رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الساددس والثلاثون
فضلاً، متنسوش الvote.
المزيكا انهاردة " امتى الزمان" لمحمد عبد الوهاب وعزف وتوزيع الجميل عمر خيرت. اتمنى تستمتعوا
***
التفتت سالي فجأةً محاولةً استعادة تركيزها، لتفاجأ بمحمود يقف خلفها بوجهٍ يعكس الحيرة، ليسألها بصوتٍ متردد:
"هل أنتِ على ما يرام؟".
أسرعت سالي بمسح دموعها خجلاً من أن يراهَا في لحظة ضعفها، ثم تقدمت نحوه بخطواتٍ مترددة قائلةً:
"كيف حالك يا مستر محمود؟ آمل ألا أكون قد تأخرت عليك كثيراً".
تفحص محمود ملامحها الحزينة بلهفة قبل أن يهمس:
"لا عليكِ، لم يكن الانتظار طويلاً".
ثم تابع بقلق:
"هل مِن جديدٍ بشأن حالة السيدة أنيسة؟".
أجابت سالي بصوتٍ خافتٍ كأنه صدى:
"لا جديد، هي في رحمة الله".
ثم أضافت بنبرةٍ تكاد لا تُسمع:
"لا يبقى سوى الدعاء لها".
تأوه محمود مُنكسِراً:
"هذا مؤلمٌ حقاً..".
بادرت سالي بالتحرك نحو باب المستشفى مُعلنةً رغبتها في المغادرة:
"إذن.. أنا جاهزةٌ للذهاب الآن".
سارت بخطواتٍ متثاقلةٍ كأنها تحمل جبلًا على كتفيها، بينما تبعها محمود بنظراتٍ تفيض بالفضول. لقد رأى دموعها الغزيرة أمام المرآة، فتساءل في صمتٍ: أكان حزنها لأجل أنيسة؟ أم أن جرحاً أعمق يختبئ خلف تلك العينين؟ تأمل مشيتها البطيئة، وكأنها تجر ذكرياتٍ ثقيلة. همّ بمد يده لإيقافها، لكن التردد جعله يتراجع، مُكتفياً بمراقبتها من خلفه.
***
أوقف محمود السيارة أمام المنزل وقال بتكلف:
"وصلنا".
همت سالي بفتح الباب، لكن صوته أوقفها:
"دكتورة..".
التفتت إليه فوجدته يلتقط أنفاسه كمن يبحث عن كلماتٍ ضائعة، قبل أن يهمس:
"مع السلامة، أراك قريباً".
تمهلت سالي لثوان، وثم قالت وهي تخرج:
"مع السلامه يا مستر محمود"
تركت السيارة بخطواتٍ ثابتة، تاركةً وراءها غيمةً من المشاعر المعقدة في قلب محمود، الذي ظل يتأمل اختفاءها خلف الباب، كشبحٍ يذوب في ضوء المصباح الخافت.
فور دخولها المنزل، فوجئت سالي برؤية الأطفال مجتمعين في غرفة المعيشة، فاندفعت فرح عند رؤيتها وصرخت:
"سالي، كيف حال صحة ماما؟".
وفي تلك اللحظة، بدأ باقي الأطفال يتجمعون حولها بقلق وأسئلة متلهفة، مما جعلها تتراجع قليلاً بلسان معقود. لكن السيدة منى تدخلت بحزم قائلة:
"اهدؤوا قليلاً، دعوها تستريح".
نظرت سالي إليهم بعطف وقالت بهدوء:
"إنها تشتاق إليكم كثيراً، وتتمنى رؤيتكم في أسرع وقت ممكن".
حاولت أن تنسج كلماتها بحذر، لكن أميرة لم تُخفِ إلحاحها:
"ولكن ماذا عن صحتها؟ هل هناك تحسن؟".
أجابت سالي برفق:
"مازالت تتلقى العلاج يا أميرة، أدعوا الله أن تتحسن صحتها بسرعة".
قالت ليان بحماس:
"أنا أدعو الله في صلاتي كل يوم أن يشفيها ويعيدها إلينا".
مسحت سالي على رأس الطفلة البريئة، وقالت:
"برافو يا ليان، هذا ما تحتاجه ماما منكم الآن".
كانت سالي تحاول المراوغة بين كلمات الأولاد، وتحاول انتقاء كلماتها بعناية لتجنب إثارة قلقهم، لكن رغم ذلك، شعرت بنظرات الأكبر سنًا تلاحقها بتركيز. كانوا يدركون، دون أن تنطق بكلمة صريحة، أن حالة أنيسة أكثر تعقيدًا مما يتخيله الجميع.
دفع رحيم كرسيه المتحرك إلى الأمام وسأل بلهفة:
"متى سنتمكن من رؤيتها؟".
أجابت سالي بلطف:
"لم يقرر الطبيب بعد ما إذا كانت مستعدة لاستقبالكم، لكنني سأحاول أنا ومستر خالد إيجاد وسيلة لتزوروها في أقرب وقت".
نظرت ليلى إلى سالي بحزن وسألت بصوت خافت:
"هل سيبقى أبيه خالد معها الليلة؟".
أومأت سالي بأسف وقالت:
"نعم، يا ليلى، إنه لا يريد أن يتركها بمفردها في المستشفى".
فتحت ليلى فمها وكأنها تريد أن تقول شيئًا، لكنها ترددت، ثم التزمت الصمت دون أن تكمل حديثها.
على الرغم من ازدحام المكان بالجمع الكبير، إلا أن شبحًا باردًا ومظلمًا خيم بينهم جميعًا. تأملت سالي ملامح الأطفال، فرأت فيها الحزن والقلق، وشعرت بشفقة عميقة تجاههم. تمنت لو استطاعت احتضانهم واحدًا تلو الآخر، علّها تمسح عن وجوههم وقلوبهم هذا الخوف الذي أثقلهم. وفي النهاية، ابتسمت باعتذار وقالت بلطف:
"أعتذر منكم، سأصعد إلى غرفتي.. أحتاج إلى بعض الراحة".
