الأربعاء، 1 يناير 2025

رواية المنزل: الفصل الثاني والثلاثون: حكاية أنيسة الجزء الثاني - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الثاني والثلاثون

* قبل ما ابدأ الفصل عايزة اقولكم كل سنة واحنا طيبين وسالمين وحلوين وكويسن في كل وقت وكل سنة وكل ايام ربنا. بمناسبة السنة الجديدة وبداية رجب.

* المزيكا انهاردة من أغنية "نبتدي منين الحكاية". عزف عمر خورشيد

"حكاية أنيسة" الجزء الثاني.

[الأربعاء، 8 سبتمبر 1965

آنستي الجميلة والغالية،

وصلتني رسالتك.. ولا أستطيع وصف مدى سعادتي بها تلك الرسالة الثمينة. لقد قرأتها مرات ومرات، في طريقي إلى الثكنة العسكرية، بكل جوارحي. كل كلمة خطتها أناملك لامست قلبي حتى حفظتها عن ظهر قلب. هذه الرسالة أصبحت أغلى ما أملك من كنوز الدنيا، وسأحتفظ بها في قلبي وخيالي إلى أن تأتيني منك رسالة أخرى. في الحقيقة.. كنت أتمنى سماع اعترافك بصوتك مباشرة، لكنني سأصبر نفسي بما لدي حتى يحين موعد لقائنا القادم.

أنا بخير، والحمد لله، ولكنك لا تفارقين فكري أبداً. إنك تسكنين بالي ليلاً ونهاراً. يا آنستي، هل تعلمين كم يتلهف قلبي لرؤيتك؟ كلما خطرتِ على بالي، تتسارع نبضاتي شوقاً، فأعتقد في لحظتها وكأنني سأترك كل شيء وأستقل أقرب وسيلة للوصول إليك، فقط لأراك ولو للحظة. أعلم أن هذا تفكير مجنون، ولكنني أقسم لك أن هذا هو شعوري دائماً. أحياناً أخشى أن أفقد السيطرة على نفسي وأتصرف باندفاع، غير مبالٍ بأي عواقب.

يا أنيسة، لم أتخيل يوماً أنني سأقابل امرأة تسلب لُبّي كما فعلتِ منذ لحظة لقائنا الأول. تلك اللحظة على شاطئ الإسكندرية، عندما لمحتك ترتدين فستاناً أصفر وتسيرين بخفة على الرمال. حمدت الله حينها أن المنديل سقط منك، ليكون حجة لي ويمنحني فرصة أن أعيده إليك وأفتح باب التواصل. عندما التفتِ إليّ، شعرت أنني قد وقعت في غرامك. كنت أنتظر منك كلمة، لكن ترددك وارتباكك أجبراني على الاستئذان والمغادرة، فأنا لم أقبل أن أكون سبباً في إحراجك أو خوفك كما ظهرت في تلك اللحظة.

في تلك الليلة، كنتِ بطلة أحلامي، والصورة التي لم تفارق خيالي. أردت بشدة أن أعود إلى ذلك المكان الذي جمعنا لأول مرة، لكن الخوف من أن أواجه فراغه بدونك كان أقوى مني. ظننت حينها أن لقاءنا لم يكن سوى صدفة عابرة، لحظة تمرّ في حياة شخصين قبل أن يفترقا إلى طرق مختلفة.

لكن القدر كان له رأي آخر. عندما لمحتك بعد أيام قليلة في نفس المكان، شعرت أنني أمام فرصة جديدة، وأنه لا يمكنني تجاهل ما بدا وكأنه إشارة من الحياة. اقتربت منك بشوق يختلط بالخوف من المجهول، ولكن لحظة ابتسامتك تلك بددت كل ترددي. كانت ابتسامتك أشبه بشمس أشرقت في حياتي، أضاءت كل شيء من حولي وجعلت قلبي ينبض بالحياة من جديد.

تحدثنا طويلاً ذلك اليوم، وكل كلمة منك زادت يقيني أنك المرأة التي طالما حلمت بها. كنتِ مختلفة، متفردة، مليئة بالبهاء والبساطة معاً. في تلك اللحظة، لم أعد أشك أنني أريدك إلى جانبي دائماً، شريكة حياتي وسيدتها.

أنيسة العزيزة، الكلام لم يعد يحلو إلا معك، هناك الكثير من الحكايات التي أود أن نتشاركها معًا، والكثير من الأحاديث واللحظات التي أعيد ترتيبها في ذهني كل يوم، في انتظار لقائنا القادم. لا أستطيع وصف مدى شوقي لهذا اللقاء، لكنني سأحاول الصبر برسائلك التي تمنحني الأمل.

رجائي الوحيد هو ألا تتوقفي عن الكتابة لي. أخبريني بكل جديد عنك، فكل حرف منك يحمل لي طمأنينة لا تقدر بثمن. وأنا، بدوري، سأحرص على أن أكتب إليك كلما سنحت لي الفرصة، لأطمئنك عن حالي وأبثك ما في قلبي.

أنتظر لقاءك بشوق لا يعرف الحدود، ولا تنسيني من دعواتك يا أغلى ما لدي.

كمال].

أتذكر جيدًا ذلك اليوم الذي استلمت فيه أول رسالة من كمال، ردًا على رسالتي

أتذكر جيدًا ذلك اليوم الذي استلمت فيه أول رسالة من كمال، ردًا على رسالتي. كنت أشعر وكأنني أفتح صندوقًا مليئًا بالكنوز الثمينة، وقلبي يرفرف عالياً من الفرحة والترقب. هل هناك شعور أجمل من الحب؟ لا أعتقد ذلك. إنه لشيء عظيم أن تتلاقى القلوب على نفس المشاعر، أن تعلمي أن الشخص الذي تحبينه وتفكرين فيه طوال الوقت يبادلك الحب والتفكير بنفس الشغف. هذا الإحساس يمنحك شعورًا خاصًا، كأنك تمتلكين سرًا جميلاً لا يشاركك فيه أحد سوى هذا الشخص الذي أصبح شريكًا في كل تفاصيل قلبك وأحلامك. إنها خصوصية لذيذة، تجعلكما عالماً صغيراً خاصاً بكما وحدكما.

قرأت الرسالة بعينين متألقتين وببطء متعمد، وكأنني أريد أن أعيش كل كلمة فيها بكل جوارحي. كنت أعيد قراءة كل فقرة أكثر من مرة قبل الانتقال إلى التي تليها، حتى حفظتها عن ظهر قلب مع انتهاء القراءة. لم أستطع الانتظار، فكتبت له ردي على الفور. وهكذا بدأت مراسلاتنا، التي حملت بين سطورها وعودًا وآمالاً لمستقبل مشرق كنا نحلم به معًا.

كنت أعد الأيام بلهفة في انتظار اليوم الذي ألتقي فيه كمال مرة أخرى. لكن عمله لم يكن سهلاً، خاصة مع ظروف الحرب التي شارك فيها الجيش في اليمن. كانت خطاباته تنقطع أحيانًا لشهر أو شهرين، تتركني في قلق لا نهاية له، ثم تعود لتطمئنني. كان يخبرني في رسائله أنه كان في مهمة خاصة مع الجيش، وكنت أجد في كلماته عزاءً وأملًا رغم بُعد المسافات وظروف الحرب.

في تلك الفترة، كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية في مصر متدهورة بشكل مؤلم. كنا نعيش في حالة تأهب دائم، نترقب الأخبار بقلق وخوف مما قد يأتي به الغد. جدي، كعادته، لم يكن يمر يوم دون أن يعبر عن غضبه واستيائه من أولئك الذين اعتبرهم السبب في وصولنا إلى هذا الوضع المتردي. كان يردد لعناته عليهم بلا توقف، وكلماته المفعمة بالحنق كانت تعكس إحساسًا عميقًا بالخيبة تجاه ما آلت إليه الأمور في البلاد.

ومر عام 1965 بسلام، غارقًا في دراستي بسنتي الثانية في الجامعة. كانت رسائل كمال العاطفية هي ما يصبرني على الشوق الذي يزداد يومًا بعد يوم. حتى وصلتني رسالته التي حملت وعدًا طال انتظاره؛ لقاء في نفس المكان الذي جمعنا لأول مرة.

وجاء ذلك اليوم، وكان الشتاء قد غطى الإسكندرية ببرودته وسحره الخاص. التقينا مرة أخرى، وكان اللقاء مليئًا بالعاطفة والشوق. شعرت وكأنني أراه لأول مرة، وكأن الزمن الذي مضى لم يكن سوى حلمٍ طويل. لكنني لاحظت شيئًا مختلفًا فيه؛ طبيعة عمله القاسية انعكست على ملامحه، فقد أصبح أكثر نحافة، وأكثر صلابة. بدت عليه ملامح رجل واجه الحياة بقسوتها، وكأنه كبر خمس سنوات منذ لقائنا الأخير.

كانت إجازته هذه المرة قصيرة، ثلاث أيام فقط، أقابله فيها بعد الجامعة. كنا نتحدث عن كل شيء، نتشارك اهتماماتنا، نتناول الطعام معًا، ونتبادل الأسرار. عشت كل لحظة معه بعمق، أحاول أن أمدد الزمن بيننا، أن أستفيد من كل ثانية، وكأنني أريد أن أشبع قليلاً من وجوده. لكن الأيام الثلاثة مرت بسرعة خاطفة، كما تمر اللحظات السعيدة دائماً، وتركتني أكثر عطشاً له مما كنت عليه.

عندما ودعني ورحل شعرت وكأنني استيقظت فجأة من حلم جميل على وقع رحيله. بكيت يومها بحرقة، وكأن قلبي يخبرني أنني قد لا أراه مرة أخرى. كان قلقي عليه طبيعيًا، فهو يعمل في ظروف تجعل حياته دائماً على المحك. كنت أحاول قدر الإمكان أن أتجنب قراءة الأخبار، على غير عادتي، خشية أن أرى اسمه في أعمدة النعي. لكن بفضل الله، كانت تمر الأيام بسلام. رسائله التي تصلني بين الحين والآخر كانت البلسم الذي يهدئ مخاوفي، وكأنه يهمس لي بين السطور: "لا تقلقي، أنا بخير".

أنهيت امتحانات نهاية العام وأنا مشبعة بالشوق للقاء كمال مرة أخرى خلال الصيف، كما جرت العادة في العام السابق. لكن هذه المرة، كانت رسائله تصلني متأخرة أكثر من المعتاد، مما زاد من لهفتي وقلقي. ومع ذلك، لم يخذلني، فقد وصلت رسالته أخيرًا، تحمل الخبر الذي انتظرته: سيأتي في إجازة قصيرة لمدة أسبوع.

وعاد كمال إلى الإسكندرية، وفي لقائنا المنتظر، شعرت بفيض من المشاعر التي لم أستطع وصفها. كان اللقاء مختلفًا هذه المرة؛ بدا كمال أكثر حسمًا واندفاعًا. وفي خضم الحديث، فاجأني بعرضه للزواج فورًا، وكأن اللحظة لم تحتمل التأجيل أو الانتظار:

"وافقي يا أنيسة، وسأكون الليلة في بيت جدك أطلب يدك. لقد عرضت الأمر على عائلتي، وهم مرحبون جدًا".

قالها بحماس وثقة، وكأن مستقبلاً مشرقًا ينتظرنا على عتبة الباب. نظرت إليه، والشوق يلمع في عينيّ، ممتزجًا بقلق خفي لا أستطيع إنكاره، وقلت:

"أنت تعرف إجابتي يا كمال، ولكن يجب أن أمهد للأمر. أخي أولاً، ثم جدي.. فلا أحد يعلم عن علاقتنا سوى جدتي".

لم يحتاج كمال إلى كلمة موافقتي، فإجابتي كانت صريحة وواضحة من أعماق قلبي. كان هذا هو الرجل الذي أريد أن أكمل حياتي معه. كنت أرغب في التمسك به، وأخطو معه بفستاني الأبيض نحو مستقبل سعيد يجمعنا في بيت واحد. كانت خططي واضحة في ذهني؛ أن نكون عائلة صغيرة ومثمرة تكبر وتزدهر مع مرور الزمان. لقد رسمت تلك الخطط بكل تفاصيلها وأغلقتها في قلبي، مؤكدة أن لا بديل لكمال في حياتي.

ولكن، ما إن يتبادر جدي إلى ذهني، حتى تتلاشى تلك الأفكار والأحلام بسهولة، وكأنها لم تكن سوى سراب.أمسك كمال بيدي بحنان، لكن نظراته كانت مليئة بالحيرة، وسألني بصوت خافت يحمل قلقه:

"لماذا أرى الخوف والتردد في عينيك يا أنيسة؟".

هززت رأسي بسرعة، محاولة أن أظهر له أنني صادقة، ثم أجبت بلهجة مملوءة بالقلق:

"أنا واثقة من مشاعري، فقط.. أنا قلقة من جدي، لا أعلم كيف ستكون ردة فعله. جدي رجل صارم جدًا يا كمال، أخاف أن يرفض علاقتنا ويمنعنا من المضي قدمًا".

كنت أعلم أن هذا الخوف جزء من الحقيقة، فجدّي لم يكن سهلًا في اتخاذ قراراته، وكان دائمًا يسير وفق مبادئه الصارمة. تذكرت في تلك اللحظة كم الكره الذي كان يظهر في عيني جدي القاسيتين كلما ذكر اسم الثورة أو الجيش. كان هذا الخوف يملأ قلبي، فقد كنت قلقة أن يكون هذا هو المبرر الذي سيجعله يرفض زواجي من كمال، وهو ما لم يكن كمال يستوعب حجمه بعد.

أجابني كمال بحنان، وكأنه يقرأ مخاوفي دون أن أقول كلمة:

"إذاً سأقابله بنفسي. أنا واثق من قدرتي على إقناعه. علينا أن نبدأ في تخطيط حياتنا من الآن. مستقبلنا يجب أن يكون معًا يا أنيسة".

كان حديثه عن المستقبل، وحنانه الذي يفيض، قادرين على محو أي خوف قد يراودني. شعرت وكأن جميع همومي بدأت تذوب في وجه وعوده. قال مبتسمًا:

"أخبريه اليوم، وسأقابلك غدًا لتخبريني إجابته".

أجبت وأنا أتنفس الصعداء، رغم ما يعتمل في قلبي من قلق:

"سأحاول يا كمال، على الأقل سأخبر أخي".

