الاثنين، 25 نوفمبر 2024

رواية المنزل: الفصل الثامن والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الثامن والعشرون

أغنية انهاردة، أغنية قصيرة لأم كلثوم وجميلة جداً، وكلماتها رقيقة جداً جداً، أسمها "النوم يداعب عيون حبيبي". كلمات الشاعر الرقيق أحمد رامي، وألحان المبدع رياض السنباطي، رحمهم الله جميعاً.

***

فتحت أنيسة عينيها بدهشة، ولم تلبث سوى لحظات حتى نهضت عن سريرها رغم الألم والإرهاق اللذين سيطرا جسدها الهزيل. نظرت إلى الضمادات التي تغطي رأسه وقالت بصوت منخفض ومليء بالحزن:

"خالد، ماذا حدث لك؟ لماذا رأسك ملفوف بالضمادات؟".

تحرك خالد ببطء نحو أقرب كرسي، وجلس عليه منهكاً، مطأطئاً رأسه إلى الأرض ويديه متشابكتان. ساد صمت مشحون بالتوتر للحظات، قبل أن تقول أنيسة:

"إن كنت غاضباً يا بني، فلا بأس أن تصبّ غضبك عليّ".

لم يقل خالد أي كلمة، فآثرت أنيسة الصمت، وهي تشعر بأن ناراً تشتعل في داخلها. كان ألمها يزداد مع كل نظرة تلحظ فيها يأسه الجليّ، ذاك الذي لم تره في عينيه منذ سنوات. أخذت نفساً عميقاً، محاولِةً العثور على الكلمات المناسبة لتبدأ حديثاً لم تكن تعرف إلى أين سيقودها:

"أحياناً أتمنى لو تركتك في ذلك اليوم في الدار، ربما كنت سأحرم نفسي من القدر السعيد الذي عشناه معاً، لكنني كنت سأحمل ألمي وحدي دون أن أجرّ معي أرواحاً بريئة".

عادت أنيسة لتجلس على حافة سريرها، وأمالت رأسها بابتسامة حزينة:

"لا أعلم، لكن في الفترة الأخيرة، تراودني ذكريات بعيدة..".

همست المرأة بضحكة خفيفة قائلة وهي تسترجع الذكريات:

"هل تتذكر ذلك اليوم عندما أخبرتك أنني سأكفلك وستعيش معي؟ يومها، ركضت بعيداً، وظننت للحظة أنك هربت من الدار حتى لا تأتي معي. ولكنك عدت بعد ساعات، دون أن تخبر أحداً أين كنت. في تلك اللحظة، شعرت بالتردد وبدأت أفكر في التراجع عن قراري، حتى رأيتك وقد جمعت ملابسك القليلة في أكياس بلاستيكية رقيقة".

ابتسمت أنيسة وهي تتذكر خالد الفتى الصغير وهو يمسك بعدة أكياس بلاستيكية حشر فيها ملابسه، حتى صارت الأكياس دائرية، وأكملت:

"حتى الآن، لا زلت لا أعرف أين ذهبت في ذلك اليوم، ولماذا عدت بصمت. لكن حينما رأيتك تمسك الأكياس البلاستيكية التي وضعت فيها ملابسك، أدركت حينها أنك لا تمانع أن أكون أماً لك".

استطردت أنيسة، تنظر إلى خالد بنظرات ملؤها الشجن:

"لو تعرف يا بني كيف شعرت في تلك اللحظة حين احتضنتك لأول مرة، كان إحساس الأمومة قد تسرب إلى قلبي في ثوانٍ، ولم أشك لحظة في تلك المشاعر، رغم أنني لم أختبرها من قبل. لم يخطر لي يوماً أنني سأرزق بطفل وأنا في هذه السن المتقدمة".

تابعت وصوتها يرتعش:

"ربما اخترت بنفسي منذ استشهاد كمال، ألا أتزوج أبداً، لكنني في أعماقي من وقت للآخر كنت أحنّ لطفل يناديني 'ماما'، يتعلق بي، يبكي ويضحك ويغضب ويُزعجني. كانت مشاعر الأمومة تلك التي لم أختبرها أبداً تجذبني، لكنني كنت أهرب منها، حتى في الدار التي عملت فيها لسنوات، لم أكن إلا مشرفته، ولم أسمح لنفسي بالاقتراب من الأطفال الصغار، خشية أن أكتشف ذاك الفراغ الكبير داخلي وأبدأ في التشكيك في قراراتي.

لكن عندما وصلت إلى الدار، وكأن الله اختارك أنت لتملأ قلبي منذ اللحظة الأولى. والله يا بني، لم ألتقِ بطفل مثلك أبداً، ولم يشدّ قلبي طفل قبلك. ثم، جاء الأطفال الآخرون من بعدك، وأصبحوا جزءاً من حياتنا".

نظرت أنيسة إلى خالد بعينين ملؤهما الحب، وابتسمت وهي تشعر بأن حبها له لا يمكن إخفاؤه. تنهدت ومسحت دموعها بمنديل وقالت:

"عشنا حياة طويلة معاً، بدأنا من الصفر تماماً. رأيتك تكبر أمامي، تخطو خطواتك نحو المستقبل بمسؤولية وأنا أراقبك بفخر، ولم أشك لحظة واحدة أنك ابني".

رفعت رأسها، وعيناها تلمعان بعاطفة مكبوتة، وقالت بصوت ممتلئ بمشاعر لم تُبح بها من قبل:

"لقد أصبحتَ أكثر من مجرد ابن.. كنتَ حبل نجاتي في هذه الحياة. عشت، يا بني، قرابة ثلاثين عاماً من الضياع والشتات. عشتهم بمفردي، بعدما نبذني أبي بسبب اختياري لمن أحبّ قلبي، وحتى أخي الكبير أسعد، وكل ما تبقى لي من عائلتي، انصاع له وقاطعني. كنتُ مجرد جسد بلا روح، أعيش كل يوم بيومه، منتظرةً خلاصاً ما من تلك الحياة".

صوتها ارتعش وهي تتابع:

"ثم اخترقتَ حياتي كأشعة الشمس.. أدفأت قلبي، وأنرت حياتي المُظلمة. لو أتيحت لي فرصة العيش ليوم إضافي فوق عمري، لعشته لأجلك أنت. لقد أحييت داخلي شعوراً لم أكن أظنه ممكناً، أن يعيش المرء لأجل شخص آخر. وأنا أعيش هذه الحياة الآن، ليس لأجلك وحدك فقط، بل لأجل الصغار أيضاً، لأجل ستة عشر روحاً أعتني بهم".

بدأت أنيسة في البكاء بهدوء، دموعها تتساقط بصمت، ثم قالت بصوت متهدج، مليء بالندم:

"أعلم أنني مسؤولة عن الحالة التي تمر بها الآن".

أخذت نفساً طويلاً، وتنهدت ببطء، قبل أن تهمس بصدق وحزن:

"ربما.. ربما أكون قد أخطأت في تقدير الأمور".

نظرت إليه، وراودها شعور بأنها تخاطب جماداً، وليس رجلاً يجلس أمامها، منحنياً بوجهه الهش للأسفل:

"أحياناً كنت أتمنى لو أنك كنت تعلم من البداية. لكن، يا خالد، هل تدرك كم كان الأمر صعباً؟ منذ أن بدأت أشعر ببوادر الألم، كنت أعتقد أنه مجرد آلام طبيعية تصيب كبار السن. انتظرت شهوراً، حتى اشتد الألم. كان ذلك قبل ستة أشهر. وفي النهاية، وبعد أن أصبح الألم لا يُحتمل، ذهبت إلى الدكتور رشدي، وأجرينا الفحوصات. كان الرجل صريحاً معي.. أخبرني أنني في المراحل المتأخرة من المرض".

