فضلاً، متنسوش الvote.
المزيكا انهاردة آخر كوبيله في أغنية بعيد عنك لأم كلثوم، وألحان بليغ، كلمات الأغنية لمحمد حمزة، كلمات مأمون الشناوي. اسمحولي أكتب كلماتها.
♪
♪
كنت بشتاق لك وأنا وإنت هنا
بيني وبينك خطوتين، خطوتين، خطوتين
شوف بقينا ازاي.. أنا فين.. يا حبيبي.. وانت فين
والعمل إيه العمل ما تقول لي أعمل إيه
والأمل إنت الأمل تحرمني منك ليه
عيون كانت بتحسدني على حبي
ودلوقتي بتبكي عليّ من غلبي
وفين إنت يا نور عيني يا روح قلبي فين
فين أشكي لك فين
عندي حاجات و كلام وحاجات
فين دمعك يا عين
بيريحني بكايا ساعات
***
في تلك الليلة الحزينة، كانت السماء تمطر كأنها تبكي معهم، كما لو أن الكون كله حدادٌ على الراحلة. فتح الصغار عيونهم الناعسة على وقع الخبر الثقيل، والهواء في المنزل تغيّر، أصبح ثقيلاً حزيناً، لا دفء فيه ولا ضوء. 'ماما أنيسة ماتت؟' — كانت الجملة تتردد على الألسنة الصغيرة، تخرج بهمهمات مرتجفة، لا تصدّق، لا تفهم، لا تستوعب.
تصاعد البكاء شيئًا فشيئًا، بين من بكى في صمت، مختبئًا تحت بطانية يحاول فهم ما لا يُفهم، وبين من لم يذرف دمعة واحدة، من هول الصدمة رافضاً الاعتراف بما سمع.
مر الحزن على كل غرفة كريح باردة، أُغلقت الأبواب وأُطفئت الأنوار. جلس البعض في الزوايا، يحدقون في الجدران وكأنهم ينتظرون أن تخرج أنيسة من خلفها بابتسامتها المعتادة، بصوتها الحنون تقول: 'ما هذا الحزن؟ هيا إلى الفطور.' لكنها لم تأتِ.
السؤال ظلّ عالقًا يتردد بذهول: "ماما أنيسة ماتت؟"
كانوا يظنونها خالدة، لا ترحل، لا تتعب، لا تنكسر. ألم تعدهم أن يعيشوا معًا؟ في أعينهم، لم تكن "ماما أنيسة" إنسانة، بل كانت عالمًا، مأوى، نجمة دائمة في سمائهم الصغيرة. والآن.. خمدت.
بكى الأولاد كما لم يبكوا من قبل. كان بكاؤهم مختلفًا هذه المرة، بل بكاء يأتي من أعماق القلب. تساقطت دموعهم بصمت أو بنشيجٍ مكتوم، وبعضهم غطّى وجهه بيديه كأنه يهرب من الحقيقة، يرفض التصديق.
أما الخمسة الأصغر سنًا، أولئك الذين لم تتجاوز أعمارهم الستة أعوام، فجلسوا في الزوايا. لم يفهموا تمامًا ما الذي جرى، لكنهم شعروا بشيءٍ ثقيل قد انكسر. كانت الوجوه التي اعتادوا أن يروها مبتسمة مذهولة، باهتة، والعالم من حولهم قد تغيّر فجأة. حاولوا أن يلعبوا، أن يطلبوا وجباتهم المعتادة، أن يسألوا أسئلتهم الطفولية المدللة، لكن كل شيء بدا متوقفًا، مكسورًا. كانوا ينظرون إلى الكبار الملكومين الذين اتشحوا بالسواد، بعيون حائرة، يسألون: ماذا يعني هذا اللون؟ لماذا لا يبتسم أحد؟ لماذا لا يرد أحد على أسئلتنا؟ انعكست الحيرة والغصة على مزاجهم الطفولي، فتحوّل من بهجة وعفوية إلى تذمر وامتعاض. رفضوا الطعام، رفضوا النوم، رفضوا حتى اللمسات الحنونة التي حاولت مواساتهم.. فقد اختفى الدفء الحقيقي من هذا المكان.
وهكذا، تحوّل المنزل الكبير الجميل —الذي ضجّ يوماً بالضحك والحكايات والركض بين الغرف— إلى بيتٍ صامت، حزين. بيت غمره الحزن، وتراكم فيه صدى الذكريات. هذا البيت، الذي شهد أجمل لحظات العائلة الكبيرة، أصبح فجأة فارغًا من الحياة، لأنه فقد من كانت روحه، وابتسامته، ويده الحانية على رؤوس الجميع. فقد أنيسة.. الأم التي لم تنجب جسديًا، لكنها أنجبت بالمشاعر ستة عشر قلبًا نابضًا.. كانت هي الحياة في هذا البيت، ومع رحيلها، خفت النور، وثقل الهواء.
***
أمام المرآة، وقفت سالي في صمت ثقيل، ترتدي زيها الأسود بعناية، وتلف الوشاح الداكن حول رأسها. لم يكن وجهها يحمل أي دموع، فقط سكون مطبق وعينان مجوفتان ترفضان التصديق. أصابعها ارتجفت قليلاً وهي ترتب الطرحة، وكأنها تفعل ذلك دون وعي، كأن كل شيء أصبح ميكانيكياً منذ تلك اللحظة الحاسمة.
عادت بالزمن إلى الوراء، في تلك اللحظة حين وقف الطبيب عند الباب، وقالها بهدوء قاتل: 'البقاء لله'. لم تكن سالي تتذكر كيف انتقل الخبر من فمه إلى أذنيها، لكنها تذكرت جيدًا كيف التفتت برأسها نحو خالد، بقلبٍ يكاد يتوقف. رأته واقفًا، لكنه كان قد تقدّم خطوة للأمام، لم ترَ ملامحه حين سمع الخبر، لكنها شعرت بجسده يتجمد في مكانه. ثم بصوت متحشرج، خرج منه سؤال:
"هل يمكن أن أراها؟"
أومأ الطبيب برأسه بأسفٍ صامت، وقال:
"بالتأكيد."
