رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الثاني والعشرون
"أصبح عندي الآن بندقية" هي أغنية الفصل الثاني والعشرون.
نظرت إليه سالي بوجهٍ شاحبٍ تحت تأثير نظراته الباردة، وهو لم ينتظر منها رداً، بل صرح:
"كنت تعلمين بأمر فرح منذ اليوم الأول الذي جئتِ فيه إلى هنا، اليوم الذي رجعت فيه من السفر ووجدتكما في العيادة".
في كل مرة كان خالد ينطق بتصريح، كان يزداد يقيناً أن سالي كانت على علمٍ مسبق بما يخص فرح:
"فسري لي يا دكتورة لم تخبريني بأمرها على الرغم من سؤالي لك؟ برؤيتك اليوم وأنت تتجنبين النظر نحوي عندما رأيت معصم فرح، صرت متأكد من علمك".
سمعت سالي تساؤلاته وهي تشعر بالذنب الشديد، فقال مؤنباً ضميرها أكثر:
"بصدق، لقد وضعت كامل ثقتي بكِ، وطلبتُ منكِ أن تعتني بها، لا أصدق أنك كنت تخبئين عني هذا السر وقد كانت الفرصة متاحة لك دائماً لمصارحتي".
"مستر خالد، من فضلك، أمهلني فرصة لأشرح لك".
قاطعت سالي حديثه، محاولة منع المزيد من الاتهامات، كان وجهها منخفضاً قليلاً، فرفعت عينيها الصادقتان المذنبتان، ونظرت إليه بنظرات تحتية، قائلةً بصوتٍ منخفضٍ أجش:
"أعلم أنك طلبت مني من قبل أن أصارحك لو كان هناك أمراً لا تعلمه عن فرح، ولكن..".
تأملته لثوانٍ ثم أكملت:
"لكن، كانت لدي أسباب حالت دون مصارحتك".
وقبل أن تُدلي سالي بأسبابها قاطعها خالد بدون صبر:
"ما هي الأسباب التي دفعتكِ إلى إخفاء سر يخص أحد الأطفال، خاصة وأنك مجرد موظفة هنا في المنزل".
كتمتها سالي في نفسها، ونظرت إليه قائلة وعينيها تلمعان بالعصبية:
"أنا دكتورة يا مستر خالد، ولا يجوز أن تتحدث معي بهذا الاسلوب دون أن تعطني الفرصة لأشرح لك أسبابي".
نظر خالد إليها للحظات، نبرة صوته لم تتغير، لكنه كان واضحاً في استيائه. تنفس بعمق وقال ببرودٍ يكتم غضبه:
"سواء كنتِ دكتورة أم لا، هنا، أنتِ موظفة تحت إدارتي".
أشار بسبابته للأسفل قاصداً المنزل، وأكمل:
"وأي سر يخص فرح أو أي طفل في هذا البيت هو أمر لا يخصك وحدك. الآن، إذا كان لديكِ ما تقولينه، فقولي، ولكن لا تتوقعي أن أثق بكِ".
ظل ينظر إليها بعينيه الجامدتين، منتظراً جوابها. فقالت سالي وهي تنظر إلى عينيه مُباشرة:
"فرح أخذت عليّ عهداً ألا أخبر أحداً منكم مؤقتاً، كانت خائفة من فقدانكم الثقة فيها، أنت بالطبع والسيدة أنيسة".
توقفت سالي قليلاً وهي تستجمع المزيد من الكلمات:
"مستر خالد أنا لم أفعل ذلك تقاعساً مني، أو تغطية على تصرف فرح الخطير، أنا فقط حاولت أن أحتويها وأكسب ثقتها حتى أساعدها في التخلص من تلك العادة، هذا جعل فرح تتقرب مني وتضع ثقتها في، أمراً لم يكن ليحدث لو أخبرتكم فور علمي. كما أن حسن كان يعلم وأخبر السيدة".
"إذاً كنت أنا الوحيد فيكم الذي لا يعلم!".
"لم يكن الامر يحتاج لإزعاجك وأنت مشغول طوال الوقت، كما أن فرح ألحت عليّ ألا أخبركم، لم ترغب في أن يخيب ظنكم بها وهي تحمل داخلها لكم حباً واحتراماً كبيراً".
تنهدت قائلةً:
"مستر خالد لا تشعر بالخيانة، فرح استأمنتني على سرها، وأنا كنت أمينة معها وعليها".
كان خالد حقاً مستاء ليس من سالي فقط، بل من فرح وحسن وأنيسة، شعر وكأنه تم استغفاله، وكان هو الوحيد الذي يجهل بأمر مثل هذا، شعر وكأنه تم إبعاده جانباً عن الصورة، وهذا كان يغيظه، فقال:
"إذاً هل من المفترض أن أتفهم إخفائك هذا السر عني، وأن أتصرف على أنه لا دور لي، لمجرد أنك أمنية عليها، يبدو أنني بحاجة لتذكيركِ يا دكتورة أن دورك هنا لا يتعدى تضميدك لجروح الأطفال ومراقبة حالتهم الصحية والباقي تتركيه لمن يخصهم الأمر".
