رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الخامس والأربعون
فضلاً، متنسوش الvote.
المزيكا انهاردة كوبيله في أغنية الحب كله لأم كلثوم، وألحان بليغ، كلمات الأغنية أحمد شفيق كامل.
♪
الهوى العطشان عطشان في قلبي بينده لك
يا ارق من النسمة واجمل من ملاك
انت روحي وكل عمري ونور حياتي
يا حياتي ايه انا بالنسبه لك
حبيبي ده انا مخلوق علشانك يا دوب علشانك
علشانك انت
وقلبي قلبي عاش على لمس حنانك يا دوب حنانك
حنانك انت
♪
***
رفعت سالي رأسها نحو السماء، عيناها تتابعان حركة السحب المتثاقلة ببطء. دفعت بعض خصلات شعرها التي التصقت بجبينها المتعرق رغم برودة الجو، فقد كان العمل الشاق كفيلاً بإشعال حرارة جسدها. زفرت زفرة طويلة، كأنها تحاول التخلص من ثقل يعتصر صدرها، ثم خفضت رأسها ونظرت إلى أصيص الورود الأخير المتبقي أمامها. كان صغيرًا، لكنه بدا لها ثقيلاً فتنهدت وأغمضت عينيها، تشمّ الهواء المحمّل برائحة الطين والرطوبة، ثم انحنت ببطء، احتضنت الأصيص بكلتا يديها، ودخلت به إلى الدفيئة.
الهواء في الداخل كان دافئًا، معبقًا برائحة النباتات وعبق الذكريات. ذكرى أنيسة، وصوت وصيتها الذي لا يزال يتردد في أذنيها. تلك الوصية التي كانت كفيلة بإبقائها مستيقظة ليالٍ طويلة، تدفعها دفعًا اليوم للنهوض مبكرًا والمجيء.
حين دخلت للمرة الأولى، ترددت للحظة عند العتبة، إذ لم تطأ قدماها هذا المكان منذ وفاة المرأة، ولكنها فيما بعد وجدت نفسها تنغمس تلقائيًا في العمل، تنظف، ترتب، تراقب تفاصيل الدفيئة بعينين حزينتين. ساعدها عم حمدي، بخبرته وهدوئه، فشرح لها كيف تُهذَّب السيقان، ومتى يُروى الورد، ومتى يُترك للجفاف قليلاً.
وضعت سالي الأصيص برفق في مكانه، ثم خلعت قفازاتها واحدًا تلو الآخر. سحبت أقرب كرسي خشبي وجلست عليه، أطلقت تنهيدة متعبة، وضعت يدها على أسفل ظهرها وانحنت قليلاً علّها تخفف من توتر عضلاتها.
ساد الصمت قليلاً، لكن عقلها لم يهدأ. استرجعت تفاصيل هذا الصباح: خالد لم يذهب إلى المكتب، فضّل البقاء مع أميرة. كان جلوسه معها ملفتًا، لكنها لاحظت شيئًا آخر أثناء فحصها للفتاة.. نظراته المتوترة، حديثه القلق معها، لم يكن كعادته. شيء ما يعتمل بداخله. ورغم ذلك، أنهت سالي عملها بهدوء مهنيّ معتاد، ثم خرجت من العيادة دون أن تقول أكثر مما يلزم.
منذ وفاة أنيسة، لم تتحدث سالي مع خالد كثيرًا. لم تكن هناك فرصة لذلك، لا لقاء صريح، ولا كلمات تُقال في وجه الحزن. بل على العكس، شعرت بأن الحاجز بينهما يرتفع يومًا بعد يوم، كأنّ غياب المرأة التي جمعتهما قد أزال الرابط الوحيد، وتركهما في ضفتين متباعدتين، كلّ منهما يحدق في الآخر بصمت. كانت سالي عاجزة عن إيجاد طريق تهدم به هذا الجدار، ولم تعرف كيف تبدأ.
تنهدت بعمق، وهي تشعر بوجع ثقيل في صدرها، وكأن الهواء لا يتسع لأنفاسها. بقيت جالسة على الكرسي الخشبي الصغير، ظهرها منحنٍ قليلاً، وذهنها يتقلب بين الأفكار والذكريات، حتى قطع صوت صادر من جهة الباب. رفعت رأسها على الفور، متوقعة أن ترى عم حمدي كالعادة، لكنه لم يكن هو.
تجمّدت للحظة وهي تراه واقفًا هناك، على عتبة الدفيئة، خالد.. الشخص الذي شغل كل أفكارها مؤخرًا. وقف ساكنًا، عيناه تمسحان المكان بنظرة يصعب فك رموزها، قبل أن يستقر نظره عليها ويقول بصوت خافتٍ غامض:
"لم أتوقع وجودك هنا."
نهضت سالي بسرعة، يداها تمسكان بطرفي المقعد بخفة، وقلبها يخفق كأنه على وشك الانفجار، قالت بتلعثم:
"أنا.. أنا هنا أعتني بالدفيئة منذ الصباح.. هل تحتاج شيئًا؟"
لم يرد مباشرة، بل أدار وجهه يتأمل المكان بعينيه، نظراته تمس الزوايا والنباتات التي لم تخلُ بعد من لمسات أمه. زفر ببطء، وكأن شيئًا داخله يُقاوم الألم، ثم خطا نحوهما وقال وهو يشير إلى الكرسي:
"أرجوك، اجلسي.. أريد أن أحدثك في أمر هام."
