الأحد، 27 أبريل 2025

رواية المنزل: الفصل الثاني والأربعون - ءَالَآء طارق


رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الثاني والأربعون

فضلاً، متنسوش الvote.

المزيكا انهاردة أغنية بحبها أوي Un jour tu ris, un jour tu pleures ستضحك يوماً وتبكي في آخر . لخوليو أكليسياس

***

تقدم الرجل إليها على عجل، واحتضنها بشدة بين ذراعيه. تجمدت سالي مكانها للحظة، وشعرت بقلبها يقفز من بين ضلوعها بسبب هذا التصرف المفاجئ. لم تطق البقاء داخل ذلك الحضن الغريب، فابتعدت عنه بلطف، وقالت بصوت يغلبه القلق، وعيناها تبحثان عن إجابة على وجهه:

"بابا؟ ماذا حدث؟ هل ماما وزينة بخير؟"

كان تصرفه المباغت والقلق المرتسم بوضوح على ملامحه قد أشعلا داخلها فزعًا، جعل خيالها يلهث خلف أسوأ السيناريوهات عن أمها وأختها. لكن الرجل بادر بطبطبة خفيفة على كتفها المرتجف، وكأنه يحاول تهدئتها، وقال مسرعًا:

"لا، لا تقلقي.. هم بخير.. أنا فقط.."

تلفت حوله بارتباك، وعيناه تائهتان في هذا المنزل الغريب عنه، ثم قال بصوت خافت:

"أنا فقط جئت لأتحدث معك يا سالي."

بدت عليه رجفة خفيفة وهو ينطقها، ورجاء خفي كان يتسلل من عينيه. نظرت إليه سالي ببرود ظاهري يخفي اضطرابًا بداخلها، وقالت بنبرة مشدودة:

"هل جئت لتطلب مني العودة؟ أخبرتك من قبل.. لن أعود. أنا سعيدة هنا."

هز الرجل رأسه بسرعة نافياً، وقبل أن تبتعد عنه أكثر، سحبها بلطف من يدها، يقودها لتجلس إلى جواره على الأريكة، وقال بصوت متوسل:

"لا، لن أجبرك على شيء. أنا فقط أردت الحديث معك.. أحتاج لذلك بشدة. حاولت الاتصال بك الفترة الماضية، لكن يبدو أنك.. حظرتِني؟"

كانت عيونه تحمل عتابًا مؤلمً، فاحمر وجه سالي خجلاً للحظة، لكنها سرعان ما اعتدلت بكبرياء وقالت بفتور:

"لا أتذكر أنني فعلت ذلك."

زفر الرجل تنهيدة طويلة، كمن يفرغ حملًا ثقيلًا من صدره، ثم قال باستسلام:

"لا بأس.. هذا ليس موضوعنا."

رفع رأسه مرة أخرى، وقد ازدادت ملامحه إنهاكًا، وقال بصوت متهدج:

"سالي.. لم أجد غيرك ألجأ إليه. حتى زوجتي.. لم أجد عزاءً لديها. ظللت حائرًا، تائهًا.. حتى تذكرتك."

تجمدت نظرة سالي عليه، قبل أن تنطق بدهشة مكتومة:

"تذكرتني؟"

هز رأسه بأسى، وأردف مسرعًا كمن يخشى أن يُساء فهمه:

"أقصد.. لم أجد غيرك يا ابنتي يسمعني ويفهمني. توسلت إلى والدتك لتعطيني عنوانك هنا."

راقبت سالي والدها بتمعن، لتكتشف كم تغير. ملابسه كانت غير مرتبة، لحيته كثة لم تُحلق منذ أيام، وعيناه غارقتان في هالات سوداء تنطق بأرق طويل. مالت برأسها قليلاً، يغلبها قلق عميق، وقالت بنبرة منخفضة:

"ماذا هناك؟"

رفع الرجل نظره إليها، وكان صوته ممزوجًا بالمرارة والانكسار:

"سالي.. لقد سُرقت يا ابنتي. كل أموالي التي جمعتها طوال حياتي.. ضاعت. لقد أفلست."

ترقرقت الدموع في عينيه وهو يواصل، بالكاد يسيطر على نبرة صوته:

"الرجل الذي عرض عليّ ابنه ليتزوجك.. صديقي، ورئيسي في العمل.. أقنعني أن أستثمر أموالي في البورصة منذ سنة.."

تنهد الرجل بثقل، ثم أكمل بصوت متهدج:

"ولكنه منذ أسبوع فقط.. أرسل إليّ رسالة يخبرني فيها بأنه خسر جميع الأموال."

ارتجف صوته وهو يواصل، ويداه ترتجفان:

"حاولت الاتصال به.. ذهبت إلى مكتبه، إلى منزله، لكني عرفت أنه أغلق الشركة، وهرب مع عائلته إلى خارج البلاد. وصرت أنا بلا أموال أو وظيفة"

أسند رأسه إلى كفيه في انكسار كامل، وانحنى جسده، ثم قال بصوت مخنوق:

"لقد أفلست يا سالي.. لا أعرف كيف أتصرف الآن."

وانفجر باكيًا بحرقة، بكاءً بلا تحفظ ولا خوف من أن يراه أحد. كان المشهد موجعًا، يملأ الغرفة بثقل لا يُحتمل. وضَعَ يديه المرتجفتين على عينيه، يخفي دموعه التي كانت تفضحه رغم محاولته البائسة للتماسك.

سالي لم تتحرك، ولم تنبس ببنت شفة. لم يكن لأنها لم تجد كلمات تواسيه بها، بل لأنها لم تستطع أن تفعل ذلك برحابة صدر. بقيت جالسة مكانها، تنظر إليه بصمت، على الأقل تمنحه لحظته.

وسط نشيجه الخافت، قال الرجل بصوت منكسر من بين دموعه:

"لا أعرف ماذا أفعل! لدي التزامات كثيرة.. ديون متراكمة.. وعاليا، أختك الصغيرة، معاناتها مع التوحد.. جلساتها العلاجية تكلفني مبالغ كثيرة."

رفع رأسه قليلاً نحوها، وعيناه المنتفختان من البكاء تتوسلان دون أن ينطق بطلب صريح.

فكرت سالي، كان الرجل يتحدث بانكسار عن عائلته ويبكي بحرقة لأجلهم.. لأجل ابنته الصغيرة عاليا، يبكي كأنها كل حياته.. بينما سالي، كانت أمامه كالغريبة. غصة مريرة صعدت في حلقها، وفار عرق بارد على صدغها، لكنها ضغطت على أعصابها لتسيطر على غضبها المتصاعد. أخيرًا، قالت ببرود لا يخفي الجليد الذي غلف صوتها:

"هل اتصلت بالشرطة؟"

رفع الرجل رأسه المرتجف وهز رأسه بإيماءة بائسة قبل أن يجيب بصوت خافت:

"نعم.. قدمت بلاغًا، ولكنهم أخبروني أنني لا أمتلك أي وثائق رسمية تثبت أنه أخذ مني أموالًا.. لذلك أحاول الآن التواصل مع أناس آخرين وقعوا ضحية مثلي، عسى أن نثبت شيئًا معًا."

