السبت، 19 أبريل 2025

رواية المنزل: الفصل الحادي والأربعون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الحادي والأربعون

فضلاً، متنسوش الvote.

المزيكا انهاردة أغنية بعشقها 'بحلم بيك' لعبدالحليم. الملحم منير مراد، المؤلف، مرسى جميل عزيز.

فيه تنويه نزل مع الفصل ياريت تقرأوه. شكراً.

***

وضع أحمد الملعقة في فمه ببطء، مضغ لقمة ثم بلعها، ورفع عينيه إلى خالد متسائلًا بفضول:

"حسن قضى الليلة السابقة هنا، لكنه رحل قبل أن تأتوا.. أشعر أنه ليس على ما يرام."

تبادل خالد وسالي نظرة صامتة، ابتسمت سالي ابتسامة شاحبة لا حياة فيها. ليرد خالد بهدوء، ونبرته تنضح بالحذر:

"حدثت بعض المستجدات في المنزل، لكن لا أظن أن هذا وقت الحديث فيها. الأهم الآن أن تستعيد عافيتك، حتى تعود إلينا سريعاً."

رمقهم أحمد بنظرت شك، حتى تقدمت نور في الحديث بنبرة رزينة وابتسامة خفيفة:

"أخبرني، ماذا تحب أن تأكل عند عودتك؟ سأحضّره لك بنفسي."

ابتسم أحمد لها بدفء، ونظراته تحمل امتنانًا لا يخلو من الحياء:

"سأفكر وأخبرك."

في داخله، كان أحمد يشعر بحرارة الألفة تحيط به، لم يكن يتوقع كل هذا القرب والاهتمام بعدما ارتكب ما ارتكب.. لم يخطئ فقط في حق نفسه، بل في حقهم جميعًا. لكن ذلك الالتفاف حوله بعد ما حدث، لم يكن عاديًا.. لقد أصابه في الصميم، لامس شيئًا عميقًا في قلبه لم يكن يعلم أنه موجود. شيء جعله يعيد النظر في كل ما فعله، ويشعر لأول مرة أن له مكانًا.. وأنه لم يُنسَ.

قالت سالي بلطف، وهي تنظر إلى أحمد بعينين مطمئنتين:

"تحدثت مع الطبيب منذ قليل، وطمأنني على حالتك. ستخرج غدًا، بإذن الله.. أتمنى لك شفاءً سريعًا."

زفر أحمد بتأفف طفولي وهو يضع الملعقة جانبًا:

"سأقضي ليلة أخرى هنا!"

ربت خالد على كتفه بلطف قائلاً:

"لا بأس..عليك أن تصبر قليلاً."

ساد صمت خفيف، قبل أن يتردد خالد لحظة ثم يعلن، بنبرة خفيفة:

"عليك أن تكون في المنزل غدًا، هناك مفاجأة."

رفعت سالي حاجبيها باستغراب، والتفت أحمد إليه بدهشة، أما نور فقد أدارت رأسها باتجاه الصوت وقد ارتسم على وجهها فضول طفولي، ورد الجميع في صوت واحد:

"مفاجأة؟"

ابتسم خالد لأول مرة بصدق، وقد بدا الانشراح واضحًا على ملامحه:

"نعم، مفاجأة لطيفة.. ستعجبكم، أنا واثق."

قالت نور بحماس طفولي صادق:

"ما هي؟"

رد خالد:

"لن تكون مفاجأة لو أخبرتكم."

ارتخت ملامح سالي، لكنها ظلت متوجسة، غير قادرة على التوقف عن التفكير.. في وسط كل ما يمرون به، هل هناك متسع لمفاجآت؟ كان غريبًا أن تصدر هذه المبادرة تحديدًا من خالد، أكثر من يحمل الأعباء حاليًا في هذا البيت. ومع ذلك، وضعت تساؤلاتها جانبًا مؤقتًا، إذ كان هناك ما يشغلها أكثر من أي شيء آخر في تلك اللحظة: حسن.

من المطمئن أن الفتى قضى ليلته هنا، لكن إلى متى سيستمر في الاختفاء؟ أحمد سيغادر المستشفى غدًا، فأين سيذهب حسن بعدها؟ تذكرت وعدها لمنى بالمساعدة، وكانت صادقة فيه.. كانت تريد أن تكون عوناً حقيقيًا لتلك المرأة التي تحملت ما لا يُحتمل، ولذلك الصبي الطيب، المختبئ خلف قناع من الجمود. وضعت يدها في جيب معطفها، وقد عزمت على الاتصال به. أرادت أن تراه، أن تواسيه، أن تطبطب على قلبه الهش. هذا الولد المسكين.

تأملت خالد، الذي لم يفارق هاتفه منذ الصباح، يحاول جاهدًا التواصل مع الفتى الذي لا يكف عن تجاهله ببرود. كان المشهد مؤلمًا بحق.. رجل يحمل على عاتقه همَّ طفلين في آنٍ واحد، بين إصابة أحمد وهروب حسن، وكأن قلبه يتسع لكل هذا وحده. شعرت سالي بثقل ما يمر به، ومسؤولية لا تُحتمل. انقبض قلبها، وعقدت حاجبيها بعزم، وقررت في سرها: إن لم يستطع أحد الوصول إليه، فهي ستفعل. لا بد لها أن تحاول.

