الثلاثاء، 14 يناير 2025

رواية المنزل: الفصل الثالث والثلاثون: حكاية أنيسة الجزء الثالث - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الثالث والثلاثون

المزيكا انهاردة آخر كوبيله من أغنية فكروني. "فكروني ازاي هو انا نسيتك" ألحان محمد عبدالوهاب وكلمات عبدالوهاب أحمد. أكتر كوبليه حسيته مناسب مع الفصل ده.

وكأن النكسة كانت سحابة مظلمة سبحت فوق رؤس الناس جميعاً، كابوس يطاردنا في أوقات الصحوة والغفوة. كل العالم كان يتحدث عن الانتصار الكاسح لإسرائيل والهزيمة الساحقة للعرب. الحياة تعطلت تماماً وتنحى جمال عبد  الناصر، مما أدى إلى خروج ملايين المصريين في مظاهرات حاشدة تطالبه بالعدول عن قراره والاستمرار في القيادة. استجاب عبد الناصر لهذه المطالب، وتراجع عن قرار التنحي في اليوم التالي. وبعد التراجع عن قرار التنحي، اتخذ عبد الناصر خطوات لإعادة بناء القوات المسلحة والاستعداد لاستعادة الأراضي المحتلة. بدأت مصر في إعادة تنظيم الجيش وتحديث تسليحه، مما مهد الطريق لحرب الاستنزاف التي استمرت فيما بعد حتى عام 1970.

ومن المثير للعجب أنه على الرغم مرارة الهزيمة الساحقة، لم يستسلم المصريون ليأس. فقد استمروا في دعم عبد الناصر، معتبرين إياه رمزًا للصمود والتحدي. ساهمت خطاباته وقراراته في تعزيز الروح الوطنية، وتحفيز المجتمع على المشاركة في جهود إعادة بناء القوات المسلحة ودعموا مبادرات الدولة لتعزيز القدرات الدفاعية. هذا التكاتف الشعبي كان له دور محوري في التحضير لحرب الاستنزاف وحرب أكتوبر.

مال رأسها وهي تتذكر تلك الأحداث بمشاعر متباينة على صفحة وجهها المرهق، وقالت:

"أما أنا فكنت أعيش في حالة صدمة استمرت شهوراً طويلة، وصلت بي إلى حد جعل جدي يشفق علي ويحاول مواساتي بكل وسيلة ممكنة. عاد جدي الذي أحببته، طيباً وحنوناً كما كان، ولكن بشرط، وهو اختفاء كمال تماماً من حياتي.

ورغم ذلك، لم يكن الحزن يخفف من قسوة المجهول الذي ينهشني. ما كان يمزقني أكثر هو جهلي بمصير كمال؛ فلا اسمه ورد في قوائم الشهداء الذين ارتقوا في النكسة، ولا قريبه الذي أعطاني رقماً للتواصل معه حمل إلي أي خبر يطمئنني. حتى عائلته نفسها ظلت بلا خبر عن مصيره، تتمسك ببصيص أمل أنه قد يكون أسيراً لدى العدو.

لكن مجرد التفكير في فكرة الأسر كان يعذبني. فالعدو الذي نقابله ليس ممن يعرفون معاني الإنسانية، وقد سمعت قصصاً مروعة عن الأسرى وما يلاقونه في معسكرات العدو. كمال الذي كان رمز القوة والكرامة في نظري، كيف يمكن أن يحتمل ذلاً كهذا؟

كانت الحياة من حولي قد فقدت كل معانيها. كل شيء بدا غريباً ومظلماً، وكأن ألوان العالم قد بهتت تماماً. لم يعد هناك ما يجذبني أو يبعث في داخلي أي شعور بالفرح. فبدون كمال، لم يكن هناك شيء في حياتي يمكن أن يوصف بأنه حلو".

شعرت سالي، وكأن كلمات أنيسة تعكس جزءاً من مشاعرها الداخلية، تلك المشاعر التي حاولت دائماً كتمانها. رغم أن أسباب ألم كل منهما كانت مختلفة تماماً، إلا أن الحزن الذي في عيني أنيسة وكلماتها المشبعة باليأس جعلا سالي تشعر وكأنهما تتشاركان نفس النظرة إلى الدنيا؛ نظرة يغلبها الوجع وتغيب عنها ألوان الفرح. طردت تلك الأفكار، وأخذت تستمع إلى باقي القصة على لسان بطلتها.

على مدار الشهور التالية، كانت الأخبار تتمحور حول الأسرى المصريين والجهود المكثفة التي تبذلها الحكومة المصرية لاستعادتهم. إلى أن جاء اليوم الذي أعلنت فيه عن نجاح عملية تبادل الأسرى بين مصر وإسرائيل، حيث أُطلق سراح الآلاف من الأسرى المصريين، من بينهم ضباط، وجنود، ومدنيون. كان الخبر يحمل معه بصيصًا من الأمل وفرحةً كبيرة، إلا أن تلك الفرحة سرعان ما تلاشت أمام الصدمة التي تلقيتها.

عندما تواصلت مع قريب كمال لأطمئن عليه، أخبرني بصوت خافت متردد أنه لا يملك أي أخبار عنه، وأن اسمه لم يرد ضمن العائدين. ورغم محاولاتي المتكررة للتأكد، وإصراري على الاتصال به مرتين يوميًا، لم تتغير إجابته أبدًا. كانت كلماته ذاتها تتكرر، ثقيلة على مسامعي:

"أنا آسف، آنسة أنيسة".

كانت تلك صدمة أخرى قضت على ما كان لدي من أمل حول نجاته. لقد مات كمال بالفعل في النكسة، وتركني خلفه لأعيش ألم الفراق. هكذا كان آخر سطر تم نقشه في قصتنا الصغيرة التي رسمنها لها يوماً ما توقعات لمستقبل مشرق سعيد. 

ومرت الحياة ثقيلة، تُجرني معها رغم الألم ورغماً عني، وأنا أعيش كإنسانة بلا روح، أساير الأيام فقط دون رغبة أو شغف. أكملت دراستي، وتخرجت بشهادة البكالوريوس في الآداب قسم اللغة الفرنسية. وساعدني شقيقي أسعد في العثور على وظيفة كمعلمة للغة الفرنسية في إحدى مدارس البنات. لكن لم تكن الأمور سهلة؛ فقد اعترض جدي بشدة على فكرة عملي، متمسكًا بعناده الذي اعتدت عليه، ورافضًا بشراسة أن أعمل في مدرسة. إلا أن أخي وقف في وجه جدي، وتحدث معه بكل قوة، مدافعًا عن حقي في العمل. وبعد محاولات عدة وصدامات لم تخلُ من التوتر، رضخ جدي أخيرًا لإصراره، وسمح لي بتولي الوظيفة، ولو على مضض.

كنت أجد العزاء في وظيفتي، بين الفتيات الصغيرات اللطيفات. كانت لحظاتي معهن هي الأكثر إشراقًا في يومي، حيث كنت أعيش بينهن كما لو كنت طفلة، أشاركهن أحلامهن وأفكارهن وأتعلم من نشاطاتهن بكل شغف. كان حبي للأطفال ينمو بداخلي أكثر مع كل يوم عمل، وأعتقد أن تلك الفترة كانت بداية ارتباطي العميق بهم.

لكن حياتي بعد المدرسة كانت فارغة، كما لو أنني كنت أعيش بدون روح. كنت أنهي دوامي المدرسي يومًا بعد يوم، وفي كل مساء، كنت أذهب لزيارة شاطئ البحر، سواء في الصيف أو الشتاء. كان البحر بالنسبة لي بمثابة ضريح لحبيبي كمال، كنت أذهب إليه لأغسل حزني وأبحث عن الراحة في أمواجه.

مع مرور الأيام، كنت أعيش حياتي بشكل طبيعي أمام عائلتي وفي عملي، حتى أن من حولي بدأوا يعتقدون أنني قد نسيت أمر كمال. لكن في بعض الأوقات، كنت أختلي بنفسي وأغرق في لحظات من الحزن والضعف، حيث كان جرحي عميقًا في داخلي، وما زال ينزف، يتركني هشّة وضعيفة.

لكنني كنت أخرج من تلك اللحظات المنفردة بابتسامة عادية، وأعيش حياة معتدلة، أتحدث باعتدال، أضحك باعتدال، وأتفاعل مع من حولي باعتدال، اعتدال بعيد كل البعد عن الصدق أو العاطفة الحقيقية. كانت هذه محاولاتي لتخطي ما بداخلي، حتى وإن كانت تلك التفاعلات غير حقيقية.

كان جدي وجدتي وشقيقي يحاولون إقناعي بالموافقة على الزواج، خوفًا من أن أمضي حياتي بمفردي. في البداية، حاولت بصدق، ولكنني فشلت فشلًا ذريعًا. لم أتمكن من رؤية أي شخص فيهم ككمال، وكان ذلك خطأي. فحبي لكمال كان يعميني عن رؤية الأشخاص الآخرين بوضوح، ويمنعني من إدراك حقيقتهم. ومع مرور الوقت، بدأت أرفضهم بإصرار، كنت أنتظره، احساس داخلي يدفعني لأن أنتظر عودة حبيبي الميت، الذي لم أكن متأكدة من مصيره حتى الآن.

مرت 3 سنين منذ النكسة، ومن ثم جاء الحدث المفاجئ بوفاة جدتي العزيزة، الحنونة التي كانت سندي في هذه الحياة. كانت تلك صدمة أخرى تركتني في حالة من الفراغ العاطفي، فقد كانت جدتي هي دعمي الأول في الحياة، وها هي رحلت بعيداً، وانضمت إلى والديّ وكمال.

سالت دموع أنيسة بحرارة على وجنتيها، وبدأت تتنهد بصعوبة، مستذكرة أيام الألم التي مرت بها. نهضت سالي من على الأريكة، ومسحت على ظهر المرأة برقة وحنان، في لفتة مليئة بالمواساة والصدق. انتظرت حتى أمسكت أنيسة دموعها بمنديلها، ثم ألقت على سالي نظرة ممتنة وقالت:

"أشكرك يا ابنتي، لا تقلقي، أريد أن أكمل".

وفي أحد أيام شهر آذار 'مارس' من عام 1971، حدث ما لم أتخيله أبداً منذ رحيل كمال

وفي أحد أيام شهر آذار 'مارس' من عام 1971، حدث ما لم أتخيله أبداً منذ رحيل كمال. بعد شهرين من وفاة جدتي، في بداية نوة الإسكندرية، انتهيت من عملي في المدرسة وخرجت في طريقي إلى الشاطئ. كنت ما زلت أرتدي الأسود حداداً على جدتي، وسرت بخمول بينما الرياح الشديدة تضرب وجهي. ورغم وجود بعض الأشخاص من حولي، شعرت وكأنني مستهدفة. لم أستطع تفسير شعوري، ولكنني تابعت السير دون أن ألتفت. وصلت إلى الشاطئ ووقفت أمامه أتأمله، وفي تلك اللحظة كان جزء من عقلي مشغولاً بالتساؤل عن هوية الشخص الذي كان يسير خلفي. بعد دقيقة، أخذت نفساً عميقاً، ثم التفت.

لم أكن أدرك كم من الوقت مر وأنا أركز في هذا المشهد الغريب. بدا لي وكأن الزمن توقف في تلك اللحظة. لم أصدق عيني، فالشخص الذي كان يقف أمامي كان يشبه كمال تماماً، بل كان هو كمال. تأملته بذهول، وكانت هيئته قد تغيرت، أصبح أنحف، وشعره الأسود الذي كان يلمع تحت ضوء الشمس، وبشرته السمراء التي كنت أحبها، وعيناه الداكنتان المليئتان بالرموش الكثيفة التي بدا عليهما شيء من التعب والفراغ.

كان هذا هو كمال.. ولكن كيف؟ كيف يحدث هذا؟ هل كان حلمًا أو هل اختلطت الأحلام بالواقع؟! لم أستطع استيعاب ما كنت أراه، ولكن لم أستفق من صدمتي إلا عندما اخترق صوته أذني، ممزوجاً مع هواء البحر العاصف:

"لقد مضى وقت طويل.. كيف حالكِ يا أنيسة؟"

كان هذا صوته الأجش، لكن مع انخفاضٍ واضح فيه، وصدى حزن عميق بدا في نبراته.

ثلاث سنوات، ثلاث سنوات مرت منذ آخر مرة رأيته فيها، ثلاث سنوات وأنا أعيش على أمل أن يعود إلى الحياة وأراه مجددًا، حتى ولو في أحلامي. ثلاث سنوات منذ سمعت صوته الجميل، ثلاث سنوات منذ انفصلنا، والآن، ونحن على بعد عدة أمتار فقط، بعد أن كانت تفصل بيننا بلدان وعوالم كما كنت أظن سابقًا. لكنه كان كمال. نعم، كمال هو من كان يقف أمامي، وليس شخصًا يشبهه.

حاولت أن أتكلم، لكن الكلمات خانتني، فكنت في حالة صدمة شديدة جعلتني عاجزة عن النطق.

ابتسم ابتسامة صافية، ثم قال: "هذا أنا، يا أنيسة. هل تعلمين كم افتقدتكِ؟".

وفي اللحظة نفسها، تدفقت دموعي على وجنتي، ولم أشعر بها إلا وأنا أرتمي بين ذراعيه، وضاغطة وجهي على كتفه، صارخة:

"كمال!".

كانت الكلمة الوحيدة التي خرجت من فمي، وأنا في حالة ذهول تام، لا أصدق ما يحدث. لم أكن أستطيع أن أستوعب كيف أنني هنا، في هذا المكان، مع هذا الشخص الذي كنت أظن أنني فقدته للأبد. كان بيننا الكثير من الزمن، من الألم، ومن الانتظار الذي لم ينتهِ، والآن هو أمامي، بين ذراعيّ.

شعرت بدفء جسده وهو يحتويني، وبطء دموعي التي كانت تتساقط على كتفه. كان شعوراً غريباً ومؤلماً في نفس الوقت، فرح وحزن مختلطان في قلبي، كأنني وجدت شيئاً فقدته طويلاً، ولكنني أيضاً كنت خائفة أن يكون كل هذا مجرد حلم، أو أنني سأستيقظ منه في أي لحظة.