ومضى خالد ببطء، نحو الغرفة التي سكنها السكون، حيث يرقد جسد أنيسة بلا روح. دخل دون أن يلتفت خلفه، ومرت الدقائق ثقيلة، لا تعلم كم طالت. هل هي عشر دقائق فقط؟ أم نصف ساعة؟ سالي لم تنتبه. كل ما تذكرته في تلك الفترة، هو صوت عم أسعد الذي كان يملأ الفراغ — صوت بكاء الأخ المفجوع في شقيقته، بكاء رجل فقد آخر جذوره في الدنيا.
ثم خرج خالد أخيرًا من الغرفة، متماسكًا بجسده، منهارًا بعينيه. كان وجهه شاحبًا، وعيناه تغلّفهما طبقة كثيفة من الألم الصامت، الألم الذي لا يحتاج إلى كلمات ليفصح عن نفسه. لم ينبس ببنت شفة، فقط تحرّك بهدوء وثبات، كأن شيئًا بداخله قد انكسر تمامًا، لكنه لا يزال يتمسك بآخر ما تبقى من واجبه تجاه من أحبها بصدق. بدأ في استكمال إجراءات نقلها إلى مثواها الأخير، بخطوات ثقيلة تقودها المسؤولية، لا القلب.
أما سالي، فلم تستطع البكاء. كانت الدموع في عينيها لكنها ظلت متحجرة، كأنها شعرت أن البكاء حقٌّ لغيرها الآن، لمن فُجِعوا بأشد مما فُجِعت، لمن سقطوا تمامًا مع رحيل أنيسة، أما هي، فعليها أن تظل واقفة، أن تمسح تلك الدموع لا أن تسكبها.
أفاقت من شرودها على صوت طرقات خفيفة على الباب. التفتت ببطء، وسارت إليه بخطى ساكنة، وفتحت الباب لتجد فرح تقف أمامها، ترتدي ملابس الحداد، كتفاها منحنيان، وعيناها منتفختان وذابلة، كأنها لم تنم منذ أيام. الحزن كان مرسومًا على وجهها بوضوح لا تخطئه عين.
نظرت سالي إليها لحظة، ثم فتحت ذراعيها بصمت، فجاءتها فرح تهرع، ارتمت بين ذراعيها، بكت بحرقة، وتشنّج جسدها النحيل بين ذراعي سالي التي قادتها إلى الأريكة برفق، واحتضنتها دون أن تقول شيئًا. لم يكن هناك كلام يُقال، لا توجد جملة على الأرض تُسكّن هذا النوع من الفقد، لا عزاء يُطبطب على قلبٍ فُجِع في أحد أحبائه.
ظلت فرح تبكي، حتى بدأت دموعها تخفت قليلاً، حينها بدأت سالي تمسح دموعها برقة، تلامس وجهها كما كانت أنيسة تفعل. راحت تمسح على شعرها بلطف، وبصمت، ثم همست فرح، بصوت مخنوق ومتهدّج:
"أنا لا أصدق أنها رحلت؟"
رفعت رأسها، تحدّق في الفراغ بعينين زائغتين وقالت:
"ماما.. رحلت وتركتني؟ ماذا سنفعل من بعدها؟"
لم تجد سالي ردًا، فاكتفت بالتمسيد على شعرها من جديد، تاركة الفتاة تبوح بكل ما يعتمل في صدرها، على أمل أن تخف وطأة الوجع ولو قليلاً.
وعندما نزلت سالي برفقة فرح إلى الطابق السفلي، رأت الأطفال جميعًا يجلسون في صمت حزين، وجوههم واجمة، ينتظرون وصول نعش أنيسة.
تأملت وجوههم واحدًا تلو الآخر، بدءًا من حسن، الذي جلس في ركنٍ بعيد مرتديًا قميصًا وبنطالًا أسودين، بملامح شاحبة ولكن متماسكة، وصولًا إلى ليان، التي كانت تبكي بحرقة وحرارة.
زفرت سالي زفرة عميقة، وقد شعرت بألم يمس أعماقها من أجلهم. كانوا يمرّون بتجربة قاسية، أكبر من أعمارهم. ومع كل دمعة، وكل أنين، رأت سالي نفسها القديمة فيهم، في ذلك اليوم الذي رحل فيه جدها الذي كانت تحبه حبًا عظيمًا. يومها، لم يلتفت إليها أحد، ولا طبطب على كتفها كبير، ولا قال لها كلمة تواسي بها وجعها. فقط تُركت تبكي بصمت في ركن بعيد من البيت، بينما الكبار منشغلون بالمصاب.
في تلك اللحظة، لم تستطع أن تترك ليان كما تُركت هي من قبل. اقتربت منها بهدوء، وجثت بجانبها، ثم ضمّتها إلى صدرها بحنان، تمسح على جسدها الصغير برفق، وكأنها تواسي الطفلة التي كانتها ذات يوم.. وتواسي ليان في الآن ذاته.
ووصل نعش أنيسة أولًا إلى المنزل الكبير، ذاك المنزل الذي كان يمتلئ دومًا بصوتها، بضحكتها، بحنانها الذي يدفئ الأركان. توقّف النعش عند المدخل، وكأن أنيسة عادت لبيتها مرة أخيرة لتُلقي على جدرانه نظرة وداع.
وقف الأطفال في صفٍّ مرتب، عيونهم الحزينة تحدّق في الصندوق الخشبي بصمتٍ مشوب بالرهبة. قرأوا الفاتحة بأصوات منخفضة، تتخللها شهقات باكية، وأعينهم مبللة بدموع لم تكن تعرف طريقها إلى وجوههم من قبل. كانوا يتمسّكون بالدعاء كأنه آخر خيط يربطهم بها، "اللهم ارحمها"، قالوها وقلوبهم ترتجف، "اللهم اجعل مثواها الجنة"، وعيونهم تذرف دموعًا لا تعرف التوقّف. وتم تجهيز العربات التي ستقلّهم للمقبرة، عندما أصروا على مرافقة أمهم في رحلتها الأخيرة.