"بالطبع لا يا مستر خالد أنا لا أقول انه لا دور لك في أمر فرح، ولكنها الظروف التي أوصلتنا إلى هذا الوضع، كما أنك مصر على تهميش دوري كإنسانة وثقت فرح فيها، وهذا حقاً يجرحني".
"إذا كنتِ فعلاً تشعرين بأنني جرحتك، فالألم متبادل يا دكتورة سالي. ولكن على ما يبدو أن إحساسي بالتهميش لا يهمكِ بقدر ما يهمكِ الحفاظ على صورتك الأمينة أمام فرح".
كانت تلك الكلمات كافية لجعل سالي تشعر بأن النقاش لم يعد له جدوى. التوتر الذي تراكم داخلها كان يزداد، فتحت فمها لترد ولكنها قررت أن تصمت وهي تشعر وكأن خالد يدفعها بقسوة، مما أزعجها وجعلها تنهض برفق قائلة:
"إذاً لا يوجد ما يُقال في هذه الحالة، لقد شرحت لك الموقف برمته، وأنت ترفض أن تتفهم، أنا أتساءل حقاً عما فعلته لأستحق منك هذا الكلام الجارح، ولكنِ لا أجد إجابة".
نظرت سالي إليه بصرامة، وهي تخفي داخلها الاستياء من انفعاله الذي قلل من شأنها، فأكملت:
"سأذهب الآن يا مستر خالد، طاب مساءك".
رحلت سالي وتركته بمفرده في غرفة المكتب، تائهاً ما بين الغضب، وإحساسه بالندم بسبب نبرته القاسية معها. لم تكن لديه الرغبة أبداً في إهانتها أو إحراجها، ولكنه أراد أن يسيطر على زمام الأمور بنفسه، لم يشعر بالراحة عندما علم أن الأمور تُدار من خلفه وبدون علمه، فقد تعود دائماً لأن يكون هو المسؤول والمُسيطر، كان يشعر بالاستياء الشديد بسبب الأحداث الأخيرة، والتي يبدو أنها أرهقته وأثرت على أعصابه. دلك خالد جبينه بتعب وهو يحاول التغلب على الصداع، ونظر إلى الباب مرةً أخرى بندم.
***
في اليوم التالي، التقوا على الفطور، ونظر كل منهما نظرة الغريب إلى الآخر، وكأن العلاقة بينهما لم تكن صافية منذ 24 ساعة فقط، تجاهلته سالي وهي تشعر بالغضب، لم تنم طوال الليل وهي تُفكر في إهانته لها، رمقته وهو غير منتبه بنظرة غاضبة وتلاقت أعينهما، فتجاهلته وأشاحت بوجهها عنه، ليعقد حاجبيه بضيق.
كانت الأخبار القادمة من غزة صادمة، ومُفجعة. لم تتوانَ دولة الكيان المحتل للأراضي الفلسطينية عن ارتكاب المجازر بحق المدنيين العُزل يوماً بعد يوم، في أعقاب السابع من أكتوبر. تلك المجازر التي استهدفت الأحياء السكنية والأسواق والمستشفيات والمدارس، ما أسفر عن سقوط مئات الضحايا من النساء والأطفال وكبار السن. أصوات الانفجارات كانت تتعالى في كل مكان، والدمار يغطي الشوارع والمباني، بينما كانت الجثث تُنتشل من تحت الأنقاض في مشاهد مروعة لا تكاد تُصدق. كان الجميع في المنزل مرتعباً ومصدوماً من بشاعة الصور واللقطات القادمة من تلك الأرض المنكوبة المنهوبة، وعلى الرغم من ذلك كان على الحياة أن تسير وتمضي في كل مكان في العالم إلا أرض غزة، وكان على الجميع أن يُمارس حياته بشكل طبيعي وهو يشعر بأن هناك جرحاً غائراً داخله وتوقاً لسماع أخبار جيدة وخوفاً من سماع أخبار مؤلمة.
لم تذهب فرح إلى المدرسة، لأن المديرة كانت قد أصدرت قرارًا بفصلها هي وزميلاتها لمدة أسبوع. أما خالد فقد تواصل مع بعض التقنيين لمساعدته في مسح تلك المقاطع التي انتشرت بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي. كان عليه أن ينظف ما خلفته فرح وراءها، وفي الوقت نفسه حمل هم معالجة الأسباب. أما سالي فقد كان يشعر بالسوء تجاهها، وهيّ بدورها تجاهلته طوال هذا الأسبوع. تذكر نظرتها الأخيرة إليه، مليئة بالاستياء والغضب. رغم أنه كان مُدرك لخطأه، إلا أنه ظل يبرر تصرفه لنفسه، حتى اعترف في نهاية الأمر أنه كان مُخطئاً في اسلوبه رغم اقتناعه بأسبابه، وكان عليه الآن أن يجد طريقة يعتذر بها إليها.