في ظل هذه الأجواء المشحونة بالقلق، كان هناك تقرير مدرسي أعدّته مديرة مدرسة الأولاد، وأرسلته إلى وزارة التضامن الاجتماعي. تقريرٌ يتضمن سردًا دقيقًا لكل مشكلة تورط فيها الأطفال، وكل سلوك اعتُبر تهديدًا للبيئة التعليمية. لم يكن التقرير مجرد ورقة رسمية، بل كان بمثابة صاعق إضافي يزيد من توتر الأوضاع، ويدفع بوضع الأولاد في المنزل من سيء إلى أسوأ.

***


كان حسن يتأمل نهر النيل بشرود، يستند بكوعيه على الإطار الحديدي للكورنيش، بينما تتلاطم الأفكار في رأسه كأمواج النهر الذي يحدق فيه. قلبه مثقل بمشاعر متضاربة. فقد عرف أخيرًا هوية والدته الحقيقية.. ومع ذلك، لم يشعر بما كانت تعده مخيلته كولد يتيم التقى بأهله الحقيقين. لم تغمره سعادة كما يرى الناس في الأفلام أو في تقارير برامج التلفاز. لم يكن مشهده مكللاً بالدموع السعيدة أو العناق الحار.

كان مجرد فتى، أسس حياته على فكرة أنه يتيم. فتى انتُشل من دار أيتام على يد سيدة عطوفة ورجل بدا له مسؤولًا. نعم، كانوا عائلته. أحبهما وارتبط بهما، لكن الحقيقة ظلّت تقبع في الخلفية.. هو وإخوته يعرفون أصلهم، يعرفون أنهم لا ينتمون بالكامل. وبينما يغرق في صراع داخلي لا ينتهي، انتشله من شروده صوت رقيق، خافت:

"حسن؟"

استدار ببطء، وقد توقّع الصوت الذي اتصل به بنفسه. كانت ريم، زميلته في تمرين الملاكمة. أصبحت رفيقة بدرجة ما، شخصًا يعرف كيف يشاركه الصمت دون أن يضغط عليه بالكلمات.

نظر إليها نظرة باهتة، قصيرة، ثم أبعد عينيه عن عينيها سريعًا وجلس على مقعد أمام النهر. أدركت ريم من هذه الإشارة الصغيرة أن ثمة ما يؤلمه. لم تعلق. فقط جلست إلى أقرب مقعد بهدوء، وأخرجت من حقيبتها بعض المشتريات البسيطة من السوبرماركت، وبدأت تقسمها بينهما بصمت.

نظر إليها بصمت، متذكّراً أنه جائع. التقط ساندويتش قرّبته إليه وبدأ يأكل، دون أن ينبس بكلمة. مضغ لقيماته ببطء، كما لو أن الطعام ثقيل على قلبه لا على فمه. وفي لحظة، ابتلت عيناه، وسقطت دموعه الحارقة بصمت، وهو ما يزال يمضغ.

رمقته ريم بنظرة حزينة، دون أن تقاطعه. كانت تفهم أن بعض الأحزان لا يُسأل عنها فورًا، وأن بكاء شخص مثل حسن، المتماسك دائمًا، ليس شيئًا يمر مرور الكرام. انتظرت بصبر حتى انتهى، ثم مدت يدها بهدوء وأعطته منديلاً، مسح به دموعه المتساقطة.

سألته بصوت خافت حنون:

"لماذا أنت حزين يا حسن؟"

ظل يتأمل النهر أمامه، عيناه لا تزالان لامعتين من أثر الدموع، وصوته حين خرج كان أقرب إلى الهمس، لكنه حمل ثقل الدنيا كلها:

"لم أعد أعلم من أنا، حتى اسمي لست متأكدًا منه."

خرجت الكلمات من فم حسن ثقيلة، كأنها سُحبت من أعماق روحه، لا مجرد اعتراف عابر. تأملته ريم بصمت وحزن، وقد بدت عليها الدهشة والارتباك. لطالما شعرت أن خلف هدوئه عالمًا لا يُفصح عنه، أن خلف ملامحه المتماسكة حزن صارخ.. لكنه لم يسمح لها بالاقتراب من ذلك العالم من قبل. كل ما كانت تعرفه أنه يعيش مع مجموعة من الإخوة في بيت يبدو عليه النظام والاحترام، لا شيء أكثر.

قطع شرودها صوته وهو يبتسم ابتسامة ساخرة، باهتة، تحمل في طياتها الكثير من الألم:

"لم أخبرك يومًا أنني يتيم، أليس كذلك؟"

اتسعت عينا ريم بذهول خافت، لم تتوقع أن يكون هذا هو السر، وسرعان ما أخفضت رأسها، تحاول لملمة ذهولها واستيعاب ما سمعته للتو. أكمل حسن بهدوء، ونبرة صوته كأنها تسرد حكاية قديمة:

"نشأت منذ طفولتي في دار للأيتام.. حتى جاءت سيدة عطوفة، وابنها، وقررا أن يأخذاني مع إخوتي، لنعيش في منزل واسع دافئ. كنا نظن أن هذا هو قدرنا، أن لا أصل لنا."

تابع حسن، وهو ينظر إلى الماء كمن يبحث فيه عن أجوبة لا يملكها أحد:

"لكن.. البارحة فقط، عرفت أن لي أمًا حقيقية. ليست السيدة التي ربتني، بل أمي التي أنجبتني، كانت قريبة مني طوال هذا الوقت، تعيش بالقرب.. وأنا لم أكن أعلم شيئًا، ولا أحد قال لي."