ابتسمت أنيسة بمرارة، وكأنها تسترجع لحظات صعبة:

"لا أريد أن أخبرك ماذا فعل عندما اكتشف أنني تأخرت كل هذا الوقت دون فحص. كان غاضباً لدر، وكاد أن يتصل بك. لا أعرف كيف ولماذا منعتُه، ربما لأنني لم أكن قادرة على استيعاب الأمر بعد. حين عدت إلى المنزل ذلك اليوم، رأيت الأطفال يلعبون بسعادة، يمضون حياتهم البسيطة بفرح، وأنت تأتي وتذهب من وإلى عملك، والأيام تمضي بخير وهناء. فكرت وقتها: ماذا لو ألقيت بهذا الخبر فوق رؤوسكم؟ كيف سيتغير عالمكم الهادئ؟ هؤلاء الأطفال المساكين.. كيف ستكون حياتهم؟".

توقفت للحظة، وابتسمت، رغم أن الحديث لا يستدعي الابتسام، وقالت بنبرة مريرة:

"أنا لست مغرورة، ولا أبحث عن تعاطف خاص، لكنّي أعلم حجم المشاعر التي تحملونها في قلوبكم تجاهي. من ينادي شخصًا بكلمة 'ماما' بكل هذه الثقة والحب، فإنه حقًا يرى فيه أمًّا؛ ملاذًا وسندًا، شخصًا لا يُستبدل. تخيل لو رآني هؤلاء الأطفال أعاني أمامهم. كيف ستؤثر عليهم هذه الصورة التي تشوه ذكرياتهم السعيدة؟".

همست أنيسة بعد لحظة من الصمت:

"ما زال الأمر مبكراً عليهم".

ثم تابعت بصوت متردد، وكأنها تحاول ترتيب أفكارها:

"ظللت لفترة مشوشة، أسابيع طويلة وأنا أفكر في الأمر، بينما المرض ينهشني ببطء. حتى فات أوان إخبارك. كنت أخشى إخبارك، ولكن في كل مرة يشتد الألم ويصبح أكثر قسوة، كنت أشعر بوحدة قاتلة، وكأنني أحمل هذا العبء وحدي. لم أكن أملك سوى الشفقة على نفسي، لأنني وجدت نفسي في مواجهة هذا المصير دون أن أتمكن من مشاركته معك".

دمعت عيناها، وابتسمت بدموع متلألئة وهمست بضحكة باكية:

"فكرت كثيراً في الموت وحدي، لكن حتى تلك الأمنية لم تكن هناك طريقة مناسبة لتحقيقها".

رفع خالد رأسه بذهول عند سماعه كلماتها الأخيرة، وقد بدت عليه صدمة أطفأت أي لون على وجهه. همس بصوت مضطرب، وجهه شاحب:

"لماذا لم تخبريني؟".

وكأنه لم يقتنع بتبريراتها، جاء صوته كصدى مؤلم يخترق سكون الغرفة، وسؤاله جعل قلب أنيسة يرتجف، لكنها تماسكت، محاولًة ألا يظهر أي انفعال على وجهها. شعر خالد بمرارة، وقال بصوت مخنوق بالحسرة:

"ماذا تعتقدينني؟ هل تعتقدين أنني ما زلت الطفل الذي تحدثتِ عنه قبل قليل؟".

نهض خالد فجأة عن كرسيه، محاولاً أن يهرب من ثقل مشاعره، والتفت بجسده المرتعش بالتوتر عنها، متجنباً أن تلتقي عيناه بعينيها. أكمل بصوت متوتر، وكأن الكلمات كانت تنفجر من داخله رغماً عنه:

"هل كنتِ تظنين أنكِ ستستطيعين إخفاء الأمر عني إلى الأبد؟ ماذا عن حقي في المعرفة؟ ماذا عن كوني ابنك؟ أتظنين أنني ضعيف لهذه الدرجة؟".

نظرت أنيسة إليه بحزن، وهي تحاول الدفاع عن نفسها بصوت يختنقه الأسى:

"لأنني أعرف.. أعرف أنه لا أمل لي بالنجاة. كنت أعلم ذلك منذ البداية. أردت فقط أن ينتهي كل شيء بهدوء.. دون أن أكون سبباً في معاناتك".

نهضت من مكانها بتوتر، وكأنها تجر كلماتها معها، وتابعت بصوت يرتجف:

"كنتُ مشتتة، يا بني.. كنتُ فعلاً مشتتة!".

ارتعشت يد خالد وهو يحاول كبح مشاعره، لكن الألم كان أكبر من أن يحتمله. فجأة، ضرب بقبضته الجدار بقوة، ليصدح صوت ارتطامها في الغرفة، وقال بصوت متهدج ينضح بالغضب والخيبة:

"لقد تسببتِ بالفعل! أن أكتشف الأمر وأجد كل شيء قد انتهى.. أن أراكِ تذوين أمامي دون أن أتمكن من فعل أي شيء؟!".

ساد صمت ثقيل، وكأن الزمن توقف للحظات، وترك كلماته تطفو في الجو المشبع بالحزن. كانت عيناه تلمعان بالدموع، ونظر إليها نظرة مشبعة باليأس والانكسار، قبل أن يكسر سكون المكان بنبرة خافتة، كأنها تعبير عن وجعه العميق:

"لو أخبرتِني.. ربما، ربما كنت سأتمكن من فعل شيء.. أي شيء".

ارتجف جسد أنيسة وكأنها تحاول تلمس استقرار لم يعد موجوداً، وهي تنظر إليه بعيون تفيض بالندم والألم، وهمست بحسرة:

"سامحني يا خالد، أعتقد أنني أخطأت في تقدير الموقف، أنا.. فقط كنت أخشى أن أقلب حياتك".

كانت عيونها مليئة بالدموع الحارة، واقتربت منه وهي تمد يدها المرتعشة لتلامس وجهه وتهمس:

"لا شيء كنت ستفعله سيغير النهاية، يا خالد. كل ما أردته هو أن تبقى ذكرياتنا ملونة، لا يغشاها السواد".

ابتعد خالد عنها، وجلس على الأرض ببطء، ودفن وجهه بين كفيه، فانخفضت أنيسة بجسدها وهي تمسح على كتفه قائلة:

"انظر إلى نفسك يا بني، وستعرف السبب، أعرف أنني بالغت في عدم إخبارك بمرضي، كان من الأسهل لي إخبارك ولكن لم ارغب في الانهيار امامكم ظننت أنني سأكون متماسكة".

همست بصوت مسموع:

"ولكن يبدو أنني قد انهرت بالفعل".

بعد دقائق، هدأ جسد خالد المرتجف ورفع رأسه قائلاً وعينيه شاردتان حزينتان:

"ذلك اليوم، عندما فتحت عيني في الميتم، كنت أشعر بالخوف الشديد وأنا أرى أناس لا أعرفهم، لا أدري أين أنا أو ماذا يحدث حولي. شعرت بالضياع، بالخوف، وبأنني قد فقدت شيئاً لا أستطيع استعادته. وحتى الآن، ما زلت أشعر بتلك الفجوة العميقة، وكأن هناك شيئاً غائباً عن حياتي، شيء لا أستطيع تذكره أو إعادته. رغم أنني أستطيع تذكر بعض التفاصيل الصغيرة من الماضي البعيد، إلا أنني أعلم أنني ربما لن أتمكن من استرجاع ما ضاع".

كان يتحدث عن جانب خفي في أعماقه، يكشفه لأول مرة، حتى لأنيسة التي جلست تستمع إليه بانتباه شديد وعيون حانية. قال بصوت منخفض ومفعم بالمشاعر:

"كنت خائفاً جداً.. أشعر أنني غريب في هذا المكان. الوحدة كانت تلتهمني، وكأنني أنتظر حدوث شيء مجهول، لا أدري ما هو. كنت عاجزاً عن التفاعل أو حتى الحديث. كأنني فقدت قدرتي على الكلام.. كأنني نسيت كيف أتحدث".

