الخميس، 19 سبتمبر 2024

رواية المنزل: الفصل الحادي العشرون - ءَالَآء طارق

 

رواية المنزل: الفصل الحادي العشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الحادي والعشرون

مزيكة انهاردة، أغنية عبدالحليم حافظ للنيل "يا حلو يا أسمر". من أجمل الأغاني اللي اتغنت للنيل.

نظرت سالي إلى خالد وهي تشعر بالحيرة، فقد كان آخر شخص تتوقع وجوده هنا في المحطة، كانت الشمس ساطعة جداً، فوضعت يدها فوق عينيها وتأملته وهو يرتدي ملابس مريحة جداً على غير العادة، بنطال داكن اللون وقميص قطني بسيط، ونظارة الشمس السوداء التي منعتها عن رؤية التردد في عينيه. قالت متلعثمة وشبه ابتسامة على شفتيها:

"مستر خالد؟".

نظرت حولها في المكان، ثم سألته وهي محتارة:

"هل تنتظر أحداً ما هنا؟".

ابتسم خالد ابتسامة هادئة، وكأنها تحمل في طياتها شيئاً من الراحة الممزوجة بالغموض، وقال بصوت منخفض:

"أنتظرك، حمداً لله على سلامتك يا دكتورة".

كانت ابتسامته هادئة وساحرة في بساطتها، جعلتها تشعر بدفء غريب. قبل أن تتمكن من إبداء أي ردة فعل، تقدم خالد بخطوة ومد يده قائلاً:

"من فضلك اسمحي لي أن أساعدك".

أعطته سالي الحقيبة والمُفاجأة مازالت تسيطر عليها. في السيارة كان الهدوء هو سيد الموقف، لم ينطق أحدهما بحرف واحد، حاولت سالي أن تركز على المشاهد الخارجية، وهي في الواقع كانت تشعر بالإحراج الشديد في وجوده، وعلى الرغم من ذلك أخذت تنظر إليه بطرف عينيها من ثانية للأخرى، وبينما كانت تختلس النظر إليه، قال وعينيه على الطريق:

"هل كانت رحلتك مرهقة؟".

"لا، كانت هادئة إلى حدٍ كبير".

"وإجازتك؟ كيف كانت؟".

ارتبكت سالي حينما سمعت السؤال عن إجازتها، فحاولت أن تبدو طبيعية، ولكنها ردت بتلعثم:

"آه، كانت لطيفة".

أومأ خالد برأسه قليلاً، وهمس برفق:

"هذا جيد". 

قطعاً إجازتها لم تكن لطيفة. تذكرت سالي الأحداث التي صارت معها الأيام الماضية، بدايةً من نقاشاتها الحادة مع والديها، وانتهائها بهذا السر الذي يخص أنيسة، والذي سقط فوق رأسها كالصاعقة.

قال خالد بعد لحظات:

"دكتورة، هناك أمر هام أريد الحديث معك فيه".

شعرت سالي بتوتر خفيف يجتاحها عندما سمعت نبرة خالد الجدية، وقلبها بدأ ينبض أسرع قليلاً، لكن ملامحها بقيت ثابتة. حاولت أن تحافظ على هدوئها، رغم أن فكرها كان مشوشاً بسبب الأحداث الأخيرة والسر الذي يخص أنيسة. التفتت إليه بعينيها، ثم عادت بنظرها بسرعة إلى الأمام، محاولةً إخفاء قلقها، فألقى عليها نظرة ثم ركز على الطريق مرةً أخرى قائلاً:

"لنجد مكاناً نتحدث فيه".

"ولكن اليوم إجازة، لن نجد أماكن متاحة الآن".

ابتسم خالد وقال وهو ينظر إليها مرةً أخرى:

"إذاً لنتمشى على النيل".

كان الهواء يكسوه نسمات باردة ومنعشة، تكسر حرارة الصيف الطويلة. السماء كانت صافية، مع غيوم بيضاء متناثرة تسبح في الأفق البعيد، داعبت نسمات الهواء الخفيفة وجه سالي التي سارت على ضفاف النيل صباحاً بجوار خالد، وهي تستنشق رائحة الماء العذبة، وعبق الأشجار التي تصطف على ضفاف النهر المختلطة بأصوات العصافير والطيور المارة. النسيم كان يهمس بهدوء، ويجلب إحساساً بالصفاء وسط أصوات المياه الهادئة التي تتراقص تحت ضوء الشمس، والأجواء تحمل في طياتها شيئاً من السكون والطمأنينة والهدوء الغريب، وكأن النيل نفسه يعكس حالة هدوء الطبيعة في هذا الوقت من اليوم. خطواتها كانت بطيئة ومتزنة، كأنها تحاول توازن أفكارها المشتتة. كانت تمشي بجواره، ولكنها تشعر بالمسافة بينهما كأنها مسافة نفسية، وليس جسدية، ومع ذلك شعر الاثنان بنوع من الانسجام مع المكان، وكانت خطواتهما تتناغم مع الإيقاع الهادئ من حولهما. نظرت إلى خالد الذي كان يمشي بهدوء بجانبها، يضع يديه في جيوبه، ونظره متجه نحو النهر. ملامحه كانت هادئة، وكل مرة كانت سالي تلتفت نحوه، تراه مستغرقاً في التفكير، وكأن حديثهما القادم سيكون ذا ثقل. توقفت لثانية لتنظر إلى النهر مرةً أخرى، عينيها تركزت على حركة الماء الهادئة المتراقصة بفعل النسيم. وبينما وهي تتأملها، تذكرت تلك الأغنية التي علمتها لها المعلمة وهي صغيرة في إحدى الرحلات المدرسية، كانت المعلمة ترددها الأطفال يرددون خلفها:

الدنيا من بعدك مُرة.. يا ساقي وادينا الحياة

دا اللي يدوق طعمك مَرة.. بالمستحيل أبداً ينساك

يا نعمة من الخلاق يا نيل.. دي مايتك ترياق يا نيل

يا حلو يا اسمر

خيرك علينا مالوش آخر.. يا اللي القلوب بتعيش بهواك

خلتنا نحكي ونتفاخر.. على الوجود كله وذكراه

يا ريحة من الأحباب يا نيل.. وأهلي مش أغراب يا نيل

يا حلو يا اسمر

كان سالي وزملاؤها من الأطفال يرددون كلمة 'يا حلو يا أسمر' خلف المُعلمة وهم يمشون في طابور ثنائي ويمسكون بأيدي بعضهم البعض حتى لا يشرد منهم أحد، في تلك الرحلة ترسخ داخل سالي حُبها لمعلم من معالم مصر العظيمة، وهو النيل، وأصبح السير بمحاذته عادة منذ صغرها تبعث عليها الراحة، وتذكرها بتلك الرحلة الجميلة.