سكت لحظة، ثم ضحك ضحكة قصيرة حزينة، وقال بنبرة تخفي مرارة عميقة:

"أليس ذلك طريفًا؟ أن تكتشفي أن لديك أم، لدرجة لا تعلمين معها، هل يجب أن تفرحي، أم أن تحزني أكثر؟"

رفع نظره إلى السماء للحظة، قبل أن يعود بعينيه إلى النهر ويكمل بصوت أثقل من قلبه:

"تلك العائلة التي عشت بينها، كنت قد اكتفيت بهم، لماذا أشعر وكأنه علي أن أولد من جديد؟ أنا لا أريد أماً"

قالها الفتى بيأس، والنبرة في صوته كانت ثقيلة، وتجمدت اللحظة في الهواء من حوله، وصمت طويل حل بينهما. كانت عيونه ضبابية، تتأمل الجريان المستمر للمياه.

ريم، التي كانت تجلس بجواره، لم تعرف كيف ترد على ذلك. وهي تراه يفتح أبوابًا مغلقة في قلبه. لكنها سرعان ما قالت، بصوت خافت:

"أعتقد أننا نشبه بعضنا البعض يا حسن."

التفت إليها متسائلًا، بعينين لا تزالان تحملان أثر الدموع، فتلقّاهما نظرتها اللطيفة، وقد أومأت برأسها بابتسامة حزينة، كأنها تخبره بصمت أنها تفهم وجعه وألمه. ثم تابعت، وصوتها يخرج ناعمًا مكسوًا بالحزن:

"ربما تكون حياتنا مختلفة في الشكل.. لكن مضمون مشاعرنا واحد. فأنا أيضًا لا أعرف ماذا علي أن أكون."

عقد الفتى حاجبيه باستغراب، يسألها، فأكملت الفتاة، وعيناها تتجهان نحو الأفق البعيد فوق صفحة النهر:

"أنا على عكسك.. أعرف أن لدي أبًا وأمًا، كلاهما على قيد الحياة، لكنّهما لا يريدانني. عاشا معًا بضع سنين ثم تطلقا، ورحلت أمي لتتزوج رجلاً آخر. أبي أخذني معه إلى السعودية، عشت معه هناك لسنتين، حتى قرر الزواج فجأة. ومنذ ذلك الحين تغيّر كل شيء."

سكتت لحظة، وتنهدت، ثم أكملت بصوت ثقيل:

"حين شعر أن زوجته لا ترتاح لوجودي.. أرسلني لأعيش مع جدتي."

ساد صمت قصير، فقط خرير الماء يملأ الفراغ بينهما، ثم نظرت إليه بعينين تحملان صدقًا موجعًا وقالت:

"لا أحد منهما يرغب فيّ. ولا أعرف إن كنت أمتلك والدان يحباني، أم أنس ذلك وأعتبر نفسي يتيمة."

أقرت بقلة حيلة وهي ترفع كتفيها للحظة:

"ولذلك أعيش مع جدتي."

مرت لحظات، ثم أضافت بصوت ملؤه التأمل:

"لو كانت عائلتك التي تبنّتك ترغب بك.. فهذا شعور عظيم. وإن كانت أمك الحقيقية تريدك أيضًا.. فذلك أعظم.".

اتسعت ابتسامتها:

"لا يوجد شعور في هذه الدنيا أجمل من أن يرغب أحد فيك، أن يريدك حقًا بقربه."

تأملها حسن بعينين غائمتين بالحزن، وفي أعماقه كان مزيج غريب من الشفقة عليها، غير أن ريم، وكأنها شعرت بنظراته، سارعت بتدارك الموقف، وابتسامة متفائلة تنير وجهها:

"هناك من يرغب في وجودي بقربه."

قالتها بثقة طفولية ممزوجة بالحب، ثم أكملت بحماس دافئ:

"جدتي! إنها تعشقني، وتخبرني دائماً أنني هدية من الله. تخاف علي كثيرًا، ولهذا أجبرتني على ممارسة رياضة الدفاع عن النفس، حتى أتمكن من حماية نفسي وقت الخطر."

تسللت ابتسامة خفيفة إلى وجه حسن، مالت شفتاه بها برقة، ثم رفع كمه ببطء ليمسح دموعه المتبقية، وهمس وهو يعاود النظر إلى صفحة النهر الهادئة:

"أنت فاشلة في هذه اللعبة."

ضحكت ريم ضحكة خفيفة كسرت جمود اللحظة، وقالت بنبرة مرحة:

"هذا مؤكد! ولكنك صريح للغاية يا حسن، قد تجرحني بصراحتك تلك."

خرجت ضحكة خافتة من بين شفتيه. ثم، دون أن تنقطع ابتسامتها، مدت له يدها بعبوة عصير صغيرة وقالت:

"هيا، اشرب هذا.. حتى أطمئن عليك وأستطيع العودة إلى منزلي في الموعد الذي حددته جدتي."

تناول حسن العصير بطاعة هادئة، وأخذ يشربه ببطء، بينما أذنه تلتقط حديثها المرح، لكن عقله كان يسير في اتجاه آخر.. أعمق، وأبعد.