امتلأت عينا أنيسة بالدموع وهي تتأمل ابنها يعترف بتلك المشاعر التي ظل يكتمها لسنوات. تابع حديثه بصوت متردد:

"كنت أراك من بعيد، وأنت تراقبينني بصمت، وبدلاً من أن أشعر بالأمان، كان ذلك يخيفني أكثر. لكن.. مع الوقت، في حضورك، بدأت أشعر بالطمأنينة. وعندما تحدثتِ معي للمرة الأولى، كانت تلك اللحظة فاصلة. وجدت نفسي أنطق أول كلمة، كطفل يتعلم النطق لأول مرة. كنت أشعر بسعادة غريبة وأنا أكتشف أنني أستطيع الحديث، على التواصل.. رغم أنني في البداية حاولت أن أخفي هذا الشعور عنك، ولكني لم أستطع السيطرة على إحساسي بالسعادة والطمأنينة".

كان صوته ينخفض تدريجياً، وكأن الكلمات تجرّ منه كل طاقته، لكن أنيسة شعرت بأنها اقتربت أكثر من أعماقه التي طالما حاول أن يخفيها:

"في ذلك اليوم الذي أخبرتني فيه أنك ستكفلينني، شعرت أخيراً أن لدي منزلاً، أنني سأنتمي لعائلة، حتى لو كانت مكونة من شخصين فقط. كان هذا كافياً بالنسبة لي. كنت أركض في الطرقات، أشعر وكأنني طائر تحرر من قفصه".

توقف قليلاً، ثم أكمل بصوت هامس:

"كنت حراً وسعيداً".

ابتسمت أنيسة، وقلبها يغمره شعور عميق بالسعادة. أي فرحة أعظم من أن تكون سبباً في منح الحرية والسكينة لروح مقيدة؟ خاصةً إن كانت روح طفل صغير يعيش في دار للأيتام، يبحث عن الأمان والدفء الذي يفتقده.

قال خالد بصوت يحمل كل الامتنان:

"لذلك لم أعترض يوماً على قراراتك في تبني الأطفال. كنت أعلم كم هو محظوظ هذا الطفل الذي ستتبنينه".

ثم صمت لحظة قبل أن يضيف بتفكير:

"أحياناً أتساءل.. ماذا لو كنت أعرف من أنا حقاً؟ لو كانت لدي عائلة طبيعية؟ لو لم أقابلك؟ هل كنت سأكون سعيداً كما أنا الآن؟".

رفع عينيه نحوها، وسط مشاعره المتضاربة، وقال بصوت ثابت:

"ولكن ما أنا متأكد منه أنني سعيد حقاً.. وممتن".

رأت أنيسة في عينيه الطفل الذي كفلته، وليس الرجل الناضج أمامها. ذلك الطفل الذي يعترف بحب صادق وامتنان لا يخفيه. ضمته إليها بحنان وقالت:

"وأنا أيضاً يا ابني، لقد ربيت طفلاً بذلت له كل ما أملك من حياتي، وأراه اليوم قد كبر أمامي وصار رجلاً يُعتمد عليه".

مسحت على رأسه كما كانت تفعل عندما كان صغيراً، وقالت بعاطفة عميقة:

"لقد أنرت الباقي من عمري، وجعلت له سبب وقيمة، أشكرك على تلك الأيام التي عشناها معاً، لقد منحتني أياماً لا تُنسى. لقد كنت حقاً ولداً باراً وحنوناً".

نظر إليها خالد برجاء وتوسل، وقال بصوت مفعم بالأمل:

"لنسافر".

ردد كلامه مضيفاً:

"لنسافر معاً، ربما نجد علاجاً أو حل مناسب لحالتك".

هزت أنيسة رأسها بابتسامة يائسة وقالت:

"لا يا بني. لن أخرج من بلدي. لن أموت إلا هنا، بينكم جميعاً".

قاطعها قائلاً:

"لكن..".

أوقفته بلمسة رقيقة على كتفه، وقالت:

"يا حبيبي، الشفاء لم يعد بيدي. ولا أريد أن أتمسك بآمال زائفة".

ثم أكدت بصوت ثابت وواضح:

"إنه قضاء الله وقدره".

قالتها أنيسة وضمته لها، وساد بينهما صمت منطقي، فماذاً يُقال إذاً في حضرة قضاء الله.

أغمض خالد عينيه وهو يحاول استيعاب كلماتها، لكنه شعر بثقل الألم يتزايد داخل صدره. تلك الكلمات البسيطة التي قالتها، لم تكن مجرد كلمات، بل كانت حقيقة قاسية لا مفر منها.

في ذلك اليوم، لم تعد هناك أسرار أو خواطر مخفية بين أنيسة وابنها. كلاهما كانا مكشوفي المشاعر، يعبران عن أحاسيسهما بصدق ووضوح. فالوقت ربما لا يسعفهم فيما بعد، وكانا يعلمان أن الحياة لا تضمن لهما فرصة أخرى للحديث بحرية عن كل شيء.

***

جلست سالي في زاوية بعيدة من غرفتها، غارقة في أفكارها. كانت عيناها ذابلتان، فلم يغمض لها فيها جفن منذ أن رأته يدخل المنزل عائداً، محطمًا، مكسورًا، ورأسه ملفوف بضمادة. لم ترَ في حياتها إنسانًا بهذا القدر من الانكسار والحزن كما كان ذلك الرجل. ذلك الرجل الذي عهدته هادئاً مُتماسكاً منذ اليوم الأول، كانت عيناه باهتتان، فاقدان للحياة، وجسده القوي يستند على درابزين السلم بضعف وكأنه سينهار في أي لحظة. في تلك اللحظة، شعرت سالي أن قلبها يتلوى ألماً، كلما استحضرت تلك الصورة.

كانت هائمة بين مشاعرها المضطربة وأفكارها المشوشة، أفكارها التي تخيل لها الآن أنها انخرطت في حياة ليست حياتها. حياة شعرت فجأة أنها دخيلة عليها. في لحظة شكت في أملها الذي ربطته بالأطفال في هذا المنزل بدا لها هشًا، ووقعت بعدها على حقيقة أكيدة أنها ليست سوى موظفة في هذا المنزل كغيرها، وأمالها بين الأطفال ستنتهي يوماً ما برحيلها. لتحل محلها طبيبة أو طبيب آخر.

بدأت تشعر بألم في معدتها، نتيجة الضغط والتوتر الذي يثقل عليها هذه الأيام. وضعت يدها على معدتها، تحاول تخفيف الألم، بينما كانت لا تزال غارقة في دوامة أفكارها، انتشلها منها صوت طرق خفيف على باب غرفتها. نهضت بسرعة عن سريرها، متسائلة في سرها عن هوية الطارق في هذه الساعة المتأخرة. وقفت بجوار الباب، تهمس بحذر:

"من هناك؟".

"أنا لارا".

فتحت سالي الباب بسرعة عندما سمعت الصوت الطفولي الخافت:

"لارا؟".

اندفعت الطفلة لتحتضن ساقيها بيدين مرتعشتين. تفاجأت سالي من تصرف الطفلة وهمست بدهشة:

"لارا! ماذا حدث!".

تمتمت لارا وهي تتشبث بساقيها وتدفن وجهها في ملابسها:

"أنا خائفة.. أريد أن أنام هنا معك"

نطقت الطفلة بهذه الكلمات بينما تنظر إلى سالي بعينيها الدامعتين. ثم حولت نفس النظرة إلى السرير بلهفة. تأملتها سالي بعجز، وقالت:

"لماذا أنت خائفة؟ ماذا حدث؟".

شهقت لارا، وبدأت تبكي وهي تقول بتلعثم:

"رأيت أبيه خالد.. عفريتاً.. جاء ليقتلني".

كانت كلمات الطفلة متقطعة، متلعثمة، وممزوجة بالبكاء. حملت سالي الطفلة بين ذراعيها، بينما كانت الحيرة والخوف يسيطران على قلبها:

"حبيبتي، إهدأي".

وما إن بدأت سالي تربت على ظهرها حتى توقفت عن البكاء، لكنها ظلت تنتحب وكأنها تعاني من الفواق، اتجهت بها سالي إلى السرير، وجلست عليه والطفلة الصغيرة تتشبث بها، وبعد لحظات طويلة من الفواق والشهيق. حثتها سالي هامسة بحنان لتتحدث:

"هيا يا لارا، إهدأي وأحك لي بهدوء، ما الذي يجعلك خائفة إلى هذا الحد؟".