عادت إلى أرض الواقع على صوته المنخفض الثقيل الذي اختلط بصوت الحياة الهادئة من حولها:

"دكتورة سالي، أريد أن أطلب منك معروفاً".

نظرت إليه وهي تضع خصلة شاردة من شعرها خلف أذنها:

"بالطبع تفضل".

كان خالد يفكر بعمق وكأنه يرتب الحديث في عقله أولاً، ثم قال بعد ثوانٍ:

"الأمر يخص فرح، وأطلب منك هذا المعروف لأني أعلم أنك قريبة منها من بين كل الأطفال".

نظر إليها، وقال بصدق:

"أنا أطلب منك مساعدتها يا دكتورة".

نظرت إليه سالي مستفهمة، وهي تتساءل إن كان قد علم بسر فرح أو لا:

"مساعدتها؟ كيف؟".

قال الرجل ببطء بعد لحظات:

"فرح ارتكبت بالأمس خطأً فادحاً، وتسببت بمشكلة كبيرة مع زملائها في الفصل".

رفعت سالي رأسها بصدمة متسائلة:

"ماذا حدث؟".

حكى خالد لسالي ما حدث منذ إصابة فؤاد حتى مشكلة فرح، وأكمل:

"ولكن الأمر للأسف لم يتوقف عند ذلك، اليوم صباحاً جاء إلي حسن وطلب مني هاتف فرح، وعلمت أن فرح قامت بنشر مقاطع فيديو لصديقاتها في الفصل وهن يقمن بفعل خطير".

"ما هذا الفعل؟". سألته سالي ووجهها يبهت.

"كانوا يمسكون بآلات حادة ويخدشن معاصمهن بها".

تنفست سالي باندهاش:

"يا إلهي!".

"هذا سر العراك الذي حدث في المطعم، وبالطبع قمت أنا وحسن بمسح تلك المقاطع عن الانترنت وعن الهاتف، ولكن يبدو أن الأمر خرج عن السيطرة، والمقاطع تم تداولها بشكل كبير".

فكرت سالي في تصرفات فرح الطائشة ولم تتخيل أن تصل الفتاة إلى هذا الحد، على الرغم من محاولتها لاحتوائها وكبح جماحها، إلا أن عقلية المراهق دائماً متهورة وعاطفية، تتخذ القرارات بناءً على مشاعر لحظية دون النظر إلى العواقب. كانت سالي تشعر بالأسف لأنها لم تستطع الوصول إلى عقل فرح، وتهيئه ليفكر ملياً قبل أن يتصرف.

همست:

"هذه مشكلة كبيرة، من الخطر على فرح وزميلاتها تداول هذه المقاطع".

"بالفعل هذا ما يُقلقني".

كان القلق بالفعل بادٍ على وجه خالد الذي قال بتردد بعد لحظات:

"في الواقع أن ماما لم يصلها خبر عن تلك المقاطع، وأتمنى ألا تخبريها".

أكمل بعد لحظات، والقلق يتعمق على وجهه:

"أشعر أن صحتها ليست على ما يرام، ولن تتحمل صدمة أخرى بعد إصابة فؤاد وخطأ فرح".

بهتت سالي عندما قال تلك الجملة وهي تتساءل، هل وصله خبر عن مرض السيدة أنيسة؟ نظرت إليه وهي تتفحص ملامحه المرهقة، فقال هو:

"هذا موضوع آخر أريد أن أفتحه معك".

نظر إليها خالد مباشرة وتلاقى نظرهما وهو يقول:

"من فضلك يا دكتورة، هذا رجاء مني، أتمنى منك الفترة المقبلة أن تراقبي صحة أمي".

أقسمت سالي في تلك اللحظة أن اعتذارها عن استمرارها في العمل بالمنزل كان على لسانها فور سماعها هذا الرجاء، وشعرت بالارتباك وهي تشبك أصابعها وتتهرب من نظراته الصادقة وهي تنظر إلى النيل قائلة:

"هل لاحظت أعراض معينة عليها؟".

نظرت إليه مرةً أخرى، نظراتها كانت تائهة غير مباشرة، ليقول هو بحيرة:

"هناك إحساس داخلي يوحي إليّ بأنها ليست على ما يرام".

تردد وقال بعد لحظات:

"لا أعلم، ولكني طلبت طبيب العائلة حتى يكشف عليها، في الواقع لقد طمأنني على صحتها، فقط طلب بعض التحاليل التي لم تُجريها بعد بسبب مشاكل الأولاد، ولكني غير مرتاح، أشعر أن هناك أمراً لا أفهمه، لست مُقتنع بما قاله الطبيب".

التفت إليها برجاء:

"لذلك أطلب منك أن ترافقيها بنفسك إلى المستشفى، وتكوني بجوارها وهي تُجري تلك التحاليل، فربما هي لا تريد أن تزيد من قلقي".

وها هو خالد يضع فوق كتفيها حمل جديد، وثقيل إلى أقصى حد، لم يكن لديها أية كلمة مناسبة لترد عليه بها، إلا كلمة واحد:

"حسناً مستر خالد".

قالتها وهي تشعر بأن حمل عدم إخبار خالد بسر والدته، أكثر ثقلاً من السر نفسه. ولكن كيف تخبره بهذا السر؟ هل تخبره الآن بكل بساطة؟

'مستر خالد السيدة أنيسة لديها ورم خبيث والأمل في علاجه أقل من 20%'.

جملة صعبة وقاسية، وليس هذا الوقت ولا المكان المناسب ليقع هذا الخبر فوق رأس خالد بقسوة شديدة. شعرت سالي وكأن الهواء الذي كان يلفح وجهها برقة، أصبح كالصفعات على خدها، وثقيل إلى حدٍ ضايقها وجعلها ترغب في الرحيل فوراً من هنا، سمعته يسأل:

"هل نذهب؟".

