رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الخامس والعشرون
يا ريت تقرأوا الكلام في نهاية الفصل ضروري.
***
"يأخذون الأطفال؟"
كررت سالي الجملة باستغراب، وعيناها تتسعان ببطء وهي تراقب ملامح الخوف التي بدأت تظهر على وجه منى. بدت مرتبكة، وتلعثمت وهي تهمس:
"ست منى، ماذا تقصدين؟"
نظرت منى إليها للحظات، وشفتيها ترتعشان قليلاً، وكأنها تحاول التحدث لكنها لم تجد الكلمات المناسبة. زفرت بعمق، ثم التفتت نحو حسن، الذي كان يقف هناك متوترًا، واستعادت صرامتها وهي تقول له بحدة:
"اذهب أنت الآن، وسأقابلها أنا".
سالي شعرت بقلبها يخفق بسرعة، وعجزت عن فهم ما يحدث. همست بقلق متزايد:
"ست منى، ماذا هناك؟".
لكن منى قطعت حديثها بسرعة وبنبرة حادة، متجنبة عينيها:
"هذا أمر لا يخصك، لا تتدخلي".
قالتها المرأة ببرود وهي تلتفت وتنزل على السلالم بخطوات ثابتة لتلتقي بالضيف. وفي الواقع، لم يكن هناك ضيف واحد بل ضيفتان تنتظران عند المدخل: السيدة فايزة، أخصائية الأسرة والطفولة، ومعها أخصائية نفسية تُدعى مدام عزة. رحبت بهما السيدة منى كما تفعل دائماً، بأسلوب سيدة المنزل الغائبة، محاولة الحفاظ على مظهرها الهادئ.
قالت منى بهدوء شديد، وهي تحاول طردهما بلطف دون التسبب في أي توتر:
"عذراً، السيدة أنيسة مريضة ولن تتمكن من مقابلتكم، ومستر خالد في رحلة عمل".
نظرت السيدة فايزة ومدام عزة إلى بعضهما بملامح تعكس الحيرة والعجز، ثم التفتت السيدة فايزة، الأكبر سناً، نحو منى بنظرة باردة وصوت حاد:
"إذاً، في مثل هذا الموقف، لا يوجد شخص مسؤول أتحدث معه؟ وماذا عن الأطفال؟ من هو المسؤول عنهم في غياب أولياء أمورهم؟".
شعرت منى بتوتر مفاجئ يغمرها، وبُهت وجهها وهي تدرك أن السيدة بدأت في تصيد الأخطاء. ردت بسرعة، محاولة استعادة توازنها والابتسام رغم الشعور بالخطر الذي يقترب:
"أنا المسؤولة هنا نيابةً عن الست أنيسة".
قالتها منى بنبرة هادئة، ولكن التوتر كان واضحًا في عينيها. نظرت السيدة فايزة حولها بتفحص، وكأنها تتفقد كل شيء بعين خبيرة، ثم قالت بلهجة باردة:
"هناك الكثير من النقاط التي أريد الحديث عنها معهم، ولكن لا يبدو أن هناك مجال لذلك الآن".
شعرت منى أن الأمور تزداد تعقيدًا، فردت بسرعة، محاولة السيطرة على الموقف:
"تحدثي معي من فضلك، كما قلت قبل قليل، أنا المسؤولة في غيابهم".
نظرت فايزة إلى منى بريبة، وكأنها تقيس مدى صدق كلامها، ثم سألت بنبرة فحصية:
"ما هي وظيفتك هنا؟".
أجابت منى وهي تكتم تذمرها وتحافظ على نبرتها الهادئة:
"أنا مربية من مربيات الأطفال".
"آه، سمعت أن هناك أكثر من مربية هنا".
نظرت فايزة إلى زميلتها، ثم أومأت برضا لأول مرة منذ وصولهما، وكأنها وجدت في النهاية نقطة ارتكاز لتبدأ منها. التفتت نحو منى وقالت بجدية:
"إذاً، ست منى، هناك الكثير من الأمور التي نريد أن نستفسر عنها قبل أن نتحدث مع الأطفال".
شبكت منى أصابعها بإحكام، محاولة الحفاظ على تماسكها، وقالت بنبرة ثابتة رغم اضطرابها الداخلي:
"بالتأكيد، تفضلي".
بدأت فايزة بلهجة رسمية حازمة:
"مبدئيًا، الأخبار التي وصلتني من المدرسة الخاصة بالأولاد ليست مبشرة. سمعت أن حسن وفرح تم فصلهما بسبب سوء السلوك".
شعرت منى بالضيق، كانت تعرف تمامًا سبب فصل فرح، لكن لم يُفصح لها أحد عن سبب فصل حسن. الفضول كان يعتصرها، ومع ذلك حاولت الرد بذكاء:
"سيدة فايزة، أنا بالفعل المسؤولة هنا عن الأطفال، لكن الأسباب التي سأقدمها لتبرير هذا الموقف لن تكون بالتأكيد كاملة أو واضحة مثل التي لدى الست أنيسة أو مستر خالد. تصرفات فرح أو حسن نابعة في النهاية من سن المراهقة الذي يمرون به، وهناك أمور يصعب علينا التحكم فيها، خاصةً في هذا العمر".
نظرت فايزة إليها بعينين ضيقتين، وكأنها تختبر صدق كلماتها، ثم سألت بحدة:
"إذاً، هل كسر باب الحمام الخاص بالفتيات يعد أمرًا خارج عن سيطرتكم؟ أليس هذا عنفًا ناتجًا من المنزل؟".
تجمدت ملامح منى للحظة، لم تكن تعلم شيئًا عن هذا الحادث، ولكنها استدركت نفسها بسرعة، محاولة إخفاء صدمتها وهي ترد بحذر:
"المراهقون غالبًا ما يصدر عنهم تصرفات متهورة هذه الأيام، وهذا بالطبع لا يبرر سوء التصرف".
فايزة رفعت حاجبها مجددًا، وقالت بنبرة قاسية:
"بل سوء الأدب يا سيدة منى".
تنهدت فايزة وألقت بنظرة جانبية على زميلتها قبل أن تضيف بلهجة حاسمة:
"لا أعتقد أن الحديث سيجدي الآن. يجب أن يكون الحديث مع أولياء الأمور".
في تلك اللحظة، شعرت منى بوميض من الغضب يجتاحها، ولكنها كتمته بداخلها، مكتفية بالصمت أمام فايزة التي أكملت بلهجة آمرة:
"إذاً، بما أننا هنا، لا أريد أن يتعطل عملنا. أريد أن أرى جميع الموظفين في المنزل، ثم الأطفال".
"الصغار يأخذون قيلولة."
نظرت مدام عزة، الأخصائية النفسية، إلى منى بشك وهي تُخرج دفترًا صغيرًا وقلمًا من حقيبتها. حدقت في منى قليلاً قبل أن تقول بنبرة هادئة ولكن صارمة:
"لا بأس سننتظرهم، بالتأكيد سيستيقظوا خلال تحدثنا مع الموظفين".
نهضت منى بهدوء متوتر وبدأت في استدعاء الموظفين. في طريقها. سألتها سالي بفضول واضح:
"لماذا؟ ومن هؤلاء؟".
"فقط أجيبي على اسئلتهم، إنهم مبعوثين من وزارة التضامن الاجتماعي".
قالتها منى بمزاج سيء، ولكن سالي كانت عنيدة:
"لا، لن أجيب على أي سؤال حتى أفهم".
نظرت منى إلى سالي بنظرة حادة تشعر بالاستفزاز، ولكنها أخذت نفسًا عميقًا. فمصلحة الأطفال كانت أهم من مشاعرها الشخصية تجاه عناد سالي. تنهدت بعمق وقالت وهي تتجنب النظر مباشرة في عينيها:
"الوزارة نبهت من قبل أنهم يُريدون أن يأخذوا بعض الأطفال وينقلوهم إلى عائلات أخرى".
صُدمت سالي من كلمات منى المفاجئة، وتمتمت بذهول، ووجهها بدأ يشحب:
"ينقلوهم؟ هل هم أشياء؟".
قالت منى وهي تستوعب صدمة سالي:
"هذا ما قيل".
سألت سالي، وهي لا تزال تحت تأثير الصدمة، وعيناها تلمعان بالذهول:
"والست أنيسة ومستر خالد، ماذا كان رد فعلهم؟"
أجابت منى بصوت منخفض وهي تحاول إخفاء قلقها:
"يحاولون منذ فترة أن يحلوا الأمر بطريقة ودية مع الوزارة، لكن الوزارة مصرة".
"ولكن أليس الأطفال مكفولين؟".
