الاثنين، 16 يونيو 2025

رواية المنزل: الفصل الثامن والأربعون - ءَالَآء طارق

 

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الثامن والأربعون

فضلاً، متنسوش الvote.

المزيكا انهاردة حطتها كتير بس بحبها جداً لعمر خيرت من مسلسل وجه القمر.

متنسوش تتابعوني على الانستا واليوتيوب والتيكتوك.

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

YouTube: alaatareks

***

أسندت سالي رأسها على زجاج نافذة السيارة، والبرد الخفيف المنبعث من السطح الزجاجي أيقظ شيئًا خامدًا بداخلها. تأملت الطريق الممتد أمامها، السيارات تمر بسرعة، وكل شيء في الخارج يتحرك، بينما هي في الداخل ساكنة، كأنها مراقب لحياة لم تعد تخصّها.

كانت في طريقها إلى المنزل.. ذلك المكان الذي عاشت فيه الشهور الماضية، شهور حملت أحداثًا غيرت مجرى حياتها تمامًا. وجوه، قرارات، مشاعر بشتى انواعها.. الآن تعود إليه، لكن للمرة الأخيرة. هذه ليست زيارة، بل وداع.

حدّقت في الأفق، عيناها زائغتان كأنها تحاول أن ترى ما وراء الطريق، ما وراء النهاية. كانت تعلم أنها يجب أن تذهب، لم يعد لديها خيار آخر. هناك أمور يجب أن تُسوى، أبواب يجب أن تُغلق بهدوء، وبكرامة.

رن هاتفها فجأة، وظهر تنبيه برسالة جديدة. رمشت بعينيها، ثم رفعت الهاتف ببطء. قرأت الاسم.. اسمه. القلب خفق للحظة، لكنها تماسكت ولم تفتح الرسالة. نظرت فقط إلى الاسم، ثم أغلقت الشاشة.

لا شيء في هذا العالم قد يمنعها الآن عن فعل ما هو صحيح.. ما ينقذ كرامتها، ويحفظ ما تبقى من اعتزازها بنفسها. لقد أدركت أخيرًا أن بعض الرحيل لا يكون هروبًا، بل نجاة.

مرت الدقائق بهدوء شديد، لكن العاصفة في قلبها كانت تزداد حدة كلما اقتربت من وجهتها. وأخيرًا، وصلت.

وقفت سالي أمام المنزل، تمامًا كما وقفت في أول يوم دخلته، نفس الزاوية، نفس النظرة المترددة، وكأن الزمن عاد للوراء. رفعت عينيها نحو اللافتة المعلّقة بجانب الباب، قرأت الأسماء الصغيرة المكتوبة بخط طفولي مبهج، فابتسمت ابتسامة باهتة، تحمل مزيجًا من الحنين والخوف.

تنهدت، ثم تقدمت ببطء، ولمحها عم حمدي، ففتح الباب على الفور، مرحبًا بها بصوته الجهوري. كانت الشمس توشك على الغروب، وزينة الحديقة أضيئت استعدادًا لعيد ميلاد الأطفال.

تسارعت دقات قلب سالي وهي تخطو نحو الداخل، إلى أن لمحها بعض الأطفال فركضوا نحوها واحتضنوها بحب، ومن بينهم كانت لارا، نجمة الليلة، وتوأمها فؤاد. ارتدى الاثنان أجمل ما لديهما، لارا تتألق بفستانها الأصفركفراشة صغيرة، يزين شعرها طوق من الزهور، ووجهها يضيء بالحماس، وفؤاد يبدو أنيقًا بقميصه الأصفر وبنطاله الجينز الأزرق، يبتسم لها بعينيه الواسعتين كما اعتاد.

كانوا لطفاء وعفويين إلى حدٍ أدفأ قلب سالي.. وآلمه في الوقت نفسه. دفئهم اخترق جليد صدرها، وحرّك شيئًا موجعًا في أعماقها. كانت تلك اللحظة، بكل بساطتها، كافية لتُشعل بها نارًا من الحنين.. والحزن.

على الرغم من برودة المساء التي تسللت إلى عظامها، وجدت سالي دفئًا حقيقيًا في أحضان الأطفال. كان عناقهم صادقًا، دافئًا. انحنت نحو نور، نجمة الحفلة الثالثة، وطَبعت قبلة على جبينها وهي تهمس:

"عيد ميلاد سعيد، يا نور".

ابتسمت نور بخجل، واخفضت عينيها المطفئتين بابتسامة جميلة خجولة.

وبينما كانت سالي تراقبهم يركضون بين الأضواء والزينة، شعرت بباب المنزل يُفتح خلفها، فالتفتت لترى حسن يخرج بخطوات سريعة، عيناه تتفحصان الحديقة كمن يبحث عن شيء، حتى استقرتا عليها. ملامحه التي اعتادت عليها رزينة وهادئة، بدا عليها انفعال نادر. اقترب منها بخطوات متلهفة، وصوته خرج سريعًا، فيه عتاب مغطى بالقلق:

"لماذا لم تجيبي على رسائل أبيه؟ كان من المفترض أن نأتي نحن لنقلكِ من المحطة."

نظرت إليه بابتسامة هادئة، ومسحت على كتفه بلطف، كأنها تطفئ انزعاجه، ثم قالت:

"أعتذر يا حسن، لم أرغب في إزعاجكم."

لم تنتظر رده، بل التفتت مباشرة إلى فرح التي كانت تقترب منها، وغيّرت مجرى الحديث محاولة كسر التوتر:

"كيف كانت أحوالكم في الفترة الماضية؟"

قبل أن تجيب فرح، سبقتها ليان بحماسة طفولية وصوت صادق:

"افتقدناكِ كثيرًا!"

ارتجف شيء داخل سالي، غصة خفيفة خنقت حلقها، لكنّها ابتلعتها كما اعتادت، ثم أجابت بصوت متهدّج قليلاً، لكنه يحمل صدقًا دافئًا:

"وأنا أيضًا.. افتقدكم كثيرًا."

منذ أول يوم وضعت قدمها في هذا المكان، أدركت أن الأطفال لا يعرفون المجاملة أو الزيف. لا يكذبون. إذا أحبوا قالوا، وإن كرهوا عبّروا، وإذا اشتاقوا، صرخوا بها بأعلى صوتهم، تمامًا كما فعلت ليان قبل قليل. في تلك اللحظة، تأكدت سالي أن العودة كانت ضرورية.. حتى لو كانت للمرة الأخيرة. على الأقل لتودعهم الوداع الأخير.