انتبهت سالي إلى خالد، ونظرت إليه بنظرات مترددة منعتها من رؤية ابتسامته الصافية المتأملة:

"نعم لنذهب".

***


فور دخول السيارة من بوابة المنزل الخارجية، ركض الصغار خلفها وهم ينادون "أبيه!". تأملتهم سالي من النافذة المجاورة لها وهي تشعر بأنها افتقدتهم في هذا الأسبوع الذي كان طويلاً جداً، شعرت وكأنها عادت إلى الجنة، وتسارعت نبضات قلبها بحب، كانت حالتها غريبة جداً عليها، لم تتوقع يوماً أن يطفو قلبها في مثل تلك المشاعر. هل هذا ما يحدث للإنسان عندما يخطط هو لحياته؟ عندما يحدد ما الذي يرغب فيه؟ أم ما تمر به هو شيء أبعد من التخطيط والتحكم؟ شعرت سالي بأن الحياة قد أخذتها في اتجاه غير متوقع، وأن المشاعر التي تسيطر عليها الآن لا يمكن حصرها في إطار ما هو مخطط له أو متوقع. كانت هذه اللحظات، وهي ترى الصغار يركضون نحو السيارة بابتسامات بريئة وأصواتهم تعلو بالفرح، تذكرها بأن هناك أشياء في الحياة تأتي دون سابق إنذار، دون جدول زمني، وتملأ قلب الإنسان بفيض من الحب والعاطفة.

كانت تتأملهم بعينين تلمعان بالحنين، وتبتسم لنفسها، وكأنها تعيد اكتشاف جزء جديد منها. شعرت بأن وجود هؤلاء الأطفال في حياتها قد جعلها تشعر بشيء لم تكن تدركه من قبل؛ أن السعادة الحقيقية قد تأتي في لحظات بسيطة، لحظات غير متوقعة لكنها مليئة بالحب.

وقفت السيارة وخرجت سالي ليحاوطها الأطفال بنظراتهم البريئة والفضولية، بينما خالد يخرج حقيبتها:

"أهلاً يا أطفال".

تحدثوا باندفاع وبكلمات غير مفهومة مختلطة ببعضها البعض، كانوا يصيحون بصوتٍ عالٍ حولها كالفراخ الصغيرة، كما تراهم سالي، وقعت عيناها على فؤاد وعندما رأت تلك الضمادة البيضاء حول رأسه ومنخفضة قليلاً بجوار عينه، شعرت بالشفقة تجاه الولد الصغير:

"فؤاد، كيف حالك؟".

تدخلت لارا بتلعثم وهي تحاول صرف الأنظار عنها مُسبقاً:

"أنظري إليه، لقد ذهب إلى المستشفى لأنه مصاب".

قالت سارة:

"لأنك دفعتيه يا لارا".

شعرت لارا بالخجل من سالي، واختبأت خلف توأمها بابتسامة خجولة. فكرت سالي في اشتياقها إلى هذا الصخب اللذيذ، ونظرت إلى يحيى الذي وقف من بعيد يراقبهم، كان الفتى أصغر اخوته وقدرته على الحديث مثلهم مازالت محدودة، فقالت سالي:

"أهلاً يحيى، كيف حالك؟".

ابتسم الفتى بخبث طريف، ثم ركض تجاه خالد الذي أخرج الحقيبة، ووقف ينظر إليهم بابتسامة، تعلق الفتى بساقه هو يُريد منه أن يحمله، ولكن خالد قال:

"ليس الآن يا يحيى".

اعتبرت سالي أن هذا الصخب ترحيب حار منهم، ودخلت معهم إلى المنزل، ولاقت استقبال من باقي الأولاد الذين كانوا يستعدون للفطور متأخراً، وندى واسراء بنات أخ الست ذكية، ماعدا فرح التي لم تكن من بينهم، والسبب كان بالطبع معروف. قطع هذا الصخب صوت أنيسة:

"دكتورة سالي، أهلاً بعودتك! كيف كانت إجازتك؟".

رأتها سالي تنزل على السلم بهدوء، فتابعتها بعينيها حتى وصلت أمامها بابتسامتها اللطيفة، نظرت سالي إلى وجهها بتفحص، وعينيها تدوران بعشوائية على تفاصيله، قالت بصوت مبحوح:

"كيف حالك ست أنيسة؟".

"أنا بخير يا ابنتي، وأنت كيف حالك؟ أنت لا تعلمـــ..".

لم تسمع سالي باقي الحديث وهي تائهة في معالم المرأة، وهناك جملة على طرف لسانها:

"لا، أنت لست بخير".

أمارات المرض كانت على وجهها الذي تعمقت شقوقه وغارت أكثر فأكثر، جسدها كان نحيفاً عن آخر مرة رأتها، وبالتالي صارت ملابسها فضاضة وواسعة، يديها ضعيفتان وهزيلتان جداً، وقدميها بالكاد تحملانها، ربما كان على سالي أن تغيب ولو لفترة قصيرة، حتى ترجع وترى هذا التدهور التدريجي والصادم. سألت المرأة بابتسامة ودودة:

"هل اهنئك، وأقول مبروك؟".

عادت سالي إلى أرض الواقع على سؤالها، فاحمرت وجنتاها بخجل، ونظر إلى الأرض قائلة:

"لا، ليس هناك داعٍ لذلك".

لم تعلم سالي أن هناك شخص قد انفرجت أساريره براحه عند سماع ردها، فقالت أنيسة:

"إذاً ستتفرغين لنا!".

أكملت المرأة وهي تُغير الموضوع:

"يبدو أنك مرهقة وجائعة".

ابتسمت سالي والجوع يغلبها بالفعل:

"بالفعل، أنا جائعة جداً".

 "إذاً هيا، حتى تتناولي فطورك، وأنت يا خالد لم تتناول فطورك، تعال".

نظر خالد بينهما وقال:

"لقد شربت في الصباح فنجاناً من القهوة، وليست لدي شهية لتناول الفطور. اعذروني، لدي أعمال يجب أن انجزها في الملحق".

التفت إلى حسن قائلاً:

"حسن انقل حقيبة الانسة سالي إلى غرفتها، وتعال بعدها إلى الملحق".

ألقى نظرة أخيرة على سالي وقال:

"اعذروني".

