رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الثلاثون
موسيقى انهاردة لعمر خيرت "ربيع في العاصفة". استمتعوا.
سارت سالي بجانبه في الحديقة. كان الطقس بارداً، لكن الهواء المنعش منحها إحساساً بالحيوية. السماء، على غير العادة، كانت صافية، يتوسطها قمر كبير يضيء بوضوح. شعرت بالقلق مما سيقوله، فقد كان الصمت سيد الموقف بينهما منذ ذلك اليوم الذي أطلقت فيه خبر مرض أنيسة كقنبلة فوق رأسه. لم يكن لديه أدنى شك في أنها تعمدت إخفاء الأمر، وكان من الواضح أنه يحمل تجاهها استياءً.
استرجعت في ذهنها ما حدث مع فرح، عندما تسترت عليها وشعر هو بالخيانة. لم تكن تريد أن يتكرر الأمر مرة أخرى، خاصة وأن علاقتها بخالد كانت ضعيفة وهشة. لكنها رغم ذلك كانت ترغب في حمايتها من الانهيار والوصول إلى مرحلة غير مبشرة.
ألقت نظرة على وجهه، فوجدت ملامحه جامدة، لا تحمل أي تعبير. فجأة، التقت نظراته بنظراتها، مما جعلها تشعر بالارتباك. بعد لحظة قصيرة من الصمت، نظرت إلى جرحه باهتمام وسألته:
"كيف حال جرحك؟".
رفع خالد يده إلى جبينه، وكأنما نسي تمامًا أنه مصاب، ثم أجاب بهدوء:
"بخير، إنه لا شيء، شكراً لإهتمامك".
وأكمل بصوت هادئ لكنه حازم قائلاً:
"في الحقيقة كنت أريد أن أشكرك، وأعتذر في نفس الوقت لو تحملتي فوق طاقتك الفترة الماضية مع أمي والأطفال".
شعرت سالي بأن طريقة حديثه صارت رسمية قليلاً وهذا أربكها أكثر. قالت:
"لا حاجة للاعتذار، لقد قمت بواجبي المهني، و..".
نظرت إليه بتردد، ثم أكملت:
"أنا من يرغب في الأعتذار على الطريقة التي وصلك بها الخبر".
نظر إليها بغموض ثم قال بلا مبالاة:
"لا مشكلة. على أية حال، الظروف مؤخراً كانت صعبة، وقد قمت بأكثر من واجبك".
أكمل وهو يضيق عينيه:
"نظراً للظروف التي نمر بها، اليوم ماما سألتني أن أطلب منك طلباً.. ترجو منك توافقي عليه". كانت عيناه تحملان نظرات غامضة، مزيجاً من البرود وأمر لم تستطع تفسيره. شعرت بتوتر يزداد في صدرها، لكنها تماسكت وأجابت بصوت يحمل نبرة حذر وترقب:
"تفضل يا مستر خالد، أنا أسمعك".
راقبت ملامحه، لكنها لم تمنحها أي إشارات واضحة عما يدور في ذهنه، مما زاد من قلقها وترقبها لما سيقوله. تحدث خالد وكأن كلماته كانت تقطع طريقها بصعوبة من بين شفتيه، وكأن كل حرف يحمل معه ثقلاً لا يحتمل:
"كما تعلمين، عليها أن تقضي ما تبقى من أيامها في المستشفى. لذلك تطلب منك أن تكوني معها كمرافقة في الأوقات التي لا أستطيع فيها متابعة حالتها.. هي تشعر بالوحدة والخوف".
رغم هدوء وبرود صوته، كان هناك شيء خفي يوحي بضعفه. سالي شعرت بتردد غير مألوف منه، وكأن خالد هذا مختلف عن الذي اعتادته، ذاك الذي عادة ما يفرض نفسه بقوة ووضوح. لم يدع لها مجالاً للتفكير وأكمل:
"في الحقيقة لقد فكرت كثيراً في طلبها، واقتنعت أنك الشخص المناسب ليرافقها".
نظر إليها مُباشرةً فأخفضت سالي رأسها مُفكرة، كانت كلماته تحمل وزناً ثقيلاً، وكأنها اعتراف غير مباشر بثقته بها، رغم كل ما حدث. سالي شعرت بمزيج من المفاجأة والمسؤولية، وبعد لحظات أجابت ببساطة:
"أرجوك أخبرها أنني موافقة".
"بناءً على موافقتك، سيتم تعويضك. سأضع في الاعتبار أنني أوظفك لخدمة إضافية".
ما إن أنهى خالد جملته حتى شعرت وكأن شيئاً ما يصفعها بقوة. رفعت نظرها إليه بدهشة لا تخلو من صدمة، ملامحها عكست خليطاً من الذهول والإهانة. تعويضها؟ تسارعت الأفكار في رأسها، وأحست بغصة في حلقها تمنعها من الرد فوراً. حاولت أن تحتفظ بتماسكها، لكنها شعرت بأن شيئاً ما بداخلها قد تحطم. صفت حنجرتها، محاولة التغلب على الغصة التي كانت تخنقها. شعرت وكأن الكلمات ترفض أن تخرج، لكنها أجبرت نفسها على الحديث رغم الحشرجة في صوتها:
"مستر خالد.. لقد قلت قبل قليل أنه طلب. ومثل تلك الطلبات الإنسانية لا تتدخل فيها الشروط المادية، أنا أفعل ذلك من قلبي دون الالتفات إلى الماديات والتعويضات، الست أنيسة غالية على قلبي ومساعدتي لها ليست من قبيل العمل".
كان صوتها يحمل نبرة تجمع بين الألم والكرامة، وكأنها تحاول أن تضع حداً فاصلاً بين ما هو إنساني وما هو مادي. نظرت إليه بعينين مليئتين بالعتاب، وكأنها تسأله بصمت: هل هذا فعلاً ما تعتقده عني؟
لم يلتفت خالد إليها، لكنه أجاب بصوت ثابت وحازم:
"دكتورة، ربما يكون هذا طلب من ماما، ولكنني أراه خدمة منك، وعليك أن تتلقي ثمن مجهودك".
أكمل بوضوح:
"هذا حقك. أرجو أن تقبلي طلبي كما هو، وإلا سأضطر للبحث عن شخص آخر".
كانت كلماته باردة وحاسمة، وكأنها طعنة أصابت قلبها مباشرة. لم تجد ما تقوله، فالتزمت الصمت للحظات، حتى قطع هو الانتظار بسؤال مباشر:
"إذاً، ما هي إجابتك النهائية؟".