انعكست لمحة سخرية لاذعة على ملامح سالي، ومالت شفتاها بابتسامة قاسية وهي تقول بسخرية:

"نحن في هذا الزمن، ومع ذلك لم تحصل على ورقة واحدة تثبت حقوقك؟ في ماذا كنت تفكر يا بابا؟"

تشنج وجه الرجل وكأن كلماتها صفعت قلبه، فتمتم بصوت مرتعش:

"أرجوك يا سالي.. لا تذبحي قلبي أكثر.. لقد وثقت فيه.. أردت فقط أن أزيد روابطنا قربًا.. حين خططت لتزويجك من ابنه، كان أملي أن تتعمق صلتنا بالعائلة أكثر."

ضحكت سالي بسخرية حادة، وزفرت زفرة ثقيلة خرجت من صدرها كأنها تحاول نسيان سنوات طويلة من الألم، ثم قالت بمرارة لاذعة:

"كنت مجرد وسيلة لتحقيق مصلحتك.. هذا كل ما كنتُه بالنسبة لك."

سكنت الغرفة من حولهما فجأة، ولم يبقَ سوى الصمت الثقيل الذي يحوم فوق رأسيهما. نظر الرجل إليها برجاء:

"أرجوك..".

دلكت سالي صدغها بألم وهي تشعر بثقل العالم كله فوق رأسها، ثم لوحت بيدها في الهواء بإيماءة سريعة، كأنها تحاول أن تسكته قبل أن يغرقها بكلماته:

"حسنًا.. ما هو المطلوب مني الآن؟"

قالتها بنبرة متعبة، قبل أن تضيف ببرود واضح:

"أنا موظفة هنا.. وراتبي بالكاد يكفيني، لن يغطي احتياجاتك مهما كانت."

ارتبك الرجل للحظة، وحدقت عيناه فيها بصدمة، وكأن كلماتها صفعت قلبه. تمتم بتلعثم:

"الأمر ليس.. ليس وكأنني أطلب منك أموالًا، أنا فقط.. أردت أن أجد من أتحدث إليه، لم أجد سواكِ يا سالي.. حتى زوجتي انفعلت عليَّ وتشاجرنا."

تنهدت سالي ببطء، كمن يحاول أن يلملم بقايا صبره الممزق، ثم قالت بصوت منخفض ولكنه قاطع:

"بابا، اسمعني جيدًا.. ربما يكون كلامي قاسيًا، ولكنني لا أستطيع مجاملتك.. لا أمتلك ما أقدمه لك. ربما.. أستطيع ادخار القليل من مرتبي وإهدائه لك حتى تجد عملًا جديدًا.. لكن صدقني، لا يوجد لدي أكثر من ذلك."

صمتت لحظة وهي تحاول السيطرة على انفعالها، ثم أكملت بنبرة مريرة:

"ماذا تريد مني؟ أن أواسيك بالكلمات؟ أن أحتضنك؟ أعتذر.. لا امتلك تلك المشاعر."

كان الرجل يحدق بها بخمول، ملامحه يغشاها الحزن والذنب، بينما صوتها يكمل، أكثر حزمًا هذه المرة:

"أرجوك يا بابا.. لا تحملني فوق طاقتي. لا تطلب مني ما لا أستطيع منحه لك."

ضاقت الغرفة عليهما فجأة، وشعرت سالي برغبة جارفة في أن ينتهي هذا اللقاء سريعًا، أن يرحل والدها وتتحرر من هذا الثقل الذي يسحق أنفاسها. بصوت متماسك لكنه خالٍ من الحياة، قالت وهي تشيح بنظرها بعيدًا:

"سأتكفل بمصاريف علاج عالية.. وفوقها مبلغ إضافي. هذا فقط ما أستطيع القيام به في هذا الموقف."

مرت لحظات بدت أطول من أن تحتمل، كان والدها يتأملها بنظرة حزينة منكسرة، قبل أن يتمتم بصوت واهن يكاد لا يُسمع:

"لم أكن أتوقع أنك ستكونين قاسية إلى هذا الحد يا سالي."

خفضت سالي رأسها إلى الأرض، لا تجرؤ على مواجهته بنظراتها، تخشى أن يرى فيها الألم الذي تحاول إخفاءه خلف برودها الظاهري. سمعت صوته مجروحًا وهو يضيف:

"أعتذر لو جئت اليوم وضايقتك بمشاكلي.. اعتبري ما حدث وكأنه لم يحدث."

سمعته ينهض ببطء، فرفعت رأسها بخمول ونهضت خلفه بخطى ثقيلة، وكأنها تجر قلبها وراءها. سارت إلى جواره حتى وصلا إلى باب المنزل. هناك، توقف الرجل للحظة أمام الباب، وكأن قدميه تثاقلت من الحزن. التفت نحوها بتردد، وعيناه تمتلئان بالخذلان، ثم همس:

"إلى اللقاء يا ابنتي.. أتمنى أن تكوني سعيدة."

ثم استدار وخرج بظهر منحنٍ، وكأن العالم كله فوق كتفيه.

شعرت سالي بقلبها يتألم، برغبة غريزية أن تمد يدها وتوقفه، ولكن في اللحظة ذاتها تذكرت كل ما فعله بها وبأمها وأختها. خفضت يدها بتردد، وقبضت عليها بيدها الأخرى نحو صدرها، وكأنها تحاول أن تحتفظ بما تبقى من نفسها.

ظلت واقفة مكانها، تتلاطم داخلها مشاعر الذنب والخذلان والمرارة، قبل أن تستدير ببطء محاولة استعادة أنفاسها. وهناك، عند بداية الدرج، لمحت خالد واقفًا، يراقبها بصمتٍ لم تكن تدري منذ متى. تجمدت للحظة، وهي  تشعر بالصدمة، ثم جمعت شتات نفسها، وتحركت في صمت، عابرة بجواره دون أن تنطق بكلمة.

راقبها خالد بعينين مشحونتين بالعطف والقلق وهي تصعد السلالم، كتفيها منحنين وكأنها تحمل عالمًا من الأحزان وحدها. ثم، وبعد لحظة من التردد، نظر خالد تجاه الباب الذي خرج منه والد سالي. انعقدت حاجباه في حيرة، ثم تحرك فجأة بخطوات سريعة نحو الخارج.

***


تسللت لارا بدلال طفولي، وأسندت رأسها على كتف أنيسة وهي تهمس بصوت مبحوح بالنعاس:

"ماما، أريد أن أنام بجوارك."