مرت لحظات، بينما كانت الطفلة تستجمع أنفاسها فركت فيهم عينيها بأصابعها، وقالت بصوت منخفض:

"رأيت أنني في ملحق أبيه، أنتظره حتى يعود، ولكنه تحول إلى عفريت مُخيف، ابتسم بشكل مخيف وأخبرني أنه سيقتلي".

شددت سالي على جسد الطفلة وهمست وهي تمسح شعر الطفلة التي تفوح منها رائحة عطرية خاصة بشامبو الأطفال:

"يبدو أنه مجرد حلم سيء".

بدأت يدا الطفلة المُتشبثة بها في الارتجاف، وتمتمت:

"ولكنه مُخيف". أكملت بتلعثم:

"أنا كنت خائفة، وحاولت أن أخبر فؤاد وفرح ولكنهم لم يستيقظوا، حتى ماما أنيسة وماما منى، طرقت على غرفتهم لم يجيبوا علي".

الصغيرة كانت خائفة، عيونها تبحث عن شخص يُطمئنها، فشعرت سالي بموجة من الشفقة تغمرها. فهمست بصوت هادئ:

"لا تستائي منهم، يبدو أنهم نائمين بعمق".

أكملت وهي تقبل رأسها:

"عزيزتي لارا، لا يوجد شيء هنا يستطيع إيذاءك. أنا معك ولن أتركك أبدًا".

أومأت الطفلة برأسها المستند على كتفها، فأكملت سالي هامسة:

"هيا امسحي دموعك، ما رأيك أن تنامي بجواري؟".

أومأت الطفلة مرةً أخرى. واستلقت سالي على السرير ولارا متشبثة بها بقوة، وكأنها حبل نجاتها الوحيد. همست الطفلة بعد دقائق بصوت حزين:

"أنا حزينة جداً من أبيه".

"لماذا، حبيبتي؟"

أجابتها لارا بصوت مكتوم:

"لم يرد الحديث معي، وأنا انتظرته كثيراً في الملحق، ولكنه لم يعد".

حاولت سالي التفسير بهدوء:

"ربما لم ينتبه إليك، فلارا الصغيرة مثل القطة التي لا يراها الجميع أحياناً. أما بالنسبة للملحق، فهو لم يعلم أنك كنت تنتظرينه هناك".

مرّت دقائق طويلة، حتى ظنت سالي أن الطفلة قد غفت، لكن لارا فجأة قطعت الصمت قائلة بصوت ضعيف:

"هل أبيه عفريت؟ هل سيقتلني؟".

أجابتها سالي مطمئنة بلطف:

"لا يا لارا، أبيه يحبك جداً، إنه فقط مجرد كابوس سيء".

نظرت الطفلة إليها بتردد:

"هل ستتركيني بمفردي؟".

فابتسمت سالي بحب وأجابت:

"لا تقلقي، سأظل بجوارك حتى تنامين بعمق. هيا، أغمضي عينيك، وسأغني لك".

همست سالي بحنان وهي تداعب شعر الطفلة برفق:

النوم يداعب عيون حبيبي

والسهد شاغل جفوني

يا ريته يغفل ويكون نصيبي

تفضل تشاهده عيوني

تابعت بنبرة دافئة:

أهيم في حسنه وأشرب بهاه

وابعت له طيفى يسبح معاه

يشكى له حالى من اللى جرالى طول الليالى

ياما هويت النوم ارحم فؤادى من كتر نوحى

ماكانش يهوى عينى النوم

ياما اشتهيت النوم وقلت طيفه يرأف بروحى

يعطف على يزورنى يوم

من كتر ما اتمنيت رؤياه لو كان يزورنى فى الاحلام

وقلت يمكن يوم القاه معاى فى وادى الاوهام

الفكر تاه فى الغرام بين السهر والمنام

خلى الضنى والنوح الى فؤاده سلم اليك

وان جه نسيم السحر ونبه اللى عن طول سهادى

غافل نعسان

يشوف فى عينى السهر ويرحم اللى طول الليالى

يحلم سهران

مرت دقائق وسالي تمسد رأس الطفلة برفق، وصوتها ينخفض تدريجياً، والطفلة تسترخي تدريجياً، وجفونها تثقل شيئاً فشيئاً تحت تأثير صوت سالي الرقيق، ولم تمضِ دقائق طويلة وغفت لارا بسلام، وخفّت قبضتها التي كانت متشبثة بها

مرت دقائق وسالي تمسد رأس الطفلة برفق، وصوتها ينخفض تدريجياً، والطفلة تسترخي تدريجياً، وجفونها تثقل شيئاً فشيئاً تحت تأثير صوت سالي الرقيق، ولم تمضِ دقائق طويلة وغفت لارا بسلام، وخفّت قبضتها التي كانت متشبثة بها. تنفست سالي الصعداء وهي تراقب ملامح الطفلة المستكينة وأنفاسها الهادئة، ثم نهضت بحذر عن السرير حتى لا تزعج نومها.

شعرت بشيءٍ يضغط على صدرها، كأنما الكلمات تودّ أن تُقال، أو الأفكار تبحث عن متنفس. اتجهت نحو مكتبها وأخذت مكانها أمامه. أضاءت المصباح الخافت، فتحت مدونتها، وبدأت تكتب:

[أكتب تلك الرسالة يوم ؟؟/؟؟/؟؟؟؟ الساعة الثانية إلا ربع صباحاً

أكتب تلك الرسالة وأنا في أمس الحاجة لأن أجد رداً يشفي رح روحي التائهة للطريق المُناسب.

أنا سالي، عشت في بيت افتقدت فيه دفء الأب، أما أمي فكان حنانها شحيحاً، يظهر فقط في لحظات قليلة. كبرت وأنا أعيش حياة تبدو طبيعية من الخارج، لكنها في حقيقتها حياة محرومة. كنت أتوق إلى مشاعر دافئة، مشاعر لم أجد لها مصدراً. ولأن الغرق فيها كان سيؤلمني أكثر، أغلقتها بداخلي، وكأنني حبست بئراً يفيض بالماء، ووضعت حوله حاجزاً منيعاً.

التفت إلى حياتي، وتابعتها كما أراد مني الآخرون، وحققت ما يُعتبر نجاحاً، تخرجت من كلية الطب وحصلت على وظيفة جيدة. ولكن في لحظة ما، جاءت لحظة التمرد، وتمردت على كل شيء. وجدت نفسي أتحرر من قيودي، لأشعر بالحرية لأول مرة، حتى قادني القدر إلى المنزل. ذلك البيت الكبير الذي لم يكن مجرد جدران، بل عالم مليء بحالات إنسانية فريدة، لأشخاص لا تربطهم روابط الدم، بل الإنسانية فقط.

في المنزل شاهدت أناساً يتبادلون مشاعر عميقة، علاقات جذورها عميقة متمتدة لأبعد نقطة، جذور قوية صلبة. جذور قارنتها بجذوري الهشة التي تطير مع أول ريح. حالتهم كانت مختلفة، غريبة عني. ووقعت في مصيدة تلك المشاعر التي زلزلت كياني، إلى الحد الذي جعلني أشك في نفسي للحظات، وكأنني لست نفسي التي أعرفها. وبسببها ظللت كثيراً في حيرة وتوتر أفكر عن سبب ذلك. لأكتشف في النهاية أنها تلك المشاعر التي لطالما كنت أتوق إليها: الحنان، الأمان، الانتماء.

رأيتها أمام عيني، مُجسدة في الست أنيسة ومستر خالد، وهما يمنحانها بسخاء لأطفال أيتام. أطفال صغار لا حول لهم ولا قوة. يتلقون ما كنت أنا أفتقده طوال حياتي. وكنت أعلم أنني لن أحصل يوماً على مثل تلك المشاعر التي يتلقاها هؤلاء الأطفال. وهذا جعلني أشعر بالحسرة والغضب. لماذا؟ لماذا أنا محرومة من تلك المشاعر، بينما تُمنح لهم مجاناً؟ استبدت بي الغيرة منهم، غرت منهم كثيراً. ولكن فيما بعد، وشيئاً فشيئاً بدأت أتعلق بهم، ووجدت نفسي انخرط في مشاكل هؤلاء الصغار المحبوبين.