من بعيد، كانت سالي تقف تنظر إلى خالد، كان واقفًا وحده، يرفع كفيه بخضوع تام، يتمتم بالفاتحة وعيناه مسمرتان على النعش، ولكن روحه لم تكن هناك، كانت في مكان آخر.. في الزمان الذي كانت فيه أنيسة حيّة. لم ينطق بكلمة، ولم يلتفت لأحد، فقط هو وصوته الداخلي وعيناه الجافتان.
وبعد انتهاء مراسم الدفن، عاد الجميع مكسورين إلى المنزل، إلا خالد، اختفى. اختفى بصمت، وغيابه لم يكن غياب جسد فقط، بل غياب سند. ولم يعرف أحد إلى أين ذهب.
وفي تلك الليلة، ازداد الطقس برودة، هبط الصقيع على النوافذ والقلوب معاً. لجأ الصغار إلى غرف الكبار، تسللوا خفية واحدًا تلو الآخر، وكلهم حملوا الخوف والحزن في عيونهم. تكدسوا في غرفة واحدة، تجمعوا حول بعضهم البعض، احْتَضَنوا بعضهم بأذرعهم الصغيرة. ظلوا مستيقظين لساعات، يتبادلون الهمسات، تتخللها لحظات صمت مفاجئة، كلما مرت في ذهن أحدهم صورتها وهي تدخل الغرفة لتهمس كعادتها: "تصبحوا على خير". لن تدخل بعد اليوم. لن تُطفئ الضوء. لن تطمئن على أحد. لجأوا جميعاً لبعضهم البعض، لكن السؤال الذي لم يطرحه أحد، طرحته سالي على نفسها: لمن لجأ خالد في هذه الليلة؟
***
في تلك الليلة، كان خالد يقود سيارته بلا وجهة، كمن يحاول الهرب من فكرة تلاحقه أينما ذهب. الشوارع كانت خالية إلا من أضواء خافتة تومض من حين لآخر. لم يكن يعلم إلى أين يتجه، فقط عجلات السيارة تدور دون وجهة محددة. وجهته الوحيدة التي اعتاد أن يلجأ إليها كلما كان حائراً، رحلت. أنيسة. المرأة التي كانت بيته الأوحد حين لا بيت له، وسنده حين لا سند، هي اليوم سبب حيرته وضياعه.
كان خالد مدركًا تمامًا أنها ماتت. فترة مرضها الطويلة جعلت النهاية متوقعة، وكأن الحزن تسلل إلى قلبه على جرعات. لكنه يعلم في داخله أن الصدمة الكبرى لم تكن في موتها، بل في معرفته بمرضها.. ذلك الألم الذي كتمته عنه، وواجهته وحدها، بينما هو كان يظنها بخير. المرض هز كيانه، أما الموت.. فجعل كل شيء صامتًا.
"أنيسة ماتت."
الكلمة دارت في ذهنه بصوت عم أسعد مثل طعنة تتكرر. المرأة التي أنقذته، علمته، وربّته، لم تعد هنا. رحلت. تركته.
هزّ خالد رأسه، كأنه يطرد هذه الحقيقة من رأسه. هناك جزء في داخله ما زال يرفض التصديق، رغم أنه رآها بأمّ عينه ممدة على السرير، باردة، ساكنة، جسدها خالٍ من أي أثر للحياة. تجمّد جسده وهو ينظر إليها، ملامحها كما يعرفها، ولكن دون دفء. دون نفس. وقف طويلًا بجانبها، يراقب صدرها، ينتظر زفرة أخيرة قد تُبعث فيها الحياة من جديد، لكن.. لا شيء. ثم، وببطء شديد، هبط بجوارها، أمسك يدها برفق، رفعها إلى شفتيه وقبّلها، ثم طبع قبلة أخيرة على جبينها البارد وهمس:
"إلى اللقاء يا ماما.. أحبك"
وظل ممسكًا بيدها في وداعٍ لا يشبه أي وداع. وداع خالٍ من الكلمات، وممتلئ بكل الحزن الذي لم يُقال.
ركن خالد سيارته على جانب الطريق، وأطفأ المحرك ببطء. زفر بعمق، ثم تراجع بمقعده إلى الخلف وأسند رأسه، مغلقًا عينيه المتعبتين، كأنما يحاول أن يوقف الزمن أو يهرب من واقعه لثوانٍ. مرت الدقائق ثقيلة، طويلة، ثم فتح عينيه أخيرًا، وأدار رأسه ببطء نحو المبنى المجاور. كان مبنى قديمًا، صامتًا، لا يشي بشيء لمن يمر به.. إلا لخالد.
لقد كان الميتم. المكان الذي دخل إليه وحيدًا، وخرج منه ويده مشبوكة بيد امرأة غريبة، لم يعرف في البداية إن كانت ملاكًا أم بشرًا، لكنها صارت كل حياته.
غاص بذاكرته إلى الوراء. تذكّر ذلك اليوم جيدًا، الرهبة في عينيه، الرائحة الغريبة للمكان، أصوات الأطفال، خطوات المربيات، وملامح أنيسة التي ظهرت كالنور في ركن الغرفة. لم يفهم آنذاك من تكون، لكنه شعر، بشكل غريب، بالأمان قربها.
ثم تذكّر اليوم الآخر.. حين خرج من باب ذلك المكان، ويده الصغيرة ممسوكة بقوة في يدها الدافئة. تلك القبضة الأولى التي غيرت مجرى حياته.
ابتسم. رغماً عنه، ارتسمت ابتسامة على وجهه. لم تكن سعيدة، لم تكن حزينة. مجرد ابتسامة تائهة، خرجت دون إذن، دون هدف، دون معنى واضح. تساءل في نفسه عن سببها.. لكنه لم يجد إجابة. ربما لأن الألم أحيانًا لا يحتاج تفسيرًا، ويبدو الآن أنه تجسد في ابتسامة ضائعة.