مرّت اللحظات حتى رأته أخيرًا. خرج من باب المنزل بهدوءٍ متأنٍ، ولكن ملامحه لم تخفِ ارتباكًا داخليًّا، كانت عينيه تائهتين تبحثان. وحين وقعت عيناه عليها، ثبت نظره كمن يحاول أن يسبر أعماق قلبها بنظرة واحدة. لم تحتمل ذلك، فخفضت عينيها نحو الأرض، كأنها تحتمي بصمتها من كشف ما يضطرب بداخلها. قلبها كان يخفق بقوة، وكل ما فيه يهمس باسمه، لكنها، في اللحظة ذاتها، لم تنسَ تلك اللحظة أمام والدها التي انكسر فيها شيء بداخلها. كانت مشاعرها كخليطٍ متنافر، حبٌ يرتجف، وكرامةٌ تنتفض، وكلاهما يحاول أن يطغى على الآخر.

اقترب منها بخطوات بدت في ظاهرها واثقة، هادئة، لكن في طيّاتها شوقًا دفينًا لم يستطع إخفاءه. هو لم يكن يركض، ولكن كل نبضة في جسده كانت تهرول إليها، إلى سالي. هو لم يتكلم بعد، لكن وجوده وحده قال كل شيء.

فوق هذا المشهد المسائي المضيء بأضواء الزينة وصوت ضحكات الأطفال، وقف هو أمامها، وهي أمامه، يتبادلان الصمت. ويخفيان كل ما لا يُقال.

أخيرًا، كسر الصمت بصوته الرخيم، الذي يحمل شيئًا من التردد وشجنًا خفيًا:

"كيف حالك؟"

كان سؤاله بسيطًا في لفظه، لكن خلفه كانت تقف آلاف الأسئلة المنتظرة، تلك التي عجز عن نطقها، أو خشي أن يسمع إجاباتها. أجابت سالي بصوت خافت، متجنبة النظر إليه:

"بخير، الحمد لله."

كلماتها جاءت جافة، موجزة، وكأنها أغلقت الباب قبل أن يُفتح. لم تكن تحمل دفء اللقاء، ولا شوق الغياب. رمقها بدهشة لم يستطع إخفاءها، وقال متسائلًا بصوت خفيض:

"كنت أحاول التواصل معك.. لكنك لم تردّيأردت أن آتي لأقلك من المحطة."

ردّت وهي تبتسم ابتسامة باهتة لا تصل لعينيها:

"آه.. أعتذر، لم أرغب في إزعاجك."

مرت لحظة سكون، لم يكسرها سوى نظراتها المتنقلة في المكان. أراحت عينيها على محمود وهو يحمل كعكة عيد الميلاد الكبيرة بحذر، كأنها كنز الثمين. عندها، تنهدت سالي، وقالت بنبرة حاولت أن تبدو مرحة، وابتسامة تشق طريقها وسط الغبار الكثيف في قلبها:

"في النهاية أستطيع الوصول بمفردي."

"نعـ.. نعم، مرحبًا بك."

قالها وهو يبحث في وجهها عن شيءٍ ضائع.

كانت إجاباتها باردة، حادة في اختصارها، تنبض بنبرة لا تشبهها. هو يعرف سالي يعرف ابتسامتها، دفئها، طريقتها المحبة التي أجبرته ليقع في غرامها. لكن تلك المرأة التي تقف أمامه الآن.. مختلفة. كأن شيئًا قد انكسر فيها.

ابتسامتها.. أشبه بخطّ مرسوم على وجهٍ خلف جدار إسمنتي. تأملها بصمت، يحاول أن يقرأ ما بين نظراتها وحركاتها، يسأل نفسه: هل حدث أمر ما؟ هل ضايقها أحد؟ شيئًا ما قد تغيّر فيها هو لا يفهمه. أسئلة كثيرة كانت تشتعل في رأسه، وكان قلبه يتأرجح بين القلق والعتاب. لكنّه تراجع، الوقت ليس مناسبًا الآن. أمامهما احتفال، وصغار متحمسين.

في تلك اللحظة، حمدت سالي الله في سرّها لأن أحداً لم يلمح أنها جاءت دون حقائب. لم تكن بحاجة لشيءٍ سوى حقيبةٍ صغيرة، تحمل فيها هدايا الأطفال، فقد كان قرارها حاسمًا.. لا تراجع فيه. قرار اتخذته من قلبٍ أُنهك بالتردد، ومن عقلٍ لم يعد يحتمل لعبة الاحتمالات.

لم تُرد أن تترك بابًا مواربًا، ولا أن تحمل شيئًا قد يوحي بأنها تنوي البقاء. جاءت لتُتم ما بدأت، لتغلق فصلًا بكرامة، وتمضي.. حتى وإن كان القلب يتمزق بصمت خلف جدارٍ من العزيمة.

قالت بصوت هادئ، لكنه يحمل في نبرته رجفة دفينة:

"مستر خالد، أودّ التحدث معك قليلاً بعد عيد الميلاد.. أتمنى أن تمنحني القليل من وقتك."

نظر إليها للحظة، وكأنّه يحاول قراءة ما تخبّئه خلف هذا الطلب المفاجئ. ثم مال برأسه قليلًا، وارتسمت على وجهه ملامح تفهّم حذِر:

"نعم.. بكل تأكيد."

كانت كلماته بسيطة، لكن عينيه ظلّتا تراقبانها.

لمحها محمود من بعيد، فعدل من وضع الكعكة الكبيرة التي كان يحملها بحذر بين يديه، كأنها قطعة أثرية لا تحتمل أي اهتزاز، ثم تقدم منها بخطوات واثقة وابتسامة مهذبة رسمها على وجهه:

"أهلاً بكِ يا دكتورة."

أجابت سالي وهي تلوّح له بلطف، وفي صوتها نغمة خفيفة من الود، محاولة أن تتجاهل التوتر العالق خلفها:

"مستر محمود، كيف حالك؟ أرى أنهم كلفوك بمهمة شاقة اليوم."

ضحك محمود بخفة وهو يلقي نظرة جانبية على خالد كمن يطلب الشهادة على معاناته، وقال بنبرة مازحة تحمل شيئًا من العتاب:

"خالد دائماً يكلّفني بالمهام الخطيرة. هل تتخيلين ما الذي ستفعله بي لارا لو تضررت كعكة عيد ميلادها؟ لن ننام جميعاً الليلة"

انفلتت من سالي ضحكة رقيقة، دافئة على بساطتها، بدّدت شيئًا من الجمود الذي سكن وجهها منذ لحظة وصولها. بدا وكأن الحديث قد انزلق إلى مسار طريف، لينقذها من تلك النظرات التي لم تكن تغيب عنها، نظرات خالد التي كانت تلاحقها بصمتٍ قلق.