نظر إليّ بثقة وأصر على تطمينتي:

"أنيسة، لا تقلقي. كل شيء سيكون على ما يرام، وسنكون سعداء معًا، هل تعلمين؟ أنا أبحث عن شقة هنا في الإسكندرية، لا أريد أن أبعدك عن عائلتك".

ضحكت بخفه وأنا اتأمله بسعادة:

"ما هذا الحماس، وكأن جدي قد وافق على زواجنا".

قلتها بسخرية ولكن من داخلي كنت أتمنى أن تكون حقيقة، قال كمال بحنان:

"سيوافق بإذن الله يا أنيسة، لن أكف أبداً عن المحاولة للفوز بك".

ابتسمت تلك اللحظة ابتسامة لم تكن نابعة من قلبي، وأنا أفكر في المجهول الذي سأخوضه بنفسي. ويومها قررت أن أكشف سري لأخي، الذي كان شابًا متحفظًا بطبيعته، لكنه في الوقت نفسه منفتح ومتفهم. على الرغم من أنه نشأ تحت رعاية جدي، الرجل الصارم الذي حرص دائمًا على تشكيل عقله وفق مبادئه، إلا أن أسعد كان يمثل جيلاً مختلفًا. كان شابًا متعلمًا ومثقفًا من عائلة عريقة، يدرس في الجامعة حيث تلتقي الطبقات الاجتماعية ويتعايش الجنسين معًا. كيف لجدي أن يقف في وجه فكر جيل كامل متمثل في أسعد؟ ولذلك كان يتغاضى عن بعض هفوات أخي التي لا تروق له.

لم أكن أخشى أن يسيء أخي فهم علاقتي بكمال. فكما قلت من قبل، كنت ملتزمة بحدود التربية التي غرسها جدي فيّ، وعلاقتي بأخي كانت دائمًا قائمة على الثقة والمحبة، والأهم من ذلك، على رابطة قوية بين شقيقين يتيمين ليس لهما في هذه الحياة سوى بعضهما البعض.

لذلك ذهبت يومها إلى أخي أسعد بقلب مطمئن له لأخبره بسري الصغير. كان أخي في غرفته يدرس بإجتهاد. طرقت باب الغرفة بهدوء وسمعت صوته ينادي بصوت عالٍ:

"أدخل!".

دخلت على استحياء، ورآني أخي الذي قال بابتسامة حازمة:

"أدخلي يا أنيسة، هل هناك شيء؟".

دخلت بسرعة وكأنني أراوغ قبل الاعتراف بسري، وأحتضنت شقيقي العزيز من كتفه، قائلة:

"أخي العزيز، دودة الكتب الذي سيأكل كتبه قريبًا".

أجاب ضاحكًا:

"ماذا تريدين؟ أنا متأكد أن هناك مصلحة من وراء هذا اللطف المفاجئ".

ضحكت بخجل وابتعدت وأنا أدعي تفحص الغرفة الخاصة بأخي، الذي نهض قائلاً وهو يسحب مسطرته الخشبية من يدي:

"أخبرتك من قبل لا تعبثي بأشيائي".

وقفت وأنا أضع يدي على رأسي في إشارة عسكرية، قائلة:

"مفهوم، لن أعبث بأشيائك مرةً أخرى يا باش مهندس".

"مفهوم، لن أعبث بأشيائك مرةً أخرى يا باش مهندس"

تأملني أخي بشك وقال:

"لا تراوغي، أنا أعرف تلك التصرفات جيدًا. أخبريني، ماذا تريدين يا أنيسة؟".

جلست على السرير وأنا أشعر بضربات قلبي تتسارع بجنون، قبل أن ألقي اعترافي فوق رأسه. شعر أخي بأن هناك أمرًا هامًا أريد الاعتراف به، فقال بهدوء وهو يتأملني:

"أنيسة، ماذا هناك؟".

رفعت رأسي إليه بحيرة وأنا أواجه نظرات أخي الذي يحفظني ظهرًا عن قلب، ومن المستحيل أن أخفي عليه سرًا كهذا. بلعت ريقي وأحمر خدي وأنا أتمتم:

"نعم، أريد أن أخبرك بأمر هام يا أسعد".

جلس شقيقي بجواري فشعرت بقليل من الأمان الذي أتوق له في مثل هذا الموقف. سألني بقلق:

"أخبريني، أنا منصت لك".

دارت عيناي حولي بتوتر وهمست:

"أنا.. خائفة قليلاً يا أخي..".

وضع أسعد يده على كتفي بحب وسألني، والقلق يتفاقم في عينيه:

"خائفة مني؟ هل ارتكبت خطأ لتخافي مني؟".

نظرت إليه بنظرة توحي بالنفي القاطع وقلت:

"لا!".

"إذاً أخبريني، ولا تقلقي".

أخفضت رأسي بعيون حائرة ووجنتان محمرتان، واعترفت لأخي:

"في الحقيقة.. منذ فترة تعرفت علي شاب.. هو.. رجل محترم جداً، و.. يرغب في طلب يدي".

كنت أخفض رأسي هروباً من مواجهة أخي الذي التزم الصمت على الفور ولم يجب على تصريحي المتردد. قلت وأنا أشعر وكأنني أذوب من سخونة جسدي:

"يريد أن يخطبني، إنه مصر على ذلك في أقرب وقت".

رفعت رأسي بفضول بعد ثوان طويلة من صممت أخي، لأرى ملامحه هادئة جداً لا تظهر أي مشاعر عدائية أو مريبة. نظرت إليه برجاء، فسألني بهدوء:

"من هو يا أنيسة؟ ومنذ متى وأنت تعرفينه؟ هل هو زميلك في الجامعة؟".

أجبت بهدوء:

"لا، ليس زميلاً. إنه شاب محترم جداً، تعرفت عليه الصيف الماضي".

قال أسعد بنبرة غامضة:

"إذاً، بينكما مشاعر متبادلة".

اعترفت بخجل:

"نعم، ولكن.. أخي، أرجوك لا تفهمني خطأ. لم أره سوى ثلاث مرات فقط، وطوال هذه السنة كنا نتبادل الرسائل لا أكثر".

نظرت إليه برجاء ممزوج بالتوتر، خوفاً من أن يُساء فهمي:

"أخي أنت تثق في، أليس كذلك".

ردّ أسعد بجدية:

"أنيسة، أنا أثق بك، ولكن جدي.. أنت تعلمين جيداً كيف ستكون ردة فعله تجاه شيء كهذا".

أومأت برأسي وقلت بصوت منخفض:

"أعرف يا أسعد".

سألني بتفكير عميق:

"ومن يكون هذا الشخص؟ أقصد، ما هي ظروفه؟".

قلت بهدوء:

"اسمه كمال، وهو يكبرني بخمس سنوات".

تردد قليلاً قبل أن يسأل:

"هل هو متعلم؟ أم لا يحمل شهادة؟".

قاطعته بسرعة وأنا أطمئنه:

"لا، بالطبع هو متعلم ومثقف، ولكن..".

نظر إلي بترقب وسأل بحذر:

"ولكن ماذا؟".

ترددت ثم قلت:

"إنه ضابط في الجيش المصري".

انتفض أسعد من مكانه وقال بصدمة:

"مستحيل يا أنيسة! جدي بالتأكيد سيرفض تماماً".

نهضت من مكاني بسرعة وتوسلت:

"أعلم ذلك، لكنك أخي، أرجوك حاول أن تقنعه".

التفت إلي والغضب والتوتر يعلوان وجهه:

"أقنع جدي بأن يوافق على زواجك من ضابط في الجيش المصري؟ الجيش الذي يراه السبب في دمار حياته وضياع ثروته؟ هل فقدتِ عقلك يا أنيسة؟ انسِ الأمر تماماً، ولا تجرئي على فتح هذا الموضوع أمامه أبداً!".

ولأول مرة في حياتي شعرت بخيبة أمل تجاه أخي العزيز. رأيته مرتبكًا، مثلي تمامًا. نظرنا إلى بعضنا البعض لوهلة، كان الخوف واضحًا في أعيننا نحن الشقيقين، ولكنني توقعت من أسعد أن يكون أكثر تماسكًا. فهو أخي الكبير، سندي في هذه الحياة. في تلك اللحظة، شعرت بثقل إحباطي، ورغم ذلك نطقت بصوت حائر وشفتاي ترتجفان:

"أخي، أنا أحبه.. أرجوك ساعدني، لا تتخلى عني. أنا بحاجة ماسة إليك الآن".

هزّ أسعد رأسه بحزم وقال:

"لا يا أنيسة، هذا ليس صحيحًا".

سألته باندفاع:

"ما الذي ليس صحيحًا؟ أن أحب؟".

خذ نفسًا عميقًا ومسح على شعره بتوتر:

"أن تحبي ضابطًا في الجيش. أنت بذلك تطلبين المستحيل. بمعنى أدق، أنتِ تقفين في مواجهة المستحيل ذاته.. إنه جدي".

نعم، جدي كان المستحيل. كان رفضه متوقعًا، وكان ذلك هو السبب وراء ترددي منذ البداية. لكن رؤية أسعد بهذا التوتر والارتباك كانت أشبه بضربة قاسية لي. لقد شعرت وكأنه يؤكد لي أن حبي لكمال ليس مجرد مخاطرة، بل مغامرة مستحيلة قد تجعلني في مواجهة أقسى وأشدّ إنسان في حياتي.

ابتسمت أنيسة ابتسامة تحمل في طياتها ألمًا مكتومًا، وهي ترتب الغطاء بعناية على ساقيها. نظرت إلى سالي بعينين غائمتين وقالت بنبرة تحمل مزيجًا من المرارة والتأمل:

"هل تعرفين يا سالي؟ في تلك اللحظة شعرت بإحباط لا يوصف. شعرت وكأن العالم بأسره تخلّى عني. أسعد، أخي العزيز، الذي كان بجواري على بعد خطوات فقط، بدا وكأنه يبتعد عني آلاف، بل ملايين الخطوات. كان رد فعله وقتها بمثابة مرآة لما كنت أتوقعه من جدي. لقد كنت أعلم، أعلم تمامًا ما سيكون رد فعله، ولكن.. ذلك الأمل، يا سالي. ذلك الأمل المخادع الذي يزهر طريقك بالورود، ويجعلك تعتقدين أن المشاعر الصادقة وحدها قادرة على انتزاع أحلامك وأمانيك مهما كانت مستحيلة".

توقفت قليلًا، واتسعت ابتسامتها، لكنها كانت ابتسامة ممزوجة بالقهر والحسرة. ثم أكملت بخفوت، وكأنها تخاطب نفسها:

"كنت بالفعل صغيرة.. مغفلة".

رفعت رأسها، ومسحت بيدها طرف الغطاء، كأنها تمحو ذكرى عالقة وقالت بحزم:

"لنستمر..".

كان صوته هادئًا، لكنه محمَّل بالأسف حين قال وهو يضع يده على كتفي:

"أنيسه يا أختي. أرجوك، افهمي. لو كان الأمر بيدي، لما ترددت لحظة في مساعدتك. لكننا لسنا وحدنا في هذا العالم. هناك جدي، وهناك تاريخه، وهناك قناعاته التي لن تتغير".

تألقت عيناي بالدموع التي لم أستطع كبحها، وكأن كلماته كانت السكين الذي يمزق قلبي. تمتمت بشفاه مرتجفة:

"لكن يا أخي..".

قاطعني بصوت حازم، وإن بدا عليه الحزن:

"لكن ماذا؟ فكري جيداً. حتى لو تقبل جدي فكرة حبك لشاب دون علمه، هل تعتقدين أنه سيقبل أن يكون هذا الشاب ضابطاً في الجيش؟ عقلية جدي يا أنيسة صلبة كالفولاذ، ولن تقدري على مواجهتها".

انهمرت دموعي بسهولة على وجنتيّ، وقلت بصوت مخنوق:

"لا تكن قاسياً عليَّ يا أسعد، لا تطلب مني ما لا أستطيع فعله. أنا أحب كمال، كيف يمكنني أن أنساه بهذه البساطة؟".

لمعت في عيني أخي نظرة شفقة كادت تزيد ألمي. اقترب مني وضمني بين ذراعيه، محاولاً أن يخفف عني، رغم أن ارتجاف جسدي أظهر له كم كنت محطمّة. همس بصوت مليء بالأسف:

"أنا آسف يا أنيسة.."

لكن ذلك الاعتذار لم يكن سوى الطعنة الأخيرة. شعرت وكأن العالم ينهار من حولي، فلم أتمالك نفسي وأجهشت في البكاء بصوت عالٍ، مستسلمة لألم لا نهاية له.

على شاطئ البحر في اليوم التالي، كنت أقف بعيون متعبة غائرة، مثقلة بوجع الأمس، أنتظر كمال بحيرة وشوق. تمنيت في داخلي ألا يأتي، حتى لا أضطر لمواجهته بحقيقة حديثي مع أسعد، لكنني كنت أعلم أنني لا أملك رفاهية الهروب. كان علينا أن نجد حلاً معاً.

لم يمض وقت طويل حتى رأيته يركض نحوي على الشاطئ بخطوات حثيثة، ملامحه تعكس القلق والتلهف لمعرفة الإجابة التي ينتظرها:

"أخبريني، ماذا فعلتِ؟ هل تحدثتِ مع عائلتك؟"

لم أستطع النظر إليه، فتجاهلت سؤاله وبدأت أمشي على الشاطئ بخطوات سريعة، وكأنني أحاول الهروب من المواجهة. تبعني كمال، يواكب خطواتي القلقة ويسأل بإصرار:

"أنيسة أخبريني ماذا حدث معك؟ لما أنت صامتة".

كان صوته يحمل مزيجاً من القلق والحب، لكنه زادني ضعفاً. توقفت فجأة، لم أعد أحتمل إلحاحه. كاد يصطدم بي من شدة المفاجأة، وتمتم بصوت مضطرب:

"ماذا..؟"

لكنه سرعان ما صمت عندما لاحظ ارتجاف كتفيّ ودموعي التي بدأت تسقط بصمت على الرمال. بقي صامتاً لدقيقة كاملة، تاركاً لي مساحة لأجمع شتات نفسي. رفعت رأسي أخيراً والدموع تنساب على وجنتاي، لأجده ينظر إليّ بنظرة هادئة وعميقة تحمل الكثير من الحنان. أخرج منديله من جيبه، ومسح دموعي برفق شديد وهو يقول بصوت خافت:

"اهدئي يا أنيسة، خذي وقتك، وأخبريني ببطء ماذا حدث".