ابتسمت أنيسة بحنان، ومدّت يدها تمسح برفق على ظهر الصغيرة، كأنها تنقل لها طمأنينة العالم كله، وأجابت برقة:

"نعم، يا لارا."

ولم تكد تنهي كلماتها حتى شعرت بيد أخرى تتشبث بذراعها الحر

ولم تكد تنهي كلماتها حتى شعرت بيد أخرى تتشبث بذراعها الحر. كانت فرح قد اقتربت أيضًا، وأمالت رأسها على كتف أنيسة الآخر، تتحدث بصوت حنون اختلط بالشوق:

"افتقدتك كثيراً.. هل انتهى علاجك، وستعودين للعيش معنا؟"

تجمدت ابتسامة أنيسة للحظة، وغامت عيناها بألم خفي وهي تقول بصوت خفيض:

"علاجي لم ينتهِ بعد.. سأعود غداً إلى المستشفى لأكمل العلاج."

ساد الغرفة صمت حزين، قبل أن تقطعه ليان بزفرة ضيق، وقالت وهي تعقد ذراعيها:

"أتمنى أن تكوني بخير غداً.. ولا تذهبي."

تأملت أنيسة الوجوه الصغيرة المحيطة بها، ورغم الألم الذي كان يسكنها، ارتسمت على شفتيها ابتسامة هادئة. كانت تشعر بشيء غريب.. اليوم لم يعذبها جسدها كما في الأيام السابقة، وكأن الألم قرر أن يمنحها عطلة قصيرة لترى أولادها وتغمرهم بحبها. ربما.. فقط ربما، كانت هدية صغيرة من الله لهذه الليلة.

همست بأنفاس دافئة وهي تمسح على شعر ليان:

"بصراحة، أشعر أنني على ما يرام.. ربما أخبر خالد أن يبقيني هنا."

رفعت ليلى رأسها بحماس، وعيونها تتلألأ بالأمل، وقالت بلهفة:

"حقاً؟!"

ثم لم تنتظر الرد وأكملت بحماس طفولي:

"سأطلب ذلك من أبيه.. لن يرفض لي طلب."

ضحكت أنيسة بخفوت، وعيناها تتجولان في الغرفة بعفوية، ثم تساءلت فجأة:

"بالمناسبة.. أين خالد؟"

أجاب أحمد وهو ينظر إلى الباب:

"خرج منذ قليل."

التفتت أنيسة إليه ببطء، وعيناها تغيم بالحزن، تذكرت مشهد خالد الذي رأته اليوم أمام مستشفى آخر.. كانت تعرف أن خالد أخبرها سابقًا عن الولد المصاب، لكن لم تتخيل أن تراه على كرسي متحرك بهذه الطريقة، هشًا وضعيفًا بهذا الشكل.

زفرت أنيسة بألم، وضاقت عيناها قليلاً وهي تهمس:

"متى ستُزال الجبيرة؟"

رفع الفتى المصاب عينيه نحوها، ثم خفضهما إلى قدمه المعلقة بخجل، وصوته بالكاد يُسمع:

"الطبيب لم يحدد بعد."

انحنت نحوه قليلًا، وابتسمت بعطفٍ وهي تمسح على كتفه:

"أتمنى أن تشفى سريعاً، يا بني."

ثم رفعت رأسها، ونظرت بعينين جادتين إلى الأولاد المنتشرين حول الغرفة. كان حسن يجلس في ركن بعيد، واجمًا لا يحرك ساكنًا، بينما كان الآخرون يتوزعون حول الأرائك.

شدّت أنيسة جسدها قليلًا وقالت بنبرة تحمل مزيجًا من الحنان والصرامة:

"يجب أن تهتموا بأنفسكم وببعضكم البعض. لا تورطوا أنفسكم في مشاكل أنتم في غنى عنها. ومن يقع في مشكلة عليه أن يعترف بها قبل أن تتطور الأمور لما هو أخطر."

وبينما تتنقل نظراتها على الوجوه الصغيرة، توقفت عند عبدالله الذي كان يحتضن قطتة الصغيرة ذهبية اللون بين ذراعيه. قالت برقة ولكن بحزم:

"هل تفهم، يا عبدالله؟ عليك أن تكون أهدأ قليلاً، وتتحكم في غضبك."

أومأ عبدالله برأسه بسرعة، بينما استمر في تمسيد ظهر القطة بلطف. ثم التفتت أنيسة إلى رحيم، وقالت:

"رحيم، أعرف أنك تحب إخوتك كثيراً إلى درجة التستر عليهم.. أنت لم تعد صغيرًا بعد الآن. صرت مسؤولاً، مثل إخوتك الأكبر. عليك تدرك المسؤولية التي تقع الآن على عاتقك. ويجب أن تهتم بدراستك إلى جوار تمرينات الكمان"

"وأنتِ يا فرح.."

ألقت نظرة أطول على فرح، فالتقطت الفتاة أنفاسها حين سمعت اسمها، فأردفت أنيسة بنبرة أمومية حازمة:

"لا أحب تهورك. أنتِ قدوة لإخوتك، خاصة الفتيات. يجب أن تعتني بتصرفاتك، وتدركي أنكِ مسؤولة عن كل خطوة تقومين بها."

ثم مالت برأسها قليلًا نحو أميرة، وقالت بلطف:

"وأنتِ يا أميرة.. ساعدي إخوتك في الدراسة. لا تكتفي فقط بالاهتمام بدراستك، بل كوني لهم عونًا كلما استطعتِ."

انتقلت عيناها إلى ليلى وليان، اللتين كانتا تتبادلان النظرات بصمت:

"وليلى وليان.. اهتموا بأنفسكم، وإخوتكما الصغار مسؤوليتكما أيضاً، يجب أن تكونا سندًا لهم."

ثم وجدت نور، فاقتربت خطوة وكأنها تحتضنها بكلماتها:

"نور.. كوني قوية. لا تهتمي بكلام الناس. لا تسمحي لهم أن يؤثروا فيكِ أو يكسروكِ. لطالما عرفتك طفلة قوية، لا تهتزي من كلمات عابرة لا قيمة لها"

التفتت إلى أحمد وقالت:

"أحمد أتمنى أن تصير طبيباً كما وعدتني من قبل، سأكون سعيدة جداً لو حققت حلمي".

وأخيرًا، نظرت إلى حسن. مكثت لحظة تحدق فيه، تتلمس الحزن المتخفي في عينيه الصامتتين، ثم قالت برقة بالغة:

"حسن يا عزيزي... أنت الأكبر بين إخوتك. أعلم كم تحبهم، وكم تعتني بهم بكل قلبك. لكن لا تنسَ نفسك يا بني... لا تحبس مشاعرك داخلك بصمت. تحدث مع خالد، أو مع من تثق به. لا تخف من أن تبوح بما يحزن قلبك، فأنت بحاجة لأن تفرغ ما في داخلك كي تظل قويًا وقادرًا على حماية من تحب."