ترددت سالي قليلًا، ثم جلست بصمت، تنظر إليه نظرة حائرة، تخشى مما قد يُقال، وتترقب. جلس هو أيضًا على مقعد مواجه، وضع كفيه على ركبتيه، ثم رفع إحداهما ليدلّك صدغه بحركة مرهقة.
"في الحقيقة.. حدث معي شيء الليلة الماضية، لا أستطيع تفسيره."
رفعت حاجبيها بدهشة، ثم مالت نحوه قليلًا وسألته:
"ماذا؟"
نظر إلى يديه، كأنه يقرأ شيئًا بين أصابعه، ثم قال بصوت خافت وقد تغيرت نبرته:
"أميرة.. قالت لي شيئًا جعل القلق يتسلل إلى قلبي."
سكت لحظة، وعيناه تائهتان، كأنما يستعيد الموقف. أما سالي، فبقيت تحدق فيه بصمت، تنتظر أن يبوح بما يُثقل كاهله، ثم بدأ بصوت خافت يسرد عليها ما قالته أميرة في تلك الليلة.
ساد صمت ثقيل داخل الدفيئة، خالد جلس قابضًا يديه في حجره، ينظر إلى الأرض كأنه يبحث فيها عن تفسير، بينما كانت سالي تُراقبه بعين فيها الكثير من الحزن، والكثير من التركيز.
لم يكن هناك شكّ أن السبب وراء هذا الذعر الذي اجتاح أميرة هو رحيل أنيسة. لكن ما فاجأ خالد حقًا هو اختلاف تفاعلها عن بقية إخوتها. جميعهم ذاقوا مرارة الحزن ذاته، ولكن أميرة وحدها غرقت في خيال مفزع، وكأن عقلها لم يتقبل الفقد بل انحرف به إلى ما هو أعمق وأخطر.. إلى خوف من المصير نفسه. كانت الفتاة التي تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً تتخيل أنها ستموت، كما ماتت أمها. عقلها للأسف في حالة صدمة، لا تميز فيها بين الفقد واللحاق بالمفقود. لذلك جاء وجعها بهذه الصورة المشوشة والمخيفة.
قالت سالي أخيرًا، بصوتٍ منخفض لكنه واضح، ممزوجٍ بهدوء الأطباء:
"ما تمر به أميرة ليس حزنًا عابرًا، ولا مجرد تأثر بفقدان والدتها.. بل هو شيء أعمق بكثير."
نظر إليها خالد، وقد علت قسماته ملامح متوترة، فتابعت برفق:
"هي لا تخشى الألم، بل الموت. وهذا النوع من القلق.. له اسم في الطب النفسي: رُهاب الموت."
ظل خالد صامتًا لبرهة، كأنه يحاول استيعاب العبارة. ثم قال بنبرة كمن يعتذر عن جهله:
"كنت أظنها فقط حزينة.. مثل إخوتها. تبكي، تنزوي قليلًا، ثم تهدأ."
تنهّد، ثم أردف بصوت أكثر خفوتًا:
"لكنها تغيّرت. صارت تخاف من كل شيئ.. الليلة الماضية كانت تهذي.. حتى الأحلام تراها نذيرًا بقرب النهاية."
أومأت سالي ببطء، كأنها تستعرض ما بين السطور، ثم قالت وقد بدا الحزن في عينيها:
"من الطبيعي أن يتأثر الطفل برحيل أحد والديه، لكن ما يحدث مع أميرة ليس طبيعيًا. عقلها الصغير يحاول أن يفهم الموت، لكنه لا يجد له منطقًا، فيفسّره بما يعرف: المرض، الكوابيس، الغياب.. ويعيد تدويرها جميعًا لتصبح تهديدًا لها شخصيًا."
صمتت لحظة، ثم أضافت بصوت ناعم:
"ولهذا تراها قلقة بلا سبب ظاهر.. تشتكي من المرض؟ تعجز عن النوم؟ وهذا طبيعي جدًا.. تنعزل فجأة أو تلوذ بالصمت؟ هذه ليست ترفات مراهقة، بل نداء استغاثة."
خفض خالد بصره، وراح يُفرك كفيه ببعضهما، ثم تمتم:
"كانت تمسك بيدي بالأمس، تبكي وتتوسل ألا أتركها، كيف أطمئن طفلة تتخيل نهايتها بهذا الوضوح؟"
تنهّدت سالي، ثم مالت نحوه قليلًا وقالت:
"لا تُجبها. ليس عليك أن تملك كل الإجابات. لكن عليك أن تُدرك: هذه الأسئلة، في هذا السن، لا تظهر من فراغ. هي دليل على أن الألم الذي بداخلها تحوّل إلى خوف مزمن.. وخوفها لا يمكن مواجهته بالكلمات وحدها."
نظر إليها خالد، عينيه تائهتين، وقال بصوت خافت:
"أتظنين أنها بحاجة إلى طبيب نفسي؟ في هذا العمر؟"
ابتسمت سالي ابتسامة هادئة، والطمأنينة تلوّن ملامحها:
"العمر ليس عائقًا، بل عامل إنقاذ. الطفل قادر على الشفاء أسرع من البالغ، إذا وجد من يفهمه. الطبيب لن يُعالجها وحسب، بل سيمنحها أدوات لفهم مشاعرها، ويمنحك أنت البوصلة.. لتقودها بثبات، لا بشك."