رويت له تفاصيل الحوار الذي دار بيني وبين أخي، تقطعه بين الحين والآخر تنهيداتي المثقلة بالألم. كان كمال يستمع بصبر وهدوء، لم يقاطعني أو يعجلني، حتى انتهيت من الحديث تماماً. بعدها، نظر إليّ وعقد حاجبيه قائلاً بنبرة مطمئنة:

"اهدئي يا عزيزتي، ما ذكرتِه الآن هو استنتاجك أنتِ وأخيكِ. لكن.. ماذا لو كنتم تتسرعون في الحكم وتستبقون الأحداث؟".

نظرت إليه بعينين متعبتين وقلت:

"أنت لا تعرف جدي يا كمال. إنه رجل صارم وعنيد، وكلمته هي القانون في منزلنا. لا أحد يجرؤ على معارضته".

ابتسم كمال برفق وقال:

"ولكنك حفيدته المفضلة، وقد أخبرتني كم يعشقك. إذا كان يحبك فعلاً، لن يسمح لأي شيء أن يقف في طريق سعادتك".

أخذت أتأمل المنديل الذي ما زلت أمسكه بيدي، والحزن يغمرني. كلام كمال كان يبدو منطقياً ومطمئناً، لكنه لم يكن كافياً لمسح صورة جدي القاسية التي استقرت في ذهني. تلك الصورة التي تعكس غضبه، وصلابته في رفض كل ما يخالف قناعاته، كانت كافية لإعادة الشك والخوف إلى قلبي.

بالنسبة لي، كان رفض جدي لكمال أمراً شبه محسوم، لا مجال فيه للتأمل أو التفاؤل.

نظرت إلى كمال بإحباط عميق، كان ذلك ردي الصامت على كلماته المليئة بالتفاؤل. وضع يده الدافئة على كتفي برفق، وابتسم ابتسامة اخترقت قلبي في تلك اللحظة وهو يقول بثقة:

"أرجوك يا أنيسة، اسمحي لي أن أقابل جدك بنفسي. سأحاول إقناعه".

صرخت دون وعي:

"لا!".

شعرت بقلبي يخفق بعنف، لكنه شدد يده على كتفي ليطمئنني وقال بحزم:

"ثقي بي. أنا قادر على مواجهته وطلب يدك منه. أنا رجل صريح وأحب الوضوح، وعلاقتنا يجب أن تكتمل بخطبة في أقرب وقت".

تمتمت بخوف:

"لكنني خائفة..".

رد بصوت مليء بالثقة:

"لن يستطيع أحد أن يؤذيك يا أنيسة. أنت أقوى مما تظنين، وقادرة على مواجهة جدك برغبتك. سعادتك تستحق هذا التحدي، ولن يقف في وجهها أحد".

كان كمال يحاول بث القوة والطمأنينة مهيئاً نفسي للمرحلة القادمة. وفي عينيه، لم ألحظ أي أثر لليأس أو التردد، بل شعرت بثقة راسخة وقوة متدفقة انتقلت إليّ بدورها، مما منحني الإحساس بأني أملك القدرة على مواجهة جدي بثبات.

ابتسم كمال مرة أخرى، ابتسامة ملؤها الحنان والإصرار، وقال:

"هذه معركتنا يا أنيسة، يجب أن نخوضها معاً. وسننتصر فيها معاً. هل تفهمين؟".

أومأت برأسي له، أشعر أن عزمي بدأ يتشكل. قررت أن أكون قوية بما يكفي لخوض هذه المعركة بجانبه، دون أن أخذله، ودون أن أخذل نفسي.

وفي اليوم التالي، زار كمال منزلنا كما وعدني، وقابله جدي برفقة أخي، وكانت نظراته مشحونة بالشك والريبة. كنت أقف في الدور العلوي من منزلنا، أنصت إلى حديثهم في الأسفل، وقلبي ينبض بسرعة شديدة. كانت جدتي العزيزة تضع يدها الحنونة على كتفي، محاولةً تهدئتي، لكن محاولتها الطيبة باءت بالفشل.

بدأ كمال في الحديث عن نفسه وعائلته، وعلى الرغم من أن عدم الرضا كان واضحاً على وجه جدي، إلا أنه لم يعلق على خلفية كمال العائلية، وهو ما أثار شكوكي. ومع ذلك، تلاشى كل هذا الصبر عندما سأل جدي كمال عن وظيفته، وفور سماعه لكلمة "ضابط في الجيش"، انتفض جدي ونهض ثائراً، وهو يصيح:

"هذا مستحيل! اخرج من بيتي أيها الضال!".

تفاجأ كمال للحظة، وقال بتلعثم:

"عمي، من فضلك، استمع إلي..".

لكن جدي قاطعه مرة أخرى، وصوته يتصاعد:

"ولا كلمة أيها الولد! أنت، هذا الفلاح الضال، ترغب في الزواج من حفيدتي الثمينة؟ وأنت تنتمي إلى تلك المنظومة الفاسدة التي دمرت البلد! اخرج من بيتي فوراً!".

في تلك اللحظة، وأنا أستمع إلى الحوار المشتعل، حمدت الله أنني لم أكن في الزاوية التي أرى فيها كمال بوضوح. شعرت بالشفقة عليه وهو يتعرض للإهانة والطرد من بيتي، وكأنني شريكة في هذا الألم. سمعت صوت كمال يرد بثبات:

"عمي، من فضلك، لا داعي لإدخال آراءك السياسية في مصير حفيدتك، أنا أحبها وجئت أطلبها منك، وأعدك أنني سأحفظها".

لكن جدي قاطعه مجددًا، وصوته يرتفع:

"ألم تسمع؟ قلت لك اخرج يا ولد من هنا، لا أريد أن أراك مرة أخرى، ولا تقترب من أنيسة أبدًا!".

كان جدي يقاطع محاولات كمال في الحديث بهستيرية، ويمنعه من محاولة إجراء حوار هادئ. كان واضحًا أنه في حالة خوف شديدة، خوف جعلني أستشعره بوضوح.

سمعت أخي يقول بهدوء:

"من فضلك، رائد كمال، لا داعي لمواصلة النقاش. أنت ترى الإجابة بعينيك الآن. جدي منهار، وبالتأكيد لا ترغب أن تصل الأمور إلى الأسوأ."

سمعت صوت كمال وهو يتحدث بثبات:

"سأذهب الآن، ولكنني لن أتوقف أبدًا عن المطالبة بأنيسة. أنيسة هي الفتاة التي أحب، الوحيدة التي أراها شريكة حياتي، وأنا لن أتخلى عنها أبدًا".

جدي صاح بغضب:

"هل تتحداني يا ولد؟".

أجاب كمال بهدوء:

"لا يا عمي، العفو، ولكن لكل قرار سبب، وأنا أبحث عن تفسير منطقي. سأظل أطالب بها لأنني غير مقتنع برفضك لي. سأستمر في المحاولة حتى تقدم لي سبباً مقنعاً، ولا أعتقد أنني سأقتنع يوماً بأنني يجب أن أبتعد عن أنيسة.. حتى الموت".

ثم أكمل كمال بثبات:

"أستأذنكم الآن، ولنا لقاء آخر".

لم تمض لحظات حتى سمعت خطوات تقترب، ثم رأيت كمال أخيراً من الزاوية التي كنت أقف فيها، حيث تطل على باب المنزل. توقف قبل أن يمد يده ليفتح الباب، ورفع رأسه نحو حيث كنت أقف، بينما كانت الدموع تملأ عيني. تأملني بصمت لثوانٍ، لم تظهر على ملامحه أي تعابير محددة، إلا أن شفتيه مالتا بابتسامة خفيفة، وكأنه يبعث لي برسالة تطمئنني. ثم فتح الباب وخرج.

في تلك اللحظة، شعرت أن قواي تخور، فتراخت ساقاي وسقطت على الأرض بصدمة، ثم دفنت وجهي بين يدي، وأنا أبكي بألم وحسرة لا توصف.

ارتفع صوت جدي فجأة في أرجاء المنزل، عاليًا إلى درجة بثت الرعب في قلوب الجميع:

"أنيسة، تعالي هنا فورًا!".

وقفت أمامه، وقبل أن أدرك ما يحدث، تلقّيت أول صفعة في حياتي. كانت قوية ومباغتة لدرجة أن جدي نفسه بدا مصدومًا مما فعل، فتراجع بيده وكأنها خذلته. لكن سرعان ما عاد إلى غضبه وقال بحدة:

"قليلة الأدب! تتعرفين على شاب من دون علمي أنا، جدك الذي رباك؟! هل هذا هو ثمن رحمتي بكم؟!".

لم تمهل جدتي الوقت ليكمل حديثه، فتدخلت بانفعال واحتضنتني قائلة بحزم:

"أنور، أنيسة لم تفعل شيئًا في الخفاء، كنت أعلم بكل تصرفاتها.. أرجوك، لا تظلمها".

كنت بين ذراعي جدتي المكافحة وأنا أشعر بالخدر في كل حواسي، وفي الحقيقة لم أشعر بالألم من الصفعة القوية التي تلقيتها، فالألم في قلبي تغلب على ألم الصفعة التي تلقيتها للتو.

اشتعل وجه جدي بالغضب وهو يستمع إلى دفاع جدتي وصاح قائلاً:

"زينب! كنتِ تعلمين؟! كيف تجرؤين على مجاراتها في هذه التصرفات؟ بل وإخفائها عني؟! ماذا تعتقدينني؟ هل تظنون أنني أصبحت عجوزًا هرمًا لا حاجة له في البيت؟ لا! أنا ما زلت أنور باشا! باشا ابن باشاوات! ماذا تظنونني؟ أتظنونني سأضع يدي في يد ذلك الولد الحقير؟ هذا مستحيل أيها الأغبياء!".

كان جدي يصرخ بهستيريا، وكأنما يحاول في تلك اللحظة أن يثبت للزمن، الذي بدأ يعانده، أنه لا يزال الرجل الذي كان. وكأنه يدرك بمرارة أن عصره قد تغيّر، وحلّت محله حقبة جديدة مختلفة تماماً، تتحدى وجوده وكأنها على وشك أن تبتلعه، لتطوي معه نسبه ومكانته الاجتماعية.

وبينما كنت غارقة في أحزاني، شعرت بذراعي جدتي ترتجفان وهي تضمّني إليها بقوة. وسط ذلك، انطلق صوتها المرتجف الذي اختلط فيه الغضب بالحزن، قائلة بحسم:

"أنور! لا تكن ظالمًا! لا تجنِ على حفيدتنا كما فعلت مع ابننا وزوجته. يكفي أن هؤلاء الصغار عاشوا دون آبائهم بسبب عنادك!".

شحب وجه جدي وهو يسمع اتهام جدتي القاسي، ليجد نفسه عاجزًا عن الرد للحظات. ثم تمتم بصوت واهن، يحمل ذهولًا غير مسبوق:

"زينب! ما الذي تقولينه؟ هذا كان قضاءً وقدرًا!".

صرخت جدتي وعينيها تدمعان:

"ولكنك كنت سبباً، كنت سبباً في رحيل ابني عزيزي الوحيد".

ولأول مرة أرى جدتي في تلك الحالة، تلك المرأة الطيبة المنصاعة دائماً لأوامر جدي، فقدت أعصابها ورفعت صوتها على زوجها العنيد:

"ابني العزيز، نور عيني، الذي لم أنجب سواه، رحل بسبب ضغطك المستمر عليه وعلى نجاة. لم يكن يمر يوم إلا وألقيت الإهانات فوق رؤوسهم وملأت حياتهم بالكلام القاسي الذي سمم أجواءهم. ذهبوا في تلك الرحلة فقط ليهربوا قليلاً من قسوتك وجفائك الذي عكر صفو حياتهم. ماتوا هناك، في الغربة، بعيداً عن أطفالهم،

وتابعت بصوت يرتجف من الألم:

"أنت لم تتوقف، يا أنور، إلا عندما أُعيدوا إليك جثثًا هامدة، جثثًا لا حياة فيها. هل تعلم كيف هو ألم الأم التي تفقد طفلها؟ كم ليلة تمنيت الموت فقط لألحق بهما؟ لكن ما دفعني للصبر والبقاء كان هؤلاء الصغار، أبناء ابني العزيز. لو قررت يوماً أن أعيش رغم حزني، فهذا فقط لأجلهم، لأنهم أمانة في رقابنا، وسيسألني ابني وزوجته عنهم يوم نلتقي".

نظرت جدتي إليه بعينين تقدحان غضباً وأكملت بقسوة:

"وماذا ستفعل الآن يا أنور؟ هل ستكرر نفس تصرفاتك مع أولادهم؟".

همس جدي، مصدوماً وغير مصدق:

"زينب، هل تكفرين بقضاء الله؟!".

ردت جدتي بنبرة متحدية وهي تنظر إليه مباشرة:

"لا، اياك أن تتهمني، أنا لا أكفر بقضاء الله، ولكن لكل شيء يحدث في هذه الحياة سبب، وأنت كنت السبب الرئيسي في رحيل ابني".

تدخل أخي بسرعة قائلاً بوجه شاحب، محاولاً تهدئة الأجواء:

"جدتي، لا داعي لهذا الكلام!".

نظرت جدتي إلى أسعد بعينين مليئتين بالقهر، لكنها لاذت بالصمت عندما رأت الشحوب يغزو وجهه. عندها تدخل جدي بصوت عالٍ ومليء بالغضب:

"هذا يكفي! أسعد، اصعد إلى غرفتك مع شقيقتك".

حاول أسعد الاعتراض، ونظر إلى جدي بعيون غير مصدقة وقال:

"ولكن يا جدي..".

قاطعه جدي بصراخ غاضب:

"قلت يكفي!".

في تلك اللحظة، اهتز جسد جدي وساقاه فقدتا التوازن. اندفع أسعد بسرعة ليسنده قبل أن يسقط. وانتهى النقاش في ذلك اليوم بقدوم الطبيب، الذي حذر الجميع بشدة من التسبب في أي انفعال لجدي بعد الآن.

فيما بعد، أصدر جدي قراره القاطع: ممنوع خروجي من المنزل إلا للضرورة القصوى، مثل الذهاب إلى الجامعة التي لم تبدأ بعد. كما فرض رقابة صارمة على الرسائل التي تصل بالبريد، ليقرر بنفسه ما يُسمح به وما يُمنع، وكأن الأمر فرمان ملكي لا يقبل النقاش أو التحدي.