عاد خالد في اليوم التالي، عاقدًا العزم على تحمّل المسؤولية كما ينبغي. بدأت أيام العزاء الثلاثة، وكان الناس يتوافدون على المنزل، يقدمون العزاء لخالد، ويحكون عن أنيسة.. المرأة التي تركت أثرًا لا يُنسى في حياتهم. في كل يوم، تنكشف قصة جديدة، شهادة جديدة، عن قلبها الكبير، وكرمها، وحنانها.
لكن البصمة الأهم، كانت واضحة لا تحتاج لمن يرويها: ستة عشر ولدًا وبنتًا، احتضنتهم أنيسة كأم، منحتهم حياة، ورسمت لهم طريقًا من حب.
وقف خالد يتلقى العزاء، إلى جواره كان عم أسعد، وحسن، وأحمد الذي أصر على الحضور رغم إصابته. حتى الصغار وقفوا أيضًا، لم يكن ما يفرقهم عن خالد إلا السن.. أما الحزن، فكان واحدًا، يجمعهم جميعًا.
استضاف المنزل عائلة عمّ أسعد في فترة العزاء. كان الرجل يجلس أغلب الوقت في الصالة، عيناه غارقتان في دموع لا تنضب، يبكي كل يوم على شقيقته الفقيدة، يبكي بندمٍ وقهرٍ دفين. ولم تكن دموعه فقط حزناً على الفقد، بل على السنين الضائعة، على العمر الطويل الذي ابتلعته المسافات والصمت والجفوة. سنوات لم يسأل فيها عن أنيسة، لم يحتضنها، لم يدعمها. ثم، عندما عثر عليها أخيراً، عندما اجتمع الشمل أخيرًا.. لم تمضِ سوى أيام معدودة حتى رحلت.
كان يخبر نفسه، وربما الآخرين، أن أنيسة كانت تنتظر هذا اللقاء الأخير. وحين تحقق ذلك.. رحلت، بهدوء، وكأنها أنجزت مهمتها الأخيرة.
وفي أحد أيام العزاء، كانت سالي تجلس على أحد الأرائك في زاوية الصالة، تستمع إلى أحاديث من حولها بصمتٍ مهيب، نظراتها تتنقل بين الوجوه والكلمات، لكنها لم تكن مشاركة، فقط مراقبة. شعور ثقيل بالضيق كان يطبق على صدرها، ليس من الحزن وحده، بل من طريقة الكبار في التعامل مع هذا الوداع.
كان الجميع يتحدث عن أنيسة بعاطفة مبالغ فيها، بصوت مرتفع، أمام الأطفال الذين بدت على ملامحهم الحيرة، أو الذهول. لم يفكر أحدهم بأن هذه الكلمات قد تكون قاسية على آذان الصغار، أو أن الحزن الذي يحاولون التعبير عنه بهذه الطريقة قد يبدو مرعباً في عيون طفل لا يفهم الموت تماماً.
على سبيل المثال ذكية، كانت تسرد منامًا رأته، عن أنيسة، وكأنها جاءت لتودعها في الحلم، ثم بدأت تبكي بحرارة. سالي لم تشكك في صدق المشاعر، لكنها ضاقت بهذه الطريقة، بهذا العرض المفتوح للحزن أمام صغار.
كانت سالي تنظر إليهم بين الحين والآخر، تشعر بالرغبة في الاعتراض، في أن تطلب من الجميع خفض أصواتهم، أو على الأقل اختيار كلماتهم، لكن الوقت لم يكن مناسبًا، لا أحد كان مستعدًا لسماع هذا النوع من الملاحظات وسط أجواء العزاء والانفعال.
لذا، اكتفت بأن تمارس دور الحماية بطريقتها الصامتة. كانت تقترب من الأطفال بهدوء، تلمس أكتافهم برفق، وتهمس لهم: "اصعدوا لغرفتكم، ارتاحوا قليلاً". تفعل ذلك واحدة تلو الأخرى، تبعدهم عن الحكايات الثقيلة، وتُخفي عنهم تفاصيل لا يعرفون كيف يفهمونها بعد.
في قلبها، كانت تمنّي نفسها بأن تحفظ لهم بعض النقاء، بأن تترك لهم مساحة يودّعون فيها أنيسة كما يعرفونها: برائحتها، وصوتها، وحنانها، لا كما يصورها الكبار في لحظة فقدهم القاسي.
***
فتح خالد باب غرفة أمه بهدوء، فاستقبله الظلام، وكان هذا غريبًا عليه.. أنيسة لم تكن تُطفئ الأنوار يومًا، حتى وهي نائمة، كانت تصر على أن يظل ضوء دافئ مضاءً، لأنها تخاف من العتمة. بأصابع تتلوى ألمًا، مدّ يده إلى مفتاح الكهرباء وأضاء الغرفة. كل شيء كان كما تركته.. مرتّب، نظيف، تفوح منه رائحتها التي اعتادها، رائحة الفانيليا التي أحبّتها دومًا. تقدّم بخطى بطيئة، وكلما اقترب، ازدادت رائحة الفانيليا وضوحًا، كأنها تملأ الفراغ الذي خلّفته. وقف أمام السرير للحظات، في ذلك اليوم الذي عرف فيه حقيقة مرضها، كانت تجلس هناك، على ذاك الغطاء ذاته، بوجهها المتعب وصوتها المتماسك. أغمض عينيه بقوة، وكأنه يريد محو الذكرى، محو الوجع. ثم اتجه إلى ركن الغرفة، حيث كانت تضع كرسيين تحت النافذة. واحد لها، وآخر له. جلست عليه كثيرًا، تحكي لها حكاياتها، تشرب شايها، وتنظر من النافذة. جلس خالد على كرسيه المقابل، حيث كان يجلس دومًا قبالتها. تأمّل الكرسي الفارغ، ورآها عليه.. بابتسامتها التي لا تُنسى، بطمأنينتها التي كانت تملأ المكان، حتى وهو صامت.
شعر فجأة بصداع شديد يضرب صدغه، فوضع يده عليه وهو يغمض عينيه، تتقافز الدموع في أطرافها، حارّة، ساكنة، كأنها تخشى السقوط. انتفض خالد فجأة من مكانه في محاولة للهروب من دوامة الأفكار، واتجه إلى دولاب أمه، فتحه بهدوء، فرأى ملابسها مرتبة بعناية، كما اعتادت أن تتركها دومًا. بدأ يفتح الأبواب والأرفف ببطء، يتأمل كل قطعة بعيون متعبة، يفتح، يتأمل، ثم يغلق، وكأن يده تلمس حضورها الباقي في طيات القماش.
