصغار الذين لا يستوعبون الحقائق بعد، ولأجل من بقي من الكبار أيضًا.
قال خالد بصوت متهدج، وكأن كلماته تخرج من أعماق روحه:
"أريد أن تُغلق هذه الصفحة بهدوء وسلام... هذا ما أكافح لأجله الآن، لذلك..."
ثم التفت نحو سالي ببطء، كأن اللحظة تحتاج منه بعض التردد، أو بعض الشجاعة. تأملها بعينين غامضتين، فيهما امتنان، ثم همس بصوت صادق:
"أشكرك على كل ما تفعلينه مع عائلتي."
توقف لحظة، ثم أكد، بصوت أكثر خفوتًا، لكن أكثر صدقًا:
"هذا... من قلبي."
شعرت سالي بشيء دافئ يتسلل إلى قلبها، رغم الحزن الذي يغلف الأجواء، وربما لأنه يغلف الأجواء. في تلك اللحظة، كان امتنان خالد أثمن من أي اعتراف، لأنه جاء من مكان حقيقي، خالٍ من المجاملة.
نظرت إليه سالي بعينين مترددتين، تحملان مزيجًا من الدفء والخجل. التقت عيناها بعينيه للحظات، ثم هبطت بنظرها خجلًا، وأجابت بصوت هادئ، لكنه نابض بالصدق:
"أنا أقدّر مشاعرك الصادقة.. جدًا."
ثم أضافت بعد برهة، بصوت أقرب إلى الهمس، وكأنها تحاول إخفاء ارتباكها خلف كلمتها:
"أنا فقط.. أفعل ما يمليه علي قلبي، ربما يمكنني أن أُحدث فرقًا، ولو صغيرًا."
سادت لحظة من الصمت المشبع بالعاطفة بينهما، فقط وجودهما بجوار بعضهما البعض كان كافيًا ليملأ المكان بشيء ناعم، دافئ.. حقيقي.
***
كانت فرحة أنيسة بلقاء شقيقها أشبه بانفراجة بعد طول غياب. منذ أن التقيا لأول مرة، لم يفترقا يومًا واحدًا. كان أسعد يأتي إلى المستشفى مع أول دقائق الزيارة، لا يفارق كرسيه القريب من سرير شقيقته حتى ينتهي الوقت. يجلسان جنبًا إلى جنب، يتحدثان بشغف عن ذكريات الطفولة، يضحكان أحيانًا حتى تدمع أعينهما، ثم يبكيان على من غابوا من الأحبة، وعلى العمر الذي تسرّب من بين أيديهما دون وداع. كانت أيديهما متشابكة طوال الوقت، كأنهما يحاولان عبر هذا التلامس أن يُرمّما كل ما تهدّم في داخلهما، أو يعوضا الزمن الذي مضى دون أن يتكئا على بعضهما البعض.
في تلك الأيام، تعمّقت علاقة أسعد بسالي، الطبيبة الرقيقة التي جاءت إليه ذات صباح بعيون قلقة ولهجة متوسلة، ترجوه أن يمنح شقيقته لحظة لقاء. وجد في شخصيتها صدقًا نادرًا، وحنانًا ناعمًا، ومع مرور الوقت، ازدادت مكانتها في نفسه، خاصة بعدما سمع من أخته مديحًا كثيرًا عنها، وتلك الأمنية العذبة التي أفشتها له همسًا: أن تكون سالي هي من يختارها قلب ابنها شريكةً لحياته.
وكانت الحياة في تلك الفترة أشبه بهُدنة من الزمن، هدأت فيها القلوب، وتباطأت فيها الأيام، وكأنها تُمنح لهم عن طيب خاطر لحظات جديدة ليلتقطوا أنفاسهم. حتى الشتاء، ذلك الزائر البارد الثقيل، رقّ قلبه فجأة ومنحهم فسحة من السلام. سطعت الشمس يومًا بعد يوم، دافئة على غير عادتها، تلامس الوجوه والقلوب بلطف. ولم تمطر السماء منذ مدة طويلة، وكأنها قررت أن تحبس أمطارها لتمنح هؤلاء البشر لحظة نقاء لأنفسهم. الأشجار وقفت ساكنة دون رياح تعصف بها، يحمل نسيم ناعم رائحته هانئة. كل شيء بدا هادئًا، كما لو أن العالم بأسره تآمر معهم على تأجيل الحزن.. فقط قليلًا.