حتى جدتي لم تسلم من قسوته، فقد انهال عليها بالكلام الحاد والتأنيب. ومع ذلك، كانت تتمتم بصوت هادئ يشوبه الحزن:

"يكفي أنني أخرجت كل ما كنت أكتمه بداخلي كل يوم وأنا أستلقي بجواره على السرير".

منذ ذلك اليوم، أظلمت الحياة في عيني، وغابت الابتسامة عن شفتي. أدركت حينها أن جميع رسائل كمال، التي كنت أترقبها بكل أمل، تقع بين يدي جدي الذي يمزقها دون رحمة. كلما حاولت التحدث إليه أو إقناعه، ازداد عنداً، وازددت أنا يأساً.

لأول مرة في حياتي، شعرت بنداء عميق في داخلي يتمنى لو أن أبي وأمي ما زالا على قيد الحياة. ربما لو كانا هنا، لكان القرار بيديهما وليس بيد جدي العنيد. في بعض اللحظات شعرت برغبة جارفة في الذهاب إليهم، حتى لو كان ذلك يعني الموت. ربما يكون الموت هو الراحة الوحيدة من العذاب الذي أعيشه، أنا الشابة التي لم تتجاوز بعد العشرين من عمرها.

كان شقيقي أسعد يحاول، بين الحين والآخر، أن يقنع جدي بالتراجع عن قراره، ولكن محاولاته كانت تبوء بالفشل، إذ كان جدي يلجأ إلى التهديد بالتبرؤ منا. وأحياناً، كان يستفز أخي عاطفياً، مذكراً إياه بأنه الشخص الذي ربانا وآوانا، وبأن له الفضل علينا بعد الله، مضيفاً:

"كيف لكم أن تعضوا اليد التي امتدت إليكم بهذه السهولة؟".

فيعود أسعد إليَّ بعد كل محاولة، وقد أثقلته كلمات جدي وموقفه المتصلب، ليطلب مني، بأسى، أن أنسى أمر كمال وأستمع إلى جدي الذي يحبنا، قائلاً:

"أنيسة، نحن لا نريد أن نخسر جدي أيضاً".

تنهدت أنيسة:

"قد تظنين أن أخي كان سلبياً تجاهي، لكنني أعذره حقاً. حتى أنا، في أعماقي، كنت أشعر وكأنني أخون جدي وأطلب منه أمراً لا يستطيع تحمله. ومع ذلك، كنت غارقة في الحب، ممزقة بين ولائي لجدي الذي رباني، وكمال، الرجل الذي أحببته. كنت في حالة من الحيرة والضياع يا سالي، وكأنني على شفا الجنون. منذ ذلك اليوم، شعرت أنني لم أعد الشخص الذي كنت أعرفه. هجرتني عينيّ، فلم أعد أرى النوم إلا كذكرى بعيدة، وأصبحت أتجنب الطعام إلا ما يبقيني بالكاد على قيد الحياة في مواجهة هذه الحياة القاسية. الأيام تمر بلا معنى، بلا كلمة أنطقها، بلا خطوة أخرج بها من غرفتي. تحولت إلى شبح هائم، بلا وجهة أو رغبة في أي شيء. أثار هذا الحال قلق الجميع من حولي، حتى جدي نفسه، الذي جاء يطرق باب غرفتي ذات يوم..".

كنت جالسة أمام نافذتي أتأمل البحر الذي يلوح من بعيد، ولكن عقلي كان مشغولاً بشخص واحد لم يفارق أفكاري

كنت جالسة أمام نافذتي أتأمل البحر الذي يلوح من بعيد، ولكن عقلي كان مشغولاً بشخص واحد لم يفارق أفكاري. وفجأة، سمعت صوت طرقات على باب غرفتي. تأخرت قليلاً قبل أن أجيب، كنت لا أرغب في الرد، وتوقعت أن يذهب الطارق، لكنه استمر في الطرق. أخيرًا، سمحت له بالدخول. التفت لأجد جدي يدخل، وعصاه التي يتكئ عليها في يده، يرفعها تجاهي قائلاً:

"أغلقي النافذة يا بنت وتعالي نتحدث قليلاً".

نفذت أمره دون اعتراض، وجلست أمامه وأنا أشعر بالتعب، فتأملني قليلاً ثم تنهد بيأس وقال:

"اسمعيني جيداً، قبل أن أتحدث، عليك أن تفهمي أنني لن أوافق على هذا الولد أبداً ليكون زوجاً لك، لذا لا تضعي آمالاً مزيفة بسبب تنازلي وقدومي إليك".

في الحقيقة، لم أكن قد وضعت أي آمال، لكن حديثه القاسي كسر قلبي. لم يكن من المعتاد أن يتحدث جدي معي بهذه الطريقة.

أدرت رأسي إلى النافذة بعينين فارغتين، وسمعته يقول:

"ابنتي، أنا جدك، لا أملك في هذه الحياة سواكم، عماتك وأنتِ أحفادي، أبناء ابني رحمه الله. أنتم أمانة تركها لي والدكم، يجب عليّ أن أحفظها وأصونها بإخلاص. لقد اعتنيت بكم وربيتكم طوال تلك السنوات، ولم أبخل عليكم أبداً.. أليس كذلك؟".

لم يجد مني رداً فأصر:

"انظري إلي يا بنت، لا تتجاهلي جدك الذي يتحدث معك".

نظرت إليه فتأمل خدي الذي صفعه، وقال ببعض الخجل وهو يحاول تبرير تصرفه:

"كما أنني لم أعنفكم يوماً، بل كنت حنوناً وصبوراً معكم، تلك المرة الوحيدة التي افقد فيها أعصابي".

انتظر جدي ردي الذي تمناه، ولكنني أحبطته. فأكمل:

"أخبريني.. كيف أضع يدي في يد من خربوا البلد، من سرقوا كل شيء وأودوا بنا إلى حافة الهاوية؟ الأمر يخص كرامتنا بين العائلات يا أنيسة.. موافقتي على زواجك منه يعني أنني أتنازل عن مبادئي، وأنا لا أتنازل أبداً عن مبادئي.. يجب أن تفهمي وتقدري مكانتك جيداً. نحن عائلة قديرة ومرموقة..".

رفع يده بتفاخر وأضاف:

"ونحن العائلات الراقية، مهما جار علينا الزمن، نحتفظ برونقنا وأصلنا.. وابنة عائلة أصلان كذلك يجب أن تحتفظ برونقها، وتنظر إلى شاب يناسبها في المكانة والأصل".

انتظر مني رداً، ولكن لم يحصل عليه هذه المرة أيضاً، فتابع قائلاً بإحباط:

"إن الجواهر الثمينة نادرة يا أنيسة، يتصارع عليها الجميع، ولكن لن يحظى بها إلا من يستحقها كالملوك. وأنت كذلك جوهرتي الثمينة وطفلتي التي ربيتها باعتزاز، كيف أهبك إلى هذا الشخص الذي لا يرقى إلى مستواك الاجتماعي ولا حتى الثقافي؟".

"هذا الشاب الذي تبجح بقدومه وطلب يدك مني، كيف سمحتِ له منذ البداية بالاقتراب منك وتمني شيء مستحيل؟ أنت مستحيله له!".

تنهد الرجل بعمق وقال بتردد:

"ولكن حتى وإن كانت غلطتك، سأغفر لك وأسامحك. لكن لا تقتربي من هذا الولد الضال مرة أخرى".

كنت أسمح حديثه بهدوء شديد من البداية، ولكن عندما بدأ يلقي الإهانات على كمال، وكأن عصباً انفجر في رأسي ونهضت قائلة بصوت مقهور:

"جدي، أرجوك، كفى! كفى هذا الوهم الذي تتمسك به. أنت تعيش في الماضي منذ سنوات طويلة، لكن الواقع تغير. نحن اليوم مجرد عائلة طبيعية مثل جيراننا، لا نعيش في القصور، ولا نحيا وفق الألقاب كما في السابق. لقد نشأت في عصر مختلف عن زمنك، وكل ما أتذكره من حياة القصور التي تتحدث عنها هو مجرد شذرات باهتة. أنا فتاة عادية، ونشأت كفتاة عادية، وأحببت شاباً عادياً مثلي، شاباً متعلماً مثلي، مهذباً مثلي، ومناسباً لي ولوضعنا الاجتماعي الحالي. لذا، لا أفكر بالطريقة التي تفكر بها".

أكملت بعيون تفيض منها الدموع الساخنة:

"لماذا تصر على التقليل من شأنه؟ ما ذنب كمال؟ لماذا تصب عليه غضبك، الذي لم تجرؤ على مواجهته مع من انتزعوا ألقابك، لماذا تحرمني، أنا حفيدتك الثمينة كما تقول دائماً، من الشخص الذي اختاره قلبي؟ أم أنك تريدني أن أعيش نفس مصير والدي؟ هل مكانة ألقابك وقيمتها تأتي دائماً قبل الأشخاص الذين يحبونك ويخصونك؟".

وكانت كلماتي الأخيرة كالسهم الذي أصاب جدي في كبريائه، فنهض من كرسيه بعصبية واضحة، وعصب فائر ينبض في صدغه. ضرب الأرض بعصاه بقوة، وقال بلهجة قاسية وحادة:

"يبدو أنني أخطأت حين جئت إليك بنفسي. أنت فتاة قليلة الأدب، ولا تعرفين معنى احترام جدك. لذلك، لا تفكري أن العقاب سينتهي هنا. وإذا كان هذا الولد هو كل ما يشغل بالك وليس جدك أو مصلحة العائلة، فسأتخذ قراري أنا أيضاً. سأزوجك في أقرب وقت، بالطبع لشاب ذو مقام رفيع يليق بنا، وهذا سيكون جميلي لك رغم معصيتك وإهانتك لي".

نظرت إليه بعينين مليئتين بالظلم وقلت بتوسل:

"أرجوك يا جدي، لا تفعل هذا بي، أنا أحبك، ولم أتعمد عصيانك يوماً. لماذا تصر على تعذيبي؟ ورفض اختياري لشريك حياتي؟".

في تلك اللحظة، لاحظت أن عينيه بدأت تضعف، لكنه سرعان ما ضرب الأرض بعصاه وقال بحزم:

"لست أنا من يعذبك، بل أنت من تختارين تعذيب نفسك، لا مجال للنقاش بعد الآن".

ثم خرج من الغرفة ليتركني أغرق في عذاباتي وحزني.

ومنذ ذلك اليوم، قاطعني جدي ولم نتبادل الحديث مرةً أخرى، وبدأ بالفعل في البحث عن عريس "يليق بي" كما كان يكرر دائماً.

ابتسمت أنيسة بمرح وهي تنظر إلى سالي، وقالت بنبرة مازحة:

"لكن كما أخبرتك من قبل، كنت خبيرة في تطفيش العرسان".

لم تجد سالي سوى أن تبتسم برفق في الرد على أنيسة، بينما كان قلبها يعتصر شفقة على هذه المرأة المسكينة.

ومرت الإجازة وبدأ العام الدراسي الجديد. كنت أذهب إلى الجامعة تحت حراسة السائق الخاص الذي كان ينتظرني أمام الجامعة حتى نهاية اليوم. كان جدي قد عينه ليقوم بإيصالي ومراقبتي في الوقت نفسه، حتى لا أهرب من الجامعة وألتقي بكمال الذي لم أره منذ ذلك اليوم، وقطع عني رسائله بواسطة جدي.

في أحد الأيام، كنت في محاضرة، وفور انتهائي، وبينما كنت أخرج من القاعة، سمعت شخصاً يناديني. التفتُّ لأجد كمال بزيه العسكري، الذي كان أول مرة أراه فيه. مرت شهور طويلة منذ أن رأيت عزيزي كمال، لذا في تلك اللحظة، لم أتمالك نفسي. كان قلبي يكاد ينفجر من شدة الشوق، مما دفعني للركض نحوه بعينين مملوءتين بالدموع، وتعلقت ببدلته كأنني أغرق وأمسك بيد تمتد إلي لإنقاذي. قلت بصوت مرتجف وعينيّ مملوءتين بالدموع:

"كمال.. ماذا تفعل هنا؟ لقد اشتقت إليك كثيراً، أعتذر عن تصرف جدي، حاولت أن..".

لكنني لم أستطع إكمال حديثي، فقد انهرت بالبكاء بهستيرية. كنت أشعر وكأن روحي قد عادت إلي عندما رأيته. نظر كمال حوله، وقد كان الطلبة ينظرون إلينا باستفهام، فسحبني من ذراعي وقادني إلى حديقة الجامعة حيث انتظرني حتى هدأت وتوقفت عن البكاء، وهو يحاول تخفيف الأجواء بالمزاح الذي أحببته منه. وعندما استعادت نفسي، أخبرني عن أحواله طوال الفترة التي كنا فيها بعيدين عن بعضنا بغير إرادتنا:

"منذ ذلك اليوم وأنا أحاول مقابلتك، لكن يبدو أن جدك قد أقام حولك الأسوار. ألم تقرأي على الأقل رسائلي؟"

هززت رأسي نافية وأنا أمسح دموعي بالمنديل. نظر إلي كمال بحزن وسأل بصوت يحمل مرارة:

"كيف كنتِ خلال تلك الفترة؟".

أجبته بصوت مفعم بالعاطفة:

"لم أكن على ما يرام يا كمال".

ثم أضفت بيأس، والدموع تتسلل من جديد:

"لم أكن بخير أبداً.. أشعر بيأس شديد. جدي قاطعني ولم يتحدث معي منذ وقت طويل".

ربت كمال على يدي بلطف وقال بصوت هادئ:

"اهدئي قليلاً وتحدثي بعقلانية، لا تجعليه يشعر بالإهانة. إنه جدك وولي أمرك، ومن الحكمة والأدب أن تتجنبي معاندته".

نظرت إليه بقلق وقلت بانفعال:

"ولكن كيف يمكنني ذلك؟ على هذا الحال سيضعني أمام الأمر الواقع ويزوجني على الفور. هل تعلم كم عانيت لرفض الشباب الذين تقدموا لخطبتي؟".

شحب وجه كمال فجأة، وكأن الدم انسحب منه، وسأل بصوت متوتر:

"هل يحاول تزويجك؟"

أجبت بصوت مثقل بالهموم:

"نعم يا كمال، إنه يبحث عن شاب يراه مناسباً لمكانتنا الاجتماعية".