بقي خالد صامتًا، فقالت سالي بلطف صادق:
"مستر خالد، لا أحد يطلب منك أن تكون خبيرًا.. يكفي أن تكون حاضرًا. أن ترى، أن تُنصت، أن تبادر. لكن رجائي.. لا تتأخر. فكلما طالت المدة، زاد الخوف عمقًا.. وتحوّل إلى ما لا نحتمله."
أطرق خالد رأسه، ثم رفعه ببطء، وقال بحسم وهدوء:
"سأحجز لها موعدًا في أقرب وقت."
ابتسمت سالي ابتسامة دافئة هذه المرة، وهمست:
"أميرة ستشكر لك هذا يومًا ما.. حتى وإن لم تقل ذلك الآن."
تحت سقف الدفيئة الزجاجي، حيث امتزج دفء الشمس بعبير النعناع والريحان، ساد صمت لطيف بين خالد وسالي، لم يقطعه سوى خرير مياه خفيف من خرطوم الري القريب. كانت نظراتهما تتجول على الخضرة من حولهما، حتى قطعت سالي السكون بصوت خافت لكنه حازم:
"مستر خالد، هل لي أن أطلب منك رجاءً؟"
التفت إليها بخفة، ونظر في عينيها متوقعًا شيئًا رسميًا، فأجاب بهدوء:
"تفضلي."
شردت للحظة وهي تراقب ضوء الشمس المتسلل بين الأوراق الخضراء، ثم قالت:
"رمضان اقترب، وفي الحقيقة.. أحتاج إلى إجازة طويلة هذا الشهر. لم أرَ عائلتي منذ وقت طويل، وأشعر أنني بحاجة لأن أكون معهم لبعض الوقت."
تبدلت ملامح خالد للحظة، بدت عليه الحيرة، كأنه يحاول أن يوازن بين الحاجة والواجب. ثم سرعان ما تنفس بهدوء، وأومأ برأسه:
"لقد تعبتِ كثيرًا في الفترة الماضية، وحمّلتك أكثر من مسؤولياتك هنا. من حقك أن تستريحي."
ثم توقف قليلًا، نظر إليها نظرة مطوّلة، وكأن شيئًا آخر يختمر بداخله، قبل أن يقول بصوتٍ خفيض:
"أنا آسف.. لو كان أسلوبي معك تلك الليلة قد ضايقك، أتمنى أن تسامحيني."
اتسعت عينا سالي، وقد باغتها الاعتذار، وتسللت إلى ذهنها صورة تلك الليلة بعد معرفته بحقيقة مرض أنيسة: وجهه الجاد، نبرته الحادة، والحدود التي رسمها بوضوح بينها وبين الأطفال. ابتسمت بخفة، ورفعت حاجبيها بمزاح لطيف:
"وكأنني قد التزمت بشروطك أصلًا.. لا داعي للاعتذار."
رر يده بين شعره كعادته حين يشعر بالندم، وقال:
"لم أكن في حالة نفسية مستقرة يومها. كلما أتذكر حديثي معك أشعر أنني كنت فظًا، بل وغير معقول تمامًا."
ثم نظر إليها مباشرة، نبرته هذه المرة كانت هامسة لكنها صادقة تمامًا:
"كنتِ بجانبي في كل تلك الأوقات.. وأنا لم أقابل ذلك إلا بمحاولة إبعادك بفظاظة. أرجوك، اقبلي اعتذاري."
حلّ صمت بينهما، لكن لم يكن صمت حرج أو تردد، بل لحظة دافئة كأنها تغلفها الرضا والصفح. من خلف الزجاج، انعكست أشعة الشمس بلون ذهبي ناعم، كما لو كانت الطبيعة ذاتها تصغي إلى هذا الصلح الإنساني. قالت سالي بهدوء، وعينيها تنظران في عمق الدفيئة:
"لا بأس، نحن نمر في كثير من الأوقات بمثل هذه الضغوطات النفسية التي تؤثر على طبيعتنا... وأنا أقبل صدقك هذا بقلب رحب."
أومأ خالد برأسه ببطء، ثم جال بعينيه في المكان، قبل أن يلتفت نحوها ويسأل:
"هل أنتِ راضية عن هذا العمل الذي كلفتك به ماما؟"
ابتسمت سالي، وهي تدفع خصلة شعر خلف أذنها وقد بدا على وجهها مزيج من التردد وخفة الظل:
"أنا لا أفهم شيئًا في العناية بالنباتات.. وربما أستسلم قريبًا، لكنني أحاول. لا أريد أن أرحل من هنا وشعور بالذنب يلتصق بي."
مرّت لحظات صمت قصيرة، تخللها صوت طائر صغير بالخارج، ثم سألها خالد بصوت خافت، كأنما يخشى الجواب:
"هل لديكِ خطة للرحيل؟"
نظرت إليه بثبات ثم قالت:
"من غير المعقول أن يطول مكوثي هنا إلى الأبد.. لا بد أن أرحل يومًا ما."
صمت خالد، وربما تاه في الاحتمالات، لكن لم ينبس بكلمة. فقط اكتفى بالنظر إلى الأرض المبللة تحت أقدامهما. فتابعت سالي:
"هناك الكثير من الأمور التي خططت لتنفيذها، ولكن عملي هنا عطلني عنها."
رفع حاجبيه قليلًا:
"مثل ماذا؟"
نظرت إليه، وارتسمت على وجهها ابتسامة خجولة:
"ربما ستظنني ساذجة، لكنني كنت أرغب في ترك مجال عملي والدخول في مسار آخر تمامًا. وفي النهاية.. انتهى بي المطاف هنا."