في كافتيريا المستشفى، كان الهدوء يخيم على المكان إلا من صوت ارتشافات القهوة وحركة الممرضين العابرة. جلس خالد أمام أسعد، متأملًا ملامحه المسنة الهادئة. فجأة، وضع أسعد ملفًا بيده على الطاولة، دفعه بهدوء أمام خالد. تأمله الأخير بحيرة، ورفع عينيه نحو الرجل الجالس قبالته، متسائلًا بنبرة هادئة:
"ما هذا يا عمي؟"
تنهد أسعد تنهيدة طويلة، كأنها حمل ثقيل لفظه صدره:
"هذا إرث أختي يا بني.. نصيبها في المزرعة في أرض جدي، والمنزل القديم في الإسكندرية. و شيك بإيرادات المزرعة طوال السنين الماضية، حاولت مرارًا إقناعها أن تستلمه لكنها رفضت.. ولهذا، قررت أن أهبك إياه."
ساد صمت ثقيل بينهما، لم تقطعه سوى حركة خالد البطيئة وهو يمد يده ليدفع الملف بلطف نحو أسعد من جديد. نظراته كانت جادة، وملامحه امتلأت بعناد صامت:
"لا يمكنني أن أقبل بذلك، هذا ليس ملكي، كما أنني لا أحتاجه."
أغمض أسعد عينيه للحظة وتنهد مرة أخرى، ثم قال بابتسامة باهتة:
"لقد مررت إليك عنادها، ولكن لا أحد يعاند أكثر مني."
ثم حدق في عيني خالد بعزم وأضاف:
"هذه الأموال ليست لي، وأنا أخيراً تخلصت من هذا الحمل الذي حملته على عاتقي طوال حياتي.. فكر فيها على أنها لليتامى الصغار يا خالد. احفظها لهم، سجّل شهادات بأسمائهم، لعلها تكون ضمانًا لمستقبلهم."
هز خالد رأسه نافيًا، وأجاب بثبات:
"لا يا عمي، أنا كفيل بالأطفال، والحمد لله أملك ما يكفي. لا أحتاج إلى هذه الأموال، ومادامت ماما رفضتها، فليس من حقي التصرف فيها."
لم يعلق أسعد، بل فقط وضع الملف على طرف الطاولة ودفعه بهدوء ناحيته، وقال بصوت منخفض لكنه حاسم:
"لا فائدة من العناد، لقد وهبتها لك بالفعل."
ساد صمتٌ صغير، تنفّس خلاله أسعد بعمق، وكأن قلبه أثقل من صدره، ثم تابع بنبرة تحمل شيئًا من الراحة والحزم في آن:
"هذه الأموال يجب أن تعرف مصيرها في حياة أختي، حتى أطمئن أنني سلّمت الأمانة التي علقها جدي على عاتقي. لقد أوصاني قبل أن يموت أن أعطي أنيسة إرثها. والحمدلله، سلّمت الأمانة اليوم."
ثم مال قليلاً إلى الخلف في كرسيه، وكأن حملاً ثقيلاً قد أزيح عن كاهله، وأكمل:
"المحامي سيتواصل معك قريبًا لإنهاء الإجراءات. افعل بها ما تراه مناسبًا."
ثم نهض بهدوء، متكئًا على عصاه، وخطى ببطء في الرواق الطويل، ظهره محني قليلًا لكن خطواته كانت واثقة، كمن أدى واجبه أخيرًا بعد سنين من الانتظار.
***
في تلك الليلة، نظر خالد إلى أمه بقلق صادق، كانت تتنفس بصعوبة شديدة في تلك الأيام، رغم جهاز التنفس المتصل بأنفها، عبثت يداه بحافة الملف الجلدي الموضوع أمامه، ثم رفع رأسه إليها وسأل بصوت خافت:
"ماما، ماذا أفعل بهذه الهبة؟ المبلغ ليس قليل."
لم تُجبه فورًا، بل ظلّت تتأمل السقف بشيء من الشرود، وبخار الماء يتكوّن ويتلاشى في الجهاز المثبّت على أنفها، وهي ترى أيامًا مضت ولم تعد. ثم قالت بصوت هادئ، وقد كسا الحزن ملامحها:
"تصرف فيها يا بني كما تشاء.. لقد وهبها لك أسعد، هي حقك الآن."
عبس خالد، وتقدم بجسده قليلًا نحوها، وكأن قربه يمكن أن يغيّر المعنى، ثم رد بإصرار:
"هذا إرثك أنت، انت من يجب عليه التصرف فيها."