سكتت لحظة، ثم أكملت بصوت أكثر دفئًا:

"واعتنِ بوالدتك يا حسن.. ابنِ معها علاقة جديدة، مبنية على الفهم والحب. لا تدع الغضب يعمي عينيك عن رؤية الحقيقة. الأم كنز يا حبيبي."

تلقى حسن الكلمات بهدوء دون أن يبدي ردة فعل. وساد الصمت، لم يكن ثقيلاً بل دافئًا. وبينما كان الصمت يملأ الغرفة، قطعه صوت صغير حاد ملئ بالبراءة. كانت سارة، التي لم تفهم من حديث أنيسة الطويل سوى أنها تنادي الجميع بأسمائهم واحدًا تلو الآخر، فصاحت بلهفة:

"وأنا يا ماما؟!"

توقفت أنيسة عن الحديث، وابتسمت ابتسامة دافئة وهي تنحني نحو الطفلة الصغيرة، ثم مدت يدها ومسحت بلطف على شعرها الناعم، وقالت بصوت يغمره الحنان:

"أنتم أيها الصغار فؤاد ولارا، سارة، يحيى، وعلي، وأيضاً ماريا.. كونوا كما أنتم، لطفاء، مدللين، واكبروا ببطء. لا تتعجلوا النضوج."

توقفت لتلتقط أنفاسها ثم أكملت بنبرة تمتلئ بالرجاء:

"أنتم جميعًا إخوة، لا فرق بينكم مهما كانت خلفياتكم. اجعلوا قلوبكم سندًا لبعضكم، ولا تسمحوا لأي خلاف أن يمزق روابطكم. هنا، تحت سقف هذا البيت، نشأتم معًا كعائلة واحدة، وستظلون دائمًا كذلك. في الغد، حين يؤسس كل منكم عائلته، سيبقى هذا المكان هو بيتكم الكبير.. بيتكم الأول. هل فهمتم يا أولاد؟"

ساد لحظات من الدفء في المكان، قبل أن يهمس رحيم بصوت خافت يملؤه الحزن، وهو يحدق إلى الأرض:

"لا تقلقي علينا يا ماما.. أرجوكِ، تحسني وعودي إلينا سريعاً، نريد أن نقضي شهر رمضان معاً."

أخفت أنيسة خلف ابتسامتها اللطيفة ألماً عميقًا يتلوى في صدرها، وحقيقة كانت تخشى أن تفلت منها دون قصد. جعدت عينيها الصغيرة بابتسامة دافئة وقالت بصوت حاولت أن تجعله مطمئنًا:

"ادعوا لي يا أولاد.. لا تنسوني أبدًا من دعائكم."

كانت كلماتها تبدو عادية، ولكن من بين حروفها المتماسكة، كان يختبئ يقين ثقيل.. يقين لم ترغب أن تنطق به أمام عيونهم الواسعة الممتلئة بالأمل. فربما تكون تلك المرة الأخيرة التي يراها فيها الأطفال.. مبتسمة.

رفعت أنيسة رأسها قليلًا، تتأمل الوجوه الصغيرة الملتفة حولها، تحاول أن تلتقط تفاصيلهم لتخزنها في روحها إلى الأبد.
كل ضحكة، كل حركة عفوية.. كانت تشعر وكأنها تودعهم في قلبها دون أن يدروا.

تمسكت فرح بها أكثر، وقالت بصوت هامس:

"نحن نحبك يا ماما.. وسننتظرك مهما طال الوقت."

اختنقت أنيسة بدموعها لكنها قاومتها بابتسامة أوسع، وضمّت الأطفال إليها بيدين مرتجفتين. وهي تودعم الوداع الأخير. الوداع الأخير بين هولاء الصغار الذين صاروا قطعة من روحها.

لم تكتفِ أنيسة بتوصية الأولاد فقط، بل وقفت في منتصف غرفتها التي كانت تودّعها بنظراتها، كأنها تحاول أن تحفظ كل زاوية فيها داخل قلبها. كان الهواء مشبعًا بالحنين، والدموع تلمع في عيون الجميع. تقدمت نحوها ذكية، التي احتضنتها بحزن عميق وهي تبكي بحرقة، وهمست بأنفاس متقطعة:

"حبيبتي ست أنيسة... أتمنى أن تعودي إلينا بسلام."

ابتسمت أنيسة ابتسامة واهنة، وربتت على ظهرها برفق، قبل أن تهمس لها بصوت متهدج:

"ذكية، اعتني بصغاري... إنهم أمانة بين يديك. أطعميهم طعامًا صحيًا، واعتني بهم جيدًا، أرجوك."

رفعت ذكية رأسها وسط دموعها، وقالت بإصرار:

"لا تقلقي.. إنهم أولادي الذين لم أنجبهم. عودي فقط إلينا بسلام."

ثم التفتت أنيسة إلى منى، التي وقفت بجوار السرير تلتقط أنفاسها بصعوبة من شدة التأثر، وقالت لها بنبرة أمومة دافئة:

"منى.. اصبري قليلاً على حسن. الولد ما زال مراهقًا، مشاعره متأججة ولا يستطيع السيطرة عليها. فقط امنحيه الوقت الكافي ليفهمها ويجاريها.. واهتمي بماريا، فهي صغيرة جدًا وتحتاج لمن يرعاها بحب وحنان."

هزّت منى رأسها بالموافقة وعيناها تغرورقان بالدموع.

وأخيرًا، التفتت أنيسة إلى عم حمدي، الذي كان يقف بخشوع قرب الباب، وقالت له بنبرة تجمع بين الرجاء والثقة:

"عم حمدي.. المنزل أمانة بين يديك. والدفيئة، اعتنِ بها مع الدكتورة يا حمدي، فهي مهمة بالنسبة لي."

هزّ الرجل رأسه بقوة، كأنه يقطع وعدًا لا رجعة فيه:

"أمانتك محفوظة يا سيدتي".

نظرت أنيسة إلى جميع الموظفين بعينين يغمرهما الامتنان، وجالت بنظرها بينهم وكأنها تريد أن تحفظ وجوههم في قلبها للأبد، ثم قالت بصوت دافئ مرتجف:

"جميعكم.. أشكركم من أعماق قلبي على اعتنائكم بي وبأولادي. أنا ممتنة لكم جميعًا، وشاكرة لله الذي منحني الفرصة لأتعرف على قلوبكم الطيبة، ولأعيش معكم تحت هذا السقف كعائلة واحدة."

وعادت أنيسة إلى غرفتها في المستشفى بعد وداع حزين من كل سكان المنزل، بعد أن وفّى خالد بوعده لها بأن تقضي يومًا أخيرًا في المنزل بين الأطفال. عادت وعلى وجهها ابتسامة هانئة، وعيناها مطمئنتان وقد امتلأ قلبها بالسكينة تجاه الأولاد.. لكن وسط تلك السكينة، كان هناك ندم واحد يثقل صدرها: أخوها أسعد، الذي خُيّل إليها أنها رأته منذ يومين.