فكرت سالي بحزن، كانت تعرف أنه يعلم إجابتها مسبقاً، ويعلم أنها ستوافق رغم كل شيء. لكن لماذا كان عليه أن يجرحها بهذه الطريقة؟ هل كان يعاقبها لأنها أخفت عنه مرض أنيسة؟
تجمعت الدموع في عينيها، لكنها أغمضتهما بقوة لتحبسها، ثم أجابت برأس منخفض:
"موافقة".
علّق خالد سريعاً، بنبرة عملية:
"إذاً، اتفقنا. أتمنى أن تصلني تقارير حالة أمي باستمرار".
ثم أضاف، وكأنه يوجه رسالة أخيرة:
"بما أنك ستتلقين راتب على ذلك، لا داعي لإخفاء أي شيء عني بعد الآن، فالأمر لم يعد يستدعي ذلك".
رفعت سالي رأسها، شعور بالظلم يغمرها، وهمّت بالاعتراض:
"ولكن..".
أشار خالد بيده ليقطع حديثها، قائلاً بهدوء:
"أنا لا أتهمك ولا أظلمك. على العكس، أفهم تماماً أنك كنتِ مجبرة على ذلك. لكني فقط أؤكد أنه لا حاجة الآن لإخفاء أي شيء يخص حالة أمي".
لم يمنحها فرصة للدفاع عن نفسها، وأكمل بلهجة هادئة ولكن حازمة:
"دكتورة، أرجو ألا تشعري بالضيق من كلامي. نحن بالغون ومسؤولون الآن، وما يهم فعلاً هو صحة أمي".
ثم أضاف بنبرة عملية:
"سأخبرك بالمواعيد غداً صباحاً، وسأحرص على إيصالك بنفسي إلى المستشفى في كل مرة".
أومأت سالي برأسها بصمت، بينما ساد لحظات قصيرة من الهدوء، قبل أن يعاود خالد الحديث بنبرة طبيعية:
"أما بالنسبة للأطفال، أرجو ألا ترهقي نفسك بمسؤوليات أكبر من دورك. الأطفال مرهقون، وكثيراً ما يسببون الفوضى، كما رأيتِ مع لارا".
لم يمنحها فرصة للرد، بل استمر في حديثه بنبرة هادئة ولكن حاسمة:
"فيما يتعلق بالحضانة الخاصة بالصغار، والهوايات، وما إلى ذلك من أمور، أرجو أن توافييني بأي مستجدات. سأكون أنا المسؤول عن تولي تلك المهام بنفسي. لا حاجة لأن تُرهقي نفسك معهم".
كانت كلماته واضحة، وهنا أدركت سالي أن كلماته تحمل في طياتها قراراً نهائياً، وكأنه يحاول تخفيف عبء المسؤولية عنها، لكنه في الوقت نفسه يرسم حدوداً واضحة لدورها. رفعت سالي رأسها، وظهرت ملامح الاستياء جلية على وجهها، لكنها أجبرت نفسها على الحديث بنبرة هادئة، تخفي خلفها اضطرابها:
"مستر خالد، يبدو أنك تسيء الفهم. قد لا يكون ما أفعله ضمن نطاق تخصصي الذي جئت به هنا، لكنه نابع من صدق وإخلاص. أعلم أن هناك سبباً للتغيير المفاجئ في موقفك، ولكنك الآن تظلمني تماماً، وتضعني جانباً متجاهلاً مشاعري".
كانت كلماتها مزيجاً من العتاب والإصرار على الدفاع عن نفسها، محاولة أن تضع حداً لما شعرت به من تجاهل وتقليل لدورها.
رد خالد عليها وكأنه يحاول أن يضع الأمور في نصابها:
"يا دكتورة، في مثل هذا الوقت أنا لا أفكر في المشاعر. ما يشغلني الآن هو ألا أحملك مسؤولية ليست ضمن نطاق تخصصك كطبيبة المنزل، كل شيء يجب أن يوضع في نصابه".
كان كلامه مباشراً، يخلو من المجاملات، لقد تجاهل ما يمكن أن يسببه هذا الرد من جرح لمشاعرها. وهذا كان قاسياً.. قاسياً جداً.
أخفضت سالي رأسها وتوقفت عن السير. لاحظ خالد ذلك فالتفت نحوها. رفعت رأسها ببطء، وابتسامة حزينة ترتسم على شفتيها، ثم قالت بنبرة هادئة لكنها تحمل شجنًا عميقًا:
"يبدو أنك بالفعل لا تفكر في المشاعر في مثل هذا الوقت وتتجاهل العلاقة التي تشكلت بيني وبين السيدة أنيسة.. والأطفال".
كانت كلماتها أشبه بعتاب خفي، حاولت أن تقوله بلطف، لكنها عجزت عن إخفاء الحزن الذي يعصف بها:
"كل ما قمت به هنا وكان خارج إطار عملي، كان نابعاً من قلبي، من مشاعر حقيقية تجاه أفراد هذا المنزل. ربما لو لم تكن تلك المشاعر موجودة، لما تراجعت عن قراري بالرحيل بعد الشهر الأول. أقدر تماماً حجم المسؤوليات التي تتحملها، لكني لا أستوعب هذا التحول المفاجئ في موقفك".
للحظة، ارتسمت على وجه خالد ملامح الصدمة من كلماتها. لم يكن يتوقع هذا الرد الواضح والمباشر، ولم يجد ما يقوله فوراً. كانت الكلمات عالقة في حلقه، بينما رفعت سالي رأسها ببرود، وكأنها تستجمع توازنها الداخلي وتعيد ترتيب موقفها. تنهدت بهدوء وقالت:
"لذا.. أريد أن أوضح لك أنه لا داعي للقلق يا مستر خالد. علاقتي العميقة بالأولاد ليست عبئاً، بل أعتبرها جزءاً من مسؤوليتي. أحد أدواري هو الاعتناء بالصغار نفسياً، وأملك شهادة تخولني ذلك. على الأقل، أستطيع أن أكون دعماً لهم في تجاوز ما يمرون به الآن".
توقفت للحظة، ثم تابعت بنبرة هادئة لكن حازمة:
"أنا أوافق على مرافقة السيدة أنيسة، لكن باقي الأمور.. أعتذر، لن أتمكن من الموافقة عليها. أعلم أن موقفي قد يبدو جريئاً في نظرك، ولكن السيدة أنيسة هي من منحتني هذه الصلاحية، وأنا متمسكة بها".
استدارت مبتعدة بخطوات ثابتة، لكنها توقفت بعد ثوانٍ، والتفتت إليه قائلة بنبرة مختصرة:
"سأنتظر منك مواعيد المرافقة للسيدة أنيسة".
ثم عادت تكمل سيرها نحو المنزل. راقبها خالد بصمت، متمعناً في خطواتها. رغم رفعها لرأسها بثقة وعزيمة، إلا أن تباطؤ خطواتها لم يخفَ عليه؛ كان دليلاً واضحاً على انكسار خفي تحاول إخفاءه.