التفتت إليه ببطء، كانت ملامحها ساكنة، لكن عينيها تنطقان بالحزن، وقالت بصوت خافت يشوبه شيء من الاستسلام:
"كيف أتصرف فيها، والعمر لم يعد يحمل المزيد من الأيام حتى أصرف هذا الإرث؟"
ساد الصمت فجأة كأن الزمن توقف، ولم يبقَ في الغرفة سوى أنفاسهما الثقيلة. ظل خالد ساكنًا في مكانه، تحدق عيناه في الفراغ، بينما كانت أنيسة تغوص في أفكارها.
ثم، وبعد لحظة، لمعت عيناها فجأة، والتفتت إليه بنظرة جديدة، نظرة فيها قوة الأم وعزم من لا يملك وقتًا للتردد، وقالت:
"خالد، اسمعني جيداً يا بني. سأخبرك كيف تتصرف في هذه الأموال"
رفع خالد عينيه نحوها، وكلّه إنصات وقلق، فبدأت أنيسة تسرد عليه خطتها. وبعدما أنهت أنيسة شرح خطتها، خيّم الصمت لحظة، ثم تنهدت بألم، وألقت على خالد نظرة دافئة امتزج فيها التعب بالمحبة، وسألت بصوت خافت:
"لماذا أرى هذا التعب في عينيك؟ هل نمت جيدًا؟ أظنك تُجهد نفسك كثيرًا في هذه الأيام، دون أن تمنح نفسك قسطًا من الراحة."
ردّ خالد، وهو يشيح بنظره:
"وكيف أرتاح؟ الحياة أصبحت معقدة جدًا هذه الفترة."
لم يكن خالد ممن يشتكون بسهولة، لكنه شعر بثقل العالم فوق كتفيه في هذه الأيام، وكأنه لا يستطيع التنفس دون مقاومة. شعر أنه بحاجة لأن يبوح، حتى لو بالقليل. لكنه صمت، واكتفى بالنظر إلى الأرض.
نظرت إليه أنيسة بصمت، وقلبها يفيض بالشفقة. كانت تدرك أنه يحمل أكثر مما يحتمل، لكنها أيضًا تعرف أنه لن يطلب المساعدة.
"حبيبي.. لدي ما أريد تقديمه إليك."
رفع خالد بصره إليها وقد ارتسمت الحيرة في ملامحه، وسألها بهدوء:
"ماذا؟"
مدّت أنيسة يدها ببطء تحت الوسادة، ثم أخرجت صندوق مجوهرات صغيرًا بلون قرمزي، وقد بدا عليه القِدم، فمدّته إليه قائلة:
"افتح هذا يا بني."
تناوله خالد بتردد، كأنما يحمل بين يديه كنز، ونظر إلى أمه، ثم إلى الصندوق، قبل أن يفتحه بأصابع مرتجفة.
في الداخل، استقر طقم من الذهب: خاتمان بسيطان للخطبة، وعقد رقيق، وسوار ناعم، وخاتم تتوسّطه قطعة صغيرة من الألماس. نظر خالد إلى القطع بعينين لا تفهم، ثم رفع رأسه إليها متسائلًا:
"ما هذا؟"
رفعت أنيسة عينيها إلى السقف، وابتسمت ابتسامة متحسّرة، وكأنها تستحضر لحظة بعيدة، ثم همست:
"هذه شبكتي.. قدمها لي كمال وقت خطبتنا."
أضافت بصوت متهدّج:
"لكنّ الوقت لم يسعفنا.. لم أرتدِها منذ ذلك اليوم."
ثم أمالت وجهها قليلًا نحو الصندوق، وأضافت:
"ما عدا هذا الخاتم الألماسي.. أنا من اشتريته مؤخرًا."
ظلّ خالد ينظر إلى المجوهرات بصمت، ثم قال ببطء:
"وماذا أفعل بها؟"
ابتسمت أنيسة ابتسامة دافئة، لكنها لم تخلُ من شجن، وقالت:
"قدّمها لها."
سألها بصوت منخفض:
"لمن؟"
نظرت إليه بعينين تلمعان:
"للمرأة التي يختارها قلبك يا خالد.. هذه هدية زواجك، من أمك. أعلم أن الوقت لن يسعفني لأراك عريسًا، لكنني أردت أن أترك لك شيئًا مني."