مرت الأيام ثقيلة حتى جاء ذلك اليوم الذي فقدت فيه أنيسة تماسكها، وثقلت أنفاسها المريضة. عندها طلب الطبيب أن يتحدث مع خالد وسالي على انفراد، وأخبرهما بصراحة جارحة أن أنيسة تعيش أيامها الأخيرة، وأن ما تبقى هو تسكين الألم فحسب.

كان وجه خالد باهتًا وهو يتلقى الخبر، لكنه تقبله بهدوء عملي قاسٍ، وبدأ يقلل من ساعات عمله ليبقى بجوارها، يعتني بها ويراقبها بعينين لا تغفلان.

***


تأملت سالي الشاشة الصغيرة التي تقيس ضربات القلب، وعيناها معلقتان بذلك الخط الرفيع الذي ينبض بالحياة شيئًا فشيئًا. كانت أيامها ثقيلة، مليئة بالتعاسة والصمت، تشاهد أنيسة تفارق الحياة أمام عينيها بلا حول ولا قوة.

كلما جلست إلى جوارها، كانت تشعر وكأنها تجلس وجهًا لوجه أمام حقيقة الوجود.. مصير الإنسان الأخير. أغمضت عينيها بألمٍ ثقيل.. حتى قطع السكون صوت أنفاس متقطعة واهنة:

"سا.. سالي.."

فتحت سالي عينيها بسرعة ونهضت من مقعدها، تتقدم بخطوات قلقة:

"سيدتي.. هل تحتاجين شيئًا؟"

رأت يد أنيسة تضعف وهي تحاول إزالة أنبوب التنفس الاصطناعي، فسارعت سالي تمسك يدها بلطف، ترجّتها بصوت مرتعش:

"أرجوكِ.. لا تزيليه. فقط تحدثي، وأنا أنصت لكِ."

بصوت مبحوح هامس، قالت أنيسة:

"أسعد.. يا سالي.. هل رأيته مرة أخرى؟ هل جاء اليوم؟"

تجمدت سالي في مكانها. لم تجد إجابة تُرضي قلب المرأة المعلق بالانتظار. فمنذ اليوم الذي رأته فيه أنيسة خلف النافذة، والحقيقة التي كشفها خالد خنقتها بالصمت، وهي تتجنب الاقتراب من النافذة، تخشى أن تخوض من جديد في ذلك الانتظار المؤلم الذي كانت تعيشه أنيسة. كأن ألم الترقب تسلل إلى قلبها فصار ثقيلًا كلما اقتربت من تلك النافذة. ومع ذلك، لم تكن أنيسة تكف عن ترديد اسمه كلما استفاقت.

أطرقت رأسها وأجابت المرأة بصوت خفيض، مملوء بالأسى:

"لا، سيدتي.. لم أره مرة أخرى."

رمشت أنيسة بعينين غائمتين، بدا عليهما خيط واهن من الأمل الذي كان يتشبث بالحياة. تنهدت بصعوبة، ثم أغلقت عينيها كمن يتقبل الحقيقة بهدوء.

مرت لحظة طويلة صامتة بينهما، لا يقطعها سوى صوت جهاز قياس القلب ينبض في الغرفة الخافتة. كانت سالي تحدق بشرود في ملامح أنيسة الشاحبة، وقد انعكست على وجهها مشاعر العجز والحزن. شعرت فجأة بغصة تدفعها إلى التحرك، فنهضت من مقعدها باندفاع، التقطت هاتفها بيد مرتجفة، وضغطت الرقم الذي صارت تحفظه عن ظهر قلب. لم تمضِ سوى لحظات، حتى جاءها صوت خالد عبر الهاتف، قلقاً ومتوجساً:

"دكتورة؟ هل حدث شيء؟"

قالت سالي بسرعة، تحاول السيطرة على ارتجاف صوتها:

"لا، لا تقلق.. لكن، أريد أن أطلب منك رجاءً."

سمعته يسألها باهتمام واضح:

"ما هو؟"

شدت سالي قبضتها حول الهاتف، وقالت بإصرار:

"أرجوك.. أقنع عم أسعد أن يأتي ليراها. السيدة أنيسة لا تكف عن مناداته."

خيم صمت قصير على الخط، وكأن الطرف الآخر يبحث عن كلمات مناسبة، ثم تنهد خالد تنهيدة ثقيلة وقال:

"هؤلاء الأشقاء.. حقاً عنيدون. أتواصل معه كل يوم وأطلب منه أن يزورها، لكنه يرفض. لا أستطيع إجباره يا دكتورة."

ضغطت سالي شفتيها معاً بإصرار، وقالت برجاء:

"أرجوك مستر خالد، دعني أقابله بنفسي. سأحاول إقناعه."

سمعت نبرة استغراب خفيفة في صوته:

"إقناعه؟ كيف؟"

خفضت سالي رأسها قليلاً وكأنها تحدث نفسها، ثم قالت بثقة مترددة:

"ليست لدي خطة.. لكنني متأكدة أنني سأفعل."

سكت خالد مرة أخرى، حتى خشيت أن يرفض، فقطعت الصمت وهمست عبر الهاتف بكل صدق:

"أرجوك."

هذه الكلمة المليئة بالرجاء كانت كفيلة بأن تحسم قراره. جاء صوته بعدها حازماً ولكنه دافئاً:

"حسناً، كنت سأذهب إليه اليوم على أية حال.. سأمر عليكِ الآن وأصحبك إلى الفندق حيث يقيم."

ارتسمت على شفتي سالي ابتسامة صغيرة رغم كل شيء، وقالت بإخلاص:

"أنا أنتظرك."

أنهت الاتصال، وحدقت في أنيسة بحنان خالص.. كانت تشعر أن كل دقيقة أصبحت ثمينة، وكل لقاء قد يكون الأخير.

***


جلست سالي على كرسي في ردهة الفندق الهادئة، وقد ضمت يديها المرتجفتين فوق حجرها محاولة أن تسيطر على توترها. راحت عيناها تتنقلان بين الدرج والمدخل المزين ببعض النباتات الصناعية.

تخيلت اللقاء الذي اقترب، فهي على وشك مقابلة شقيق السيدة أنيسة، الذي سمعت عنه طويلاً في حديثها المفعم بالشجن. الرجل الذي فرقتهما خلافات الحياة لأكثر من خمسين عاماً. تساءلت كيف ستكون ملامحه الآن؟ هل ظل شيء من ذلك الشاب الوسيم الذي وصفته أنيسة ذات يوم بحنين ظاهر في صوتها؟

تذكرت سالي تلك اللحظة العارضة التي لمحته فيها من نافذة غرفة المستشفى.. كان مجرد ظل بعيد، رجل أثقلته السنون والمواجع، يمشي متردداً كأنه يحمل العالم على كتفيه.