وفي أحد الأدراج، لمحت عيناه شرائط كاسيت قديمة، كانت أنيسة تحب الموسيقى الكلاسيكية، وتهتم بجمع هذه الشرائط بعناية. مد يده يفتش بينها، إلى أن لمح بعضها يحمل كتابات بخط يدها. توقّف عند شريط كُتب عليه "خالد – وبجواره تاريخ. حدّق في التاريخ والاسم لحظة، ثم التقط الشريط وتوجه نحو الراديو القديم الخاص بها، ووضعه ببطء. بدأ الشريط بصوت صمتٍ طويل، ثم جاء صوتها.. صوت أمه.
"اليوم هو الاثنين، الموافق ؟؟/؟؟/؟؟؟؟"
تجمّد خالد، أوقف الشريط في ذهول للحظات، ثم أعاده من البداية، جالسًا على السرير، منحنيًا بجسده إلى الأمام، يصغي بكل جوارحه.
وفي هذه اللحظة، مرت سالي بجوار غرفة أنيسة، فلاحظت الأنوار مضاءة، والباب مفتوحًا قليلاً. توقفت رغماً عنها، ثم اقتربت دون أن تصدر صوتًا، ولمحت من الفتحة الصغيرة خالد جالسًا على السرير، وأمامه الراديو. همّت بالابتعاد احترامًا لخصوصيته، لكنها توقفت فجأة عندما سمعت صوت أنيسة.. شعرت بالقشعريرة تسري في جسدها، ظنت لثوانٍ أن المرأة لا تزال على قيد الحياة، قبل أن تدرك أن الصوت صادر من الشريط. فثبتت مكانها دون إرادة، وأذناها تلتقطان الكلمات:
"جاءنا اليوم في الملجأ ولد يتراوح عمره بين الحادية عشرة والرابعة عشرة، لم نتأكد بعد من عمره الحقيقي، لأنه فاقد للذاكرة.. حتى اسمه لا يتذكره. لكنه خطف قلبي من النظرة الأولى.. لا أعرف لماذا. رغم أنني تعاملت مع مئات الأطفال، هذا الولد كان مختلفًا.. ومسكين.
يا رب، هو مسكين.. الحادث أفقده الذاكرة، لا يعرف حتى اسمه. رغماً عني وجدتني أحتضنه بشفقة، لكنّه ابتعد عني بنفور. أتمنى أن نعثر على عائلته.. بالتأكيد لديه عائلة تنتظره.. يا حبيبي أتمنى أن تعثر على عائلتك"
توقّف الشريط للحظات، ثم جاء صوت أنيسة من جديد، بنبرة أكثر هدوءاً:
"اليوم هو الأربعاء الموافق.."
مدّ خالد يده ببطء نحو زر التوقيف، وأوقف الشريط، كأنما يحتاج إلى لحظة ليلتقط أنفاسه، كانت نبضاته تتسارع، وقلبه يضج بالمفاجأة والحنين. كان يعلم أن أمه تحب تسجيل الشرائط بصوتها، تلك العادة القديمة التي ظنها مجرد هواية، لكنه لا يعلم عن هذا الشريط.
وضع يده على عينيه، يدلكهما بألم، وكأن كل الذكريات انسكبت مرة واحدة في صدره، لا يُقاومها. شعر بثقل في رأسه وحرقة في قلبه، ثم جلس ساكنًا للحظات، . بعد برهة، مدّ يده مجددًا وضغط على الزر، ليُكمل ما بدأه.. ليكمل الاستماع إلى صوتها:
"اسمه خالد.. الولد تذكر اسمه، أخيرًا.. أنا سعيدة لذلك."
خرج صوت أنيسة ناعمًا دافئًا من الراديو، تردّد في الغرفة الهادئة وكأنها ما زالت هناك.
"أعتقد أن الأمر سيكون مريحًا أكثر بالنسبة له، أن تكون هويته معروفة، على الأقل لنا، حتى لا يشعر بالنفور.."
كان خالد يجلس على طرف السرير، يحدق في الأرض بعينين غائمتين، ويداه متشابكتان بين ركبتيه.
"ولكنه المسكين، على الرغم من ذلك، يبدو أنه مرتاب وخائف. ربما الأمور تهدأ في الأيام المقبلة.. أتمنى ذلك. الملجأ هذه الأيام.."
صوت أنيسة بدأ يحكي عن أشياء أخرى، عن أطفال آخرين وحكايات لا تخصه. فمدّ خالد يده بسرعة إلى زر التقديم، قلبه يبحث عن المزيد من حديثها عنه، لا عن غيره. وفجأة توقف إصبعه عند جملة واحدة:
"أعتقد أنني سأتبناه.. أنا أريد هذا الولد."
تجمدت أصابعه على زر الإيقاف، أوقف الشريط فجأة، لم يستطع المتابعة. تلك الكلمات اخترقت صدره. ظل لحظة طويلة صامتًا، كأن الزمن توقف معه، وصوتها ما زال يرنّ في أذنه:
"أنا أريد هذا الولد."
كلمات بسيطة، لكنها حملت في قلبها حبًا هائلًا، حسمًا بلا تردد، اختيارًا نابعًا من الأعماق.
أخفض رأسه، وغمره شعور ساحق: الامتنان، الوجع، والحنين. ثم رفع يده ببطء وأعاد تشغيل الشريط، يريد أن يسمع بقيّة ما قالته:
"أريد أن أتبنى خالد، أن يكون ابني.."
تردّد صوت أنيسة في الغرفة بصوتها الدافئ:
"أشعر بذلك من أعماق قلبي، أشعر بأنه ابني الذي لم أنجبه..."
كان خالد يجلس ساكنًا، ينظر إلى الأرض، وصدره يرتفع وينخفض بثقل، كأن الهواء صار أثقل فجأة.