وجدتني أحتضنهم، أُلامس دفئهم، ورائحتهم الطفولية اللطيفة، أستمتع بضحكاتهم ولعبهم، أتألم لبكائهم وتوسلاتهم، وأشاركهم مشاكلهم الصغيرة. شيئاً ما تغيّر بداخلي. الغيرة التي كنت أشعر بها تجاههم، تحوّلت إلى غيرة من أنيسة وخالد. أردت أن أكون مثلهم، أردت أن أهب مشاعري لهؤلاء الأطفال. وانفجر ذلك البئر المغلق داخلي منذ زمن، ووجدت نفسي أهب الحب والحنان، تلك المشاعر التي كنت أتوق إليها، كانت داخلي ووجهتها لأولئك الصغار الذين منحوني سبباً جديداً للحياة.

نسيت افتقاري لتلك المشاعر، لأنني كنت أعيش لذّة منحها. شعرت بالسعادة وأنا أعيش هنا في المنزل، لكن مع ذلك جاءت مشاعر أخرى، مشاعر جديدة ومختلفة، أيقظتها داخلي الست أنيسة. كانت كمن يحطم الحاجز الذي أحطت نفسي به. أخذت تلك المشاعر تتسلل إلى داخل قلبي، وبدأت أشعر بشوق وحنين داخلي، تؤرقني وتجعلني استيقظ الليل في حيرة، لا أجد لها خلاصاً.

لكن ما حدث اليوم، وفي الأيام السابقة، جعلني أدرك أن بيني وبين ما وصلت إليه من مشاعر مسافات ومسافات طويلة، أشعر بالتيه والحيرة، كأنني أدور في حلقة مفرغة بلا مخرج. لا يوجد من يسمعني، ولا من يفهم هذا الاضطراب الذي اجتاح كياني منذ أن دخلت هذا المنزل. هناك الكثير من الكلام العالق بداخلي، يأبى أن يتشكل في كلمات أو عبارات. أحاول جاهدًة أن أعبر عنه، لكني في كل مرة أفشل، وكأنني أواجه جدارًا صلبًا يمنعني من البوح.

حقًا، لا أعرف كيف أصف ما يعتمل بداخلي. لا أعرف كيف أضع هذا الصخب في كلمات تُسمع. حقاً لا أعرف].

لم تكن سالي تشعر بالدموع التي تفيض على وجنتيها، حتى سقطت قطرة على ظهر يدها، فرفعتها تلقائياً إلى عينيها بدهشة. للحظات، حدقت في يدها كأنها تحاول استيعاب ما يحدث، قبل أن تنفجر بالبكاء بصمت موجع. بباطن يدها بدأت تمسح دموعها، حريصة ألا تصدر صوتاً قد يوقظ لارا الصغيرة، التي كانت تنام بهدوء على السرير. وبعد أن استجمعت نفسها قليلاً وهدأت، تناولت مسكناً لألم معدتها، وتناولت هاتفها وكتبت رسالة قصيرة إلى السيدة منى، تخبرها فيها أن لارا ستقضي الليلة بجانبها. أرسلت الرسالة، وأغلقت الهاتف ببطء، ثم عادت لتنظر إلى لارا بابتسامة حزينة، وكأنها وجدت في وجود الطفلة عزاءً لروحها المتعبة.

***

استيقظت سالي في اليوم التالي في وقت متأخر. ولم تجد لارا بجوارها. كان المنزل هادئاً جداً،الأطفال في المدارس، خالد خرج مبكراً، وأنيسة في دفيئتها، وكأن شيئاً لم يحدث في الليلة السابقة. كان يوماً حزيناً كئيباً كسابقه، قضته سالي في الحديقة، وهي تحاول أن تتلمس بعضاً من دفء الشمس، والقليل من الهواء البارد، حتى عاد الأطفال من مدرستهم، وتشاركوا جميعاً الغداء دون خالد.

انتقلت تلك الأجواء الكئيبة الحزينة إلى مدارك الأطفال الذين بدأوا يتسائلؤن عن خالد الذين لم يروه منذ الأمس. ولكنهم لم يجدوا رداً من أنيسة الشاردة الحزينة. لم تسعفهم إلا إجابة السيدة منى التي قالت:

"مستر خالد مشغول كثيراً هذه الأيام يا أولاد".

ومر هذا اليوم الحزين كالحلم الكئيب، وجاء يوم آخر، وكالعادة خرج خالد قبل الجميع، ولكنه عاد في الموعد المناسب ليصحب أنيسة إلى المستشفى، لتتلقى جلستها الثانية من العلاج. صادفته سالي، ولكنه مر كالشبح من جوارها. حتى تساءلت هل رآها أم لم تكن في مجال نظره من الأساس. كان يبدو عليه الإرهاق والشحوب والضمادة على رأسه تبدلت لواحدة أصغر. وبهدوء خرج من المنزل وهو يدعم أنيسة في الصعود إلى السيارة التي انطلقت بعد دقائق.

في غرفة المعيشة، وقبل غروب الشمس اجتمع الأطفال كعادتهم كل ليلة، ولكن تلك الليلة حملت توتراً خفياً، إذ كانوا ينتظرون أنيسة وخالد الذين تأخروا عن الحضور. جلست سالي في زاوية تحمل ديوان شعر لإبراهيم ناجي، محاوِلة الانشغال بقراءة أبياته، وسط صخب الصغار الذين تسلقوا الأرائك وقفزوا هنا وهناك بمرح. لكن الكلمات كانت تمر أمامها بلا معنى، كأن عقلها قد أغلق أبوابه عن استيعاب أي شيء. اقتربت منها أميرة وسألتها باهتمام:

"هل تقرأين الشعر؟".

رفعت سالي عينيها الشاردتين إلى الفتاة التي تنظر إليها بإهتمام، وقد كانت تلاحظ تلك النظرات الفضولية في عيون أميرة دائماً كلما لمحتهما تقرأ كتاباً، فابتسمت وقالت:

"نعم يا أميرة؟".

"هل الأمر ممتع؟".

"ما رأيك أن تجربي؟".

"حاولت من قبل، ولكن الأمر صعب جداً، أنا لا أستوعب الكثير من الكلمات والأبيات".

كانت تلك مشكلة كبيرة بالفعل على الأطفال الذي يدرسون في المدارس الدولية التي تعتمد على اللغة الأنجيزية بشكل أكبر، وهذا لاحظته في الأولاد عندما يدمجون حديثهم معها ببعض التعبيرات الأنجليزية، فسألتها سالي:

"ألا تدرسون اللغة العربية في المدرسة؟".

"نعم ندرسها، ولكن الاهتمام بها أقل من باقي المواد، كما أننا نتحدث باللغة الأنجليزية في أغلب الأوقات، وأغلبنا لا يستسيغ اللغة العربية".

"آه".

فكرت سالي لثوان ثم قالت:

"الشعر يا أميرة هو لغة المشاعر، تحمل معها الحزن والفرح، القوة والضعف. دليل على مشاعر أخرى لا تستوعبها فينا، صورة لمشاعر إنسان آخر استطاع أن يعبر بشكل مختلف ومنظم. عندما تقرأين الشعر ستكتشفين أنه ليس مجرد كلمات، بل صورة ترسمها الخيال، وإحساس يربطك بالعالم بطريقة مختلفة، وستستمتعين به بكل تأكيد".

نظرت أميرة إليها باهتمام، وكأنها تسمع عن الشعر لأول مرة من هذا المنظور، ثم سألت:

"لكن كيف أستمتع به إذا كنت لا أفهم كل الكلمات؟"

ابتسمت سالي بصبر، وقالت:

"لا بأس. الشعر لا يحتاج أن تفهمي كل كلمة فيه. أحياناً يكفي أن تشعري به، أن تتذوقي جماله حتى لو لم تدركي كل معانيه. مثل لوحة جميلة، قد لا تعرفين قصة رسمها، لكنك تستمتعين بألوانها وتفاصيلها، هو عالم آخر وكبير جداً".