تنهدت ببطء، وألقت نظرة أخيرة على ساعة يدها. قلبها كان يدق بعنف، ليس خوفاً منه، بل خوفاً من أن تفشل في مهمتها.. مهمة منح السيدة أنيسة لحظة صفاء أخيرة قبل أن يطويها الغياب. 

"اهدئي قليلاً". جاءها صوت خالد هامساً بنبرة هادئة.

رفعت عينيها بحيرة لتنظر إليه، فرأت ابتسامة هادئة ترتسم على وجهه وهو يشير برأسه إلى يديها المرتجفتين:

"أنتِ ترتجفين وكأنك ستقابلين زعيم عصابة.. هذا عم أسعد، رجل طيب جداً، ستحبينه كثيراً."

كانت عيناه الواسعتان تملؤهما طمأنينة ناعمة، وكأنهما يحاولان أن ينقلا لها بعضاً من هذا الهدوء القابع بداخله. تلاقت نظراتهما للحظة صامتة، قبل أن تقطعها سالي بشهيق خافت تبعته بزفرة ثقيلة، ثم همست محاولة أن تبتسم:

"نعم.. أنت على حق، أنا لا أقابل زعيم عصابة."

ابتسم خالد بدوره، وهو يراها تحاول لملمة بقايا توترها دون نجاح. ومرت دقائق قليلة قبل أن يقترب منهما أحد عمال الفندق، قال باحترام:

"السيد أسعد ينتظركما في جناحه."

سار خالد بجانبها بخطوات بطيئة مدروسة، يفسح لها الطريق كل بضع خطوات. عند وصولهم إلى الغرفة، دق العامل الباب برفق، ثم أعلن بصوت مسموع:

"السيد خالد وصل."

نظرت سالي إلى خالد بعينين متوسلتين، فهز رأسه مطمئناً بإيماءة خفيفة شجعتها. ثم فتح الباب أمامها ودخلت خلفه.

استقبلتها غرفة الاستقبال الدافئة بإضاءة خافتة ناعمة، تنعكس على جدران مزخرفة بورق جدران بلون بيج هادئ. كانت الأرائك مفروشة بغطاء قطني بسيط وأنيق، وطاولة منخفضة في المنتصف تزينها مزهرية زجاجية بداخلها زهور صناعية.

في الجهة المقابلة، جلس رجل ثمانيني في يده عصا يتكأ عليها، تبدو على وجهه علامات الزمن واضحة، لكنها لم تسرق من ملامحه تلك المهابة والرُقي. كان شعره رمادي، وعيناه غائرتين ولكنهما لم تفقدا بريقهما.

جلس السيد أسعد على الأريكة بثبات، بجانبه امرأة في منتصف العمر في عقدها السادس على الأغلب، تشبهه كثيراً في ملامحه الجدية. وبجانبها كانت تجلس امرأة شابة تحمل بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز الثلاث سنوات، ذات شعر أسود قصير وعينين لامعتين.

من يرى هذا الرجل ويعرف أنيسة، سيدرك دون أدنى شك أنهما شقيقان. كان بينهما نفس الانحناءة الرقيقة في الفم، نفس البريق الحي في العينين، حتى الأنف جاء مشابهاً كأنه نُسخ عن الآخر. هذا هو أخوها.. بلا شك.

رفع السيد أسعد رأسه ببطء حين دخل خالد وبجواره سالي. ومضت في عينيه نظرة ترحيب دافئة، وخطّت ابتسامة حقيقية على ملامحه المتعبة حين لمح ضيفه العزيز.

قال بصوت متهدج قليلاً بفعل العمر، لكن فيه دفء صادق:

"مرحباً بك يا بني.. كيف حالك؟"

أجابه خالد وهو يقترب منه بخطوات واثقة:

"مرحباً عمي، كيف حالك اليوم؟ أتمنى أن تكون بخير."

ابتسم الرجل العجوز ابتسامة راضية وهو يربت بكفه على ركبته:

"بأفضل حال، الحمد لله."

ثم انزلقت نظراته نحو سالي، تفحصها بعينين ودودتين يملؤهما الفضول. ثم التفت نحو خالد بغمزة خفيفة وقال مداعباً:

"ومن هذه الشابة الجميلة؟ أيعقل أنها خطيبتك؟"

اضطربت سالي قليلاً، بينما التفت خالد نحوها بسرعة ثم عاد بنظره إلى السيد أسعد، مبتسماً بحرج:

"لا، عمي.. هذه الدكتورة سالي، طبيبة المنزل لدينا."

تقدمت سالي بخطوات مترددة وهي تشعر بقلبها يدق بعنف تحت ضلوعها. مدّت يدها إليه بأدب جم، فالتقط الرجل يدها بسلام دافئ بين كفيه العجوزين. قالت بصوت خفيض لكنه واثق:

"مرحباً عم أسعد، أنا سالي، طبيبة منزل الست أنيسة.. ومستر خالد."

ومضت عيناه عند ذكر اسم شقيقته، وكأن ذكرها أحيا شيئاً ساكناً في صدره. لكنه كتم انفعاله بابتسامة هادئة وقال:

"مرحباً بكِ يا ابنتي."

أشار إليهم بيده الممدودة:

"تفضلوا.. اجلسوا يا أولاد."

جلست سالي بجوار خالد بأدب جم، فيما تولّى السيد أسعد تقديم أفراد أسرته. أشار إلى المرأة الستينية الجالسة قربه قائلاً:

"هذه ابنتي زينب.."

ثم التفت إلى الفتاة الشابة بجانبها:

"... وهذه حفيدتي سلمى."

وأخيراً انحنى بابتسامة نحو الطفلة الصغيرة ذات الشعر الأسود الناعم:

"وهذه آسيـة.. أصغر أحفادي."

انتهى التعارف بنظرات ودودة، وعندما جلست سالي بارتياح خفيف، تقدمت آسيا بخطوات خجولة نحو خالد، الذي كان بمثابة صديق مقرّب لها منذ زياراته السابقة. ابتسم خالد على الفور، وانحنى ليحملها بين ذراعيه، ثم طبع قبلة خفيفة على رأسها وأجلسها بينه وبين سالي. ضحكت الطفلة ببراءة وهي تتعلق بطرف قميصه، مما أذاب شيئاً من توتر الأجواء.

طلب السيد أسعد بهدوء من العامل أن يحضر لهم بعض المشروبات، بينما انزلق الحديث نحو أمور الحياة اليومية، قبل أن يأتي وقت الكلام الجدي الذي جاءت سالي من أجله.

سأل أسعد بفضول حزين، وهو يشبك يديه فوق ركبتيه كأنه يحاول أن يحبس قلقه:

"و.. وأنيسة.. كيف حال صحتها اليوم؟"

تنهد خالد ببطء، وتذكر كلمات الطبيب التي ألقاها عليه كصفعة:

"للأسف يا عمي.. ماما ليست بخير. حالتها تتدهور.. الطبيب منحنا فقط أسابيع قليلة على الأكثر."