وضع خالد يديه الباردتين في جيبيه، بينما لفحت الرياح وجهه، تاركة إحساساً مؤلماً يلامس روحه. للحظة، شعر بوخزة في قلبه وهو يدرك قسوة كلماته معها. ومع ذلك، كان يحمل بداخله أسباباً لتصرفه، أسباباً بدت له على الأقل مبررة. ربما تفهمها سالي في يوم من الأيام، وربما لا.
استعادت ذاكرته ملامحها العنيدة، تلك النظرة الصارمة التي لم تستطع إخفاء الحزن والانكسار خلفها. لم يكن بحاجة إلى دليل إضافي ليدرك مدى عشق هذه المرأة للأطفال. كان الأمر واضحاً في كل لحظة قضاها يراقبها وهي تتحدث مع أحدهم. تذكر آخر موقف جمعها مع لارا، وكيف كانت حنونة ومراعية مع الطفلة، كيف كانت لمستها الطبية على ظهر الطفلة مفعمة بالرقة، وهمساتها المشجعة والمطمئنة التي بثت في قلب الصغيرة الراحة.
كانت سالي الحنونة تظهر جلياً في مثل تلك المواقف، وكأنها تعيش كل لحظة مع هؤلاء الأطفال بحب واهتمام. لكن.. وماذا بعد؟
ظل هذا السؤال عالقاً في ذهنه وهو يجلس تحت العريشة مُتأملاً السماء، شعر بثقل أفكاره وهو يقلب المسألة في ذهنه.
***
صعدت سالي إلى غرفتها في تلك الليلة المثقلة بالحزن، تحمل على كتفيها أثقال الانكسار الذي تركته كلمات خالد الباردة في قلبها. عقلها كان مشوشاً، يتقاذفه سؤال واحد: هل كان ينفر منها؟ بينما حاولت العثور على إجابة، اجتاحتها موجة مفاجئة من العصبية. دفعت الباب بقوة، وكأنها تحاول طرد أفكارها، لتجد أمامها مشهداً لم تتوقعه.
الفتيات كن في غرفتها؛ فرح، ليلى، أميرة، ليان، ونور. توقفت سالي للحظة وهي تحدق بهن بدهشة، غير قادرة على استيعاب وجودهن هناك.
فجأة، نهضت ليلى بسرعة واتجهت نحوها، ترتمي في حضنها وهي تبكي بحرقة. لم يكن لدى سالي رد فعل سريع، شعرت بفراغ يكتنف عقلها، لكنها سرعان ما رفعت عينيها نحو باقي الفتيات، اللواتي كن يراقبن المشهد بعيون ممتلئة بالرجاء والخوف. عندها فقط أدركت ما الذي دفعهن إلى هذا الموقف.
بهدوء، طبطبت سالي على ظهر ليلى واحتضنتها برفق، محاولة بث الطمأنينة في قلبها الصغير. لم يمض وقت طويل حتى انفجرت باقي الفتيات في البكاء، وكأنهن وجدن أخيراً ملاذاً آمناً يعبرن فيه عن ألمهن. وقفت سالي بينهن، تستمع بصمت إلى حزنهن، انهيارهن، بكائهن، وتنهداتهن بصمت وبصبر شديدين. تدرك أن ما يحتجنه الآن ليس سوى قلب يستوعبهن، وصدر يحتوي آلامهن.
"هل سمعتي يا سالي، ماما مريضة جداً، أنت كنتِ تعلمين. أليس كذلك؟". قالتها فرح بألم بينما تذرف الدموع الساخنة.
أجابت سالي بهدوء:
"نعم يا فرح، كنت أعلم".
سألت فرح بلهفة:
"هل هي مريضة جداً؟ هل تتألم؟".
أمام اسئلة فرح، لم يكن لدى سالي إجابة صادقة مطمئنة، لذلك فضلت الصمت.
"أنا حزينة جداً على ماما.. اشتقت إليها كثيراً". قالتها ليان بصوت طفولي غارق في الحزن والشجن الخالص.
نظرت ليلى إليها بعينين مغمورتين بالدموع وسألت بحزن:
"لماذا ماما مريضة بهذا المرض؟ لماذا ستموت؟".
قاطعتها أميرة بصوت متقطع:
"دكتورة، ألا يوجد علاج؟ أنا لا أريد أن ترحل ماما".
حاولت سالي تهدئتها بحنان وهي تعلم أنه لا يوجد ما قد يخفف من وطأة الحزن في قلوبهم:
"عزيزتي، كل شيء يحدث بقضاء الله. علينا أن ندعو الله كي تنجو".
لكن فرح قاطعتها بلهجة يملؤها الألم:
"لا تحاولي تجميل الكلام يا دكتورة، الأمر واضح. أبيه خالد لن يصرّح بهذا الخبر إلا إذا كان متأكداً".
تمنت سالي للحظة لو أن خالد لم يخبرهم بهذا الخبر الصادم. لكنها سرعان ما أدركت أن الأطفال أذكياء بما يكفي لفهم الحقيقة، وأن خالد أراد احترام عقولهم وإعدادهم لما هو قادم. نظرت إلى فرح وأجابت برفق:
"علينا أن نؤمن بالمعجزات، حتى لو لم تتحقق. إرادة الله دائماً فيها رحمة، وربما أراد ألا تتألم ماما أكثر".
لم تستطع نور كتمان ألمها، فانفجرت في بكاءٍ مرير، وتبعها بقية الفتيات. تنهدت سالي وهي تراقبهن، تنتظر حتى تخف وطأة دموعهن. بعد لحظات، تحدثت بهدوء:
"أعزائي، أعلم أن ما نمر به الآن مؤلم للغاية وصعب إلى أبعد حد. ولكن..".
تأملت وجوههن الحزينة المليئة باليأس، ثم تابعت بصوت دافئ:
"في مثل هذه الأوقات، علينا أن نكون سنداً لبعضنا البعض، أن نتماسك ونتكاتف، حتى ترانا ماما أنيسة أقوياء".
أشارت إلى قلبها وأكملت: "حتى لو كانت قلوبنا الصغيرة تتألم، يجب أن نبث إليها القوة والطمأنينة. هذا أقل ما يمكننا تقديمه لها في هذه المحنة، أليس كذلك؟".
لم يجب عليها أحد لذلك أخذت نفسًا عميقًا وقالت:
"أنتم لستم بمفردكم، فأبيه خالد معكم، والست منى، والست ذكية، وأنا أيضاً، الجميع هنا ليدعمكم".
همست نور:
"ولكن هل سنستطيع العيش دون ماما؟ هذا مُستحيل".