"ربما يكون قراري جريئًا، ولكن.. هل هناك ما أخسره؟".
امتدت يده تلقائيًا نحو الراديو، لكنّه لم يوقفه، بل تركها مستندة فوقه بتردد.
"لا عائلة ظهرت له، وأنا امرأة وحيدة، لا أنيس لي.."
هنا أغمض خالد عينيه بقوة، وكأن الكلمات نخرت شيئًا داخله، شعور بالحزن والشفقة تسلل إلى قلبه، كانت وحيدة، نعم، كانت وحيدة، وكانت تشعر بذلك، ولكنها لم تعبر عن ذلك أمامه قط. كم من مرة سألها في صغره لماذا اختارته؟ كانت تجيبه دائمًا بنفس الجملة، وبابتسامة دافئة: "أحببتك من اللحظة الأولى." ولكن الآن، ها هو يسمع إجابة مختلفة، بصوتها الذي لا يزال حيًا رغم موتها، محملاً بالألم والصدق، من ماضٍ محفوظ في شريط. نعم، كانت وحيدة، وحيدة جداً. وكانت كل لحظة تمر بها تنبض بتلك الوحدة، لذلك تبنته.
تساقطت دموع خالد وهو يشعر بالشفقة والألم، كم عانت بمفردها؟ كم كافحت لتعيش بهذه الروح البريئة والقلب الصادق، ربما ضاقت ذرعاً بوحدتها، وقررت أن تجد في هذا الطفل شيئاً يمكن أن يملأ الفراغ الذي شعرت به طوال حياتها. كانت حياتها مليئة بالحب الذي منحته للأشخاص حولها، ولكنها كانت تفتقد إلى هذا النوع من الحب الذي يتجسد في عائلة، في شخص يشبهها، في شخص يحبها كما هي.
أعاد تشغيل الشريط ليكمل سماع كلمات أمه التي تركتها خلفها، وبكل حذر، بدأ يسمع حديثها عن قرارها الجريء. قلبه كان يغرق في هذا الصوت الذي أصبح جزءًا من الماضي، ومع كل كلمة كان يشعر بأن جزءًا منه يتكسر، والدموع تتدفق من عينيه دون حذر. كانت شهقاته ترتفع في الغرفة، تتعالى في الهواء دون خجل، لا يعلم أن هناك من يشاركه هذه اللحظة الحزينة.
في الخارج، على بعد خطوات قليلة، جلست سالي على الأرض بجوار غرفة أنيسة. كانت تستمع إلى صوت أنيسة المنبعث من الراديو، ممزوجًا ببكاء خالد الذي تساقط دون توقف. دموعها كانت تسيل على وجنتيها دون أن تستطيع إيقافها. وضعت يدها على فمها محاولةً كتم صوت أنينها،. كانت تشعر بمرارة الفقد، كما لو أن هذا الحزن يلتهمها، وهي تقف في الظل، تشارك خالد تلك اللحظة التي لا يمكن وصفها.
***
في إحدى الليالي الصامتة التي تبعت أيام العزاء الكئيبة، استيقظت سالي على وقع خطوات خفيفة وأصوات هامسة. كان صوت ليلى يتصاعد بإلحاح:
"دكتورة، دكتورة، استيقظي!".
فتحت عينيها ببطء في البداية، ثم بسرعة عندما استوعبت القلق في نبرة الطفلة. اعتدلت في فراشها وحدّقت في ليلى التي كانت ترتجف قليلًا:
"ليلى؟ ماذا هناك؟ هل حدث شيء؟".
أومأت الطفلة بسرعة، وعيناها تتوسلان:
"تعالي أرجوك، أميرة مريضة".
قفزت سالي من سريرها وارتدت معطفها بسرعة، وسارت خلف ليلى التي قادتها عبر الممرات الخافتة الضوء، مرورًا بغرف الأولاد التي يغشاها السكون. فتحت الباب بهدوء ودخلت الغرفة المظلمة، حيث كانت الفتيات نائمات، لكن سرير أميرة كان مختلفًا. أشارت ليلى نحو السرير بخوف، واقتربت سالي بخطوات سريعة. رأت أميرة غارقة في العرق، تتقلب في فراشها وتهمهم بكلمات غير مفهومة، لكن كلمة واحدة كانت تتكرر بضعف:
"ماما.. لا أريد أن آتي..".
انقبض قلب سالي وهي تضع يدها على جبين أميرة. كانت حرارتها مرتفعة بشكل مقلق، ووجهها محمر وعيناها شبه مغلقتين. عقدت سالي حاجبيها بقلق، وهمست لليلى:
"اذهبي بسرعة إلى غرفة الست منى، أخبريها أن تأتي فورًا، لا تنتظري".
هرعت ليلى كما طُلب منها. جلست سالي بجانب أميرة، تمسح عرق جبينها بمنديل وتهمس لها برقة:
"أنا هنا يا أميرة، لا تخافي".
مرت دقائق بدت أطول من اللازم، حتى ظهرت منى عند الباب، مرتدية ملابس النوم، وجهها شاحب وقلق:
"ماذا حدث؟ كيف حالها؟".
أشارت سالي بقلق إلى الطفلة التي ما زالت تهذي:
"حرارتها مرتفعة جدًا، أرجوكِ ساعديني يا ست منى، علينا نقلها إلى العيادة فورًا، وفصلها عن أخواتها".
أومأت منى فورًا وبدون تردد، وساعدت سالي على رفع أميرة التي كان جسدها الصغير يرتجف كمن يعاني من الحمى والهذيان. لفت سالي الغطاء حولها جيدًا، وخرجت برفقتها إلى العيادة التي تقع في الطابق الأرضي. في الطريق، كانت سالي تشعر بثقل المسؤولية يهبط من جديد فوق كتفيها، ولكنها كانت مستعدة لذلك جيداً.
داخل العيادة، تم وضع أميرة على السرير الطبي بلطف، وساعدتها منى على سحب الغطاء فوق جسدها المرتعش. أعدّت سالي ميزان الحرارة، وبدأت في الفحص بهدوء، بينما كانت أميرة تتقلب بخمول، تتنفس بصعوبة، ووجهها محموم.