وضعت السيدة زينب يدها برفق على كف والدها، وهمست بشحوب:

"يا إلهي.."

لمع بريق الدموع في عيني الرجل العجوز، لكنه لم ينبس ببنت شفة.

تقدمت سالي قليلًا في مقعدها، ثم قالت بصوت خافت متوتر:

"عمي.. الحقيقة أن السيدة أنيسة رأتك من نافذة المستشفى."

رفع أسعد رأسه ببطء، وعيناه تشعان بالدهشة:

"حقًا؟"

أومأت سالي برأسها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة حزينة مطمئنة:

"نعم. وهل تعرف ماذا فعلت عندما رأتك؟"

تقدمت خطوة بكلماتها، كأنها تحاول أن تعبر الجسر بينهما:

"تعرفت عليك فورًا.. قالت لي: هذا أسعد، شقيقي. ثم دفعتني برجاءٍ حارق لألحق بك.. ولكني لم أتمكن من اللحاق بك."

توقفت لحظة لتهدئ رجفتها، ثم أكملت بنبرة يغلفها الحزن:

"لقد بكت.. بكت بحرقة لأجلك. بكت على ذكرياتكما، وعلى سنوات الفراق الطويلة.. أتدري لماذا بكت؟"

تلاقت نظراتهما، ورأت سالي في عينيه ما يكفي من الإجابة، فأومأت برأسها مؤيدة:

"بكت لأنها تشتاق إليك.. لأنها ما زالت تحملك في قلبها."

خفضت سالي عينيها تتأمل أصابعها المرتعشة، وأردفت:

"أنا لم أعرف السيدة أنيسة إلا منذ شهور قليلة، لكنها كانت دائمًا صادقة في مشاعرها.. نقية كقلب طفل. وأقسم لك، أن في لحظات غيبوبتها.. حين تفتح عينيها بين الغفوة والصحو، لا تنطق سوى اسمك."

أخذت نفسًا عميقًا وهمست:

"عمي.. لقد جئت اليوم لأرجوك."

رفع أسعد رأسه نحوها، وعيناه تترقرقان بالدموع. ابتسمت سالي برقة وقالت:

"أرجوك.. زرها. دعها ترى وجهك ولو للحظة قبل أن ترحل. لا تدعها تمضي مثقلة بالندم. أرجوك، عمي.. دعها ترحل بسلام."

تقدمت بخطوة صغيرة للأمام، ثم أكملت بصوت خافت يرتجف بالعاطفة:

"حتى لو جرح أحدكما الآخر.. حتى لو كان الخلاف عميقاً، أرجوك.. دع كل هذا جانبًا الآن. هذه المرأة تحتاجك.. تحتاج أن ترى شقيقها قبل أن تغمض عينيها للأبد."

قالت بأمل يائس:

"صدقني.. حين تلتقيان، سينسى كل منكما خوفه وكبرياءه. انظر إلى حالك.. وإلى حالها.. أي سبب، مهما كان، يستحق أن يحول شقيقين يتوقان لبعضهما البعض إلى هذا الحزن القاسي؟"

سكتت لحظة، ثم دفعت بكلماتها الأخيرة وكأنها ترمي بكل ما في قلبها:

"أرجوك، عمي.. تعال معنا الآن. قبل أن يفوت الأوان.. قبل أن يتحول الكبرياء والخوف إلى ندم لا يزول. صدقني، هذه المرأة.. ستكون أسعد إنسانة على وجه الأرض لو زرتها. أرجوك.. كن أنت سبب سعادتها الأخيرة."

لم يحتمل أسعد كلمات سالي، وكأن السدود القديمة داخله قد انهارت فجأة، فأجهش في البكاء بحرقة لم يعرفها منذ سنوات. انحنت ابنته زينب نحوه، واحتضنته بذراعين مرتجفتين، محاولة تهدئته:

"بابا.. اهدأ."

لكنه لم يهدأ، بل تشبث بكلمات سالي كالغريق، ورفع رأسه المرتجف قائلاً برجاء يكسر القلب:

"دعوني أراها.. أرجوكم، خذوني إليها."

ارتجف صوته مع كل كلمة نطقها، وجلس الرجل العجوز، محطمًا بين دموعه، لا يخجل منها، بل يفتح لها الطريق بعد سنوات من العناد والخسارات الصامتة.

تبادل خالد نظرة مع سالي، نظرة طويلة لم تحتج إلى كلمات. لم يكن يتوقع أن يصل حديثها إلى أعماق الرجل بهذا الشكل. رآها، كما لم يرها من قبل: عيناها الكبيرتان تلمعان بدموع العطف، وجسدها الصغير المشدود بالأمل والرقة.

تساءل بدهشة صامتة:

كيف يمكن لإنسانة واحدة في مثل سنها وفي مثل هذا الزمن أن تملك كل هذا الصدق، كل هذا الحب. لم يستطع مقاومة سحرها الطاغي، ولا السيطرة على أحاسيس التوق إليها، هذه الروح الخفيفة التي تحوم من حوله، اليوم، وبينما ينظر إليها وهي تعمل جاهدة وبصدق، وقع في غرامها من جديد. كانت تعطيه كل يوم أسباباً ليقع في غرامها، ولكن اليوم وقع آلاف المرات، دون مقاومة، دون تحفظ، وكأن قلبه لم يعرف غيرها حبيبة.

***


فتحت أنيسة عينيها المتعبتين ببطء، تشعر بأن يدًا حانية تمسح شعرها. رمشت قليلًا، تحاول أن تتبين ملامح من يلمسها بهذا الحنان، وحين أدركت أنه خالد، ابتسمت بصعوبة وهمست:

"جئت أخيرًا؟... لماذا تأخرت؟"

انحنى خالد وقبّل رأسها بحب، ثم قال بصوت دافئ:

"أعتذر.. كنت أجهز لكِ مفاجأة."

أغمضت أنيسة عينيها بألم، وبلعت ريقها بصعوبة، قبل أن تسأل بصوت خافت:

"مفاجأة؟ يا ترى.. ما هي؟"

ابتسم خالد بلطف:

"خمني."

تنهدت المرأة بتعب وقالت:

"أنت تعلم أنني أكره التخمين.."

ابتسم مرة أخرى، ثم أشار برفق إلى سالي، التي فهمت الإشارة فورًا، واتجهت نحو الباب لتفتحه بهدوء.

كان أسعد واقفًا بين ابنته وحفيدته وبجوارهم رجل يحمل الطفلة الصغيرة كان زوج حفيدته، تحرك الرجل العجوز ممسكًا بعصاه في يد، ووردة حمراء مضغوطة على صدره باليد الأخرى. نظر إلى سالي برجاء صامت، فابتسمت له تشجيعًا وأمسكت بذراعه بلطف وهي تقوده.