نظرت أنيسة باستغراب إلى حسن، ثم إلى خالد الذي خرج فوراً من المنزل، وهمست:

"ما بالهم؟".

لكنها سرعان ما ابتسمت وهي تسأل:

"هيا؟".

***


قربت سالي فنجان الشاي من شفتيها وأميرة التي تجلس بجوارها تسأل أنيسة:

"ماما، أين فرح؟ ألن تشاركنا الفطور؟".

"فرح مُعاقبة، ولكنها ليست ممنوعة من مشاركتنا الطعام".

"إذاً ألن يناديها أحد؟ ربما تكون جائعة".

قالت أنيسة بهدوء:

"ناديها إن أحببت".

"أنا سأناديها!".

صاحت ليان بحماس، مما جعل باقي الصغار يتحمسون، فقالت أنيسة بصرامة:

"واحد منكم فقط هو من سيذهب، والباقي سيظل هنا وينهي فطوره، اذهبي أنتِ يا ليان".

ذهبت ليان، وعادت بعد دقائق وهي تقول بحزن:

"ماما فرح رفضت أن تأتي معي".

"إذاً، اتركيها على راحتها، فالتأتي وتطلب الطعام بنفسها عندما تجوع".

سأل رحيم بحزن:

"ماما، أريد أن أفهم ماذا حدث بالأمس؟ ولماذا عادت فرح بهذا الشكل؟".

قالت أنيسة ببرود:

"رحيم اتمنى ألا تتحدث في هذا الأمر". أكملت موجهة كلامها للجميع:

"جميعكم هذا الموضوع تم إغلاقه، إياكم والحديث فيه، خاصة مع فرح".

ألقت أنيسة تحذيرها في الغرفة التي ساد فيها الصمت لثوانٍ، ثم عادت الأصوات الصاخبة مرةً أخرى تعلو في الأرجاء. أنهى جميع الأطفال فطورهم، وانطلق معظمهم إلى الحديقة، وظلت أنيسة ومنى وسالي في غرفة الطعام، كانت هناك حديث يجب أن يدار بين البالغين، تحدثت منى بقلق:

"لا أستطيع تصديق ما فعلته فرح، تلك الطفلة خرجت من المنزل بملابس عادية، لقد رأيتها بنفسي".

"نعم يا منى وأنا أيضاً".

تذكرت سالي الصورة التي أرسلتها إليها فرح، والرسالة التي لم ترد عليها، لم تتوقع أن يصدر هذا التصرف من فرح، ولكنها التزمت الصمت وهي تستمع إلى همسات أنيسة ومنى التي سألت:

"إذاً، كيف ستعاملون معها؟".

"خالد عاقبها، ولكني مع ذلك لست مطمئنة، فرح لم تنطق حرفاً بالأمس، نحن مازلنا لم نضع أيدينا على السبب".

"لنتحدث معها بانفراد، أنا أو أنت، أعتقد أنها ستفتح قلبها".

نظرت أنيسة إلى سالي وسألتها:

"ما رأيك يا دكتورة أن تتولي هذا الأمر؟ أنت قريبة لفرح، وأعتقد أنها تحتاج لمن يقاربها في السن".

نظرت منى بين أنيسة وسالي بضيق، ولكنها لم تعلق، فأكملت أنيسة:

"ربما تفصح عما بداخلها إليك".

سعلت سالي قبل أن تتحدث:

"هذه بالفعل نيتي، مستر خالد حكى لي بعض التفاصيل ونحن في الطريق، أتمنى حقاً أن أساعد في هذه المشكلة، ولكن الأمر في النهاية يقع على عاتق فرح".

"ماذا تعني؟".

"أعني أن هناك الكثير من الأمور التي يجب أن تغيرها فرح في طريقة تفكيرها واعتقاداتها، في الواقع لقد لاحظت كثيراً من التعقيدات النفسية لديها طوال هذا الشهر الذي قضيته معكم، هناك قناعات سلبية راسخة لديها، لا أريد أن أخوض فيها الآن".

"وهل سنقدر على تغيير تلك القناعات؟".

"كما قلت قبل ثوانٍ، هذا يتوقف عليها، وأنا في الحقيقة مؤمنة أنها قادرة على التغيير، ولكنها يجب أن تؤمن هي بذلك أولاً".

تنهدت أنيسة:

"سأترك الأمر لكي يا دكتورة".

"إذاً أريد من السيدة ذكية أن تحضر الفطور لها، وأنا سأوصله إليها بنفسي".

***


أمسكت سالي بصينية الفطور في يدها وطرقت الباب برفق، لكنها لم تتلقَ رداً، فطرقت مرةً أخرى، وحين يئست من الرد، فتحت الباب بهدوء، ودخلت الغرفة لتجدها نائمة في سريرها بعمق، همست سالي:

"فرح، هل أنت مستيقظة؟".

لم يكن هناك رد عليها، فاقتربت سالي منها لتراها عن قرب، كانت تغطي نفسها حتى ذقنها، وعينيها مغلقتان برفق، تأملتها سالي لثوانٍ، لتلتقط بعدها ورقة من المكتب وتكتبت شيئاً عليها، ثم تركتها بجوار الصينية، وخرجت من الغرفة بهدوء، وفي الطريق إلى غرفتها، ظهر عبدالله فجأة. وقف الفتى أمامها وعلى وجهه نظرات عابسة، تذكرت سالي موقفهما الأخير وقالت بتردد وهي ترفع يدها ملوحة:

"مرحباً عبدالله، كيف حالك؟".

نظر الفتى إليها وازداد عبوسه، فأخفضت سالي يدها بإحراج، وقبل أن تتحدث، قال الفتى:

"أنتِ، لدي شيء أُريد أن أُعطيكِ إياه".