تركتهم خلفها وصعدت إلى غرفتها، ثم ارتمت على سريرها وهي تشعر بثقل يجثم على قلبها وعقلها. لم تكن ترغب سوى في إغلاق عينيها والانغماس في نوم طويل، لكن أحداث اليوم لم تفارق ذاكرتها. كانت تفكر في قصة أنيسة، تلك الحكاية الطويلة المليئة بالمآسي العاطفية والمشاعر الإنسانية، وكأنها مشهد من فيلم سينمائي، لكنها في الواقع قصة تليق بامرأة مثل أنيسة. لم تلتقِ سالي يومًا بشخص يشبهها، تلك السيدة التي امتلكت من الجرأة والشجاعة ما جعلها تتبنى ستة عشر طفلًا وطفلة، ترعاهم كأم حقيقية، وكأن ذلك كان النتيجة الحتمية لماضٍ أليم عاشته، ماضٍ مليء بالفقد والوحدة. ولكن ماذا بعد؟ ماذا لو رحلت هذه المرأة؟ كيف ستكون حياة هؤلاء الصغار الذين لا يعرفون ملجأ غيرها؟
أغمضت سالي عينيها بقوة وكأنها لا ترغب في تخيل ألم هؤلاء الصغار، وتقلبت في فراشها، لتطفو صورته في ذاكرتها. حاولت طردها وهزت رأسها بقوة وكأنها ترغب في محوها تمامًا. لكن دون أن تشعر، تسلل إليها النعاس ببطء، وسرعان ما استسلمت له وغرقت في سبات عميق.
في اليوم التالي، بدأ روتين الحياة الجديد. كان خالد يصطحبها يوميًا إلى المستشفى، وفي المساء يتبادلان الأدوار؛ فيبقى هو لقضاء ليلته هناك، بينما تعود هي إلى المنزل.
بعد ثلاثة أيام، سُمح للأطفال أخيرًا بزيارة أنيسة. كان اللقاء مشحونًا بالمشاعر إلى حدٍ يفوق الوصف، امتلأت الغرفة بالدموع والأنين الخافت، بينما احتضنتهم السيدة التي كرّست حياتها لهم جميعاً، تلك القلوب الصغيرة التي لم تعرف أمًا سواها. لأول مرة، رأت سالي بوضوح حجم الحب الذي يكنّه الأطفال لأنيسة، ذلك التعلق العميق الذي لم يكن سوى انعكاس لما قدمته لهم—حياة دافئة ومستقرة، بدلاً من الضياع في دور الأيتام، يعانون من مرارة الفقد والوحدة. هؤلاء الصغار لم يكونوا مجرد أطفالٍ تحت رعايتها، بل كانوا عائلتها الحقيقية، وهي بالنسبة لهم لم تكن مجرد راعية، بل كانت الأم التي يخشون فقدانها للأبد. تلك الصورة العاطفية المشحونة بالمشاعر لم يسبق لسالي أن رأت لها مثيلًا في حياتها، خاصة في زمنٍ باتت فيه العواطف باردة، وغفت الأحاسيس في سبات عميق.
***
ومع مرور الأيام التي صارت اسبوعين، بدأت سالي تلاحظ ظاهرة غريبة كانت تتكرر يوميًا. في كل مرة تفتح نافذة الغرفة التي تمكث فيها أنيسة، تلمح سيارة معينة تتوقف أمام المستشفى، وينزل منها رجل عجوز يستند على عصا. كان يقف للحظات طويلة يتأمل المبنى بصمت، وكأن بينه وبين هذا المكان رابطًا خفيًا، ثم يعود أدراجه إلى السيارة، ويأمر السائق بالمغادرة.
لم يكن هذا المشهد عابرًا، بل تكرر مرارًا. أحيانًا كان الرجل يتقدم بضع خطوات نحو المدخل، ثم يتراجع وكأنه متردد أو يخشى المواجهة. وفي بعض الأيام، كانت سالي تراه أكثر من مرة، يكرر نفس الطقوس بحزن صامت ونظرات تفيض بالأمل والوجع معًا.
أثار هذا الأمر فضولها، وتزايدت تساؤلاتها: من يكون هذا الرجل؟ هل ينتظر شخصًا ما؟ هل لديه قريب مريض هنا؟ وإن كان كذلك، فلماذا لا يدخل؟ كانت عيناه المليئتان بالرجاء تخبرها أن هناك قصة خلف هذا المشهد المتكرر، قصة لم تستطع بعد فك شيفرتها.
وعندما قررت إخبار خالد عن الأمر، رد عليها بلا مبالاة:
"ربما يكون قريب أحد المرضى".
تأملته سالي بتمعن، تدرس ملامحه الصلبة التي ازدادت ثباتًا وقوة. بدا وكأنه قد تقبل الواقع واستعد لمواجهة الحقيقة، مهما كانت قاسية. في نظرها، كان خالد رجلًا استثنائيًا في قوته. سرعان ما لملم جراحه، ونهض من جديد ليواصل مسؤولياته الكثيرة، رغم الألم العميق الذي لم يختفِ تمامًا، بل تسلل إلى ملامحه في لحظات نادرة، تكشف عن أثر الجرح الذي لم يندمل بعد.
أما الأطفال، فقد كانت حالتهم تزداد سوءًا يومًا بعد يوم. تفاقم لديهم الشعور باليتم، وأصبح الخوف من المجهول يسيطر على قلوبهم الصغيرة. لكنهم، بدافع غريزي، لجأوا إلى بعضهم البعض، وكأنهم أدركوا أن ما ينتظرهم يحتاج إلى اتحادهم أكثر من أي وقت مضى.
لم يكن خالد أو سالي مدركين أن الظروف الحزينة التي يمر بها المنزل ستقرب بينهما أكثر في المستقبل، رغم هشاشة العلاقة التي جمعت بينهما في البداية. غير أن هذه العلاقة، وإن بدت هشة، كانت تزداد قوة بمرور الأيام، وكأنها تكتسب في نواتها صلابة غير متوقعة أو ملموسة.
في أحد الأيام، وجد خالد نفسه يسألها عن الحضانة التي سيلتحق بها الصغار، ثم قرر في النهاية أن يتولى بنفسه مهمة تقديم أوراقهم. لم تتدخل سالي، بل اكتفت بإبداء رأيها دون أن تعرض أي مساعدة إضافية قد يرفضها خالد، فذلك ما اتفقا عليه مسبقًا. ورغم ذلك، شعرت بسعادة خفية لأنه لجأ إليها وأخذ رأيها في الأمر.