***


وقفت سالي أمام النافذة الزجاجية الكبيرة، تمسك بهاتفها بإحكام، تحاول للمرة الرابعة الاتصال بحسن، لكن لا مجيب. زفرت بحنق وقلق، ثم همّت أن تغلق الهاتف حين لفت انتباهها صوت محرك سيارة يتوقف أمام المستشفى. اقتربت بخطوات حذرة ودققت النظر من خلف الزجاج، لتقع عيناها على رجل مسن يخرج من السيارة، خطواته بطيئة ولكن ثابتة. تجمدت سالي لوهلة، ثم اتسعت عيناها بدهشة وهمست وهي تلتفت بسرعة إلى أنيسة:

"ست أنيسة.. الرجل العجوز وصل."

رفعت أنيسة رأسها من فوق الكتاب الذي كانت تقرأه، وقد بدا أنها كانت مستغرقة تمامًا في سطوره، لكنها ما إن سمعت نبرة سالي المرتبكة حتى وضعت الكتاب جانبًا برفق، ورفعت غطاءها، قائلة بنبرة متلهفة:

"تعالي.. ساعديني."

وقفت أنيسة متكئة على سالي، وتقدمت ببطء نحو النافذة. وقفت هناك، واستندت بيديها على حافة الزجاج، تنظر من خلفه. بدأت عيناها تضيّقان في تركيز شديد، تتفحّص وجه الرجل بعناية. مرّت لحظة صمت ثقيلة، ثم بدأت ملامحها تتبدل تدريجيًا، عقدت حاجبيها أولًا في حيرة، ثم ارتخيا قليلاً في تفكرٍ عميق، لتعلو وجهها علامات إدراك تدريجي. وفجأة، شحب وجهها تمامًا، وتجمدت نظراتها. ثم.. تلألأت عيناها بالدموع، وارتجف صوتها وهي تهمس، بالكاد يُسمع:

"أسعد؟"

كررت أنيسة بلهفة مشوبة بالذهول، كمن لا يصدق ما تراه عيناه:

"هل هو.. أسعد؟"

كان صوتها مزيجًا من رجاء ودهشة، وكأن الاسم وحده يحمل ذاكرة عمر بعيد.

نظرت سالي إليها بارتباك:

"هل تعرفينه؟"

لكن أنيسة لم تجب، لم تلتفت حتى، كانت مأسورة بالرجل، كأن الزمن توقف بها عند لحظة بعيدة، كانت شفتيها ترتجفان، وهي تهمس مجددًا بصوت بالكاد يُسمع، أشبه بنداء قديم خرج من أعماق القلب:

"أسعد..!"

ارتعش جسدها النحيل، وبدت وكأنها على وشك السقوط، لكنّها تشبثت بحافة النافذة بكل ما تبقى لها من قوة، عيناها لا تفارقان وجه الرجل في الأسفل، وصوتها يزداد خفوتًا وارتجافًا وهي تردد:

"أسعد.. هذا أسعد.. إنه هو.."

شعرت سالي وكأن شيئًا داخلها استجاب لذلك الاسم وبدا لها مألوفًا. حدقت في عيني أنيسة المتسعتين، تحاول أن تربط الخيوط ببعضها، حتى ومض الاسم في ذهنها فجأة، فتذكرت. أسعد.. شقيق الست أنيسة.

اتسعت عينا سالي وهي ترى أنيسة تنتفض فجأة بكل ما تبقى لها من قوة، والعاطفة تفيض من صوتها المرتجف:

"هذا أسعد يا سالي، هذا أسعد.. أنزلي بسرعة وأحضريه!"

كانت لهجتها ترجو وتأمر في آنٍ معًا، وكأن الزمن لا يحتمل التأخير. دفعت سالي برفق، ولكن بلهفة، فوقفت الشابة لحظة مذهولة، ثم أومأت برأسها بسرعة، وهرعت نحو الباب.

ركضت سالي في ممرات المستشفى، تتجاوز الممرضات، تلهث أنفاسها بين الخطوات، وكل ما يدوي في رأسها هو الاسم الذي تردد بصوت أنيسة:

"أسعد.. أسعد.."

لكن حين عبرت الباب الكبير للمستشفى وانطلقت إلى الشارع، كانت السيارة الرمادية التي رأتها من النافذة لم تعد هناك. نظرت يمينًا ويسارًا، وجالت بعينيها حولها، علّها تراه، ولكن الطريق كان خاليًا. وكأن كل شيء عاد إلى وضعه، والمشهد لم يكن إلا حلمًا.

اقتربت من حارس المنزل المقابل، كانت أنفاسها متقطعة حين سألته:

"الرجل العجوز الذي كان يقف هنا.. هل تعرف من هو؟"

نظر إليها الرجل بتأنٍ، ثم أشار بيده في اتجاه الشارع وقال:

"يأتي من وقت لآخر، يقف هناك، يحدّق بالمستشفى دقائق.. ثم يرحل دون أن يتحدث مع أحد."

صمت لحظة، ثم أضاف بنبرة متعجبة:

"يبدو أنه ينتظر أحداً."

ارتجفت سالي للحظة، وشعرت أن شيئًا كبيرًا ضاع لتوه، رفعت رأسها تتأمل نافذة غرفة أنيسة، حيث وقفت العجوز منذ لحظات تتشبث بالأمل. شعرت بحزن عميق يتسلل إلى قلبها، فقد كانت على بُعد لحظات فقط من أن تعيد إلى تلك المرأة لقاءً طال انتظاره، لكنها تأخرت، وتأخرت الفرصة معها.