'لو سمعتك أنيسة بهذا الأسلوب لوبختك في الحال' قالتها سالي لنفسها وهي تنتظره أن يعطيها هذا الشيء. تقدّم الولد ببطء وسلمها حقيبة هدايا، ثم ركض إلى الطابق السفلي، ولم ينتظرها حتى تفتحها. تأملته سالي بحيرة، ثم فتحت الحقيبة الصغيرة لتجد فيها كوب من الفخار باللون البرتقالي، ومكتوب عليه اسمها باللغة العربية، ومع رسالة مكتوب فيها كلمة واحدة 'آسف'. تأملت سالي الرسالة وشعرت بالسعادة، ليس بسبب الاعتذار، بل لأنها كسبت هذا الفتى العنيد. تأملت الكوب باللون البرتقالي الذي تكرهه كثيراً وهمست:

'لو استشرتني فقط في لون الكوب يا عبدالله'. تذمرت سالي من اللون، لكنها في النهاية وضعته باعتزاز داخل الحقيبة، واتجهت إلى غرفتها، فقد كان أمامها الكثير حتى تفعله.

***


في غرفتها فتحت فرح عينيها، كانت مستيقظة بالفعل ولم يغمض لها جفن، أدركت بحزن أن سالي موجودة في المنزل، ولكنها لم تجرؤ على مقابلتها، كيف ستنظر إلى وجهها وهي تعلم أنها ارتكبت خطأً فادحاً، ماذا تظن سالي عنها الآن؟ كيف تراها؟ هل خاب أملها فيها؟ فرح تحمل في قلبها مشاعر مختلفة تجاه سالي مقارنةً بأنيسة وخالد، لم تفهم أبداً سر هذه المشاعر، لكنها شعرت أن هناك قرباً إنسانياً بينهما كانت تتمنى أن يكون دائماً متاحاً، ولكنها الآن تشعر بوجود حاجز بينها وبين سالي. التفتت الفتاة إلى المكتب بجوارها، كان هناك صينية بها طعام، قرقرت معدتها من شدة الجوع عند رؤيتها، فنهضت لتتناول القليل منها، وبينما وهي تضع الساندويتش في فمها، لمحت ورقة بيضاء مطوية، التقطتها وقرأتها:

[أعلم أنك مستيقظة؛ كان تنفسك واضحاً، أحترم رغبتك في عدم الحديث، ولكن سأنتظرك مساءاً وقت النوم في غرفتي كما كنا نفعل، تعالي لو شعرت بالحاجة إلى الحديث. سالي].

كانت فرح تمضغ طعامها، وشعرت بدموعها تنهمر على الساندويتش الذي تأكله.

***


لم تُفَوت سالي غداءها في ذلك اليوم، أخذت القليل من الراحة في غرفتها وقررت الانضمام إليهم، فاليوم كان الجمعة، وأيام الجمعة في المنزل لا مثيل لها.

وبعد الغداء في غرفة العيادة، رفع فؤاد رأسه إلى سالي وهي ترتدي القفاز الطبي، مترقباً نزع الضمادة، كان الفتى مرتعباً، فابتسمت سالي له بحب وقالت:

"هيا يا بطل".

نظر الولد إلى خالد الذي كان يقف من بعيد، ولارا تتمسك في ساقه بترقب وخوف على أخيها، أومأ خالد له وقال:

"فؤاد، لا تقلق، أنا هنا معك، ولارا أيضاً".

صاحت لارا والدموع في عينيها:

"أنت ولد ممتاز يا فؤاد!".

ضحكت سالي بطرافه على المشهد الدرامي وشرحت الخطوات للفتى والابتسامة لم تفارقها:

"الأمر بسيط جداً، سنتفقد الجرح ونطهره ونغطيه مرةً أخرى، إن شعرت بالألم ارفع يدك وأنا سأتوقف على الفور، وإن أحببت أغمض عينيك بشدة ولتعد من 1 إلى 20 ثم افتح عينيك لتجدنا قد انتهينا".

اومأ الفتى الشجاع، وأغمض عينيه بشدة بينما قالت سالي:

"واحد". وتباطأت لمدة عشر ثوانٍ، وقبل أن تُكمل العد سمعت لارا تصيح:

"اثنين، ثلاثة".

'اصمتي من فضلك يا لارا'.

قالتها سالي ذلك في نفسها بتوسل، وسمعت في نفس الوقت صوت خالد:

"لارا لا تتدخلي".

فنظرت إليه بامتنان وأكملت عملها لترى جرح الطفل، وسمعت الطفلة تهمس باعتراض:

"ولكن بعد رقم واحد رقم اثنين".

فحملها خالد حتى تصمت. تأملت سالي جرح الفتى الذي لم يكن كبيراً، ولكنه عميق قليلاً، وبالتأكيد كان من اللازم استخدام الغرز معه، تفحصت حالة الجرح والغرز التي لم يحن وقت نزعها بعد، وطهرت المكان وهي مازالت عند الرقم 11، وفي النهاية استبدلت الضمادة الكبيرة، بلاصق طبي، حتى لا يتضايق الفتى. وقالت وهي تضع اللاصق:

"أنت ممتاز حقاً يا فؤاد كما قالت لارا، كما أننا أنهينا في وقت قصير جداً وقبل أن نصل إلى رقم 20، هيا افتح عينيك".

فتح الفتى عينيه ليرى سالي تبتسم إليه قائلة:

"هل شعرت بأي شيء؟".

أومأ الفتى بالنفي، فقالت سالي وهي تخرج من جيبها بسكوت بالشكولاتة:

"إذاً هذه مكافأة لك، لأنك كنت ولد ممتاز ومُطيعاً".

صرخت لارا بعينين تحسدانه:

"وأنا أيضاً أريد واحدة مثل فؤاد".

نظر إليها خالد بصرامة لتسكت في الحال، فنظر فؤاد إلى أخته ببراءة وقال:

"لنقسمها بيننا يا لارا".

أنزل خالد الطفلة المشاغبة التي انتفض وجهها بالسعادة والانتصار بسبب عرض شقيقها، وقال لسالي التي كانت تخلع قفازها ورمته في سلة المهملات:

"أشكرك على تعبك".

التفتت إليه سالي قائلة:

"لا داعي للشكر، هذا عملي يا مستر خالد، أرجوك اطمئن عليه، فهو بخير، سنتابع فقط الجرح ونطهره يومياً".

نظر خالد إلى سالي بابتسامة صغيرة محاولًا إخفاء مشاعره خلف هدوءه المعتاد، وقال:

"هذا يجعلني مطمئنًا". ثم أضاف، متجنبًا إظهار أي اهتمام شخصي:

"من الجيد أنك هنا".

سالي، التي اعتادت على تحفظ خالد، ابتسمت بدورها وقالت:

"هذا واجبي، وأنا بصراحة أعشقهم، إنهم رائعين".