بعد أن استجمعت قواها أجابت سالي بهدوء وشجن:
"الحزن والسعادة هما وجهان لعملة واحدة، نحن نحمل كلاهما في أعماق قلوبنا. أحياناً تميل العملة إلى جانب الحزن، وأحياناً أخرى إلى جانب السعادة، لكن من غير المنطقي أن تستقر دائماً على جانب واحد".
وأضافت سالي بصوت حنون:
"حياتنا تتأرجح بين هذين الوجهين، وهذه هي طبيعة الحياة. لن تتوقف الحياة أبداً يا أعزائي، سنعيش أياماً مليئة بالفرح وأخرى يغمرها الحزن، لكن الأهم هو أن نجد القوة للاستمرار في كليهما".
ابتسمت سالي بشجن وهي تمسح دمعة صغيرة قبل أن تقول:
"حتى لو رحلت ماما أنيسة، عليكم أن تتذكروا دائماً أنها كانت أماً عظيمة وحنونة. لقد بذلت كل ما في وسعها لتمنحكم حياة مليئة بالسعادة والدفء".
ثم تمتمت لنفسها بصوت مسموع، وكأنها تتحدث من أعماق قلبها:
"أتمنى لو أمتلك جزءاً ولو بسيطاً من عاطفتها".
نظرت إليهم بابتسامة خفيفة تحمل مزيجاً من الحزن والفخر:
"لا أخفي عليكم، إنها قدوة لي. سيدة بحجم عاطفتها وحنانها يجب أن تكون مصدر فخر لكم جميعاً".
أضافت بحنان:
"الآن دوركم أن تظهروا لها كم أنتم أقوياء وممتنون لها ولكل ما قدمته لكم. هذا أقل ما تستحقه".
همست ليان بصوت مبحوح:
"ولكن ماذا نفعل؟".
ردت سالي برفق:
"استمروا!، استمروا حتى لو كان الحزن يثقل قلوبكم. لا تتوقفوا عن الدراسة ولا عن ممارسة حياتكم كما هي. اذهبوا إليها، اخبروها كل يوم، كل ساعة، وكل ثانية، كم أنتم تحبونها. اجعلوها تشعر بالاطمئنان عليكم. عندما ترونها سعيدة، ستشعرون أنكم قدمتم لها شيئاً ثميناً".
كانت كلمات سالي تحمل في طياتها عزيمة ملهمة، وكأنها ترسم لهم طريقاً وسط الظلام الذي يحيط بهم.
"ولكن، تذكروا، كلما شعرتم بالحزن والانهيار، لا تكتموا مشاعركم داخل قلوبكم. ابكوا، اصرخوا، انهاروا، وعبّروا عن ألمكم. لا عيب في ذلك، وستجدون الجميع دائماً ينصت لكم، يفهمكم، ويحتويكم".
اقتربت منهن واحتضنتهن جميعاً:
"كما الآن".
وما إن أحست الفتيات بدفء عناقها، حتى انفجرت دموعهن بالبكاء، كان بكاءً عميقاً، موجعاً، وكأنهن يفرغن كل الألم المختزن في قلوبهن الصغيرة. شعرت سالي بمدى الوحدة والتشتت الذي يعيشه هؤلاء الصغار. لم تكن تتخيل كم هم بحاجة إلى العطف والاحتواء منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها هذا المنزل.
في تلك اللحظة، شعرت سالي بغصة في قلبها، ولأجل هذا الموقف لامت خالد في سرها. كيف يفكر في إبعادها عن الأولاد، وهن في أمسِّ الحاجة إلى شخص يسمعهن ويحتويهن؟ لم تكن ترى نفسها شيئًا عظيمًا، ولكنها كانت تدرك أن بعد مرض أنيسة، ترك هؤلاء الصغار في وحدة موجعة دون دعم نفسي هو أمر لا يغتفر. الجميع منشغل عنهم، كلٌّ في عالمه الخاص، حتى السيدة منى، التي اكتفت بالصعود إلى غرفتها دون أن تُلقي بالاً لأحد.
تذكرت سالي حديث خالد معها في الحديقة، مما جدد من شعورها بالإحباط، فاليوم تعاملت مع انسان مختلف جداً عن الذي تقربت منه قليلاً الفترة السابقة، إنسان هادئ متماسك، لكنه بارد وجاف، شعرت وكأنه صارت بينهم مسافات طويلة جداً بعدما كانت فقط خطوات قليلة. شعرت سالي من قلبها أنها لن تسامحه أبداً على ما فعله، ولكن على الرغم من ذلك كان عليها أن تتهاون قليلاً لأجل البقاء في هذا المكان.
وفي منتصف الليل جاءتها رسالة منه على هاتفها مضمونها:
[دكتورة معادنا الساعة التاسعة صباحاً].
***
سحب أحمد الغطاء عنه ونظر إلى علي الصغير النائم بعمق. بعد أن اطمأن من استغراق الولد في أحلامه، نهض ببطء واتجه إلى دولابه، حيث التقط كيسًا أسود صغيرًا من بين طيات ملابسه. أضاء كشاف هاتفه واتجه نحو مكتبه بحذر، متجنبًا إصدار أي صوت قد يوقظ علي. جلس بهدوء وفتح الكيس برفق، وعبث قليلاً بمحتوياته قبل أن يخرج سلسلة من الذهب وخاتمًا من الفضة، حصل عليهما من صندوق المجوهرات الخاص بأمه "الشكمجية".
في الواقع، لم يكن يتوقع العثور على شيء ثمين، إذ كانت أمه تحتفظ بمجوهراتها الثمينة في خزنة المكتب. ومع ذلك، كان لديه أمل ضئيل أن يجد شيئًا يمكن أن يساعده في الخروج من ورطته. لكن الآن، وبعد أن سمع أبيه خالد يتحدث عن أمه، شعر بصدمة عميقة. نظر إلى ما سرقه، ممسكًا بالغنيمة في يده، ثم وضع يده الأخرى على وجهه وبدأ في البكاء بشدة. لم يكن متأكدًا مما يدفع دموعه، أهو حزنه على أمه المريضة التي ترقد في المستشفى، أم إحساسه العميق بالذنب؟ أم ربما كان الخوف والقلق بسبب رسائل التهديد التي تصله يوميًا للمطالبة بتسديد ديونه الناتجة عن لعبة القمار التي وقع فريستها؟
لقد ورط أحمد نفسه في مشكلة كبيرة، وأدرك أن مشكلته أصبحت أكبر مما يستطيع احتماله. ألعاب القمار التي ظن أنها فرصة سهلة للكسب لم تكن سوى فخ خطير يقتنص ضحاياه من الساعين لضربة حظ. وللأسف، كان أحمد أحد هؤلاء.