ألقى محمود نظرة سريعة على خالد وسالي، تلك النظرة التي حملت بين طياتها فضول. وقرأ توتراً خفياً، شيئاً غير مفسر بعد، كأن بينهما حديثًا لم يكتمل. لكنه، وكعادته، لم يطل التحديق؛ فقد بدّلها بسرعة إلى ابتسامة دافئة مرحّبة، كمن يتعمد كسر الحرج بلطف.

قال وهو يشير برأسه نحو الصغار:

"الجميع ينتظر في الحديقة، ولارا تكاد تطير من الفرح."

ثم نظر إلى خالد بطرفة عين خفيفة وأضاف ممازحًا:

"وأنا سأذهب لأطمئن على الأمانة في عنقي. قبل أن يخربها الصغار"

واحتفل الجميع بعيد ميلاد الصغار، وامتلأت الحديقة بأصوات الضحكات والموسيقى والزينة المتلألئة تحت أضواء المساء. كانت سالي هناك، بينهم، تبتسم من أعماقها، وكأنها نسيت كل ما يثقل قلبها. حين قدّمت الهدايا للأطفال، كانت نظراتها تنطق بمحبة صادقة، وكل كلمة خرجت منها حملت دفئًا لا يمكن تمثيله. كانت لحظة خالصة، لا يشوبها قلق، ولا يقترب منها وجع.

جلست معهم، عزفت على العود، وغنّت. كانت الموسيقى تنساب بين الأشجار، وكانت حاضرة بكاملها بين الأولاد. ابتسموا، فابتسمت، ضحكوا.. وضحكت. كانت تتمنى لو تجمّدت هذه اللحظة، لو استطاعت أن تمسك بالزمن بيديها كي يقف، ولا يتقدّم بعد الآن. كانت تتمنى لو أن الحياة بأكملها يمكن أن تُختزل في تلك الساعة، حيث لا ماضٍ يلاحقها، ولا مستقبل يربكها، بل فرح بسيط، دافئ، ونقي. وفي زحمة الألوان والشموع والبالونات، بدا أن العالم كله قد ضاق حتى صار حديقةً صغيرة، فيها قلوب تحبها بصدق، وطفولة تمنحها ما عجز عنه الكبار.

***


وضعت سالي الورقة البيضاء أمامه على الطاولة، بحركة هادئة لكن حاسمة، ثم تراجعت في جلستها قليلًا وكأنها تمنح للورقة المجال لتتحدث نيابة عنها.

رفع خالد نظره إليها باستغراب، حاجباه مقوسان، وصوته متردد:

"ما هذا؟"

أجابت دون أن ترفع عينيها عن وجهه، بثباتٍ لا يُشبه اضطرابها الداخلي:

"استقالتي.. أرجو منك أن تقبلها."

اتسعت عيناه لحظة، ومال إلى الورقة مجددًا وكأنه يحاول التأكد مما سمعه:

"ماذا تقصدين؟"

لم تُجبه. نظرت إليه بثبات، صامتة. لم يرفّ لها جفن، ولم تتحرك شفتاها، فكرر سؤاله هذه المرة بنبرة أشد، ممزوجة بدهشة وقلق مكبوت:

"ماذا تقصدين بهذه الورقة؟ لماذا تستقيلين؟"

همست بصوت خافت لكنه واضح، كأنها تخشى أن تنهار إن نطقت أكثر:

"لن أستمر في العمل هنا.. ولهذا، أقدم لك هذه الورقة."

سكنت اللحظة ، وبقي يحدّق بها، عيناه تبحثان في ملامحها عن تبرير، عن خيط يوصل بين هذه الاستقالة المفاجئة وتصرّفها الغريب منذ وصولها. ثم سألها بصوت بارد، أقرب إلى الجمود منه إلى الغضب:

"ما هي أسبابك؟"

لم تُجب. ظلت ساكنة، وكأن الكلام لو خرج منها سيفجر ما بالكاد تحبسه في صدرها. يدها كانت تقبض بشدة على طرف ثوبها تحت الطاولة، حتى بياض مفاصلها صار بادياً. في داخلها نار تتأجج، تتسع وتنتفخ كبركان على وشك أن يثور، لكنها قاومت. بلعت مرارة الصمت بصعوبة، واكتفت بأن ترفع عينيها إليه، تنظر في عينيه طويلاً، فكرر هو سؤاله، بنبرة ضيّقها نفاد الصبر، وصوته يرتفع قليلًا رغم محاولته السيطرة عليه:

"ما هي أسبابك؟"

لكنها لم تُجبه. فقط سمرت عينيها عليه. كان بإمكانه أن يرى كيف ترتجف أناملها رغم سكونها الظاهري. مرت ثوانٍ ثقيلة، كأنها دهر. ثم رفعت عينيها نحوه فجأة، نظرتها كانت حادة، حاسمة، ونطقت بسؤال باغته كصفعة:

"لماذا؟ تواصلت مع والدي دون أن تخبرني؟"

تجمّد في مكانه. حدّق بها كأنها تحولت فجأة إلى شخص لا يعرفه، عيناه اتسعتا، ولسانه عجز عن الرد، مالت سالي برأسها ببطء، في تحدٍ صامت، كأنها تُمهله الفرصة للإجابة. فرفع رأسه قليلًا ورد بهدوء متماسك، وكأن ما فعله لا يحتاج تفسيرًا:

"حدث.. وأن تعرفت عليه عندما جاء هنا ليزورك، في عيد ميلاد ماريا."

أومأت برأسها ببطء، كأنها تستوعب الجملة، لكنها سرعان ما رفعت حاجبيها بدهشة ساخرة، وقالت بحدة:

"تعرفت عليه.. وماذا بعد؟ أعطيته المال دون أن أعرف؟ من ورائي تتعرّفان وتخططان؟ كأنني لا أُحسب."

كان يجلس بثبات، كتفاه مشدودتان، ونظرته مباشرة لا تهرب. بدا وكأنه يرى أن ما فعله أمر بديهي، لا يستحق كل هذا الغضب. ردّ بهدوء، بصوت لا يخلو من ثقة:

"كنت أحاول أن أساعد."

لكن صوتها قاطعه، يحمل طبقة من الألم والاتهام:

"من أعطاك الحق لتأخذ دور الرجل الصالح في حياتي؟ لماذا أعطيته المال؟ وفي المقابل تطلب منه أن يعطيك ابنته؟!"

ارتبك للحظة، لكن جسده بقي كما هو، لا يتحرك. عيناه فقط تراجعتا أمام اتهامها. فتح فمه ليعترض، يتكلم، يوضح:

"انتظري.."