صعدت سالي السلالم بخطى بطيئة، ساقاها تجرّانها جراً، وكأن الحزن يثقل كاهلها. لم تكن مستعدة لمواجهة أنيسة، ولم تكن تملك كلمات تواسي بها قلبًا قد يكون انكسر مجددًا. لكن للغرابة، حين فتحت باب الغرفة، لم تجد امرأة منهارة تبكي، بل وجدت ظهرًا نحيفًا محنيًا، يجلس على حافة السرير في سكون تام.



توقفت سالي عند العتبة، تتأمل المرأة بصمت، وفي قلبها رغبة في أن تختفي تلك اللحظة. مرّت دقيقة ثقيلة، ثم جاء صوت أنيسة واهنًا، كأنه صادر من قلب أنهكه الانتظار:

"رحل؟"

أجابت سالي بصوت مكسور، بالكاد خرج من بين شفتيها:

"عفواً.. لم ألحقه."

أومأت أنيسة برأسها ببطء، وارتسمت على وجهها ابتسامة حزينة، بعينين تلمع فيهما دموع صامتة:

"لا بأس، يا ابنتي.. ربما كنت مخطئة.. لا يعقل أن يكون هو أسعد."

اقتربت سالي قليلاً، وقالت بلطف:

"وربما يكون هو، يا ست أنيسة.. من يدري؟"

هزت أنيسة رأسها من جديد، وهمست بصوت مبحوح، وكأنها تخاطب نفسها أكثر مما تخاطب سالي:

"مستحيل.. أعتقد أنه.. توهّم. خُيّل لي أنه هو.."

ثم أغلقت عينيها للحظة، وبدت كمن يحاول إقناع قلبه بما لا يؤمن به. ابتسامتها بقيت على وجهها، ولكنها كانت ابتسامة تحمل حزناً، وانكساراً، وأوجاعاً، ابتسامة من يعرف أن الزمن لا يرحم.

***


حين دخل خالد الغرفة، تسلل إليه شعور بالثقل والحزن في المكان. لمح من أول وهلة ملامح أنيسة الشاحبة، وقد استلقت على سريرها بوهن، بينما جلست سالي على مقربة منها، تغمر عينيها نظرة قلقة لم تستطع إخفاءها.

ألقى خالد تحية سريعة ونظر بينهما متسائلاً بعينيه قبل أن ينطق، لكن الردود جاءت باهتة، خالية من الروح، وكأن كلاً منهما يحاول إخفاء ما حدث. شعر بأن وراء هذا الصمت حدث مهم، لكنه لم يُلح، واكتفى بالصمت حتى خرجا من الغرفة.

في السيارة، وبينما يداه تمسكان بالمقود ونظره يتنقل بين الطريق والمرايا، قطعت سالي الصمت بصوت خافت، وسردت عليه ما حدث مع أنيسة والرجل العجوز الذي ظهر ثم اختفى. كانت كلماتها مشوبة بالندم وكأنها تلوم نفسها على ضياع تلك اللحظة الثمينة. لكن خالد، بعكس المتوقع، لم يُظهر أي اندهاش. ظل صامتًا لثوانٍ، قبل أن يقول بهدوء دون أن يغير نبرة صوته:

"هذا بالفعل شقيقها، عم أسعد."

تسمرت سالي في مكانها، استدارت نحوه بعيون متسعة:

"شقيقها؟ هل كنت تعلم؟"

هز رأسه بالإيجاب، بينما عيناه لا تزالان مركزتين على الطريق، وكأنه يتحدث عن أمر يعرفه جيداً:

"نعم، أنا من تواصل معه وأخبرته بمرضها."

ازداد الغموض في عيني سالي، وسألت بقلق واضح:

"ولكن لماذا لا يتواصل معها؟ إنه يأتي كل يوم يتأمل المستشفى ويرحل.. وكأنه يخاف أن يقترب."

رمقها خالد بنظرة جانبية سريعة، قبل أن يعود بعينيه إلى الطريق مجددًا، ثم تنهد ببطء، وقال بصوت هادئ يحمل ظلًا من الحزن:

"لأنه يظن أنها لا تريد رؤيته."

اتسعت عينا سالي بدهشة ممزوجة بالألم، فتمتمت:

"لا تريد؟ كيف؟ لقد كانت ستنهار من الشوق عندما رأته من النافذة".

هز خالد رأسه وهو يقبض على عجلة القيادة بقوة، وأجاب:

"القصة بينهما قديمة ومعقدة يا دكتورة.. انفصلا منذ سنوات طويلة بسبب خلاف عائلي مؤلم، وكل منهما ظن أن الآخر قد اختار أن يبتعد بإرادته. ماما، رغم كل ما تحمله في قلبها من حنين، لم تحاول الوصول إليه.. وعم أسعد، رغم كل الحب، لم يجرؤ على الاقتراب خشية أن يُرفض."

سكت للحظة، ثم أضاف بنبرة خافتة:

"حاولت إقناعه بزيارتها، لكنه يكتفي بالقدوم كل يوم.. فقط ليتأكد أنها ما زالت على قيد الحياة".

كانت سالي تتابع حديثه بذهول، ثم همست:

"ولكن.. الآن؟ ألا يمكن إصلاح الأمر؟"

تنهد خالد بصوت خافت، ثم قال بصوت يحمل صدقاً هادئاً:

"ربما.. ولكن من الصعب نسيان ما حدث في الماضي."