بكى الفتى بحرقة، وعيناه مليئتان بالأسى على أمه التي لم يدرك حجم معاناتها إلا الآن، وعلى نفسه التي أوقعها في مأزق لا يملك له حلًا. وبين دموعه وحيرته، قرر أن أول خطوة للخروج من دوامة الذنب التي تطارده هي أن يعيد ما سرقه. قد لا يكون الحل النهائي لمشكلاته، لكنه شعر أنه الطريق الوحيد لتخفيف حمل خطاياه، خاصة تجاه أمه التي ترقد مريضة في المستشفى، تحتاج منه القوة لا الخذلان.
نهض أحمد، واضعًا المجوهرات في الكيس مجددًا، وعقد العزم على إصلاح ما أفسده. لم يكن متأكدًا مما ينتظره، لكن كان واثقًا أن العودة إلى الطريق الصحيح تستحق المحاولة، مهما كان الثمن.
***
في صباح اليوم التالي، استيقظت سالي بعينين منتفختين تحيط بهما هالات سوداء، تعكس بوضوح قلة النوم التي عانت منها طوال الليل. لم يغمض لها جفن بسبب الأفكار المتزاحمة والتساؤلات التي شغلت عقلها. ورغم ذلك، كان عليها الآن أن تضع كل تلك الأفكار جانبًا، وتستعد للمهمة التي تنتظرها، للذهاب معه إلى المستشفى.
بعد أن أتمّت سالي تجهيز نفسها، خطت نحو الدفيئة، حيث كان الهواء البارد محملاً برائحة الزهور. بحرص وعناية، انتقت بعض الورود التي تعلم أن السيدة أنيسة تفضلها، وشكّلت منها باقة صغيرة وجميلة، وكأنها تحمل في طياتها رسالة أمل ودعم. حملت الباقة بين يديها، متأملة الألوان الزاهية التي بدت وكأنها تحاول إضفاء بهجة وسط كآبة الأجواء. بعدها، عادت إلى المنزل لتشارك وجبة الفطور مع الأطفال الذين غلبهم الحزن والانكسار. كان صباحًا باردًا كئيبًا، يغمره الصمت وتنهدات مثقلة. وللمفاجأة، شاركهم خالد وجبة الإفطار، يتصرف بهدوء لافت وهو يسأل الأطفال بلطف عن أحوالهم ودراستهم. حاول بث جو من الطمأنينة رغم أجواء الحزن السائدة. وبينما كانوا يتناولون الفطور، قاطعهم صوت محرك السيارة الذي دوت أصداؤه في الخارج، مُعلنًا أن وقت الرحيل قد حان.
كان محمود في السيارة، منتظراً ليصطحبهم إلى المستشفى. اكتفى بتوجيه تحية سريعة لسالي، ونظرته تحمل شغفاً دفيناً، ثم اتجهوا معاً بصمت ثقيل. لم يكن هناك سوى الصمت، كأنه الغلاف الذي يحيط بالجميع، كل منهم غارق في أفكاره ومشاعره.
عند وصولهم إلى المستشفى، توجهت سالي بخطى هادئة إلى الداخل. قبل دخولها غرفة السيدة أنيسة، وجدت نفسها في نقاش مطوّل مع الدكتور رشدي. تحدثا بجدية عن حالتها الصحية، خطة العلاج، الزيارات المقبلة، وأي مستجدات تستدعي الانتباه. كانت كلمات رشدي حازمة وواقعية، لكنها لم تخلُ من التعاطف، بينما استمعت سالي بانتباه شديد، تحاول أن تستوعب كل ما يتعلق بوضع أنيسة.
وقف خالد أمام غرفة أنيسة، ونظر إلى سالي نظرة تحمل مزيجاً من الثقة والرجاء، وهمس بصوت خافت:
"أعلم أن هذا ليس من صميم عملك، لكنني أعتمد عليك يا دكتورة. إنها تحتاجك".
ردّت سالي بهدوء، ونبرة صوتها تحمل بروداً مدروساً:
"أرجوك اطمئن، يا مستر خالد، لا داعي للقلق".
دخلا معاً إلى الغرفة المظلمة، حيث استلقت أنيسة على السرير، متصلة بالأجهزة التي ترصد حالتها. بدا للوهلة الأولى أنها نائمة، ولكن ما إن اقتربا حتى فتحت عينيها ببطء، وأضاء وجهها بابتسامة ضعيفة فور رؤيتها لهما. حاولت النهوض بصعوبة، فهرع كلاهما لمساعدتها على الجلوس بشكل مريح. عندما استقرت، تنهدت برفق وقالت بابتسامة دافئة:
"إنه من الرائع أن أراكم معاً في نفس الوقت".
نهض خالد بسرعة، متجنبًا أي حديث مباشر، وفتح الستائر ليسمح لأشعة الشمس بالتسلل إلى الغرفة المظلمة، قائلاً:
"كيف كانت ليلتك؟".
أجابت أنيسة بصوت خافت وحزين، وهي تغلق عينيها قليلاً لتحميهما من النور المفاجئ:
"لم تكن مريحة، اشتقت إلى منزلي وسريري".
شدّت سالي على يدها برفق، وقالت بصوت مليء بالأمل وهي تتأمل ملامح المرأة المتعبة والتي فقدت كثيراً من بريقها:
"بإذن الله، ستعودين إلى بيتك قريبًا وبسلام".
ابتسمت أنيسة ابتسامة تحمل شيئًا من اليأس، وقالت:
"إن شاء الله".
ثم وقعت عيناها على باقة الورد الصغيرة، فتبدلت ملامحها للحظة إلى سعادة خفيفة، وقالت بفرح:
"هل هذه الورود الجميلة لي؟".
تناولتها بحب وكأنها طفلة صغيرة، ووضعتها تحت أنفها لتستشق عبيرها العطر. أومأت سالي برأسها بفخر، وقالت بلطف:
"نعم، أنا من قطفتها ورتبتها لأجلك، إنها بسيطة، تمنيت لو كانت أكبر".
تأملت أنيسة الباقة بإعجاب، ثم علقت بابتسامة هادئة:
"المسألة ليست في الحجم، ربما تكون صغيرة، ولكن ما يهمني هو أنها صُنعت لي بحب. كما أنها جميلة جداً وألوانها رقيقة، ذوقك رائع يا عزيزتي. أشكرك من أعماق قلبي".
غمزت لها بعينين مليئتين بالحنان وقالت بابتسامة:
"ألم أقل لكِ من قبل أنكِ ستكونين قادرة على إدارة الدفيئة في غيابي؟".
اكتفت سالي بابتسامة خفيفة، وهي تشعر بأن هناك عيوناً مسلطة عليهما بتركيز، كما لو أن كل كلمة كانت مراقبة عن كثب.