لكنها قاطعته، وقد تصاعد الدم إلى وجهها، وخطوط صدغها تخفق بنبض سريع، تشي بانفجار وشيك:

"ماذا تعتقدني الآن؟ هل تتصدق عليّ؟ وعلى والدي؟ أهكذا تراني دائماً أحتاج إلى المال كما فعلت من قبل؟!"

ظل في مكانه، لم يجرؤ على النهوض، كأن الكرسي أصبح قيدًا ثقيلًا. همس أخيرًا، كأن صوته لا يجد الطريق للخروج:

"لا.. ليس كذلك.. لكنه كان محتاجًا، وأنا كنت أظن أنني.."

توقف. لم تكتمل الجملة. صوته خفت، كأنه يدرك أن كل ما يقوله يتهاوى قبل أن يُفهم. حاول من جديد. خطوة يائسة لاستعادة زمام الحديث، وهمس:

"اهدئي.. واسمعيني.."

لكن صوتها ارتفع، قاطعته دون تردد، حاسمة كالسيف:

"لن اهدأ.. اسمعني أنت الآن ولا تقاطعني!"

توقفت لحظة، وكأنها تكبح انفعالًا أشد، ثم أكملت، والدمعة ترتجف على أطراف صوتها دون أن تسقط:

"أتيت إلى هنا كطبيبة، أؤدي دوري في هذا المنزل باحترام. كنت أتقاضى أجري كأي موظفة، وقلبي كان مليئًا بالمحبة للست أنيسة وللأطفال. لم أبخل عليهم بعاطفتي، ولم أقصّر في عملي. لكن كرامتي.. كرامتي لا يملك أحد أن يمسّها!"

ثم رفعت يدها فجأة، وضربت بكفّها على صدرها بقوة شعورية، وأكملت بصوتٍ متهدج لكنه قوي:

"أبي جاء ليراني، وإذا بك تتدخل، تعطيه المال كأنه شحّاذ! كيف تظن أني سأراك بعدها؟ أخبرني أنت.. كيف ستراني؟ كيف تفعل ذلك على الأقل دون أن تخبرني؟ تعديت على حياتي الشخصية وحدودي! دون أن تصارحني!"

أراد أن يرد، تردّد لبرهة، ثم نطق بصوت خافت بالكاد يُسمع:

"أنا فقط.. كنت أساعده، كان في ورطة.."

نظرت إليه طويلاً، نظرة جريحة تحمل ألف سؤال، قبل أن ترد بكلمات منخفضة، متكسّرة، لكنها حادة كالسكاكين:

"لكنّك.. لم تخبرني."

ثم أضافت، وقد بدأ صوتها يرتجف قليلاً:

"أنت لا تعلم أي شيء عني.. لا تعلم حتى من هو أبي، لا تعلم كيف هي علاقتي به."

سكتت للحظة، ثم همست مرة أخرى، وكأنها تكلّم نفسها:

"لا تعلم أي شيء."

كان الصمت بعدها ثقيلاً كالرصاص. نهضت سالي بعدها عن مقعدها ببطء، بحركة هادئة لكن حاسمة، وحين تحدثت، جاء صوتها واضحًا، ثابتًا، كأنه وُلد من رماد قلب محترق:

"هذه استقالتي. هذه آخر مرة سأدخل فيها هذا المنزل. وبالنسبة للأطفال، أخبرهم أنني كنت مضطرة للرحيل بسبب ظروف عائلية. وبالنسبة للأموال التي أعطيتها لأبي، فهذه مسألة بينكما أنتما الإثنين، لا شأن لي بها..

ولكن— أنا لن أسامحكم أبداً".

توقفت لحظة، ثم أدارت ظهرها، دون أن تمنحه حتى نظرة وداع. وخطت مبتعدة بخطوات ثابتة، تحمل كل ما تبقّى من كبريائها بين كتفيها. كانت تحبس أنفاسها، حتى لا تتساقط دموعها. خرجت من الغرفة، ثم إلى الباب المؤدي إلى الحديقة.

ظل خالد جالسًا، وجسده متصلب كأن شيئًا ثقيلًا ضغط على صدره. مرّت ثانيتان فقط، ثم نهض بسرعة، ركض خلفها بخطوات قلقة. كانت سالي قد وصلت إلى قرب الدفيئة التي تحبها الست أنيسة، تسير على الحصى بصمت، في طريقها إلى بوابة المنزل الخارجية. قال بصوت بالكاد وصل إليها، مهزوزًا بين الخوف والرجاء صاح بصوتٍ مرتجف:

"انتظري!"

لكنها لم تلتفت، أكملت سيرها بعناد صامت، فأسرع إليها وأمسك بمعصمها ليوقفها، بلطف دون عنف:

"سالي.. انتظري وأسمعيني، أنتِ تفهمين الأمر بصورة خاطئة، أنا فقط أعطيته المال على شرط سداده، لم يكن تفضّلاً ولا منّة، حتى أنني أخذت عليه ورقة بتعهّد السداد..  أما مسألة الزواج، فطلبته من والدك ليكون الأمر رسميًا.. ومحترمًا. أردت فقط وضع النقاط على الحروف"

كلمة أخذ عليه ورقة علقت في رأسها كطعنة، وتحوّلت إلى فكرة جارحة، تنبض بالقهر والمرارة التي خنقت حلقها. قالت، بصوت يائس مخنوق:

"أرجوك كفّى.. لا أريد أن أعرف تفاصيل اتفاقكما. أنت تعمّق من إهانتي في كل كلمة."

"لا، لا.. أنا لا أجرؤ على إهانتك أبداً!"

اقترب منها خطوة، وعيناه تكاد تبكيان:

"مشاعري صادقة، أقسم لك. أنا فقط.. لا أعرف ماذا كان عليّ أن أفعل. أردت أن أتقرب فقط منك، ومن عائلتك، خفت أن أنك تبتعدي، وخفت أن أخسرك."

هزّت رأسها ببطء، بعينين تلمعان من الدموع، ثم نظرت إليه أخيرًا، نظرة محمّلة بكل ما لم يُقال، ثم همست:

"هذه.. أسوأ طريقة للتقرب رأيتها في حياتي."

سحبت يدها من قبضته برفق، وسارت من جديد نحو البوابة. والريح تهب ببرودة ليلية ثقيلة. وفجأة، سمعته يقول بصوت عالٍ، ممتلئ بالضعف والرغبة والانكسار:

"أنا أحبك!"

توقفت تلقائيًا. قدماها توقفتا. لكن عقلها ظل يركض في كل الاتجاهات. شعرت بقلبها ينبض بشوق، وألم، وخيبة أمل. اعترافه الآن؟ وبعد كل شيء؟

لم تلتفت. بقيت على حالها، في مواجهة البوابة.