نظروا معاً إلى التوأم وهما يتقاسمان البسكويت بلحظة طفولية دافئة، ثم نظر إليها للحظة مترددًا، ولكنه سريعًا ما استعاد هدوءه، وقال:

"إذاً، هل قابلتِ فرح؟".

"آه، كانت نائمة، ولكني تركت لها رسالة أدعوها لتقضي الليلة في غرفتي، بالطبع إذا سمحتم لنا".

"لا بأس، افعلي ما ترينه صحيحاً".

تردد قليلاً ثم قال:

"هم جميعاً في الحديقة".

ابتسمت سالي قائلة:

"سأذهب من بعدكم، يجب أن أرتب بعض الأشياء هنا".

"حسنًا. لارا، فؤاد، هيا بنا".

رحل خالد بالأطفال، وعندما انتهت من مشاغلها، اتجهت إلى قاعة الطعام وهي تشعر بالعطش، وقبل أن تدخل إلى المطبخ سمعت السيدة ذكية:

"فرح اتركي تلك الأطباق سأغسلها أنا، رتبي فقط تلك الطاولة الصغيرة هنا".

ثم صرخت المرأة لابنتا أخيها:

"ندى وإسراء تحركوا، مازال هناك الكثير من العمل!".

لم تسمع سالي صوت فرح، بل فقط أصوات الأطباق والحركة داخل المطبخ، فشعرت بالتردد ورحلت بهدوء دون أن تصدر أي صوت، حتى لا تُحرج فرح.

***


في المساء نظرت سالي إلى الساعة التي تجاوزت العاشرة، كان من المفترض أن يكون هذا وقت النوم، ولكنها كانت تنتظر فرح بناء على رسالتها. أمسكت بهاتفها وهي تتابع تعليقات الناس على مقاطع الفيديو التي أصبحت رائجة ومُتداولة، وشعرت بالقلق وهي تقرأ تعليقات الناس التي تسب الفتيات وعائلاتهن، حتى فرح وهي من التقطت الفيديو نالت نصيبها من السباب، كما تداولت بعض الصحف الإلكترونية المقطع وأضافت إليه بعض التوابل حتى تجذب المشاهدين، راقبت سالي الوضع وهي تتمنى أن ينتهي الأمر دون أية عواقب ومُضاعفات. نظرت إلى الساعة التي تجاوزت الحادية عشرة، وهنا شعرت بالنعاس ولم تستطع مقاومة النوم الذي بدأ يغلب جفونها. وسقطت في النوم دون أن تشعر، فقد كان اليوم طويلاً جداً والسفر زاد من إرهاقها، ومرت الوقت وتقلبت على السرير، ولأن نومها كان حساساً وكثيرة الاستيقاظ، استعادت وعيها لتشعر بأن هناك أحداً بجوارها:

"فرح؟".

نظرت إليها الفتاة التي كانت تجلس بجوارها على السرير، وقالت هامسة:

"نعم، هذا أنا".

شعرت سالي بالدوار، فنهضت وتمهلت قليلاً لتُهدئ دقات قلبها بعد الاستيقاظ المفاجئ. ثم جلست بجوار الفتاة على السرير حتى التصق كتفاهما، لم تمر لحظات ومال رأس فرح كتفها برفق، وتحدثت الفتاة بعد دقائق:

"علمتي ما حدث؟".

"نعم، مستر خالد أخبرني".

"يبدو أن حسن أخبره" نظرت الفتاة إليها وسألت وعينيها غائمتان:

"ماذا تظنين؟".

"أظن في ماذا؟".

"في تصرفي؟".

"أعتقد أن السؤال الأدق هو، ماذا تظنين أنت في تصرفك؟".

لم تجب فرح، فتنهدت سالي:

"من المهم أن تُجيبي على هذا السؤال يا فرح، حتى لو كانت الإجابة قاسية عليك".

أكملت سالي:

"الاعتراف بالخطأ أمر ثقيل، ثقيل إلى حد لا يُطاق، ثقيل على اللسان وعلى الوعي الذي يرفض أن يعترف بنقصه، ولكنه الخطوة الأولى للتحرر من تبعيات خطأنا، أعلم أنك نادمة ومدركة لفعلتك، ولكنك لا تستطيعين التصريح بذلك، وأعلم أيضاً أنه لديك دوافع لتقدمي على مثل هذا التصرف، ولكن مهما كانت دوافعنا قوية علينا أن نستغلها جيداً ونوجهها بشكل حِرَفي لانتزاع حقوقنا، وأنت للأسف دوافعك قمت باستغلالها بشكل خاطئ ومؤذي يا فرح".

قالت فرح بألم:

"لقد آذوني، وتعمدوا إهانتي، هل تتذكرين ذلك اليوم الذي جئت فيه إلى مدرستي، ربما لم يقتربوا مني من بعده، ولكن نظراتهم كانت تؤذيني، كن يهمس بجواري بكلمات مؤلمة، أردت فقط أن أُريهم ما الذي ستفعله اللقيطة".

بكت فرح بحرقة، فوضعت سالي يدها كتفها قائلة وهي تشعر بالألم:

"تصرفك يا فرح سيجعلهم يتمادون، بل سيعطيهم سبباً مقنعاً ضدك".

نظرت الفتاة إليها بألم وقالت من بين دموعها:

"ولكني لست لقيطة يا سالي!".

تألم قلب سالي لسماع توسل فرح، فقالت وهي تضمها إليه:

"أعلم يا حبيبتي، أعلم جيداً أنك لست لقيطة، ولا شيء مما يقولونه عنك صحيح. أنتِ أكثر قيمة بكثير من أي كلمة جارحة أو وصف قاسي. لكن لا تدعي كلامهم يؤثر على نظرتك لنفسك".

احتضنت سالي فرح بقوة، ومررت يدها على شعرها بحنان، محاولة تهدئتها وهي تشعر بالألم الذي يمزق قلب الفتاة. تابعت سالي بصوت حنون ومليء بالدفء:

"الأشخاص الذين يُهاجمون الآخرين هم أضعف مما تتصورين. يحاولون أن يشعروا بقوتهم من خلال تحطيم من حولهم. لكن القوة الحقيقية تكمن في قدرتكِ على تجاهلهم وعدم السماح لهم بالتحكم في مشاعركِ أو أفعالكِ".