ظهرت ملامح الإهانة على وجه كمال، فقلت على الفور، محاوِلة تصحيح الموقف:

"هذا رأي جدي، لكنني لا أرى أي فرق بيننا على الإطلاق. لو كنت غير مناسب لي، لما اخترتك منذ البداية. أنت من اخترته بعقلي وقلبي معاً."

تردد كمال للحظة ثم سأل:

"وما موقف أسعد من كل هذا؟".

أجبت بتنهيدة خفيفة:

"أخي يقف في المنتصف. يحاول جاهدًا أن يقنع جدي بقبولك في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يحاول إقناعي بأن أنساك. أعتقد أنه يريد فقط الحفاظ على العلاقات داخل البيت وألا تنفجر الأمور بيننا".

أومأ كمال برأسه وقال بنبرة متزنة:

"ربما أسعد محق، يا أنيسة. الأمور لن تسير في الطريق الصحيح دون أن نحصل على موافقة جدك. لا يمكننا بناء حياة على أساس الخلاف."

قلت له بمرارة:

"لكن جدي عنيد للغاية، ويرفض رفضاً قاطعاً علاقتنا. حتى أنه رفض مقابلة جدي وجدتي من ناحية أمي عندما حاولوا التدخل، ومنعهم من زيارتنا".

كان جدي قد أغلق كل الأبواب في وجهي ووجه كمال، وظهر ذلك على ملامح كمال المستغرقة في التفكير. ظل صامتاً للحظات طويلة، بدا فيها متجهماً وغارقاً في أفكاره المعقدة، قبل أن يرفع رأسه ويقول بنبرة حازمة:

"سأبحث عن حل. بالتأكيد يوجد طريق ما. ربما يجب أن أتحدث مع أخيك أولاً. هل تعتقدين أنه سيقبل الحديث معي بعد كل ما حدث؟".

هززت رأسي بخفوت وقلت:

"لا أعرف. أخي يشبه جدي في بعض الأمور، خاصة في صعوبة توقع تصرفاته وآرائه".

أخذ نفساً عميقاً وقال بتفهم:

"أخيك وجدك يحبونك يا أنيسة، وربما يكون الخوف هو ما يمنعهم من الموافقة على شاب بسيط في نظرهم، ولكن يجب أن يتعرفوا علي أولاً حتى يلقوا أحكامهم فيما بعد".

كان كمال دائماً معتزاً بنفسه، يحمل في داخله كبرياءً وكرامة لا يتزعزعان، وهي سمة اكتسبها من تدريبه في الجيش. لم يكن من النوع الذي يستسلم لليأس أو يظهر الضعف، حتى في مواجهة الإهانات التي وجهها له جدي. كان مصمماً بكبرياء على الفوز بي، لكنه اختار أن يسلك طريق الكرامة بدلاً من التذلل أو التوسل بشكل مثير للشفقة.

"أنيسة، لنترك هذا الحديث الآن. ليس لدي الكثير من الوقت".

تردد كمال للحظة قبل أن يقول بحذر:

"بالطبع، هذه هي المرة الأولى التي تريني فيها بزي الجيش".

نظرت إليه متأملة تفاصيل ملابسه العسكرية، ثم تذكرت أن أسأله عن السبب، لكنه استبقني قائلاً:

"في الحقيقة، بالكاد حصلت على يوم إجازة لأزور عائلتي ثم أنت. أنيسة.. غداً سأكون في مهمة خاصة، وجئت لأودعك قبل الذهاب".

كانت هناك نظرة غريبة في عينيه، مزيج من الحزن والحزم، جعلتني أشعر بالقلق والريبة. فسألته بخوف:

"ماذا يحدث يا كمال؟".

رد بصوت منخفض وكأنه يحاول تهدئتي:

"لا أستطيع أن أخبرك، لكن الفترة القادمة ستكون صعبة قليلاً.. علينا جميعاً، وعلى البلد بأسرها".

ازداد قلقي وسألته بتوتر:

"لماذا؟ هل هناك حرب؟"

كانت بالفعل هناك توترتات سياسية، وتصريحات وتهديدات متبادلة، تبادل فيها القادة العرب والإسرائيليون التصريحات العدائية، مما أسهم في زيادة التوتر. كما أنه تشأت اتفاقيات وتحالفات عربية، وأعادت مصر وسوريا تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بينهما في مارس 1967، مما زاد من التوتر الإقليمي. كما شهدت المنطقة دعمًا متزايدًا للعمليات الفدائية الفلسطينية ضد إسرائيل.

قال كمال بصوت عميق يحمل في طياته الكثير من المسؤولية:

"لا أستطيع أن أحكي تفاصيل تخص أمننا القومي، ولكن قريباً سأكون في مهمة".

سألته بقلق وإصرار متزايد:

"هل هناك حرب مع العدو المحتل؟".

ابتسم كمال، لكن ابتسامته لم تصل إلى عينيه، وقال:

"لا تنسيني من دعواتك يا أنيسة.. خذي هذه الورقة".

مدّ يده ليضع ورقة بيضاء في يدي، ثم أوضح:

"فيها عنوان عائلتي في كفر الزيات، والرقم لقريب لي يعيش هنا في الإسكندرية. رسائلي إليك ستصل إليه أيام الخميس، وسيأتي بنفسه ليسلمها لك".

كانت عيناه تحملان بريقاً من التصميم والقوة، لكنهما أيضاً كانتا تخفيان الكثير من القلق الذي لم يعترف به بصوت عالٍ. شعرت بالخوف مما قد يحدث وقلت بصوت مرتجف، وأنا أقبض على الورقة بقوة:

"كمال... لا تتركني وأنا غير مطمئنة.. أرجوك".

حاولت كبح دموعي، لكنه أمسك بيدي برفق، وقال مطمئناً:

"لا تقلقي عليّ، سأعود يا أنيسة. سأعود وأحاول مرةً أخرى مع جدك. لن أتركك أبداً يا عزيزتي، فقط انتظريني".

ورحل كمال في ذلك اليوم في شهر مايو 1967، وكنت أراقبه وهو يمشي ببذلته العسكرية شامخًا، وساقاه تتحركان بخطوات ثابتة وكأنهما تتسابقان نحو المعركة المجهولة، تلك التي بدأت بوادرها تتردد في الأفق. وفي اليوم التالي، جاءت الأخبار:

التحركات المصرية في سيناء: في مايو 1967، طلبت مصر سحب قوات الأمم المتحدة من سيناء، وبدأت في حشد قواتها هناك، مما أثار قلق إسرائيل وزاد من احتمالات اندلاع الحرب.

ثم توالت الأخبار على مدار الأيام التالية:

إغلاق مضائق تيران: في 22 مايو 1967، أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر إغلاق مضائق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية، مما اعتبرته إسرائيل تهديدًا مباشرًا لأمنها الاقتصادي والعسكري.

حتى جاء هذا اليوم الذي انتكست فيه مصر وسائر المنطقة العربية، ففي صباح يوم 5 يونيو 1967، شنت إسرائيل هجومًا جويًا مفاجئًا على قواعد سلاح الجو المصري، حيث دمرت الطائرات الإسرائيلية معظم الطائرات المصرية وهي على الأرض، مما أدى إلى فقدان مصر لقدرتها الجوية في الساعات الأولى من الحرب. وبعد تحقيق التفوق الجوي، بدأت القوات البرية الإسرائيلية هجومًا على سيناء، متقدمة بسرعة عبر الصحراء ومستخدمة تكتيكات التفاف لتطويق القوات المصرية.

على الجبهة الأردنية، ورغم أن الخطة الإسرائيلية كانت تهدف إلى اتخاذ موقف دفاعي، إلا أن القصف الأردني لمواقع إسرائيلية دفع إسرائيل إلى شن هجوم مضاد، مما أدى إلى احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية.

في الشمال، شنت إسرائيل هجمات على المواقع السورية في هضبة الجولان، مستغلة تفوقها الجوي والارتباك في صفوف القوات السورية.

انتهى اليوم الأول من الحرب بسيطرة إسرائيلية على مساحات واسعة من الأراضي العربية، وتدمير كبير للبنية التحتية العسكرية في مصر والأردن وسوريا.

كانت تلك الحقيقة التي حاولت الحكومة التعتيم عليها، ضحكوا علينا جميعاً قبل أن تصلنا أخبار النكسة، ضحكوا عليها حتى اعتقدنا أننا من انتصرنا. فبعد نكسة 1967، قامت الحكومة بترويج عدة أخبار وأحداث بهدف حماية الروح المعنوية للشعب، وتصوير الهزيمة بشكل يخفف من وقعها على المواطنين. الحكومة أكدت على أن الخسائر كانت "قليلة" وأن مصر لم تفقد سوى بعض المواقع الاستراتيجية، رغم أن الواقع كان مغايراً. تم إخفاء الأخبار حول تدمير معظم القوات الجوية المصرية في الساعات الأولى من الحرب، كما تم تقليص الحديث عن الخسائر البشرية والمادية الكبيرة.

قالت أنيسة وهي تتذكر تلك الفترة مضيقة عينيها:

"كان الشعب مصدوماً ملكوماً، فالخسارة لم تكن مجرد خسارة على أرض المعركة يعود كل طرف إلى أرضه، الخسارة يا سالي سلبت معها أرضاً، احتل العدو سيناء وضمها إلى أراضيه، أرضنا الغالية سلبها العدو الهمجي، وتحطمت أحلام الجميع. أتذكر يومها كنت أمشي في الشارع بين الناس، ولا أسمع سوى الصمت المطبق، الجميع كانوا مذهولين إلى الدرجة التي أخرستهم، الخيبة والمرارة تتحدث على وجوههم. في ذلك اليوم، اجتمع الشعب على وقع النكسة، لكن معظمهم كان يحمل نكسة مضاعفة، فمن لم يكن لديه ابن أو قريب أو صديق أو والد أو حبيب، وقف في الميدان، إما استشهد أو أُسر. وكنت أنا منهم.

مشيت في الشارع يومها بخطوات سريعة، والذكريات تملأ رأسي، أتذكر حديث كمال معي قبل رحيله. هل كانت تلك المهمة التي تحدث عنها؟ هل من الممكن أنه كان هناك في سيناء، في قلب المعركة؟ هل مات؟ أم أُسر؟ كيف حاله الآن؟ ولكنه وعدني بأنه سيعود مرةً أخرى، هل ربما ربما صارت تلك الدعوى مجرد حلم الآن؟ صوت أنفاسي كان يتسارع مع كل دقيقة تمر، وأنا أمضي بلا هدف واضح. لم أكن أعرف إن كنت أضحك أم أبكي، فقد اختلطت المشاعر بداخلي بشكل مربك. تركت قدماي تقوداني حتى وجدت نفسي عند الشاطئ، المكان الذي جمعنا لأول مرة.

نظرت إلى الأفق بعينين تملؤهما الحيرة والتوق، وكأنني أترقب أن أراه قادماً من بعيد، بابتسامته المألوفة التي طالما منحتني الأمان. لكن كان هذا مجرد وهم، أمنية مستحيلة تعشعش في أعماق قلبي. ومع ذلك، شعرت بثقل لا يحتمل يجثم فوق صدري، ثقل لم أستطع كتمانه أكثر.

صرخت بكل قوتي:

"كمال!".

تردد صدى ندائي عبر الأمواج، وكأن البحر نفسه يردده. لكنني كنت أعلم أن صوتي، مهما علا، لن يصل إليه أبداً.

نهاية الفصل الثاني والثلاثون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

أهلاً أعزائي القراء..

مقدرتش مقولش كل سنة وانتوا طيبين، والفصل ده هديتي ليكم بمناسبة السنة الجديدة، ربنا يجعلها خير عليكم يارب. الفصل انهاردة طويل كتعويض عن الاسبوع اللي فات، يا رب يعجبكم.

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصل: تفتكروا كمال مات في النكسة؟

***

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.


الخميس، 19 ديسمبر 2024

رواية المنزل: الفصل الحادي والثلاثون: حكاية أنيسة الجزء الأول - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الحادي والثلاثون

مزيكة انهاردة أغنية جميلة أوي وقريبة لقلبي، ولقلب أنيسة. أغنية انت الحب لأم كلثوم، كلمات الشعر الرقيق أحمد رامي، وألحان محمد عبد الوهاب.

***

"في مدينة الإسكندرية، 'عروس البحر الأبيض المتوسط' وعاصمة مصر الثانية، جئت إلى العالم أنا، أنيسة، ابنة فؤاد أصلان، وذلك في شهر ديسمبر من عام 1945. كنت الابنة الصغرى لأبي، بعد شقيقي الأكبر أسعد، والحفيدة الصغرى المدللة لأنور باشا أصلان، الذي كان آنذاك أحد المستشارين المقربين للملك.

انتميتُ إلى عائلة أصلان، إحدى العائلات العريقة من باشاوات مصر القديرة. عائلة تمتلك كل شيء؛ الحسب والنسب، الجاه والأموال، والمكانة المرموقة في المجتمع الملكي الطبقي آنذاك. كان جدي، رئيس العائلة، رجلاً تركياً صارماً شديد التمسك بأصوله التركية، وقد عُرف بنظرته المتحفظة تجاه المصريين، رغم أنهم أصحاب الأرض التي عاش عليها.

ومع ذلك، كانت جدتي زينب فلاحة مصرية، وهي الزوجة التي أنجبت لجدي ابنه الوحيد وأصغر أبنائه بعد خمس فتيات من زواج سابق لجدي من تركية. جدتي زينب كانت سيدة حنونًا ودافئة القلب، وهو ما ورثه عنها أبي - رحمه الله - الذي عرف بطيبة قلبه وحنانه البالغ.

كان أبي الولد الوحيد والمدلل لجدي، الذي رزق به بعد طول انتظار لإنجاب الذكور. حرص جدي على تنشئته بعناية خاصة ليكون خليفته من بعده، وقد كبر أبي ليصبح شابًا جميل المظهر، وسيمًا، وابن باشا يحمل على عاتقه آمال والده الكبير.

ولكن على غير المتوقع، وقع أبي في حب شابة مصرية جميلة، وهو الأمر الذي شكّل صدمة كبيرة لجدي. اعترض بشدة على هذه العلاقة، فقد كان يرى أن ابنه يجب أن يتزوج من عائلة 'أرقى وأنظف' - كما كان يقول دائماً - تتناسب مع مكانة العائلة. إلا أن أبي، وعلى الرغم من طيبته وهدوئه، ورث عن جدي عناده الشديد. وبإصرار كبير، حقق رغبته في النهاية وتزوج من أمي، الآنسة نجاة، التي كانت تنتمي لعائلة مصرية متوسطة.