صمتت قليلاً قبل أن تضيف:

"أتذكر أول مرة قرأتُ فيها قصيدة، لم أفهم الكثير، لكنني شعرت بشيء عميق يتحرك داخلي. مع الوقت، بدأت أفهم أكثر وأحب أكثر. قراءة أبيات الشعر تحتاج صبراً كبيراً، كما أن هناك الانترنت سيساعدك على فهم الكلمات التي لا تستوعبينها".

تحت نظرات الإنصات العميقة من أميرة، واصلت سالي حديثها، مشيرة إلى قلب الفتاة بلطف:

"قراءة الشعر سيجعلك أكثر قرباً من مشاعرك، وأكثر قدرة على فهمها، والتعبير عنها بوضوح وعمق".

وقبل أن تجيب أميرة، قاطعت ليان الحديث بحماس، تحمل لوحتها الجديدة بين يديها والتي كانت تريها لكل من تصادفه في طريقها. كانت اللوحة تمثل قناع توت عنخ آمون، فكرة اقترحتها سالي على ليان لتساعدها على استلهام إبداعها من حضارة مصر القديمة وتعزيز ارتباطها بثقافتها وحضارتها القديمة:

"أليست رائعة؟!" قالت ليان بفخر، وهي تدور باللوحة لتعرضها على الجميع.

تأملتها سالي بصبر، رغم أنها قد رأتها للمرة الثالثة هذا اليوم، وقالت بابتسامة مشجعة:

"رائعة جداً يا ليان، حقاً أُعجبت بها! يجب أن تُعلقيها على الحائط لتزين غرفتك".

ردت ليان بحماس:

"سأفعل!".

كانت ملامح ليان تشع فرحاً واعتزازاً بإنجازها، الذي بدا رائعاً مقارنة بعمرها الصغير. رغم أن خطوط الرسم لم تكن مثالية تماماً، إلا أنها حملت لمسة مهارة وإتقان يشيران إلى موهبة واعدة. شعرت سالي بفخر عميق وهي تنظر إلى اللوحة، ترى فيها بوادر مشروع فنانة مستقبلية.

لم يكن هذا الفخر نابعاً من اللوحة وحدها، بل من رغبتها المتأصلة في اكتشاف مواهب هؤلاء الصغار الرائعين. كانت تؤمن أن كل واحد منهم يحمل في داخله عالماً خاصاً يستحق أن يُكتشف ويُغذى ليزدهر، وكأنها تبحث فيهم عن قطع أحجية فنية وإنسانية تريد أن تجمعها لتُكمل الصورة.

وبينما كان الجميع منشغلاً بما يلهيه، عادت أنيسة برفقة خالد. بدت أنيسة شاحبة وواهنة، كأنما حمل ثقيل قد أنهك قواها، أما خالد فلم يكن حاله أفضل؛ انعكس الإرهاق على وجهه الشاحب، كاشفاً عن روح مثقلة بالألم.

رافق خالد أمه إلى غرفتها، يساعدها في الصعود بصمت تحت أنظار الأطفال الحائرة، الذين كانوا يراقبون المشهد دون أن يفهموا ما يحدث. وبعد مرور حوالي ربع ساعة، خرج خالد من الغرفة بخطوات ثقيلة، مُتجاهلاً تساؤلات الأطفال، واتجه مباشرة إلى الملحق حيث اختفى عن الأنظار، ولم يره أحد بعدها.

تساءلت فرح بحيرة، وهي تجلس بجوار سالي التي بقيت في مكانها تقرأ ديوان الشعر:

"هل ماما مريضة يا ست منى؟".

أجابت منى التي كانت تُسرح لسارة شعرها:

"أعتقد أنها تمر هذه الأيام بوعكة صحية".

"ما هي؟ ألا تعرفين؟".

هزت منى رأسها بالنفي:

"لا أعلم".

ونظرت المرأة بغموض إلى سالي التي كانت تتأمل الكلمات بشرود، لاحظت أميرة نظرة الست منى وقالت موجهة كلامها إلى سالي:

"دكتورة أنت تعلمين، أليس كذلك؟ كنتِ معها من قبل في المستشفى".

ولكن سالي الشاردة لم تكن واعية إلى حديثهم، فنادتها أميرة بإصرار:

"دكتورة".

رفعت سالي رأسها وهي تخرج مجبرة من شرودها:

"ها؟".

كررت أميرة سؤالها، وشعرت سالي بالحيرة، وهي تحاول أن تكون جملة مُفيدة تجيب بها على الطفلة، ولكنها فشلت، فتدخلت منى مُجيبة على الطفلة:

"أميرة، نحن لا نعلم بعد مما تعاني ماما، مازالت تجري بعض الفحوصات، فور أن تظهر النتيجة سنطمئن جنيعاً عليها".

ساد صمت مريب في الغرفة، فسألت ليلى:

"وأبيه خالد لماذا هو مصاب في رأسه؟".

بدأت اسئلة الأطفال الفضولية تظهر إلى السطح، فيومين من الصمت والتجاهل لفضولهم كان كثيراً عليهم، لتجيب منى بصبر:

"كان حادثاً بسيطاً أثناء القيادة".

سأل رحيم:

"أبيه يبدو أنه حزين، أليس كذلك؟".

فأجابت فرح:

"نعم، يبدو أنه متأثر بمرض ماما، أنا قلقة جداً عليهم".

قالت نور:

"أليس من الواجب أن نذهب إليه ونسأله".

تدخلت منى بسرعة:

"لا يا نور، اتركيه الآن. يبدو أن مزاجه ليس على ما يرام ليجيب على أسئلتنا. دعينا نتركه يهدأ قليلاً".

كان الصغار يعبرون عن قلقهم بصراحة، بأعين مليئة بالتساؤلات. بدا واضحاً أن فضولهم لن ينتهي قريباً، وأن أسئلتهم ستستمر في ملاحقة الجميع خلال الفترة المقبلة. وأدركت سالي أن كتمان الحقيقة لم يعد خياراً ممكناً، خاصة مع الكبار منهم الذين باتوا يلاحظون التفاصيل ويدركون أن شيئاً ما غير طبيعي يحدث.

تأملتهم سالي واحداً واحداً، تُطيل النظر في وجوههم الصغيرة المرهقة، ولكنها فجأة أدركت أن أحدهم مفقود. تجولت بعينيها بين المجموعة لتتأكد، وكان حدسها صحيحاً: عبدالله لم يكن بينهم.

شعرت بالقلق يزحف إلى قلبها، وسألتهم بهدوء:

"أين عبدالله؟ لم أره منذ الغداء. هل يعرف أحد أين هو؟"

تبادل الأطفال النظرات فيما بينهم بحيرة، وأجاب علي على سؤالها بعد لحظات:

"رأيته في الحديقة".

أدركت سالي على الفور سبب وجود عبدالله هناك. وضعت ديوان الشعر جانبًا ونهضت بخفة متوجهة إلى الحديقة، وكأنها تبحث عن متنفس من هذا الجو المشحون بالأسئلة الثقيلة.

في مكانه المعتاد، تحت شجرة البرتقال الكبيرة، وجدته جالسًا على الأرض، يحتضن القطة بلطف، ويمسح على ظهرها برفق بحركة تُظهر الحنان الذي يحمل داخله. اقتربت بهدوء حتى لا تفاجئه، وهمست بصوت ناعم:

"عبدالله؟".

التفت عبدالله إليها بخفة، لكن القطة الصغيرة، التي شعرت بارتخاء يديه، انتهزت الفرصة وقفزت بعيدًا. حدّق بها بخيبة وقال معاتبًا:

"لقد هربت.. أنت السبب".

ابتسمت سالي باعتذار ناعم وجلست بجواره دون أن تكترث لاتساخ ملابسها، وسألته برفق:

"لماذا تجلس هنا بمفردك؟".

ردّ بصوت منخفض، وكأن الإجابة بديهية:

"أريد أن ألعب مع القطة".

لاحظت ارتجافه الخفيف وسألته بحنان:

"لكن الجو بارد عليك".