"أنا أحبك، أحتاج لوجودك في حياتي.. لذلك فعلت ما فعلت."

كان صوته يحمل صدقًا عاريًا، غير مزيّن، لكنه أيضًا مرتبك، كمن يمشي فوق جسر من زجاج مهدد بالكسر.

"لا أفهم تمامًا ما يدور في حياتك، وربما.. ربما تصرّفت بغباء. لكن مشاعري ليست كاذبة، صدقيني. لا ترحلي هكذا، دون أن نتحدث، دون أن أفهمك. لقد انتظرتك طويلاً، فهل تُعاقبينني الآن برحيلٍ لا تفسير له؟"

ظلّت صامتة. ثم قالت، بصوت خافت لكنه واضح، كأنها تلقي بجمرٍ فوق الماء:

"هل تعرف كيف فهم والدي الأمر؟"

ثم رفعت وجهها إلى السماء بيأس، عيناها تلمعان بالدمع، والريح تداعب خصلات شعرها في خفّة باردة، تمتمت بصوت خافت، مرير، بالكاد يسمع:

"صدقني، أنت لن تفهم."

كانت كلماتها أشبه بنداء ضائع.

وساد صمت كثيف. وحده خرير ماء النافورة من بعيد، وصوت ورق الشجر المرتعش، كانا يحاولان ملء الفراغ. في تلك اللحظة، عادت الستارة السوداء لتنسدل من جديد على عيني سالي، تلك الستارة التي كانت ترى الحياة من خلفها رمادية، كئيبة، بلا طعم. الستارة التي أزاحتها الشهور الماضية قليلاً، حين كانت تظن أن شيئًا في هذا العالم يستحق أن تُحب بسببه.. ها هي تعود لتغلقها بإحكام. شعرت كأنها تعود للسجن القديم، حيث لا شيء فيها يُنصف. تكره الحياة — نعم، تكرهها بكل جوارحها، تمقتها. وتكره والدها، وكل ما يمثله. وتكره نفسها، تلك الفتاة التي ظنت يومًا أنها تستحق شيئًا، أن لها مكانًا في عالم يشبه أحلامها. لم تحقّق شيئًا. لا المهنة التي تعمل بها، ولا الحياة التي رسمتها في خيالها مدت لها يدًا. كانت فقط تمشي في حياة لم تطلبها، لم تصنعها، ولا حتى تعرف كيف تعيشها. حتى الرجل الذي أحبته.. لم تعد تجرؤ الآن على قبول مشاعره.

كانت كلماته لا تزال معلّقة في الهواء: "أنا أحبك"، لكنها لم تعد تطمئنها. لم تعد كافية. لم تعد تملك ذلك السحر القادر على انتشالها من رماد خيباتها. الحب، حين يأتي مشوّهًا، محمولًا على ظهر أسرار لم تكن تعلم بها، لا يُشبه الحب الذي انتظرته.

الحياة لا تسير وفق خططها. تخذلها في كل مرة تظن أنها أخيرًا ستنصفها. تمشي خطوة واحدة بثقة، فتسحب الأرض من تحتها. كلما حاولت أن تبني لنفسها شيئًا — علاقة، مستقبلًا، ذات جديدة — جاء ما يهدمه من حيث لا تدري.

وقفت أمام البوابة، يدها تمسح دمعة قبل أن تسقط. لم تلتفت. لم تمنحه حتى تلك النظرة الأخيرة. تركت كل شيء خلفها: المنزل، الأطفال، الذكريات، الأحلام الصغيرة التي بنتها في صمت، وحتى الحب الذي اختبأ طويلاً في قلبها.

سارت خارجة، كأنها تنفصل عن جزء من نفسها، كأنها كانت تمشي نحو فراغ جديد. فراغ لا نهاية له.

***


في تلك الليلة، رحلت الدكتورة سالي نهائيًّا عن المنزل. كان الأولاد لا يزالون يرتدون ملابس الحفلة، وجوههم الصغيرة يكسوها الذهول والحيرة. وقفوا أمام خالد كأنهم يبحثون في عينيه عن إجابة واحدة فقط: "أين ذهبت؟ لماذا لم تدخل غرفتها كعادتها؟"

لكن خالد نفسه لم يكن يملك جوابًا. وقف هناك، متجمدًا، يرمق السلالم المؤدية إلى الطابق العلوي، لم يكن يتصور أنه في لحظة واحدة يمكن أن يسقط كل ما بُني في قلبه بصمتٍ وشغف.

حاول الأطفال الاتصال بها، بعثوا رسائل، وأرسلوا تسجيلات صوتية يطلبون فيها عودتها.. لكنها لم تُجب. ومنذ ذلك اليوم، لم يفهم أحد السرّ.

خالد بدا وكأنه فقد جزءًا من روحه، كان ينهض كل صباح، يؤدي واجباته تجاه الأطفال والعمل بآلية باردة، دون ابتسامة، دون كلمة زائدة. وجهه صار مسكونًا بشيء ثقيل.. كآبة رمادية لا تفارقه. كان المنزل كما لو أن شيئًا آخر بعد أنيسة انكسر فيه، لا يُرى، لكنه محسوس.

وكل مساء، حين يخلد الأولاد إلى النوم، يبقى خالد وحيدًا، يحدّق في الفراغ، يفكر ويتعمّق في تفكيره، يعود إلى كل لحظة وكل كلمة. هل كان مخطئًا؟ هو لم يقصد أبدًا أن يُهينها، لم يخطر بباله أنّ ما فعله قد يُفسَّر على أنه تقليل من شأنها، أو تعدٍّ على كرامتها. كل ما في الأمر.. أنه ظن أنه يساعدها، ولو عاد به الزمن، لفعل ذات الشيء دون تردد.

عاد بذاكرته إلى الوراء..إلى ذلك اليوم، يوم عيد ميلاد ماريا، حين دخل والدها إلى المنزل دون دعوة. وحين علمت بزيارته، لمعت في عينيها نظرة غريبة، لا يمكن أن تُنسى. كانت ملامحها مذهولة، بل أشبه بمن فوجئ بعودة شخص نسيته ودفنته منذ زمن. بهتت نظرتها، واحمرّ وجهها ثم شحب. لم تكن زيارته مرغوبة. تلك الحقيقة شعر بها خالد دون أن يحتاج لتفسير.

عيناه، لم تبارحا باب المنزل. ظل يراقبه، والأطفال يضحكون من حوله، ويغنون. وحين خرج أخيرًا ليلقي نظرة، رأى سالي تودع والدها عند الباب. كانت نظراتها له خاوية، وأسلوبها باردًا خاليًا من أي حنان، كأن الرجل الذي أمامها ليس والدها بل شخصٌ ترفضه.