أمي كانت امرأة جميلة للغاية، متعلمة، وتعمل مدرسة موسيقى في إحدى المدارس الحكومية. تعرف أبي عليها بعد تخرجه حديثاً من كلية الهندسة، خلال إحدى الحفلات التي جمعت بينهما. ومن هناك، بدأت قصة حب رقيقة وجميلة بين ابن الباشا والبنت المصرية البسيطة.

تم الزواج في نهاية الأمر، لكن دون مباركة جدي، الذي وافق على مضض واشترط أن يعيشا معه في قصر العائلة الكبير. وعلى الرغم من هذا الشرط، لم تخلُ حياة والديّ من الحب العميق والسعادة والاحترام المتبادل. ومع ذلك، كان التوتر قائماً؛ فلم يترك جدي فرصة إلا ووجّه لأبي اللوم والعتاب على اختياره، ولم يتردد في إهانة أمي المسكينة بعبارات مغلّفة بالكبرياء والسخرية.

وسط هذه المعارك الباردة، كانت جدتي زينب، بقلبها الحنون وحكمتها البسيطة، هي حمامة السلام التي تهدئ الأجواء. كانت تتنقل بين الطرفين، تهدئ غضب جدي من ناحية، وتربّت على قلب أمي من ناحية أخرى، حريصة دائماً على ألا تفقد العائلة ترابطها ودفئها.

وبعد عام من زواجهما، أنجبا أخي الكبير، أسعد أصلان، الذي استقبله جدي أنور باشا بفرحة غامرة. أقام له حفلة سبوع كبيرة تحدث عنها أهل الإسكندرية ومصر المحروسة وقتها، وكأنه وُلد وريث العرش. كان جدي أنور باشا يكاد يطير من الفرح بقدوم هذا المولود الذي سيحمل اسم العائلة ويمكث معه في قصره الكبير. كان جدي يعلق عليه آمالًا عظيمة ليكون حامل الراية الجديد، تعويضًا عن خيبة أمله في ولده فؤاد الذي خرج عن طوعه وأحبط تطلعاته.

ظن أبي وأمي أن مجيء أسعد سيخفف من حدة جدي ويُلين قلبه القاسي تجاههما، لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا. زادت صرامته وتدخله في كل تفاصيل تربية أخي، حتى أصبح الأمر يثير التوتر ويزيد الأوضاع سوءًا. ولكن فجأة هدأ جدي عندما علم أن أمي تنتظر مولودًا جديدًا، وكأن هذا الخبر قد أيقظ فيه أملًا آخر.

وبعد سنتين من مجيء أسعد، وُلدتُ أنا، أنيسة أصلان، الحفيدة الصغرى للعائلة. كان جدي هو من اختار لي هذا الاسم كما حدث مع شقيقي أسعد، وكأنني هدية من السماء أرسلت لتلطيف أجواء القصر المشحونة. استقبلني بفرح غامر مبتهجًا بقدومي كمولودة صغيرة جميلة، وأغدق عليّ بحبه واهتمامه، حتى أصبحت مدللته الصغيرة، مدللة جدي وأبي وأمي ومحبوبة الجميع في المنزل.

وكبرت في قصر أنور أصلان، وكنت طفلة شقية للغاية، أركض في أرجاء القصر وكأنني أطير، أبعثر الهدوء بنشاطي وصوتي العالي. لم أكن ألتزم بدروسي، وكنت أتهرب من جلسات الإتيكيت التي حرص جدي عليها بشدة منذ أن كنت في الرابعة من عمري. كان يقول لي دائماً بحزم يشوبه الفخر:

'حفيدة أنور باشا.. هانم حفيدة باشاوات، والهانم يجب أن تتعلم أصول اللباقة والرقي'.

لكنني، بشقاوتي وبراءتي الطفولية، كنت أعتبر تلك الدروس عبئًا يقيّد حريتي الصغيرة. كنت أتسلل كلما سنحت لي الفرصة، لأعيش طفولتي كما أريد، أركض، ألعب، وأثير الفوضى كيفما يحلو لي. ومع ذلك، مهما تهربت أو شاغبت، كان حب جدي لي دائمًا يتغلب على أي غضب أو انزعاج، فهو يرى فيّ شيئًا من الأمل ومن السعادة التي ربما فقدها وسط متاعب الحياة.

كبرتُ أنا وأخي ونحن نعرف أننا لست مجرد أحفاد، بل كان أخي أسعد  وأنا أنيسة أصلان، زهور قصر أصلان، الأطفال اللذين جعلوا أنور أصلان يبتسم من بين قسوته.

وفي يوم من الأيام، طلب أبي من جدي أن يسمح له ولأمي بالسفر إلى فرنسا في رحلة استجمام. كان أبي قد أنهى مشروعًا هندسيًا كبيرًا وكان بحاجة إلى الراحة بعد شهور طويلة من العمل المتواصل، أما أمي، فقد كانت تشجعه على هذه الرحلة لتخفيف العبء عنه، كانت فرنسا تمثل حلمًا طالما راودهما معًا، مكانًا يمنحهما فرصة استعادة أنفاسهما بعيدًا عن الروتين القاسي وضغوط الحياة، وبالأخص بعيدًا عن صرامة جدي وتضييقه المستمر عليهما.

ووافق جدي على مضض، بشرط أن نبقى أنا وأخي معه، فهو لم يتحمل فكرة افتراقنا عنه ولو لأيام قليلة. سافر والداي على متن الطائرة، تاركين وراءهما وعود العودة السريعة وحضنًا دافئًا ينتظرنا. لكن الحياة لا تسير كما نخطط لها دائمًا. بعد يوم واحد فقط من وصولهما إلى باريس، وقع حادث مأساوي. بينما كانا يستقلان سيارة أجرة في طريقهما إلى نهر السين لقضاء وقت هادئ على ضفافه، فقد السائق السيطرة على السيارة بسبب الأمطار الغزيرة، فانزلقت واصطدمت بعنف بحاجز الطريق. وقد كانت الصدمة قاتلة، أخذت أرواحهما في لحظات.

رحل والداي في لحظة مباغتة، تاركين وراءهما فراغًا لا يمكن ملؤه. تلقي جدي الخبر عبر اتصال هاتفي في منتصف الليل، وكأنه صاعقة اخترقت قلبه. وكأن ما حدث أشبه بزلزال هز كيان العائلة بأكملها.  انهار جدي أنور بالكامل، ولأول مرة في حياتي رأيته يبكي. الفاجعة ملأت المنزل الذي غرق في حزن ثقيل، وصدى صراخ جدتي المفجوع كان يُسمع في كل أرجاء المكان. فقدت ابنها الوحيد، سندها وأملها، دون أن تُمنح فرصة وداعه.

كان حزن جدي الرجل العجوز على فقدان ابنه الصغير عميقًا إلى حد أنه ترك أثرًا واضحًا على ملامحه وتصرفاته. لقد انكسر قلبه بطريقة لم يستطع إخفاءها، وأصبح الألم يرافقه أينما حلّ.

أما أنا، فكنت صغيرة لا أعي تمامًا حجم الكارثة التي حلّت بنا. كل ما رأيته كان أخي الأكبر، الذي يكبرني بعامين، يجلس في ركن بعيد ويبكي بصمت، ودموعه تتحدث عما لم أستطع فهمه. كنت أراقب الجميع بحيرة، وأطرح سؤالي البريء الذي كان يحمل في طياته أملًا:

'أين بابا وماما؟.

لكن ما إن يخرج السؤال من فمي حتى تكسو الوجوه حيرة وصمتًا كئيبًا. كانت الأصوات تنخفض، لا أسمع سوى التنهدات، والدموع المخفية خلف الأعين، ويد جدتي زينب التي تُربت على رأسي الصغير برفق وشفقة، وكأنها تحاول أن تعوضني عن غياب لم أكن أعي حجمه بعد.

حاول أجدادي من جهة أمي أخذنا للعيش معهم بعد وفاة والدتي، لكن جدي أنور، بشخصيته الصارمة، رفض الفكرة رفضًا قاطعًا. أصر على أن نبقى في كنفه، وبلغ به الأمر حدّ التهديد إذا فكروا في المطالبة بنا مجددًا. وبعد الكثير من النقاشات والدموع، انتهى الأمر باتفاق وحيد: زيارتنا لهم كل يوم خميس، تحت رقابة صارمة من جدي، الذي كان يعتبر أن مكاننا الوحيد هو منزله.

على الرغم من صرامة جدي أنور ومواقفه الحازمة، كان أحن الناس علينا، وكأنه يحاول جاهداً تعويضنا عن فقدان والدينا. ومع مرور السنوات، بدأت ألاحظ في عينيه نظرات من الندم كلما ذُكر اسم أبي وأمي. كان هذا الشعور يزداد وضوحاً مع تقدمي في العمر، وكأن الزمن قد أثقل كاهله بالذكريات والألم، والندم الشديد..

وبعد مرور عام أو أكثر على وفاة والديّ، اندلعت ثورة يوليو 1952، وكانت تلك صدمة أخرى قاسية على جدي، وعلى كل من هم مثله من الباشوات وأتباع النظام الملكي. أولئك الذين طالما استصغروا المصريين الفلاحين، وجدوا أنفسهم فجأة أمام واقع جديد، حيث جاء مجموعة من الضباط البسطاء الذين أطلقوا على أنفسهم "الضباط الأحرار"، وأسقطوا الملكية واستولوا على حكم مصر. كانت تلك الأحداث بالنسبة لجدي بمثابة فاجعة حقيقية، فلم يكتفِ الزمن بانتزاع ابنه الوحيد منه، بل انتزع كذلك مكانته وثرواته التي عاش فيها لسنوات طويلة.

تمت مصادرة معظم أملاك جدي، وفقد كل ما كان يمتلك تقريبًا، لولا تدخل أحد أصدقائه المخلصين، الذي ساعده على الاحتفاظ بأحد المنازل وبعض الأفدنة الزراعية. كان ذلك البيت، وإن لم يكن صغيرًا، أبسط بكثير من الفيلا الفخمة التي اعتدنا العيش فيها.

وعشنا مع جدي وجدتي في هذا المنزل، بينما اعتمد جدي في معيشته على ما تبقى له من دخل الأرض الزراعية. كان يقضي أيامه غارقًا في حزنه؛ حزن على ابنه الذي فقده، وعلى الملكية التي انتهت، وعلى ما اعتبره 'خرابًا' أحدثه الضباط الأحرار في البلاد – كما كان يردد دومًا. ظل جدي يحمل في قلبه مرارة الخسارة، يتأمل أيامه الماضية بشوق وحنين، وكأنها كانت تنتمي لعالم آخر لن يعود.

وفي خضم تلك الأحداث، كبرت وأنا أتابع ما يجري حولي بعيون الطفلة البريئة التي لم تكن تدرك حقيقة ما يحدث. وعلى الرغم من الانقلاب الكبير الذي شهدته حياتنا، حافظ جدي على تعليمي أنا وأخي أسعد فنون الإتيكيت وآداب التعامل، كأنه كان يتعهد لنفسه بأن ما جرى ليس سوى 'زوبعة في فنجان' وأن كل شيء سيعود إلى طبيعته؛ الملك سيعود أو على الأقل سيجلس ولي العهد على العرش تحت الوصاية. لكن أحلامه انتهت تمامًا حين أدرك أن الملكية قد سقطت بلا عودة، ولم يعد هناك ملك ولا ولي عهد ولا حتى ظل للنظام الذي لطالما اعتز به.

في تلك الفترة، كانت معلمة التاريخ في مدرستي – رحمها الله – هي من فتحت عينيّ على تاريخ مصر. كانت تتحدث عن هذا الوطن بحب وشغف لا مثيل لهما، وكأنها تسرد قصصًا عن أم عظيمة عانت وانتصرت. انتقل شغفها إليّ فأصبحت أقرأ في الخفاء عن هذا البلد العظيم".

قالت أنيسة موجهة حديثها لسالي بعيون فخورة:

"يا سالي، يا سالي.. التاريخ! كم كنت أذوب فيه كل يوم، أتصفح كتبه بنهم شديد، بعيدًا عن أعين جدي المتحجرة في ماضيه".

توقفت للحظة، كأنها تستعيد صورة محفورة في ذاكرتها، ثم أكملت:

"أتذكر يومًا بينما كنت أستمع إلى أغنية صوت الوطن 'مصر التي في خاطري' لأم كلثوم وأنا أقرأ كتابًا تاريخيًا..".

تنهدت أنيسة وأغمضت عينيها وكأنها تعيد كلمات الأغنية إلى مسامعها، ورددت بصوت متعب لكنه مليء بالحنين:

مصر التى فى خاطرى وفى فمى..

احبها من كل روحى ودمى..

يا ليت كل مؤمن بعزها يحبها..

حبي لها..

ثم عادت بنظراتها إلى سالي، وأكملت:

دخل جدي فجأة إلى غرفتي. انتزع الراديو من مكانه وكسره على الأرض بعنف هستيري، كأن الأغنية أشعلت في قلبه جرحًا لم يلتئم. كانت تلك الأغنية رمزًا لثورة يكرهها، لأنها في نظره كانت سببًا في انهيار عالمه. منذ ذلك اليوم، لم أسمع الأغنية مجددًا، لا خوفًا منه، بل خوفًا عليه وعلى قلبه المنكسر. ورغم ما كان يبدو عليه من قسوة وتسلط في هذا الموقف، إلا أنه كان يتبدل في ثانية ويصبح أحنّ الناس علينا. أتذكر جيداً أنه كان كلما رآني يقبّل رأسي ويدي ويناديني بحنان:

'آنستي أنيسة الجميلة'. كانت تلك الكلمات البسيطة كفيلة بأن تزرع في قلبي حبًا عميقًا له، مهما بدا قاسيًا مع الآخرين.

وكان أخي أسعد رفيق دربي، كان أخي وصديقي الوحيد، وملجأي في أوقات الحزن والهم. كنا نتشارك أحلامنا الصغيرة ونضحك معًا، حتى عندما تفرقنا بنا الأيام، ظل أخي حاضرًا في قلبي وروحي.