رفعت فرح رأسها ونظرت إلى سالي بعينين مليئتين بالدموع، ثم همست بصوت متهدج:

"أنا أشعر بالوحدة، أشعر أنني لا أنتمي إلى أي مكان، حتى هنا لم أعد أشعر بالانتماء".

هزت سالي رأسها بلطف، وقالت:

"الانتماء يا فرح هو شعور عميق بالاتصال والارتباط بجماعة أو مكان أو فكرة، وهو الإحساس بأنك جزء من شيء، وأنت بالفعل جزء من هذا المكان وتلك العائلة، أياً كانت علاقتكم ببعضكم البعض، ولكنكم في النهاية لبعضكم البعض، صدقيني أنتِ تستحقين الحب والاحترام، ولا أحد يمكنه أن يأخذ ذلك منكِ، أنتِ لست وحدك يا فرح. لديكِ أشخاص يحبونكِ ويهتمون بكِ، وأنا هنا من أجلك، لقد رجعت من أجلك".

تأملت فرح كلام سالي، ثم قالت سالي بصوت منخفض:

"أخطأتِ، نعم، لكن الجميع يخطئ. المهم هو كيف ستتصرفين الآن. بإمكانك دائماً أن تبدأِ من جديد، وأن تظهري للجميع من تكونين حقاً، وليس كما يحاولون وصفكِ".

ارتجفت شفتا فرح:

"ماذا أفعل مع ماما وأبيه؟ يبدو أن حسن أخبره بأمر مقاطع الفيديو، ولكن ماما هل وصلها خبر؟".

"هي لا تعلم، لا تقلقي".

تنهدت سالي ثم قال:

"انظري إلي، مهما كانت أخطائك، هم عائلتك في نهاية المطاف، عائلتك ربما تغضب، تنفعل، تعاقبك، وأيضاً ربما تكون قاسية، ولكن العائلة أيضاً تغفر وتسامح وتدعم مهما كان خطأك، وخاصة في الأوقات التي تكونين فيها بأشد الحاجة إليهم. ربما ستشعرين بالخوف أو القلق من رد فعلهم، ولكن تذكري دائمًا أن الحب الذي يكنونه لك أكبر من أي خطأ قد ارتكبته. قد تكون العقوبة جزءًا من هذه العلاقة، لكنها نابعة من الاهتمام والرغبة في رؤيتك سليمة وعلى الطريق الصحيح".

صمتت سالي قليلاً، وهي تداعب شعر فرح بلطف، ثم تابعت بصوت هادئ:

"كل ما عليكِ فعله هو أن تكوني صادقة معهم. أخبريهم بما حدث، وكيف تشعرين حيال ذلك. أخبريهم بما دفعكِ لهذا التصرف، ولماذا شعرتِ بأنكِ مضطرة للقيام بما قمتِ به. قد يكون الأمر صعبًا في البداية، لكن الثقة والتواصل هما الأساس. إذا عرفوا كيف تشعرين بالفعل، سيكون بإمكانهم فهمك ومساعدتك بشكل أفضل".

قالت سالي بحب نابع من أعماقها الصادقة:

"وأنا أيضاً سأدعمك، وسأكون دائماً بجوارك".

قالتها وهي تتذكر بأنها لطالما كانت في حاجة إلى تلك العبارة. ضمت الفتاة المراهقة إليها، وهي تمسح على شعرها بحنان، عاقدةً العزم على مساعدتها.

***


في صباح اليوم التالي، استعد الأطفال جميعا لمدرستهم، ومن بينهم فرح التي تجاهلتها أنيسة، فجلست بجوار سالي طلباً للدعم، وبينما وهم يباشرون في تناول الطعام، دخل محمود الذي وصل للتو، قائلاً بحماس:

"هل سمعتم الأخبار؟ المجاهدون الفلسطينيون في غزة، قاموا باقتحام الحدود!".

نظر الجميع بِحيرة إليه ثم إلى بعضهم البعض، فسألت أنيسة:

"متى حدث هذا؟".

"منذ ما يقرب من ساعتين، شنت حركة حماس هجمات واسعة باستخدام الصواريخ على عدة مدن إسرائيلية قريبة من قطاع غزة. وتمكنت قوات حماس من اختراق الحدود عبر البر باستخدام مركبات مسلحة ودراجات نارية، وهاجموا عدة مواقع عسكرية إسرائيلية ومستوطنات قرب الحدود".

صاحت الست ذكية:

"إنهم رجال بحق!".

قالت أميرة التي فتحت هاتفها للتو وهي تقرأ الأخبار:

"ليس هذا فقط، أسفرت العملية عن مقتل وإصابة المئات من الجنود والمدنيين الإسرائيليين، كما تم أسر عدد من الجنود والمستوطنين واقتيادهم إلى قطاع غزة".

قالت أنيسة بقلق:

"التداعيات ستكون حقاً قاسية، فليحفظهم الله".

محمود الذي كان مُتحمساً، لم يكن قد انتبه بعد إلى وجود سالي، وعندما سقطت عينيه عليها، قال تلقائياً ومازالت على وجهه ابتسامته المتحمسة بسبب الأخبار التي ألقاها للتو:

"دكتورة سالي؟ مرحباً بعودتك".

على مدار اليوم، تابعت الأوساط الدولية الأخبار من كل مكان، كانت ردود الفعل الإسرائيلية للأسف سريعة وقاسية. اتخذت إسرائيل مجموعة من الأساليب العقابية ضد سكان غزة، سواء خلال العمليات العسكرية أو كرد فعل على الهجمات القادمة من القطاع. واعتبرت هذه الأساليب جزءاً مما تدعيه إسرائيل بأنه "حق الدفاع عن النفس". شملت الإجراءات المتخذة تقويض قدرة سكان القطاع على الصمود من خلال قطع الكهرباء والماء، وإغلاق المعابر، والتحكم في الإمدادات الغذائية.

عاد الأطفال من مدارسهم في ذلك اليوم، ومعهم فرح، التي كانت شاحبة الوجه، سألتها سالي على انفراد:

"أخبريني ماذا حدث معك في المدرسة؟".

"حسن رافقني ولم يتركني بمفردي إلا في أوقات الحصص، ولكن...".