لم يكن الأمر معقدًا من الناحية الطبية—دور إنفلونزا عادي، يتكرر كثيرًا في مثل هذا الجو القارس—لكن المختلف هو أن هذه الإنفلونزا جاءت بعد زلزال نفسي هزّ كيان الأطفال.
همست منى وهي تراقب أميرة:
"المسكينة، لم تحتمل ما حدث. لم أتوقع أن نفسيتها أضعف من تحمل هذه الظروف الصعبة".
أومأت سالي بصمت، تتابع تنفس الفتاة، وتجهّز خافض حرارة، بينما المطر بالخارج كان يطرق زجاج النوافذ بإيقاع حزين.
بعد ساعة، كانت منى قد رحلت تحت إصرار سالي ورغبتها في البقاء بنفسها مع أميرة، فتحت أميرة عينيها فجأة، نظرت لسالي بنظرة ضبابية وقالت بصوت خافت متكسر:
"دكتورة؟".
اقتربت منها سالي سريعًا، وانحنت نحوها وهي تبتسم بحنان:
"أنا هنا، حبيبتي... هل تحتاجين شيئاً؟".
هزّت أميرة رأسها نفيًا ببطء، وتمتمت:
"لا، لا أحتاج شيئًا".
ثم أشاحت بوجهها إلى الجهة الأخرى، رفعت سالي يدها، ومسحت على شعرها المتعرق برقة:
"أنا ومنى هنا، لن نتركك وحدك.. نامي بأمان، حتى يستعيد جسدك قوته.. وكل شيء سيعود بخير إن شاء الله".
هزّت أميرة رأسها قليلًا، بينما أغلقت عينيها من جديد. جلست سالي على الكرسي المجاور، وفتحت كفها لتتأكد من حرارة جسد الطفلة التي بدأت تهدأ تدريجيًا. زفرت سالي براحة، وأسندت ظهرها إلى الكرسي الخشبي، أغمضت عينيها المتعبتين، متمنية أن تسرق دقيقة من النوم وسط هذا الصمت المتوتر. لحظات قليلة فقط مرت، قبل أن يقطعها صوت خافت هامس:
"دكتورة..."
فتحت سالي عينيها ببطء، وأعادت رفع رأسها لتجد خالد يقف أمامها. كان يبدو مرهقًا للغاية، ملامحه تحمل الكثير من القلق، وعيناه تحملان نوعًا من التوتر الشديد، وصوته كان يحمل قلقًا حقيقيًا، يعكس المسؤولية التي يشعر بها:
"أعتذر لو أيقظتك."
فركت سالي عينيها بأطراف أصابعها، ثم همست بصوت متعب:
"لا بأس.. كان المفترض أن أستيقظ لتفقد حرارتها."
عقدت حاجبيها قليلًا باستغراب، ولم تملك إلا أن تسأله في لهجة خافتة متسائلة:
"كيف عرفت؟"
أجاب الرجل بصوت هادئ، مع شيئ من التوتر:
"الست منى جاءت إلي وأخبرتني."
"آه.."
أخذت سالي نفسًا عميقًا، ثم أومأت برأسها بتفهم. لحظات من الصمت مرّت قبل أن يسأل الرجل، بحزم وبدون تردد:
"كيف هي الحالة؟"
أجابته بصوت مرهق ولكن ثابت:
"دور إنفلونزا، ستكون بخير مع الرعاية والعلاج."
أومأ الرجل برأسه قليلًا، ثم تحدث بنبرة حازمة أكثر:
"أنا سأتولى الأمر من هنا، أرجوك اذهبي إلى غرفتك وارتاحي."
ترددت سالي للحظة، نظرت إلى الفتاة التي كانت ما تزال نائمة بعمق، ثم همست باعتراض خافت، كأنها لا تريد أن تترك مسؤوليتها:
"ولكن.."
قاطعها بحزم، صوته كان ثابتًا، مليئًا بالجدية:
"أرجوكِ، اتركي الأمر لي، لا حاجة الآن لبقاءك، لقد قمتي بعملك."
تأملته للحظات، عيونها تبحث في ملامحه، ورأت العزم في عينيه. فتفهمت في النهاية. أخذت نفسًا عميقًا، ونهضت بهدوء:
"تصبح على خير."
همس خالد ردًا عليها بصوت منخفض، يكاد لا تسمعه:
"وأنتِ أيضًا."
تركت سالي له الغرفة، خطواتها خفيفة وهي تغادر المكان، بينما بقي هو واقفًا أمام السرير، يعيد ترتيب الأولويات في ذهنه، وشعر بشيء من الراحة لأنه استطاع أن يكون هناك في الوقت الذي تحتاجه فيه أميرة، يجب أن يكون بجواراها هي واخوتها جميعاً.
ظل خالد يراقب أميرة طوال الليل، يجلس على الكرسي بجوار سريرها، يمد يده بين الحين والآخر ليضع الكمادات الباردة على جبهتها، يمسح وجهها برفق. كانت أنفاسها خفيفة، متقطعة أحيانًا، وكل شهيق تخرجه كان يشعره بالذنب، وكأنه لا يفعل ما يكفي.
حاول أن يشغل عقله، أن يفكر في أي شيء آخر، لكن صورتها - أنيسة - كانت تطارد خياله بلا رحمة. تارةً يتذكر ضحكتها، وتارةً نظرتها الصافية، وتارةً صوتها وهي تناديه "يا ابني".
نهض فجأة من على الكرسي، شعر باختناق لا تفسير له، وبدأ يتجول في العيادة الصغيرة. مدّ يده يعبث بالأوراق فوق المكتب، فتح أحد الأدراج بلا هدف، ثم أغلقه من دون أن يرى شيئًا. كانت العيادة مرتبة، باردة، كالعادة.
"أبيه.."