وعندما التفتت نحو خالد، رآها كما لم يرها من قبل. منكسرة، باهتة، حزينة. ولم تنتظر.. مرّت بجانبه دون كلمة، كأنها تحمل في صدرها ما يثقل كل شيء. أما هو، فبقي واقفًا في مكانه، يُطيل النظر إلى والدها. شيء ما في داخله كان يدفعه للحاق به، لتقديم خطوة نحو قلبها. أراد أن يطلب يدها. لم تكن لحظة مُعدّة، لكنه شعر أن الفرصة الآن، وأن الرجل أمامه، وأن الحب في قلبه لا يحتمل الانتظار.

لكن الحديث لم يكن كما ظن. لم تكن جلسة ودّ، بل شكاوى طويلة، مشكلات مادية، مطالب، ونبرة خفية فيها الكثير من الطمع. وخالد، رغم كل ما أحسّ به، لم يرفض، لم يُظهر ضيقًا.. لأنه والد سالي. ولأن قلبه لم يسمح له أن يرى الرجل في ورطة ولا يمد له يده. لم يكن يعرف أن تلك اليد الممدودة، ستكون سببًا في أن تفلت يده من يدها.. إلى الأبد.

لم يتوقع ردّ فعلها.. ربما كانت الطريقة خاطئة. بل بالتأكيد كانت خاطئة. لكنها قالت: "أنت لا تفهم." وتلك الجملة علقت في صدره كشوكة. ما الذي لا يفهمه؟ ما الشيء العالق بينهما، كالضباب، لا يُرى لكنه يمنع الرؤية؟

أمسك هاتفه، وكتب رسالة قصيرة: "ما الذي لا أفهمه؟" حدّق فيها قليلًا، ثم مسحها. لم يُرسل شيئًا. شعر بشفقةٍ على نفسه، على هذا الرجل الذي كانت خطواته يومًا ثابتة، ثم بات يتخبّط بين رسائل لا تُرسل، وكلمات لا تُقال، بين حبٍ صادق وصمتٍ لا يرحم، على هذه الحياة التي وكأنها تختبر مدى احتماله، مدى هشاشته وهو يحاول أن يبدو قويًا.

كان يتوق إليها، يشتاق لصوتها، لوجودها، لنظرتها المحبة وهي تجلس قرب الأطفال. لكنه لا يريد أن يحطّم ما بقي داخلها.. لا يريد أن يُزيد الكسر كسرًا.

سينتظر. ربما يعالج الانتظار شيئًا من حالهم. ربما يرأف بهم الوقت، ويُهدئ هذه القلوب التي أثقلها الغموض، ويمنحهم لحظة صفاء، لحظة فهم.. لحظة تبدأ من جديد.

***


 مسحت سالي دموعها بأطراف أصابعها المرتجفة، ثم عادت تنظر إلى شاشة هاتفها.. كانت رسالة فرح لا تزال مفتوحة:

"أنتِ لا تتخيلين مدى استيائي يا سالي، لماذا رحلتِ وتركتِنا؟ ما الذي حدث وجعلكِ تختفين فجأة؟ هل ضايقك أبيه؟ هل جرحك بكلمة؟ أخبريني أرجوك، وأنا سأتصرف معه، سأطلب منه أن يأتيك معتذرًا.. ولكن عودي، أرجوك. نحن جميعًا نشتاق إليكِ، أنتِ لا تفهمين مدى الحزن الذي يتملكنا جميعًا."

ارتجف شيء بداخلها، ثم فتحت الرسالة التالية من حسن، بصوته المعروف في رأسها، كما لو كان أمامها:

"سالي، كيف حالك؟ أرجوكِ ردي على مكالماتي.. أريد أن أتحدث معك."

تلتها رسالة قصيرة من رحيم:

"دكتورة، ألن تعودي؟"

ثم أميرة، بصراحتها التي اعتادتها:

"لماذا رحلتِ؟ أنا أحتاج إليكِ."

كانت سالي تمرّ على الكلمات، شعرت بقلبها يوشك أن ينفجر، يضيق بما لا يُقال، وما لا يُحتمل. لكنها بقيت صامتة، تمسك الهاتف بين يديها وقلبٍ يتمزق من الحب.. ومن الفقد.

لقد اشتاقت لهم جميعًا.. أرادت أن ترد على رسائلهم، أن تكتب لهم "أنا أيضًا أفتقدكم"، لكن أصابعها توقفت فوق الشاشة، وكأن الصمت هو الجواب الوحيد الذي يمكنها منحه الآن.

لم ترغب في زرع الآمال داخلهم، كان عليها أن ترحل بهذه الطريقة، ربما كانت قاسية.. مؤلمة.. لكنها ضرورية، قبل أن يكبر التعلّق، قبل أن يشتد الألم أكثر، قبل فوات الأوان.

قالت لنفسها إنهم سينسون، يتكيفون الحياة بروتينها، ويأتي يوم لا يذكر فيها أحد اسم "سالي"، ويحل محلها شخص آخر، طبيب آخر يقوم بدورها.

لكنها.. من الداخل، لم تكن تريد ذلك. كانت تنكر ما تقول لنفسها، قلبها يصيح بالرفض، يتخبّط في كمن يبحث عن طريق للهروب ولا يجده.

كلما عادت بذاكرتها إلى ما حدث، كان شعور اليأس يلفّها كعباءة ثقيلة، والتشتت ينهش عقلها، لم تكن تعاقب خالد.. الأمر لم يكن كذلك. لكن تصرّفه جرحها، أهانها، أحبطها كأنها كُشفت أمام الجميع في لحظة ضعف، وأخجلها أن يعطي أموالاً لذلك الرجل.. والدها. ذلك الرجل..

كم كرّرت الكلمة في رأسها، وكأنها تستنكر الرابط الذي يجمعهما: "والدها". ذاك الذي تخلى عنها، وتركها لألم العالم، الذي غاب حين احتاجته، ثم عاد حين أراد شيئًا. لا، لم يكن يستحق يدًا ممدودة.. لم يكن يستحق شيئًا. فليغرق، كما غرقوا من قبل بسببه. فليتجرّع الخذلان كما جرّعهم إياه. ما شأنهم به؟ كان الكره يغلي في قلبها، يملأها حتى حجب عنها رؤية أي شيء آخر.. حتى خالد.

لم تمنح نفسها الفرصة لتفكر في مشاعره، لأنها تعلم لو فعلت، لكانت التفتت في ذلك اليوم.. لكانت سمعت كلماته، وتركت لجدار الصمت أن ينكسر. لكن والدها لن تمنحه شعور النصر، أو لحظة هناء.. على حسابها. لن تفعل ذلك أبداً

'أنا أحبك.'