تسللت كلماته إلى أذنيّ وهو يقول بهدوء:

"حاولت، لكني لم أتمكن من العيش بدونك. ظننت أنك قد نسيتيني".

تمسكت به بقوة دون أجيب، فلم تكن لدي كلمات تصف حجم ما شعرت به في ذلك الوقت، كان كل الكلام لا يساوي شيئاً أمام تلك الحظة التي تجلت بعودة كمال. وبعد لحظات طويلة تمسك به فيها به وكأنه طوق النجاة ابتعدت عنه قليلاً وأنا أقول بلهفة:

"كيف أنساك؟ لقد كنت معي في كل لحظة. أنا سعيدة لأنك بأمان، ماذا حدث؟ أين كنت؟ ولماذا غبت طوال تلك السنين؟ ثلاث سنوات هل تعلم كم كانت طويلة جداً؟".

كانت أسئلتي متلاحقة، متلهفة، أرددها بسرعة حتى لا أنساها. ولكن فجأة، توقفت. تأملته بعمق، محاولًا استيعاب التغيرات التي طرأت عليه. هذا لم يكن كمال الذي أحمله في ذاكرتي. فقد الكثير من وزنه، غارت عيناه وفقدت بريقهما، برزت عظام وجنتيه، وظهرت على جبهته تجاعيد لم تكن هناك من قبل. بدا وكأنه تجاوز الخمسين رغم أنه لم يبلغ الثلاثين بعد.

لاحظ تأملي العميق فيه، فأبعدني عنه برفق وهدوء أشبه بالموت، فتمتمت بتردد:

"كمال.. ماذا حدث لك؟".

ضيق عينيه قليلًا كأنه يحاول إخفاء شيء، ثم أجاب بصدق:

"أنيسة.. لقد اشتقت إليك".

اغرورقت عيناي بالدموع، وارتسمت على وجهي ابتسامة تعبّر عما يموج في قلبي من سعادة لرؤيته حيًا بعد كل هذا الغياب. قلت بصوت يملؤه الحنين:

"وأنا أيضًا يا عزيزي.. لا أصدق أنك أمامي الآن. لقد انتظرتك بشوق طوال تلك السنين".

أكملت بصدق:

"لقد عشت تلك السنين بين الأمل وفقدانه، وفي وسط هذا الشتات لم تهتز مشاعري تجاهك أبدًا. بل كانت تزداد بمرور الأيام... يزداد حبي واشتياقي لك".

ابتسم كمال بعاطفة، ثم وضع يده على شعري يمسحه برفق وكأنه يهدئ اضطرابي:

"أنت كما عهدتك دائمًا يا أنيسة.. ما زلتِ عاطفية ومخلصة".

ارتسمت ابتسامة خجولة على وجهي، بينما أخذ هو يتأمل ملابسي السوداء للحظة، ثم قال بصوت يحمل أسفًا:

"آسف لخسارتك.. البقاء لله".

نظرت إليه بحيرة قبل أن أسأله:

"هل تعلم أن جدتي توفيت؟".

أومأ برأسه وأجاب بهدوء:

"توفيت جدتك يوم وصولي إلى الإسكندرية. طوال تلك الأيام كنت أراقبك من بعيد".

تذكرت فجأة خسارتي الكبيرة، ودمعت عيناي مرة أخرى، وهمست بصوت مملوء بالألم:

"ولماذا لم تظهر أمامي خلال تلك المدة يا كمال؟".

كنت أتحدث وكأنني أعاتبه، وصوتي يحمل خليطًا من الحزن والغضب:

"لم أجرؤ أبدًا.. كنت خائفًا".

قالها كمال بصوت خافت، وكأن الكلمات تثقل عليه، فسألته بهمس حزين:

"لماذا؟ لقد كنت في حاجة إليك في مثل هذا الوقت".

وكأن كلماتي صدمته، فضمني إليه بعاطفة وقال بصدق:

"أنا آسف.. آسف".

مرت لحظات من الصمت، ثم أكمل:

"ربما تعذريني فيما بعد".

تشبثت بذراعه بينما نسير على شاطيء البحر. نظر كمال إلى أصابع يدي التي كانت تلامس ذراعه وسأل بنبرة منخفضة:

"لم تفكري بالزواج خلال تلك المدة؟".

أخفضت رأسي بحزن وأجبت بصوت خافت:

"حاول جدي أن يزوجني، ولكنِ لم أجرؤ على ذلك. كيف يمكنني أن أمنح مشاعر كهذه لرجل آخر؟ كل ما شعرت به معك كان.. لك أنت فقط".

رفعت عيني إليه، وارتسم الخجل على ملامحي مع لمسة من الشوق:

"إنها لك أنت.. وحدك".

وسرنا وتحدثنا كثيرًا في ذلك اليوم، كان معظم الحديث يدور حولي أنا، أو بالأحرى كان كمال يدفع الحوار نحوي كلما اقتربنا من الحديث عنه أو عن ظروف الحرب. لاحظت ذلك وتقبلته في البداية، لكن مع مرور الوقت لم أستطع مقاومة فضولي. كان السؤال الذي يحترق بداخلي يتفوق على صبري، فسألته بتردد:

"كمال.. ماذا حدث لك في النكسة؟".

تجمد كمال للحظة، وبدت ملامحه مضطربة وكأنه يبحث عن الكلمات المناسبة. لم يطل الأمر كثيرًا قبل أن تستقر تعابير وجهه، لكن الصمت الذي تلا سؤالي كان طويلًا جدًا، حتى بدأ يهمس أخيرًا بصوت بالكاد مسموع:

"لقد كنت في الأسر".

شعرت بأنفاسي تتقطع، لكنني حافظت على صمتي منتظرة أن يكمل، محاولةً أن أفهم عبء ما يحمله داخله.

"لقد أسرني العدو في النكسة.. بالتأكيد سمعتي الأخبار عن أسر الجنود..".

أكمل بعد لحظات:

"في ذلك اليوم كنت في الخطوط الأمامية، أقود فصيلتي منفذاً الأوامر المباشرة من القادة الأعلى.. شنّت إسرائيل هجومًا مفاجئًا، بدأ بضربات جوية مكثفة استهدفت القواعد الجوية المصرية. هذا الهجوم أدى إلى تدمير جزء كبير من سلاح الجو المصري وهو على الأرض، مما أفقد قواتنا القدرة على التصدي للهجوم الجوي الإسرائيلي".

تنهد كمال قبل أن يكمل، وكأنه يستدعي ذكريات غير مرغوب فيها:

"وعلى الأرض، تقدمت القوات الإسرائيلية بسرعة في سيناء، مستغلة عنصر المفاجأة والتفوق الجوي. كنا جميعاً نفتقر إلى معلومات دقيقة عن حجم الهجوم وطبيعته، وجدنا أنفسنا في مواجهة قوة معادية متفوقة ومجهزة بشكل أفضل. هذا الوضع أدى إلى ارتباك في صفوف قواتنا، خاصة مع غياب التنسيق والاتصالات".

أخفض كمال رأسه بانكسار وقال هماساً:

"حاولنا يا أنيسة.. حاولنا رغم هذه الظروف الصعبة، ولكن لم تفيد محاولتنا مع تدهور الأوضاع. صدرت أوامر بالانسحاب من سيناء دون تخطيط كافٍ، مما أدى إلى وقوع الجنود في كمائن إسرائيلية أثناء هذا الانسحاب، تم أسر أعداد كبيرة من الجنود المصريين.. وكنت أنا منهم".

أنهى حديثه بحسرة ممتزجة بحقد، قبضته تشتد بغيظ وكأنه يحاول قمع مشاعر غليان داخله، لكن فجأة ارتخت تعابيره. لأول مرة، رأيت كمال بهذا الانكسار وتلك الهزيمة. عيناه امتلأتا بالدموع كطفل صغير يحاول إخفاء ألمه. وضع كفه عليها كي لا أرى دموعه التي بدت غالية عليه.

تسمرت مكاني، وخرس لساني أمام خليط المشاعر المتأججة التي بدت وكأنها تسكن جسد كمال. ثم قال بصوت مختنق، يحمل وجع سنوات مضت:

"كان الموت أهون بكثير من أسر العدو يا أنيسة. كل لحظة كنت أُترك فيها وحدي مع أفكاري، كنت أتمنى لو أنني لم أعطهم ظهري وأنسحب كما جاءت الأوامر.. ما رأيته في الأسر كان مفزعًا وقاسيًا. القتل كان أرحم ما فعله جنود العدو بالأسرى".

نظرت إليه متوسلة، خائفة مما قد أسمعه، لكنه أكمل هامساً:

"كان كالكابوس.. كانوا يعدمون الجنود فجأة وفي أي وقت، بدم بارد وبأبشع الطرق. الجنود تعرضوا لإطلاق نار عشوائي، ورؤوسهم وُضعت تحت الأسلاك الشائكة".

ارتجف صوته وهو يكمل:

"أما الناجون، أو من لم يُكتب لهم الموت، فقد كانت أرواحهم تُكسر. إهانات جسدية ونفسية لا حدود لها".

صمت كمال للحظة، ثم أردف بصوت مملوء بالندم:

"لا أستطيع مسامحة نفسي على ضعفي.. لا أستطيع."

انفجرت في البكاء وقلت بتوسل:

"يكفي.. أرجوك، لا تكمل. لا أريد أن أسمع المزيد".

نظر إلي بعينين غارقتين في الحزن، وارتسمت على شفتيه ابتسامة واهنة تحمل مرارة الذكريات، ثم قال بنبرة هادئة:

"لا تقلقي، لن أكمل.. لكن أريدك أن تعرفي أمرًا واحدًا: لا تتخيلي أبدًا أنهم استطاعوا كسر روحي. ما يؤلمني حقًا ليس الأسر، بل ضعفي، وكوني نجوت بفضل الله دونًا عن قادتي وبعض أعضاء سريتي الذين غُدر بهم، هذا جعلني اشعر وكأنني لا شيء".

كانت كلماته ثقيلة، مشبعة بالألم، لكنها حملت أيضًا بقايا كبرياء روح لم تنكسر رغم الجراح:

"بعد خروجي من الأسر، طلبت من قائدي أن أعود فورًا لمهامي دون تأخير".

رفع كمال عينيه إلى السماء، وقال بحماس وثقة:

"هل تعلمين؟ نحن نتقدم يا أنيسة.. سنستعيد الأرض مهما كلفنا الأمر".

نظرت إليه بحيرة وسألته:

"ماذا تقصد؟".

خفض نظره إلي، وارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة تحمل بريق الأمل:

"ستفهمين بالتأكيد يومًا ما".

صمت للحظة، ثم أكمل وهو يتأملني بشوق واضح:

"أنيسة، لنتزوج. لنحاول مرة أخرى مع جدك، سننجح بالتأكيد".

تفاجأت بكلامه، وقلت بتردد:

"ولكن..".

أمسك يدي بإصرار ونظرات تحمل العزم:

"لأكثر من سنتين بعد خروجي من الاسر كنت في صراع داخلي. بين تركك وشأنك حتى تعيشي حياة هادئة، وألا أعود لأثير الفوضى في حياتك مرة أخرى، وبين شوقي لك ورغبتي في العودة لأخذك. عندما قررت المجيء، كنت قد وضعت في اعتباري أنك ربما تكونين قد تزوجت من رجل طيب وأنجبتِ طفلًا أو أكثر. لكني لم أستطع منع نفسي من الاطمئنان عليك، خاصة عندما توقفت عن التواصل مع قريبي".

سألته بتوجس:

"هل كان يعلم أنك بخير"

أومأ برأسه وقال:

"نعم، أرجوك لا تحملي داخلك ضغينة، كنت أطلب منه أن يخبرني عنك، لكنني طلبت منه في الوقت نفسه ألا يخبرك عني، على أمل أن تنسيني. لكن الحقيقة هي أنني أنا من لم أستطع نسيانك. وعندما توقفتِ عن التواصل معه، شعرت وكأنني أفقد صوابي".

ثم أضاف بإصرار ونبرة تحمل العزم:

"لقد أتيت إليك الآن يا أنيسة، وأنا أعرض عليك الحياة التي حلمنا بها معًا. أعلم أن جدك سيكون عائقًا، ولكن لا شيء يُنال في هذه الحياة إلا بالحجة والإصرار. وأنا هنا لأقف بجانبك، لن أتركك تواجهين جدك وحدك. سنحاول معًا إقناعه، وسنبني مستقبلنا كما تمنيناه دائمًا".

كان كمال غريبًا في تلك اللحظة. الرجل الذي حمل في داخله منذ دقائق مرارة الهزيمة الساحقة، تحول فجأة إلى شخص يشع الأمل من عينيه. ذلك التغير المفاجئ أضاء بداخلي شعورًا جديدًا، وكأن إشراقته أعادت لي الإيمان بأن المستقبل قد يحمل جمالًا يفوق كل ما مضى.

ابتسمت مدفوعه بهذا الأمل الذي أشرق داخلي وقلت بأجمل ابتسامة أمتلكها:

"دعنا لا نفترق مرة أخرى".

في تلك اللحظة شعرت أنني قادرة على مواجهة أي شيء لأجل مستقبلي مع كمال.

وبدأت الحرب مجددًا مع جدي، لكنها هذه المرة كانت مختلفة. لم أكن منهزمة أو ضعيفة كما كنت في الماضي، بل كنت أتحدث من منطلق قوتي وإيماني العميق بصدق علاقتي بكمال. كانت المواجهة شرسة، لكن أكثر ما صدمني هو موقف أخي، الذي وقف إلى جانب جدي. كان يتعامل معي ببرود أحيانًا، وأحيانًا أخرى يوبخني ويحاول إقناعي بأن زواجي من كمال محكوم عليه بالفشل بسبب اختلافاتنا.

لم يتركني كمال وحدي في هذه المعركة. بل كان يزور منزلنا مرارًا وتكرارًا في إجازاته محاولًا كسب موافقة جدي، لكن الأخير قابله دائمًا بالرفض والإهانة. لم يكتفِ بذلك، بل كان يحرق الخطابات التي يرسلها كمال دون أن يكلف نفسه عناء قراءتها. ورغم كل ذلك، لم نيأس. لجأت إلى جديّ من جهة أمي، اللذين حضرا إلى منزلنا وحاولا إقناع جدي، لكنه تعامل معهما بقسوة وشبه طردهما من المنزل، وأمر بعدم استقبالهما مرة أخرى.