"وما الذي كنتِ ترغبين في فعله؟"
أطلقت تنهيدة خفيفة، ثم أجابت وهي تتأمل إحدى الورود المتفتحة أمامها:
"كنت أرغب في فعل أشياء كثيرة فاتتني.. السفر، التجول في بلاد لا أعرفها، تعلم الموسيقى.. أشياء تشبه الأحلام البسيطة، لكنها لم تكن في متناول يدي."
بقيت نظراتهما معلّقة على الوردة ذاتها، فكر خالد في المعاناة المخفية التي ربما مرت بها هذه الشابة، في ما لم تقله بعد، وفي تلك الأشياء التي ظهرت على أطراف كلماتها فقط.
شعر بشيء أقرب إلى الشغف، لكنه لم يكن شغفًا عابرًا أو مندفعًا، بل شغف مغلّف بالخوف. الخوف من التعلّق، من التورط، من احتمالات المستقبل التي لا يملك لها إجابة.
نظر إليها بهدوء، وصوته خرج دافئًا بعد لحظة من الصمت:
"بالنسبة لإجازتك.. أتمنى أن تقضي نصف الشهر هنا، والنصف الآخر، والعيد، مع عائلتك. هل هذا مناسب لكِ؟"
رفعت عينيها إليه، وفي عينيها امتنان ناعم:
"هذا ما كنت أخطط له في الحقيقة.. أعتذر لو بدت إجازتي هذه المرة طويلة أكثر من المعتاد."
هز رأسه برفق، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة:
"هذا حقك.. أنتِ لم تحصلي على إجازاتك الكافية منذ وقت طويل."
ثم التفت من جديد إلى النباتات حوله، لكن داخله لم يكن كما قبل.
***
لم يتبقَ على حلول شهر رمضان سوى يومين، إلا أن هذا العام لم يكن يحمل ذات الحماسة المعتادة لدى أفراد المنزل. كان الحزن طاغيًا، يخيم على الأجواء، يطفو على ملامحهم جميعًا منذ أن رحلت أنيسة، أمهم الحبيبة. فرغم أن الحياة تمضي رغماً عن كل شيء، إلا أن الغياب كان قاسيًا، ترك في القلب فراغًا لا يُملأ.
شعرت سالي بذلك الحزن الثقيل يسكن المنزل، شعرت بالغربة أيضًا، لكنها لم تسمح لتلك الغربة أن تزرع في نفسها الانسحاب. على العكس، أرادت أن تفعل شيئًا، أي شيء، لتخفف عنهم. قررت أن تُحدث تغييرًا، حتى وإن بدا بسيطًا، لعلّه يُحدث فرقًا في قلوبهم المتعبة.
فوق سطح المنزل، كان حسن يجلس متكئًا على الحائط، وإلى جانبه كتاب مفتوح، يحاول المذاكرة استعدادًا لامتحانات منتصف العام. إلا أن أنيسة لم تغب عن تفكيره منذ لحظة رحيلها. لقد كان قويًا، متماسكًا أمام الجميع، لكن شيئًا في داخله تهشّم يوم رحلت. لم يكن يتصور أن تختفي فجأة، وأن يعتاد غيابها.
ولم تكن تلك هي مشكلته الوحيدة. فمنذ أن عرف أن منى هي أمه الحقيقية، ازدادت مشاعره اضطرابًا. كلما رآها، كان الشعور بالغضب يتصاعد في صدره، يشتد كرهه لها رغم محاولاتها اللطيفة للتقرب منه. لم يحدثها منذ ذلك اليوم، وحين تقترب، يتجنبها كما لو أن النظر في عينيها يضاعف وجعه. وبينما كان غارقًا في أفكاره، سمع خطوات خفيفة تقترب. التفت بسرعة، ليجد سالي تقترب بخفة وابتسامة تعلو وجهها. جلست إلى جواره وقالت برفق:
"سمعت من رحيم أنك تدرس هنا."
أومأ حسن برأسه دون أن ينطق بكلمة. فتابعت سالي بصوت دافئ:
"هل تحتاج إلى أي مساعدة؟"
هزّ الفتى رأسه نفيًا من جديد، غمرها حزن عميق، وسألته بصوت عاطفي:
"حسن.. تكلّم معي. لا أحب أن أراك على هذه الحال."
لم يُجب حسن على كلمات سالي، واكتفى بالصمت. لكن سالي، التي باتت تعرفهم عن قرب، كانت متأكدة أن هذا الصبي يحمل في قلبه من الحزن أكثر مما يظهر. لطالما شعرت أن حسن هو أكثر الأطفال تأثرًا برحيل أنيسة، لكنه لا يُظهر مشاعره أمام أحد. كان كتوماً، يحمل ألمه بصمتٍ يشبه نضجه المبكر.
أما علاقته بمنى، فلم تتغير منذ ذلك اليوم الذي اكتشف فيه حقيقتها. لم تكن هناك مواجهات، لكنه أيضًا لم يمنحها فرصة. كانت بالنسبة له كأنها لا تُرى.. امرأة شفّافة تمر أمامه فلا يلتفت، تأتيه لتطمئن وتسأل وتحاول فتح حوار، فيدير وجهه أو ينهض ويغادر، يرفض الاستماع أو التفاعل، وكأن الحواجز قد بُنيت من صمتٍ ثقيلٍ لا يُكسر.