أجاب بسرعة وهو يحدّق بها بعيون جادة:

"وعلى القطة أيضاً".

ثم أردف بقلق، وكأن حملًا كبيرًا يثقل صدره:

"أنا خائف عليها في مثل هذا الجو".

نظرت سالي إلى السماء الغائمة وأحسّت ببرودة الهواء الذي يتسلل عبر أنفاسهما. أدركت أن الطقس لم يكن آمنًا للقطة الصغيرة حقًا. كانت قد نسيت تماماً سؤال أنيسة عن سبب رفضها دخول الحيوانات إلى المنزل، بسبب الأحداث الأخيرة، لكنها شعرت أن عليها اتخاذ خطوة مختلفة الآن، خاصة وهي ترى الحنان في عيني الفتى. فقالت وهي تنظر إلى الولد بحب:

"ما رأيك أن نصطحبها للطبيب؟"

نظر إليها عبدالله بتعجب وسأل:

"لماذا؟".

ابتسمت سالي وأوضحت بهدوء:

"ليفحصها ويعطيها التطعيمات المناسبة، حتى نتمكن من الاعتناء بها داخل المنزل بأمان".

تردد قليلاً قبل أن يسأل:

"وهل ماما ستوافق؟".

ردت سالي بثقة مشوبة بدفء:

"سأتحدث معها في الوقت المناسب".

ابتسم الفتى ببراءة، وكأن الضوء عاد إلى وجهه، فمدت سالي يدها تربت على شعره بحنان قبل أن تقول:

"ما رأيك أن تدخل الآن؟ الجو يزداد برودة".

أشاح الفتى وجهه بعيدًا وهمس بصوت منخفض:

"لا أريد".

استغربت سالي من رده المفاجئ، وسألته باهتمام حقيقي:

"لماذا يا عبدالله؟".

رد الفتى بصوت خافت وكأنه يحاول إخفاء مشاعره:

"لا أحبهم".

ازدادت دهشة سالي، وعقدت حاجبيها وهي تسأله:

"لا تحبهم؟ من الذين لا تحبهم؟".

بدا واضحًا أن عبدالله لا يريد الإجابة. كانت تعابير وجهه حزينة ومنغلقة، لكنه لم يكن قادرًا على إخفاء مشاعره تمامًا. قررت سالي أن تحاول بحذر، فقالت بلطف:

"عبدالله، عزيزي، لا تقلق. سرك الصغير سنرميه في بئر الأسرار الخاص بنا، تمامًا كما فعلنا مع سر القطة. أعدك أنني لن أخبر أحدًا".

نظر إليها عبدالله للحظة، كأنه يتحقق من صدقها، ثم رفع رأسه ببطء، وعيناه تحملان مزيجًا من الأمل والتردد. وبعد صمت قصير، نطق أخيرًا:

"أنا.. أعرف أن إخوتي ليسوا إخوتي.. وأن ماما وأبيه.. ليسوا آبائي".

اتسعت عينا سالي من الذهول وتجدمت للحظة. لم تكن تتوقع هذا الاعتراف الصادم من طفل صغير. لم تتمكن من الرد على الفور، وكأن الكلمات علقت في حلقها. وبينما كانت تحاول التفوه بكلمات لم ترتبها، أضاف عبدالله بصوت أكثر حزناً:

"أنا أعرف أنني يتيم. وكل أصدقائي في الفصل يعرفون ذلك أيضاً".

حاولت أن سالي تسترجع ما تعلمته في دبلومتها عن علم النفس التنموي حول التعامل مع مثل هذه المواقف، لكنها لم تكن مستعدة لسماع هذه الكلمات من طفل في الثامنة من عمره. تماسكت وسألته بحذر:

"لماذا تقول هذا الكلام يا عبدالله؟ هل قال لك أحد زملائك في الفصل شيئاً أزعجك؟".

هز رأسه قليلاً وأجاب:

"أحياناً يسألوني عن أبي وأمي الحقيقين".

ثم نظر إليها بثقة مفاجئة وقال:

"لكنني لا أنزعج من سؤالهم. ما يزعجني هو أنني لا أعرف ماذا أقول لهم. وعندما يرونني أتردد في الإجابة، ينظرون إلي وكأنني مسكين.. أشعر وقتها أنني أريد أن أخبرهم أنني لست مسكيناً، لكني لا أستطيع".

شعرت سالي بصدمة عميقة أمام حديثه. الكلمات التي خرجت من طفل بهذا العمر حملت ثقلاً لا يُحتمل، وألماً يفوق سنواته الصغيرة. فسألته وهي تحاول الحفاظ على هدوئها رغم ارتباكها الواضح:

"هل حاولت أن تتحدث مع ماما؟".

احمر وجنتا الطفل الصغير، وأطرق بنظره نحو الأرض، ثم قال وهو يراقب قطته التي تلعب بعيدًا:

"أشعر بالخجل منها.. كما أنها تهتم أكثر بإخوتي".

حاولت سالي التخفيف من حدة كلامه وسألته:

"لكن مع ذلك، لم تحاول أن تتحدث معها أبدًا؟".

لم يُجب عبدالله، وظل صامتًا. شعرت سالي ببعض الحيرة وهي تفكر، هل كانت هي نفسها في طفولتها تخجل من الحديث مع والدتها عن مشاكلها؟ استرجعت ذكرياتها ووجدت أنها كانت بالفعل تعاني من نفس الشعور، لكنها لم تستطع تحديد إن كان هذا الشعور طبيعيًا بالنسبة لكل الأطفال أم أن هناك أسبابًا أعمق وراءه.

لماذا يشعر الطفل بالخجل من الحديث مع والدته عن مشاكله؟ هل المشكلة في الطفل نفسه أم في طبيعة العلاقة مع الأم؟ لم تجد إجابة واضحة في تلك اللحظة. فنظرت إلى الولد وقررت أن تسأله مباشرة، فربما تكون الإجابة عند هذا الفتى الصغير:

"عبدالله، لماذا تشعر بالخجل من الحديث مع ماما أنيسة؟ أو حتى مع أبيه خالد؟".

رفع الطفل رأسه قليلًا، وكأنه يحاول الإجابة عن سؤال يبدو صعبًا حتى عليه، ثم هز رأسه وقال بصوت منخفض وهو يحتضن ساقيه بقوة:

"لا أعلم.. أشعر بالخجل فقط لأنني لم أعتد على ذلك".

راقبته سالي بعناية، محاولِة قراءة تعابير وجهه الصغيرة. فهمت أن هذا الخجل ربما ينبع من قلة التواصل بينه وبين أولياء أموره أو شعوره بأنه ليس له مكانة متساوية مع بقية الأطفال في المنزل.

سألته سؤال تبادر إلى ذهنها فجأة:

"هل لديك مشكلة في الإفصاح عن مشاعرك؟ أقصد ألا تستطيع أن تخبر ماما وأبيه بما يضايقك؟".

هز الفتى رأسه موافقًا، فأجابته سالي ببساطة:

"ولكنك تفصح عن مشاعرك معي الآن".

بدا من الواضح أن الفتى مشكلته في الإفصاح عن مشاعره لأنيسة. فنظر إليها الفتى وأجاب بخجل:

"أنا أحب ذلك.. أن أتحدث معك".

تفاجأت سالي من إجابة الفتى، وسألته وهي تشعر بأن الفتى يفتح بابًا لم تكن تتوقعه:

"أتحب التحدث معي؟"

أجاب الفتى بتأكيد:

"نعم، لأنك تحبين التحدث إليّ وتشاركينني سر القطة".

ابتسمت سالي أمام براءة الفتى، وأجابته بلطف:

"أنا أحبك وأحب الحديث معك يا عبدالله، لكن ماما تحبك أكثر من حبي لك".

"حقًا؟" تساءل الفتى بخمول.

"حقاً، لطالما أخبرتني ماما أنيسة أنك مميز عندها، ولكنها تتضايق فقط من شقاوتك".