تحدثت أنيسة وهي تشعر بالقهر على السنوات التي ضاعت في معركة مع جديها:

"وهكذا، لمدة تجاوزت السنة، كنا نحاول دون جدوى الحصول على موافقة جدي. تلك الموافقة التي منحها بسهولة لأخي أسعد عندما خطب شابة جميلة من عائلة أرستقراطية، تمامًا كما كان جدي يتمنى. كان يحلق في السماء فخرًا به، بحفيده الذي لطالما رفع رأسه. شعرت بالقهر في اللحظة التي سمعت فيها نبأ خطبة أخي. كانت السنين تمر بسرعة بينما أنا عالقة في محاولاتي لإقناع جدي بالزواج من كمال، وأخي يبدأ حياة جديدة مع شابة أحبها.

أما أنا، فالشاب الذي أحببته لا أستطيع حتى التواصل معه بحرية. شعرت بظلمٍ شديد بسبب تسلط جدي، لكنني لم أجد حلًا سوى الاستمرار في محاولات إقناعه. عقلي كان يرفض أن أسلك أي طريق آخر لتحقيق ما أريد، رغم أن قلبي كان يتوق للحرية".

في حفل خطبة أخي، اقترب مني شاب ليجاذبني أطراف الحديث. كان شابًا وسيمًا، من عائلة راقية، ويعمل طبيبًا ولديه عيادة خاصة. أدركت منذ اللحظة الأولى أن ظهوره لم يكن محض صدفة، بل جزءًا من خطة جدي لإبعادي عن كمال. لكنني كنت أكبر سنًا وأكثر حكمة ونضجًا من السابق. تعاملت معه بأدب شديد، لكن موقفي كان واضحًا وممزوجًا بعلامات الرفض.

في تلك الليلة، قررت مواجهة جدي مرة أخرى. أخبرته بحزم أنني لن أتزوج أبدًا من أي رجل سوى كمال. غضب جدي بشدة وقرر معاقبتي بحبسي في غرفتي. لم يكتفِ بذلك، بل هددني بتزويجي قسرًا إذا استمررت في عنادي.

كان ذلك اليوم نقطة تحول بالنسبة لي. شعرت أن الكيل قد فاض، وأن جميع الحلول السلمية مع جدي العنيد قد استنفدت. قررت أنني سأتبنى طرقًا أخرى، حتى لو لم تعجبه، لأنني لم أعد أستطيع تحمل المزيد من الظلم. بقيت محبوسة في غرفتي لأسبوع كامل، بينما كان جدي مشغولًا بترتيب موعد للقاء الشاب الذي تحدث معي في الحفل.

عندما سمح لي أخيرًا بالخروج من غرفتي، كنت قد أعددت خطتي بعناية. في الوقت نفسه، قررت أن أستجيب لطلبه ظاهريًا، خاصة بعد أن حدد موعدًا رسميًا مع العريس المرتقب، وأمرني بتجهيز نفسي لهذا اللقاء.

جاء الموعد المنتظر، ووجدت نفسي مجبرة على مقابلة الشاب. جلست معه على مضض، لكنني حرصت على أن أبدو متقبلة أمامه وأمام عائلته لإرضاء جدي وكسب المزيد من الوقت. بعد انتهاء اللقاء، بدا واضحًا أن الشاب وعائلته قد أعجبوا بي، وكان جدي مسرورًا للغاية، معتقدًا أنه انتصر أخيرًا.

لكن، بعد أن أوهمتهم جميعًا بقبولي، نفذت خطتي الجريئة التي لم يتوقعها أحد.

الساعة كانت الواحدة بعد منتصف الليل، وكان الهدوء يخيّم على المنزل بعدما غفى الجميع. كنت أقف أمام نافذتي، أرتدي ملابسي الكاملة، أراقب الطريق بشوق وتوتر. فجأة، ظهرت السيارة التي كنت أنتظرها على أحر من الجمر. كانت سيارة يقودها أحد أبناء أخوالي، وبجواره جدي لأمي. توقفت السيارة بعيدًا عن المنزل، وأرسل ابن خالي إشارات خافتة من مصباح السيارة كعلامة متفق عليها.

أمسكت حقيبتي بيد ترتعش، ثم فتحت باب غرفتي بحذر شديد. تحركت على أطراف أصابعي نحو السلالم، خطواتي بالكاد تلمس الأرض، كأنني أخشى حتى أن يسمع الهواء حركتي. عندما وصلت إلى باب المنزل، مددت يدي ببطء لتفتح القفل، لكن فجأة سمعت صوتًا قطع السكون:

"إلى أين أنت ذاهبة يا أنيسة؟"

تجمدت في مكاني، وكأن الزمن توقف. شعرت بالدماء تنسحب من جسدي، وقلبي ينبض بعنف كأنه يريد الهروب من صدري. استدرت ببطء، وجسدي يرتجف من المفاجأة، لأجد أمامي أخي أسعد يقف على السلم الداخلي. كان يحدق بي بنظرات غاضبة، ولكن ملامحه تحمل خليطًا من الغضب والمكبوت والدهشة، فسألته بصوت منخفض يملؤه الصدمة والتوتر:

"أسعد.. لماذا أنت مستيقظ حتى الآن؟".

مرّت لحظات ثقيلة قبل أن يجيب، وصوته خرج بارداً كالثلج:

"أنا من يجب أن يسألك هذا السؤال يا أنيسة..".

تأملني بنظرة حادة، عينيه تتنقلان بين وجهي وملابسي، ثم ركز نظره على الحقيبة التي كنت أمسكها بقوة، وكأنها تكشف كل ما حاولت إخفاءه. رفع عينيه نحوي مجددًا وقال بنبرة تحمل استنكارًا واضحًا:

"ماذا تفعلين في مثل هذه الساعة، مع حقيبة ملابسك؟".

"أنا.. أنا..".

قاطعني بصوت يكتم الغضب بصعوبة:

"أنت تهربين.. أليس كذلك؟"

تسمرت مكاني للحظة، عاجزة عن الرد على تخمينه الذي أصاب كبد الحقيقة. فأكمل دون أن ينتظر إجابتي:

"أنت تهربين من منزلك يا أنيسة، بعد ساعات من خطبتك؟"

هززت رأسي بسرعة، محاولًة الدفاع عن نفسي:

"أنا لم تتم خطبتي بعد..".

رفع حاجبه ساخرًا وقال بحدة:

"إذاً بعد الاتفاق؟ هل هذا تعبير أدق؟".

شعرت بسخرية كلماته تضربني كصفعة، فأخفضت رأسي في محاولة لتجنب مواجهة نظراته التي كانت تحمل الاتهام بوضوح. خطا نحوي بخطوات ثابتة حتى وقف أمامي مباشرة. في تلك اللحظة، شعرت بضآلتي أمامه، وبثقل الذنب الذي كنت أحمله على كتفي.

صمت للحظات ثم قال بنبرة أخف لكنها لا تخلو من العتاب:

"لماذا تفعلين هذا يا أنيسة؟ ما الذي يدفعك لتفضليه على عائلتك، وتتركي كل شيء خلفك بهذا الجفاء؟".

مرت لحظات ثقيلة قبل أن أرفع رأسي وأجيب بصوت خافت، لكنه مليء بالإصرار:

"لأنني أحبه يا أسعد.. وهو أيضاً يحبني. لأنني سأكون أتعس إنسانة في حياتك إذا فقدت كمال. لم أجد مبررًا واحدًا يقنعني بأنه غير مناسب لي، ولأن جدي هو من امتلك من الجفاء ما يكفي ليطغى بصوته وإرادته على صوتي وإرادتي وقناعاتي".

رمقني أخي بنظرة متفحصة وقال بسخرية تحمل غضبًا مكتومًا:

"إذًا أنت تعاقبين جدنا؟".

هززت رأسي بشدة وأجبت بحزم:

"لا! أنا لا أجرؤ على معاقبة جدي! إن له كل الفضل علي، ولكن هذا لا يعطيه الحق أن يظلمني أو يحركني كدمية، كما حاول أن يفعل مع أبي وأمي! وهذا ما دفعهما للهروب منه، ثم حدث ما حدث".

بهتت ملامح أسعد للحظة، ثم همس وكأن ما سمعه هز كيانه:

"هذا الكلام غير صحيح".

نظرت إليه بعينين مشحونتين بالألم وقلت:

"بل صحيح يا أسعد. جدي كان دائمًا رجلاً متسلطًا ومتحكمًا. أعلم أن قضاء الله هو من حكم في النهاية، لكن تلك الرحلة التي ذهب فيها أبي وأمي لم تكن إلا هروبًا من تسلطه. جدتي رحمها الله أخبرتني بكل شيء. لم يكن يمر يوم إلا وترى أمي تبكي، وأبي يواسيها بسبب قسوة جدي عليها. لقد كانت الرحلة فكرة أمي للهروب، وكانوا يخططون للاستقرار هناك والعودة لأخذنا، لكن إرادة الله سبقت تدبيرهم. هذه هي الحقيقة، حتى وإن كنت ترفض سماعها".

ظل أخي صامتًا للحظات، ثم قال بصوت متماسك يخفي اضطرابه:

"ربما يكون ما تقولينه صحيحًا، لكن هذا ليس مبررًا لأن تهربي من عائلتك الآن".

نظرت إليه بعزم وقلت:

"لم يعد لدي خيار".

رد بنبرة حاول أن يجعلها حاسمة:

"ستنسينه".

ابتسمت بمرارة وقلت بصوت مختنق:

"صدقني، حاولت بكل ما أملك، لكنني فشلت يا أخي. كنت أعيش في عذاب لا يوصف حين اعتقدت أنه استُشهد.. لكنه عاد".

نظرت إليه بأعين مليئة بالدموع وأضفت:

"كمال عاد من أجلي يا أسعد. إنه يحبني حقًا".

قلت كلماتي وأنا أبكي بحرقة، تلك الحرقة التي لا يشعر بها إلا يتيم أدرك في تلك اللحظة حجم وحدته ويتمه.

رد أسعد بصوت يحمل مزيجًا من الألم والغضب:

"ونحن عائلتك، هل تفهمين معنى العائلة؟ أم أنك نسيتها أمام نزوة عاطفية؟ تريدين الرحيل بهذه السهولة؟"

نظرت إلى شقيقي وعلى وجهي علامات الظلم والعذاب بسبب اتهامه لي، لكنني فوجئت بأن أخي أيضًا كان يحمل على وجهه ملامح الظلم والألم.

قالت أنيسة لاحقًا، وهي تروي تلك اللحظة التي اختلطت فيها مشاعرها بالحزن والشفقة:

"ربما لو كنت أكثر دقة في ملاحظتي حينها، لأدركت أن أخي كان يتيمًا مثلي. وجهه في تلك اللحظة كان يعكس خوفًا عميقًا من الخسارة.. خسارة العائلة التي ذاق مرارتها وهو صغير. لقد كان يعاني مثلي تمامًا، ومع ذلك كنت أظن أنني الوحيدة التي تعاني. لكن ربما كانت معاناته أعظم؛ فقد تعرض لصدمة فقدان والدينا وهو أكبر عمرًا مني، مما جعله أكثر وعيًا بألم الفقدان".

أخذت أنيسة نفسًا عميقًا وأكملت بصوت خافت، وكأنها تخاطب نفسها:

"أخي العزيز كان أكثر يتماً مني، لكنه لم يتحدث قط عن معاناته. ربما ظننت أنه قوي بما يكفي لتجاوزها، لكنه في الحقيقة كان يصارع يتمه بصمت. بعد سنوات، أدركت أنه كان معذورًا. كان مثلي تمامًا، يعبر عن يتمه بطريقة مختلفة، لكن دوافعه كانت مختلفة عن دوافعي. أنا كنت مدفوعة بحبي العاطفي الصادق لكمال، بينما هو كان مدفوعًا بخوفه من فقدان ما تبقى من عائلته. كنا، أنا وأخي، نحمل نفس الجرح، لكنه اختار التعبير عنه بالصراع بينما اخترت التعبير عنه بالهروب."

ابتسمت أنيسة بمرارة وهي تضيف:

"مع مرور الزمن، لم أعد أشعر تجاهه بالظلم. فهمت أنه كان يحاول حمايتي، بطريقته الخاصة. في النهاية، كان أخي شريكي في يتمي، وإن لم نعترف بذلك في حينه".

قلت والدموع تنساب من عيني بسهولة، وقلبي يكاد ينفطر من الألم:

"أنا لا أريد التخلي عنكم أبدًا، أنا أحبكم كثيرًا، أحبك يا أخي وأحب جدي، أنتم عائلتي التي أعشقها. ولكن كمال ليس نزوة، إنه الشخص الذي اخترت أن أعيش معه. أليس هذا حقي؟ لماذا تضعونه في مقارنة بينكم؟ هذه مقارنة ليست عادلة. أنا أهرب حتى لا تتعقد الأمور بيننا أكثر. أهرب وأنا على أمل أن تستقر مشاعرنا جميعًا. لا أريد أن أكون في مواجهة دائمة مع جدي ومعك. لو اعتقدت أنني أكره جدي، فأنت مخطئ، أنا أحبه وأقدره، ولكنك أنت أخي، أغلى ما أملك. لا أريد أن أخسرك أبدًا".

مددت يدي ووضعتها على ذراعه بتلقائية، محاولة إيصال صدقي ومحبتي، لكن أسعد ابتعد خطوتين إلى الوراء، وكأنه يكره لمستي العفوية. نظرت إليه بصدمة، وقد بدا لي شخصًا مختلفًا تمامًا عن أخي العطوف الذي أعرفه. قلت بصوت مخنوق من الذهول:

"أسعد.. أرجوك، لا تدفعني بعيدًا عنك. أنا بحاجة إليك. أحتاج دعمك الآن أكثر من أي وقت مضى".

بكيت بحرقة، وكل كلمة تخرج مني كانت تستنزف روحي، بينما أخي ظل واقفًا، يتأملني بعمق لا يمكنني فهمه. ثم خطا نحو الباب، فتحه على مصراعيه، وقال بصوت جاف يحمل مزيجًا من الألم والغضب المكتوم:

"أنا لن أدعمك أبداً في تدمير تلك العائلة".

ضيق عينيه وأكمل:

"اذهبي يا أنيسة. أنتِ حرة فيما ترغبين. ولكن لا أعتقد أن هذا البيت سيكون مفتوحًا لك مرة أخرى. اذهبي".