نظرت أنيسة إلى سالي بعينين متعبتين ولكنهما مليئتان بالامتنان، ثم أضافت بصوت خافت:
"أعتذر يا ابنتي لتحميلك فوق طاقتك. أعلم أنني أضغط عليك بطلبي وجودك معي".
ردّت سالي بسرعة، ونبرة الحنان واضحة في صوتها:
"لا حاجة للاعتذار يا ست أنيسة. أنا هنا بكامل إرادتي، وحتى لو لم تطلبي ذلك، كنت سأطلب أنا الحضور".
طبطبت أنيسة على يد سالي التي تمسك بها، ونظرت إليها بعينين تملؤهما الامتنان، قائلة:
"أنت حقاً ملاك".
ثم أضاء وجهها بابتسامة ضعيفة وهي تقول:
"سنتحدث كثيراً".
أومأت سالي برأسها بابتسامة لطيفة، ولم تقل شيئاً، تاركة صمتها يعبّر عن تقديرها وحبها لهذه المرأة.
نظرت أنيسة المريضة الحيوية نحو خالد، الذي كان يراقب المشهد بصمت، وقالت برفق:
"شكراً لك يا خالد، اذهب إلى عملك، ولا تحمل همي".
توقف خالد للحظة، متفحصاً كلاهما وكأنه يبحث عن شيء ما، ثم قال بهدوء:
"حسنًا، سأترككم الآن. سنلتقي في المساء، يا دكتورة، لأعيدك إلى المنزل".
اقترب من أنيسة ووضع يده برفق على كتفها، كلمسة وداع حانية:
"أعتني بنفسك، سأعود مرةً أخرى".
ثم خرج من الغرفة بصمت.
التفتت أنيسة، التي كانت تتابع خالد بنظرات قلقة، نحو سالي وسألتها بصوت مغمور بالحزن:
"هل تعتقدين أن خالد سيغفر لي؟ لقد أصبح متحفظاً معي مؤخراً".
نظرت سالي إلى الزهور الزاهية التي بين يديها، وكأنها تبحث فيها عن إجابة، ثم قالت بهدوء:
"إنه مصدوم".
أخفضت أنيسة نظرها وقالت بأسف:
"نعم، هذا خطأي، أعتقد أنني لم أقدر مشاعره كما يجب، لقد أخطأت في تقدير الأمور".
هزت سالي رأسها بلطف قائلة:
"لا تلومي نفسك على شيء لم يكن بنيتك يا ست أنيسة. مشاعرك كانت صادقة تماماً، وهو بالتأكيد يدرك ذلك".
حاولت كلمات سالي أن تهدئ المرأة، لكنها لم تستطع إخفاء الشك الذي ظهر في عيني أنيسة، التي مالت نحوها وسألت بحذر:
"لكن.. أشعر أنك حزينة يا ابنتي. أخبريني، هل حدث شيء في غيابي؟"
ترددت سالي لوهلة، ثم أجابت:
"لا، كل شيء على ما يرام. هل تعلمين أن الأطفال يفتقدونك؟ إنهم يسألون متى يمكنهم زيارتك".
قالت سالي آخر جملة بسرعة وهي تغير الموضوع، فتنهدت أنيسة بشوق:
"أحبائي الصغار.. كم هم مساكين. لقد اشتقت إليهم كثيراً".
تأملتها للحظات قبل أن تسأل بقلق:
"هل هم بخير؟ هل علموا بالأمر؟"
أجابت سالي بصراحة:
"نعم، مستر خالد أخبرهم".
شهقت أنيسة بدهشة وقالت بملامح عاتبة:
"هذا قاسٍ منه حقاً.. عليّ أن أعاتبه على ذلك".
قالت سالي مواسية:
"لا تلوميه يا ست أنيسة. الأولاد أذكياء ويشعرون بكل ما يدور حولهم. تصرفه كان احتراماً لعقولهم، حتى لو كان وقع الخبر عليهم أليماً".
تأملت أنيسة سالي بحزن وسألتها بصوت مكسور:
"وماذا فعلوا؟ أقصد كيف كان رد فعلهم؟".
ردت سالي بلطف:
"بكوا كثيراً.. إنهم يفتقدونك بشدة".
اغرورقت عينا أنيسة بالدموع، وارتجف صوتها وهي تقول:
"أطفالي.. أنا أيضاً أشتاق إليهم بشدة".
وضعت كفها على وجهها، وكأنها تحاول كتم ألمها، وقالت:
"آه، ماذا أفعل؟".
"أرجوكِ اهدئي يا ست أنيسة".
هزت أنيسة رأسها بيأس وقالت:
"كيف أهدأ وهؤلاء الصغار وحدهم؟ أخبريني، كيف حال ماريا؟ إنها مازالت صغيرة جداً، هل تعتنون بها؟".
ابتسمت سالي مطمئنة وقالت:
"لا تقلقي على ماريا. إنها بخير، وتقضي وقتها في اللعب مع إخوتها، ودائمًا ما أحرص على الاعتناء بها شخصيًا في كثير من الأحيان".
تنهدت أنيسة وقالت بصوت مليء بالأسى:
"تلك الصغيرة المسكينة..".
ربتت سالي على كتفها بلطف وقالت بحزم:
"التفكير الزائد لن يفيدك الآن. صحتك بحاجة إلى الراحة النفسية قبل الجسدية. ما تفعلينه لن يساعدك، بل سيؤذيك أكثر".
قالت أنيسة بصوت مبحوح وهي تحاول كتمان مشاعرها:
"أريد أن أراهم".
ردت سالي بنبرة مطمئنة:
"مستر خالد سيفعل ذلك في الوقت المناسب. لقد وعد الجميع في المنزل بالسماح لهم بزيارتك قريبًا. كل ما عليك الآن هو التركيز على صحتك".
ساد الصمت للحظات، لم يكسره سوى صوت تنهدات أنيسة وبعض البكاء الخافت. انتظرت سالي بصبر، تحاول التخفيف عنها. بدأت ممازحتها برفق حتى استطاعت أخيرًا أن ترسم على وجه أنيسة ابتسامة خجولة بين الدموع. بعد نصف ساعة من حديث خفيف، قطعت أنيسة الصمت بدهاء وهي تقول:
"مازلت أشعر أنك تخفين عني شيئًا".
تفاجأت سالي قليلاً من إصرار أنيسة، ثم استدركت أنيسة بابتسامة خفيفة:
"أعلم أنك كنت تراوغين، لكن.. لا بأس، إن لم ترغبي في إخباري الآن".
خفضت سالي بصرها بصمت، ثم قالت بعد تردد:
"الأمر ليس أنني لا أريد إخبارك، ولكنني لا أريد أن أثقل كاهلك".