كانت منى تلجأ إلى سالي كل مرة، تشكو بصوتٍ خافت، وملامح مرتبكة، فكانت سالي تهدّئها وتُطمئنها دومًا:
"العلاقة تحتاج إلى وقت، فقط بعض الصبر.."
لكنّها، في قرارة نفسها، لم تكن متأكدة إن كان الوقت وحده كافيًا لترميم ما انكسر. فحسن كان مختلفًا عن باقي اخوته. وليس من السهل استمالته بهذه السهولة.
شعرت بالحزن يعلو صدرها، فتنهدت بصعوبة وبطء، وكأنها تحاول إزاحة كل ذلك الثقل عن روحها. التفت حسن إليها، بعينيه الهادئتين المرهقتين، وتأمل ملامحها بصمت. رأى في عينيها دموعًا توشك أن تنحدر، وكان ذلك كافيًا ليهزّه. لم يشأ أن يبكي أحد من أجله، فهتف بسرعة، كمن يحاول لحاقها بكلمات قبل أن تسقط الدموع:
"لا تبكي.. أنا بخير. أرجوكِ، اهدئي."
أسرعت سالي بمسح دموعها بكفّ مرتعش، ثم رفعت وجهها نحو السماء، وزفرت تنهيدة طويلة ممزوجة بضحكة صغيرة، ضحكة أقرب إلى الهروب. ثم همست وهي تضع كفها على وجهها بنصف ابتسامة:
"آه.. أنا حقًا لا أعرف ما الذي حدث لي هذه الفترة. لقد أصبحت عاطفية جداً. انتم حقاً أولاد متعبون"
قالتها سالي وكأنها تحاول تبرير تلك العاطفة برمي مسؤوليتها على الصغار المساكين، أجاب حسن عليها:
"لا ذنب لنا أنكِ تتأثرين بسرعة".
"نعم، أنت محق".
رمقها الولد بنظرة جانبية، ونبرة صوته خرجت صريحة، جافة كعادته، لكنها لا تخلو من الفضول:
"ماذا تريدين؟"
ابتسمت سالي، متقبّلة جفافه كطبيعته، ووجدت في صراحته نوعًا من الطمأنينة. قالت بهدوء:
"أريد أن أطلب منك معروفاً."
رفع حاجبه قليلاً، وسأل دون تردد:
"ما هو؟"
قالت بنبرة خفيفة، كأنها تدعوه إلى مغامرة صغيرة:
"أحتاجك في مهمة.. هل لديك وقت لذلك؟"
***
في منتصف ردهة المنزل الواسعة، وقفت سالي بثبات، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم صاحت بصوتٍ دافئ وحماسي:
"يا أولاد! تعالوا!"
تردد صوتها بين الجدران العالية، ولم تمر سوى لحظات حتى بدأت الأبواب تُفتح واحدًا تلو الآخر، وظهرت رؤوس الأطفال من خلفها، يتلفتون بفضول. نزل الأولاد من السلالم بخطوات متسارعة، وعيونهم تلمع بالتساؤل، ليجدوا سالي واقفة بجانب حسن، وفي يدها أكياس كبيرة ممتلئة. ابتسمت سالي ابتسامة دافئة، وعيناها تبرقان كمن يخفي مفاجأة جميلة:
"تقدموا، لقد أحضرنا لكم هدايا جميلة."
نظر الصغار إلى بعضهم بدهشة، ثم حوّلوا أنظارهم إلى الأكياس التي بدأت سالي تفتحها بحماس. ما إن رأوا محتواها حتى اتسعت أعينهم وانفرجت أفواههم بدهشة مبهجة.
كانت الأكياس مليئة بزينة رمضان الملونة، وفوانيس صغيرة تضيء بأنوار متلألئة، وحلوى مغلفة بأوراق براقة. كل طفل حصل على فانوسه الخاص، بيده، وكأن كل واحد منهم أمسك بقطعة صغيرة من الحلوى.
"هذا.. لي؟"
قالتها لارا بصوت متحمس، وعيناها تتسعان بدهشة لم تُخفِها، وهي تشير بأصبعها الصغير إلى فانوسٍ لامع مزخرف بالنجوم. انحنت سالي حتى أصبحت بمستوى نظرها، وابتسمت وهي تقبّل خدها الناعم برقة:
"نعم يا لارا، هذا لكِ وحدك!"
اتسعت عينا الصغيرة، وقفزت في مكانها بفرحة لا توصف، ثم ضحكت بصوت عالٍ، وركضت بفانوسها نحو إخوتها،
في تلك اللحظة، امتلأ المنزل بصوت ضحكاتهم، ضحكات حقيقية وصافية، لأول مرة منذ مدة. سالي تأملتهم وهم يركضون ويتباهون بفوانيسهم، شعرت بشيء يدفأ في صدرها، كأن الضوء الذي فُقد برحيل أنيسة، قد عاد يخترق هذا الظلام، ولو قليلاً.
لم تكن تلك الهدايا جديدة عليهم، فهم يعرفون الفوانيس والزينة، لكن التوقيت هو ما منحها قيمتها وسط هذا الحزن الثقيل.
تلك اللحظات الصغيرة، التي انشغل فيها الجميع بتزيين المنزل، كانت أشبه بفسحة من النور وسط عتمة الأيام الماضية. لحظات دافئة، تسربت إلى قلوب الأطفال كأنها خيط من ضوء الشمس يتسلل عبر نافذة مغلقة.