كانت كلمات أخي هادئة وجامدة، لكن برودها أثارت قشعريرة في جسدي كما لو أن الثلج قد تسرب إلى عظامي. كنت أبكي بحرقة، دموعي تنهمر دون توقف، وفي المقابل لم أجد في عينيه سوى البرود والقسوة، ملامح كانت غريبة عليَّ. لم يكن أسعد الذي أعرفه، بل شخص آخر لا يشبهه. كانت عيناه محملتين بشيء من الجفاء.

قطعت تلك اللحظة الحزينة صوت السيارة التي كانت تنتظرني في البعيد. ألقيت نظرة أخيرة على أخي، ثم أمسكت حقيبتي بقوة، والتفتُ مبتعدة، أحمل معي كل أحزاني، وصورة أخي أسعد كانت تلاحقني في كل خطوة.

"وتلك كانت المرة الأخيرة التي أري فيها شقيقي أسعد، منذ ما يقارب خمسين عامًا".

سمعت سالي تلك الكلمات، وشعرت أن قلبها ينهار من شدة الحزن على السيدة أنيسة، تلك المرأة العجوز التي كانت تجسد في عينيها السعادة والأمل والإخلاص. بدا أن ماضيها كان محملاً بتلك الذكريات الحزينة التي كانت تخفيها وراء ابتسامتها، وهي تروي قصتها وكأنها أبدًا لم تتجاوزها.

لكن هكذا هي الحياة، مليئة بالاختيارات. وتلك المرأة اختارت أن تسلك طريقًا مليئًا بالأشواك والتحديات. كان على سالي أن تستمع لبقية الحكاية لتستطيع أن تحكم على هذه المرأة التي كانت تخفي في جعبتها حكايات وأسرار لم تكن سالي تتوقعها أبدًا.

نهاية الفصل الثالث والثلاثون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

أهلاً أعزائي القراء..

شكراً على صبركم

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصل: توقاعتكم للأحداث الجاية؟

***

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.


الأربعاء، 1 يناير 2025

رواية المنزل: الفصل الثاني والثلاثون: حكاية أنيسة الجزء الثاني - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الثاني والثلاثون

* قبل ما ابدأ الفصل عايزة اقولكم كل سنة واحنا طيبين وسالمين وحلوين وكويسن في كل وقت وكل سنة وكل ايام ربنا. بمناسبة السنة الجديدة وبداية رجب.

* المزيكا انهاردة من أغنية "نبتدي منين الحكاية". عزف عمر خورشيد

"حكاية أنيسة" الجزء الثاني.

[الأربعاء، 8 سبتمبر 1965

آنستي الجميلة والغالية،

وصلتني رسالتك.. ولا أستطيع وصف مدى سعادتي بها تلك الرسالة الثمينة. لقد قرأتها مرات ومرات، في طريقي إلى الثكنة العسكرية، بكل جوارحي. كل كلمة خطتها أناملك لامست قلبي حتى حفظتها عن ظهر قلب. هذه الرسالة أصبحت أغلى ما أملك من كنوز الدنيا، وسأحتفظ بها في قلبي وخيالي إلى أن تأتيني منك رسالة أخرى. في الحقيقة.. كنت أتمنى سماع اعترافك بصوتك مباشرة، لكنني سأصبر نفسي بما لدي حتى يحين موعد لقائنا القادم.

أنا بخير، والحمد لله، ولكنك لا تفارقين فكري أبداً. إنك تسكنين بالي ليلاً ونهاراً. يا آنستي، هل تعلمين كم يتلهف قلبي لرؤيتك؟ كلما خطرتِ على بالي، تتسارع نبضاتي شوقاً، فأعتقد في لحظتها وكأنني سأترك كل شيء وأستقل أقرب وسيلة للوصول إليك، فقط لأراك ولو للحظة. أعلم أن هذا تفكير مجنون، ولكنني أقسم لك أن هذا هو شعوري دائماً. أحياناً أخشى أن أفقد السيطرة على نفسي وأتصرف باندفاع، غير مبالٍ بأي عواقب.

يا أنيسة، لم أتخيل يوماً أنني سأقابل امرأة تسلب لُبّي كما فعلتِ منذ لحظة لقائنا الأول. تلك اللحظة على شاطئ الإسكندرية، عندما لمحتك ترتدين فستاناً أصفر وتسيرين بخفة على الرمال. حمدت الله حينها أن المنديل سقط منك، ليكون حجة لي ويمنحني فرصة أن أعيده إليك وأفتح باب التواصل. عندما التفتِ إليّ، شعرت أنني قد وقعت في غرامك. كنت أنتظر منك كلمة، لكن ترددك وارتباكك أجبراني على الاستئذان والمغادرة، فأنا لم أقبل أن أكون سبباً في إحراجك أو خوفك كما ظهرت في تلك اللحظة.

في تلك الليلة، كنتِ بطلة أحلامي، والصورة التي لم تفارق خيالي. أردت بشدة أن أعود إلى ذلك المكان الذي جمعنا لأول مرة، لكن الخوف من أن أواجه فراغه بدونك كان أقوى مني. ظننت حينها أن لقاءنا لم يكن سوى صدفة عابرة، لحظة تمرّ في حياة شخصين قبل أن يفترقا إلى طرق مختلفة.

لكن القدر كان له رأي آخر. عندما لمحتك بعد أيام قليلة في نفس المكان، شعرت أنني أمام فرصة جديدة، وأنه لا يمكنني تجاهل ما بدا وكأنه إشارة من الحياة. اقتربت منك بشوق يختلط بالخوف من المجهول، ولكن لحظة ابتسامتك تلك بددت كل ترددي. كانت ابتسامتك أشبه بشمس أشرقت في حياتي، أضاءت كل شيء من حولي وجعلت قلبي ينبض بالحياة من جديد.

تحدثنا طويلاً ذلك اليوم، وكل كلمة منك زادت يقيني أنك المرأة التي طالما حلمت بها. كنتِ مختلفة، متفردة، مليئة بالبهاء والبساطة معاً. في تلك اللحظة، لم أعد أشك أنني أريدك إلى جانبي دائماً، شريكة حياتي وسيدتها.

أنيسة العزيزة، الكلام لم يعد يحلو إلا معك، هناك الكثير من الحكايات التي أود أن نتشاركها معًا، والكثير من الأحاديث واللحظات التي أعيد ترتيبها في ذهني كل يوم، في انتظار لقائنا القادم. لا أستطيع وصف مدى شوقي لهذا اللقاء، لكنني سأحاول الصبر برسائلك التي تمنحني الأمل.

رجائي الوحيد هو ألا تتوقفي عن الكتابة لي. أخبريني بكل جديد عنك، فكل حرف منك يحمل لي طمأنينة لا تقدر بثمن. وأنا، بدوري، سأحرص على أن أكتب إليك كلما سنحت لي الفرصة، لأطمئنك عن حالي وأبثك ما في قلبي.

أنتظر لقاءك بشوق لا يعرف الحدود، ولا تنسيني من دعواتك يا أغلى ما لدي.

كمال].

أتذكر جيدًا ذلك اليوم الذي استلمت فيه أول رسالة من كمال، ردًا على رسالتي

أتذكر جيدًا ذلك اليوم الذي استلمت فيه أول رسالة من كمال، ردًا على رسالتي. كنت أشعر وكأنني أفتح صندوقًا مليئًا بالكنوز الثمينة، وقلبي يرفرف عالياً من الفرحة والترقب. هل هناك شعور أجمل من الحب؟ لا أعتقد ذلك. إنه لشيء عظيم أن تتلاقى القلوب على نفس المشاعر، أن تعلمي أن الشخص الذي تحبينه وتفكرين فيه طوال الوقت يبادلك الحب والتفكير بنفس الشغف. هذا الإحساس يمنحك شعورًا خاصًا، كأنك تمتلكين سرًا جميلاً لا يشاركك فيه أحد سوى هذا الشخص الذي أصبح شريكًا في كل تفاصيل قلبك وأحلامك. إنها خصوصية لذيذة، تجعلكما عالماً صغيراً خاصاً بكما وحدكما.

قرأت الرسالة بعينين متألقتين وببطء متعمد، وكأنني أريد أن أعيش كل كلمة فيها بكل جوارحي. كنت أعيد قراءة كل فقرة أكثر من مرة قبل الانتقال إلى التي تليها، حتى حفظتها عن ظهر قلب مع انتهاء القراءة. لم أستطع الانتظار، فكتبت له ردي على الفور. وهكذا بدأت مراسلاتنا، التي حملت بين سطورها وعودًا وآمالاً لمستقبل مشرق كنا نحلم به معًا.

كنت أعد الأيام بلهفة في انتظار اليوم الذي ألتقي فيه كمال مرة أخرى. لكن عمله لم يكن سهلاً، خاصة مع ظروف الحرب التي شارك فيها الجيش في اليمن. كانت خطاباته تنقطع أحيانًا لشهر أو شهرين، تتركني في قلق لا نهاية له، ثم تعود لتطمئنني. كان يخبرني في رسائله أنه كان في مهمة خاصة مع الجيش، وكنت أجد في كلماته عزاءً وأملًا رغم بُعد المسافات وظروف الحرب.

في تلك الفترة، كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية في مصر متدهورة بشكل مؤلم. كنا نعيش في حالة تأهب دائم، نترقب الأخبار بقلق وخوف مما قد يأتي به الغد. جدي، كعادته، لم يكن يمر يوم دون أن يعبر عن غضبه واستيائه من أولئك الذين اعتبرهم السبب في وصولنا إلى هذا الوضع المتردي. كان يردد لعناته عليهم بلا توقف، وكلماته المفعمة بالحنق كانت تعكس إحساسًا عميقًا بالخيبة تجاه ما آلت إليه الأمور في البلاد.

ومر عام 1965 بسلام، غارقًا في دراستي بسنتي الثانية في الجامعة. كانت رسائل كمال العاطفية هي ما يصبرني على الشوق الذي يزداد يومًا بعد يوم. حتى وصلتني رسالته التي حملت وعدًا طال انتظاره؛ لقاء في نفس المكان الذي جمعنا لأول مرة.

وجاء ذلك اليوم، وكان الشتاء قد غطى الإسكندرية ببرودته وسحره الخاص. التقينا مرة أخرى، وكان اللقاء مليئًا بالعاطفة والشوق. شعرت وكأنني أراه لأول مرة، وكأن الزمن الذي مضى لم يكن سوى حلمٍ طويل. لكنني لاحظت شيئًا مختلفًا فيه؛ طبيعة عمله القاسية انعكست على ملامحه، فقد أصبح أكثر نحافة، وأكثر صلابة. بدت عليه ملامح رجل واجه الحياة بقسوتها، وكأنه كبر خمس سنوات منذ لقائنا الأخير.

كانت إجازته هذه المرة قصيرة، ثلاث أيام فقط، أقابله فيها بعد الجامعة. كنا نتحدث عن كل شيء، نتشارك اهتماماتنا، نتناول الطعام معًا، ونتبادل الأسرار. عشت كل لحظة معه بعمق، أحاول أن أمدد الزمن بيننا، أن أستفيد من كل ثانية، وكأنني أريد أن أشبع قليلاً من وجوده. لكن الأيام الثلاثة مرت بسرعة خاطفة، كما تمر اللحظات السعيدة دائماً، وتركتني أكثر عطشاً له مما كنت عليه.

عندما ودعني ورحل شعرت وكأنني استيقظت فجأة من حلم جميل على وقع رحيله. بكيت يومها بحرقة، وكأن قلبي يخبرني أنني قد لا أراه مرة أخرى. كان قلقي عليه طبيعيًا، فهو يعمل في ظروف تجعل حياته دائماً على المحك. كنت أحاول قدر الإمكان أن أتجنب قراءة الأخبار، على غير عادتي، خشية أن أرى اسمه في أعمدة النعي. لكن بفضل الله، كانت تمر الأيام بسلام. رسائله التي تصلني بين الحين والآخر كانت البلسم الذي يهدئ مخاوفي، وكأنه يهمس لي بين السطور: "لا تقلقي، أنا بخير".

أنهيت امتحانات نهاية العام وأنا مشبعة بالشوق للقاء كمال مرة أخرى خلال الصيف، كما جرت العادة في العام السابق. لكن هذه المرة، كانت رسائله تصلني متأخرة أكثر من المعتاد، مما زاد من لهفتي وقلقي. ومع ذلك، لم يخذلني، فقد وصلت رسالته أخيرًا، تحمل الخبر الذي انتظرته: سيأتي في إجازة قصيرة لمدة أسبوع.

وعاد كمال إلى الإسكندرية، وفي لقائنا المنتظر، شعرت بفيض من المشاعر التي لم أستطع وصفها. كان اللقاء مختلفًا هذه المرة؛ بدا كمال أكثر حسمًا واندفاعًا. وفي خضم الحديث، فاجأني بعرضه للزواج فورًا، وكأن اللحظة لم تحتمل التأجيل أو الانتظار:

"وافقي يا أنيسة، وسأكون الليلة في بيت جدك أطلب يدك. لقد عرضت الأمر على عائلتي، وهم مرحبون جدًا".

قالها بحماس وثقة، وكأن مستقبلاً مشرقًا ينتظرنا على عتبة الباب. نظرت إليه، والشوق يلمع في عينيّ، ممتزجًا بقلق خفي لا أستطيع إنكاره، وقلت:

"أنت تعرف إجابتي يا كمال، ولكن يجب أن أمهد للأمر. أخي أولاً، ثم جدي.. فلا أحد يعلم عن علاقتنا سوى جدتي".

لم يحتاج كمال إلى كلمة موافقتي، فإجابتي كانت صريحة وواضحة من أعماق قلبي. كان هذا هو الرجل الذي أريد أن أكمل حياتي معه. كنت أرغب في التمسك به، وأخطو معه بفستاني الأبيض نحو مستقبل سعيد يجمعنا في بيت واحد. كانت خططي واضحة في ذهني؛ أن نكون عائلة صغيرة ومثمرة تكبر وتزدهر مع مرور الزمان. لقد رسمت تلك الخطط بكل تفاصيلها وأغلقتها في قلبي، مؤكدة أن لا بديل لكمال في حياتي.