ونجح خالد في تسجيل الأطفال الصغار في الحضانة، مما خفف العبء قليلاً عن السيدة منى، التي أصبحت مسؤولة عن المنزل في غياب أصحابه. ومع ذلك، ورغم أن الأجواء بدت أكثر هدوءًا، إلا أن هذا الهدوء لم يكن سوى السكون الذي يسبق العاصفة، فالأيام القادمة كانت تخبئ أحداثًا لم يتوقعها أحد.
***
في ذلك اليوم، عادت سالي إلى المنزل بعد يوم طويل قضته مع السيدة أنيسة، وبعد ساعة، وبينما كانت تتهيأ للنوم، سمعت طرقًا خفيفًا على باب غرفتها. نهضت متثاقلة وفتحته، لتجد ليلى واقفة أمامها:
"ليلى؟ لماذا لم تذهبي إلى سريرك بعد؟".
ألقت سالي نظرة على ساعتها قبل أن تضيف بنبرة قلقة:
"الوقت متأخر جدًا".
تمتمت ليلى بصوت خافت:
"أريد أن أتحدث معك".
فتحت سالي الباب على الفور وأفسحت لها المجال:
"بالطبع، تفضلي".
جلست ليلى على الأريكة بأدب، لكن ملامحها كانت مشحونة بالحزن والقلق. نظرت إليها سالي باهتمام وسألتها بلطف:
"ليلى، أخبريني، هل هناك شيء يشغلك؟".
رفعت الطفلة رأسها ونظرت إليها بعينين متسائلتين قبل أن تهمس:
"دكتورة، ماذا سيحدث لو رحلت ماما؟ هل سيتركنا أبيه أيضًا؟".
شعرت سالي بارتباك مفاجئ أمام السؤال المباغت، ولم تجد إجابة فورية تطمئن بها الصغيرة. فنهضت على الفور لتجلس بجوار ليلى وتسألها باهتمام:
"لماذا تفكرين في هذا يا ليلى؟".
أخفضت الفتاة عينيها للأسفل بقلق وأجابت:
"أنا أفكر في ذلك طوال الوقت، وعندما أفكر أشعر بالرعب الشديد، وأحياناً لا أستطيع النوم أبداً".
تلألأت عيون ليلى بالدموع، وأكملت:
"لو ماما رحلت، بالتأكيد هو سيرحل، لأننا في النهاية أيـ..".
قاطعتها سالي فورًا قبل أن تُكمل جملتها المتوقعة:
"من قال إنه سيتخلى عنكم؟ أنتم عائلته الوحيدة، وكل حياته. مستر خالد لا يستطيع الابتعاد عنكم ولو ليوم واحد".
فكرت سالي وهي تتأمل الفتاة الخائفة والحائرة، كان الأمر واضحاً لها أن تأخذ الصدمة مثل هذا الحيز النفسي والفكري من قلوب وعقول الأطفال، بالتأكيد الأمر سيؤثر، ولكن الأقتراب من عالم الطفل النفسي، سيظهر كم أن الأمر حقاً معقد ومتشعب، والتصرف معهم يجب أن يكون بحكمة.
ترددت ليلى للحظة، ثم قالت بصوت خافت: "لكن عندما أفكر أتساءل دائماً لماذا هو أبيه وليس بابا؟ لماذا لا نناديه بابا؟"
نظرت ليلى إلى سالي المصدومة وقالت بخجل:
"أنا أفكر فقط".
نظرت إليها سالي بدهشة، وتساءلت هل يفتقد الأطفال تعبير الأب، أم هم يشكون في معنى الأبوة لديهم؟ عدلت سالي شعرها بتوتر وأجابت برفق:
"لا يهم الاسم، بل ما تشعرون به تجاهه".
"أخي الأكبر، هذا ما تقوله لنا ماما دائماً، أن أبيه خالد هو أخونا الأكبر، وعلينا أن نتعامل معه كأخوته الصغار".
ضيقت سالي عينيها وسألت بفضول:
"أخبريني يا ليلى، كيف تشعرين تجاهه؟".
عندما لاحظت الحيرة على ملامح ليلى، فسرت سؤالها بعدها بلحظات:
"سأبسطاها لك.. عندما يعود أبيه خالد كل يوم من العمل، كيف تشعرين؟".
أجابت ليلى دون تردد:
"أشعر بالسعادة لأنه عاد أخيرًا إلى البيت".
سألتها سالي برفق:
"وماذا أيضًا؟ ماذا يعني لكِ وجوده أو غيابه عن المنزل؟".
فكرت ليلى قليلًا قبل أن تقول:
"عندما يغيب أو يسافر، أشعر بأن هناك فراغًا بيننا جميعًا، وكأن المنزل ينقصه شيء مهم".
ساد الصمت للحظة، ثم تأملت الفراغ أمامها بحيرة قبل أن تلمع عيناها وكأنها أدركت شيئًا جديدًا:
"هل تعرفين؟ أحيانًا أشعر وكأن البرد والظلام يخيمان على البيت بأكمله في غيابه."
توقفت قليلًا، ثم أكملت بصوت أكثر دفئًا: "لكن عندما يعود، أشعر وكأن المنزل يضيء ويعود دافئًا كما كان. أنا أحب أبيه خالد جدًا، أحبه لدرجة أنني لا أستطيع تخيل المنزل بدونه."
ابتسمت سالي، وقالت بهدوء: "هذا هو الأمان يا ليلى. أنتِ تشعرين بالأمان مع أبيه خالد إلى حد أنكِ لا تستطيعين تخيل الحياة من غير وجوده."
ثم تابعت بصوت دافئ، وكأنها تحاول نقش كلماتها في قلب الفتاة الصغيرة:
"الأمان هو أن يعود أبيه كل يوم بعد العمل، ليجلس معكم على المائدة، يشارككم الحديث والضحك، وكأنه يقول لكم: أنا هنا، لن أذهب إلى أي مكان.
الأمان هو أن تجدي كل ما تحتاجينه متوفرًا، دون أن تقلقي بشأن الغد.
هو أن تخطئي، فتجدين التوجيه والعقاب حين يلزم، لكن الحب والاحتواء دائمًا.
هو أن تنامي كل ليلة مطمئنة، لأن هناك من يسهر على راحتك.
هو أن يكون بجانبكِ عندما تمرضين، وألا تشعري بالوحدة أبدًا.
هو أن تجدي من يرشدكِ عندما تشعرين بالحيرة، من يمسك بيدكِ في الأوقات الصعبة.
عندما يغيب الأمان، يغيب كل ذلك معه.. فتشعرين بتلك المشاعر التي وصفتها حين لا يكون هنا".