كذبت سالي كذبة بيضاء لصالح الست أنيسة، ثم أكملت بنبرة صادقة:

"عبدالله حبيبي، ماما أنيسة وأبيه خالد اختاروا أن يكونوا آباءك بكل حب ورغبة، بكامل إرادتهم، لأنك كنت مميزًا في نظرهم. لقد أحبوك من اللحظة الأولى، وأكثر مما تتخيل. ربما يبدو لك أحيانًا أنهم لا يبدون ما يكفي من الاهتمام، لكن الحقيقة أنك في أعينهم أغلى من كل الكلمات، وأكبر بكثير من الصورة التي قد تخطر ببالك".

توقفت لحظة وأعطته نظرة مليئة بالحنان، ثم تابعت:

"وأيضًا إخوتك الكبار والصغار، كلهم يحبونك، لأنك جزء لا يتجزأ منهم، لأنك أخوهم بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. لا تتخيل أبدًا أن محبتهم لك أقل من محبتهم لأنفسهم. أنت لست فقط أخوهم، بل جزء من عائلتهم، وما بينكم من روابط لا يمكن لأي شيء أن يضعفها. إذا شعرت بتلك المشاعر المؤلمة، لا تحتفظ بها في قلبك. عليك أن تتحدث معهم، أن تعبر عن كل ما يجول في ذهنك، كما ترى الأمور. صدقني، في تلك اللحظة فقط ستدرك كم أن مكانتك غالية في قلوبهم، وكم أنك جزء لا يتجزأ من عالمهم. فكلما كنت صريحًا مع من تحبهم، كلما زادت محبتهم لك، وفهموا تمامًا مقدار ما تعنيه لهم".

لم تشعر سالي بأنها قد استرسلت في حديثها بهذا العمق، حتى توقفت فجأة وتأملت الفتى أمامها، كان ينظر إليها بعينين متسعتين مليئتين بالانبهار. ابتسمت بارتياح لرؤية تأثير كلامها عليه، فقالت وهي تربت على كتفه بلطف:

"أنا فقط أريد أن أساعدك، لأنك تستحق أن تعرف كم أنت مهم ومحبوب".

سرت قشعريرة باردة في جسدها، فاحتضنت كتفيها بيديها محاولة دفع البرد بعيداً، ثم نظرت إلى الفتى وقالت بنبرة دافئة:

"ما رأيك أن ندخل الآن؟ الجو أصبح بارداً".

تردد عبدالله، وعيناه تتنقلان بين سالي وقطته الصغيرة التي كانت تتمدد على الأرض أمامه. همس بحيرة:

"لكن.. القطة".

ابتسمت سالي بحنان وطمأنته:

"لا تقلق، هي تعرف طريقها جيداً وستعود إلى صندوقها الكرتوني، كما تفعل دائماً."

مدت يدها إليه وهي تنهض بخفة، وأردفت:

"هيا، دعنا نذهب".

ظل عبدالله متردداً لوهلة، عيناه تتأرجحان بين كف سالي الممتدة والقطة التي بدا كأنها تنظر إليه بحنو أيضاً. لكنه في النهاية، تنهد وأمسك بيد سالي. كان دفء يدها مختلفاً، ولذيذاً، جعله يبتسم بخفة وهو يمشي بجانبها نحو الداخل.

 كان دفء يدها مختلفاً، ولذيذاً، جعله يبتسم بخفة وهو يمشي بجانبها نحو الداخل

***

تأملهم خالد من نافذة الملحق بشرود، لم يكن مهتماً بما يدور بينهما، ولكن مشهدهم كان إلهائاً له عن العذاب الذي يمر به هذه الأيام. رأى سالي تمد يدها للفتى الصغير الذي تردد لحظات ثم أمسك كفها بثقة، ورأي في هذا المشهد صورة له ولأنيسة.

تذكر كلام الأطباء الذين طلبوا منه أن يستعد لما هو أسوء. كانت أمه بالفعل تحتضر، وكان هذا واضحاً جداً للرآئي. مسح وجهه بقوة وكأنه يحاول أن يمحوا الأيام الماضية من ذاكرته، ولكنه للأسف لم يستطع ذلك. الصور كانت محفورة في ذاكرته، كلمات الأطباء ونظراتهم العاجزة، ووجه أنيسة الشاحب وهو يزداد ضعفاً يوماً بعد يوم. كلما حاول الهروب من الواقع، وجد نفسه يغرق فيه أكثر. جلس على الأريكة المتهالكة في الملحق، مسنداً رأسه إلى الجدار البارد، وأغمض عينيه كمن يبحث عن لحظة سلام وسط العاصفة. لكنه لم يجد سوى صدى صوت أنيسة وهي تقول له:

"يا حبيبي، الشفاء لم يعد بيدي. ولا أريد أن أتمسك بآمال زائفة".

ابتلع غصة في حلقه وهو يتذكر تلك الكلمات. فتح عينيه مجدداً، ونظر إلى السقف بعيون تملؤها الدموع، ولكنه رفض أن يسمح لها بالسقوط. كان عليه أن يتقبل الأمر الواقع ويتأهب لما هو قادم. لم يعد أمامه خيار سوى أن يتحمل المسؤولية كاملة، فمصير خمسة عشر طفلاً أصبح معلقاً به الآن. كان عليه أن يتماسك، وألا يسمح لنفسه بالانهيار أمامهم أو إظهار ضعفه. كان يعلم أنه يجب أن يحافظ على صورته الهادئة والمتماسكة في أعينهم، بدءًا من هذه اللحظة.

***

[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: سالي

عزيزتي بيسان، كيف حالك؟ أتمنى من الله أن تكوني على ما يرام، أرجوك تواصلي معي فور اتصالك بالشبكة

مع خالص الاحترام لك

سالي].

نهاية الفصل الثامن والعشرون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

أهلاً أهلاً، عايزة أكلمكم عن حالة أنيسة النفسية اللي دفعتها لإخفاء مرضها. في الواقع، ده مرض نفسي معقد أحياناً بيظهر عند الأشخاص اللي عندهم عاطفة رقيقة وحساسية تجاه أحبائهم. أنيسة كانت خايفة إنها لما تقول لخالد، تكسر روحه أو تحمله وجع مالوش حل. ده نابع من خوفها الشديد عليه، ومن إحساسها بالمسؤولية عن حماية سلامه النفسي هو والأطفال. للأسف، الخوف ده بيحول بين الشخص وبين مشاركة حقيقة مؤلمة، رغم إنها ممكن تكون السبيل للتواصل الحقيقي والراحة. هذه الديناميات ممكن تؤدي إلى تأخر العلاج أو تفاقم مشاعر الوحدة والعزلة لدى المرضى. مرض أنيسة نفسي وهو سبب عزلتها وانطوائها دائماً على الرغم من بساطة وانفتاح شخصيتها.

خالد كمان تعلقه بأنيسة نفسي جداً، بسبب يتمه وإحساسة ان أنيسة هي المخلص والمنقذ، علشان كده مستوى التوتر أو أعراض الاكتئاب عنده علت، أول ما عرف بمرض أنيسة. الاضطراب العاطفي ده بينشأ من خوف عميق من الفقدان، والشعور بالعجز عن التكيف بشكل مستقل، على الرغم من أنه شخص معتمد على نفسه دائماً، ولكن أنيسة هي عقدة أوديب بالنسبة ليه. اتمنى أكون قدرت أوضح شوية من العلاقة النفسية بين خالد وأنيسة.

الفترة اللي فاتت كانت راحة بسبب تغير الجو اللي سببلي مشكلة صحية، بتمنى الرواية تخلص على آخر السنة ولكن الوقت مش هيسمح بكده، مع اننا يعتبر بنقرب على نهاية القصة. ولكن الأهم بالنسبة ليا هو جودة الرواية اللي لحد دلوقتي بعدل فيها وبصلح فيها أخطاء كتيرة. آسفة جداً لو طولت عليكم.

بتمنى منكم تعملوا vote لو الرواية عجباكم علشان تساعدوا في انتشارها اكتر وتوصل لأكبر عدد من الناس. شكراً مقدماً

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصل: يا ترى تنبؤاتكم عن الفصول القادمة ايه؟

***

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.