ولكن، ما إن يتبادر جدي إلى ذهني، حتى تتلاشى تلك الأفكار والأحلام بسهولة، وكأنها لم تكن سوى سراب.أمسك كمال بيدي بحنان، لكن نظراته كانت مليئة بالحيرة، وسألني بصوت خافت يحمل قلقه:

"لماذا أرى الخوف والتردد في عينيك يا أنيسة؟".

هززت رأسي بسرعة، محاولة أن أظهر له أنني صادقة، ثم أجبت بلهجة مملوءة بالقلق:

"أنا واثقة من مشاعري، فقط.. أنا قلقة من جدي، لا أعلم كيف ستكون ردة فعله. جدي رجل صارم جدًا يا كمال، أخاف أن يرفض علاقتنا ويمنعنا من المضي قدمًا".

كنت أعلم أن هذا الخوف جزء من الحقيقة، فجدّي لم يكن سهلًا في اتخاذ قراراته، وكان دائمًا يسير وفق مبادئه الصارمة. تذكرت في تلك اللحظة كم الكره الذي كان يظهر في عيني جدي القاسيتين كلما ذكر اسم الثورة أو الجيش. كان هذا الخوف يملأ قلبي، فقد كنت قلقة أن يكون هذا هو المبرر الذي سيجعله يرفض زواجي من كمال، وهو ما لم يكن كمال يستوعب حجمه بعد.

أجابني كمال بحنان، وكأنه يقرأ مخاوفي دون أن أقول كلمة:

"إذاً سأقابله بنفسي. أنا واثق من قدرتي على إقناعه. علينا أن نبدأ في تخطيط حياتنا من الآن. مستقبلنا يجب أن يكون معًا يا أنيسة".

كان حديثه عن المستقبل، وحنانه الذي يفيض، قادرين على محو أي خوف قد يراودني. شعرت وكأن جميع همومي بدأت تذوب في وجه وعوده. قال مبتسمًا:

"أخبريه اليوم، وسأقابلك غدًا لتخبريني إجابته".

أجبت وأنا أتنفس الصعداء، رغم ما يعتمل في قلبي من قلق:

"سأحاول يا كمال، على الأقل سأخبر أخي".

نظر إليّ بثقة وأصر على تطمينتي:

"أنيسة، لا تقلقي. كل شيء سيكون على ما يرام، وسنكون سعداء معًا، هل تعلمين؟ أنا أبحث عن شقة هنا في الإسكندرية، لا أريد أن أبعدك عن عائلتك".

ضحكت بخفه وأنا اتأمله بسعادة:

"ما هذا الحماس، وكأن جدي قد وافق على زواجنا".

قلتها بسخرية ولكن من داخلي كنت أتمنى أن تكون حقيقة، قال كمال بحنان:

"سيوافق بإذن الله يا أنيسة، لن أكف أبداً عن المحاولة للفوز بك".

ابتسمت تلك اللحظة ابتسامة لم تكن نابعة من قلبي، وأنا أفكر في المجهول الذي سأخوضه بنفسي. ويومها قررت أن أكشف سري لأخي، الذي كان شابًا متحفظًا بطبيعته، لكنه في الوقت نفسه منفتح ومتفهم. على الرغم من أنه نشأ تحت رعاية جدي، الرجل الصارم الذي حرص دائمًا على تشكيل عقله وفق مبادئه، إلا أن أسعد كان يمثل جيلاً مختلفًا. كان شابًا متعلمًا ومثقفًا من عائلة عريقة، يدرس في الجامعة حيث تلتقي الطبقات الاجتماعية ويتعايش الجنسين معًا. كيف لجدي أن يقف في وجه فكر جيل كامل متمثل في أسعد؟ ولذلك كان يتغاضى عن بعض هفوات أخي التي لا تروق له.

لم أكن أخشى أن يسيء أخي فهم علاقتي بكمال. فكما قلت من قبل، كنت ملتزمة بحدود التربية التي غرسها جدي فيّ، وعلاقتي بأخي كانت دائمًا قائمة على الثقة والمحبة، والأهم من ذلك، على رابطة قوية بين شقيقين يتيمين ليس لهما في هذه الحياة سوى بعضهما البعض.

لذلك ذهبت يومها إلى أخي أسعد بقلب مطمئن له لأخبره بسري الصغير. كان أخي في غرفته يدرس بإجتهاد. طرقت باب الغرفة بهدوء وسمعت صوته ينادي بصوت عالٍ:

"أدخل!".

دخلت على استحياء، ورآني أخي الذي قال بابتسامة حازمة:

"أدخلي يا أنيسة، هل هناك شيء؟".

دخلت بسرعة وكأنني أراوغ قبل الاعتراف بسري، وأحتضنت شقيقي العزيز من كتفه، قائلة:

"أخي العزيز، دودة الكتب الذي سيأكل كتبه قريبًا".

أجاب ضاحكًا:

"ماذا تريدين؟ أنا متأكد أن هناك مصلحة من وراء هذا اللطف المفاجئ".

ضحكت بخجل وابتعدت وأنا أدعي تفحص الغرفة الخاصة بأخي، الذي نهض قائلاً وهو يسحب مسطرته الخشبية من يدي:

"أخبرتك من قبل لا تعبثي بأشيائي".

وقفت وأنا أضع يدي على رأسي في إشارة عسكرية، قائلة:

"مفهوم، لن أعبث بأشيائك مرةً أخرى يا باش مهندس".

"مفهوم، لن أعبث بأشيائك مرةً أخرى يا باش مهندس"

تأملني أخي بشك وقال:

"لا تراوغي، أنا أعرف تلك التصرفات جيدًا. أخبريني، ماذا تريدين يا أنيسة؟".

جلست على السرير وأنا أشعر بضربات قلبي تتسارع بجنون، قبل أن ألقي اعترافي فوق رأسه. شعر أخي بأن هناك أمرًا هامًا أريد الاعتراف به، فقال بهدوء وهو يتأملني:

"أنيسة، ماذا هناك؟".

رفعت رأسي إليه بحيرة وأنا أواجه نظرات أخي الذي يحفظني ظهرًا عن قلب، ومن المستحيل أن أخفي عليه سرًا كهذا. بلعت ريقي وأحمر خدي وأنا أتمتم:

"نعم، أريد أن أخبرك بأمر هام يا أسعد".

جلس شقيقي بجواري فشعرت بقليل من الأمان الذي أتوق له في مثل هذا الموقف. سألني بقلق:

"أخبريني، أنا منصت لك".

دارت عيناي حولي بتوتر وهمست:

"أنا.. خائفة قليلاً يا أخي..".

وضع أسعد يده على كتفي بحب وسألني، والقلق يتفاقم في عينيه:

"خائفة مني؟ هل ارتكبت خطأ لتخافي مني؟".

نظرت إليه بنظرة توحي بالنفي القاطع وقلت:

"لا!".

"إذاً أخبريني، ولا تقلقي".

أخفضت رأسي بعيون حائرة ووجنتان محمرتان، واعترفت لأخي:

"في الحقيقة.. منذ فترة تعرفت علي شاب.. هو.. رجل محترم جداً، و.. يرغب في طلب يدي".

كنت أخفض رأسي هروباً من مواجهة أخي الذي التزم الصمت على الفور ولم يجب على تصريحي المتردد. قلت وأنا أشعر وكأنني أذوب من سخونة جسدي:

"يريد أن يخطبني، إنه مصر على ذلك في أقرب وقت".

رفعت رأسي بفضول بعد ثوان طويلة من صممت أخي، لأرى ملامحه هادئة جداً لا تظهر أي مشاعر عدائية أو مريبة. نظرت إليه برجاء، فسألني بهدوء:

"من هو يا أنيسة؟ ومنذ متى وأنت تعرفينه؟ هل هو زميلك في الجامعة؟".

أجبت بهدوء:

"لا، ليس زميلاً. إنه شاب محترم جداً، تعرفت عليه الصيف الماضي".

قال أسعد بنبرة غامضة:

"إذاً، بينكما مشاعر متبادلة".

اعترفت بخجل:

"نعم، ولكن.. أخي، أرجوك لا تفهمني خطأ. لم أره سوى ثلاث مرات فقط، وطوال هذه السنة كنا نتبادل الرسائل لا أكثر".

نظرت إليه برجاء ممزوج بالتوتر، خوفاً من أن يُساء فهمي:

"أخي أنت تثق في، أليس كذلك".

ردّ أسعد بجدية:

"أنيسة، أنا أثق بك، ولكن جدي.. أنت تعلمين جيداً كيف ستكون ردة فعله تجاه شيء كهذا".

أومأت برأسي وقلت بصوت منخفض:

"أعرف يا أسعد".

سألني بتفكير عميق:

"ومن يكون هذا الشخص؟ أقصد، ما هي ظروفه؟".

قلت بهدوء:

"اسمه كمال، وهو يكبرني بخمس سنوات".

تردد قليلاً قبل أن يسأل:

"هل هو متعلم؟ أم لا يحمل شهادة؟".

قاطعته بسرعة وأنا أطمئنه:

"لا، بالطبع هو متعلم ومثقف، ولكن..".

نظر إلي بترقب وسأل بحذر:

"ولكن ماذا؟".

ترددت ثم قلت:

"إنه ضابط في الجيش المصري".

انتفض أسعد من مكانه وقال بصدمة:

"مستحيل يا أنيسة! جدي بالتأكيد سيرفض تماماً".

نهضت من مكاني بسرعة وتوسلت:

"أعلم ذلك، لكنك أخي، أرجوك حاول أن تقنعه".

التفت إلي والغضب والتوتر يعلوان وجهه:

"أقنع جدي بأن يوافق على زواجك من ضابط في الجيش المصري؟ الجيش الذي يراه السبب في دمار حياته وضياع ثروته؟ هل فقدتِ عقلك يا أنيسة؟ انسِ الأمر تماماً، ولا تجرئي على فتح هذا الموضوع أمامه أبداً!".

ولأول مرة في حياتي شعرت بخيبة أمل تجاه أخي العزيز. رأيته مرتبكًا، مثلي تمامًا. نظرنا إلى بعضنا البعض لوهلة، كان الخوف واضحًا في أعيننا نحن الشقيقين، ولكنني توقعت من أسعد أن يكون أكثر تماسكًا. فهو أخي الكبير، سندي في هذه الحياة. في تلك اللحظة، شعرت بثقل إحباطي، ورغم ذلك نطقت بصوت حائر وشفتاي ترتجفان:

"أخي، أنا أحبه.. أرجوك ساعدني، لا تتخلى عني. أنا بحاجة ماسة إليك الآن".

هزّ أسعد رأسه بحزم وقال:

"لا يا أنيسة، هذا ليس صحيحًا".

سألته باندفاع:

"ما الذي ليس صحيحًا؟ أن أحب؟".

خذ نفسًا عميقًا ومسح على شعره بتوتر:

"أن تحبي ضابطًا في الجيش. أنت بذلك تطلبين المستحيل. بمعنى أدق، أنتِ تقفين في مواجهة المستحيل ذاته.. إنه جدي".

نعم، جدي كان المستحيل. كان رفضه متوقعًا، وكان ذلك هو السبب وراء ترددي منذ البداية. لكن رؤية أسعد بهذا التوتر والارتباك كانت أشبه بضربة قاسية لي. لقد شعرت وكأنه يؤكد لي أن حبي لكمال ليس مجرد مخاطرة، بل مغامرة مستحيلة قد تجعلني في مواجهة أقسى وأشدّ إنسان في حياتي.

ابتسمت أنيسة ابتسامة تحمل في طياتها ألمًا مكتومًا، وهي ترتب الغطاء بعناية على ساقيها. نظرت إلى سالي بعينين غائمتين وقالت بنبرة تحمل مزيجًا من المرارة والتأمل:

"هل تعرفين يا سالي؟ في تلك اللحظة شعرت بإحباط لا يوصف. شعرت وكأن العالم بأسره تخلّى عني. أسعد، أخي العزيز، الذي كان بجواري على بعد خطوات فقط، بدا وكأنه يبتعد عني آلاف، بل ملايين الخطوات. كان رد فعله وقتها بمثابة مرآة لما كنت أتوقعه من جدي. لقد كنت أعلم، أعلم تمامًا ما سيكون رد فعله، ولكن.. ذلك الأمل، يا سالي. ذلك الأمل المخادع الذي يزهر طريقك بالورود، ويجعلك تعتقدين أن المشاعر الصادقة وحدها قادرة على انتزاع أحلامك وأمانيك مهما كانت مستحيلة".

توقفت قليلًا، واتسعت ابتسامتها، لكنها كانت ابتسامة ممزوجة بالقهر والحسرة. ثم أكملت بخفوت، وكأنها تخاطب نفسها:

"كنت بالفعل صغيرة.. مغفلة".

رفعت رأسها، ومسحت بيدها طرف الغطاء، كأنها تمحو ذكرى عالقة وقالت بحزم:

"لنستمر..".

كان صوته هادئًا، لكنه محمَّل بالأسف حين قال وهو يضع يده على كتفي:

"أنيسه يا أختي. أرجوك، افهمي. لو كان الأمر بيدي، لما ترددت لحظة في مساعدتك. لكننا لسنا وحدنا في هذا العالم. هناك جدي، وهناك تاريخه، وهناك قناعاته التي لن تتغير".

تألقت عيناي بالدموع التي لم أستطع كبحها، وكأن كلماته كانت السكين الذي يمزق قلبي. تمتمت بشفاه مرتجفة:

"لكن يا أخي..".

قاطعني بصوت حازم، وإن بدا عليه الحزن:

"لكن ماذا؟ فكري جيداً. حتى لو تقبل جدي فكرة حبك لشاب دون علمه، هل تعتقدين أنه سيقبل أن يكون هذا الشاب ضابطاً في الجيش؟ عقلية جدي يا أنيسة صلبة كالفولاذ، ولن تقدري على مواجهتها".

انهمرت دموعي بسهولة على وجنتيّ، وقلت بصوت مخنوق:

"لا تكن قاسياً عليَّ يا أسعد، لا تطلب مني ما لا أستطيع فعله. أنا أحب كمال، كيف يمكنني أن أنساه بهذه البساطة؟".

لمعت في عيني أخي نظرة شفقة كادت تزيد ألمي. اقترب مني وضمني بين ذراعيه، محاولاً أن يخفف عني، رغم أن ارتجاف جسدي أظهر له كم كنت محطمّة. همس بصوت مليء بالأسف:

"أنا آسف يا أنيسة.."