أغلق خالد الصندوق بهدوء، ووضعه جانبًا، ثم انحنى على يدها، وضمّ كفها بين كفيه، ورفعها إلى جبينه في صمت عميق. بدأ كتفاه يهتزان، وصوته يغص بالبكاء المكتوم.
راقبته أنيسة بعين متعبة، ثم تسللت دمعة من زاوية عينها، وهمست بصوت مرتجف:
"أتبكي يا خالد؟"
انهمرت دموعها وهي ترى ابنها، الذي منحته قلبها وحياتها، يبكي لأجلها، لأجلها وحدها. رفعت يدها الضعيفة، ومررت أناملها المرتجفة على شعره كما كانت تفعل وهو طفل، وقالت بصوت هادئ يشوبه الحنان:
"عزيزي خالد.. ابكِ كما تشاء، لا تكتم حزنك. أنا هنا، بجوارك، لأواسيك.. ما زلت أمك، حتى وإن رحلت."
ظلّا على حالهما لدقائق، الصمت يلف الغرفة، لا يُسمع فيها سوى صوت أنفاسٍ متقطعة واهتزازات خفيفة من جهاز التنفس. مسح خالد دموعه بظهر كفه، ثم رفع عينيه الحزينتين نحوها، فيهما رجاء صامت، وكأنه يتوسّلها أن تمنحه وقتًا أطول، عمرًا أكثر.
بادلته أنيسة نظرة مفعمة بالثقة والطمأنينة، كأنها تقول له دون كلمات: "أنا ما زلت هنا، لا تخف."
اقترب منها وهمس بصوت متهدج:
"لم أستطع إخبارك بهذا يومًا.. لم تكن لديّ الجرأة لأصارحك.. لكني ممتن، ممتن لكل ما فعلتِه من أجلي. لقد التقطتِني من المجهول، واحتضنتِني بقلبك، ربيتِني، واعتنيتِ بي.. كنتِ عائلتي الوحيدة، والملاذ الذي جعل الحياة أقل قسوة.. بل أكثر دفئًا.. ماما، أنا أحبك.. أحبك كثيرًا."
قالها كطفل صغير، ثم خفض رأسه مجددًا، غير قادر على كتمان حزنه. مدت أنيسة يديها الواهنتين، وجذبته إليها تحتضنه بشدة، همست وقد اغرورقت عيناها:
"أنت أجمل ما حدث لي في حياتي، سأخبر الله أنك كنت بارًا بي.. سأخبره أنني راضية عنك"
لكن صوته المتهدج قاطعها، وقد اختنق بالبكاء:
"كيف أعيش دونك؟ كيف أواجه الحياة وأنتِ لستِ بجانبي؟"
ربتت على ظهره بحنان أم لم تفقد دفئها رغم الوجع، ثم قالت بصوت خافت لكنه ثابت:
"ستعيش يا بني.. ستعيش وتدعُ لي، ستتذكرني في صلاتك، أرجوك.. لا تنساني يا خالد."
قالتها كأنها توصيه بالحياة، والخوف يرتجف في كلماتها. شعر خالد بالذهول للحظة، ثم شدد ذراعيه حولها وقال بحزم دامع:
"أبدًا.. لن أنساكِ ما حييت."
ابتعدت عنه قليلًا، ومسحت دموعه بكفها المرتجفة، ثم نظرت إليه بنظرة أمٍّ تُسلّم قلبها لمن تحب، وهمست:
"اعتنِ بالأطفال يا خالد... أولئك الخمسة عشر، مساكين... في البداية فكّرت أن أحررك من عبء مسؤوليتهم، لكن قلبي لم يطاوعني. لا أستطيع أن أطلب ذلك منك.. أرجوك، تمسّك بهم، لا تفرّط فيهم مهما ضاقت بك الحياة."
نظر إليها خالد، ودمعة ثقيلة سقطت بصمت على يدها، ثم همس بإصرار:
"لن أفعل.. حتى لو طلبتِ مني ذلك. لقد علمتِني أن أعيش لأجل شيء.. وأنا أعيش لأجلهم."
كلمات خالد ضربت قلبها كالخنجر، شعرت بالشفقة عليه، وهي ترى فيه الشاب الذي لم يعش لنفسه يومًا، الأسير الطيب في سجن الواجب الذي أحكمته عليه. لكنها لم تكن قاسية لتطلب منه التخلّي، ولا جاهلة لتجهل ما يعنيه الفقد لهؤلاء الأطفال.