كانت ضحكاتهم تتعالى، تتشابك أياديهم الصغيرة وهم يعلقون الزينة بألوانها الزاهية، يتسابقون أيهم يعلّق النجمة أولًا، أو يضع الفانوس في المكان الأفضل. وسالي، بعينين لامعتين وقلب يفيض بالعطف، تراقبهم وكأنها تحاول أن تحتفظ بكل تفصيلة في ذاكرتها.
لم تكن تلك اللحظات كافية ليمحوا بها ألم فقدان أمهم، بالتأكيد لا. فالفقد لا يُشفى بيوم ولا يُنسى بلحظة. لكن شيئًا ما فيها—تلك اللحظات البراقة العابرة—كان يحمل نوعًا من الشفاء المؤقت، نوعًا من السلام الذي لا يُمنح إلا في لحظات الصفاء النادرة.
في مثل هذا الوقت، لم يكن القلب الحزين يطلب الكثير.. فقط لحظة واحدة تلمع، تذكره أن الحياة، رغم وجعها، ما زالت قادرة على أن تمنحه سببًا صغيرًا للابتسام.
عندما عاد خالد من عمله، لم يكن يتوقع ما رآه. كانت واجهة المنزل تتلألأ بأضواء خافتة وزينة رمضانية أنيقة، تلمع مثل نجوم صغيرة في عتمة المساء. للحظة، تخيّل أنه أخطأ العنوان.. هذا لا يمكن أن يكون منزله، ليس ذلك المكان الذي ظل خافتاً وكئيباً منذ رحيل أنيسة.
لكنه كان هو.
فتح الباب ببطء، ودخل بخطوات مترددة. دهشة حقيقية اعتلت ملامحه وهو يتأمل الزينة التي تزينت بها جدران المنزل وسقفه، الفوانيس المعلقة، والهلال المتأرجح، والألوان التي تبعث البهجة في النفس. بدا له وكأن قلب البيت قد عاد لينبض من جديد.
تناهى إلى سمعه صوت ضحكات عالية وركض خفيف على السلم، ثم ظهرت ليان أمامه، تحمل فانوسها بكل فخر، وعينيها تلمعان بفرح صافٍ:
"أبيه! انظر، هذا فانوسي.. سالي اشترته لي!"
تأملها خالد، ثم نظر إلى باقي الأطفال. حتى أميرة، التي كانت بالكاد تتحدث، كانت الآن جالسة وسط إخوتها، تتكلم بحماس وتضحك.
بقي خالد صامتًا للحظة، ينقل بصره من وجهٍ إلى آخر، كمن لا يصدق ما يرى، ثم سأل بدهشة حقيقية:
"ماذا.. ماذا يحدث هنا؟"
تقدمت فرح، ما تزال ترتدي السواد، لكنها تحمل على وجهها ابتسامة صغيرة، هادئة، قالت بصوت خفيض لكنه دافئ:
"سالي.. أرادت أن تغيّر قليلاً من الأجواء. اشترت الزينة والفوانيس.. والحلوى أيضاً."
نهضت سالي من مقعدها بجوار نور، والتقطت فانوسًا صغيرًا مزينًا بنقوش ذهبية، وتقدّمت بخطوات خجولة نحو خالد، الذي كان ما يزال يقف وسط الردهة مذهولًا من التغيير. قالت بنبرة هادئة وابتسامة لطيفة:
"أهلاً بك، مستر خالد.. تفضل، هذا فانوسك."
تناول خالد الفانوس وهو لا يُخفي دهشته، وفي تلك اللحظة نكزته فرح بمرفقها بخفة، وهي تبتسم ابتسامة ماكرة وقد لمحت شيئًا في الأجواء:
"ما رأيك في فانوسك يا أبيه؟"
نظر خالد إليها، وقد شعر أنها لاحظت ما لا يريد أن يُعرف، فرد وهو ينظر إلى الفانوس:
"إنه.. جميل."
أجابت فرح بصوت خافت، وقد بدأت تبتعد عنهما بخطوات مرحة:
"نعم.. هو جميل فعلًا."
ثم تركتهما ومضت، ليبقى خالد في مكانه، ينظر إلى سالي التي ما زالت تقف أمامه، وفي عينيه حيرة ممزوجة بشيء من الامتنان. قال بصوت منخفض:
"أشكرك.. على هذه الهدية."
ابتسمت سالي برقة، وردّت:
"لا داعي للشكر.."
لكن ملامح وجهها تغيّرت فجأة، وبدت وكأنها تبحث عن الكلمات، ثم قالت بتردد:
"في الحقيقة... كنت مترددة. خفت أن لا يعجبك هذا الاحتفال، بسبب الظروف الصعبة التي نمر بها."
هزّ خالد رأسه نافيًا بلطف، ثم قال بنبرة أكثر دفئًا مما اعتاد:
"لا، لا بأس إطلاقًا. في الواقع.. المنزل كان يحتاج إلى هذه البهجة. الأطفال.. لم يكن مزاجهم جيدًا منذ ما حدث. ليس ذنبهم أن يعيشوا في الحزن طوال هذه الفترة. شكرًا لك، ولكن.."
نظر خالد حوله في الردهة المضيئة بالمصابيح الصغيرة، يتنقّل ببصره بين الفوانيس الملوّنة وأشرطة الزينة المتدلّية من السقف، ثم قال بنبرة خافتة امتزج فيها الامتنان بالحيرة:
"هذا كثيرٌ قليلًا.. أظنّ أنّه كلّفك مبلغًا كبيرًا.. أنا—"
قاطعته سالي برفقٍ حاسم، ورفعت كفها في هواءٍ مشبع برائحة الحلوى الرمضانية:
"لا، لم يكلّفني شيئًا يستحقّ الذكر. هي هديّةٌ من قلبي للصغار. لا شيء يضاهي رؤيتهم يستعيدون ضحكاتهم."