"نعم، ولكن الوزارة ترى أن عددهم كبير جدًا على أن يكونوا في منزل واحد. يعتبرون المكان هنا أشبه بدار أيتام وليس منزلًا".
منى كانت تشعر بأن هذه الإجابات كافية، فاستدارت لتتابع عملها وقالت بلهجة مقتضبة:
"اذهبي يا دكتورة حتى أستدعي الباقين".
همست سالي، وهي تراقب ظهر منى يبتعد، وقد تملكها شعور بالرفض وعدم التصديق:
"مستحيل، هذا لا يجب أن يحدث.."
ذهبت بسرعة وهي تشعر بتسارع نبضات قلبها، في طريقها قابلت حسن الذي كان يسير بلا هدف. لم تلاحظه في البداية، لكنها شعرت بنظراته، مما جعله يلتفت ويتأمل وجهها القلق. تردد لثوانٍ، ثم قرر أن يلحق بها. كان يشعر منذ أيام بأن هناك حركة غير طبيعية في المنزل، زادت اليوم مع تعب أمه ومجيء هؤلاء الضيوف.
في تلك الأثناء، كانت السيدة فايزة ومدام عزة تجريان حوارًا مع الست ذكية، تطرحان عليها أسئلة عن ظروف المنزل وطبيعة الطعام الذي يتناوله الأطفال. بدا الجو كأنه تحقيق أكثر من كونه محادثة عادية. فجأة، اقتحمت سالي الغرفة، وصوت خطواتها المتسارعة جذب انتباه الجميع. التفتت ثلاث أزواج من العيون نحوها بفضول. قالت سالي بأنفاس متقطعة وهي تحاول تنظيم كلماتها:
"أنا الدكتورة سالي، طبيبة المنزل".
تأملتها السيدة فايزة للحظات بنظرة فاحصة قبل أن تجيبها ببرود مهني:
"تفضلي يا دكتورة، سننهي حديثنا مع الست ذكية أولاً".
شعرت سالي بتوتر شديد وهي تجلس على أقرب كرسي، تعبث بأصابعها محاولة السيطرة على أفكارها المبعثرة. مرت الدقائق ببطء حتى دخلت الست منى، بعد أن جمعت كل الموظفين خارج الغرفة. وبعد أن أنهت السيدة فايزة حديثها مع الست ذكية، طلبت منها أن تخرج.
تقدمت سالي وجلست أمامهما، وعيناها تحملان فضولًا ممزوجًا بالقلق، فسألت بصوت خافت لكنه واضح:
"لكن قبل أن أجيب على أسئلتكم، لدي سؤال أريد الإجابة عليه.. هل صحيح ما سمعته أنكم ترغبون في نقل الأطفال إلى عائلات أخرى؟".
تبادلت السيدة فايزة ومدام عزة النظرات للحظة، كأنهما تحاولان تنسيق ردهما، قبل أن ترد السيدة فايزة ببرود وحزم:
"دكتورة، لا شأن لك في هذا الأمر. فقط أجيبي على أسئلتي".
كان في نبرتها شيء نهائي، مما جعل سالي تشعر بالعجز لثوانٍ، لكنها لم تستطع تجاهل القلق الذي يسيطر على قلبها.
نظرت إلى السيدة فايزة بنظرة حادة، وقد ارتفع صوتها قليلًا وهي تقول بغضب مكبوت:
"بالطبع هذا يخصني! أنا طبيبة الأطفال هنا. هل تدركون كم سيتضرر الأولاد نفسيًا بسبب قراركم؟".
شعرت فايزة باندفاع سالي، ولكنها لم تتراجع، وردت ببرود أكثر وهي تتفادى نظراتها الثاقبة:
"دكتورة، أقول لكِ بوضوح: هذا ليس من شأنك. فقط أجيبي على الأسئلة المطلوبة منك".
وبالفعل سكتت سالي وهي تحاول أن تلملم شتات أفكارها، كانت تفكر في طريقة مناسبة تتعامل بها مع هذا الموقف المُفاجئ. وكان لديها بالفعل طريقان يجب أن تأخذ أحدها، ولكن كل طريق كان له نتائج مختلفة:
الطريق الأول، كان إخبارهم بمرض أنيسة، وإذا قررت أن تخبر الوزارة بحقيقة مرض أنيسة، قد يعزز ذلك شعورهم بالقلق بشأن إدارة المنزل وقدرتهم على تلبية احتياجات الأطفال. هذا الخيار بالتأكيد سيضعها في موقف صعب، حيث قد يتم استغلال مرض أنيسة كسبب إضافي لتشكيكهم في القدرة على توفير بيئة صحية وآمنة للأطفال، مما قد يسرع قرار الوزارة بنقل الأطفال. قد يكون هذا تصرفًا نابعًا من شفافيتها وإحساسها بالمسؤولية، ولكن في الوقت نفسه، قد يؤدي إلى تداعيات سلبية على مستقبل الأطفال في هذا المنزل.
الطريق الثاني، إخفاء مرض أنيسة عن الوزارة، وهنا إذا قررت سالي إخفاء مرض أنيسة، فإنها ستحاول حماية استقرار الأطفال ومنع الوزارة من التدخل بشكل أكبر، وقد كانت تميل إلى هذا الطريق أكثر. كان عليها أن تختار الدفاع عن المنزل وتعمل على تأجيل أو منع أي قرار يخص نقل الأطفال، مع العلم أن هذا الخيار يحمل في طياته المخاطر إذا اكتشفت الوزارة لاحقًا ما كانت تخفيه. إخفاء السر قد يتيح لها الوقت لإيجاد حل بديل أو للتنسيق مع أنيسة وخالد في كيفية التعامل مع الموضوع دون تدخل خارجي.
لم يكن لدى سالي هدف إلا مصلحة الأطفال ورأت أن إخفاء الحقيقة هو السبيل الأفضل لحمايتهم من قرارات قد تكون مدمرة. لذلك أجابت على الأسئلة بوضوح شديد، وشرحت كيف تتعامل الأطفال وكيف كانت علاقتها بهم جميعاً الفترة الماضية.
قالت فايزة بلهجة حازمة، بينما تراقب سالي من تحت نظارتها:
"حسناً أشكرك على وقتك يا دكتورة، تفضلي".
لكن سالي لم تتحرك من مكانها، بل نظرت إلى فايزة بعينين مفعمتين بالتصميم، وقالت بإصرار:
"سيدة فايزة، اسمحي لي أن أقول شيئاً".
تنهدت فايزة بضجر، محاولة إنهاء الحوار بسرعة:
"دكتورة، وقتنا قصير. من فضلك، لا داعي للكلام الزائد".
لكن سالي لم تستسلم، وقالت بنبرة جدية:
"أعطني فقط بضع دقائق قليلة".
شعرت فايزة من ملامح سالي أن هناك أمراً مهماً تريد توضيحه، فتراجعت قليلاً وقالت:
"بسرعة".
تنفست سالي بعمق، محاولة تهدئة نفسها قبل أن تتابع:
"لا أفهم دوافع الوزارة، وربما هناك أسباب منطقية. لكن لا يعقل نقل الأطفال من مكان لآخر بهذه السهولة. هل تدركون مدى تأثير ذلك على نفسيتهم، خاصةً الصغار؟".
تدخلت مدام عزة وهي تتابع حديث سالي:
"دكتورة، هذا عملنا. نحن حريصون على مصلحة الأطفال أكثر من السيدة أنيسة نفسها ومستر خالد".
رفعت سالي حاجبيها بغضب وقالت بحزم:
"لا! لو كنتم كذلك، لما قلتي تلك الجملة التي توحي بأن السيدة أنيسة ومستر خالد مجرد أشخاص مؤقتين في حياة الأطفال".
نظرت فايزة إلى سالي بنظرة تحدٍ وسألت بلهجة حادة:
"إذاً، أخبريني يا دكتورة، ما هي مكانة أنيسة وخالد في عيون الأطفال بما أنك قريبة منهم؟ هل يرونهم كآباء حقيقيين؟ هل تعتقدين أن الأطفال يعتبرون هذه عائلة طبيعية؟ وهل تظنين أن الأطفال لا يتساءلون عن سبب عدم وجود أب وأم بيولوجيين؟".
توقفت سالي للحظة، وقد شعرت أن فايزة حاصرتها بأسئلتها. كان كلامها يبدو منطقياً، لكنه كان مجحفاً بالنسبة لسالي التي عاشت مع الأطفال ورأت مكانة أنيسة وخالد في حياتهم.
ردت سالي بنبرة هادئة ولكن بثبات:
"في النهاية، نشأت بينهم علاقة انسانية أبوية وبموافقتكم، بغض النظر عن التسمية. لقد أصبحا أنيسة وخالد جزءاً مهماً من حياة الأطفال. يمكنك تسميتها كما شئت، لكنها بالنسبة للأطفال تساوي علاقة الأب والأم بأطفالهم".
حاولت سالي جاهدة إخفاء ارتعاش يدها وهي تضيف:
"الأطفال مرتبطون نفسياً بالمكان والأشخاص هنا. كيف يمكنكم التفكير في نقلهم بهذا الشكل؟ هذا جزء من حياتهم لا يمكنكم انتزاعه".
ابتسمت فايزة ببرود وهي تقطع حديث سالي بلهجة صارمة:
"دكتورة، انتهى النقاش. ما زلنا في مرحلة التقييم، ولن نتخذ أي قرارات بدون حضور السيدة أنيسة ومستر خالد. الآن، من فضلك، اخرجي واستدعي الآخرين".
أحست سالي بالعجز والحنق في آنٍ واحد، لكنها عرفت أنها لن تستطيع إقناع فايزة أكثر من ذلك. هزت رأسها ببطء وغادرت الغرفة بخطوات مثقلة، تجر وراءها شعورها بالفشل.
وقفت في الممر، مشوشة بين الحيرة والصدمة، وهي تراقب الأطفال الصغار الذين استيقظوا لتوهم من النوم. ارتدوا ملابسهم الجميلة بعناية استعداداً لمقابلة مبعوثي الوزارة، لكن آثار النعاس كانت ما تزال جلية على عيونهم الصغيرة الحائرة. حتى ماريا المسكينة، تلك الصغيرة التي لا تفهم شيئًا مما يحدث، كانت تمسك بملابس المربية بقبضتها الصغيرة وتنظر حولها ببراءة تامة. حينما رأت سالي، ابتسمت الطفلة فجأة ببراءة:
"حبيبتي، أنتِ لا تعين شيئًا مما يجري..".
غص قلب سالي، وهمست وهي تشاهد ماريا الصغيرة تضحك ببراءة، غير مدركة للعالم القاسي من حولها.
'كم هي ظالمة هذه الحياة لهؤلاء الصغار... ما ذنبهم حتى يعيشوا في ظروف كهذه؟'
فكرت سالي. أيتام، ضعفاء، لا حول لهم ولا قوة، واقفين بحذر، متشبثين بأيادي المربيات. ماذا يشعرون الآن؟ هل يشعرون بالخوف؟ بالخطر؟ من سيحميهم إذا اختفت أنيسة وخالد من حياتهم؟ من سيضمهم إذا قرر أحد انتزاعهم من بيتهم الآمن؟
في غمرة تلك التساؤلات، انفجرت دموع سالي بدون وعي، واندفعت نحو الأطفال، تجمعهم بين ذراعيها وتحتضنهم بقوة.
"آه! دكتورة، أنت تؤلمينني!".
صاحت لارا وهي تحاول الإفلات، فتراجعت سالي بسرعة وهي تتأمل الشعر البني الناعم للطفلة الجميلة، وهمست معتذرة:
"آسفة، لارا... لم أقصد".
يحيى، الطفل البريء، وضع يده على وجهها برقة وسأل بعفوية:
"لماذا تبكين؟ هل أنت حزينة؟".
أمسكت سالي بيده الصغيرة، وابتسمت وسط دموعها مُتفاجئة من نفسها وقالت:
"لا أعلم يا يحيى.. لا أعلم".
وبحركة مفاجئة، تقدمت سارة نحوها وهي تحمل قطعة حلوى صغيرة:
"خذي، هذه حلواي.. لا تبكي".
كانت الطفلة تتطلع إلى الحلوى بعينيها الجشعتين، لا تفارق نظرتها القطعة الصغيرة التي بين يديها. ضحكت سالي رغم دموعها ومسحت على شعر سارة بلطف:
"لا، حبيبتي، كليها أنت".
مسحت سالي دموعها واستقامت، وعلى وجهها علامات التصميم. نظرت إلى الأطفال وقالت بحزم:
"أريدكم أن تكونوا مهذبين مع الضيوف، لا تحدثوا فوضى، وكونوا هادئين وصادقين".
وبينما كانت سارة تتجه مع إخوتها للقاء الضيوف، توقفت فجأة، عادت مسرعة إلى سالي، ووضعت قطعة الحلوى في يدها بسرعة. وقبل أن تفتح سالي فمها لتشكرها، قالت الطفلة بتلعثم واستعجال:
"لكن لا تأكليها.. سأعود لأخذها منك!".
نظرت سالي إلى الطفلة ببلاهة، وقد شعرت بالحرج. في لحظة، كانت تعتقد أن سارة قد وهبتها حلوى غالية عليها، لكن يبدو أن الطفلة الصغيرة كانت تستغلها بلطافة طفولية.
وعندما دخل الأطفال للقاء المرأتين، كانوا مهذبين وخجولين، لكن ماكرين. رغم الرقابة الشديدة عليهم، نظراً لصغر سنهم، كانت تصرفاتهم تحت المجهر. حاولت الأخصائية النفسية الإيقاع بهم بأسئلة خبيثة، بعضها واضح وبعضها مغلف بالخداع:
"هل هناك من يضايقكم؟ هل تنامون وأنتم جائعون؟".
حتى ماريا الصغيرة، التي لم تتوقف عن توزيع ابتساماتها البريئة على الجميع، كانت اليوم مثالية. هذا المشهد كان شهادة حية على الجهد الكبير الذي بذلته أنيسة وخالد في تربية هؤلاء الأطفال وحمايتهم. الأطفال الأكبر سنًا كانوا أكثر وعيًا وتفهمًا للأمر، حتى حسن وفرح شرحا مشاكلهم بصدق واعتذروا في نهاية المطاف. لكن الخطر عليهم وعلى باقي الأولاد فوق سن العاشرة كان أقل بكثير من الخطر الذي يهدد الصغار تحت العاشرة.
***
وقفت سالي خارج غرفة الضيوف، متوترة ومتلهفة لمعرفة كيف تصرف الأطفال. قلبها ينبض بسرعة وهي تراقب الباب، ثم شعرت بهاتفها يهتز، لتنظر وترى رسالة من دكتور رشدي. أصابها شعور بالرهبة وهي تفتح الرسالة، وما أن رأت نتائج العينة الخاصة بأنيسة حتى تجمدت في مكانها. وقفت تحت الشجرة الكبيرة، هاتفها في يدها، وبدأت دموعها تتساقط بغزارة. قرأت الكلام مرة تلو الأخرى، غير قادرة على استيعاب الحقيقة القاسية التي كانت تعرفها بالفعل، لكنها كانت تأمل في معجزة.
استندت على الشجرة وهي تشعر بأن قدميها لا تستطيعان حملها بعد الآن، فانهارت جالسة على الأرض وأخفت وجهها بين ذراعيها، دموعها تنهمر دون توقف، والبكاء يكاد يمزق صدرها. كانت تعرف أن حالة أنيسة ميؤوس منها، والمرض قد بلغ أشده. الحل الوحيد المتبقي هو الجلسات التي قد تؤخر قليلاً من تفاقم الحالة، لكنها لن توقف النهاية المحتومة. بكت بحرقة حتى شعرت بالصداع في عينيها، وكانت كل نفس يخرج منها يثقل على قلبها أكثر. بعد لحظات، رفعت رأسها ومسحت دموعها بارتباك، عازمة على البدء في في علاج أنيسة. وكم كان هذا الحمل ثقيلاً على كتفيها!
عادت مرةً أخرى لتنتظر أمام غرفة الضيوف، ووقفت تتأمل السماء قبل غروبها بساعة من النافذة، وبعد مرور وقت ليس بطويل، سمعت صوت الباب يُفتح، فالتفتت لترى السيدتين تخرجان برفقة منى التي كانت تحاول مجاملتهما بحديث لطيف وخلفهما الأطفال الذي خرجوا راكضين من الغرفة وكأنهم كانوا محبوسين. عندما غادر الجميع، جمعت سالي قواها وطلبت من منى أن تتحدث معها. وافقت منى على مضض، وعادوا معًا إلى غرفة الضيوف التي أصبحت الآن خالية. نظرت سالي بفضول إلى منى وهي تحاول تمالك نفسها، ثم سألت بصوت خافت:
"ماذا حدث؟ ماذا قرروا؟". كانت تحاول أن تخفي توترها، لكنها فشلت.
ردت منى، مشدودة الحاجبين قليلاً وكأنها لا تود الدخول في تفاصيل كثيرة:
"لم يقرروا شيئاً بعد، سيأتون في يوم آخر، عندما تكون السيدة أنيسة بخير".
شعرت سالي بخيبة الأمل لكنها حاولت أن تظهر التفهم. سألت بسرعة، محاولًا تحويل الحديث:
"آه، والأطفال؟ هل أبلوا جيداً؟"
رفعت منى كتفيها بلا مبالاة وقالت: "كانوا مهذبين".
همست سالي، وكأنها تتحدث لنفسها أكثر مما تتحدث لمنى: "جيد".
أخذت منى تنظر إليها بنظرة تنم عن استعجال وملل، ثم قالت وهي تستعد للرحيل:
"إذاً، إن لم تكن لديك أسئلة أخرى، فسأستأذن أنا".
ولكن سالي، التي بدا عليها القلق المتزايد، أمسكت بذراعها بلطف وقالت:
"انتظري يا ست منى، هناك كلام يجب أن تسمعيه".
رفعت منى حاجبيها بتعبير يختلط فيه الفضول والارتباك، وحدقت في وجه سالي الذي بدا منهكًا وعيونها المتورمة من أثر البكاء، ثم سألت بصوت خافت وكأنها تخشى ما ستسمعه:
"ماذا هناك؟".
تنهدت سالي بعمق، محاولًة أن تسيطر على مشاعرها المتدفقة، ثم توجهت ببطء إلى أقرب كرسي وجلست عليه بحركة ثقيلة. عيناها انخفضتا نحو الأرض وهي تقول بصوت مرتعش:
"ما سأقوله لك الآن هو سر، سر لا يجب أن يُفشى لأي شخص، حتى.. حتى مستر خالد".
رفعت سالي رأسها ببطء لتنظر إلى منى، وملأت عينيها توسلات حقيقية وهي تهمس:
"أرجوكِ، لا تخوني ثقتي".
ظلت منى صامتة، لكن عيناها كانت تفيض بالتفكير، وكأنها تحاول فهم ما يحدث. سالي واصلت كلامها بعد لحظة من التردد:
"الأمر يتعلق بالسيدة أنيسة.. أو بشكل أدق، بصحتها".
تغيرت ملامح منى فورًا، عبست بجدية وتركيز، وصمتت مجددًا بانتظار ما ستكشفه سالي. استنشقت سالي نفسًا عميقًا وكأنها تتهيأ لكسر الصمت الثقيل:
"السيدة أنيسة... تعاني من مرض خبيث".
انزلق الصمت على الغرفة كغيمة ثقيلة. الثواني التي مرت شعرت سالي بها وكأنها دهر، كانت تراقب وجه منى وهي ترى الأثر الحاد لهذه الكلمات عليها. ارتعشت شفتي منى وكأنها تحاول التحدث، لكن الكلمات خانتها. وأخيرًا، بعد لحظة بدت وكأنها لا نهاية لها، همست بصوت مرتعش:
"مرض خبيث؟".
أومأت سالي برأسها، محاولًة كبح دموعها التي بدأت تتجمع في عينيها. نظرت إليها منى بقلق متزايد وهمست بصوت بالكاد مسموع:
"كيف حدث ذلك؟ منذ متى؟"
كان هنا دور سالي في عدم الإجابة، مما أثار قلق منى أكثر. فتقدمت نحوها بخطوات سريعة، وسألت بإصرار أكبر، وصوتها يرتجف:
"أخبريني، منذ متى؟".
أخذت سالي نفسًا عميقًا وهي تكافح لتبقي صوتها ثابتًا، ثم همست بصوت مبحوح:
"أعلم منذ عودتي إلى هنا، لكن حالتها كانت متأخرة من أول يوم اكتشفت فيه هذا السر".
ارتجف وجه منى من الصدمة، وتقدمت خطوة أخرى لتتأكد من أنها تسمع ما تقوله سالي. وجهت إليها نظرة مباشرة وقالت بشك:
"سر؟ ما الذي تعنينه؟ أليس مستر خالد على علم بذلك؟".
تجمدت سالي للحظة، وكأن السؤال صدمها. خفضت وجهها دون أن تنطق بأي كلمة، بينما خيم الصمت على الغرفة، إلى أن همست منى في ذهول:
"هل يمكن أن يكون... لا يعلم بمرض أمه؟".
خطت منى ببطء نحو سالي، التي كانت تطأطئ وجهها أكثر فأكثر، تحاول الهروب من نظرات منى الملحة. وضعت منى يدها على كتف سالي بحزم، وجذبتها برفق لتجعلها تواجهها. رفعت رأس سالي بعينين تملؤهما الدموع، وهمست منى بصوت هادئ ولكنه قاطع:
"أنظري إلي وأجيبي على سؤالي.. هل مستر خالد لا يعلم بمرض أنيسة؟".
اهتزت عينا سالي من الضغط العاطفي، وخرج صوتها متقطعًا، بالكاد تسمعه منى:
"مستر خالد.. لا يعلم. السيدة أنيسة.. لم ترد أن يعرف.. في الوقت الحالي، نفسيتها لم تكن مستقرة للإفصاح عن ذلك".
كلماتها الأخيرة تركت منى في حالة من الذهول التام. وبعد لحظات صاحت منى، والدهشة والغضب يتسربان إلى صوتها
"هل تمزحين معي؟".
نظرت سالي إليها بعينين مفعمتين بالحزن وتأنيب الضمير. كانت مشاعرها منقسمة بين وفائها لأنيسة لأنها أفشت سرها، وندمها تجاه خالد لأنها أخفت عنه الحقيقة. لم تستطع مواجهة نظرات منى القاسية، فظلت تحدق بالأرض، كأن ثقل العالم يجثم على كتفيها.
تقدمت منى خطوة نحوها، تتأمل الوجه الذي كان على وشك الانهيار بالبكاء، وجه الطبيبة الشابة الجالسة أمامها بعجز واضح. لكنها لم تشعر بالشفقة، بل بقسوة متزايدة، فتحدثت بحدة:
"كيف استطعتِ الموافقة على هذا؟ أنتِ طبيبة! أقسمتِ على حماية حياة مرضاكِ، كيف تقبلين أن توافقي امرأة عجوز في حالة نفسية مضطربة على إخفاء أمر كهذا؟! أنا لا أصدقك!".
نبرت كلمات منى بحدة وكأنها تصب كل مشاعر الغضب والإحباط داخلها على سالي. تمتمت بصوت مليء بالاتهام:
"أنتِ فعلاً غير مسؤولة".
كان الأمر كالسيف الذي شق قلب سالي، لكنها حاولت بكل ما أوتيت من قوة أن تظل ثابتة أمام غضب منى المتصاعد. ومع ذلك، لم تترك لها منى مجالًا للتنفس، نظراتها كانت مليئة بالاتهام، وصوتها لا يرحم.
رفعت سالي رأسها أخيرًا، وعينيها اللامعتين تلمعان بالدموع، لكنها لم تنكسر. نظرت إلى منى بنظرة تحمل دفاعًا وتحديًا في نفس الوقت، وقالت بصوت متماسك رغم الانفعال الذي يحاول السيطرة عليها:
"ست منى، كلنا نخفي أسرارًا عن بعضنا البعض. من فضلك، لا تتهميني قبل أن تفهمي موقفي".
تراجعت المرأة خطوتين وهي تشعر بأن سالي تلمح لأمر ما، ولكنها تمالكت نفسها بسرعة، وقبل أن تلقي رد قاسي، قاطعتها سالي وهي تنهض فجأة من مقعدها. وقفت أمامها، والدموع تلمع في عينيها، وقالت بصوت مرتجف ولكنه قوي:
"أنا لم أتخاذل في واجبي أبداً منذ أن علمت بحالتها! أنتِ حقًا لا تعلمين كم عانيت لأقنعها بالذهاب إلى المستشفى، وبدء العلاج دون أن يشعر أحد بما يجري. هل تفهمين الضغط الذي عشته؟ كنت عالقة بين سرٍ لا أستطيع إفشاءه، وبين مستر خالد الذي لا يعرف شيئاً عن مرض أمه. أنتِ ليس لديك أدنى فكرة عن المعاناة النفسية التي مررت بها خلال الفترة الماضية".
حدقت منى في سالي بصدمة، إذ لم تتوقع هذه الانفعالات، ولم تكن على دراية بالألم الذي حملته سالي بصمت. بقيت للحظات عاجزة عن الرد، ثم همست ببطء بعد تفكير عميق:
"إذاً.. لماذا الآن؟ لماذا تقولين لي كل هذا الآن؟".
"لأجل الأطفال!".
صرخت سالي بانفعال شديد، وصوتها مشحون بالعواطف المكبوتة. اتسعت عينا منى في ذهول وهي تراقب دموع سالي تتساقط بغزارة، وصوتها يتقطع من الحزن والألم:
"لأجل هؤلاء الصغار الأبرياء الذين قد يُبعدون عن منزلهم في أي لحظة. أردت أن أشارك أحداً هذا السر. أنا تائهة، ولا أعرف كيف أتصرف بعد الآن".
شعرت منى بثقل الموقف وهي تستمع إلى كلمات سالي التي لم تكن مجرد شكوى، بل كانت تعبيرًا عن ألم داخلي عميق. الحيرة كانت واضحة في عينيها، لكنها كانت مصدومة أيضًا من حقيقة إخفاء مثل هذا الأمر عن خالد. فكرت للحظة قبل أن تسأل:
"لكن كيف ستتعاملين مع هذا الآن؟ خالد سيكتشف الحقيقة في النهاية... ألا تعتقدين أنه يستحق أن يعرف قبل فوات الأوان؟".
نبرة منى أصبحت أقل حدة، لكنها كانت لا تزال حازمة. سالي ابتلعت ريقها بصعوبة، ونظرت إليها بتردد واضح، وقالت بصوت مبحوح:
"أعلم ذلك.. لكنني كنت مقيدة بوعد قطعته للسيدة أنيسة. لم أكن أريد خيانة ثقتها. ومع ذلك، أدرك أن هذا ليس الصواب. أنا تائهة. كل ما أريده هو حماية الجميع، لكنني لا أستطيع فعل ذلك وحدي".
لم تستطع منى الرد فوراً. كان الصراع الداخلي الذي تعيشه سالي واضحاً وثقيلاً، ومع مرور لحظات طويلة من الصمت، تحركت منى ببطء نحو الباب. وقبل أن تخرج، التفتت إلى سالي وقالت بصوت أكثر هدوءاً، لكنه كان مشحوناً بالجدية:
"خالد يجب أن يعلم بمرض أمه.. حتى يتمكن من البقاء بجوارها والتصرف وإيجاد الحلول المناسبة لعلاجها".
ثم فتحت الباب وخرجت من الغرفة بهدوء، تاركة سالي وحيدة في مواجهة مشاعرها المتضاربة. في تلك اللحظة، كان حسن يقف في ركن بعيد عن مرمى بصر منى التي غادرت للتو. وجهه كان خالياً من أي تعبيرات، لكن عينيه كانت تحملان ظلامًا غامضًا. لقد سمع الفتى كل كلمة، كل حرف نطقته سالي، وصدمته الحقيقة التي كشفها هذا الحوار الدرامي.
***
كانت أنيسة تحدق في السماء المظلمة من نافذة غرفتها، مبتسمة بهدوء غريب. لو كانت الظروف مختلفة، لكانت تلك الابتسامة الأجمل التي رأتها سالي في حياتها. لكن الآن، وسط كل تلك الفوضى، بدا ثبات أنيسة غير مفهوم، وكأنها تعرف شيئًا لا تعرفه سالي. استدارت أنيسة نحوها، وابتسامتها ما زالت مرسومة على وجهها، وسألت بصوت هادئ:
"إذاً، الأمور سارت على ما يرام، أليس كذلك؟".
لم تفهم سالي سر اطمئنان أنيسة المبالغ فيه، الأمور سارت بالفعل على ما يرام، ولكن هذا لا يعني أنهم لم يعودوا في مواجهة الخطر. كيف لها أن تكون بهذا الثبات الانفعالي، بل أيضاً تبتسم تلك الابتسامة الصافية. قطعت أنيسة شرودها بصوتها اللطيف:
"سالي، أين أنتِ؟ بماذا تفكرين؟".
ترددت سالي، وكانت كلماتها تخرج ببطء، محاولة فهم ما يدور:
"أفكر في... سر ابتسامتك، كيف يمكنك أن تكوني هادئة بهذا الشكل؟".
بينما كانت سالي تحاول أن تستوعب هذه السكينة، ظلت أنيسة تنظر إلى السماء وكأنها ترى شيئًا بعيدًا عنها، ثم استدارت مجددًا، عيناها تلمعان بنوع من الرضا:
"ماذا تتوقعين من امرأة عجوز ومريضة مثلي أن تفعل؟".
قالتها بنبرة تجمع بين السخرية والاستسلام:
"حتى إنني لم أشعر بكل ما حدث أثناء نومي".
"...".
كان هناك صمت ترك فراغًا ثقيلًا في الهواء.
"أخبريني يا سالي، كيف كان شعورك؟"
ارتبكت سالي ولم تفهم المقصود من السؤال. سألت بحيرة:
"ماذا تقصدين؟ وضحي أكثر".
ابتسمت أنيسة بحنان، وقالت:
"في هذا الموقف الذي تجدين نفسك فيه الآن؟ أراك مترددة، وكأنك تحملين حملاً ثقيلاً".
شعرت سالي بأنفاسها تتسارع قليلاً دون أن تدرك. دلكت صدغها بيدها في محاولة لتهدئة التوتر الذي يعتريها، وقالت بصوت خافت:
"لا أعرف يا ست أنيسة.. حقاً لا أعرف".
ترددت للحظة، كانت الكلمات عالقة في حلقها، تحاول العثور على الطريقة المناسبة لتوصيل ما تشعر به. تابعت، صوتها يمتلئ بحيرةٍ وألم:
"لا أدري لماذا تصرفت كما فعلت اليوم. ربما لو تركت الأمور تمر كما هي، لكنت الآن أشعر بتحسن. لكن كان هناك شيء داخلي لم أستطع مقاومته.. شيء جعلني أذهب إلى الأخصائية وأتحدث معها. أتذكر نظرة الشك في عينيها عندما تحدثت، وكأنها تقول: 'ما شأنك أنت؟'".
ثم صمتت وقد خذلتها الكلمات مرة أخرى. شعرت أن ما يحدث أعمق من أن تعبر عنه بسهولة.
كانت سالي تتحدث كما لو تحدث نفسها، وكأنها غارقة في دوامة من التفكير، تحاول ترتيب مشاعرها المتشابكة بصوت مسموع. أما أنيسة، فكانت تجلس بهدوء، تراقبها بصبر وانتباه، تتأمل كل حركة وكل كلمة تخرج من فمها.
قالت بصوت يشوبه القلق:
"لم أعد أفهم نفسي.. أصبحت أفعل أشياء لم تكن تشبهني أبدًا. لم أكن أبدًا ذلك الشخص الذي يتدخل في أمور الآخرين. لكن اليوم، شعرت وكأنني قفزت إلى موقف لا يخصني. هل تدخلت فيما لا يخصني؟ وإن كنت فعلت، لماذا؟".
نظرت إلى أنيسة وكأنها تبحث عن إجابة لشيء لا تستطيع حتى هي تحديده. أما أنيسة، فابتسمت برفق وتنهدت بعمق، قبل أن تجيب:
"لا أملك إجابة جاهزة لسؤالك يا سالي. لكن ربما ستجدينها يومًا، إذا كنتِ أكثر صدقًا مع نفسك".
رفعت سالي حاجبيها بحيرة وقالت:
"لا أفهم".
تابعت أنيسة بهدوء:
"ليس من الضروري دائمًا نجد إجابات فورية لأسئلتنا. أحيانًا، فقط بمرور الوقت، تظهر لنا الحقيقة بوضوح. حينها، ستدركين لماذا صدرت تصرفات لا تصدر منك في العادة، وستدركين سبب كل ما شعرتِ به الآن".
صمتت سالي للحظة، ثم همست بصوت مملوء بالحزن:
"أنا خائفة..".
اقتربت أنيسة منها بلطف، وضعت يدها الدافئة على كتف سالي وقالت بابتسامة مطمئنة:
"أنتِ بخير يا ابنتي، لا تخافي".
لكن سالي ابتسمت بسخرية وهي تقول بمرارة:
"من يطمئن من هنا؟".
ضحكت أنيسة بخفة، ثم أخذت نفسًا عميقًا وقالت:
"الحياة مليئة بالصعوبات، يا سالي، ومن الطبيعي أن يشعر الإنسان بالخوف أو الارتباك أحيانًا. لكن الإنسان يمتلك قدرة عظيمة على النسيان والتجاوز، حتى يتمكن من الاستمرار في العطاء رغم كل التحديات. كم هو غريب الإنسان، أليس كذلك؟ نحن هنا، في هذه الحياة، لدعم بعضنا البعض مهما كانت الظروف قاسية ومؤلمة".
وضعت أنيسة يدها على كف سالي المقبوض على ساقيها، وأضافت بنبرة حنونة:
"لذلك لا تستغربي إذا شعرتِ أنكِ تحتاجين الدعم الآن أكثر مني".
رغماً عنها، ارتسمت ابتسامة دافئة على وجه سالي وهي تتأمل تلك الروح الطيبة التي تجلس أمامها. شعرت بدفء يتسلل إلى قلبها، فقالت بصوت مليء بالامتنان:
"أنا سعيدة حقًا لأنني تعرفت عليكِ، يا ست أنيسة".
ابتسمت أنيسة، وعينيها تلمعان بالحب، وقالت بصوت مملوء بالصدق:
"والحال من بعضه يا ابنتي. أنا ممتنة جدًا لمشاعركِ النبيلة تجاه أطفالي وتجاهي. تخيلتُ كم كان خوفكِ عليهم اليوم، وهذا الشعور يغمر قلبي بالفخر والتقدير لك".
كان كلام أنيسة مثل صفعة لطيفة على قلب سالي، فزاد من صعوبة اللحظة التي عليها فيها أن تخبرها بالحقيقة. كيف ستقول لها الآن أن التحاليل أثبتت المرض، وإنها بحاجة لبدء جلسات العلاج؟ خفضت رأسها بحزن، محاولة كبح مشاعرها المتأججة. لكن صوت أنيسة الهادئ اخترق صمتها:
"أخبريني يا سالي، هل هناك ما تريدين قوله؟".
رفعت سالي رأسها وعيناها تلمعان بالتردد والارتباك، قبل أن تهمس بصوت خافت:
"العلاج.. يجب أن تبدأي الجرعة الأولى قريبًا".
ابتسمت أنيسة بهدوءها المعهود هذا اليوم، ذلك الهدوء الذي كانت سالي تحسدها عليه في كل مرة. قالت المرأة بلطف:
"كنت أعلم أن هذا الأمر سيحدث عاجلًا أم آجلًا. لا تقلقي يا سالي، أنا مستعدة لذلك. حددي الموعد المناسب وسأذهب".
انسابت الدموع من عيني سالي رغمًا عنها. كانت تحاول أن تبقى قوية، لكنها شعرت بأن قلبها ينكسر تدريجيًا. تنهدت أنيسة وقالت بصوتها الدافئ:
"لقد عشت حياة مليئة بالتجارب، يا سالي. إذا كان هذا هو التحدي الذي عليّ مواجهته الآن، فأنا مستعدة لمقابلته، مهما كان صعبًا".
كان ثبات تلك المرأة التي تقبلت مصيرها بشجاعة وسكينة غريب. فتمتمت سالي بصوت خافت، وكأنها تكلم نفسها:
"لكنني لا أريدك أن تعاني..".
ابتسمت أنيسة بلطف، وأجابت بهدوء مشوب بحكمة السنين:
"كلنا نعاني بطريقة أو بأخرى يا سالي. المهم هو كيف نختار أن نواجه الألم. أنا لست خائفة، ولا يجب أن تخافي أنتِ أيضًا".
أكملت المرأة بتذمر لطيف:
"لا تبكي يا ابنتي، أنتِ حقاً عاطفية جداً اليوم".
بالفعل لم تكن سالي اليوم مستقرة نفسياً، حاولت جاهدة أن تمسك دموعها، لكنها شعرت بأن اليوم كان قاسيًا على قلبها أكثر من المعتاد. استنشقت بعمق وقالت بصوت متقطع:
"سامحيني يا ست أنيسة.. أخبرت الست منى بمرضك. لم أستطع تحمل السر وحدي".
اعتراف سالي خرج منها كصوت مختنق، خائف مما قد يحمله رد فعل أنيسة. أما أنيسة فاستمعت لكلمات سالي دون أن يظهر على وجهها أي أثر للانفعال. كانت تبدو هادئة بشكل غريب، كأنها تحاول استيعاب الموقف، فتابعت سالي، بتردد واضح في صوتها:
"أرجوكِ.. اخبري مستر خالد. يجب أن يعلم بمرضك".
أخفضت أنيسة رأسها وهي تفكر، هل عليها أن تستاء من تصرف سالي؟ ألم تضعها هي في ضغط كبير يفوق تحملها، كان من الطبيعي أن تنهار الشابة وتطلب المساعدة من منى. سالي، بحبها واهتمامها، كانت محقة في طلب المساعدة. ولكن خالد؟ هل تخبره الآن؟ سألت المرأة نفسها، إلى متى ستخفي عنه الأمر؟ ألن تكون تلك صدمة قاصمة لخالد، ألم يتعاهدا على ألا تكون بينهما أسرار، تذكرت هذا العهد الذي قطعوه معاً، ولكنها لم تكن قادرة على مواجهته، كانت خائفة من رؤيته ضعيفاً. لقد وجدت نفسها فجأة تحمل سر قد يُثقل كاهل ابنها العزيز. كيف لها أن تواجهه بتلك الحقيقة التي قد تهز عالمه؟
جلست أنيسة على حافة الكرسي، ووضعت رأسها بين يديها، محاولةً أن تتخلص من الأفكار الثقيلة التي تتدافع في ذهنها. خالد لم يكن مجرد ابن، بل كان جزءًا من روحها، كان دعمها في كل لحظة ضعف مرت بها. الآن هي من تحتاج للدعم، لكنها خائفة من أن تجعله يرى ضعفها. همست لسالي بصوت منكسر:
"كيف سأخبره دون أن أراه يتداعى أمامي؟ خالد قوي، لكنني أعرف قلبه... هذا الأمر سيحطمه".
سالي، وهي ترى الحزن العميق في عيني أنيسة، حاولت أن تمد يدها بمشاعرها قائلة:
"ست أنيسة، مستر خالد نعم، قد يتألم، لكن، سيحتاج إلى معرفة الحقيقة حتى يكون إلى جانبك. هذا حقه، أنتِ تعلمين أنه لن يسامح نفسه لو عرف متأخرًا".
رفعت أنيسة عينيها المرهقتين لتلتقي بنظرة سالي المليئة بالعاطفة والقلق. كانت كلماتها كالسكين، ولكنها قد لا تستطيع تحمل لحظة الاعتراف التي ستكون بالتأكيد ثقيلة. تنفست بعمق، وكأنها تحاول جمع شتات نفسها، وقالت بصوت مبحوح:
"أخبريه بنفسك يا سالي.. لا أستطيع مواجهته".
تجمدت سالي في مكانها، وكأن الأرض توقفت عن الدوران لوهلة. كيف يمكنها أن تكون هي من يوصل هذا الخبر لخالد؟ شعرت بثقل الحقيقة على كتفيها. أنيسة لا تطلب هذا إلا لأنها تعلم أنها لا تستطيع مواجهة ابنها، ولكن هذا الطلب كان فوق طاقة سالي. حاولت أن تجمع شجاعتها، وقالت بصوت منخفض:
"لكن يا ست أنيسة، هذا ليس مكاني.. مستر خالد يجب أن يسمع منكِ. يجب أن يشعر بأنكِ أنتِ من يواجهه بهذه الحقيقة. كيف لي أن أخبره بشيء كهذا؟".
أغمضت أنيسة عينيها للحظة، وكأنها تحاول الهروب من الوجع الذي تسببه هذه اللحظة، ثم قالت بهدوء:
"سالي، لم أعد أملك القوة الكافية. إنني خائفة. أحتاج منكِ هذه المرة أن تكوني الجسر بيني وبينه. ربما ستجدين الكلمات التي لا أستطيع أن أقولها".
نظرت سالي إلى أنيسة بعمق، ورأت في عينيها الاستسلام والخوف الذي لم تعتد أن تراه في تلك المرأة القوية. أدركت حينها أن أنيسة تطلب منها أمرًا يفوق المعتاد، لكنها شعرت أيضًا بواجبها تجاهها. ابتلعت دموعها، وحاولت أن تستجمع قواها، ثم قالت بحزم:
"سأفعل يا ست أنيسة.. سأخبره".
خرجت سالي من الغرفة، وهي تشعر بثقل في صدرها وكأن قلبها ينفطر من الألم. جلست بجوار الباب، وقد خانتها دموعها للمرة الرابعة ذلك اليوم. لم تعد قادرة على كتمان مشاعرها، فانهارت بالبكاء. كانت مشاعر الإحباط واليأس تلتف حولها، خانقةً إياها بينما استسلمت لتلك اللحظة الحزينة.
مدت يدها إلى جيبها لتخرج منديلًا تمسح به دموعها، لكن يدها لامست شيئًا آخر، شيئًا صغيرًا صلبًا. استخرجت القطعة ببطء، لتجد في يدها قطعة الحلوى الصغيرة التي أعطتها إياها سارة. تأملت القطعة بإمعان، وكأنها ترمز لكل شيء جميل وبريء في هذا العالم القاسي. كانت تلك الحلوى الصغيرة، في بساطتها، تحمل بين طياتها لحظة من الطفولة البريئة التي نسيها العالم المتقلب من حولهم. سارة الصغيرة لقد نسيت أن تأخذها كما وعدت.
ابتسمت سالي بمرارة، وشعرت بشيء من الدفء في قلبها المنهك وهي تتأمل هذا الرمز البريء. شدت قبضتها على الحلوى بقوة، وكأنها تمسك بشيء أثمن بكثير من مجرد قطعة سكر مغلفة، ونهضت ببطء، لكن هذه المرة كان في عينيها بريق جديد، بريق التصميم.
مسحت دموعها بحركة سريعة، ووقفت بقامة مستقيمة. لن تستسلم الآن. لن تدع هؤلاء الأطفال يتعرضون لمصير مجهول دون أن تقاتل من أجلهم. شعرت بقوة جديدة تجتاحها، وكأن قطعة الحلوى التي نسيتها سارة كانت وقوداً لتلك العزيمة المتجددة.
***
كانت سالي تجلس في غرفتها، تقرأ بتوتر تقريرًا طبيًا عن حالة مشابهة لحالة السيدة أنيسة. شعرت بعبء كبير على قلبها وهي تتعمق في التفاصيل، حين قطع تركيزها صوت طرقات على الباب. رفعت عينيها وقالت بصوت خافت:
"تفضل!".
رأت المقبض يتحرك ببطء، ثم ظهرت أميرة واقفة في الباب، تحمل تابلت بين يديها، وعيناها مليئتان بالفضول. نظرت إلى سالي وسألتها بصوت حذر:
"هل أنتِ متفرغة؟".
أغلقت سالي التقرير بسرعة، محاولة إخفاء قلقها، ورسمت على وجهها ابتسامة لطيفة، وهي تشير إلى الفتاة:
"نعم، أنا متفرغة، تعالي يا أميرة".
خطت أميرة بخطوات هادئة نحوها وجلست بجوارها على السرير. كانت تحمل التابلت بقوة بين يديها وكأنها تخشى أن تفقده، ثم قدمته لسالي قائلة بنبرة مشوبة بالفضول:
"أنا أقرأ هذا الكتاب، هل قرأته من قبل؟"
أمسكت سالي التابلت ونظرت إلى الشاشة، ثم همست وهي تقرأ العنوان:
"وجدتُ أجوبتي.. لا، لم أقرأه من قبل".
كان من الواضح على وجه أميرة أنها كانت تأمل في إجابة مختلفة، فقد خفضت رأسها قليلاً وأخذت نفسًا عميقًا، قائلة بنبرة هادئة لكنها مشحونة بالأسئلة:
"هناك من رشحه لكل من يريد أن يعرف حكاية القضية الفلسطينية من البداية".
نظرت سالي إلى الطفلة، ولم تفهم تمامًا سبب حديثها بهذا الشكل. تابعت الفتاة بصوت يحمل مزيجًا من البراءة والحيرة:
"هل ما هو مكتوب في هذا الكتاب.. حقيقي؟".
مال رأس سالي قليلاً وهي تحدق في الطفلة بحيرة. شرحت الفتاة بتردد:
"أقصد تلك الحوادث والمذابح..".
توقفت أميرة عن الكلام، وعيناها تغمران بالقلق والخوف. عندها، أدركت سالي أخيرًا ما يدور في هذا الكتاب وما يدور في ذهن الفتاة الصغيرة. نظرت إلى وجهها الشاحب، وعيناها الواسعتان كانت تحملان رعبًا لا يناسب طفولتها. شعرت سالي بحزن عميق وهي ترد بلطف:
"أميرة، لماذا تقرأين تلك الكتب؟ ألا تفضلين الروايات أو الكتب الإنجليزية؟"
كانت سالي تحاول بوضوح صرف انتباهها، أن تأخذها بعيدًا عن تلك الحقائق القاسية التي لا يجب على طفلة مثلها أن تتحملها. لكن أميرة لم تتأثر بمحاولتها، وردت بتصميم:
"ألم تقولي من قبل أننا يجب أن نقرأ ما يخصنا؟ أليست هذه القضية تهمنا؟".
تراجعت سالي قليلاً، كلمات الطفلة أصابتها بالحيرة، ولكنها حاولت مجددًا:
"نعم، تهمنا، لكنها قاسية جدًا على سنك يا أميرة. أنت ما زلتِ صغيرة لتحملي مثل تلك الحقائق".
لكن أميرة، بعينيها المليئتين بالتساؤلات والعزم، ردت بصوتٍ خافت ولكن مليء بالقوة:
"والأولاد والبنات في سني هناك في غزة وفلسطين.. أليسوا صغارًا أيضًا؟ لكنهم يرون كل هذا بأعينهم".
نظرت أميرة إلى سالي بتحدٍ وتصميم، وهي ترفع رأسها ببطء، وكأنها تقول إنها لم تعد طفلة. ثم أكملت بحزن ويأس مختلطين:
"دكتورة، أنا لست صغيرة. أنا كبيرة بما يكفي لأقرأ ولأفهم هذا الكتاب".
ثم تنهدت، وعيونها تملؤها حيرة عميقة:
"أنا فقط لا أفهم لماذا لا نتدخل جميعًا كدول عربية وننهي هذا الصراع. ألسنا وطنًا واحدًا كبيرًا؟ لماذا نتركهم يموتون وحدهم بتلك الطرق البشعة؟".
دهشت سالي وهي ترى فتاة صغيرة تسأل أسئلة يعجز الكبار عن الإجابة عليها. بالفعل لطالما شعرت أن أميرة تتجاوز عمرها، ولكن في النهاية هي مازالت صغيرة حتى تقرأ عن مجازر بشرية. حاولت أن تعثر على رد مناسب، ولكنها فشلت، فتنهدت قائلة:
"اسمعيني أميرة أنا أفهم مشاعرك الثائرة على ما يحدث الآن، واستوعب رغبتك الشديدة في المعرفة. ولكن حتى لا تشعري باليأس من انتصار العدو المؤقت، اقرأي كيف انتصرنا نحن عليه من قبل حتى تدركي مدى ضعفه وهشاشته. القضية الفلسطينية ليست بعيدة عنّا نحن كمصريين؟ في الواقع، هي جزء من تاريخنا المشترك مع نفس العدو. الصراع الذي نراه اليوم هناك هو امتداد لصراع طويل خاضته مصر نفسها ضد الصهيونية".
كانت أميرة تستمع بتركيز شديد، وملامح وجهها تعكس اهتمامًا أكبر بكلمات سالي. رأت سالي ذلك الاهتمام في عيني الفتاة، فتابعت كلامها بحماس أكثر:
"أنت تعرفين بالتأكيد أن مصر خاضت عدة حروب مع نفس الكيان؟ حرب 1948 كانت البداية، حيث قاتلنا نحن الوطن العربي الكبير مع الفلسطينيين ضد قيام دولتهم على أرض فلسطين. ثم جاءت حرب 1956، وحرب 1967 التي احتلوا فيها سيناء. وحرب 1973، عندما استعدنا أرضنا بقوة السلاح والإرادة".
تابعت أميرة كلام سالي بعيون متسعة، وكأنها تعيش تلك الأحداث في مخيلتها، فواصلت سالي وهي تشعر بنبض العاطفة يرتفع في قلبها:
"إذن، ما يحدث في فلسطين اليوم ليس مجرد صراع بعيد عنّا، بل هو امتداد لشيء أوسع. إنها نفس اليد التي كانت تسعى لاحتلال أراضينا وإذلال شعوبنا. نحن كنا في يوم من الأيام في مواجهة مباشرة معهم، وما زال الفلسطينيون يخوضون هذا الصراع حتى اليوم".
رأت سالي بوضوح تأثر أميرة، وجهها الطفولي الذي يحمل براءة مخلوطة بتساؤلات لم تجد إجابة كاملة، فتابعت بحذر ورقة:
"لقد حاربنا نفس العدو، وعانينا من نفس الاحتلال. الفرق الوحيد هو أن مصر استطاعت استعادة أرضها، بينما ما زال الفلسطينيون يقاومون لاستعادة أرضهم وحريتهم، أنا أريد منك أن تقرأي كيف خاضت مصر حربها وانتصرت فيها، حتى لا تقعي في مثل هذا اليأس، لقد قدمنا الكثير من أجل الوطن ومن أجل القضية، وفهمك للأمر كمصرية سيجعلك ترين الأمر بمنظور آخر، ربما منظور أكثر قوة وحكمة".
أميرة بدت وكأنها تفهم الآن، لكنها ما زالت تحمل في عينيها القليل من الحزن. صمتت للحظة قبل أن ترد بصوت حازم:
"أريد أن أتعلم المزيد عن هذا الصراع وعن دور مصر فيه".
ابتسمت سالي وقالت:
"وهذا هو الطريق الصحيح. ففهم تاريخنا يساعدنا على فهم الحاضر، ويجعلنا أكثر وعيًا بمسؤولياتنا تجاه قضايانا الكبرى".
بدت أميرة متحمسة وقالت وهي تعطي التابلت لسالي:
"أخبريني ماذا أقرأ؟".
شعرت سالي بارتياح عميق، فقد نجحت في ربط الفتاة بتاريخها وتوجيه فضولها نحو المسار الصحيح، ليصبح وعيها بالقضية الفلسطينية جزءًا من فهم أعمق للصراع العربي، وخصوصًا صراع مصر مع نفس العدو. وإذا لم تستطع الفتاة استيعاب تلك الهزيمة المستمرة أمامها، فعليها أن تقرأ عن الانتصارات لتدرك أن الأمل دائمًا موجود، وأن صاحب الحق هو المنتصر في نهاية الحكاية.
***
مر الاسبوعان سريعاً، وخلال تلك الفترة، تغير الكثير. الأهم هو أن السيدة أنيسة تلقت أول جرعة من العلاج الكيماوي، الذي تركها ضعيفة ومرهقة، كما لو أن الحياة قد انسحبت منها. سالي لم تفارقها لحظة، تمدها بالدعم الذي تحتاجه بكل طاقتها، ومعها منى وذكية، اللتان لم تتأخرا عن تقديم يد العون بعد أن أخبرتهما سالي بالحقيقة. كانوا جميعًا يبذلون قصارى جهدهم ليمنحوها الراحة، فيما استمروا في إخفاء الحقيقة عن الأطفال حتى لا يُثقل عليهم.
أما سالي، فانغمست في حياتها الجديدة بين الاعتناء بأنيسة والاهتمام بالأطفال الصغار، الذين أصبحوا جزءًا لا يتجزأ من يومها. مكالمات خالد لم تنقطع، كان يتصل يوميًا تقريبًا للاطمئنان على الجميع، وأنيسة، برغم تعبها، كانت تصر على الرد عليه كل مرة، متظاهرة بالقوة حتى لا يشك في شيء.
وفي صباح أحد أيام نوفمبر، رفعت سالي رأسها نحو السماء الغائمة وهي تحتضن ماريا بين ذراعيها. السماء كانت ثقيلة بالغيوم الرمادية التي حجبت الشمس تمامًا، وكأنها أعلنت هجرتها لهذا اليوم. الجو كان خانقًا، مملوءًا بغبار عالق في الهواء. كل شيء كان يوحي بالكآبة، حتى ماريا كانت تتلوى وتتذمر وكأنها تشعر بثقل اليوم.
اليوم كان من المفترض أن يعود خالد بعد أسبوعين من السفر. الجميع كان ينتظر عودته بشوق، خاصة أنيسة التي أشرق وجهها لأول مرة منذ أيام عندما علمت بموعد قدومه. أما سالي، فكانت مشاعرها متشابكة وغير مستقرة. كلما تذكرت كلمات أنيسة عن خالد، تراجعت أفكارها خوفًا من المواجهة التي تعلم أنها قادمة. لحسن حظها، جاءت ماريا لتقطع شرودها وهي تصرخ طالبة النزول من ذراعيها.
تنهدت سالي وهي تحتضن الطفلة بين ذراعيها وقالت برفق:
"ماريا، الجو سيء اليوم، لا يمكنك المشي."
لكن ماريا، بعناد الطفولة، ضيّقت شفتيها وبدأت عينها تمتلئ بالدموع، كما لو أنها تفهم أن سالي ترفض رغبتها. استسلمت سالي لهذا الاستعطاف الطفولي ووضعت الطفلة على الأرض برفق، ثم دفعتها بحركة خفيفة على مؤخرتها لتبدأ بالمشي، قائلة بابتسامة:
"حسنًا، اذهبي والعبي قليلاً".
بمجرد أن لامست قدماها الأرض، بدأت ماريا تمشي بخطوات غير ثابتة، تلتفت إلى سالي بابتسامة فخورة، وكأنها تطلب منها الاعتراف بإنجازها.
"برافو، ماريا! أنتِ حقًا رائعة!".
صاحت سالي بحماس، تشجع الطفلة التي ضحكت بسعادة.
ثم اتجهت تحت العريشة، ممسكة هاتفها لتكتب رسالة لصديقتها بيسان، تعبّر فيها عن قلقها الذي لم تستطع تجاوزه. وبينما كانت تكتب، سمعت فجأة صوت ضوضاء خلفها. التفتت بسرعة لتتفقد ماريا، وفتحت عينيها على اتساعهما عندما رأته يقف أمامها، وماريا بين ذراعيه، تصرخ بسعادة.
مشهد عودة خالد المفاجئ، وملامح الفرحة على وجه الطفلة، جعلت قلب سالي يتوقف للحظة، مشاعر مختلطة اجتاحتها-صدمتها، فرحتها، وقلقها من المواجهة القادمة.
***
[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: سالي
عزيزتي بيسان،
سأظل أرسل إليك الرسائل حتى يصل منك رد عليها. هناك أمل، أليس كذلك؟ أنا مُتأكدة من ذلك. كيف يمكن للإنسان أن يستمر من دون أمل؟ وأنتِ، هل ما زلتِ متمسكة به؟ أرجوكِ، لا تفقديه أبداً. أعلم أن الحياة أصبحت أصعب مما يمكن أن نتحمله، خاصة في مثل ظروفكم، لكنني واثقة أن النور سيعود، وأن الأرض لن تتحرر إلا بالأمل.
أفكر فيكِ كثيراً، بيسان. في كل مرة أرسل لكِ رسالة ولا أسمع منكِ جواباً، أتحسس قلبي وأتمسك بالدعاء. أرجو أن تكوني أنتِ وعائلتكِ بخير، في مأمن من كل هذا الدمار الذي تسمعينه وتعيشينه يوميًا. أرجوكِ، إن كنتِ تقرئين رسائلي ولا تستطيعين الرد، اعلمي أنني هنا، أفكر فيكِ وأدعو الله أن تكوني قوية.
لن أتوقف عن الدعاء لكِ، أتمنى أن تأتيكِ هذه الرسالة وأنتِ بخير. أرجو أن تشرق الشمس عليكم قريبًا، وتعود الحياة كما تستحقون. سأظل أنتظر رسالتكِ يا صديقتي، حتى وإن طال الانتظار.
كل الحب والدعاء،
سالي].
نهاية الفصل الخامس والعشرون، والجزء الثاني من الرواية
وتُستكمل القصة في الفصل القادم وبداية الجزء الثالث. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
** أهلاً أهلاً، وخلص الجزء من الرواية، وهنبدأ بإذن الله في الجزء الثالث، خليكوا دائماً عارفين اني بحاول ابذل اقصى ما في وسعي علشان اخلص القصة، ولكن القصة صعبة أوي وفيها حالات ومواقف بتستنزفني نفسياً، وطبعاً الجزء الجاي هيستنزفنا جميعاً بصراحة. عد سنة من أول ما بدأت كتابة الرواية، ولأن دي أول رواية ليا أخدت مني وقت طويل أوي في فصولها الأولى، لكن الآن أنا أسرع وأكثر دقة الحمدلله، واتعلمت كتيير جداً جداً، بتمنى أقدر اخلص الرواية على نهاية السنة، لكن مش عارفة هقدر ولا لأ، ولكن مفيش مستحيل هنحاول.
** فيه بقى سؤال عايزاكم تجاوبوا عليه، تحبوا الرواية تتحول لصوت باللغة العامية، الحقيقة أنا حابة أبدأ في المشروع ده، وجهزت المايك وأجهزة الصوت علشان أسجلها. ايه رأيكوا؟؟
** بشكركم جداً على دعمكم وحبكم ومتابعتكم روايتي المنزل، وبتمنى أكون قادرة على ايصال المشاعر ليكم بشكل أعمق، استنوني وتابعوا الرواية لحد النهاية.
بتمنى منكم تعملوا vote لو الرواية عجباكم علشان تساعدوا في انتشارها اكتر وتوصل لأكبر عدد من الناس. شكراً مقدماً
كاتبتكم ءَالَآء
سؤال الفصل: يا ترى رد فعل خالد هيكون ايه؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.