كيف يمكنها أن تأمره بتفكيك المنزل؟ أن يترك قلوبهم الصغيرة تنهشها طرقات الحياة القاسية؟ لا، لن يُصلح هذا الوضع بخطأ. فهؤلاء الصغار لا يعرفون وطنًا سوى هذا البيت، ولا عائلة سواه.
أما هو، فعليه أن يلتفت أخيرًا إلى قلبه المُرهق... ذاك القلب الذي طالما أجل أحلامه، دفن رغباته، ورضي بدور الحامي فقط، دون أن يطالب بشيء لنفسه.
نظرت إليه أنيسة بعينين تفيض حبًا وحنانًا، ثم همست بصوت رقيق ممتزج برجفة الرحيل:
"كوِّن عائلتك يا خالد... عائلة من اختيارك، من قلبك. لا تُطفئ نورك من أجل الآخرين، لا تنسَ نفسك أبدًا. أعطها حقها من الحياة، من الراحة، من الحُب."
سكتت للحظة، ثم تابعت بعين دامعة نادمة:
"أرجوك.. لا تجعلني أندم على أنني حمّلتك مسؤوليتهم. كنت أريد لهم الأمان، لا أن أسلبك مستقبلك."
مدّت أنيسة يدها بضعف، وحاولت رفع وجهه لتلتقي عيناها بعينيه، ثم همست بصوت متهدّج، مليء بالرجاء:
"خالد؟ ستنفّذ وصيّتي.. أليس كذلك؟"
لم يُجب، لم يستطع. فقط ضمّها إليه بقوّة، كأنما يريد تثبيتها في الحياة، منعها من الرحيل. أحاطها بذراعيه بكل ما في قلبه من حبّ وخوف وتمسّك.
تدفّقت دموع أنيسة على وجنتيها، وعيناها ترتجفان بالألم، وقالت بصوتٍ يختلط فيه الرجاء:
"خالد.. نفّذها، أرجوك.. لا تُثقل قلبي بالحزن، لا تجعلني أرحل وأنا خائبة الرجاء."
ارتجف جسد خالد، ثم همس أخيرًا، صوته يخرج بصعوبة من بين العبرات:
"أعدكِ يا أمي.. سأفعل.. سأفي بكل ما طلبتِه، كل ما تركتِه لي.. أعدك."
ربتت على ظهره، وهمست بصوت خافت كأنما تسكبه من أعماق روحها:
"كن سعيدًا يا بُني.. هذا وحده ما سيجعلني أرتاح."
ثم أغمضت عينيها لثوانٍ، وأتبعت تنهيدة عميقة خرجت كوداع:
"كن سعيد."
***
بعد تلك العاطفة التي جمعت بين الأم وابنها، هدأت أنفاس أنيسة قليلاً، ثم همست بصوت خافت:
"نادِ سالي، أريد أن أراها."
نهض خالد ومسح دموعه سريعًا، واتجه إلى الباب ليفتحه. كانت سالي تنتظر هناك، متوترة، وتحدق بالأرض. وما إن التقت عيناها بعينيه حتى لاحظت أنه يتجنب النظر إليها. كانت عيناه غير مستقرتين، ويبدو أنهما محمرتان، كأن البكاء قد ترك أثره فيه. لكن صوته كان هادئًا وهو يقول:
"تفضّلي.. ماما تريدك."
دخلت سالي بخطى مترددة، لكن وجهها ما إن رأى أنيسة حتى تهدّجت ملامحها. مدت المرأة يدها إليها ببطء، وعلى وجهها ابتسامة دافئة مُرهقة:
"تعالي هنا."
تقدّمت سالي بخفة وجلست بجوار السرير، أمسكت يد أنيسة برفق وهمست:
"طلبتِ رؤيتي."
أومأت أنيسة برأسها، وعلى وجهها ابتسامة رقيقة، ثم قالت بصوت خافت:
"نعم، يا عزيزتي.. أنتِ من أهم من مرّوا في حياتي، وأردت أن أقول لك بعض الكلمات."
نظرت إليها سالي بحيرة، وعيناها تزدادان امتلاءً بالتساؤل، فتابعت أنيسة، والحنان يتسلل إلى نبرتها:
"أنتِ جميلة، رأيت ذلك منذ اللحظة الأولى.. شابة، بعينين صادقتين وقلب شجاع. كنتِ مترددة في البداية، خائفة، لكنكِ قوية، ورقيقة. أحببتكِ كما أنتِ، لصدقكِ، ولرقتك، وللطمأنينة التي يحملها حضورك."