لكن ذلك الاعتذار لم يكن سوى الطعنة الأخيرة. شعرت وكأن العالم ينهار من حولي، فلم أتمالك نفسي وأجهشت في البكاء بصوت عالٍ، مستسلمة لألم لا نهاية له.

على شاطئ البحر في اليوم التالي، كنت أقف بعيون متعبة غائرة، مثقلة بوجع الأمس، أنتظر كمال بحيرة وشوق. تمنيت في داخلي ألا يأتي، حتى لا أضطر لمواجهته بحقيقة حديثي مع أسعد، لكنني كنت أعلم أنني لا أملك رفاهية الهروب. كان علينا أن نجد حلاً معاً.

لم يمض وقت طويل حتى رأيته يركض نحوي على الشاطئ بخطوات حثيثة، ملامحه تعكس القلق والتلهف لمعرفة الإجابة التي ينتظرها:

"أخبريني، ماذا فعلتِ؟ هل تحدثتِ مع عائلتك؟"

لم أستطع النظر إليه، فتجاهلت سؤاله وبدأت أمشي على الشاطئ بخطوات سريعة، وكأنني أحاول الهروب من المواجهة. تبعني كمال، يواكب خطواتي القلقة ويسأل بإصرار:

"أنيسة أخبريني ماذا حدث معك؟ لما أنت صامتة".

كان صوته يحمل مزيجاً من القلق والحب، لكنه زادني ضعفاً. توقفت فجأة، لم أعد أحتمل إلحاحه. كاد يصطدم بي من شدة المفاجأة، وتمتم بصوت مضطرب:

"ماذا..؟"

لكنه سرعان ما صمت عندما لاحظ ارتجاف كتفيّ ودموعي التي بدأت تسقط بصمت على الرمال. بقي صامتاً لدقيقة كاملة، تاركاً لي مساحة لأجمع شتات نفسي. رفعت رأسي أخيراً والدموع تنساب على وجنتاي، لأجده ينظر إليّ بنظرة هادئة وعميقة تحمل الكثير من الحنان. أخرج منديله من جيبه، ومسح دموعي برفق شديد وهو يقول بصوت خافت:

"اهدئي يا أنيسة، خذي وقتك، وأخبريني ببطء ماذا حدث".

رويت له تفاصيل الحوار الذي دار بيني وبين أخي، تقطعه بين الحين والآخر تنهيداتي المثقلة بالألم. كان كمال يستمع بصبر وهدوء، لم يقاطعني أو يعجلني، حتى انتهيت من الحديث تماماً. بعدها، نظر إليّ وعقد حاجبيه قائلاً بنبرة مطمئنة:

"اهدئي يا عزيزتي، ما ذكرتِه الآن هو استنتاجك أنتِ وأخيكِ. لكن.. ماذا لو كنتم تتسرعون في الحكم وتستبقون الأحداث؟".

نظرت إليه بعينين متعبتين وقلت:

"أنت لا تعرف جدي يا كمال. إنه رجل صارم وعنيد، وكلمته هي القانون في منزلنا. لا أحد يجرؤ على معارضته".

ابتسم كمال برفق وقال:

"ولكنك حفيدته المفضلة، وقد أخبرتني كم يعشقك. إذا كان يحبك فعلاً، لن يسمح لأي شيء أن يقف في طريق سعادتك".

أخذت أتأمل المنديل الذي ما زلت أمسكه بيدي، والحزن يغمرني. كلام كمال كان يبدو منطقياً ومطمئناً، لكنه لم يكن كافياً لمسح صورة جدي القاسية التي استقرت في ذهني. تلك الصورة التي تعكس غضبه، وصلابته في رفض كل ما يخالف قناعاته، كانت كافية لإعادة الشك والخوف إلى قلبي.

بالنسبة لي، كان رفض جدي لكمال أمراً شبه محسوم، لا مجال فيه للتأمل أو التفاؤل.

نظرت إلى كمال بإحباط عميق، كان ذلك ردي الصامت على كلماته المليئة بالتفاؤل. وضع يده الدافئة على كتفي برفق، وابتسم ابتسامة اخترقت قلبي في تلك اللحظة وهو يقول بثقة:

"أرجوك يا أنيسة، اسمحي لي أن أقابل جدك بنفسي. سأحاول إقناعه".

صرخت دون وعي:

"لا!".

شعرت بقلبي يخفق بعنف، لكنه شدد يده على كتفي ليطمئنني وقال بحزم:

"ثقي بي. أنا قادر على مواجهته وطلب يدك منه. أنا رجل صريح وأحب الوضوح، وعلاقتنا يجب أن تكتمل بخطبة في أقرب وقت".

تمتمت بخوف:

"لكنني خائفة..".

رد بصوت مليء بالثقة:

"لن يستطيع أحد أن يؤذيك يا أنيسة. أنت أقوى مما تظنين، وقادرة على مواجهة جدك برغبتك. سعادتك تستحق هذا التحدي، ولن يقف في وجهها أحد".

كان كمال يحاول بث القوة والطمأنينة مهيئاً نفسي للمرحلة القادمة. وفي عينيه، لم ألحظ أي أثر لليأس أو التردد، بل شعرت بثقة راسخة وقوة متدفقة انتقلت إليّ بدورها، مما منحني الإحساس بأني أملك القدرة على مواجهة جدي بثبات.

ابتسم كمال مرة أخرى، ابتسامة ملؤها الحنان والإصرار، وقال:

"هذه معركتنا يا أنيسة، يجب أن نخوضها معاً. وسننتصر فيها معاً. هل تفهمين؟".

أومأت برأسي له، أشعر أن عزمي بدأ يتشكل. قررت أن أكون قوية بما يكفي لخوض هذه المعركة بجانبه، دون أن أخذله، ودون أن أخذل نفسي.

وفي اليوم التالي، زار كمال منزلنا كما وعدني، وقابله جدي برفقة أخي، وكانت نظراته مشحونة بالشك والريبة. كنت أقف في الدور العلوي من منزلنا، أنصت إلى حديثهم في الأسفل، وقلبي ينبض بسرعة شديدة. كانت جدتي العزيزة تضع يدها الحنونة على كتفي، محاولةً تهدئتي، لكن محاولتها الطيبة باءت بالفشل.

بدأ كمال في الحديث عن نفسه وعائلته، وعلى الرغم من أن عدم الرضا كان واضحاً على وجه جدي، إلا أنه لم يعلق على خلفية كمال العائلية، وهو ما أثار شكوكي. ومع ذلك، تلاشى كل هذا الصبر عندما سأل جدي كمال عن وظيفته، وفور سماعه لكلمة "ضابط في الجيش"، انتفض جدي ونهض ثائراً، وهو يصيح:

"هذا مستحيل! اخرج من بيتي أيها الضال!".

تفاجأ كمال للحظة، وقال بتلعثم:

"عمي، من فضلك، استمع إلي..".

لكن جدي قاطعه مرة أخرى، وصوته يتصاعد:

"ولا كلمة أيها الولد! أنت، هذا الفلاح الضال، ترغب في الزواج من حفيدتي الثمينة؟ وأنت تنتمي إلى تلك المنظومة الفاسدة التي دمرت البلد! اخرج من بيتي فوراً!".

في تلك اللحظة، وأنا أستمع إلى الحوار المشتعل، حمدت الله أنني لم أكن في الزاوية التي أرى فيها كمال بوضوح. شعرت بالشفقة عليه وهو يتعرض للإهانة والطرد من بيتي، وكأنني شريكة في هذا الألم. سمعت صوت كمال يرد بثبات:

"عمي، من فضلك، لا داعي لإدخال آراءك السياسية في مصير حفيدتك، أنا أحبها وجئت أطلبها منك، وأعدك أنني سأحفظها".

لكن جدي قاطعه مجددًا، وصوته يرتفع:

"ألم تسمع؟ قلت لك اخرج يا ولد من هنا، لا أريد أن أراك مرة أخرى، ولا تقترب من أنيسة أبدًا!".

كان جدي يقاطع محاولات كمال في الحديث بهستيرية، ويمنعه من محاولة إجراء حوار هادئ. كان واضحًا أنه في حالة خوف شديدة، خوف جعلني أستشعره بوضوح.

سمعت أخي يقول بهدوء:

"من فضلك، رائد كمال، لا داعي لمواصلة النقاش. أنت ترى الإجابة بعينيك الآن. جدي منهار، وبالتأكيد لا ترغب أن تصل الأمور إلى الأسوأ."

سمعت صوت كمال وهو يتحدث بثبات:

"سأذهب الآن، ولكنني لن أتوقف أبدًا عن المطالبة بأنيسة. أنيسة هي الفتاة التي أحب، الوحيدة التي أراها شريكة حياتي، وأنا لن أتخلى عنها أبدًا".

جدي صاح بغضب:

"هل تتحداني يا ولد؟".

أجاب كمال بهدوء:

"لا يا عمي، العفو، ولكن لكل قرار سبب، وأنا أبحث عن تفسير منطقي. سأظل أطالب بها لأنني غير مقتنع برفضك لي. سأستمر في المحاولة حتى تقدم لي سبباً مقنعاً، ولا أعتقد أنني سأقتنع يوماً بأنني يجب أن أبتعد عن أنيسة.. حتى الموت".

ثم أكمل كمال بثبات:

"أستأذنكم الآن، ولنا لقاء آخر".

لم تمض لحظات حتى سمعت خطوات تقترب، ثم رأيت كمال أخيراً من الزاوية التي كنت أقف فيها، حيث تطل على باب المنزل. توقف قبل أن يمد يده ليفتح الباب، ورفع رأسه نحو حيث كنت أقف، بينما كانت الدموع تملأ عيني. تأملني بصمت لثوانٍ، لم تظهر على ملامحه أي تعابير محددة، إلا أن شفتيه مالتا بابتسامة خفيفة، وكأنه يبعث لي برسالة تطمئنني. ثم فتح الباب وخرج.

في تلك اللحظة، شعرت أن قواي تخور، فتراخت ساقاي وسقطت على الأرض بصدمة، ثم دفنت وجهي بين يدي، وأنا أبكي بألم وحسرة لا توصف.

ارتفع صوت جدي فجأة في أرجاء المنزل، عاليًا إلى درجة بثت الرعب في قلوب الجميع:

"أنيسة، تعالي هنا فورًا!".

وقفت أمامه، وقبل أن أدرك ما يحدث، تلقّيت أول صفعة في حياتي. كانت قوية ومباغتة لدرجة أن جدي نفسه بدا مصدومًا مما فعل، فتراجع بيده وكأنها خذلته. لكن سرعان ما عاد إلى غضبه وقال بحدة:

"قليلة الأدب! تتعرفين على شاب من دون علمي أنا، جدك الذي رباك؟! هل هذا هو ثمن رحمتي بكم؟!".

لم تمهل جدتي الوقت ليكمل حديثه، فتدخلت بانفعال واحتضنتني قائلة بحزم:

"أنور، أنيسة لم تفعل شيئًا في الخفاء، كنت أعلم بكل تصرفاتها.. أرجوك، لا تظلمها".

كنت بين ذراعي جدتي المكافحة وأنا أشعر بالخدر في كل حواسي، وفي الحقيقة لم أشعر بالألم من الصفعة القوية التي تلقيتها، فالألم في قلبي تغلب على ألم الصفعة التي تلقيتها للتو.

اشتعل وجه جدي بالغضب وهو يستمع إلى دفاع جدتي وصاح قائلاً:

"زينب! كنتِ تعلمين؟! كيف تجرؤين على مجاراتها في هذه التصرفات؟ بل وإخفائها عني؟! ماذا تعتقدينني؟ هل تظنون أنني أصبحت عجوزًا هرمًا لا حاجة له في البيت؟ لا! أنا ما زلت أنور باشا! باشا ابن باشاوات! ماذا تظنونني؟ أتظنونني سأضع يدي في يد ذلك الولد الحقير؟ هذا مستحيل أيها الأغبياء!".

كان جدي يصرخ بهستيريا، وكأنما يحاول في تلك اللحظة أن يثبت للزمن، الذي بدأ يعانده، أنه لا يزال الرجل الذي كان. وكأنه يدرك بمرارة أن عصره قد تغيّر، وحلّت محله حقبة جديدة مختلفة تماماً، تتحدى وجوده وكأنها على وشك أن تبتلعه، لتطوي معه نسبه ومكانته الاجتماعية.

وبينما كنت غارقة في أحزاني، شعرت بذراعي جدتي ترتجفان وهي تضمّني إليها بقوة. وسط ذلك، انطلق صوتها المرتجف الذي اختلط فيه الغضب بالحزن، قائلة بحسم:

"أنور! لا تكن ظالمًا! لا تجنِ على حفيدتنا كما فعلت مع ابننا وزوجته. يكفي أن هؤلاء الصغار عاشوا دون آبائهم بسبب عنادك!".

شحب وجه جدي وهو يسمع اتهام جدتي القاسي، ليجد نفسه عاجزًا عن الرد للحظات. ثم تمتم بصوت واهن، يحمل ذهولًا غير مسبوق:

"زينب! ما الذي تقولينه؟ هذا كان قضاءً وقدرًا!".

صرخت جدتي وعينيها تدمعان:

"ولكنك كنت سبباً، كنت سبباً في رحيل ابني عزيزي الوحيد".

ولأول مرة أرى جدتي في تلك الحالة، تلك المرأة الطيبة المنصاعة دائماً لأوامر جدي، فقدت أعصابها ورفعت صوتها على زوجها العنيد:

"ابني العزيز، نور عيني، الذي لم أنجب سواه، رحل بسبب ضغطك المستمر عليه وعلى نجاة. لم يكن يمر يوم إلا وألقيت الإهانات فوق رؤوسهم وملأت حياتهم بالكلام القاسي الذي سمم أجواءهم. ذهبوا في تلك الرحلة فقط ليهربوا قليلاً من قسوتك وجفائك الذي عكر صفو حياتهم. ماتوا هناك، في الغربة، بعيداً عن أطفالهم،

وتابعت بصوت يرتجف من الألم:

"أنت لم تتوقف، يا أنور، إلا عندما أُعيدوا إليك جثثًا هامدة، جثثًا لا حياة فيها. هل تعلم كيف هو ألم الأم التي تفقد طفلها؟ كم ليلة تمنيت الموت فقط لألحق بهما؟ لكن ما دفعني للصبر والبقاء كان هؤلاء الصغار، أبناء ابني العزيز. لو قررت يوماً أن أعيش رغم حزني، فهذا فقط لأجلهم، لأنهم أمانة في رقابنا، وسيسألني ابني وزوجته عنهم يوم نلتقي".