تأمّل خالد الفانوسَ الذي يعكس على كفّه ضوءًا ذهبيًّا مرتجفًا، ثم همس بحرجٍ وعجز:
"لكن.."
بادرت سالي تخفّف عنه، ونظرة دفءٍ تلمع في عينيها:
"أرجوك يا مستر خالد، لا تقل المزيد. هذه اللحظات عندي أثمن من أيّ مبلغ."
صمت خالد لحظةً، ثم أومأ امتنانًا، وقد بدا على وجهه ارتياحٌ خجول. وأمامهما، كان الأطفال يركضون بين الفوانيس المعلّقة، يرفعونها عاليًا في الهواء كنجومٍ صغيرة، بينما يتردّد ضحكهم في أنحاء البيت كصدى حياةٍ يُعاد إلى الجدران بعد طول حزن.
في تلك اللحظة، شعر خالد وكأنّ حزن الأيام الماضية قد تراجع خطوةً إلى الوراء أمام هذه الفوانيس المضيئة التي اهدتها لهم هذه الشابة. كان حبها يتملك قلبه كل يوم عن اليوم الذي يسبقه.
وقبل أن يحين موعد النوم، صدح صوت منى في أرجاء البيت بهدوء، تنادي على الأولاد أن يستعدوا للذهاب إلى أسرتهم. لبّت سالي النداء، وساعدت منى في اصطحابهم واحدًا تلو الآخر إلى غرفهم، تمسك بيد هذا، وتعدل وسادة ذاك. تحرك الصغار بتثاقل، أجفانهم تنسدل ببطء، تتصارع مع النعاس، وأقدامهم تجرّ الخطى، بينما خفتت الأصوات شيئًا فشيئًا، تاركة خلفها سكونًا ناعمًا، يشبه الهمس.
جلست سالي عند سرير فؤاد ولارا، وسحبت الغطاء فوق جسديهما الصغيرين برفق. بدا فؤاد غارقًا في النعاس، بينما لارا، التي كانت تحتضن فانوسها الصغير المضئ، لم تستسلم بعد.
اقتربت من سالي، ورائحة الطفولة تسبقها، ثم أسندت رأسها على كتفها، وصوتها ينساب كنسمة:
"احكي لي قصة."
كانت تعبث بأصابعها الصغيرة في سلسلة الفانوس المتدلّية، ووميضه ينعكس على وجهها المتطلع، بينما عيناها الكبيرتان تشعان برجاء طفولي نقي. نظرت سالي إليها بدهشة خفيفة، وعقدت حاجبيها وهي تقول، بنبرة تردد:
"قصة؟"
أومأت لارا برأسها بخفة، ورفعت فرح والفتيات الأخريات نظرهن إليها بفضول، وقد تسلل الصمت إليهن وهن يحدّقن في سالي بأعين متّقدة بالانتظار، رغم فارق أعمارهن الكبيرة. تنهدت سالي بخفة، نظرت إليهم جميعًا، ثم استقرت في جلستها، وصوتها بدأ ينسج الحكاية بهدوء:
"كان يا ما كان.. كانت هناك أميرة صغيرة وجميلة.."
ساد صمت ناعم في الغرفة، لم يقطعه سوى صوت سالي المتدفق بالحكاية، وخرير أنفاس البنات وهم يغوصون معها في خيالها:
"عاشت الأميرة في عالم من الأحلام، والألحان، والإلهام... عالم تنيره أشعة الشمس الذهبية، وتغمره الألوان المبهجة، حيث كل ما تتمناه يتحقق، وكل ما تطلبه تلقاه."
مسحت أنامل لارا على الفانوس كأنها ترى ذلك العالم بعينيها. تابعت سالي:
"كانت الطيور تحلق في سماء ذلك العالم وهي تشدو، والمروج الخضراء تحيطها من كل تجاه.. كانت الأميرة تبسط أجنحتها وتتهادى كما الطير الغرّيد، تكتشف كل يوم سرًّا جديدًا."
بدت على وجوه البنات علامات التخيل، كأنهم يرون تلك الأميرة أمامهم. استمرت سالي، ونبرتها تزداد دفئًا:
"كانت تحب القراءة، وتحب بالفنون، تعزف الموسيقى، وترتل أناشيد الربيع.. وعندما يحل الليل، كانت تتأمل السماء وتناجي القمر، وتحلم أن تصبح نجمة تتلألأ في العتمة، ينظر إليها الجميع بإعجاب."
ثم خفّت نبرة صوتها فجأة، وشحب تعبير وجهها كأن شيئًا مظلمًا اقتحم الحكاية:
"لكن تلك الأحلام لم تدم طويلًا.. إذ كانت هناك ساحرة شمطاء شريرة، حاقدة على سعادة الأطفال ونور الطفولة.. امرأة قاسية تتمنى أن يصبح العالم مظلمًا وباهتًا كوجهها العابس."
تغيرت ملامح البنات، وظهرت علامات القلق في عيونهم. تابعت سالي، وقد أبطأت وتيرة حديثها:
"اختطفت الساحرة الأميرة، ونقلتها إلى زمن آخر، زمن خالٍ من الأحلام، لا موسيقى فيه ولا طيور، لا كتب ولا نجمات تتراقص في السماء.. زمن رمادي باهت، ضاعت فيه الأميرة، بعيدًا.. بعيدًا جدًا."