كان الضوء الخافت للسيارة ينعكس على ملامحه الجادة، بينما ظلت يده قابضة على المقود بثبات:

"من السهل أن يسامح الإنسان غيره، ولكن من الصعب أن يسامح نفسه على تصرفاته الحمقاء."

صمت قليلاً، وعيناه تتابعان الطريق، ثم أردف، بنبرة خافتة فيها شيء من المرارة:

"وهذا ما يشعر به كلاهما، ويقف حاجزاً بين علاقتهما.. كلاهما يشعران بالذنب."

رمقت سالي وجهه، ثم نظر إليها للحظة، وأضاف:

"الأمور القابعة في القلب لعقود لا تُحل بسهولة.. تحتاج إلى شجاعة من الطرفين."

شعرت سالي بأن دقات قلبها تتسارع، وكأن قلبها استيقظ فجأة على وقع تلك الكلمات الأخيرة، كانت الجملة تتردد داخلها كصدى صوت، أرادت أن تقول شيئًا، أن تسأل، أن تفتح نافذة صغيرة على ما تشعر به، لكنها تراجعت. واكتفت بالنظر إلى خالد بصمت، متأملة كيف يستطيع أن يكون بهذا العمق وهذه القوة، وهو أيضاً يحمل أوجاعه دون أن يشتكي.

وقف خالد أمام بوابة المنزل، تفقد ملامح سالي التي بدت شاحبة بعض الشيء. وقبل أن تفتح باب السيارة لتنزل، التفت إليها وقال بصوتٍ خافت يشوبه القلق:

"لو عاد حسن، أرجوكِ طمئنيني.. أحاول الاتصال به منذ الصباح ولكنه لا يجيب."

أومأت سالي برأسها بصمت، ثم غادرت السيارة بخطى بطيئة. انتظرها خالد حتى رأى ظلها يختفي داخل المنزل، ثم أدار محرك السيارة وغادر. لكن ما إن أُغلِقت البوابة خلفها، حتى شعرت سالي بانقباضٍ شديد في صدرها، كما لو أن شيئًا بداخلها كان يصرخ: لا تنتظري!

استدارت فجأة، خرجت من المنزل بلهفة. كان القلق في عينيها واضحًا، والليل قد بدأ يبتلع ملامح الشوارع. حملت هاتفها وبدأت في الاتصال بحسن، مرارًا وتكرارًا، ولكن الهاتف كان مغلقًا.

سارت في الطرقات كمن يبحث عن إبرة في كومة قش. خطواتها سريعة، وعيناها تجولان بين الوجوه، تقفز من وجه إلى آخر، تبحث عن ملامح مألوفة. والجملة التي قالها خالد لا تزال تتردد داخلها، ترنّ بوقع ثقيل:

"الأمور القابعة في القلب لا تُحل بسهولة.. تحتاج إلى شجاعة من الطرفين."

وفي لحظة، بينما كانت تستدير في أحد الشوارع، شعرت بشيء يشدّ نظرها. وجه مألوف من بعيد.. كان حسن.

كان يسير بوجه خامل، نظراته شاردة، وكتفاه منحنيتان بثقل الهم. لم يلحظها في البداية، لكن عينيه التقطتاها بعد لحظة، وفور أن رأى سالي، تجمّد للحظة قصيرة، قبل أن يستدير بسرعة ويبتعد بخطى متسارعة. فصاحت سالي عبر الزحام، غير عابئة بنظرات المارة المستغربة:

"حسن!"

أدار البعض رؤوسهم نحوها، لكنّها تجاهلتهم تمامًا. وقدماها تهرولان خلفه:

"حسن! توقف وتعال هنا!"

لكن حسن كان يسرع بخطاه، وكلما رفعت سالي سرعتها، سبقها هو بخطوة.. بخطوتين.. بثلاث. ركضت، وثقلت أنفاسها. ورغم الغضب والقلق اللذين اجتاحاها، صرخت من خلفه بصوتٍ قلق:

"حسن! توقف!"

لكن الفتى لم يلتفت، بل زاد من سرعته وصاح بصوتٍ مخنوق:

"لا، لن أتوقف.. ارحلي."

كانت خطواتها تسرع خلفه، وهي تشعر بالألم في كاحلها الذي التوي منذ ذلك اليوم، ولكنها مع ذلك نادت بإصرار وهي تلهث:

"لن أرحل من غيرك.. توقف وتعال هنا!"

أخذ الفتى ينظر حوله كمن يبحث عن مهرب، ولكن الزحام من حوله والارتباك في داخله جعله يتباطأ للحظة، وكانت تلك اللحظة كافية لسالي كي تلحق به. مدت يدها وشعرت بأطراف قميصه تحت قبضتها. شدّته بقوة متوسلة، وصوت أنفاسها المتقطعة يكشف عن الجهد الكبير الذي بذلته للحاق به، ثم همست وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة، وفي عينيها مزيج من الغضب والانتصار، يتلألأ فيهما التعب:

"أمسكت بك."

انتفض حسن في محاولة يائسة ليفلت من قبضتها، لكن يدها كانت مشدودة إليه بإصرار. نظرت إليه بابتسامة متحدية، وقالت بنبرة يغلفها الفخر:

"ربما تكون ماهرًا في الملاكمة.. لكني كنت العدّاءة الأولى في مدرستي."

استكان الفتى أخيرًا، وانخفض صوته وكأنه يُسلم للأمر الواقع:

"لا أريد الحديث في شيء."

مالت سالي برأسها، وقد ارتسمت على ملامحها حيرة دافئة، وقالت بنبرة هادئة تخلو من الضغط:

"ومن قال إنني أريد التحدث؟ أنا فقط أريد الاطمئنان عليك.. ولست وحدي، خالد، وأنيسة، وإخوتك.. جميعنا قلقون."

زفر حسن بضيق، وانفلتت منه جملة اعتراضية دون أن ينظر إليها:

"لست صغيرًا حتى تقلقوا علي."

ابتسمت سالي بهدوء وقالت وهي تمشي بجانبه:

"بالطبع.. ولكننا نحتاج أن نعلم أين أنت، فقط هذا كل ما في الأمر."

ظل يسير بجوارها بصمت، ثم لمحت عيناه مشيتها المتعرجة، ولاحظ كيف تسحب خطواتها على الرصيف ببطء، فتسلل الذنب إلى صدره وسأل، وقد غلف صوته شيء من التردد:

"لماذا تعرجين؟"

نظرت إليه بدهشة مصطنعة وقالت:

"وكأنك لا تعلم!"

أشاح بوجهه بعناد، وقال وهو يحاول التهرب من تأنيب الضمير:

"لأنك تتدخلين دائمًا في أمور لا تعنيك.. كالآن مثلًا."

تأملته سالي بنظرة طويلة، ثم انخفضت عيناها بحزن، وهمست:

"لا تكرر هذه الجملة يا حسن.. أنت تجرحني. أنا فقط.. أحبكم جميعًا."

شعر حسن بأن حديثه القاسي وعفويته أربكت المشهد وأثقلت الهواء بينهما، فظل صامتًا للحظة، ثم قال بصوت خافت خجول:

"أنا لم أقصد جرحك.. لا عندما دفعتك، ولا الآن."

رفعت سالي نظرها إليه، وتأملت ملامحه التي ارتبكت خجلًا، كانت نظراته مرتبكة، كمن يبحث عن شيء ليتمسك به، ثم أضاف بصوت بالكاد يُسمع:

"أنا أحبك.. كأنك.. أخت.."

تفاجئت سالي في البداية وهي تحاول الاستيعاب، ثم ابتسمت بخبث لطيف يخفي وراءه فخرًا لا يوصف، وسألته بمكر:

"وكأني ماذا؟"

ظل الفتى صامتًا، يبتلع الحروف، فعاجلته بنقرة في كوعه قائلة بإلحاح:

"وكأني ماذا يا حسن؟"

رفع عينيه في استسلام وقال على استحياء:

"وكأنك أختي."

اتسعت عينا سالي، وابتسمت من أعماق قلبها، وقالت بفخر هادئ:

"حسنًا.. هذا شرف لي، حقًا."

سارت الدقائق بعد ذلك بصمت عميق، أرسلت فيهم رسالة سريعة إلى خالد تطمئنه، ثم نظرت إلى حسن الذي كان يسير بجانبها بشرود، كأنه غارق في دوامة من الأفكار.

قالت بنبرة مرحة:

"لم أتوقع أبدًا أن نتصادف في مثل هذا الشارع، ولكن.. هذا جيد، فاختك اليوم ستعزمك على وجبة عشاء.. هيا، تعال معي."

أمسكته من كفه وجذبته معها برقة، كأنها تجر طفلًا صغيرًا، وبينما تمشي، شعرت بعينيها تدمعان بصمت، ودموعها تنساب دون أن تحاول كبحها. كان في قلبها خليط غامض من المشاعر لا تجد له اسمًا.. حزن وحنان وارتياح، والسعادة كانت في الزاوية الأعمق من قلبها، فقد اعترف حسن بحبه لها، وقالها بصدق طفل: 'أحبك كأختي.' ومثل هذا الاعتراف، من فتى عنيد مثله، لا يُنتزع بسهولة. مسحت دموعها بطرف كمها، وقلبها يزداد يقينًا.. أن هذا الولد يستحق من يحبّه، ويحتاج من يحتمل وجعه.

رغم أن قلبها كان مليئًا بالكلام، لم تحاول سالي أن تفتح الموضوع الشائك مع حسن، ذلك الموضوع الذي أثقل قلبه مؤخراً. كانت تعرف أن لكل جرح وقتًا ليُروى، ولكل قلبٍ لحظته الخاصة حين يقرر أن يتكلم. لذا، اكتفت بكلماتها الدافئة، ونبرة صوتها التي حملت من الطمأنينة ما يكفي لأن يشعر الفتى بأن هناك من يقف بجانبه دون أن يطلب شيئًا في المقابل.

كانا ينتاولان الطعام بوتيرة هادئة، تراقب ملامحه من طرف عينها، وتحترم حاجته للصمت، تاركة له مساحة كي يلتقط أنفاسه، دون إلحاح أو أسئلة. أرادت فقط أن يشعر بالأمان، أن يعرف أن الباب إلى الحديث مفتوح متى شاء.

وعندما وصلا إلى المنزل، وقف حسن للحظة عند العتبة، تنفس بعمق، ثم دخل. في الداخل، كانت منى واقفة قرب الدرج، تنتظره. التقت عيونهما لثانية واحدة فقط، لم ينطق أي منهما بكلمة، لم يتغير شيء في ملامحه، لكنه أيضاً لم يُظهر نفورًا. ثم، وبهدوء غريب، صعد إلى غرفته.

نظرت منى إلى سالي، وكانت تلك النظرة وحدها كافية لتقول كل شيء. شكر صامت، وامتنان عميق، اختلطا بعينين مرهقتين من السهر والقلق. ثم استدارت ومضت بخطوات متثاقلة إلى غرفتها، كأنها تحمل فوق كتفيها همًّا خفيفًا الآن بعدما عاد، فقط عاد.

لم تكن تحتاج إلى أكثر من وجوده حولها. لم يكن ضرورياً أن يتكلما أو أن تُحل جميع العقد في لحظة. كان مجرد شعورها بأنه قريب، وأن المسافة بينهما تقل، كافيًا ليمنحها قليلًا من السكينة التي غابت طويلًا.

***


صباح اليوم التالي، كان صباح الجمعة، وقد فقد هذا اليوم شيئًا من حيويته التي كانت تميّزه في السابق. لم يعد يحمل نكهة اللمّات العائلية منذ أن انتقلت أنيسة إلى المستشفى. أصبح الجمعة مجرد يوم آخر، عادي، وربما بلا دفء. لكن الأطفال لم يكونوا على علم بما ينتظرهم في هذا اليوم العادي. وبينما كانوا مجتمعين على مائدة الغداء، دوّى صوت فتح بوابة المنزل.

نهضت رؤوسهم على الفور، وتوجهت الأنظار إلى الممر، ظنًّا منهم أن خالد قد عاد، ولكن ما حدث كان أكبر من كل التوقعات.
فجأة، ظهرت أنيسة في مدخل البيت، تستند برفق على ذراع خالد، ومحمود يجر كرسٍ متحرك يجلس عليه أحمد. وعلى وجه أنيسة تلك الابتسامة الهادئة التي اشتاقوا إليها كثيرًا. ابتسامة لم تخفت رغم المرض، ابتسامة بدت وكأنها تشع نورًا في المكان.

انقطعت أنفاس الأطفال للحظة، ثم صرخوا فرحًا واندفعوا نحوها، يحيطون بها من كل اتجاه. لم تكن وحدها، بل جاءت محمّلة بالهدايا والبالونات، وكانت من بينها هدية خاصة لماريا التي أتمّت عامها الأول.

وفي لحظة خاطفة، تحوّل البيت إلى مكان يعج بالبهجة. زُينت قاعة النافورة بالزينة والبالونات الملونة، وأقيم أول عيد ميلاد لماريا، التي تألقت بثوبها الوردي الصغير كنجمة المنزل في ذلك اليوم.

لم يكن أحد يعلم بالمفاجأة، حتى سالي نفسها، التي ظلت تراقب المشهد بعينين دامعتين من الفرح. كان الجميع سعيدًا، وضحكاتهم تملأ الأرجاء، وكأن لا شيء حدث. كانت أنيسة في وسطهم، يقبّلونها ويحتضنونها، وهي تضحك من أعماق قلبها، وكأن الحياة عادت لتمنحها مهلة جميلة، فقط ليومٍ كهذا. لكن تلك اللحظات السعيدة لم تدم طويلًا.

في خضم الضحك والأغاني، دخلت إسراء إلى القاعة بهدوء، وانحنت ناحية سالي وهمست في أذنها:

"هناك زائر للدكتورة."

رفعت سالي حاجبيها بفضول، فتابعت إسراء:

"إنه والدكِ يا دكتورة."

تجمّدت سالي في مكانها. دقّ قلبها بعنف، وارتبكت أنفاسها. سقطت الكلمات من بين شفتيها دون وعي:

"أبي؟"

سكت الجميع، والتفتت إليهم بنظرات متوترة، تحاول أن تستعيد رباطة جأشها، لكنها لم تجدها. ارتفعت نظرات الأسئلة من وجوه الحاضرين، ولكنها لم تقل شيئًا، فقط تنفست بعمق واتجهت نحو الباب. كانت خطواتها ثقيلة، وكأنها تسير نحو لحظة لم تكن مستعدة لها بعد.

دخلت سالي غرفة الاستقبال بخطوات مترددة، وقلبها يطرق صدرها بارتباك لا يمكن السيطرة عليه. كان الجو داخل الغرفة ساكنًا، ورأته يجلس هناك على كرسي، منحني الرأس، تلامس أطراف أصابعه جبهته بتفكير عميق، وملامحه مرهقة. تمتمت سالي بحيرة، وصوتها بالكاد خرج من بين شفتيها:

"بابا؟"

انتفض الرجل فور سماع الصوت، ورفع رأسه بسرعة، وعيناه تلمعان بدهشة ولهفة. وللحظة بدت ملامحه وكأنها استعادت الحياة بعد غياب طويل. وقف واقفًا كأنما لا يصدق ما يراه أمامه، ثم قال بصوت مرتجف:

"سالي.. ابنتي!"

ارتسمت في عينيه دموع غير مرئية، لكنها لم تسقط، وكان ينظر إليها كما ينظر الغريق إلى اليابسة، همس الرجل:

"كيف حالك يا ابنتي؟".

نهاية الفصل الحادي والأربعون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادمبإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

أهلاً أعزائي القراء..

يارب تكون الفصول جديدة عجباكموشكراً على صبركم.

كاتبتكم ءَالَآء

***

اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.