ارتجفت شفتا سالي، وابتسمت ابتسامة مرتعشة، بينما كانت تحدّق في المرأة التي تغالب التعب لتكمل حديثها. قالت أنيسة، بنبرة بدت فيها إرهاق الأيام:
"اسمعيني جيدًا يا سالي.. فأنا سأرحل قريبًا."
ارتجفت ملامح سالي، وارتفعت يدها الثانية تمسح دمعة أفلتت رغمًا عنها، ثم همست برجاء:
"أرجوكِ، لا تقولي هذا."
شدّت أنيسة على يد سالي فجأة، بقوة خفيفة تنمّ عن إصرار، وكأنها تنبّهها بجدية للإنصات، ثم همست بصوت واهن لكنه واضح:
"اسمعيني جيدًا يا سالي.. فقد لا يجمعنا حديثٌ كهذا مرة أخرى."
سكنت قليلًا، وعيناها معلّقتان بوجه سالي، ثم تابعت:
"لقد عشتُ حياتي أطارد أحلامًا ظلّت بعيدة، تمنيت كثيرًا، وانتظرت أكثر، لكن القدر لم يكن سخيًا معي كما كنت أتمنى.. رحل والداي في سنٍ مبكرة، وتركتني الحياة يتيمة القلب قبل أن أعي تمامًا ما معنى الفقد. أحببتُ رجلاً بكل صدق، لكنه لم يكن مرضيًا لجدي. رفضه رفضًا قاطعًا، فلم أجد أمامي سوى الهرب.. هربت لأتزوجه، لأصنع قدري بيدي، لكن القدر لم يمهلنا، فاستُشهد قبل أن تبدأ حكايتنا".
توقفت أنيسة، وأغمضت عينيها وكأنها تستحضر تلك اللحظة القديمة بكل ألمها، ثم تابعت بصوت خافت كأنما تُحدّث جرحًا لم يندمل:
"تبرأ منّي جدي، ورفض أن يفتح لي بابه، وافترقتُ عن أخي.. ومنذ تلك اللحظة، قضيتُ بقية عمري بعيدة عنه. ورغم الغصّة التي في صدري، لم أعترض يومًا على قسمة الله."
تنهّدت، ثم تابعت بصوت أعمق وهي تتأمل الشابة أمامها:
"منذ اليوم الأول الذي التقيتكِ فيه، رأيت نفسي فيكِ... لا أعني أننا متطابقتان، لكن شيئًا منك كان يذكرني بي. رأيت فيكي شبابي، كنتِ تشبهين تلك الفتاة التي كنتها يومًا، أرى أنيسة الشابة، تلك التي أحبت الحياة، ورأتها مشرقة رغم فقدان والديها. كنتُ أراكِ فألمح ملامح أحلامي القديمة، تلك التي نسجتها في ليالٍ صامتة، وأنا أتخيل مستقبلاً سعيدًا، وبيتًا دافئًا يجمعني بمن أحب. رأيت فيكي الأمل والحياة وأحلام المستقبل."
مرّت أنيسة بكفّها على شعر سالي الأسود الطويل المموج، وهمست بعينين ممتلئتين بالحنين:
"شعرت أن شبابي لم يغب تمامًا، أنه عاد يتنفس من خلالكِ... رأيت فيكِ الحلم الذي لم يكتمل، والفرص التي أفلتت من يدي."
نظرت سالي إليها بعينين دامعتين، وهمست بصوت مرتجف:
"سيّدتي.. كلماتكِ تثير في قلبي حيرة. تقولين هذا عني، وأنا التي لم تعرف من الحياة سوى ظلها، التي عاشت دومًا خلف ستار أسود."
ابتسمت أنيسة برفق، وقالت:
"السعادة يا سالي لا يُدركها الإنسان لحظة وجودها، بل حين يتأملها بعد أن تمر. كنتِ سعيدة في هذا المنزل، رأيت ذلك في ابتسامتك، في نظرة عينيك، في الطريقة التي احتضنتِ بها الأطفال. تلك الراحة لا يكذبها القلب، لأن من يعيش بين من يحبهم، ويصغي لما يمليه عليه قلبه، لا بد أن يشعر بالسكينة، ولو لم ينتبه لها وقتها."