قالت أنيسة بحنان:
"ومن قال إنني لا أتحمل؟ أحتاج لأن أستمع وأتحدث مع من حولي، هذا يشعرني بأنني لا زلت على قيد الحياة".
تأملتها سالي للحظات وكأنها تتخذ القرار، ثم قالت بخجل واضح:
"مستر خالد..".
احمر وجهها دون أن تنتبه وهي تذكر اسمه، فيما تابعت أنيسة حديثها باهتمام:
"تابعي، أنا أصغي".
قالت سالي بتردد:
"لقد تغيرت طريقته معي منذ ذلك اليوم. بالأمس، تحدثنا وشعرت أنه يرفض وجودي في المنزل. أنا أعلم أنه يمر بفترة صعبة، لكن..".
قاطعت أنيسة بقلق:
"هل أساء إليك؟".
أجابت سالي بسرعة:
"لا! على العكس تمامًا. لكنه كان متحفظًا، وأسلوبه معي كان باردًا قليلاً. قال أنه يوظفني براتب مادي. شعرت وكأنه ينظر لما أفعله تجاهكم كأمر مادي بحت، وليس نابعًا من رغبتي أنا،. أعلم أنني.. أتحدث بالعاطفة ولكن.. لا أعرف كيف أشرح ما بداخلي".
أنهت سالي حديثها بيأس:
"لم أستطع إخباره".
رفعت أنيسة حاجبها وسألت بهدوء عميق:
"وأنتِ، كيف تشعرين تجاه ما تقدمينه؟".
كان سؤال أنيسة هادئًا وعميقًا، يفيض بدفء الأمومة، يحمل في طياته ترقبًا ودعوة صامتة للبوح. شعرت سالي بتلك النبرة الدافئة، مما دفعها للتفكير للحظات قبل أن تخفض رأسها. عيناها امتلأتا بالدموع، وصوتها خرج مرتجفًا وهي تقول:
"أنا أحتاج ذلك.. أحتاج أن أقدم ما لدي من مشاعر".
انهمرت دموعها فجأة، فمدّت أنيسة يدها إليها بحنان ولهفة وقالت:
"أوه، حبيبتي، لماذا تلك الدموع؟ خالد لم يقصد جرحك، أنا واثقة من ذلك".
انتظرت أنيسة بصبر حتى هدأت سالي قليلاً. كانت تفهم قليلاً مشاعر الشابة العطشة لهذا الحب الكبير الذي عثرت عليه في الأولاد، لذلك خدش قلبها الرقيق كلام خالد الجاف الذي وضعها أمام السبب الرئيسي لوجودها في المنزل. قالت أنيسة بنبرة هادئة ومليئة بالدفء:
"استمعي إليّ جيدًا، يا ابنتي. أنا لا أدافع عن خالد لأنه ابني، ولكنني أعرف هذا الولد جيداً.. خالد لم يتعمد أن يجرحك كما تتخيلين".
ترددت وهي تكمل:
"هو فقط.. يجرح نفسه.. يؤذي نفسه قبل أن يؤذي الآخرين".
شعرت سالي بالارتباك، ولم تفهم ما تقصده أنيسة، التي تابعت موضحة:
"ربما ستفهمين ذلك في وقت لاحق، ولكن يجب أن تعلمي شيئًا مهمًا: عندما يواجه خالد أمراً مربكًا أو صدمة عاطفية، يميل لأن يكون قاسيًا مع من حوله. بالطبع، هذا ليس مبررًا لأسلوبه معك، ولكن أرجوكِ، لا تحملي البغض في قلبك تجاهه. إنه طيب القلب... ألم تلاحظي كيف يتعامل مع الأطفال؟".
كانت كلمات أنيسة مرتبكة وتحمل دفاعًا غير مباشر عن خالد، الذي بدا فظًا وجافًا مع سالي المسكينة التي تأثرت بحديثه الجاف معها، وانتهى الأمر ببكائها. وبينما كانت سالي تستمع بحزن، تململت أنيسة في مكانها وهمست لنفسها:
'خالد.. أيها الفظ العنيد'.
نظرت أنيسة إلى سالي الباكية بحنان، ومسحت على كتفها قائلة بنبرة دافئة:
"لا تحزني ولا تبكي، سامحيه يا ابنتي، أرجوك. وأنا أعطيك كامل الحق في التعامل مع الأطفال كما ترغبين، وسنرى ما الذي يمكنه فعله حيال ذلك".
قالتها أنيسة بتحد، فرفعت سالي عينيها إليها بصدمة، وهزّت يديها نافية بتوتر:
"لا يا ست أنيسة، لا أريد أن يحدث بينكم أي صدام بسببي".
ثم أضافت وهي تخفض رأسها بحزن:
"في الواقع.. أنا الغريبة هنا، المتطفلة، وليس من حقي أن أتخطى الحدود وأقوم بما هو أكثر من عملي".
تابعت بصوت خافت، كأنها تحدث نفسها:
"بالتفكير في كلام مستر خالد.. فهو محق تمامًا. سأحاول أن أسيطر على نفسي من الآن وصاعدًا".
صمتت أنيسة قليلاً، تتأمل وجه سالي الحزين الذي عكس مشاعرها المتضاربة، ثم قالت بابتسامة دافئة ومليئة بالتأمل والأمل:
"هل يمكن أن لديك مشاعر تجاهه؟".
اتسعت عينا سالي دهشة من السؤال المفاجئ، واحمرّت وجنتاها فجأة، فارتبكت قائلة:
"مشاعر؟ ماذا تقصدين؟".
ابتسمت أنيسة بابتسامة دافئة تحمل قدراً من الإصرار وقالت:
"أنت تفهمين ما أقصد.. لا أعتقد أن تأثرك هذا نابع فقط من حديثه الجاف معك وتقيده لحريتك مع الأطفال، أنا أرى في عينيك، منذ دخولكما الغرفة معًا، شيئًا آخر".
ارتبكت سالي بشكل واضح، فتابعت أنيسة بنبرة لينة:
"لا بأس، لن أحرجك أكثر. سأترك هذه المسألة ليوم آخر".
ثم أضافت بمرح وهي تنقل نظرها إلى الزهور أمامها:
"والآن، أخبريني..".
لكن قبل أن تكمل حديثها، رن هاتف سالي فجأة. التقطته بسرعة وكأنها تهرب من الموقف المحرج، لتجد اسم والدتها يظهر على الشاشة. استأذنت من أنيسة وخرجت من الغرفة، واضعة الهاتف على أذنها. جاءها صوت والدتها القلق.
جاء صوت أمها القلق بعد الاطمئنان على أحوالها:
"إذاً ألن تزورينا هذا الشهر أيضاً؟".