'أنا أحتاج إليك بشدة.'

كلماته تكررت في ذهنها، أحسّت بالغصّة تعلو صدرها، تذكّرت نبرة صوته المكسورة.. تلك النبرة الحزينة الصادقة. أكان يحتاجها فعلًا؟

سؤال داهمها فجأة، وفي خيالها ارتسمت ملامحه، تلك التي تعرفها جيدًا، ابتسامته الهادئة، صوته حين يناديها، طريقته مع الأطفال..
وشعرت بالألم.

تذكّرت لحظة خروجها من المنزل، حين رحلت دون أن تلتفت، هل كسرته؟ هل انطفأ شيء فيه منذ تلك اللحظة؟ كيف هو الآن؟

"أنا أحتاجك."

كأن الإجابة جاءت من داخله، كأنها سمعت صوته مرة أخرى.. رفعت يدها إلى صدغها، دلكته بألم، محاولة أن تمسح صوته من ذاكرتها، لكنها لم تستطع.. الصوت كان محفورًا في داخلها، تمامًا كما كان هو.

***


في ظهيرة دافئة، جلس خالد وحيدًا داخل الدفيئة، تحيط به رائحة التراب الرطب وأوراق النباتات التي بدأت تذبل منذ وقت، دون أن يملك قلبًا ليقصّها أو يبدّلها. كانت الشمس تتسلل من السقف الزجاجي، خيوطها الذهبية تلامس التراب الصامت برقة، فتبدو الدفيئة أشبه بغرفة من الذكريات أكثر منها مكانًا للنباتات.

أسند رأسه إلى المقعد الخشبي القديم، وراح يحدّق في السقف الزجاجي، لا يرى فيه سوى مشاهد متفرقة من ماضٍ ثقيل، مشاهد تتكرر كلما جلس في هذا المكان.

لم يسمح لأحد بدخول الدفيئة منذ ذلك اليوم، كأنها أصبحت حرمًا خاصًا لأحزانه. يدخلها وحده، يشرد، يصمت، يتنفس وجعًا خفيفًا لا يراه أحد، ثم يخرج، ويغلق الباب خلفه بإحكام، كما لو أنه يغلقه على كل ما لا يستطيع التحدث عنه.

خرج من الدفيئة، وتحرك بعدها نحو المنزل بخطوات بطيئة، والنسيم يحرّك أطراف قميصه، وعند أول الطريق لمح حسن قادمًا من بعيد، يمشي بخفة في ملابس التمرين الرياضية، حقيبته على كتفه، وقد بدا وجهه أكثر نضجًا مما اعتاد خالد أن يراه.

توقف خالد وانتظره حتى اقترب، ثم قال بنبرة هادئة:

"لا تتأخر اليوم.. انهي تمرينك وتعال بسرعة."

رد حسن باختصار، وهو يومئ برأسه:

"حاضر."

لكن قبل أن يمضي، توقف لحظة، نظر لخالد بتأمل وقال بجرأة عفوية:

"احلق ذقنك.. منظرك صار مخيفاً."

ضحك خفيفة خرجت من فم الفتى وهو يواصل طريقه مبتعدًا، بينما حرك خالد يده إلى ذقنه، تحسسها بصمت، ثم ابتسم ابتسامة دافئة، خفيفة، تسللت إلى وجهه رغم ثقله.

لقد كبر حسن.. كبر بما يكفي ليبدي رأيه دون خوف، وليتحدث كما يتحدث الرجال، بعفوية لا تخلو من المحبة.

حك ذقنه وهو يفكر، نعم، عليه أن يحلق ذقنه اليوم، فـ"عم أسعد" سيزورهم بعد الظهر. منذ وفاة أنيسة، لم ينقطع أسعد عن البيت، يجيء محمّلًا بالهدايا، فقد كان يحب الصغار لأجل شقيقته المتوفاة، وكان الصغار يحبونه ولكن دون شروط.

***


استيقظ خالد على صوت العصا تطرق على الأرض بإيقاع ثابت، تبعه صوت عم أسعد الجهوري، الممزوج بقلقٍ خفيف:

"يا بني.. هل أنت معي؟"

انتفض خالد من شروده، رمش بعينيه كمن يعود من مكانٍ بعيد، ثم قال معتذرًا:

"أعتذر يا عمي.. شردت للحظة."

تأمله عم أسعد من خلف نظارته القديمة، مائلًا برأسه كما لو كان يحاول أن يرى ما خلف ملامحه الصامتة:

"أنت لست بخير يا بني، أخبرني.. ماذا بك؟"

رفع خالد نظره إليه، وتردد للحظة قبل أن يجيب. كان يرى في قسمات الرجل المهيبة ملامح أنيسة.. نفس النظرة، نفس الإصرار، نفس الحنان المتخفي خلف صرامة الجبين.

قال بصوت خافت:

"أنا بخير يا عمي."

طرق الرجل عصاه على الأرض مرة أخرى، لكن هذه المرة كانت الضربة تحمل نبرة اعتراض، قبل أن يقول بلهجة تجمع بين الصرامة والحنان الأبوي:

"هذا غير واضح.. تحدث يا خالد، أنا عمك!"

قال خالد وهو يشيح ببصره عن عيني عمه:

"صدقني، لا يوجد لدي ما أخبرك به.. العمل فقط يرهقني هذه الأيام كثيرًا."

تأمله عم أسعد بنظرة لا تخلو من شك، وغمغم:

"أخبرتني أنيسة، رحمها الله، أنك مدمن عمل.. خذها مني يا بني، لا تُهدر عمرك بين الملفات والاجتماعات. حاول أن تعادل بين حياتك وعملك. امنح وقتًا لمنزلك، لنفسك.."

ثم ابتسم بتلك الطريقة التي تجمع بين الدعابة والنية الجادة:

"وأنا أرى أن الحل معك.. أن تتزوج."

وفجأة صمت الرجل، كأنه تذكّر شيئًا، وأخذ يجول بنظره في المكان قبل أن يسأل باستغراب:

"بالمناسبة.. أين تلك الطبيبة الجميلة؟"

تبدلت ملامح خالد بسرعة. سقط ظل ثقيل على وجهه، وتراجعت نظرته إلى الأرض. لاحظ عم أسعد هذا التغير، فتأمل ملامحه المتحجرة بريبة، وكأن شبح أخته مرّ أمام عينيه وهمس له بأمنيتها القديمة، فسأل بهدوء:

"هل حدث خلاف بينكما؟"

رفع خالد رأسه بسرعة، محاولًا الرد، لكن عم أسعد سبقه قائلاً بنبرة حازمة:

"لا تكذب علي.. أنا لست طفلًا صغيرًا."