تنفست المرأة بصعوبة ثم أكملت:
"ربما.. لا أملك ما أقدّمه لك قبل رحيلي..لكنني أُهديكِ شيئًا أغلى على قلبي.. أهديكِ الحياة التي تمنيتها، آمالي التي لم أطلها. حبي الذي لم يكتمل، أرجوكِ يا سالي.. تابعي الطريق الذي عجزتُ عن إتمامه، وامنحيني من بعيد فرصة رؤيتك وأنتِ تعيشين الحلم الذي تمنّيته. دعيني.. من حيث سأكون.. أراكِ تبتسمين.. فأشعر أن شيئًا من قلبي لم يذهب هباءً."
سقطت دموع سالي في صمت، وهمست بصوت مرتجف:
"كيف أفعل ذلك؟ أنا لا أفهم.."
شدّت أنيسة على يدها برفق، وقالت بنبرة هادئة مليئة بالحنان:
"كان هناك حكمة من الله حتى تتقاطع طرقنا، وكما أخبرتكِ من قبل.. لسنا متطابقتين، في الطباع، في ردود الأفعال، وربما في نظرتنا للأشياء."
توقفت لحظة، وكأنها تبحث عن المفردة الأنسب، ثم تمتمت:
"لكن ربما يكون هناك شيءٌ خفي يجمعنا... شيءٌ أعمق من التشابه".
أقرت المرأة بنبرة دافئة مشوبة بالشجن:
"الحب."
ثم تابعت، وهي ترمقها بنظرة جانبية:
"هناك شخص... ربما يجمعنا حبّه."
ساد صمت خفيف، قبل أن تسألها بنظرة متفحصة:
"هل أحببتِه، يا سالي؟"
ثم ألحت تسألها بصوت منخفض، وكأنها تحتاج سماع الحقيقة كاملة:
"أجيبي بصِدق.. هل تحبينه؟"
لم تستطع سالي أن تهرب من السؤال، ولا من مشاعرها التي اجتاحت قلبها دفعة واحدة. تمتمت بصوت مرتجف، تكاد تخجل من الاعتراف:
"نعم.. أنا أحبه."
تنهدت أنيسة بارتياح، وارتسمت على وجهها ابتسامة جميلة رغم التعب، وكأنها حصلت أخيرًا على الاعتراف الذي كانت تنتظره منذ زمن من هذه الشابة الصامتة:
"هل تعلمين؟ كنت متأكدة من شعوري، رأيت ذلك في كل لفتة، كل نظرة، كل تصرف صغير صدر منك. أنتِ تحبينه، بصدق."
قالتها برقة، ثم أضافت بنبرة مشبعة بالعطف:
"سأترك لكما الباقي، وأنا مرتاحة."
همست سالي، بعينين غارقتين في التساؤل:
"ولكن... ماذا أفعل؟"
"لستِ مطالبة بشيء يا ابنتي..." قالتها أنيسة بصوت ناعم، وهي تضم يد سالي بين كفيها الضعيفتين.
"فالحب لا يُفرض، ولا يُطلب... هو فقط يعيش، أو يرحل."
نظرت إليها بعينين تنبضان بحكمة الألم، وأكملت:
"دعي كل شيء للقدر. إن شاء الله أن يجمع بينكما، فسيفعل، رغم المسافات، رغم التعقيدات... كما فرّق بيني وبين كمال، رغم أننا أحببنا بعضنا بصدق. لم يكن لنا نصيب، فرقنا القدر، رغم الحب."
ثم تنهدت بعمق، وهمست:
"افعلي ما يمليه عليكِ قلبك. إن أردتِ البقاء... ابقي. وإن وجدتِ في الرحيل نجاتك... فارحلي."
تنهدت أنيسة بعمق، وكأنها تُخرج ما تبقى من روحها مع الهواء، قبل أن تهمس بصوت واهن:
"أخيرًا... أريد أن أشكرك، من قلبي يا سالي. على كل لحظة كنتِ فيها إلى جانبي، إلى جانب أطفالي... جميعنا أحببناكِ، يكفيني أن أرى الطمأنينة في عيونهم حين تكونين بقربهم. كنتِ معهم، تلعبين، تستمعين، تشاركينهم أحلامهم الصغيرة وهواياتهم البسيطة... أشياء لم أعد قادرة على فعلها، ربما بسبب العمر أو التعب."