سمعت سالي سؤال والدتها القلق والحزين، فلم تزرهم الشهر الماضي ويبدو أنها لن تستطيع أخذ إجازتها أيضاً هذا الشهر. أجابت بابتسامة متوترة:
"لا أعلم يا ماما لا أستطيع أعدك بزيارتكم الفترة القادمة".
"هل هذا بسبب السيدة أنيسة؟ كيف حالها يا ابنتي؟ أخبريها أنني أدعو الله كل يوم أن يشفيها".
تذكرت سالي تأثر والدتها بخبر مرض أنيسة، كانت حزينة واستمرت بالاتصال بها كل يوم لتطمأن على المرأة العجوز، ولكنها في نفس الوقت كانت متلهفة لترى ابنتها. شعرت سالي بالتقصير الشديد ولكن الأمر لم يكن حقا بيدها، فصحة أنيسة تدهورت مؤخراً والمنزل تعرقل نظامه منذ انتقال المرأة إلى المستشفى. تنهدت سالي بيأس وقالت:
"أنا الآن في المستشفى، سأقيم معها".
ردت والدتها بحزن:
"حقًا؟ إن حالتها مؤسفة جدًا. اعتني بها جيدًا يا سالي".
ابتسمت سالي بخفة وقالت:
"حسنًا..".
ثم سكتت فجأة قبل أن تضيف:
"ماما، أعتذر. سأحاول زيارتكم في أقرب وقت، أرجوك لا تأخذي على خاطرك مني".
جاء صوت والدتها مشجعًا:
"لا بأس يا سالي. أرجوك لا تحملي نفسك فوق طاقتها يا ابنتي، كوني فقط بخير واهتمي بنفسك".
انتهت المكالمة بعد دقائق أخرى وأغلقت سالي الخط وهي تشعر بالتقصير الشديد تجاه عائلتها. ولكن ما يحدث الآن في المنزل كان يشغلها تمامًا عنهم. مرض أنيسة، وخالد، والأطفال، جعل حياتها تسير في مسار مختلف تمامًا عما توقعته. ومع ذلك، لم يكن ذلك عذرًا للتقصير في واجبها تجاه عائلتها. لذا، فكرت سالي في زيارتهن في أقرب وقت، خاصة وأن حالة السيدة أنيسة الآن مستقرة.
***
خرج خالد من مقر وزارة التضامن الاجتماعي، وتوقف للحظات بجوار سيارته، غارقًا في أفكاره. جلس داخل السيارة ووضع جبينه على عجلة القيادة، مسترجعًا حديث الأخصائية الاجتماعية، التي بدت متعاطفة معهم على نحو غير معهود:
"مستر خالد، لقد زرت المنزل بنفسي وشاهدت كيف يعيش الأطفال وكيف تعتنون بهم وتوفرون لهم بيئة صالحة للعيش. أتعاطف معكم الآن أكثر من أي وقت مضى، لكن صدقني الأمر ليس بيدي. القرار جاء مباشرة من الوزيرة: كل من يكفل أكثر من أربعة أطفال يجب أن يسلم الباقين إلى الوزارة. أنا فقط أقوم بواجبي. حاولت تقليل العدد، وتم التركيز على الستة الصغار فقط. أرجوك سلمهم بهدوء، وإلا ستضطر الوزارة للتدخل وأخذهم".
كان حديثها حاسمًا، ولم يترك أي مجال للمناورة. خالد، الذي لطالما بذل جهده ليمنح هؤلاء الصغار حياة مليئة بالحب والأمان، شعر بالعجز أمام قرار رسمي لا يمكن تجاوزه. كيف يمكن لهؤلاء الأطفال الصغار، علي، التوأمان، سارة، يحيى، وحتى الصغيرة ماريا، أن يتأقلموا بعيدًا عن هذا المنزل الذي أصبح عالمهم؟ تلك الصدمة ليست بحجم أعمارهم الصغيرة، بل هي زلزال قد يهز عالمهم الطفولي البريء.
شعر بالتشتت والإحباط، فضرب جبينه المصاب برفق على إطار السيارة وهو يتأرجح بين الإحباط والغضب، بينما تتردد في ذهنه أسئلة بلا إجابة. كيف يمكن له أن يجنبهم هذه الصدمة القادمة لا محالة؟
بقي على حاله لدقائق، مشتتًا بين مشاعر الغضب والحزن والتفكير المستمر، قبل أن يرفع رأسه وينظر إلى ساعته. تنهد بعمق، ثم حرك السيارة متجهًا إلى وجهته التالية. كان الطريق طويلًا، بعيدًا عن مقر الوزارة، ووجهته كانت الإسكندرية، حيث ينتظره لقاء مهم للغاية مع العم أسعد أصلان.
وفي هذه الأثناء، كانت سالي تنصت إلى أنيسة وهي تسرد حكاية تمتد جذورها إلى 77 عامًا مضت، حكاية نسجت بين طياتها مشاهد من الفرح والحزن، الكرامة والانكسار، الكفاح والانتصار، مرارة الفقد وبهجة الحياة. حكاية تستحق أن تُروى، إنها حكاية أنيسة، ابنة عائلة أصلان التركية.
نهاية الفصل الثلاثون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء..
عارفة اني قصرت جداً في حقكم الفترة الماضية، مبحبش أبرر أبداً التقصير ولكن انهاردة هحاول أبرر اني حقيقي مكنتش في أحسن أحوالي النفسية الفترة اللي فاتت بسبب شغلي، وبصراحة كمان بسبب المشاهدات القليلة جداً جداً للرواية على الرغم من ان الرواية وصلت لل30 فصل وده عدد من قليل، غصب عني ده شيء بيحبطني حتى لو كنت بكتب لنفسي، بس أحياناً الواحد بيبقى محتاج دعم على قد المجهود والتركيز اللي بيبذله.
ولكن السبب الأكبر هو الظروف اللي بتمر بيها البلاد العربية حوالينا، أنا شخص قومي جداً، وبعشق بلدي، وهي قضيتي الأولى، ولكن الشأن العربي في النهاية لا يتجزأ من الشارع المصري. حزينة جداً على اللي بيحصل وعلى البلاد العربية اللي بقت مستباحة لأستبداد الحاكم، وللعدو الي بيستغل كل فرصة علشان ينهب جزء من أراضينا، وللطائفية والتقسيم والإرهاب. كل الأسباب دي كانت كفيلة انها تضغطني نفسياً، أعذروني على التأخير والتقصير، أنا نفسي أخلص الرواية انهاردة. بس غصب عني حقيقي. بشكركم أوي على صبركم وعلى اهتمامكم وعلى متابعتكم للرواية باخلاص. شكراً جداً ليكم.
كاتبتكم ءَالَآء
سؤال الفصل: يا ترى خالد هيعمل ايه مع أسعد وهيقوله عن مرض أنيسة؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.