جاء الصوت واهنًا من خلفه. التفت خالد بسرعة، وعيناه تتسعان قلقًا، ليجد أميرة مستلقية على الفراش، عيناها نصف مفتوحتين، تتأرجح فيهما لمعة تعب وانكسار. فتقدم نحوها بخطوات مترددة، ثم جلس بجوارها، انحنى قليلاً وهمس:
"كيف حالك الآن؟"
تحرك حلقها بصعوبة وهي تبتلع ريقها:
"أنا.. متعبة جدًا."
خرجت كلماتها ببطء، مشحونة بالوجع، ولم يكن من عادتها أن تشتكي، فطبيعتها دائمًا الصبر والصمت. لكنه شعر بها الآن هشة، هشة جدًا. ليقترب منها أكثر، مخفضًأ صوته:
"ما الذي يؤلمك الآن؟"
رفعت يدها المرتجفة، وأشارت إلى حلقها، وهمست من بين ألمها:
"حلقي.."
كان إصبعها يلامس عنقها، فاقترب خالد منها أكثر، ووضع يده برفق على جبينها، كان لا يزال دافئًا رغم الكمادات. همس وهو يلحظ ملامح التعب مرسومة على وجهها:
"حرارتك ما زالت مرتفعة قليلًا، لكنها أفضل من قبل."
ثم نظر إلى عينيها القلقتين، وقال بصوت مطمئن:
"أنا بجوارك، لا تقلقي."
أشارت مجددًا إلى حلقها، وهمست بصوت مبحوح متعب:
"إنه يؤلمني كثيرًا.. لا أستطيع البلع."
هز رأسه بتفهم، وقال بهدوء:
"هذا طبيعي مع حالتك. سالي أوصت بالاستمرار على الدواء، والكمادات، والمشروبات الدافئة."
ثم نهض واتجه نحو الطاولة الصغيرة، حيث جهز كوبًا من الماء الفاتر، وعاد به إليها:
"حاولي أن تشربي القليل من الماء."
ساعدها على رفع رأسها قليلًا، وقرّب الكوب من شفتيها، لكنها بالكاد شربت رشفة قبل أن تتأوه من شدة الألم.
تنهد بحزن وهو يعيد الكوب إلى مكانه، ثم جلس مجددًا بجوارها، ومرر يده على شعرها برفق، في محاولة لبث بعض السكينة في قلبها. لكن اللحظة لم تطُل، إذ تجعد وجه أميرة فجأة، واهتزت شفتاها المرتجفتان قبل أن تخرج منها شهقات باكية، وصوت متكسر مبلل بالدموع:
"أنا خائفة!"
اتسعت عينا خالد، وتقدم بجسده نحوها، فقد فاجأه بكاؤها:
"من ماذا؟" سأل بصوت مخنوق، يكاد لا يسمع.
أجابت وهي تحاول أن تتنفس بين شهقاتها:
"أخاف أن أموت... مثل ماما."
الكلمات خرجت من فمها غير متوقعة. بقي خالد ساكنًا لثوانٍ، يحدّق فيها كأنها قالت ما لم يكن مستعدًا لسماعه. شعر بقلبه يهبط إلى جوفه، بعجزٍ لم يعهده، بعينين امتلأتا بذنبٍ لم يقترفه. فاقترب منها بقلق، وكأن اقترابه قد يبدّد عنها هذا الرعب عينيها. وضع كفه برفق فوق جبينها المحموم، وهمس بصوتٍ منخفضٍ يحاول أن يخفي اضطرابه:
"ما الذي يدفعك للتفكير بذلك؟ إنها مجرد إنفلونزا، لا شيء يستدعي الخوف."
لكن أميرة، كانت ترتجف تحت الغطاء، ودموعها تنساب على وجنتيها بحرارة. نظرت إليه بعينين متوسلتين وقالت بصوت متهدّج:
"لا.. أنا أشعر أنني سأموت. رأيت ماما في المنام.. كانت تقف عند سريري، تحدّق بي، ولم تقل شيئًا.. لكنها مدت يدها نحوي، كأنها جاءت لتأخذني."
كلماتها اخترقت قلبه كالسهم، فتجمّد في مكانه، عاجزًا عن الرد للحظات. حدّق في عينيها، كأنه يبحث عن تفسير يُسكّن ما أثارته من قلق داخله:
"أميرة، لماذا تفكرين بهذه الطريقة؟"
سألها خالد بصوتٍ منخفض، فهزّت رأسها ببطء، ودموعها تنسال في صمت:
"لا أعرف.. أنا فقط خائفة."
كانت نبرتها تحمل رجفة موجعة. اهتز قلب خالد أمام هذا الضعف، هذا الذعر الطفولي العميق، فاقترب منها أكثر، ومد يده نحو جسدها المرتجف، لا يدري أكان ما يرتعش هو جسدها أم كفّاه هو. ثم قال بشيء من التوسل، محاولاً زرع الأمان في قلبها:
"لا تخافي، أنا هنا.. بجوارك. سأفعل كل ما بوسعي لأحميك، ولن أدع شيئًا يؤذيك، أعدك."
ظلّ ممسكًا بيدها الصغيرة، وكأن تشبثه بها وحده يكفي ليبعد عنها شبح الموت الذي زحف إلى خيالها الطفولي.
راقبها وهو يشعر بالحيرة. كيف يتعامل مع هذا؟ كيف يردّ عقلًا ارتبك أمام معنى الموت؟ لم يكن بيده شيء الآن سوى الطمأنة، سوى أن يهمس لها كل بضع دقائق: "لن يحدث شيء، أنا معك، لن تذهبي إلى أي مكان."
ولكنه تساءل في داخله، هل الطمأنة وحدها تكفي؟ هل الوعود المطمئنة قادرة على مداواة الشرخ الخفي الذي تركه الموت في وعي الطفلة؟
♪
♪
بخاف عليك وبخاف تنساني
والشوق إليك على طول صحاني
غلبني الشوق غلبني
وليل البعد دوبني
ومهما البعد حيرني
ومهما السهد سهرني
لا طول بعدك يغيرني
ولا الأيام بتبعدني بعيد، بعيد عنك
***
نهاية الفصل الرابع والأربعون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء..
شكراً على صبركم
كاتبتكم ءَالَآء
سؤال الفصل: توقاعتكم للأحداث الجاية؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.