نظرت إلى ليلى بعطف، وأضافت:
"وهذا هو جوهر علاقتكم بأبيه خالد.. أن يمنحكم هذا الشعور بالأمان، مهما كان اسمه: أبيه، بابا، أو حتى أخي، وأنا واثقة أنكِ لو أعدتِ التفكير في أيامكِ، ستجدين مئات الأمثلة. أليس كذلك؟".
أومأت ليلى بصمت، بينما أضافت سالي بنبرة جمعت بين الحزم واللطف:
"لكن هل فكرتِ يومًا في أبيه خالد الذي يمنحكم كل هذه المشاعر؟ هل تظنين أن من يهبكم هذه الحياة سيستطيع ترككم بهذه السهولة؟ إنه الركيزة التي تستندون إليها في هذه الحياة، وهو يدرك تلك المسؤولية جيداً".
خفضت صوتها قليلًا وهمست:
"سأخبركِ بسر.. أبيه خالد يحتاجكم إلى جانبه تمامًا كما تحتاجونه أنتم. هو يعاني ويتألم، لكنه يخفي ذلك عنكم، لأنه لا يريد أن يثقل قلوبكم بالمزيد من الحزن".
تنهدت سالي، ثم أكملت برفق:
"لذلك، بدلًا من الخوف من فقدانه، لما لا تساعدونه جميعًا على تجاوز ما يمر به الآن بسبب مرض ماما؟ هو أيضًا يا ليلى.. يشعر بالأمان في وجودكم. أنتم جميعًا عائلة، وتحتاجون إلى بعضكم البعض في مثل هذه الظروف الصعبة. لا أحد يمكنه مواجهة الألم وحده، لا أنتم ولا مستر خالد. الأمان الحقيقي في مثل هذه الظروف هو وجود من نحبهم إلى جانبنا، نساندهم ويساندوننا".
رفعت ليلى عينيها الممتلئتين بالرجاء وسألت بصوت مرتجف:
"هل أنتِ واثقة أنه لن يرحل ويتركنا؟".
تألقت دموع سالي في العتمة، وهي تدرك أن الصغيرة ما زالت تبحث عن طمأنينة تُبدد مخاوفها.
مدّت يدها برفق، ومسحت على شعر ليلى بحنان، ثم همست:
"ثقي بذلك، يا ليلى".
نظرت الطفلة إليها بعينين قلقتين، ولم تتردد سالي في ضمها إلى صدرها، محاولةً منحها دفئًا يمحوا جزءًا من مخاوفها، لكنها في ذات الوقت شعرت بوخزة في قلبها. لم تكن تتوقع أن الوحدة قد تسللت إلى قلوب الصغار بهذه السرعة، الأمر كان محزنًا بحق.
ابتعدت قليلًا، أمسكت بكتفي ليلى، ونظرت في عينيها مباشرةً، ثم قالت بثبات:
"ليلى، لا أريدك أن تخافي أبدًا، أبداً!"
كانت كلماتها موجهة للطفلة، لكنها شعرت أن قلبها هو من يحتاج إلى هذا الاطمئنان أكثر. ضربات قلبها تسارعت وكأنها تحاول تهدئة نفسها هي لا الطفلة الصغير.
وكانت تلك مجرد البداية، إذ بدأت مشاكل الأولاد تتفاقم منذ ذلك اليوم، متخذةً منحًى خطيرًا أصبح من الصعب السيطرة عليه.
***
بعد يومين، عادت سالي من المستشفى، ووجدت السيدة منى بانتظارها عند باب المنزل، وعلامات القلق بادية على وجهها. ما إن رأتها حتى بادرت بالقول بصوت آمر ولكنه متوتر:
"دكتورة، تعالي هنا بسرعة، أريد التحدث معك في أمرٍ مهم."
شعرت سالي بالضيق من نبرة منى المتعالية والفظة، لكنها تمالكت نفسها وتجاهلت الأمر، ثم سارت معها إلى ركن هادئ يتيح لهما الحديث براحة. وما إن جلستا حتى بادرت منى بقلق واضح:
"أنا قلقة على أحمد".
عقدت سالي حاجبيها في استغراب:
"أحمد؟".
أومأت منى بجدية:
"نعم، الولد تصرفاته لم تعد طبيعية في الفترة الأخيرة".
ردت سالي بنبرة هادئة:
"هذا أمر متوقع، فالأطفال يمرون بصدمة عاطفية بسبب مرض السيدة أنيسة".
هزت منى رأسها رفضًا:
"لا، لا، الأمر مختلف مع أحمد تحديدًا. أنا متأكدة أنه يخفي شيئًا عنا".
سألتها سالي بحذر:
"وما الذي يجعلك متأكدة من ذلك؟"
نظرت منى حولها للحظة، وكأنها تتأكد من عدم وجود أحد يسمعهما، ثم أخرجت من جيبها رزمة من النقود ومدّتها نحو سالي قائلة:
"انظري إلى هذا، وجدته في حقيبة أحمد المدرسية".
حدقت سالي في المبلغ بدهشة، بينما تابعت منى بقلق:
"ثلاثون ألف جنيه! يا إلهي! ماذا يفعل فتى في السادسة عشرة من عمره بمثل هذا المبلغ؟".
بدت الصدمة على وجه سالي، لكنها تمالكت نفسها وتمتمت بتردد:
"ربما.. ربما قام بادخارها؟".
ضحكت منى بسخرية:
"مستحيل يا دكتورة! مصروفه اليومي لا يسمح له بادخار حتى عُشر هذا المبلغ".
كانت سالي متأكدة أن تخمينها لم يكن منطقي ولكنها حاولت إيجاد مبررات للولد:
"إذاً.. ربما يخص أحد زملائه؟"
قاطعتها منى بنبرة جازمة:
"دكتورة! فكري منطقيًا. أي مراهق في عمره يمكن أن يحمل هذا المبلغ معه؟ لا بد أنه سرقه، ربما من هنا. تذكري أن رواتب الموظفين كانت ناقصة قبل فترة، والسيدة..".
تدخلت سالي بحدة قبل أن تكمل منى جملتها:
"لا! أحمد فتى مهذب، لا يمكن أن يفعل ذلك."
زفرت منى بضيق:
"إنه مراهق، وأحيانًا يرتكب المراهقون أخطاء. علينا مواجهته."