قالت أنيسة تلك الكلمات وهي تتأمل السقف بعينيها، وكأنها تسترجع ذكرياتها القديمة. كانت الدموع تملأ عينيها ببطء، وكأنها تستوعب للمرة الأولى أنها عاشت عمرها كله دون أن يكون أسعد بجوارها، على الرغم من أنه ما زال على قيد الحياة. كانت المسافة بينهما أكبر من مجرد بُعد جسدي، كانت مسافة زمن وذكريات لم يعد لها مكان في الحاضر. أكملت وهي تمسح دموعها :

"وعلى هذا المنوال، عشت أيام صباي في الإسكندرية، تلك المدينة التي كانت ساحرتي ومعشوقتي الأولى. أمام بحرها المهيب الذي طالما غازلني بأمواجه، وتحت شتائها الغزير الذي كنت أركض تحت مطره وكأني أطير. أيام الصيف كنت أهرول على الكورنيش، أملأ رئتي بنسيم البحر العليل، وأيام الشتاء كنت أضحك وأنا أركض وسط المطر الذي يغسل روحي الصغيرة. كانت أيامي سعيدة وجميلة، أو هكذا كنت أراها بعيوني التي لم تعرف آنذاك معنى الخسارة الحقيقية".

وكبرت أنا، طفلة جدي الباشا المدللة، لأصبح 'الآنسة أنيسة الجميلة' كما كان يناديني. لا أمدح نفسي، لكنني كنت جميلة بالفعل بشهادة كل من حولي. كنت أرتدي أجمل الفساتين وأرقاها التي كان جدي يختارها لي بعناية ويبذخ في شرائها لحفيدته المدللة .

وفي صيف عام 1965، كنت في التاسعة عشرة من عمري، وقد أنهيت سنتي الأولى في كلية الآداب، قسم اللغة الفرنسية. كان صيفًا عاديًا كباقي صيفيات الإسكندرية الساحرة، لكن حدثًا بسيطًا في ذلك اليوم بدّل حياتي إلى الأبد.

كنت أمشي على شاطئ البحر تحت أشعة الشمس الذهبية الساطعة، أرتدي فستانًا أصفر منقوشًا بورود ملونة، تتمايل أطرافه مع نسيم البحر، وعلى رأسي قبعة صيفية كبيرة تظللني من حرارة الشمس. كنت شاردة الذهن، أستمع لصوت الأمواج وأستمتع بمشاهد البحر الممتد أمامي، حين قطع شرودي صوت يناديني من الخلف:

'يا آنسة! يا آنسة بالفستان الأصفر.. انتظري!'.

توقفت والتفت بحيرة، أدركت أنني المقصودة؛ فلم يكن هناك من يرتدي فستانًا أصفر سواي. رفعت يدي لأحجب عني وهج الشمس وأرى مصدر الصوت، لأفاجأ بشاب طويل جدًا، يكاد طوله يلامس السماء في خيالي آنذاك. لم أستطع رؤية ملامحه بوضوح في البداية بسبب أشعة الشمس الحارقة، لكن عندما اقترب أكثر، رأيت وجهًا أسمر اللون، بملامح جذابة وبسمة لطيفة تزين شفتيه. قال وهو يمد يده نحوي:

'لقد سقط منديلك'.

نظرت بحيرة بين وجهه وبين المنديل الذي كان يحمله بحرص وكأنه شيء ثمين. أخذ ينفض حبات الرمل العالقة به برفق ويطويه بعناية ثم يقدمه لي. كان كل شيء فيه هادئًا، مهذبًا، وكأنه مشهد مرسوم بعناية. مددت يدي وأخذت المنديل منه دون أن أتفوه بكلمة. كانت هناك جملة شكر عالقة في حلقي لم أستطع أن أنطق بها. بدا واضحًا أنه ينتظر مني كلمة ما، لكنني ظللت صامتة في حيرتي. ابتسم مجددًا ابتسامة اعتذار خفيفة وقال وهو يستدير:

'إذاً.. إلى اللقاء'.

راقبت خطواته تبتعد، وقبل أن أستوعب ما حدث، شعرت بوخزة غريبة في قلبي. كنت لا أريد أن يرحل هكذا، دون أن أشكره على الأقل. أردت أن أناديه، لكن لساني الخجول، الذي كان قد تجمد منذ البداية، خانني مرة أخرى. نطقت بصوت منخفض جدًا لا يكاد يُسمع:

'انتظر..!'.

لكنه كان قد ابتعد، وصار صوته وصورته مجرد ذكرى علقت في تلك اللحظة. كنت غاضبة من نفسي، كيف تركت الفرصة تفلت مني؟ كيف سمحت للخجل أن يتغلب على أبسط كلمات الشكر؟ لكنني في الوقت ذاته كنت أشعر بشيء مختلف.. شعور غامض لم أختبره من قبل، وكأن ذلك اللقاء القصير قد حمل معه سحرًا زرعه في قلبي دون أن أدري. كنت أعتقد أن القصة قد انتهت عند تلك اللحظة، لكنني لم أكن أعلم أن القدر كان قد رسم طريقًا جديدًا لي، طريقًا بدأ بمنديل سقط على الرمال وشاب غريب نادى على 'الآنسة بالفستان الأصفر'.

 كنت أعتقد أن القصة قد انتهت عند تلك اللحظة، لكنني لم أكن أعلم أن القدر كان قد رسم طريقًا جديدًا لي، طريقًا بدأ بمنديل سقط على الرمال وشاب غريب نادى على 'الآنسة بالفستان الأصفر'

لم يغمض لي جفن تلك الليلة متمسكة بالمنديل في يدي، ظللت أتقلب فوق سريري، أفكر في هذا الشاب الذي اهداني منديلي بعيون ساهدة لا ترى سوى ملامحه التي حفرت صورتها في خيالي. كيف يمكن لشخص رأيته مرة واحدة فقط أن يقتحم تفكيري بهذا الشكل؟ يا إلهي.. يبدو أنني وقعت في غرامك أيها الشاب الأسمر دون أن أدري. هل يعقل أن تهيم فتاة بحب شخص لم يجمعها به سوى لقاء عابر؟ كنت مذهولة مما أشعر به، فأنا التي لم تعرف الحب من قبل، أجد نفسي فجأة أسيرة مشاعر جديدة وغريبة.

 هل يعقل أن تهيم فتاة بحب شخص لم يجمعها به سوى لقاء عابر؟ كنت مذهولة مما أشعر به، فأنا التي لم تعرف الحب من قبل، أجد نفسي فجأة أسيرة مشاعر جديدة وغريبة

في صباح اليوم التالي، خرجت إلى الشاطئ، إلى نفس المكان الذي التقينا فيه، علّ الصدفة تجمعني به مجددًا. انتظرت طويلًا، أراقب المارة وأمواج البحر، لكنه لم يظهر. عدت في اليوم التالي أيضًا، واليوم الذي يليه، لكن دون جدوى. بدأت أشعر باليأس وأقول لنفسي إنه ربما لم يكن سوى عابر سبيل سيختفي من حياتي كما ظهر فيها.

وفي اليوم الثالث، بينما كنت أقف أمام البحر، غارقة في أفكاري ومتأملة الأفق المترامي، استدرت فجأة دون انتباه فاصطدمت بشخص. كدت أسقط على الأرض لولا أنه أمسك بذراعي برفق، مثبتًا خطواتي. رفعت رأسي ببطء وبتوتر شديد، بينما نظراتي تائهة تبحث عن شيء آخر كي تهرب من الموقف، وتمتمت بصوت مرتجف:

"عذراً.. لم أكن منتبهة".

سمعت صوته الهادئ والمألوف يرد:

'لا عليكِ.. يبدو أن البحر سرقكِ من هذا العالم كهذا اليوم الذي أوقعت فيه منديلك'.

رفعت عيني نحوه، لأجد نفسي أمامه مجددًا. الشاب ذاته.. بابتسامته التي لم تغادر خيالي، وملامحه التي أشعلت لياليَّ الساهرة. لثوانٍ لم أصدق أنه هو.

ابتسمت أنيسة متنهدة بحرارة أمام سالي، وعيناها تحملان بريقاً من الحنين، وقالت بعاطفة عميقة امتزجت بابتسامة عشق لا تخطئها العين:

"وقد كان هو يا سالي".

كانت سالي تجلس على الأريكة بجوار سرير أنيسة، ملتحفة بشال كثيف لتحتمي من برد الشتاء، وفي يدها كوب من الشاي الساخن. ملامحها تعكس اهتماماً عميقاً وتأثراً واضحاً بالحكاية التي تستمع إليها. عندما ابتسمت أنيسة لتأثرها، شعرت بأن القصة قد أخذت كلاً منهما إلى عالم آخر. أكملت أنيسة بنبرة مشوبة بالخجل والفرح، وكأنها تعيش تلك اللحظة من جديد:

سألته ببلاهة:

"عذراً؟".

ثم سمعت صوته الرخيم يجيب بلطف جعل دقات قلبي تتسارع أكثر:

"هل أنت بخير؟".

توقفت أنيسة للحظة وهي تنظر إلى سالي، ثم قالت بابتسامة شاردة:

"في تلك اللحظة، كنت متأكدة أنني وقعت في الحب. هل تعرفين ما هو الحب يا ابنتي؟ إنه يشبه الصدمة في ثوانيها الأولى، لا تدركين تماماً ما يحدث لكِ، ثم يبدأ شعور ساحر يتسلل إلى قلبك ويجعلك غير قادرة على التفكير بوضوح".

كانت كلماتها تخرج ببطء وكأنها تلمس كل حرف منها. ثم تابعت، وعينيها تتألقان من الذكرى:

كان قلبي يخفق بجنون وأنا أراه أمامي. شعرت بالخجل، وأخفضت رأسي وكأنني فقدت فجأة ثقتي في جمالي، ليقطع هو لحظات ارتباكي بصوته الدافئ قائلاً:

"إن اللون الأصفر كان أجمل عليك".

ضحكت أنيسة بخفة وكأنها تسمع كلماته لأول مرة من جديد، بينما كانت سالي تحدق فيها بابتسامة لا تخلو من دهشة وسعادة مختلطة بما شعرت به أنيسة ذات يوم. أكملت أنيسة:

رفعت رأسي بذهول، وعيناي تلتقطان بريق ابتسامته وهو يتأمل فستاني بلون اللافندر بعناية، قبل أن يكمل كلامه بصوت دافئ:

"هذا لا يعني أن هذا لا يليق بك، ولكن الأصفر كان يعطيك سحراً وحيوية أكثر من هذا".

لم أستوعب كلامه في البداية، وهو لاحظ أنه ربما تمادى قليلاً في حديثه، فقال بسرعة، بتوتر ظاهر وهو يعدل ساعته:

"أعتذر لو ضايقتك بحديثي، ولكن..".

قاطعته وتحدثت أخيراً بسرعة، بصوت خجول ومنخفض، بالكاد يُسمع:

"لا.. لا.. لم تضايقني".

ابتسم بلطف وأخفض رأسه قليلاً وكأنه يحاول أن يلتقط صوتي:

"إذاً هذا صوتك؟ تحدثي أكثر حتى أستطيع تمييزه".

ازداد خجلي بشكل واضح، فأطلق ضحكة خفيفة، وقال بمزاح:

"أنا أمزح معك".

كان يراقبني للحظة ثم مد يده بأناقة واضحة، وهو يقول بصوت يحمل شيئاً من الجدية الممتزجة بالود:

"اسمي كمال، وأنتِ؟".

نظرت إلى يده الممتدة نحوي بحيرة، وكأنني للحظة نسيت كل آداب اللياقة التي تعلمتها. شعرت بالارتباك، واستوعبت متأخرة أنه يتعرف علي. بسرعة، وكأنني أهرب من ذهولي، مددت يدي وأنا أتمتم بخجل:

"أنا.. أنا أنيسة".

كرّر اسمي بهدوء وكأنه يتذوقه:

"أنيسة؟ اسمك جميل يا آنسة".

ثم تابع بنبرة لطيفة مليئة بالثقة:

"هل تسمحين لي بالسير معك؟".

أومأت برأسي بخجل، وسرنا بجانب بعضنا على طول الشاطئ، حيث كان البحر في ذلك اليوم مهيبًا وساحرًا، والهواء منعشًا كأنه يحمل بين نسماته وعدًا جديدًا. كانت الأجواء مثالية لقصة حب تولد بين شخصين في لحظة عابرة، لكنها تحمل أثرًا عميقًا على حياتي.

كمال كان شابًا لبقًا ومهذبًا، تتحدث عيناه بلغة هادئة واثقة. بدأ يحدثني عن الإسكندرية، المدينة التي جاء إليها زائرًا، وعلمت منه أنه ليس من أهلها. كان ابن قرية صغيرة تابعة لمركز كفر الزيات في محافظة الشرقية. قالها ببساطة، "فلاح ابن فلاح"، ولكن بنبرة فخر متأصلة. أخبرني أنه يكبرني بخمس سنوات، وأنه تخرج حديثًا في الكلية الحربية، ليبدأ عمله كضابط في الجيش. كان كل شيء فيه يعكس ذلك؛ من بنيته القوية وجسده المشدود، إلى بشرته السمراء التي زادتها الشمس دفئًا وصلابة. أخبرني أنه في إجازة قصيرة لمدة أسبوعين، يقضيها مع عائلته هنا في الإسكندرية، كعادته كل صيف.

استرسلنا في الحديث عن أمور شتى، الوقت يمضي ونحن نتشارك قصصًا وأفكارًا كما لو كنا نعرف بعضنا منذ سنوات. لم أشعر بمرور الساعات إلا حين ألقيت نظرة خاطفة على ساعتي، واكتشفت أن الوقت قد تأخر. نظرت إليه بتردد، يجتاحني مزيج من شوق ولهفة ورغبة في البقاء، لكنني قلت بنبرة مشتاقة ممزوجة بالاعتذار:

"عليّ أن أذهب الآن، ولكن أتمنى أن أراك مجددًا".

لم أحتج إلى طلب صريح، فقد اقترح هو اللقاء في اليوم التالي قبل أن نفترق. تبادلنا أرقام الهواتف، لكنني حذرته بابتسامة خجولة ألا يحاول الاتصال إلا في الحالات الطارئة.

عدت إلى المنزل في ذلك اليوم وأنا أسير بخفة على أطراف ساقي وكأنني أطير، أعيش سعادة لا مثيل لها. دخلت البيت وأنا أشعر كأنني فراشة تهبط على كل زهرة تلتقيها. قبّلت جدتي وجدي وأخي أسعد، الذي كان طالبًا في سنته الثانية في كلية الهندسة، وحتى الخادمات لم يفلتن من فرحتي. كان قلبي يردد بهمس مبهج:

"لقد قابلت أخيرًا حب حياتي".