ساد الصمت مجددًا، ولم ينبس أحد بكلمة. أغمضت لارا عينيها، وهمست قبل أن تستسلم للنوم:
"لكنّها ستعود.. أليس كذلك؟"
ابتسمت سالي بلطف، وهي تمرر يدها برفق على خصلات شعر لارا الناعمة، ثم قالت بهدوء:
"ربما.. ربما تعود عندما نكمل القصة التي سأنهيها الآن، لأنكِ الآن في طريقك للنوم."
ساعدت سالي الطفلة الصغيرة على الاستلقاء بجوار توأمها، رتبت الغطاء فوق جسديهما الصغيرين، ثم انحنت لتطبع قبلة دافئة على جبين كل واحد منهما، وهمست بكلمات ناعمة قبل أن تغادر الغرفة على أطراف أصابعها، مودعة الفتيات بنظرات حانية وصوت خافت.
اتجهت بخطى هادئة إلى الغرفة المجاورة، لكن ما إن فتحت الباب برفق حتى وجدت أميرة لا تزال مستيقظة، جالسة في سريرها، تتكئ على الوسادة، وبين يديها كتاب لم تلتفت إلى صفحاته منذ دقائق.
دخلت سالي في هدوء، وجلست على حافة السرير وهمست بصوت ناعم:
"لماذا لم تنامي؟"
رفعت أميرة عينيها إليها، وفي وجهها ظلال قلق خافتة، وعقدت حاجبيها وهي تجيب بصوت منخفض:
"لا أستطيع النوم."
نظرت إليها سالي برقة وسألت:
"لماذا؟"
أخفضت أميرة بصرها إلى الأرض، وعبثت بأطراف الغطاء بين أصابعها، ثم قالت بصوت أقرب للهمس:
"أخاف أن أنام وأحلم بالكوابيس."
اقتربت سالي منها أكثر، ومدت يدها لتمسح على شعرها بلطف، كأنها تزيح بها الخوف عن قلبها، وقالت بصوت مطمئن:
"لا تخافي يا أميرة، لن يحدث لك شيء. أنتِ بخير يا عزيزتي."
هزّت أميرة رأسها بخفة، وقالت بصوت متردد:
"أعرف، ولكنّي... خائفة."
ابتسمت سالي ابتسامة دافئة، ثم تابعت:
"عزيزتي، هل تتذكرين ما قالته الطبيبة؟ خذي نفسًا عميقًا... واهدئي تمامًا. هل كتبتِ أفكارك اليوم؟"
أجابت أميرة وهي تهز رأسها نفيًا:
"لا."
نهضت سالي بهدوء وتوجهت إلى المكتب القريب، تناولت دفترًا صغيرًا وقلمًا، ثم عادت لتجلس بجوارها، وناولتهما لها قائلة:
"هيا، نكتب معًا ما قالته الطبيبة... السؤال الأول: ما الدليل على أنني سأموت؟"
صمتت الفتاة للحظة، ثم بدأت تكتب، بينما سالي تتابع بصوتها الهادئ:
"السؤال الثاني: هل مرّ عليّ يوم كامل وأنا بخير؟"
ثم أضافت بابتسامة:
"والسؤال الثالث: هل أخبرني الطبيب أنني مريضة؟ وأنا أقول لكِ الآن، وأنا الطبيبة... الإجابة بكل تأكيد: لا."
بدأت أميرة تكتب ببطء، يداها ترتجفان في البداية، ثم شيئًا فشيئًا، بدأ خطها يستقر. بقيت سالي إلى جانبها، تساعدها على تفكيك تلك المشاعر الغامضة التي تعصف بقلبها الصغير. وبعد الانتهاء، وضعت سالي الدفتر جانبًا، وطلبت منها بلطف:
"والآن، أغلقي عينيكِ... قولي لي خمس أشياء تسمعينها الآن."
أغمضت أميرة عينيها، وأنصتت، ثم أجابت بصوت خافت. تابعت سالي:
"وأربعة أشياء تشعرين بها في جسدك.. جيد.. الآن ثلاث أشياء ترينها.."
بهذا التمرين البسيط، كانت سالي تعيدها إلى الحاضر، تبعدها عن الخوف، وتجعلها تستشعر الأمان في جسدها وغرفتها. ومع مرور الدقائق، بدأت أنفاس أميرة تهدأ، وجفناها يثقلان، حتى غفت أخيرًا بسلام، بينما جلست سالي إلى جانبها تراقب وجهها وقد انزاحت عنه سحابة الخوف، واطمأنت أنها ستنام ليلتها بأمان.
♪
حلوة الايام حلوة
حلوة الأحلام حلوة
حلوة حياتي
حلوة يا سلام
حلوة بتمر قوام
حلوة ويا حياتي
يا زمان يا زمان يا زمان
يا ليالي طويلة احلامها جميلة ... معاك
يا زمان يا زمان يا زمان
ياليالي بتجري بتقتل اماني وتفوتنا رماد
فيها ايه لو تنسى اثنين في الحب
دايبين عايشين
♪
نهاية الفصل الخامس والأربعون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء.. بتمنى تكون القصة عجباكم، بدأنا نقرب من النهاية ولكن في لسة صراعات هتحصل تتوقعوا هتكون ايه؟
شكراً على صبركم
كاتبتكم ءَالَآء
سؤال الفصل: توقاعتكم للأحداث الجاية؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.