ضغطت سالي أصابعها على صدغيها مفكرة، ثم قالت:
"لا أعلم، لكن في كل الأحوال، ليس من حقكِ أخذ المال من حقيبته. ولماذا كنتِ تفتشينها من الأساس؟"
أشاحت منى بوجهها متجاهلة السؤال، ثم قالت بإصرار:
"المهم الآن أن نعرف من أين جاء بهذه النقود."
تنهدت سالي بإنهاك وسألتها:
"لماذا تخبرينني أنا؟ من الأفضل أن تخبري مستر خالد، فهو ولي أمره، وسيعرف كيف يتصرف."
تجمدت ملامح منى لوهلة، ثم قالت ببرود:
"أنا وخالد لا نتحدث، كما أنه مشغول ولا أريد أن أزعجه بالمزيد من المشاكل."
رفعت سالي حاجبها باستغراب:
"هذا تصرف غير مسؤول منك، خاصة عندما يكون الأمر متعلقًا بأحد الأطفال."
نظرت إليها منى بنظرة حادة قبل أن تقول:
"إذن، أخبريه أنتِ."
اتسعت عينا سالي في دهشة، وأشارت إلى نفسها متسائلة ببراءة:
"أنا؟ لكن ما علاقتي بهذه المشكلة؟ أنتِ من فتشتِ في حقيبة الولد واكتشفتِ الأموال! كان يجب عليكِ تركها في مكانها وإبلاغ مستر خالد بشكوكك، لا أن تأخذيها ثم تطلبي مني إخباره بالأمر! الآن، أنتِ المسؤولة عن الأطفال أمام السيدة أنيسة ومستر خالد، وليس أنا!"
نهضت منى بعنف وقالت بحزم:
"إذًا، سأواجه الولد بنفسي!".
وقفت سالي بسرعة وأمسكت بها، قائلة بقلق:
"انتظري.. انتظري! لا داعي للعجلة".
نظرت إليها منى بحدة وسألتها باستنكار:
"ماذا الآن؟".
تنهدت سالي بإحباط وقالت:
"الأمر ليس بهذه البساطة، علينا التفكير جيدًا قبل التصرف. مفاجأة الولد بهذه الطريقة قد تخيفه ولا تؤدي إلى نتيجة جيدة."
أخفضت سالي نظرها إلى الأموال وقالت بيأس:
"لقد أخذتِ الأموال بالفعل، وانتهى الأمر.. وأعتقد أنه من الصعب إعادتها الآن، فالأطفال في غرفهم، وربما أحمد أدرك أنها اختفت."
تساءلت منى بقلق:
"إذًا، ما الحل؟ كيف نتصرف؟".
ردت سالي بعد تفكير:
"ننتظر للغد.. نراقب كيف سيتصرف أحمد، وأنا سأخبر مستر خالد بنفسي."
ترددت منى قبل أن تسأل:
"وماذا تتوقعين؟ كيف سيتصرف أحمد؟".
نظرت سالي إلى الأموال في يدها، وقالت بحيرة:
"لا أعلم، حقاً لا أعرف، لا يمكننا القفز إلى الاستنتاجات دون دليل. علينا أن نراقب تصرفاته أولًا، ونتأكد قبل اتخاذ أي إجراء، لذلك سننتظر ونرى ما سيحدث غدًا."
***
في غرفة أحمد ورحيم، أفرغ أحمد حقيبته بجنون، يقلب محتوياتها بيدين مرتجفتين، يفتش بين كتبه وأوراقه بلهفة هستيرية. المبلغ الذي اقترضه من أحد أصدقائه في اللعبة اختفى! شعر بعرق بارد ينزلق على جبينه، وقلبه ينبض بعنف. كيف يمكن أن يختفي المال؟!
راقبه رحيم بقلق، مستغربًا سلوكه الغريب، وسأله بفضول:
"ماذا تفعل؟".
رفع أحمد رأسه، وعيناه الجاحظتان تعكسان اضطرابه. للمرة الأولى، رأى رحيم أخاه بهذا الشكل. شاحب الوجه، العرق يتصبب منه، ونظراته زائغة.
تمتم أحمد بصوت خافت:
"لا.. لا شيء.. فقط أبحث عن شيء ضاع مني."
راقبه رحيم بحذر، وسأله بإلحاح:
"ما هو؟ سأساعدك في البحث عنه".
اتسعت عينا أحمد للحظة قبل أن يهز رأسه بسرعة:
"لا.. لا داعي لذلك، سأجده بالتأكيد".
لكن رحيم لم يقتنع، فنهض من سريره وتعلق بكرسيه المتحرك واقترب من أحمد أكثر، مصممًا على معرفة ما يحدث:
"أحمد، ماذا هناك؟ هل تواجه مشكلة؟ أخبرني".
تردد أحمد للحظات، ثم همس بصوت باهت:
"لا".
قبل أن يمنح رحيم فرصة لسؤاله مجددًا، خرج أحمد من الغرفة كمن يتحرك بلا وعي، صعد الدرج متوجهًا إلى الطابق العلوي، حيث غرفة خالد. وقف أمام الباب وبدأ يطرقه مرارًا، رغم أنه كان يعلم أن خالد في المستشفى مع أمه. لكن شيئًا ما في داخله دفعه إلى البحث عنه، كأنه الوحيد القادر على إنقاذه من هذا المأزق.
المبلغ الذي استدانه اختفى، لم يعد موجودًا في الحقيبة! والآن، أصبح مدينًا بالمبلغ ذاته لشخصين! الخسارة تضاعفت! كيف سيسدد هذا الدين؟! المبلغ كبير جدًا، ولا يملك وسيلة لتعويضه.
شعر بضيق حاد في صدره، وكأن الهواء يختفي من حوله. رفع يده المرتجفة إلى صدره، وأحس بوخزة مؤلمة جعلته ينهار على الأرض، يلهث بصعوبة. بدا له أن الدم ينسحب من جسده، وأطرافه تبرد. وقبل أن يغمض عينيه بألم، شعر بيد قوية تسحبه بلطف وتضمه إلى صدرها.
"اهدأ.. وتنفس ببطء".
كان ذلك صوت سالي الهادئ، نبرة ثابتة تحمل طمأنينة غريبة. فتح أحمد عينيه بصعوبة، ونظر إليها بدهشة، فرأى ابتسامتها المطمئنة. تحدثت بلطف، ناظرة في عينيه مباشرة:
"ركز على تنفسك، يا أحمد.. شهيق، زفير.. هيا، افعلها معي ببطء".
كانت سالي في طريقها إلى غرفتها، عندما رأت القطة 'نوّنوّ' تموء امام الدرج الذي يؤدي إلى الطابق العلوي الفارغ من صاحبه.
سمعت سالي صوت طرق على الباب في الأعلى فصعدت بخطوات غير متزنة والقطة تسبقها، لكن ما رأته عند وصولها جعل قلبها ينقبض. كان أحمد يستند على الباب بجسد يرتعش، يده التي قبضت على صدره، نظرات الرعب في عينيه.. هذا الفتى على حافة الانهيار! بل معرض لأكثر من ذلك.
مسحت على ظهره برفق، وهمست:
"لا تقلق يا أحمد.. كل شيء سيمر على خير.. فقط اهدأ".
بدأ جسده يرتجف أكثر، ثم انطلق صوته المتشنج، محملًا بالخوف الذي حاول إخفاءه طويلًا:
"أنا خائف!".
أجابت سالي بثقة، وهي تشد قبضتها على كتفه بلطف:
"لا تخف."
أخرجت سالي هاتفها من جيبها واتصلت بحسن الذي جاء صوته خافتاً:
"نعم؟".
"حسن اصعد إلى الطابق العلوي بسرعة، احتاجك".
لم تمر دقيقة كاملة ورأت سالي حسن يقف أمامها بذهول:
"ماذا حدث؟".
كان الفتى قد فقد وعيه بين ذراعي سالي التي همست:
"ساعدني بسرعة يا حسن".
ساعد حسن سالي في نقل أحمد إلى غرفته، بينما كانت تراقب أنفاس الفتى بقلق شديد. لم تستطع منع نفسها من الشعور بالذعر وهي تفكر في أن قلبه ربما كاد يتوقف من شدة الخوف، فقد كان شاحب الوجه، يتصبب عرقًا، واضعًا يده على صدره بألم. حمدت الله في سرها لأنها كانت في المكان والوقت المناسبين.
بعد دقائق من التوتر، بدأ أحمد يستعيد وعيه، فشعرت سالي ببعض الارتياح. طلبت من رحيم الانتقال إلى غرفة أخرى، لتسمح لحسن بالبقاء معها تحسبًا لأي طارئ. جلست بجوار السرير تراقب أنفاس أحمد بدقة، وحين استيقظ أخيرًا، نظر إلى الجميع بهدوء غامض، ثم سحب الغطاء على نفسه وانكمش دون أن ينبس بكلمة.
في منتصف الليل، وجدت سالي نفسها ممسكة بهاتفها تتصل بخالد دون تفكير، لكنها سرعان ما ترددت، خشية أن يكون نائمًا فتزعجه. وبينما كانت تستعد لإنهاء المكالمة، جاءها صوته الهادئ:
"دكتورة؟".
تجمدت للحظة من المفاجأة، ثم سمعت صوته يسأل:
"هل هناك مشكلة؟"
ترددت للحظات قبل أن تهمس:
"مستر خالد، أعتذر إن كنت قد أيقظتك."
"لا تقلقي، لم أنم بعد. هل الأطفال بخير؟"
أجابت سالي بصوت يائس:
"لا أعلم."
شعرت بحركة خفيفة في صوته وكأنه لا يريد لأنيسة أن تسمعه:
"ماذا حدث؟ هل عليّ العودة؟".
"لا، لا! فقط حدث شيء غريب اليوم وأردت أن أخبرك به".
بدأت سالي تحكي لخالد عن الأموال التي كانت في حقيبة أحمد، وكيف انتهى به الأمر إلى الإغماء. استمع خالد بصمت، ثم سأل بقلق:
"هل هو بخير؟ أقصد، هل أنتِ متأكدة أنه لا يحتاج للذهاب إلى المستشفى؟".
"لا تقلق، هو بخير، سأصحبه غدًا لإجراء بعض الفحوصات، لكن..".
سأل بقلق:
"لكن ماذا؟".
ترددت قبل أن تقول:
"ماذا عن تلك الأموال؟ ماذا سنفعل بها؟".
أجاب خالد بحزم:
"انتظري حتى الغد، سأكون هناك في الصباح وسأتولى الأمر".
همست سالي:
"حسنًا".
ثم جاء صوت خالد خافتًا لكنه ملح:
"دكتورة".
"نعم؟".
"أرجوك، لا تتركي أحمد وحده الليلة، كوني بجواره. هذا رجاء".
ردت سالي بثقة:
"أنا بالفعل بجواره، لا داعي للقلق".
تنهد خالد قائلاً:
"أشكركِ كثيرًا".
عادت سالي وجلست على كرسي بجوار سرير أحمد، تراقب أنفاسه الهادئة. لكنها سرعان ما شعرت بحركة خفيفة توحي بأنه مستيقظ، فمالت نحوه وهمست:
"أعلم أنك مستيقظ".
انتظرت لحظات قبل أن تتابع بصوت هادئ:
"أدرك أنك تمر بمشكلة صعبة، وأريدك أن تطمئن. لست وحدك، لكننا بحاجة إلى أن توضح ما يحدث معك".
ثم، وبعد برهة، سألت مباشرة:
"أحمد.. هل تراهن؟".
رأت جسده ينتفض للحظة، وكأنها أصابت الهدف. لم تكن متأكدة، لكن شكوكها تأكدت وهي تتذكر ما قرأته عن تطبيقات المراهنات التي تجذب الكبار والمراهقين وحتى الأطفال، مشكلة متنامية تهدد المجتمع. ومثل هذا المبلغ الذي كان بحوزته ربما يكون دليل على اشتراكه في مثل تلك التطبيقات.
حاولت مرة أخرى، بصوت أكثر إلحاحًا:
"أحمد، أرجوك، أخبرني الحقيقة. من أين حصلت على هذه الأموال؟ يجب أن نواجه الأمر معًا قبل فوات الأوان".
لكن الصمت كان جوابه الوحيد. زفرت سالي بيأس، وأدركت أنه لن يتحدث الليلة، فآثرت التراجع دون إضافة المزيد.
تأملت سالي الغطاء الذي يختبئ تحته أحمد، وأخذت تفكر بعمق. مشاكل الأطفال لا تنتهي، بغض النظر عن ظروفهم أو طبيعة حياتهم. فالتحديات التي يواجهها طفل يعيش بين أبوين حاضرين لا تختلف كثيرًا عن تلك التي يواجهها طفل يتيم، وكذلك الفقير والغني، جميعهم يدورون في فلك واحد من المخاطر والاختبارات. وفي هذا الزمن الخطير، إن لم تتم السيطرة على الأطفال بحكمة واعتدال، فقد تنجرف الأسرة بأكملها إلى هاوية لا يمكن الخروج منها.
لكن.. هل كان أحمد حقًا متورطًا في الرهانات؟ تمنت بكل جوارحها أن تكون مخطئة، إلا أن سؤلاً واحدًا ظل يلح عليها: من أين حصل على كل تلك الأموال؟ خاصة أنه يرفض الإفصاح عن مصدرها.
شعرت بالشفقة على أنيسة وخالد، فالمسؤولية الملقاة على عاتقهما ضخمة، والآن، بغيابهما، باتت السيطرة على الأطفال أكثر هشاشة.
تنهدت وهي تدرك أن عليها أن تبذل كل ما بوسعها للمساعدة خلال فترة وجودها في هذا المنزل.
***
في السادسة صباحًا، كان الصمت يلف الغرفة كستار ثقيل. تحرك أحمد أخيرًا، رافعًا الغطاء عن رأسه، ثم التفت ببطء إلى الخلف. كانت سالي لا تزال هناك، لكنها غارقة في النوم، وذراعاها متشابكان بينما يميل رأسها قليلًا مستندًا إلى كتفها. بقي يراقبها للحظات طويلة، ثم نهض بحذر من سريره، متجنبًا أي حركة قد توقظها أو توقظ حسن النائم على سرير رحيم.
التقط هاتفه بصمت، ثم انسحب من الغرفة بخطوات تكاد لا تُسمع. عبر الممرات المعتمة حتى بلغ باب المنزل وخرج، ثم ودون أن يدرك أن هناك من يتبعه إلى الخارج، فتح البوابة الحديدة الخارجية بحذر، محاولًا كتم صوت الصرير حتى لا ينتبه عم حمدي النائم في ملحقه. وما إن وجد نفسه في الخارج، حتى أطلق ساقيه للريح، يركض في الشارع بلا وجهة محددة، كمن يهرب من شيء يطارده.
فتح أحمد هاتفه، ليجد سيلًا من الرسائل المتتابعة من صديقه، ذاك الذي يشاركه الورطة. زفر بعمق، ثم ضغط على زر الاتصال. لم يطل الانتظار، وبعد دقيقة جاءه صوت الآخر ناعسًا لكنه متلهفًا، وكأنما استيقظ فجأة على أمل سماع خبر جيد.
"أحمد، أين أنت؟ هل أحضرت الأموال؟ الشباب ينتظروننا بعد المدرسة!".
بدا صوت صديقه متوترًا، مستعجلًا. لكن أحمد لم يشاركه الحماس، بل قال بخدر:
"الأموال ليست معي".
ساد صمت قصير، قبل أن يأتي الرد مصحوبًا بغضب مكبوت:
"ليست معك! ألم أسلمك المبلغ بالأمس، تلك الأموال تخص أبي، هل ضاعت منك؟!".
ارتفع صوت الصراخ في أذنه، فرفع أحمد يده فورًا ليخفض الصوت، وكأنه يحاول إخماد التوتر الذي ينهش أعصابه. مرر أصابعه في شعره بانفعال، ثم قال محاولًا التماسك:
"لا، لا، لكن.. ليس معي الآن".
"ما الذي تقوله! الموعد اليوم بعد المدرسة! هل تدرك العواقب إن لم نحضر الأموال؟".
أحمد ابتلع ريقه، ثم قال بحدة، وكأنه يحاول قطع الطريق على مخاوفه قبل أن تتسلل إليه:
"لن نذهب".
لكن صديقه انفجر في المقابل، وكأن هذه الكلمات فجرت داخله كل الرعب المكتوم:
"لن نذهب؟ هل تظن أنهم سيمررون الأمر؟ هؤلاء ليسوا مجرد أطفال يعبثون! إن لم نحضر الأموال، سيعثرون علينا.. وربما يؤذوننا!"
لم يرد أحمد، فقط استمر في الصمت، مستمعًا لصوت أنفاس زميله المتوترة على الطرف الآخر، قبل أن يعود الأخير ليتنهد بعمق، محاولًا التفاوض:
"حسنًا.. لنتقابل اليوم في المدرسة ونتفاهم".
لكن أحمد كان قد اتخذ قراره بالفعل. رد ببرود:
"لن آتي إلى المدرسة".
جاء صوت الآخر غاضبًا، متوسلًا ومتطلبًا في آن واحد:
"يجب أن تأتي! علينا أن نتحدث ونعثر على حل!".
لكن أحمد كان قد حسم أمره، قالها بجفاف قبل أن يغلق الهاتف دون انتظار رد:
"لن آتي!".
ثم دفع الهاتف في جيبه، ورفع رأسه إلى الأمام. هذه المرة، لم يكن يسير بلا هدف. هذه المرة، كان يعرف بالضبط إلى أين عليه أن يذهب.
عند الساعة السابعة والنصف صباحاً، عاد خالد أخيرًا. وقفت سالي أمامه بوجه شاحب، وعيناها تحملان قلقًا لم تحتج إلى التعبير عنه بالكلمات، قبل أن تنطق بصوت مضطرب:
"أحمد اختفى.. وليس وحده، بل حسن أيضًا".
توقف الزمن لثوانٍ، قبل أن يقطعه صوت نحيب السيدة منى، التي كانت تجوب المنزل يائسة وتنادي باسميهما دون إجابة. وقد كان انهيارها مبررًا تمامًا.
لم ينتظر خالد لحظة، واندفع يبحث في كل زاوية، في غرفهم، وفي كل ركن وزاوية. أنفاسه كانت تتسارع مع كل باب يفتحه ولا يجد خلفه أثرًا لهما. أما الأولاد الآخرون، فقد كانوا يراقبونه برعب، وكأن اختفاء أحمد وحسن في مثل هذا الوقت كان بداية لشيء أكثر رعبًا يوشك أن يحدث. لكن رغم كل محاولاته، لم يكن لهما أي أثر.
اقتربت منى من خالد بخطوات متثاقلة، وعيناها غارقتان في الدموع. أمسكت ياقة معطفه بتوسل وهمست بصوت مرتجف:
"أرجوك، ابحث عن حسن وأحمد.. أرجوك يا مستر خالد، لا أشعر بالراحة لاختفائهما".
كانت ملامحها تعكس انهيارًا تامًا، فمد خالد يده برفق، وأمسك بقبضتها التي تشبثت بمعطفه، ثم أبعدها بلطف وهو يقول بثبات:
"لا تقلقي، سأجدهما".
ثم استدار على الفور، وأخرج هاتفه من جيبه، وضغط سريعًا على رقم محمود. ما إن سمع صوته حتى قال بجدية:
"محمود، تعال فورًا.. هناك أمر طارئ في المنزل".
***
محاولًا البقاء دون أن يلفت انتباهه، سار حسن خلف أخيه بخطوات حذرة، متتبعًا إياه في صمت. كان فضوله ممزوجًا بشعور من القلق؛ إلى أين يمكن أن يذهب أحمد في هذه الساعة المبكرة، بينما الشوارع لا تزال شبه خاوية؟
لطالما شعر حسن بمسؤولية تجاه إخوته، بصفته الأكبر بينهم، وكان هذا الشعور هو ما يدفعه دائمًا للتدخل في مشاكلهم، حتى عندما لا يطلبون ذلك. والآن، وهو يراقب أحمد يمضي في طريق غير معلوم، أدرك أنه لا يستطيع التراجع.. كان عليه أن يعرف ما الذي يخطط له في مثل هذا الوقت المبكر. استمر في تتبعه بحذر، محاولًا البقاء في الظل حتى لا يشعر بوجوده. لم يكن الأمر مجرد فضول، بل إحساس داخلي يلح عليه بأن ثمة شيئًا خطيرًا يدور في الخفاء، وأنه لا يستطيع أن يقف مكتوف اليدين.
تابع خطواته بصمت حتى رأى أحمد يدخل أحد الأسواق المزدحمة، ثم يتجه إلى محل لبيع المبيدات الحشرية. لم يمضِ وقت طويل حتى خرج أحمد من المحل، يده مخبأة في جيبه، مما زاد من حيرة حسن. لم يكن يعرف ما الذي اشتراه شقيقه، لكن القلق بدأ يتفاقم في قلبه دون سبب واضح.
ظل حسن يراقب أحمد بتركيز شديد، وعيناه لا تفارق تحركاته. وفي تلك اللحظة، انبعث صوت رنين هاتف أحمد أكثر من مرة، لكنه تجاهل المكالمات عمدًا، حتى قرر أخيرًا الرد. وبعد إنهاء المكالمة، بدا أن شيئًا ما قد تغيّر في أحمد، إذ غيّر مساره فجأة. تابع حسن خطواته بحذر، وسرعان ما أدرك وجهته الجديدة، لقد كان متجهًا نحو المدرسة.
***
خلف جدران المدرسة، وقف أحمد بجوار زميله في مواجهة مجموعة من الشباب الذين يكبرونهم سنًا. كان واضحًا من ملامحهم وملابسهم أنهم ينتمون إلى بيئة مختلفة تمامًا.
سأل أحدهم بنبرة صارمة:
"أين الأموال؟"
شعر زميل أحمد بالتوتر، فتراجع خطوة إلى الخلف، دافعًا أحمد ليكون في الواجهة. ظل أحمد واقفًا بثبات غريب، هادئًا على نحو مريب، لكن السؤال تكرر بصوت أكثر حدة:
"أين الأموال التي أقرضناها لكم؟ خمسة وعشرون ألفًا، يُضاف إليها خمسة آلاف أخرى."
همس زميله وهو ينكزه في ذراعه:
"تكلم... أنت المسؤول عن هذا."
رمقهم الشاب بنظرة ساخرة قبل أن يقول:
"لا تخبرني أنكم لم تحضروها... هذا تصرّف معيب حقًا."
ازدادت وتيرة القلق، وزميل أحمد يهمس له بإلحاح:
"أحمد! تصرف، قل شيئًا!"
حينها، أدخل أحمد يده في جيبه، فتحفز الشباب على الفور، متأهبين لأي حركة غير متوقعة. ارتسمت على وجوههم علامات الريبة، وكأنهم يترقبون أي محاولة للخداع من هؤلاء الفتية الذين يرونهم مراهقين مدللين.
لكن قبل أن يُخرج أحمد ما في جيبه، باغته صوت مألوف ويد استقرت على كتفه بحزم:
"أحمد.. ما الذي يجري هنا؟"
استدار أحمد بسرعة، ليجد حسن يقف بجانبه، يحدّق في المجموعة بنظرة تملؤها العداوة والشك.
نهاية الفصل السادس والثلاثون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء👋🏻.. كل سنة وأنتوا طيبين، عاملين ايه في رمضان؟ يارب تكونوا مبسوطين بالأجواء الجميلة اللي عايشينها🌙❤️.
عودة بعد غياب طويل جداً، شكراً جداً جداً على صبركم، بتمنى مكونش طولت عليكم بس الفترة اللي فاتت كنت محتاجاها لنفسي علشان أقدر أرجع بكل طاقتي.
للأسف في أوقات بتمر علينا بنبقى مش قادرين نقوم حتى من السرير ودي مشاعر طبيعية بتحصل من فترة لفترة. ومفيش مشكلة نوقف كل حاجة ونحاول ناخد نفسنا ونستعد للتغير القادم لا محالة. المهم نرجع نقف على رجلينا ونكمل بكل الطاقة والمشاعر اللي عندنا، ودي سنة الحياة، الظروف بتمر والحياة بتكمل وأحنا لازم نجاري الحياة ونتغلب على تحدياتها. علشان كدة قررت آخد الفترة اللي فاتت أجازة من كل حاجة، وتكون فقط لنفسي أنا، والحمد لله بمرور الأيام اتعافيت وبقيت أحسن على الأقل اني أرجع أكمل اللي وقفته، وأرجعلكم بفصل وجزء جديد من رواية المنزل.
الحياة في المنزل هتتغير بس تفتكروا هتتغير ازاي؟
تابعوا معايا القصة علشان تعرفوا ايه اللي هيحصل.
بشكركم تاني على صبركم وان شاء الله الأحداث الجاية أحلى وهتعجبكم.❤️❤️
رمضان كريم. وشكراً على صبركم.
كاتبتكم ءَالَآء.
ومتنسوش تتابعوني على الانستجرام والتيكتوك أنا نشطة أكتر عليهم❤️
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.