ظل خالد صامتًا، لا يملك من الكلمات ما يدافع به عن صمته. وكان هذا الصمت أبلغ من أي اعتراف.

تنهد الرجل، وضرب عصاه على الأرض بنفاد صبر:

"يبدو أن توقعي كان في محله."

ثم التفت إليه جانبًا، وقال مقترحًا، بنبرة مزيج من الجدّ والنصيحة:

"اذهب إليها يا خالد."

ابتسم خالد بحسرة، هز رأسه وكأنما يقول لنفسه قبل أن يجيب:

"وكأن الأمر بهذه السهولة.."

رد عم أسعد بإصرار، رافعًا حاجبه:

"بلى يا بني.. الجليد يذوب بالحرارة. ومشاعرك، كما أراها، نار مشتعلة. إن كنت أخطأت، فاعتذر. وإن كانت هي المخطئة، تحدث معها. ربما بينكما سوء فهم.. لا تدع الكبرياء يسرق منك ما تحب."

قال خالد بصوت خافت، وهو يعترف بذنبه:

"هي لم تفعل شيئًا.. أنا الذي فعل."

أومأ الرجل برأسه، وقال بحزم أبوي:

"إذًا اعتذر. لا خجل في الاعتذار يا خالد. ستنسى كرامتك المكسورة عندما تراها تبتسم لأول مرة بعد الصلح. صدقني، أنا أفهم في النساء."

ثم أردف مازحًا، وهو يومئ بعصاه نحوه:

"أمزح، فأنا لم أعرف امرأة غير زوجتي، رحمها الله."

رفع خالد رأسه ونظر إليه، فواصل عم أسعد بحنين واضح في صوته:

"كنا كثيرًا ما نختلف أنا وهي، مثل أي زوجين. لكن لم يمر يوم دون أن نتحدث، حتى في شدة الخصام.. بكلمة، بنظرة، بأي شيء. لم أسمح أبدًا أن يتخاصم حتى نظرنا."

سكت لحظة كأنما يستدعي الذكرى، ثم أكمل:

"رغم كل شيء، كان الحبل بيننا موصولًا. لا نكتم ولا نؤجل. نعاتب بعضنا في وقته ونغلق الصفحة.. تعاهدنا ألا نحمل خلافات اليوم إلى الغد، وألا نستدعي ألم الأمس لنضاعف وجع اليوم. كنا نعرف أن ما بيننا أغلى من كل ذلك."

صمت قليلًا، ثم نظر إلى خالد نظرة طويلة وقال:

"كل الخلافات لها حل.. فقط إن وُجد الصدق، والرغبة في الإصلاح، والنية الطيبة."

قال عم أسعد بصوته المتعب وهو ينظر في عيني خالد نظرة مشجعة:

"اذهب إليها يا خالد، صالحها.. واطلب يدها. لا تترك ما بينكما يذبل ويموت تحت وطأة الوقت والصمت. هذه كانت رغبة أنيسة.. أن تراكما معًا. حقق لها أمنيتها، يا بني."

رفع خالد رأسه بدهشة وكأن كلماته أيقظت شيئًا في داخله:

"هل قالت لك ماما ذلك؟"

أومأ الرجل برأسه، وصوته يختنق بألم الذكرى:

"أمك.. أخبرتني بكل شيء قبل أن ترحل. رحمها الله."

ساد صمت قصير، قبل أن يكسره أسعد بصوت متهدّج:

"وكأنها كانت تفرغ في حديثها وجع سنين طويلة من الفراق.."

ثم تنهد تنهيدة عميقة، وابتسم بأسى وهو يحدق في الفراغ:

"أتدري يا بني؟ أحيانًا أقضي الليل مستيقظًا.. وأنا أعتصر من الندم. كيف سمحت للحياة أن تبعدني عن أختي الوحيدة؟ كيف تركت خصامًا سخيفًا يتسلل بيننا ويصدّع ما كان بيننا من حب أخوي؟"

أخفض رأسه وقال بحزن صادق:

"أي علاقة في هذه الدنيا.. فيها كفتان، وأنت والطرف الآخر توازنانها معًا. الاستقرار ليس معجزة، بل قرار يتخذه اثنان. هذا ما تعلمته بعد فوات الأوان."

صمت لحظة، ثم نظر إلى خالد بعينين يملؤهما الأسف وقال:

"لو سألتني عن أمنيتي، رغم علمي أنها مستحيلة، لقلت.. ليتني أعود للوراء، فقط لأبدأ من جديد. في تلك الليلة التي رحلت فيها أنيسة، كنت أتمنى أن أضمها، أن أطمئنها أنني معها، لن أتركها.. أبدًا. لكنني.. تركتها تذهب، بكل برود، بكل نذالة. لم أتمسك بها، ولم أقاتل لأجلها. والآن.. أبكي على العمر الذي ضاع هباءً."

كان صوته يرتجف، وفي النهاية لم يقوَ على الكلام، فانفجرت دموعه على خديه.

تحرك خالد بسرعة، ونهض من مكانه وجلس إلى جواره، التقط منديلًا من الطاولة ومدّه إليه بلطف:

"أرجوك يا عمي.. لا تبكِ."

لكن الرجل هزّ رأسه وقال بصوت مبحوح:

"لم أعد أملك إلا البكاء.. إنه الوسيلة الوحيدة التي أُخرج بها ما يعتمر قلبي من ندم."

سكت خالد، ولم يرد. احترم وجع الرجل، وآثر الصمت. ترك له المساحة للحزن. وفكّر: من أراد أن يحزن، فليحزن.. من أراد أن يبكي، فليبكِ. لمَ نكبت مشاعرنا؟ لم نحبس الحزن حتى ينفجر؟

أغمض عينيه، وهو يحاول أن يهدئ تلك الغصّة العالقة في صدره، لكن بدلاً من الدموع، تسللت إلى شفتيه ابتسامة ساخرة.. كأنه يتهكّم من نفسه، فهو يفعل عكس ما يفكر فيه.

وفجأة، اخترق السكون صوت حادّ، تبعه وقع خطوات مسرعة. اقتحمت "ذكية" الغرفة بعينين مذعورتين وهي تصيح:

"مستر خالد! أرجوك تعال معي بسرعة.. هناك مشكلة كبيرة في الخارج!"

انتفض قلب خالد، وقام واقفًا بسرعة، وعيناه تبحثان عن الإجابة في وجهها:

"ماذا هناك؟!"

***

نهاية الفصل الثامن والأربعون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادمبإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

شكراً على صبركم

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصلتوقاعتكم للأحداث الجاية؟

***

اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركما وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.