تقدم أسعد خطوتين إلى الداخل، ثم توقف وهو يضرب عصاه الخفيفة بالأرض. نظر نحو السرير، حيث كانت أنيسة ترقد، شاحبة وضعيفة، موصولة بالأجهزة. أنيسة الشابة الجميلة، ذات الشعر البني الفاتح اللامع، أنيسة المدللة المليئة بالحيوية والضحكات العالية، صارت الآن تلك العجوز الهزيلة التي تصارع المرض، وتحارب الألم بصمت.

في البداية، لم يجد أسعد صوته، فقط دموعه سبقت كلماته. شدّت سالي على ذراعه تشجعه، فتنفس بعمق، ثم خرج صوته مرتجفًا:

"أنيسة.."

مرّت ثوانٍ ثقيلة، كل ضربة من عقارب الساعة تضرب قلب الغرفة، حتى وصلت الثانية العشرين حين التفتت أنيسة ببطء، عيناها الغائمتان تحاولان الإمساك بذلك الصوت المألوف. لم تخطئ النبرة، رغم أن الزمن نقّحها قليلاً. تعبت من الرؤية، لكنها دققت، وحين اقترب أسعد خطوة أخرى، قال بصوته المرتجف وكأنه يساعدها في فك الشيفرة:

"أنيسة.. أختي.. اشتقت إليك."

هنا اتسعت عينا المرأة فورًا، وهي لا تصدق.. هل كان حقًا هو؟ أم أنها تحلم من جديد على فراش المرض؟ منذ قليل فقط، كانت ترى كمال بجوارها، وأمها، وأباها.. جدها وجدتها.. كلهم مروا عليها اليوم، كأنما عاد الزمن بها إلى حضن طفولتها.

همست بخوف، تتمنى من كل قلبها ألا يكون حلمًا آخر:

"أسعد؟... هذا أنت؟"

مدّت يدها الهزيلة في الهواء وكأنها تخشى أن يختفي إن لم تلمسه. كان قلبها يدق بعنف، خليط من الشوق والدهشة والحنين المؤلم. مالت عيناها بالدموع وهي ترمش مرات ومرات، تغرق نظراتها في وجهه، تبحث عن ملامح الصبي الذي كان يناديها "نوسة" في طفولته. ولما لم تجد صوت العقل ليكذّب هذا الحلم، نظرت إلى خالد برجاء مرتجف:

"خالد.. هل هذا أسعد؟"

اقترب خالد وهمس:

"نعم يا ماما.. إنه هو.. جاء ليراكِ."

رفعت أنيسة ذراعًا هزيلًا نحوه بتوسل، وما إن رآها أسعد حتى أفلت عصاه من يده، واندفع راكعًا بجوار سريرها، يحتضن يدها الضعيفة بين يديه المرتجفتين. قال باكياً، كما لو كان يغفر لنفسه ذنوب سنوات الفراق كلها:

"أنيسة.. حبيبتي.."

احتضنها بحنان ولهفة، كما لو كان يحاول أن يعيد الزمن إلى الوراء، يقبل كل جزء من يديها ووجهها الشاحب

احتضنها بحنان ولهفة، كما لو كان يحاول أن يعيد الزمن إلى الوراء، يقبل كل جزء من يديها ووجهها الشاحب. وبينما كانت المرأة تبكي بألم وفرح، همست بصوت مختنق:

"أهذا أنت؟ أخي.. كنت متأكدة أنه أنت.. كنت أعرف أنك لن تنساني.. "

كان أسعد يقبّل كفها العجوز مرارًا وهو يهمس من بين دموعه:

"أبدًا، أبداً يا أختي.. لم ولن أنساكِ أبدًا.. كيف أفعل؟"

تمسكت أنيسة بيد أخيها المرتجفة، وابتسامة حزينة ترتسم على شفتيها الشاحبتين، ثم همست بصوت خافت يكاد يذوب في الهواء:

"وأنا أيضاً لم أنسك أبداً يا أخي.. كنت أتذكرك كل يوم.. لم أكف عن حلم اللقاء بك."

ارتجف قلب أسعد وهو يسمع كلماتها.. انحنى نحوها، وعيناه تلمعان بالدموع، وهمس بصوت متهدج:

"إذاً.. لماذا لم تعودي، يا نوسة؟ كنتُ أنتظرك.. حاولتُ كثيراً العثور عليك."

ارتجفت شفتا أنيسة، وأجهشت بالبكاء كطفلة صغيرة، وراحت تردد وسط شهقاتها وهي تتشبث به بقوة:

"أنا آسفة.. أنا آسفة.. أنا آسفة.."

تألم قلب أسعد لنحيبها، فضمها إليه برفق وكأنه يحميها متأخراً من قسوة العالم، وراح يهمس لها وهو يربت على شعرها:

"لا تقولي هذا.. أنا من قصر في حقك.. أنا من تركك ترحلين دون أن أتشبث بك كما ينبغي."

رفعت أنيسة رأسها قليلاً، وعيناها تغرقان في دموع الندم، وسألته بصوت خافت، بصوتها الطفولي الذي كانت تترجاه به قديماً:

"هل مازلت غاضباً مني؟.. هل مازلت مستاءً مما فعلت؟"

ضحك أسعد وسط دموعه التي تسيل بحرارة على خده، وضغط على يدها برقة يطمئنها:

"لا يا أنيسة.. لست غاضباً.. ولا مستاءً.. لكني سأوبخك فيما بعد على هجرك الطويل."

ابتسمت أنيسة وسط دموعها، وضحكت ضحكة صغيرة مختنقة، ثم ألقت بجسدها الضعيف بين ذراعيه، غير آبهة بالأجهزة الطبية المتصلة بها، وقالت برجاء ملح:

"لا داعي للتوبيخ الآن.. دعنا نحتضن بعضنا البعض هكذا.. أرجوك يا أخي.. ابقَ بجواري.. لا تتركني."

شعر أسعد أن قلبه يكاد ينفطر من الحزن والحب، فشد على جسدها الواهن وقال بصوت مبحوح بالعهد:

"لن أتركك مرة أخرى.. أبداً يا أنيسة."

في ركن الغرفة، كانت سالي تمسح دموعها بطرف منديل صغير، وعيناها تتابعان المشهد بألم وخشوع. رأت أمامها أخوين عجوزين يحتضنان بعضهما بشوق السنين، وأدركت كم هي الحياة قصيرة على خلافات تفرق بين الأرواح التي كانت يوماً واحدة. لا شيء يستحق أن يضيع العمر بسببه.. لا شيء أثمن من حضنٍ صادق.. وعائلة محبة، تعرف بين أحضانها المعنى الحقيقي للأمان.

نهاية الفصل الثاني والأربعون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادمبإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

أهلاً أعزائي القراء..

شكراً على صبركم

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصلتوقاعتكم للأحداث الجاية؟

***

اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.