في تلك السنة، غنت أم كلثوم "إنت الحب". ربما لم تكن واحدة من أغانيها التي ترددت كثيرًا كغيرها، لكنها بالنسبة لي كانت الأقرب إلى قلبي. كنت أسمعها وكأنها تغنيها لي وحدي، كأنها تروي مشاعري الخفية التي لم أجرؤ على البوح بها لأحد.

كنت أنتظر بفارغ الصبر أن تعيد الإذاعة تلك الحفلة التي أدت فيها الأغنية. كان ترقبها يشبه انتظاري لرسالة من قلب بعيد، وعندما لا أسمعها، كنت أشعر بخيبة أمل تغمرني وكأن العالم قد أدار ظهره لي في تلك اللحظة.

يا ما قلوب هايمه حواليك

تتمنى تسعد يوم برضاك

وأنا اللى قلبى ملك ايديك

تنعم وتحرم زي هواك

الليل عليا طال بين السهر والنوح

اسمع لوم العزال

اضحك وانا المجروح

وعمري ما اشكى من حبك

مهما غرامك لوعنى

لكن أغير م اللى يحبك ويصون هواك أكتر مني

اول عنيه ما جت فى عنيك عرفت طريق الشوق بينا

وقلبى لما سألته عليك قاللى دى نار حبك جنه

صدقت قلبى فى اللى قالولي

لكن غرامك حيرنى وليل بعادك سهرنى

تجرى دموعى وأنت هاجرنى ولا ناسينى ولا فاكرني

وعمرى ما اشكى من حبك مهما غرامك لوعنى

لكن أغير م اللى يحبك ويصون هواك أكتر منى

ضحكت أنيسة بخفة وهي توجه كلامها لسالي:

"هل هناك حكاية كليشيه أكثر من تلك؟"

ابتسمت سالي، وبدت في عينيها لمعة اهتمام مشجعة، فأكملت أنيسة وهي تنظر نحوها بابتسامة ساخرة:

"ولكن، يا عزيزتي، أليس في الكليشيهات بعض السحر؟ تلك البساطة، تلك المشاعر الأولى التي تهز القلب وكأنها الحقيقة الوحيدة في العالم؟".

صمتت للحظة، ثم أضافت بنبرة هادئة:

"مهما بدت القصة مكررة، تظل مشاعرها دائمًا فريدة بالنسبة لمن عاشها".

ابتسمت أنيسة واسترسلت بعمق:

"لو سألتيني اليوم لماذا وقعت في حبه حينها، لن أستطيع أن أعطيك إجابة واضحة. كنت صغيرة جدًا، لا أملك خبرة كافية لتحليل مشاعري أو تفسيرها. أما فأنا لدي إجابة، نعم لقد وقعت كفتاة معدومة الخبرة في سحر اللحظة الأولى. لكنني رأيت في كمال بعدها شيئًا مختلفًا، مزيجًا عجيبًا وساحرًا. كان ذكيًا ولبقًا، يتحدث بثقة ويملك من العزة والكرامة والكبرياء ما لم أره في أحد من قبل. تلك الصفات كانت تتجلى بوضوح في وقت كانت فيه مصر تعيش انتكاستها. كان رجلاً حيوياً مليئاً بالطاقة أشبه ببطل أسطوري خرج من بين صفحات الحكايات التي كنت أعشق قراءتها. أعتقد أن عقلي حتى الآن مازال يعجز عن شرح حالة هذا الرجل".

ابتسمت المرأة بشجن:

"إذاً لنكمل حكايتنا..".

مرّت الأيام ومعها مرت إجازة كمال كأنها لحظة خاطفة، فقد كنت ألتقي به يوميًا خلال تلك الأيام التي حملت لي أجمل الذكريات. 

لم أخبر أحدًا بعلاقتنا سوى جدتي العزيزة، التي كانت قلقة على الدوام وتنبهني من مقابلته سراً، لكنها في الوقت ذاته سعيدة لرؤية ابتسامتي وسعادتي. أتذكر نصائحها التي لم تخلُ من الحزم، إذ كانت ترفع إصبعها بجدية وتقول:

"إياكِ وتجاوز الحدود، يا طفلة! لا قبلات ولا تلك التصرفات الغير لائقة، وإلا ستأتي صفية وتخبرني".

كانت صفية، إحدى الخادمات في منزلنا، بالفعل تُرسل خلفي بأوامر من جدتي لتطمئن عليّ. أما أنا، فكنت سعيدة لنصائحها التي تخفي حبًا وخوفًا كبيرين.

في الحقيقة، كنت شابة واعية تمامًا بحدودي، أكثر صرامة حتى من جدتي القلقة. كان الحب الذي أحمله لكمال عاطفيًا، لكنه محكوم بعقليتي المتزنة التي تمنعني من الانجراف. لم أرغب سوى في قضاء لحظات جميلة برفقته، نستمع لبعضنا البعض، نتشارك الأيس كريم على الشاطئ، ونتحدث عن كل ما يدور حولنا. رغم ذلك، لم أنسَ أنه لم يصارحني بحبه بعد. كنت أنتظر اعترافه بصبر، دون أن أجرؤ على مطالبته به. فاكتفيت بتلك اللقاءات الحلوة التي جمعتنا.

وفي آخر يوم من إجازته، أمام شاطئ البحر، حدث ما كنت أنتظره طويلاً. أمسك كمال بيدي، وعيناه تشعان بالعاطفة، وقال بصوت ممتلئ بالصدق:

"اليوم هو آخر يوم لي في الأسكندرية. في الحقيقة لم يغمض لي جفن الليلة السابقة. لقد كنت أفكر فيك، أنت فقط لا أحد ولا شيء آخر. أعتقد أنني وقعت في غرامك. أنيسة أنا أحبك".

لم أصدق وقع الكلمة على أذني، فقد كانت كالصاعقة، ملأتني بالدهشة والسعادة في آنٍ واحد.  لقد أعترف كمال أخيراً بحبه، الشاب المرح الذي عرفته تحوّل فجأة إلى رجل عاشق، عينيه الثابتتان المليئتان بالذكاء ارتجفتا تحت وطأة الحب. أما أنا، لم أستطع أن أتمالك نفسي، فابتسمت ابتسامة يملؤها الدمع. لقد كنت شابة صغيرة جداً لا أستطيع إخفاء عواطفي، وفهم كمال من تلك الابتسامة ما عجزت كلماتي عن البوح به.

"أنيسة، أنا صبور، لكني أرغب في سماع إجابتك قبل أن أرحل غدًا. إجابتك ستغير مسار حياتي، وستبدأ طريقًا جديدًا لنا معًا".

لكنني ترددت. لم يكن قلبي هو السبب، بل مخاوفي من جدي، الذي لطالما تحدث عن ضرورة الزواج من أبناء وأحفاد الباشوات السابقيين. كيف سيقبل أن حفيدته المدللة تحب شابًا ضابطًا في الجيش من عامة الشعب؟ تلك الأفكار كبحتني، وجعلتني عاجزة عن الرد.

رأى كمال ترددي، فقال بثبات واطمئنان:

"لا اريدك أن تقلقي من شيء. أنا رجل ملتزم بكلمتي، وسأنتظر قرارك. إذا وافقتِ، سأكون في بيت جدك فورًا لأطلب يدك".

نظرت حولي بخجل وأنا أخرج منديلاً من حقيبتي، هذا المنديل الذي كان السبب في بداية تلك القصة. نظرت إليه مُباشرة وأنا أضع منديلي في كفه:

"اعتبر تلك إجابة مبدئية، وسأخبرك بها صريحة في أول رسالة".

ابتسم كمال بحب، وقال:

"رغم أنني كنت أود سماعها منك الآن، إلا أنني سأنتظر رسالتك بفارغ الصبر".

وغادر كمال في اليوم التالي دون أن يحصل على إجابتي. بقيت نادمة طوال الوقت على صمتي، وعلى عدم اعترافي بحبي الذي بدأ منذ اللحظة الأولى التي التقينا فيها. ولكني كنت مشتتة جداً وخجلة، ولم تكن لدي خبرة في التعامل مع هذه المواقف.

ولكن كما وعدته أرسلت له رسالتي الأولى والتي  بدأت كتباتها في ليلة اليوم الذي جمع آخر لقاء لنا..

[الأسكندرية، يوم الأحد، 5 سبتمبر 1965

عزيزي السيد كمال،

صباح الخير إن كنت تقرأ هذه الرسالة في الصباح،

ومساء الخير إن كنت تقرأها في المساء.

أبعث إليك سلاماتي وأشواقي الحارة، وأرجو أن تصلك هذه الرسالة وأنت بخير وعلى أحسن حال.

لقد مرَّت أيام الإجازة بسرعة شديدة، أليس كذلك؟ بالكاد استطعت أن أستوعب أنك غادرت الإسكندرية. في الحقيقة، كنت متلهفة لأن أكتب إليك هذه الرسالة، ربما منذ اللحظة التي ودَّعتك فيها. بداخلي الكثير من الندم لأنني تركتك ترحل دون أن أعطيك الإجابة التي كنت تنتظرها بشوق، الإجابة التي كنت قد طلبتها مني بكل صبر وأمل. صدقني، تلك الكلمة التي أردت سماعها كانت حاضرة على شفتي. أردت أن أخبرك بها في تلك اللحظة، لكن خجلي وترددي كبَّلاني. ربما كنت خائفة من أن أواجه مشاعري بكل هذا الوضوح، أو ربما كنت قلقة من ردة فعلك أو من المستقبل الذي لا أراه بوضوح. لهذا قررت أن أخطَّ هذه الرسالة لك، لتكون فرصتي لأخبرك بكل ما يجول في داخلي.

كمال، حياتي تغيرت كليًا منذ لقائنا. الجميع هنا في المنزل يلاحظون التغيير الذي طرأ عليَّ، وأنا أيضًا أشعر بذلك. لقد غيَّرت حياتي تمامًا منذ لقائنا الأول. أدركت بعد رحيلك أن أيامي قبلك كانت باهتة، بلا معنى حقيقي. كنت أعيشها، لكنني لم أكن أستشعر نبضها. الآن، بعد أن أصبحت جزءًا من حياتي، كل شيء يبدو مختلفًا.

حتى عاداتي تغيرت. أصبحت أرغب في النوم باكرًا، هل تعلم لماذا؟ لأحلم بك وأسترجع تلك اللحظات الجميلة التي عشناها معًا. أصبحت أميل للوحدة أكثر من ذي قبل، وأبتعد عن الجميع لأسرح في أفكاري التي دائمًا ما تدور حولك. مهما حاولت أن أشغل نفسي بأي شيء، أجدني دائمًا سارحة، أفكر فيك.. أنت فقط.

أما الراديو، فهو يعمل ليلًا ونهارًا، أملًا في أن تبث الإذاعة أغنية "أنت الحب" لأم كلثوم، الأغنية التي أصبحت تربطني بلحظاتنا السعيدة، من الكلمات التي كتبها أحمد رامي والتي تبدو كأنها تصف كل ما أشعر به:

يا ما قلوب هايمه حواليك

تتمنى تسعد يوم برضاك

وأنا اللي قلبي ملك إيديك

تنعم وتحرم زي هواك

يا لها من أغنية عذبة! هل استمعت إليها من قبل؟ إنها رائعة حقًا. أنا حقاً من عشاق أشعار أحمد رامي الصادقة والرقيقة. إن لم تكن قد استمعت إليها، فأنا أوصي بها لك بكل حب.

كمال، هل الحب يفعل كل هذا؟ هل يُغيِّر الإنسان بهذا الشكل؟ الإجابة التي اكتشفتها بعد لقائنا هي: نعم. الحب قادر على تغيير كل شيء. هذا هو جوابي، جوابي الذي كنت تنتظره.

أنا مغرمة بك يا كمال. أحببتك منذ اللحظة الأولى التي التقت فيها أعيننا. شغلت فكري وقلبي منذ ذلك اليوم الذي ابتسمت فيه لي وأعدت لي منديلي.

هل تعلم أن هناك تقليدًا في بعض الثقافات، تلقي فيه العروس منديلاً للرجل إذا وافقت عليه؟ عندما أعطيتك منديلي، كنت أقدم لك إجابتي المسبقة، حتى وإن لم أنطق بها في وقتها.

كمال، أنتظر يوم لقائنا القادم بفارغ الصبر. انتظرك بصبر وإخلاص شديدين، أتطلع لرؤيتك مجددًا، حيث نتلاقى وتتلاقى قلوبنا مرةً أخرى، أتطلع للتحدث معك، وللعيش مرةً أخرى في تلك اللحظات الجميلة التي باتت الأثمن في حياتي. سأحاول أن أمارس حياتي بشكل طبيعي، واعلم أنني هنا في الاسكندرية، مخلصة وصابرة، بانتظار رسالتك وردك على كلماتي. وبانتظار مقابلتك مرةً أخرى

المحبة والمخلصة لك دائمًا،

أنيسة].

وأرسلت له رسالتي الأولى التي كانت مليئة بالمشاعر الخصبة، وأعترفت فيها بحبي لأول مرة في حياتي. ولم أكن أعلم أن في ذلك الوقت أن قصة حبي مع كمال، ستبدل حياتي بالفعل، ليست حياتي فقط بل حياة عائلتي كلها.

 ولم أكن أعلم أن في ذلك الوقت أن قصة حبي مع كمال، ستبدل حياتي بالفعل، ليست حياتي فقط بل حياة عائلتي كلها

نهاية الفصل الحادي والثلاثون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

أهلاً أعزائي القراء.. أنا كنت دايماً بسأل نفسي امتى هوصل لحكاية أنيسة وأخيرا ًالحمدلله وصلتلها وبدأنا أخيراً حكايتها وماضيها المثير للاهتمام، قصة مليانة مزيج من مشاعر الحب والحزن والغضب، الفصل ده كتبته بسهولة، ومش دايماً الظروف بتبقى سهلة أوي كده، القصة دي كنت بحضرلها من زمان علشان كنت حساها أوي ومتلهفة أكتبها. الأيام بتجري أوي، أوي، وإن شاء نوصل مع بعض لليوم اللي هنقرأ فيه مع بعض نهاية قصة المنزل.. أتمنى تكونوا مستمتعين، متحسبوش الوقت، وعيشوا القصة من قلوبكم.. بشكركم من كل قلبي على صبركم..

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصل: يا ترى أنور باشا هيعمل ايه مع حفيدته أنيسة؟

***

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.