نظرت جدتي إليه بعينين تقدحان غضباً وأكملت بقسوة:

"وماذا ستفعل الآن يا أنور؟ هل ستكرر نفس تصرفاتك مع أولادهم؟".

همس جدي، مصدوماً وغير مصدق:

"زينب، هل تكفرين بقضاء الله؟!".

ردت جدتي بنبرة متحدية وهي تنظر إليه مباشرة:

"لا، اياك أن تتهمني، أنا لا أكفر بقضاء الله، ولكن لكل شيء يحدث في هذه الحياة سبب، وأنت كنت السبب الرئيسي في رحيل ابني".

تدخل أخي بسرعة قائلاً بوجه شاحب، محاولاً تهدئة الأجواء:

"جدتي، لا داعي لهذا الكلام!".

نظرت جدتي إلى أسعد بعينين مليئتين بالقهر، لكنها لاذت بالصمت عندما رأت الشحوب يغزو وجهه. عندها تدخل جدي بصوت عالٍ ومليء بالغضب:

"هذا يكفي! أسعد، اصعد إلى غرفتك مع شقيقتك".

حاول أسعد الاعتراض، ونظر إلى جدي بعيون غير مصدقة وقال:

"ولكن يا جدي..".

قاطعه جدي بصراخ غاضب:

"قلت يكفي!".

في تلك اللحظة، اهتز جسد جدي وساقاه فقدتا التوازن. اندفع أسعد بسرعة ليسنده قبل أن يسقط. وانتهى النقاش في ذلك اليوم بقدوم الطبيب، الذي حذر الجميع بشدة من التسبب في أي انفعال لجدي بعد الآن.

فيما بعد، أصدر جدي قراره القاطع: ممنوع خروجي من المنزل إلا للضرورة القصوى، مثل الذهاب إلى الجامعة التي لم تبدأ بعد. كما فرض رقابة صارمة على الرسائل التي تصل بالبريد، ليقرر بنفسه ما يُسمح به وما يُمنع، وكأن الأمر فرمان ملكي لا يقبل النقاش أو التحدي.

حتى جدتي لم تسلم من قسوته، فقد انهال عليها بالكلام الحاد والتأنيب. ومع ذلك، كانت تتمتم بصوت هادئ يشوبه الحزن:

"يكفي أنني أخرجت كل ما كنت أكتمه بداخلي كل يوم وأنا أستلقي بجواره على السرير".

منذ ذلك اليوم، أظلمت الحياة في عيني، وغابت الابتسامة عن شفتي. أدركت حينها أن جميع رسائل كمال، التي كنت أترقبها بكل أمل، تقع بين يدي جدي الذي يمزقها دون رحمة. كلما حاولت التحدث إليه أو إقناعه، ازداد عنداً، وازددت أنا يأساً.

لأول مرة في حياتي، شعرت بنداء عميق في داخلي يتمنى لو أن أبي وأمي ما زالا على قيد الحياة. ربما لو كانا هنا، لكان القرار بيديهما وليس بيد جدي العنيد. في بعض اللحظات شعرت برغبة جارفة في الذهاب إليهم، حتى لو كان ذلك يعني الموت. ربما يكون الموت هو الراحة الوحيدة من العذاب الذي أعيشه، أنا الشابة التي لم تتجاوز بعد العشرين من عمرها.

كان شقيقي أسعد يحاول، بين الحين والآخر، أن يقنع جدي بالتراجع عن قراره، ولكن محاولاته كانت تبوء بالفشل، إذ كان جدي يلجأ إلى التهديد بالتبرؤ منا. وأحياناً، كان يستفز أخي عاطفياً، مذكراً إياه بأنه الشخص الذي ربانا وآوانا، وبأن له الفضل علينا بعد الله، مضيفاً:

"كيف لكم أن تعضوا اليد التي امتدت إليكم بهذه السهولة؟".

فيعود أسعد إليَّ بعد كل محاولة، وقد أثقلته كلمات جدي وموقفه المتصلب، ليطلب مني، بأسى، أن أنسى أمر كمال وأستمع إلى جدي الذي يحبنا، قائلاً:

"أنيسة، نحن لا نريد أن نخسر جدي أيضاً".

تنهدت أنيسة:

"قد تظنين أن أخي كان سلبياً تجاهي، لكنني أعذره حقاً. حتى أنا، في أعماقي، كنت أشعر وكأنني أخون جدي وأطلب منه أمراً لا يستطيع تحمله. ومع ذلك، كنت غارقة في الحب، ممزقة بين ولائي لجدي الذي رباني، وكمال، الرجل الذي أحببته. كنت في حالة من الحيرة والضياع يا سالي، وكأنني على شفا الجنون. منذ ذلك اليوم، شعرت أنني لم أعد الشخص الذي كنت أعرفه. هجرتني عينيّ، فلم أعد أرى النوم إلا كذكرى بعيدة، وأصبحت أتجنب الطعام إلا ما يبقيني بالكاد على قيد الحياة في مواجهة هذه الحياة القاسية. الأيام تمر بلا معنى، بلا كلمة أنطقها، بلا خطوة أخرج بها من غرفتي. تحولت إلى شبح هائم، بلا وجهة أو رغبة في أي شيء. أثار هذا الحال قلق الجميع من حولي، حتى جدي نفسه، الذي جاء يطرق باب غرفتي ذات يوم..".

كنت جالسة أمام نافذتي أتأمل البحر الذي يلوح من بعيد، ولكن عقلي كان مشغولاً بشخص واحد لم يفارق أفكاري

كنت جالسة أمام نافذتي أتأمل البحر الذي يلوح من بعيد، ولكن عقلي كان مشغولاً بشخص واحد لم يفارق أفكاري. وفجأة، سمعت صوت طرقات على باب غرفتي. تأخرت قليلاً قبل أن أجيب، كنت لا أرغب في الرد، وتوقعت أن يذهب الطارق، لكنه استمر في الطرق. أخيرًا، سمحت له بالدخول. التفت لأجد جدي يدخل، وعصاه التي يتكئ عليها في يده، يرفعها تجاهي قائلاً:

"أغلقي النافذة يا بنت وتعالي نتحدث قليلاً".

نفذت أمره دون اعتراض، وجلست أمامه وأنا أشعر بالتعب، فتأملني قليلاً ثم تنهد بيأس وقال:

"اسمعيني جيداً، قبل أن أتحدث، عليك أن تفهمي أنني لن أوافق على هذا الولد أبداً ليكون زوجاً لك، لذا لا تضعي آمالاً مزيفة بسبب تنازلي وقدومي إليك".

في الحقيقة، لم أكن قد وضعت أي آمال، لكن حديثه القاسي كسر قلبي. لم يكن من المعتاد أن يتحدث جدي معي بهذه الطريقة.

أدرت رأسي إلى النافذة بعينين فارغتين، وسمعته يقول:

"ابنتي، أنا جدك، لا أملك في هذه الحياة سواكم، عماتك وأنتِ أحفادي، أبناء ابني رحمه الله. أنتم أمانة تركها لي والدكم، يجب عليّ أن أحفظها وأصونها بإخلاص. لقد اعتنيت بكم وربيتكم طوال تلك السنوات، ولم أبخل عليكم أبداً.. أليس كذلك؟".

لم يجد مني رداً فأصر:

"انظري إلي يا بنت، لا تتجاهلي جدك الذي يتحدث معك".

نظرت إليه فتأمل خدي الذي صفعه، وقال ببعض الخجل وهو يحاول تبرير تصرفه:

"كما أنني لم أعنفكم يوماً، بل كنت حنوناً وصبوراً معكم، تلك المرة الوحيدة التي افقد فيها أعصابي".

انتظر جدي ردي الذي تمناه، ولكنني أحبطته. فأكمل:

"أخبريني.. كيف أضع يدي في يد من خربوا البلد، من سرقوا كل شيء وأودوا بنا إلى حافة الهاوية؟ الأمر يخص كرامتنا بين العائلات يا أنيسة.. موافقتي على زواجك منه يعني أنني أتنازل عن مبادئي، وأنا لا أتنازل أبداً عن مبادئي.. يجب أن تفهمي وتقدري مكانتك جيداً. نحن عائلة قديرة ومرموقة..".

رفع يده بتفاخر وأضاف:

"ونحن العائلات الراقية، مهما جار علينا الزمن، نحتفظ برونقنا وأصلنا.. وابنة عائلة أصلان كذلك يجب أن تحتفظ برونقها، وتنظر إلى شاب يناسبها في المكانة والأصل".

انتظر مني رداً، ولكن لم يحصل عليه هذه المرة أيضاً، فتابع قائلاً بإحباط:

"إن الجواهر الثمينة نادرة يا أنيسة، يتصارع عليها الجميع، ولكن لن يحظى بها إلا من يستحقها كالملوك. وأنت كذلك جوهرتي الثمينة وطفلتي التي ربيتها باعتزاز، كيف أهبك إلى هذا الشخص الذي لا يرقى إلى مستواك الاجتماعي ولا حتى الثقافي؟".

"هذا الشاب الذي تبجح بقدومه وطلب يدك مني، كيف سمحتِ له منذ البداية بالاقتراب منك وتمني شيء مستحيل؟ أنت مستحيله له!".

تنهد الرجل بعمق وقال بتردد:

"ولكن حتى وإن كانت غلطتك، سأغفر لك وأسامحك. لكن لا تقتربي من هذا الولد الضال مرة أخرى".

كنت أسمح حديثه بهدوء شديد من البداية، ولكن عندما بدأ يلقي الإهانات على كمال، وكأن عصباً انفجر في رأسي ونهضت قائلة بصوت مقهور:

"جدي، أرجوك، كفى! كفى هذا الوهم الذي تتمسك به. أنت تعيش في الماضي منذ سنوات طويلة، لكن الواقع تغير. نحن اليوم مجرد عائلة طبيعية مثل جيراننا، لا نعيش في القصور، ولا نحيا وفق الألقاب كما في السابق. لقد نشأت في عصر مختلف عن زمنك، وكل ما أتذكره من حياة القصور التي تتحدث عنها هو مجرد شذرات باهتة. أنا فتاة عادية، ونشأت كفتاة عادية، وأحببت شاباً عادياً مثلي، شاباً متعلماً مثلي، مهذباً مثلي، ومناسباً لي ولوضعنا الاجتماعي الحالي. لذا، لا أفكر بالطريقة التي تفكر بها".

أكملت بعيون تفيض منها الدموع الساخنة:

"لماذا تصر على التقليل من شأنه؟ ما ذنب كمال؟ لماذا تصب عليه غضبك، الذي لم تجرؤ على مواجهته مع من انتزعوا ألقابك، لماذا تحرمني، أنا حفيدتك الثمينة كما تقول دائماً، من الشخص الذي اختاره قلبي؟ أم أنك تريدني أن أعيش نفس مصير والدي؟ هل مكانة ألقابك وقيمتها تأتي دائماً قبل الأشخاص الذين يحبونك ويخصونك؟".

وكانت كلماتي الأخيرة كالسهم الذي أصاب جدي في كبريائه، فنهض من كرسيه بعصبية واضحة، وعصب فائر ينبض في صدغه. ضرب الأرض بعصاه بقوة، وقال بلهجة قاسية وحادة:

"يبدو أنني أخطأت حين جئت إليك بنفسي. أنت فتاة قليلة الأدب، ولا تعرفين معنى احترام جدك. لذلك، لا تفكري أن العقاب سينتهي هنا. وإذا كان هذا الولد هو كل ما يشغل بالك وليس جدك أو مصلحة العائلة، فسأتخذ قراري أنا أيضاً. سأزوجك في أقرب وقت، بالطبع لشاب ذو مقام رفيع يليق بنا، وهذا سيكون جميلي لك رغم معصيتك وإهانتك لي".

نظرت إليه بعينين مليئتين بالظلم وقلت بتوسل:

"أرجوك يا جدي، لا تفعل هذا بي، أنا أحبك، ولم أتعمد عصيانك يوماً. لماذا تصر على تعذيبي؟ ورفض اختياري لشريك حياتي؟".

في تلك اللحظة، لاحظت أن عينيه بدأت تضعف، لكنه سرعان ما ضرب الأرض بعصاه وقال بحزم:

"لست أنا من يعذبك، بل أنت من تختارين تعذيب نفسك، لا مجال للنقاش بعد الآن".

ثم خرج من الغرفة ليتركني أغرق في عذاباتي وحزني.

ومنذ ذلك اليوم، قاطعني جدي ولم نتبادل الحديث مرةً أخرى، وبدأ بالفعل في البحث عن عريس "يليق بي" كما كان يكرر دائماً.

ابتسمت أنيسة بمرح وهي تنظر إلى سالي، وقالت بنبرة مازحة:

"لكن كما أخبرتك من قبل، كنت خبيرة في تطفيش العرسان".

لم تجد سالي سوى أن تبتسم برفق في الرد على أنيسة، بينما كان قلبها يعتصر شفقة على هذه المرأة المسكينة.

ومرت الإجازة وبدأ العام الدراسي الجديد. كنت أذهب إلى الجامعة تحت حراسة السائق الخاص الذي كان ينتظرني أمام الجامعة حتى نهاية اليوم. كان جدي قد عينه ليقوم بإيصالي ومراقبتي في الوقت نفسه، حتى لا أهرب من الجامعة وألتقي بكمال الذي لم أره منذ ذلك اليوم، وقطع عني رسائله بواسطة جدي.

في أحد الأيام، كنت في محاضرة، وفور انتهائي، وبينما كنت أخرج من القاعة، سمعت شخصاً يناديني. التفتُّ لأجد كمال بزيه العسكري، الذي كان أول مرة أراه فيه. مرت شهور طويلة منذ أن رأيت عزيزي كمال، لذا في تلك اللحظة، لم أتمالك نفسي. كان قلبي يكاد ينفجر من شدة الشوق، مما دفعني للركض نحوه بعينين مملوءتين بالدموع، وتعلقت ببدلته كأنني أغرق وأمسك بيد تمتد إلي لإنقاذي. قلت بصوت مرتجف وعينيّ مملوءتين بالدموع:

"كمال.. ماذا تفعل هنا؟ لقد اشتقت إليك كثيراً، أعتذر عن تصرف جدي، حاولت أن..".