توقفت لحظة، تنظر في وجه سالي بنظرة امتنان عميقة، ثم أكملت:
"وجود شابة مثلك في حياتهم... منحني شعورًا بالسكينة. رجاءً... حتى إن رحلتِ عنهم في يوم من الأيام، لا تنقطعي عنهم. تواصلي، واسألي، لا تغيبي عنهم."
أجابت سالي، بصوت يحمل ما يشبه القسم:
"لا تقلقي عليهم... سأكون هناك دومًا، في لحظاتهم الصعبة، في فرحهم وحزنهم، سأفعل ما بوسعي لأبقى قريبة منهم."
احتضنت سالي الجسد الهزيل، الضئيل، وكأنها تحاول تثبيته في الحياة أكثر. شعرت ببرودة الجسد تلسع قلبها، لكنها ضمّته بقوة، وكأنها توثق وعدًا لا يمكن أن يُنقض.
همست أنيسة، بالكاد تُسمع:
"لا تنسيني يا ابنتي.."
ردّت سالي، والدموع تغمر صوتها:
"لن أفعل...أبداً."
"أخبري أطفالي ألا ينسوني. ذكّريهم بي، في كل لحظة، كلما سنحت لك الفرصة... حتى ماريا، احكي لها عني."
كانت كلماتها أشبه بوصية أخيرة، كانت أنيسة تخاف من النسيان، أرادت أن تظل حاضرة في قلوبهم، لا بصورة على جدار، بل كحكاية تُروى، ودفء يُستعاد في لحظات الوحدة، ونورٍ صغيرٍ يهتدي به أحدهم حين يشتدّ الظلام.
همست سالي بصدق:
"أعدك".
كانت تلك المرأة التي دخلت حياتها في شهور قليلة، بمثابة كتاب حياة فتحته فجأة، وعلّمها من الدروس ما لم يكن ليُعلّم في سنين. ستظل في قلب سالي... إلى الأبد.
***
في تلك الليلة، دخلت أنيسة في غيبوبة عميقة بعد معاناة طويلة مع أنفاسها، وكأن جسدها يعلن استسلامه أخيرًا. هرع الفريق الطبي إلى غرفتها، سارعوا بالإجراءات، وأُغلقت الأبواب بصرامة، بينما تم منع الزيارة نهائيًا. لم يعد أحد مسموحًا له بالبقاء بقربها.
وجاء حسن برفقة أخته فرح، كانت ملامحهما متجمدة من الخوف، وعيناهما مليئتين برجاء أخير لا يريد أن يصدّق الحقيقة. أصرّا على البقاء، لم يستطيعا أن يحملا أنفسهما على ترك أمهم وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة وحدها. كيف لهما أن يغادرا المستشفى، وقد كانت تلك المرأة هي اليد التي انتشلتهما من ظلمة الميتم، وهي القلب الذي ضمّهما أول مرة وأحبّهما كما لم يفعل أحد من قبل؟
رغم تعليمات الطبيب المشددة، ظل الجميع في الخارج، يبيتون ليلتهم في السيارة تحت رحمة البرد القارس. التفّوا في البطاطين، التصقوا بالمقاعد، لكن لا شيء كان يدفئ قلوبهم المذعورة. مرت الليلة ثقيلة، يملؤها القلق، ولم تستفق فيها أنيسة.
ثم جاءت الليلة الثالثة... ليلة ممطرة، باردة. ومع صوت المطر الذي بدأ يهطل بغزارة، وكأنه السماء قد أذنت أخيرًا لنفسها بالبكاء، فارقت أنيسة فؤاد أنور أصلان الحياة بهدوء شديد. رحلت دون ندم، مضت لتلتقي بأحبّتها: أمها، أبيها، جديها، وحبيب عمرها كمال. كان قلبها قد امتلأ بما يكفي من الحب والاحتواء، وأفرغ ما فيه من ألم، فآن له أن يستريح. خلّفت وراءها جرحًا غائرًا في قلوب من أحبوها وظلوا بجوارها حتى نفسها الأخير... أخوها أسعد، وخالد، وأبناؤها الذين لم يعرفوا في الدنيا أمًا سواها.
رحلت أنيسة عن منزلها الكبير إلا أن روحها ظلت معلّقة في جدرانه، تسكن الزوايا، وتهمس في آذان قاطنيه: "لا تنسوني."
نهاية الفصل الثالث والأربعون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء..
شكراً على صبركم
كاتبتكم ءَالَآء
سؤال الفصل: توقاعتكم للأحداث الجاية؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق