السبت، 12 أكتوبر 2024

رواية المنزل: الفصل الثالث العشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل الثالث العشرون - ءَالَآء طارق

 رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الثالث والعشرون


مزيكة انهاردة تتر مسلسل هي والمستحيل لـ جمال سلامة، مزيكة رقيقة جداً.

***

رسائل رواية المنزل

رسائل رواية المنزل

رسائل رواية المنزل


[رسالة واردة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: بيسان

إلى صديقتي في المراسلة، سالي.

أرسل إليك هذه الرسالة خارج إطار رسائلنا المُعتادة، أرسلها بصعوبة وصوت القصف يهز الأرجاء. أعلم أنك ستتفاجئين بهذا التصريح لأنني لم أتطرق يوماً إلى معلومات شخصية عني. ولكني اليوم أصرح لكِ ولأول مرة، بأنني من الأرض المُحتلة، واسمي بيسان. شعرت بالحاجة لكتابة هذه الرسالة في وقت لا أعلم إن كان العمر سيمتد أم سينتهي مع صاروخ يهوي من السماء.

عزيزتي سالي، كنت أتابع رسائلك باستمرار على حسابك هذا، وفي كل مرة كنت أشعر بالشغف لرؤية كلماتك التي تُلامسني برقتها وصدقها. كنت دائماً أتمنى أن أكون واحدة من أصدقائك المجهولين، وقد كانت خواطرك البسيطة تملأ قلبي بالأمل وسط كل هذا الظلام. لذلك، اتخذت قرار مراسلتك، وهو من أجمل القرارات التي اتخذتها، لأحظى بصديقة لطيفة ومُلهِمة مثلك. كنت أحتاج إلى كلماتك الدافئة التي تشعرني بالراحة، وتلك اللحظات التي نتبادل فيها الحديث صارت ملاذاً لي من كل ما يجري حولي.

أكتب إليك اليوم تلك الرسالة لأحدثك عن نفسي قليلاً، أسمي بيسان من غزة - فلسطين المحتلة. عمري 20 عاماً، شابة لديها من الأحلام ما قد يلون هذا العالم باللون الوردي، ولكني للأسف ولدت في أكبر سجن في العالم، سجن تعودت أنظر إلى سماءه لأجد طائرات ال f16 تحوم من فوقي، لتقصف بين الحين والآخر موقعاً هناك وموقعاً هناك وربما تقصفنا نحن، منذ نعومة أظافري وأنا أعيش حروباً قاسية ومؤلمة حتى اعتدت على الفقد وصرت أحسب له حساباً فور سماعي لصوت ال f16، ولكني مع ذلك وفي تلك المدينة الصغيرة أو السجن الكبير تمسكت بالحياة رغم كل شيء، وأنا أسمع صوت الطائرات في السماء واصلت، وأنا وجميع من على هذه الأرض كنا ولطالما مُحتفظين بإنسانيتنا التي وهبها الله لنا، نحلم، نحب، نتعلم، نغني ونمارس الحياة بشكل أقرب للطبيعي أو ربما بطاقة أكبر وتتجاوز من هم أحرار في أوطانهم، ربما نحن كذلك لأننا لا نعلم متى ستكون النهاية.

عزيزتي سالي، حلمت أن أعيش لحظات عادية، كما يفعل الناس في أي مكانٍ آخر. أحلم لمستقبل دون قيود، بعيداً عن هذه الحرب طويلة الأمد والتي لا تترك لنا مجالاً للحياة. لكن اليوم، وأنا أجلس في زاوية غرفتي المُظلمة حيث قطع عنا الاحتلال كل مصادر الحياة الأساسية، وبينما تهتز الجدران من حولي وتنهار بيوت جيراني وأصدقائي مُدمرة بما تحمله من أرواح وذكريات، أدركت أنني لا أستطيع الهروب من واقعي أكثر من ذلك. وهذا الخوف والظلام الذي كنت أحدثكِ عنه في رسائلي الماضية، كان قد بدأ ينقشع شيئاً فشيئاً، ولكن مع أول صوت للقصف عاد هذا الخوف مرةً أخرى، خوف من ألا أتمكن من كتابة رسالة أخرى لكِ، خوف من أن يتحول اسمي إلى رقم بين الأرقام التي تُعد في نشرات الأخبار.

أردت فقط قبل أن يفوت الأوان أن تعرفي من أنا حقاً، وأن تعرفي أنني أقدّر صداقتنا الغير واقعية هذه كثيراً، فقد كانت أحن من الواقع القاسي الذي أعيش فيه أنا وشعبي. في هذه اللحظة، أشعر بأن الكلمات هي كل ما أملك، وأن هذه الرسالة قد تكون آخر ما أرسله. أتمنى أن نلتقي يوماً ما في عالم أكثر سلاماً، وأن أتمكن من الحديث معك وجهاً لوجه، وليس فقط عبر الكلمات المكتوبة.

بيسان].

***

لثوانٍ قليلة اتسعت حدقتا أنيسة في لحظة صادمة وهي تنظر إلى سالي التي تطأطئ رأسها بحزن، وكأن الحقيقة التي كانت تحاول دفنها قد انكشفت بلا رحمة. ارتجف قلبها وارتعشت أطرافها، ثم بدأت الملامح على وجهها تتبدل شيئًا فشيئًا. شيء ما في عينيها بدا مختلفًا، تلك النظرة المذعورة سرعان ما تحولت إلى إدراك حزين. الشفاه المتوترة هدأت، وحل محل هذا التوتر هدوء ثقيل، مشوب بحزن دفين. تنفست أنيسة ببطء، وكأنها تعترف بصمت بما كانت تخفيه. وبين طيات السكون، لم يكن هناك سوى شعور بالعجز أمام حقيقة لا مفر منها. قالت المرأة وهي تُخفض صوتها:

"من أخبرك؟".

لم ترفع سالي رأسها وقالت مُتمتمة:

"دكتور نوفل من أخبرني".

نظرت المرأة بعيون فارغة إلى الفضاء من حولها وقالت هامسة:

"يبدو أن دكتور رشدي لم يصن سرنا، خائن".

كانت سالي عاجزة عن الرد، فلم يكن في قاموسها كلمة مُناسبة ترد بها على المرأة الشاحبة الضعيفة الي سألت وهي تتأمل سالي بفضول:

"هل هناك من لديه علم بهذا السر غيركم؟".

"أنا ودكتور نوفل فقط من نعلم".

"إذاً من فضلك، أتمنى ألا يعلم أحد آخر بهذا السر".

ضيقت السيدة أنيسة عينيها مؤكدة:

"خاصة ابني خالد يا دكتورة".

"لن أخبره".

أومأت سالي برأسها على الفور بينما تستجمع أنفاسها، ثم قطبت جبينها ورفعت رأسها بعد لحظات مُتسائلة:

"ولكن إلى متى؟ هذا حمل كبير من الصعب عليّ احتماله، لا أستطيع أن أخدعه".

لقد بذلت سالي كل ما في وسعها ذهنياً حتى لا تُخبر خالد بهذا الأمر، وها هُنا الآن أنيسة تؤكد عليها ألا تُخبره، في النهاية هذا الرجل يجب أن يكون أول من يعلم بهذا السر، وليس هي أو أحداً آخر.

ألقت أنيسة نظرة على سالي وكأنها تضغط عليها حتى لا تُفشي هذا السر وقالت:

"لا حاجة لأن تحملي هذا الهم على كتفك يا ابنتي، أنا سأخبره بنفسي عندما يحين الوقت المناسب".

كان هناك سؤال واحد على شفتي سالي 'ومتى سيحين الوقت المُناسب؟' تمنت الشابة في نفسها أن يُمهل القدر هذه المرأة المزيد من الوقت في هذه الحياة تقضيه براحة بين أولادها، وبينما كانت سالي غارقة في أفكارها، قاطعتها المرأة:

"سالي، انظري إليّ من فضلك".

نظرت سالي إليها بنظرات حزينة، فقالت المرأة بابتسامة طيبة:

"أنا لست مستاءة من علمك، على العكس تماماً، أصبحت أشعر بالراحة قليلاً أن شخصاً حنوناً وطيباً مثلك يُشاركني سري، أريد منك أن تحفظي سرنا إلى الوقت المُناسب، وأطلب منك ابنتي أن تظلي بجواري الأيام القادمة".

تجمعت الدموع في عيون المرأة ولم تتمالك نفسك، لتغطي وجهها بيديها المُجعدتين، اقتربت سالي منها بسرعة حتى شعرت بحرارة جسدها المُنتفض:

"أنا لن أتركك أبداً، سأظل بجوارك دائماً".

ارتجف جسد المرأة وهي تشهق قائلة:

"أنا خائفة جداً".

صوتها كان يحمل اعترافاً صريحاً بالخوف، احتضنتها سالي بشدة وهي عاجزة عن العثور على رد مُناسب يُهدئ من روعها:

"إذاً لنفعلها معاً، عليك أن تبدأِ العلاج فوراً".

أضفت كلمات سالي طابعاً من التعاطف، فقالت المرأة:

"أعلم أنه لا أمل في العلاج، أعلم جيداً ما يحتويه التقرير الخاص بحالتي".

عضت سالي شفتيها من شدة الألم بعد أن سمعت هذه الجملة، ولكنها ردت عليها بعزيمة:

"بل هناك أمل، ولو كانت نسبة قليلة، ربما تكون المُعجزة فيها".

هذه السيدة يجب أن تبدأ في العلاج فوراً، ليس لأجل نفسها فقط، بل لأجل الأطفال الذين ينادونها بـ ماما. قالت المرأة وهي تغطي وجهها بيدين مرتعشتين:

"أكره هذا، أكره أن يراني أحد بهذه الحالة الضعيفة، خاصة أولادي".

'كيف تقولين هذا، أنتِ ضيفة الأفق'. أرادت سالي قولها، ولكنها لم تستطع، فقد كانت تعلم بالفعل أن المرأة تحت تأثير الانفعال والخوف:

"لا داعي للقلق ست أنيسة، ما عليك التفكير فيه الآن هو العلاج فقط لا شيء آخر، وأنا سأرتب كل شيء مع دكتور رشدي".

"ولكنهم سيفهمون بكل تأكيد، الأولاد وجميع من في المنزل".

"هذا لا يهم الآن، المهم أن نأخذ خطوة، والباقي نتركه لوقته"

ألحت سالي على المرأة:

"أرجوك لنذهب غداً إلى المستشفى، لا نستطيع الانتظار أكثر من ذلك، حياتك ثمينة ومُهمة، أرجوك وافقي".

تأملت المرأة من بين دموعها سالي التي تتوسلها، وهزت رأسها بسرعة وهي توافق على طلب سالي:

"حسناً، لنذهب، لنذهب معاً".

في تلك اللحظة حاولت سالي كتم دموعها، كانت غارقة في الحيرة ولم يكن لديها توقع لما سيحدث في المستقبل، ولكنها كانت تدعو الله في نفسها أن تنجو هذه المرأة من هذا الابتلاء الصعب، فهذا المنزل في نظر سالي لم يكن له معناً حقيقي إلا بوجود هذه السيدة. أغمضت سالي عينيها ومررت يداها المرتعشتان فوق ظهر المرأة برفق، وكأنها تُحاول مسح هذا المرض الخبيث عنها. وأدركت من أعماقها لماذا هي هنا الآن.

***

في اليوم التالي بعد ذهاب الجميع إلى المدرسة ذهبتا أنيسة وسالي إلى المستشفى بحجة القيام بالتحاليل الخاصة بالسيدة أنيسة التي طلبها الدكتور رشدي. وفي المستشفى استقبلهم دكتور رشدي بحفاوة، ثم أمر بأن تُجري أنيسة بعض التحاليل المهمة. بينما كانت سالي تنتظر، أجرت حديثاً مع دكتور رشدي، هذا الرجل المُسن، الذي يشغل منصب مدير المستشفى. قال الرجل وهو يعدل نظارته بحزن:

"أنا متأكد بنسبة 70%، ولكن علينا أن نأخذ خزعة، هي رفضت بالطبع من قبل لأن الأمر سيكون صعباً عليها وسيظهر عليها التعب بوضوح في المنزل، خاصةً أمام خالد".

بالفعل كان الأمر سيكون مكشوفاً لو تم أخذ خزعة منها، مع أن الأمر ليس مؤلماً بشكل كبير، ولكنه في النهاية منظار سيدخل إلى المعدة، وخزعة سيتم أخذها منها، يجب أن يكون أحد بجوارها، وهي من الأساس لم تخبر أحد، سألته سالي:

"إذاً ما الخطة الآن؟".

"الأطباء المتخصصون متاحون وممتازون، وهناك بالفعل خطة لأجلها، لكن عليها ألا تكون بمفردها، يجب أن يتواجد معها أحد".

"أنا موجودة هنا معها، لنبدأ على الفور".

"إذاً كخطوة أولى، سنقوم بعمل منظار، هذه الخطوة تم تأجيلها كثيراً".

"اليوم؟ ولكن..".

"أنا أفهم مخاوفك، لكن يجب أن يكون في أقرب وقت، الوضع يتطلب إجراء منظار وأخذ خزعة. يجب أن نتأكد من حجم الورم وطبيعته لنحدد مدى انتشاره ونكتب تقريراً كاملاً".

"لكن هذا سيكون صعبًا، مستر خالد لا يعلم شيئًا عن مرضها. كما قلت من قبل، إجراء المنظار سيجعل الأمور واضحة جدًا بالنسبة له".

تنهد الرجل بيأس:

"أعرف أن الوضع حساس، لكن كل تأخير قد يُكلف أنيسة كثيرًا. علينا إقناعها وأخذ الخطوة بسرعة".

نظر الرجل إليها بإصرار:

"وأيضاً عليكم أن تخبروه، يجب أن تفعلوا ذلك، لا يجوز أن يظل جاهلاً حتى هذا الوقت بمرض أمه".

"إنها عنيدة جداً وترفض ذلك".

"هذا الولد يجب أن يتقبل ذلك، لم يعد طفلاً صغيراً".

وبخ الدكتور رشدي خالد الغائب، والذي لا يعلم من الأساس ما تمر به أنيسة، أخفضت سالي رأسها بيأس، فسمعت الرجل يقول مؤكداً عليها:

"دكتورة سالي، يجب أن تأتي أنيسة مرةً أخرى في اقرب وقت لعمل المنظار، يجب أن تتأكدي من حدوث ذلك، أنت مسؤولة بما أنك على دراية على بمرضها".

"سأفعل يا دكتور، الست أنيسة ستكون هنا مرةً أخرى في أقرب وقت".

تنهد الرجل وهو يشعر بقليل من الاطمئنان لوجود تلك الشابة التي يبدو عليها الجديدة والمسؤولية، ثم نظر إليها وقال:

"استغلالاً للوقت، سنقوم اليوم بعمل أشعة مقطعية، لذلك علينا أن نُحضرها لذلك".

أجرت أنيسة الأشعة، كانت مستلقية داخل الجهاز، ووقفت سالي من بعيد تتابعها، وقد شبكت كفيها خلف ظهرها، وهي تشعر بعبء المسؤولية الكبير الذي ألقى على عاتقها، ولكنها اختارت تحمله بكل شجاعة وإصرار، ورغم أن خالد لا يعلم شيئاً بعد، فإنها قررت أن تكون الحاضرة، تسد الفراغ، وتبذل كل ما بوسعها لمساعدة أنيسة. كان قرارها واضحاً وثابتاً: لن تتركها تواجه هذا المصير وحدها.

***

وقفت نور ورأسها مرفوع بحماس مُنتظرة رأي ذكية التي وضعت في فمها قطعة من فطيرة الكريمة بالأماريتو مع قشرة اللوز التي خبزتها نور للتو، كانت الرائحة في المطبخ تُحفز الشهية، رائحة الكيك مع الكريمة كانت مزيجاً مُغرياً لأي شخص. مرت لحظات قليلة والمرأة تستطعم الفطيرة ببطء، ثم قالت بصوتٍ عالٍ ودود:

"السكر متوازن بشكل رائع، الكريمة مع اللوز لا توصف، أنتِ حقاً عبقرية".

هزت كلمات المديح أعماق نور، واحمر وجهها بسعادة، وسألت بلهفة:

"حقاً ست ذكية؟ هل هي لذيذة؟".

"حقاً يا ابنتي، إنها حقاً لذيذة، سلمت يداك".

أكملت المرأة وهي تلتقط الصينية:

"هيا فلنقطعها حتى نقوم بتوزيعها على الجميع في العشاء، أنا مُتأكدة أنهم جميعاً سيحبونها".

تمتمت الطفلة بسعادة قائلة:

"حسناً، هيا لنقطعها".

كانت الطفلة مُستقرة نفسياً هذه الأيام، على الرغم من أن التنمر عليها لم يهدأ أبداً، بل استمر كما هو الحال، ولكن نور استطاعت تجاهله تماماً، فعلى الرغم من صغر سنها، إلا أنه كان لديها ثبات نفسي وانفعالي، ولم يكن انهيارها مؤخراً إلا بسبب التراكمات على المدى الطويل، استطاعت بالفعل أن تسيطر على انفعالاتها تجاه تنمر زملائها في الفصل، وكانت نصيحة خالد التي نصحها لها من قبل دافعاً كبيراً ومؤثراً في سيطرتها على نفسها، كانت قادرة بالفعل على تجاوز ما يصدر من زملائها. وتذكرت كلماته:

'أنت أقوى مما تعتقدين. القوة ليست في الهروب من الصعوبات، بل في مواجهتها. أنتِ لا تحتاجين لأن تكوني مثلهم، يكفي أن تكوني كما أنتِ، وهذا شيء يجب أن يفهموه'.

"أحمد؟ تعال يا بني هل تريد شيئاً؟".

قالتها الست ذكية بصوتها العالي الودود، فرفعت نور رأسها بإدراك والتفتت لتسمع صوت أحمد الهادئ:

"جئت لأرى ماذا تطبخون، فالرائحة مُنتشرة في كل أرجاء المنزل".

التفتت نور وتحسست القطعة التي قطعتها من كيكة اللوز لتكمل تقطيهع الباقي منها. ردت ذكية على الفتى:

"تعال هنا وذق هذه الكيكة التي صنعتها نور".

سمعت نور صوت الخطوات من خلفها وبالفتى الذي وقف بجوارها والتقط قطعة من الكيك التي قطعتها نور:

"سآخذ قطعة".

كان الفتى قد تعود على تنبيه نور قبل أن يحتك بها، تكونت هذه العادة لديه منذ صغرهما حتى لا يفاجئها أو يرعبها. وضع الفتى القطعة في فمه ومضغها بهدوء، فالتفتت نور إليه بلهفة وهي تنتظر رده، فنظر الفتى إليها بابتسامة وقال:

"إنها لذيذة حقاً".

ابتسمت نور بخجل وهي تسمع إطراء أحمد على كيكة اللوز. نظر الفتى إلى الكيكة التي كانت نور تقطعها، ثم نظر إليها وسألها:

"هل أساعدك في تقطيعها يا نور؟".

كانت الفتاة سترفض، ولكنها لم ترغب في كسر خاطره، فهي تعلم أنه يُحاول إعادة المياه إلى مجاريها بعد فترة من البرود بينهما، لتسمح له بامساك السكين مُتمتمه:

"نعم تستطيع".

كانت ذكية التي اطمأنت على وجود أحمد بجوار نور قد ذهبت لتُكمل باقي أشغالها وتركتهم بمفردهم، وبعد ثوانٍ تحد ث أحمد:

"هل أنتِ بخير؟ سمعت من الفتيات أن زملاؤك في الفصل كانوا يُضايقونك".

رفعت نور حاجبيها بإدراك وقد كانت تلك عادتها التي تُظهر أنها مُتفاجئة، فقالت ترد عليه بهدوء:

"أنا بخير، أبيه ساعدني كثيراً مؤخراً".

تأمل أحمد الكعكة التي يُقطعها بضيق، لأن نور لم تلجأ إليه في مشكلتها، بل إلى أبيه خالد. ليرد عليها بخمول:

"هذا جيد، أتمنى أن تشعري بالراحة".

فهمت نور نبرة الفتى، وقالت بهدوء دون أن تُبدي أية مشاعر خاصة على وجهها:

"نعم أنا مرتاحة، وأنت كيف تسير دروسك؟".

"على ما يرام".

"هذا جيد أعلم أنك حريص على تحقيق درجات عالية في المدرسة".

لم يرد أحمد عليها وقال:

"نور، هل العصا التي تستخدمينها مريحة؟".

عقدت حاجبيها باستغراب من سؤاله:

"مريحة كيف؟".

"أقصد هل تعودتِ أخيراً على استخدامها؟".

"نعم، العصا تُساعدني كثيراً، لا أعتقد أنني سأستغني عنها فيما بعد".

كان الفتى الذي يبلغ من عمره 15 عاماً قد شعر بكسر خاطره من قبل نور، فكل إجاباتها تعني كلمة واحدة 'لا حاجة لمساعدتك' لقد تعود دائماً على قبولها مُساعداته، ولم تتتذمر أو تتحاشاه إلا مؤخراً. خرج أحمد من المطبخ وهو يكور قبضته بحزن، وقابل حسن الذي كان في طريقه إلى الخارج مُعلقاً على كتفه حقيبة التمرين. واجه حسن أخيه مُتأملاً وسأله:

"ألا تنوي الرجوع إلى التمرين؟ المدرب يسأل عنك، كما أن البطولة تقترب".

تهرب أحمد من نظرات أخيه وقال:

"سأعود قريباً، أخبرني..".

تردد الفتى قليلاً قبل أن يسأل، ثم سأله بعد لحظات:

"هل معك 200 جنيه؟".

مال رأس حسن بحيرة وسأله:

"200 جنيه؟ لماذا؟".

وضع أحمد يده على شعره يرجعه إلى الخلف ببعض العصبية وقال:

"أريدهم فقط لغرض ما، إن لم يكن لديك فاذهب ولا تعطل نفسك".

وضع حسن يده داخل جيبه وهو يتأمل أخيه الحائر، ليخرج 100 جنيه ويسلمها له:

"لا تنس إرجاعها، لن أتركها لك كما فعلت المرة الماضية".

ألقى حسن نظرة أخيرة على أحمد، ورحل وهو يحمل داخله قلقاً وشكاً رهيبان تجاه أخيه الذي أصبح يتصرف بشكل غريب جداً مؤخراً.

***

في المساء وزعت الست ذكية كيكة اللوز التي أعدتها نور، كان الجميع مُندهشاً لمذاقها الرائع، حتى سالي، التي تذوّقتها لأول مرة، أعجبها الطعم. احمر وجه نور خجلاً بسبب المديح الذي انهال عليها، خاصة من السيدة أنيسة التي تناولت كثيراً من الكيكة. نظرت سالي إلى خالد من بعيد بينما كانت تضع فنجان القهوة الخاص بها، ثم إلى أنيسة التي كانت تتحدث بشكل طبيعي على الرغم من التعب الذي مرت به اليوم وهي تقوم بالتحاليل والأشعة. وشعرت بالذنب عندما لمحت خالد يبتسم إليها. وفي نهاية اليوم تساقط الأطفال الصغار الذين اتعبهم اللعب والركض في الأرجاء كالفراخ الصغيرة، فحمل الأولاد الكبار اخوتهم الصغار إلى غرفهم، وتبقى 'عليّ' الذي حمله خالد، نام الفتى على كتفه بعمق بينما خالد يحمله إلى سريره، وفور خروجه من الغرفة وجد سالي في اتجاهها إلى غرفتها، وقفت سالي بسرعة فور رؤيتها له وبادرت بالحديث:

"هذا جيد أردت الحديث معك قليلا، هل وقتك يسمح؟".

بدا على سالي بالفعل أن لديها ما ترغب في قوله، شعر خالد ببعض الراحة لأن الحاجز الذي كان بينهما بدأ بالزوال، وصارت تبادره الحديث بنفسها، فرد عليها بهدوء:

"نعم لدي الوقت، تفضلي".

أشار لها لتسبقه، وذهبا معاً إلى المكتب، وأمامه بادرت سالي بالحديث قائلة:

"لقد ذهبت مع السيدة أنيسة اليوم إلى المستشفى لإجراء الفحوصات".

تلهفت عيون خالد لمعرفة النتائج، فابتلعت سالي ريقها بتوتر وقالت:

"النتائج ليست على ما يرام بعض الشيء"

بهت وجه خالد، فأغمضت عينيها وهي تشعر بالأسى:

"يبدو أن لديها مرض السكري من النوع الثاني".

لم تكذب سالي، بل كانت صادقة في هذا الأمر، السيدة أنيسة كان لديها مرض السكري من النوع الثاني الذي يُصيب الكبار في السن، وقد اكتشفوا ذلك في التحاليل التي قامت بها اليوم مع الأشعة المقطعية. لم يكن هناك شك في الشحوب الذي ظهر على وجه خالد، فاندفعت سالي قليلاً بجسدها، وقالت تطمئنه:

"لا تقلق عليها هذا أمر طبيعي في مثل هذا السن، علاجها سيكون حبوب وصفها الطبيب لها، وليس إبر الأنسولين".

"مدى الحياة؟".

نظرت سالي إلى كفيها بتوتر وقالت:

"على الأغلب، ولكن انتظامها على العلاج وتنظيم وجباتها لن يسمحوا للمرض بالتأثير عليها، لذلك لا داعي للقلق".

أكملت سالي وهي تتفحص وجهه:

"لقد أوصيت الست ذكية بالوجبات اللازمة لها، وسنبدأ من الغد بإذن الله السير على نظام غذائي خاص بها".

لم يكن لدى خالد رد، وتذكر أمه اليوم وهي تأكل من كيكة اللوز التي صنعتها نور، كانت تأكلها بنهم وطلبت المزيد وهذا جعله يستغربها قليلاً. هل هذا لأنها تعلم أنها ستقنن من السكر الفترة القادمة؟ ساد الصمت في أرجاء الغرفة، فارتبكت سالي وفكرت في رد فعل الرجل لو علم أن ما تمر به أنيسه أكبر وأخطر من مرض السكري النوع الثاني. قال خالد قاطعاً الصمت:

"أشكرك على تعبك اليوم معها، أنا حقاً أقدر مجهودك هذا".

لجم شكره لسانها قليلاً قبل أن ترد عليه بصوت خافت مذنب:

"لا شكر على واجب مستر خالد".

وفجأة تذكرت سالي موضوعاً آخر كان بمثابة عذر للهروب من هذا الموقف الثقيل على قلبها، فقالت وهي تواجه نظراته بعيون مُصممة:

"مستر خالد، هناك أمر آخر أريد أن أحدثك فيه".

"تفضلي، أنا أسمعك بانتباه".

"الأطفال الصغار يجب أن يذهبوا إلى حضانة".

قالتها سالي وكأنها قررت بالفعل، فمال رأس خالد بتعجب من طلبها المُفاجئ والغريب عن طبيعة الموضوع الذي بدأوه، وسألها:

"ما هذا الطلب المُفاجئ؟".

ابتسمت سالي باعتذار قائلة:

"أعتذر عن التدخل، ولكنِ اتفقت مع الست أنيسة على أهمية هذا الأمر. الأطفال الصغار يجب أن يذهبوا إلى الحضانة، يجب أن يعتادوا على الاندماج والتعرف على مُجتمع جديد غير المنزل، كما أن سنهم لم يعد صغير، وأصبحوا الآن قادرين على الكلام والتعبير عن نفسهم"

ابتسم خالد بطرافة وسأل:

"على أي أساس تعرضين هذا الطلب؟".

أصرت سالي وهي تتقبل ابتسامته الطريفة:

"على أساس أن لديهم طاقة كبيرة جداً يجب أن تخرج في المكان الصحيح، الحضانة ستقوم داخلهم الكثير من العادات قبل ذهابهم إلى المدرسة، سيتعلمون فيها الانضباط، التعاون مع الآخرين، وحتى بعض المهارات الأساسية التي ستساعدهم على تطوير شخصياتهم".

هز خالد رأسه ببطء، وكأن الفكرة بدأت تتشكل في عقله، لكنه سأل بحذر:

"وهل هذا شيء اتفقتِ عليه مع ماما، أقصد هل وافقت هي على ذلك؟".

تنفست سالي بعمق وأجابت:

"نعم، نحن نرى هذا لصالح الأطفال".

نظر خالد بعيدًا لوهلة، كأنه يفكر بعمق، ثم عاد ليقول بنبرة أخف قليلاً:

"سأتحدث معها وأرى ما يمكن فعله".

ابتسمت سالي بامتنان، وقالت:

"بالطبع، هذا هو الأسلم. شكرًا على تفهمك يا مستر خالد، وبالنسبة لباقي الأطفال..".

توقفت فجأة وهي تشعر بأنها استرسلت في الكلام أكثر من اللازم، فأخفضت نظرها بخجل، ليحثها خالد على الحديث بلطف:

"تفضلي، أكملي حديثك يا دكتورة".

رفعت سالي رأسها وهي تصفي حنجرتها بكحة خفيفة خجولة، وقالت بابتسامة:

"أعتذر، أشعر أنني تدخّلت أكثر من اللازم".

"لا بأس، نحن نتعاون فيما يخص مصلحة الأولاد، كما أنك الآن لست غريبة".

قالها خالد وهو ينظر إليها بعمق، لترد عليه سالي بابتسامة امتنان:

"أشكرك، أريد أن أقول أن باقي الأولاد عليهم أن يمارسوا بعض المهارات، لا أعلم ماذا تكون، ولكنِ أشعر بأنهم يحتاجون إلى مهارات تُحدث تغيير محوري في حياتهم".

"لدينا بعض الأطفال بالفعل يُمارسون مهارات، كرحيم وحسن وأميرة، وأيضاً نور".

"والباقي؟".

فكر خالد ولم يجد رد، ليسألها بعدها بثواني:

"ماذا ترين أنت؟".

"أرى أنه علينا أن نتحدث مع الأطفال، ونسألهم لو كانت هناك مهارة يُريدون أن يُمارسوها".

"ولكنهم مازالوا صغار، كيف سيكتشفون؟".

قالت سالي بوضوح بديهي:

"بالتجربة! علينا أن نسمح لهم بتجريب الكثير من المهارات، وهم مع الوقت سيكتشفون ما يستهوي مزاجهم ويشغل وقتهم".

انفعلت سالي واندمجت في حديثها وهي تشرح بيدها أيضاً ما تعرضه عليه:

"مستر خالد، التجربة ستنمي فيهم الكثير من الثقة بالنفس، والإحساس بالمسؤولية. لا يمكنك أن تتخيل كيف يمكن للتجربة أن تشكلهم وتفتح لهم آفاقًا جديدة. كل طفل لديه طاقات دفينة، تحتاج فقط إلى البيئة المناسبة لتخرج للنور".

ابتسم خالد ابتسامة صغيرة بينما ينظر إلى سالي بتأمل، وكأنه يزن كلماتها. ثم قال بهدوء:

"فكرة جميلة. لكن، كيف نبدأ؟ هل لديك اقتراحات محددة؟"

أجابت سالي بحماس، مستفيدة من انفتاحه:

"ربما يمكننا أن نعرض عليهم بعض المهارات عن طريق الانترنت أو الذهاب إلى النادي، وفي مجالات مختلفة، مثل الفن، والرياضة، حتى مهارات يدوية. نسمح لهم بالتجربة ونرى ما يشد انتباههم".

نظر خالد بعيدًا للحظة، ثم قال:

"يبدو أنها فكرة جيدة. ناقشي هذا الأمر مع ماما، لنرى كيف يمكننا تنظيم ذلك. لكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار متطلباتهم وقدراتهم. ليس كل شيء سيناسب الجميع".

أومأت سالي برأسها موافقة وقالت:

"بالطبع، سنتعامل مع كل طفل بما يناسبه. والأهم أن نمنحهم الفرصة ليكتشفوا أنفسهم بعيدًا عن الضغوط".

سألها خالد بانجذاب:

"اسمحي لي أن أسألك، ما الذي يجعلك تُفكرين بهذه الطريقة؟".

قطع الرجل بسؤاله هذا استرسالها وكأنه وضعها أمام حقيقة مُرة، فتأملته بخمول قليلاً وهي تتذكر ماضيها، ثم قالت بحزن:

"لأنني لطالما تمنيت أن يتواجد من يفكر معي بتلك الطريقة، ويمنحني مثل تلك الفرص والحرية لاختيار ما أتميز فيه".

ابتسمت سالي بحزن وأكملت:

"من الجيد أن تجد شخصاً يؤمن بك إيماناً مُطلقاً، بل يُساعدك في التطور ويضعك على بدايات طُرق مُختلفة، هذا الشخص كنز حقيقي، والأفضل أن يكون هذا الشخص والدك أو والدتك. هُناك قصص نجاح كبيرة جداً كان أحد أهم أسبابها هو ايمان الوالدان بطفلهما".

نظر إليها الرجل بنظرة مواسية، وكأنه فهم أن سالي تتحدث من واقع معاناتها، ثم تنهد ووقف ببطء من مقعده قائلاً بنبرة عملية:

"حسنًا، دكتورة سالي، يبدو أن أمامنا عمل كبير. لنتابع هذا الأمر معاً".

ابتسمت سالي وهي تستعد للرحيل:

"أشكرك على استماعك، أنا مُتأكدة أن تفهمك أنت والسيدة أنيسة لما أقترحه سيحقق تغييرًا إيجابيًا في حياة الأولاد".

ابتسم خالد بود، قائلاً:

"أنا متأكد من أننا سنفعل".

وقبل ان تنهض سالي، قاطعها خالد:

"هناك أمر آخر".

فجلست سالي مرةً أخرى وهي ترفع رأسها وتنظر إليه باهتمام، ليبادر بالحديث:

"سأسافر بإذن الله بعد ثلاثة أيام، هناك أمور يجب إنهائها تخص المكتبة، أطلب منك أن تتولي تلك الأمور التي اتفقنا عليها منذ لحظات، لن أجد شخص أعتمد عليه غيرك، بما أنك أنت من اقترح هذه الأفكار".

ابتسمت سالي وهي تشعر بأنها حصلت على مُهمة كبيرة جداً وذات قيمة، لترد عليه بإصرار:

"لا تقلق مستر خالد سأبذل ما بوسعي لتحقيق هذه الأهداف، وهذا بالطبع إلى جانب عملي الأساسي".

"لن أقلق وأنا أسلمك هذه المسؤولية يا دكتورة".

قالها خالد وهو ينظر إليها مُباشرةً، فسألته سالي بفضول:

"ولكن متى سترجع؟".

"ليس هُناك ميعاد مُحدد، ولكنس سأكون على تواصل معكم".

خرجت سالي بعدها من الغرفة، وهي تشعر بأنها أخيرًا وجدت فرصة لتقديم شيء حقيقي للأطفال، تقديم ما يساعدهم ويحميهم فيما بعد عندما ينضجون ويصبحوا أكثر إدراكاً، عاهدت نفسها بأنه لن تترك هذا المكان إلا ولها بصمة في حياة هؤلاء الأطفال، بصمة حقيقية وإيجابية.

***

في الحمام وقف أحمد وهو يُمسك هاتفه بأصابع مُرتجفة، وانفلتت منه شتيمة قبيحة وهو يرى المبلغ الذي خسره تواً أمام عينيه، شعر الفتى أن الدم يُسحب من جسده، وأن قدميه لا تقويان على حمله، فانفلتت منه شتيمة ثانية وثالثة وشعر بأنه يُريد رمي هاتفه بقوة، ولكنه لن يستطيع فعل ذلك بكل تأكيد. المبلغ الذي قامر عليه الآن وخسره في لحظة، لم يكن مبلغاً هيناً أبداً، بل مبلغ لا يقدر بعض الكبار على جمعه. جلس الفتى على أقرب موضع في الحمام ووضع وجهه بين كفيه بحسرة مُتسائلاً ما هي الخطوة التي سيقوم بها الآن، شعر وكأنه وقع في ورطة كبيرة، وكانت حسرته على هذا المبلغ الطائل كبيرة. عليه الآن أن يبدأ من جديد، بعد أن كان بينه وبين المبلغ الذي أراده القليل جداً. تلك العصا الذكية التي أراد شرائها لنور أصبحت بعيدة المنال. حلمه الذي كان يحلم به ليل نهار وهو يُهدي نور العصا الذكية تلاشى. أراد أن يثبت لها أنه يُعتمد عليه. لكن الآن لا أموال ولا عصا ولا حتى ثناء من نور. رفع الفتى رأسه بتصميم وهو ينوي البدء من جديد. عليه أن يبدأ الطريق مرةً أخرى من بدايته، ويجب أن يصل إلى مراده مهما حدث. هكذا فكر أحمد وهو يفتح التطبيق من جديد، ويضع يده في جيبه مُخرجاً المئة جنيه والتي استلفها من أخيه.

***

مر يومان، وبذلك تبقى على سفر خالد يوم واحد. حاولت سالي في اليومين السابقين أن تكتشف مع الأطفال المزيد من المهارات المدفونة فيهم، وكانت قد توصلت إلى أن فرح مشروع صوت غنائي ممتاز، والفتاة نفسها على الرغم من الإهانات التي تطولها يومياً من زميلاتها التي اعتذرت لهن، إلا أنها انشغلت مع سالي في تنمية مهاراتها، وهذا كان هدف سالي الأساسي، إشغال الفتاة المُراهقة حتى لا تلتفت إلى مثل تلك الأمور التافهة، واستطاعت بفضل ذلك إلهاء الفتاة عن تلك العادة التي اكتسبتها من زميلاتها، وعندما حاولت فعلها اعترفت لسالي بذلك.

أما أميرة فقد تقربت منها سالي، ولاحظت أن تلك الطفلة مُتحدثة بارعة جداً نظراً لاهتمامها بالكتب والقراءة بشكل عام، المشكلة الوحيدة التي لمحتها في أميرة، هي تأثرها بالثقافة الغربية بشكل مُبالغ فيه، لم يكن لديها أية معلومات من حصيلة معلوماتها الكبيرة عن هويتها المصرية أو العربية، وإن كان لديها فكانت فقط من منظور غربي، وهذا أثار ضيق سالي بشكل كبير، وشعرت أن دورها هنا يجب أن يكون، يجب أن يتواصل الأطفال جميعاً مع ثقافتهم الخاصة بهم. لذلك حرصت على جلب بعض الكتب والروايات التي ربما يكون لها دور كبير في تثقيف أميرة وتكوين رابطة بينها وبين ثقافتها المصرية العربية. كان سالي تعمل بجد مع الأطفال وتراقبهم من بعيد وتدون ما تلاحظه في تصرفاتهم واحتياجاتهم.

وفي اليوم قبل سفر خالد، حدث أحد أغرب المواقف التي رأتها سالي. كان هذا اليوم إجازة رسمية، والأطفال لم يذهبوا إلى مدارسهم. وقفت سالي في غرفتها قبل غروب الشمس، تتأمل السماء بهدوء. كان لون السماء في هذا الوقت من اليوم أحمر بشكل لافت، جعل سالي تترك ما يشغلها وتقف في نافذتها، تتأمل هذا المشهد الساحر من بعيد. كان أكثر ما لفت نظرها هو اختلاط اللون الأحمر للسماء مع انعكاس نهر النيل في الأفق البعيد، حيث بدت المياه وكأنها تتوهج بلون الدم، مما أضفى على المشهد جواً غريباً ومهيباً في آن واحد.

وقفت سالي تتأمل المشهد وهي تشرب فناجاً من الشاي الساخن والبسكويت اللذيذ الذي خبزته الست ذكية منذ ساعة. تناولت واحدة وشعرت بالسعادة تذوب في فمها، فشكرت الست ذكية في سرها بينما عيناها تتوجهان إلى أسفل عندما سمعت صوت حسن. كان الفتى يمشي بسرعة وهو يقول:

"ابتعدي عني، لا تتحدثي معي مرةً أخرى".

سمعت سالي صوت مألوف:

"حسن أنا فقط أسألك سؤالاً، لماذا لا ترغب في الرد علي، ماذا فعلت لك؟".

أدركت سالي أن هذا صوت السيدة منى عندما دخلت في مجال نظرها، ورأت حسن يلتفت إليها ويقول غاضباً:

"أنا لا أحب الحديث معك، أنت تضايقينني دائماً وتتدخلين في شئوني الخاصة".

"يا بني أنا فقط أهتم بك، كما أهتم بباقي الأطفال".

"لا تقولي بني، أنا لست ابنك!".

لم تستطع سالي أن تلمح تعابير مُنى، ولكنها رأت كتفيها ينخفضان قليلاً بشكل مُحبط، وقالت:

"لماذا تقول هذا يا حسن، أنا أحبك جداً أنت وأخوتك، أنتم عائلتي".

"لا نحن لسنا عائلة، وأنتِ تعلمين هذا جيداً".

صُدمت سالي من رد الفتى القاسي جداً، وشعرت بالشفقة على السيدة مُنى، وأخذت تلوم الفتى في نفسها بشدة. نظرت مرةً إلى الولد الذي قال قبل أن يرحل:

"مرةً أخرى، أحذرك لو اقتربتِ مني، سأخبر ماما وأبيه بأنك تُضايقيني".

ورحل الفتى تاركاً السيدة منى تقف بمفردها تحت الشجرة، ولم تمر ثواني لترى كتف المرأة يهتز مُرتعشاً وكأنها تبكي، ووضعت يدها على صدرها بألم، وقالت بصوت مُتقطع مُرتعش:

"ولكنك ابني".

***

[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟

المرسل: سالي

عزيزتي بيسان، لقد كانت رسالتك مُفاجأة كبيرة جداً لي، قرأتها والقشعريرة تسري في جسدي مُتخيلة ما تمرين به من صعاب، إن أهوال الحرب حقاً لا تُحتمل، والألم الذي وصفتيه لامس أعمق ما لدي من مشاعر. أنا أُحييك وأواسيك في نفس الوقت عندما أتصور كيف تستطيعين الصمود وسط هذا الخراب والدمار. كل كلمة كتبتِها حملت معها معاناة، وصوتك الذي ينادي في الرسالة كان مليئاً بالوجع والأمل في آن واحد. لقد أعدت قراءة خطابك مرات ومرات عديدة وأنا أشعر بجلل تلك اللحظة التي كنتِ تكتبين فيها رسالتك، وتساءلت، أيعقل أنك من بين هذا الخراب تكتبين مثل تلك الرسالة؟ أعرف الآن لماذا كنتِ تكتبين بكل هذه الرقة والعمق، وأيضاً الحزن، لأنكِ تعيشين في مكان يختلط فيه الخوف بالشجاعة، والحياة بالموت. شعرت من حديثك بشيء لم أستطع أن أدركه من قبل-قوة الإنسانية رغم الدمار والخراب، وأن تكوني قادرة على الحب والحلم، على التمسك بالأمل وبالحياة، رغم كل ما حولك، هو شيء يفوق أي تصور.

عزيزتي بيسان أريد أن أقول لكِ معلومة مهمة جداً، إن كل من يقف صامداً على أرضه لهو إنسان حر طليق، خاصة في مثل تلك الظروف، ربما سجنكم الاحتلال، وأحاطكم بالأسوار من كل تجاه، وأباد منكم أرواحاً بريئة بأعداد كبيرة. ولكن، قاومي، قاومي إلى آخر نفس، وتمسكِ بالحياة كما كُنتِ دائماً، لا تجعلي هذا الغُراب الأسود المشؤوم يسلبك تلك الأرض، ولا أن يسلبك تلك الحياة العزيزة، قاومي أنتِ وشعبك، لأنكم أحرار على أرضكم، والاحتلال يخاف من الحرية. غداً ستفخرين بنفسك وستحكين لأحفادك كيف كانت سنوات النضال والحرية فوق أرضك.

أنا ممتنة لأنكِ اخترتِ مشاركتي بجزء من واقعك، رغم الخطر والصعوبات. رسالتك هذه ستكون دائماً شهادة على صمودك وقوتك. صداقتنا ليست مجرد كلمات عابرة، بل هي جسر بين عالَمينا المختلفين، جسر لا يعرف الحدود. سأحتفظ برسالتك هذه في قلبي، وسأظل أفكر فيكِ دائماً، أملًا في أن تمر هذه الأيام السوداء، وأن تأتي اللحظة التي تشرق فيها الشمس على أرضكِ وتحققين أحلامكِ. إلى أن نلتقي في عالم أكثر عدلاً وسلامًا، اعلمي أنني هنا معكِ، أقرأ كل حرف منكِ بعمق، وأبعث لكِ كل الحب والدعاء.

أدعو لكِ في كل لحظة، وأتمنى أن ينتهي هذا الكابوس قريباً، وأن تجدي في قلبك مساحة للراحة والسلام رغم كل شيء. كوني قوية، فنحن جميعاً هنا معك بقلوبنا ودعواتنا.

كل الحب والدعاء،

سالي].

رسائل رواية المنزل

رسائل رواية المنزل

رسائل رواية المنزل


نهاية الفصل الثالث والعشرون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم بإذن الله

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

أهلاً أعزائي، عودة بعد إجازة طويلة شوية، الفترة اللي فاتت كنت محتاجة اجازة، ضغطت على نفسي كتير في الكتابة والشغل وللأسف ده تعبني جداً واضطريت أوقف، الحمدلله أنا أحسن بكتير ومستمرة إن شاء الله معاكوا. اتمنى الفصل يكون عجبكم، شكراً جداً على دعمكم المتواصل.

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصل: يا ترى قصد منى ايه؟

***

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.