لكنني لم أستطع إكمال حديثي، فقد انهرت بالبكاء بهستيرية. كنت أشعر وكأن روحي قد عادت إلي عندما رأيته. نظر كمال حوله، وقد كان الطلبة ينظرون إلينا باستفهام، فسحبني من ذراعي وقادني إلى حديقة الجامعة حيث انتظرني حتى هدأت وتوقفت عن البكاء، وهو يحاول تخفيف الأجواء بالمزاح الذي أحببته منه. وعندما استعادت نفسي، أخبرني عن أحواله طوال الفترة التي كنا فيها بعيدين عن بعضنا بغير إرادتنا:

"منذ ذلك اليوم وأنا أحاول مقابلتك، لكن يبدو أن جدك قد أقام حولك الأسوار. ألم تقرأي على الأقل رسائلي؟"

هززت رأسي نافية وأنا أمسح دموعي بالمنديل. نظر إلي كمال بحزن وسأل بصوت يحمل مرارة:

"كيف كنتِ خلال تلك الفترة؟".

أجبته بصوت مفعم بالعاطفة:

"لم أكن على ما يرام يا كمال".

ثم أضفت بيأس، والدموع تتسلل من جديد:

"لم أكن بخير أبداً.. أشعر بيأس شديد. جدي قاطعني ولم يتحدث معي منذ وقت طويل".

ربت كمال على يدي بلطف وقال بصوت هادئ:

"اهدئي قليلاً وتحدثي بعقلانية، لا تجعليه يشعر بالإهانة. إنه جدك وولي أمرك، ومن الحكمة والأدب أن تتجنبي معاندته".

نظرت إليه بقلق وقلت بانفعال:

"ولكن كيف يمكنني ذلك؟ على هذا الحال سيضعني أمام الأمر الواقع ويزوجني على الفور. هل تعلم كم عانيت لرفض الشباب الذين تقدموا لخطبتي؟".

شحب وجه كمال فجأة، وكأن الدم انسحب منه، وسأل بصوت متوتر:

"هل يحاول تزويجك؟"

أجبت بصوت مثقل بالهموم:

"نعم يا كمال، إنه يبحث عن شاب يراه مناسباً لمكانتنا الاجتماعية".

ظهرت ملامح الإهانة على وجه كمال، فقلت على الفور، محاوِلة تصحيح الموقف:

"هذا رأي جدي، لكنني لا أرى أي فرق بيننا على الإطلاق. لو كنت غير مناسب لي، لما اخترتك منذ البداية. أنت من اخترته بعقلي وقلبي معاً."

تردد كمال للحظة ثم سأل:

"وما موقف أسعد من كل هذا؟".

أجبت بتنهيدة خفيفة:

"أخي يقف في المنتصف. يحاول جاهدًا أن يقنع جدي بقبولك في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يحاول إقناعي بأن أنساك. أعتقد أنه يريد فقط الحفاظ على العلاقات داخل البيت وألا تنفجر الأمور بيننا".

أومأ كمال برأسه وقال بنبرة متزنة:

"ربما أسعد محق، يا أنيسة. الأمور لن تسير في الطريق الصحيح دون أن نحصل على موافقة جدك. لا يمكننا بناء حياة على أساس الخلاف."

قلت له بمرارة:

"لكن جدي عنيد للغاية، ويرفض رفضاً قاطعاً علاقتنا. حتى أنه رفض مقابلة جدي وجدتي من ناحية أمي عندما حاولوا التدخل، ومنعهم من زيارتنا".

كان جدي قد أغلق كل الأبواب في وجهي ووجه كمال، وظهر ذلك على ملامح كمال المستغرقة في التفكير. ظل صامتاً للحظات طويلة، بدا فيها متجهماً وغارقاً في أفكاره المعقدة، قبل أن يرفع رأسه ويقول بنبرة حازمة:

"سأبحث عن حل. بالتأكيد يوجد طريق ما. ربما يجب أن أتحدث مع أخيك أولاً. هل تعتقدين أنه سيقبل الحديث معي بعد كل ما حدث؟".

هززت رأسي بخفوت وقلت:

"لا أعرف. أخي يشبه جدي في بعض الأمور، خاصة في صعوبة توقع تصرفاته وآرائه".

أخذ نفساً عميقاً وقال بتفهم:

"أخيك وجدك يحبونك يا أنيسة، وربما يكون الخوف هو ما يمنعهم من الموافقة على شاب بسيط في نظرهم، ولكن يجب أن يتعرفوا علي أولاً حتى يلقوا أحكامهم فيما بعد".

كان كمال دائماً معتزاً بنفسه، يحمل في داخله كبرياءً وكرامة لا يتزعزعان، وهي سمة اكتسبها من تدريبه في الجيش. لم يكن من النوع الذي يستسلم لليأس أو يظهر الضعف، حتى في مواجهة الإهانات التي وجهها له جدي. كان مصمماً بكبرياء على الفوز بي، لكنه اختار أن يسلك طريق الكرامة بدلاً من التذلل أو التوسل بشكل مثير للشفقة.

"أنيسة، لنترك هذا الحديث الآن. ليس لدي الكثير من الوقت".

تردد كمال للحظة قبل أن يقول بحذر:

"بالطبع، هذه هي المرة الأولى التي تريني فيها بزي الجيش".

نظرت إليه متأملة تفاصيل ملابسه العسكرية، ثم تذكرت أن أسأله عن السبب، لكنه استبقني قائلاً:

"في الحقيقة، بالكاد حصلت على يوم إجازة لأزور عائلتي ثم أنت. أنيسة.. غداً سأكون في مهمة خاصة، وجئت لأودعك قبل الذهاب".

كانت هناك نظرة غريبة في عينيه، مزيج من الحزن والحزم، جعلتني أشعر بالقلق والريبة. فسألته بخوف:

"ماذا يحدث يا كمال؟".

رد بصوت منخفض وكأنه يحاول تهدئتي:

"لا أستطيع أن أخبرك، لكن الفترة القادمة ستكون صعبة قليلاً.. علينا جميعاً، وعلى البلد بأسرها".

ازداد قلقي وسألته بتوتر:

"لماذا؟ هل هناك حرب؟"

كانت بالفعل هناك توترتات سياسية، وتصريحات وتهديدات متبادلة، تبادل فيها القادة العرب والإسرائيليون التصريحات العدائية، مما أسهم في زيادة التوتر. كما أنه تشأت اتفاقيات وتحالفات عربية، وأعادت مصر وسوريا تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بينهما في مارس 1967، مما زاد من التوتر الإقليمي. كما شهدت المنطقة دعمًا متزايدًا للعمليات الفدائية الفلسطينية ضد إسرائيل.

قال كمال بصوت عميق يحمل في طياته الكثير من المسؤولية:

"لا أستطيع أن أحكي تفاصيل تخص أمننا القومي، ولكن قريباً سأكون في مهمة".

سألته بقلق وإصرار متزايد:

"هل هناك حرب مع العدو المحتل؟".

ابتسم كمال، لكن ابتسامته لم تصل إلى عينيه، وقال:

"لا تنسيني من دعواتك يا أنيسة.. خذي هذه الورقة".

مدّ يده ليضع ورقة بيضاء في يدي، ثم أوضح:

"فيها عنوان عائلتي في كفر الزيات، والرقم لقريب لي يعيش هنا في الإسكندرية. رسائلي إليك ستصل إليه أيام الخميس، وسيأتي بنفسه ليسلمها لك".

كانت عيناه تحملان بريقاً من التصميم والقوة، لكنهما أيضاً كانتا تخفيان الكثير من القلق الذي لم يعترف به بصوت عالٍ. شعرت بالخوف مما قد يحدث وقلت بصوت مرتجف، وأنا أقبض على الورقة بقوة:

"كمال... لا تتركني وأنا غير مطمئنة.. أرجوك".

حاولت كبح دموعي، لكنه أمسك بيدي برفق، وقال مطمئناً:

"لا تقلقي عليّ، سأعود يا أنيسة. سأعود وأحاول مرةً أخرى مع جدك. لن أتركك أبداً يا عزيزتي، فقط انتظريني".

ورحل كمال في ذلك اليوم في شهر مايو 1967، وكنت أراقبه وهو يمشي ببذلته العسكرية شامخًا، وساقاه تتحركان بخطوات ثابتة وكأنهما تتسابقان نحو المعركة المجهولة، تلك التي بدأت بوادرها تتردد في الأفق. وفي اليوم التالي، جاءت الأخبار:

التحركات المصرية في سيناء: في مايو 1967، طلبت مصر سحب قوات الأمم المتحدة من سيناء، وبدأت في حشد قواتها هناك، مما أثار قلق إسرائيل وزاد من احتمالات اندلاع الحرب.

ثم توالت الأخبار على مدار الأيام التالية:

إغلاق مضائق تيران: في 22 مايو 1967، أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر إغلاق مضائق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية، مما اعتبرته إسرائيل تهديدًا مباشرًا لأمنها الاقتصادي والعسكري.

حتى جاء هذا اليوم الذي انتكست فيه مصر وسائر المنطقة العربية، ففي صباح يوم 5 يونيو 1967، شنت إسرائيل هجومًا جويًا مفاجئًا على قواعد سلاح الجو المصري، حيث دمرت الطائرات الإسرائيلية معظم الطائرات المصرية وهي على الأرض، مما أدى إلى فقدان مصر لقدرتها الجوية في الساعات الأولى من الحرب. وبعد تحقيق التفوق الجوي، بدأت القوات البرية الإسرائيلية هجومًا على سيناء، متقدمة بسرعة عبر الصحراء ومستخدمة تكتيكات التفاف لتطويق القوات المصرية.

على الجبهة الأردنية، ورغم أن الخطة الإسرائيلية كانت تهدف إلى اتخاذ موقف دفاعي، إلا أن القصف الأردني لمواقع إسرائيلية دفع إسرائيل إلى شن هجوم مضاد، مما أدى إلى احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية.

في الشمال، شنت إسرائيل هجمات على المواقع السورية في هضبة الجولان، مستغلة تفوقها الجوي والارتباك في صفوف القوات السورية.

انتهى اليوم الأول من الحرب بسيطرة إسرائيلية على مساحات واسعة من الأراضي العربية، وتدمير كبير للبنية التحتية العسكرية في مصر والأردن وسوريا.

كانت تلك الحقيقة التي حاولت الحكومة التعتيم عليها، ضحكوا علينا جميعاً قبل أن تصلنا أخبار النكسة، ضحكوا عليها حتى اعتقدنا أننا من انتصرنا. فبعد نكسة 1967، قامت الحكومة بترويج عدة أخبار وأحداث بهدف حماية الروح المعنوية للشعب، وتصوير الهزيمة بشكل يخفف من وقعها على المواطنين. الحكومة أكدت على أن الخسائر كانت "قليلة" وأن مصر لم تفقد سوى بعض المواقع الاستراتيجية، رغم أن الواقع كان مغايراً. تم إخفاء الأخبار حول تدمير معظم القوات الجوية المصرية في الساعات الأولى من الحرب، كما تم تقليص الحديث عن الخسائر البشرية والمادية الكبيرة.

قالت أنيسة وهي تتذكر تلك الفترة مضيقة عينيها:

"كان الشعب مصدوماً ملكوماً، فالخسارة لم تكن مجرد خسارة على أرض المعركة يعود كل طرف إلى أرضه، الخسارة يا سالي سلبت معها أرضاً، احتل العدو سيناء وضمها إلى أراضيه، أرضنا الغالية سلبها العدو الهمجي، وتحطمت أحلام الجميع. أتذكر يومها كنت أمشي في الشارع بين الناس، ولا أسمع سوى الصمت المطبق، الجميع كانوا مذهولين إلى الدرجة التي أخرستهم، الخيبة والمرارة تتحدث على وجوههم. في ذلك اليوم، اجتمع الشعب على وقع النكسة، لكن معظمهم كان يحمل نكسة مضاعفة، فمن لم يكن لديه ابن أو قريب أو صديق أو والد أو حبيب، وقف في الميدان، إما استشهد أو أُسر. وكنت أنا منهم.

مشيت في الشارع يومها بخطوات سريعة، والذكريات تملأ رأسي، أتذكر حديث كمال معي قبل رحيله. هل كانت تلك المهمة التي تحدث عنها؟ هل من الممكن أنه كان هناك في سيناء، في قلب المعركة؟ هل مات؟ أم أُسر؟ كيف حاله الآن؟ ولكنه وعدني بأنه سيعود مرةً أخرى، هل ربما ربما صارت تلك الدعوى مجرد حلم الآن؟ صوت أنفاسي كان يتسارع مع كل دقيقة تمر، وأنا أمضي بلا هدف واضح. لم أكن أعرف إن كنت أضحك أم أبكي، فقد اختلطت المشاعر بداخلي بشكل مربك. تركت قدماي تقوداني حتى وجدت نفسي عند الشاطئ، المكان الذي جمعنا لأول مرة.

نظرت إلى الأفق بعينين تملؤهما الحيرة والتوق، وكأنني أترقب أن أراه قادماً من بعيد، بابتسامته المألوفة التي طالما منحتني الأمان. لكن كان هذا مجرد وهم، أمنية مستحيلة تعشعش في أعماق قلبي. ومع ذلك، شعرت بثقل لا يحتمل يجثم فوق صدري، ثقل لم أستطع كتمانه أكثر.

صرخت بكل قوتي:

"كمال!".

تردد صدى ندائي عبر الأمواج، وكأن البحر نفسه يردده. لكنني كنت أعلم أن صوتي، مهما علا، لن يصل إليه أبداً.

نهاية الفصل الثاني والثلاثون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

أهلاً أعزائي القراء..

مقدرتش مقولش كل سنة وانتوا طيبين، والفصل ده هديتي ليكم بمناسبة السنة الجديدة، ربنا يجعلها خير عليكم يارب. الفصل انهاردة طويل كتعويض عن الاسبوع اللي فات، يا رب يعجبكم.

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصل: تفتكروا كمال مات في النكسة؟

***

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.