"ولكن ماذا؟".

قالت فرح بصوت مرتجف وعينيها تغمرهما الدموع:

"لا أعرف ماذا فعلت! الفيديو انتشر يا سالي، الجميع شاهده، الفتيات ينظرن إلي وكأنني مجرمة، والمديرة يبدو أن المقاطع وصلت إليها!"

قالت سالي بنبرة هادئة وهي تمسك بيد فرح:

"فرح، اهدئي قليلًا، أفهم أنك في موقف صعب، لكن عليك أن تهدئي حتى نستطيع التصرف بشكل صحيح".

صاحت فرح بصوت عالٍ وهي تتنفس بسرعة:

"كيف أهدأ! الجميع يكرهني الآن، والمعلمات عرفن بالأمر، لقد دمرت كل شيء!".

"اهدئي وفكري في الأمر، من سيخبر المديرة والمُعلمات بذلك إن لم يخرج الأمر من بينكم، كما أن مقاطع الفيديو لا توضح أنه في مدرستكم".

"ولكن شكل زملائي فيه، من الواضح تحديد ملامحهن، وربما رآها أحد الطلاب وأخبر المعلمين والمُديرة، الأمر واضح يا سالي!".

لم يكن لدى سالي قول آخر تطمئن به المراهقة، فالوضع حقاً غيرَ مبشر، ومن السهل صنع "ترند" في هذه الأيام، وكيف لفتاة صغيرة مثل فرح مواجهة هذا التحدي بمفردها، على الرغم من أنها لم تظهر في مقاطع الفيديو، إلا أنها المسؤولة عن انتشاره، وسيتم مُحاسبتها على ذلك، هذا غير تأنيب الضمير الواضح وإحساس الذنب الذي يعذبها، الأمر كان حقاً أكبر من الفتاة نفسها. قالت سالي محاولة الحفاظ على هدوئها:

"انظري، ما حدث قد حدث، وأنت أخطأتِ، لكن هذا ليس نهاية العالم... كلنا نخطئ، علينا أن نبحث عن حل عقلاني لمواجهة هذا الخطأ".

ضمتها سالي إليها وقالت:

"دعيني أفكر قليلاً يا فرح".

همست سالي وهي تتأمل الفراغ:

"بالتأكيد سنجد حلاً".

وللأسف تطورت الأمور سريعاً قبل أن تجد سالي حلاً، ووصل إلى المنزل استدعاء ولي أمر والمعنية فيه من الأطفال كانت فرح، وهنا أصرت أنيسة على الذهاب مع خالد، لتتفاجأ المرأة بفعلة فرح غير الشريفة.

لن تنس أبداً سالي هذا اليوم، عندما سقط كف أنيسة على خد فرح بقسوة، مما أذهل الجميع، حتى خالد الذي وقف في مكانه متردداً قبل أن يبعد أنيسة عن فرح، أمسكت سالي فرح التي كانت تبكي بحرقة، بينما قالت أنيسة التي كانت ترتجف من الغضب:

"لم اتوقع أن تتمادي هكذا! لم أصدق أذناي وأنا أسمع هذا الكلام عنك! ماذا ربيت في المنزل، خائنة؟".

تفاقم غضب أنيسة وهي تصيح على فرح:

"لماذا تفضحين زميلاتك وقد سترك اللهّ".

أمسكت المرأة معصمها، ونزعت عنها الضمادات لتكشف بوضوح عما تخبئه فرح تحتها، نظر خالد إلى معصم فرح ببرود، ثم نظر إلى سالي التي تفادت نظراته بتوتر، أكملت أنيسة:

"انظري إلى نفسك، فتاة مثيرة للشفقة ومسكينة، أم اعتقدتِ أنك ستنالين الثناء بفعلتك تلك، أنت فقط خائنة".

قالتها المرأة بقسوة، فارتجف جسد فرح أكثر بين يدي سالي التي ضمتها إليها، بينما أنيسة تقول:

"ما هو العقاب المناسب لكِ الآن؟ أنا حقاً لا أجد عقاباً أكثر مما فرضه خالد عليك".

أمسكتها المرأة من معصمها المفضوح وقالت:

"فكري بنفسك في عقاب، لأنني حقاً سئمت منك".

تركت أنيسة فرح بقسوة وصعدت إلى غرفتها، وهي تشعر بأن قلبها الضعيف يكاد يتوقف بسبب الغضب. أغلقت الباب على نفسها وهي تشعر بالعجز والضياع، وجلست تبكي بحرقة، حتى سمعت الطرق على باب غرفتها، فقالت بصوت محشرج:

"اتركوني لحالي، لا أريد الحديث مع أحد".

ظلت سالي بجوار فرح التي أمست تبكي بحرقة وهي تضع يدها على خدها الذي تلقى صفعة قوية من أنيسة، وكانت سالي صبورة بشكل كبير، لتكرر كلامها وتحاول تهدئتها بكل ما لديها من طاقة صبر، حتى أن الأطفال جميعاً حاولوا مُواساة فرح والحديث معها برفق، خاصةً الصغار، الذين كانوا يربتون على كتفها بأيديهم الصغيرة، حتى طلبت منهم سالي أن يسمحوا لفرح بأخذ قسط من الراحة، لتغفو الفتاة وهي ترتدي ملابس المدرسة في غرفة سالي، وعندما تأكدت سالي من غرقها في النوم، خرجت من الغرفة لتجد خالد ينتظرها أمام الباب:

"دكتورة اسمحي لي ببعض الوقت، أريد الحديث معك قليلاً".

كان صوته هادئًا، ولكنه بارد جدًا، مما جعلها تشعر بالارتجاف يسري في جسدها، تبعت سالي خالد كالتلميذة إلى غرفة المكتب، وهنا جلس خالد أمامها:

"لماذا لم تخبريني؟".

نهاية الفصل الحادي والعشرون

وتُستكمل القصة في الفصل القادم بإذن الله

***


أهلاً أعزائي، بعتذر عن التأخير، واتمنى الفصل يكون عجبكم، شكراً جداً على دعمكم المتواصل.

شكراً لإخلاصكم وانتظروا الفصل الثاني والعشرون.

كاتبتكم ءَالَآء

***


سؤال الفصل: يا ترى فرح هتحل مشكلتها إزاي؟

***


* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.