مر الأسبوع كلمح البصر، وفي أمسية يوم الجمعة، قضت سالي بعض الوقت مع بعض الفتيات في غرفة فرح. أدخلت ماريا اصبعها الصغير جداً في عينها، فتأوهت بألم ليس بسبب هجوم ماريا فقط، بل بسبب سارة ولارا اللتين تسرحان شعرها بعبث، وتشدان خصلاته بتهور. كانت فرح تجلس على المكتب الخاص بها وتكتب شيئاً ما، بينما ليان تستلقي على سرير ليلى تعبث بالتابلت الخاص بها، تأملتها سالي قليلاً وهي تُدلك العين التي اصابتها ماريا، ثم سألتها:
"ليان ما بك؟".
لم ترد ليان عليها ووضعت رأسها في الوسادة، فنهضت سالي عن السرير وماريا بين ذراعيها، وجلست بجوار ليلى بقلق:
"ليان هل هناك ما يضايقك؟".
كان هناك صوت تنهدات مكتومة، فنظرت سالي تلقائياً إلى التابلت الخاص بالفتاة، والذي كان مفتوحاً على أحد المقاطع التي تظهر مشهداً لأطفال يرتجفون من صوت القصف، تألمت من مشاهدة المقطع القاسي وهي تشعر بأن قلبها يتمزق، وشدت بأمان على جسد ماريا الصغير، وكأنها تخاف عليها من هذا القصف البعيد عن منزلهم وأرضهم. جلست سالي بجوار ليان ومسحت على شعرها قائلة:
"ليان، لا يجب أن تُشاهدي مثل تلك المقاطع يا عزيزتي، إنها ليست مُناسبة لسنك".
رفعت ليان وجهها وهي تسأل:
"لماذا يحدث هذا؟".
لجم هذا السؤال البريء والصعب في آن واحد سالي، في الواقع لم يكن لديها إجابة صريحة عليه، 'لماذا يحدث هذا فعلاً يا ليان؟' سألت السؤال لنفسها بألم، لماذا يتم تهجير هؤلاء الأطفال من بيوتهم الآمنة ويتشردون في الشوارع المنكوبة تحت القصف؟ طفل يفقد والده، وآخر يفقد أمه، والثالث شقيقه، والرابع يفقد كل عائلته، والأخير يخرج لأهله من بين الأنقاض أشلاء بعد مروره بشتى أنواع الرعب والعذاب والقتل. ما الذي ارتكبه هؤلاء الأطفال حتى ترتجف أجسادهم من صوت القصف المرعب هذا؟ وهذا أقل شيء يتعرضون له، كيف يتحمل هؤلاء الأطفال ما يعجز الكبار عن تحمله، كيف لهم جميعاً على تلك الأرض كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً، شباباً وكباراً في السن أن يتحملوا هذا الظلم والتمادي في العذاب من تلك الدولة الطفيلية، كيف لتلك الدموع البريئة الحزينة لأن تهبط هكذا أمام أنظار العالم بأجمعه دون أن يتحرك أحد ويوقف تلك المهزلة، ما هذا العجز؟ عجز أم تخاذل؟ هذا السؤال يُعيدنا إلى سؤال ليان 'لماذا يا يحدث هذا؟'.
مسحت سالي دموع ليان وهي عاجزة عن الرد، لم تكن لديها إجابة على الطفلة التي تبلغ من العمر 8 سنين، والتي لا تستوعب أسباب هذا الصراع
"هذا يحدث لأنهم يدافعون عن أرضهم، ولا يريدون الرحيل عنها".
"ولكنهم يموتون، لماذا إذاً لا يهربون؟".
"وهل يهرب الإنسان من وطنه يا ليان؟ حتى لو كان جحيماً؟ الإنسان الحر لا يخضع لسلب الوطن منه، بل يضحي من أجل تحرير الأرض وانتزاعها من المُحتل، كما حدث معنا من قبل في النكسة".
نظرت الطفلة إليها بحيرة، فتنهدت سالي وهي تستوعب عمر الطفلة الصغير، وقالت:
"تخيلي معي لو رغب أحدهم أن يسلبك منزلك الكبير الجميل هذا، ويتخذه منزلاً له، وأنت المالكة الأصلية للمنزل تتشردين في الشوارع ولا تجدين مأوى لك".
الطفلة الخائفة أجابت وعينيها تدوران بتردد:
"ماذا سأفعل؟".
"ستعودين إلى منزلك وتجبرينه على الرحيل، لن تتركيه وشأنه حتى تستردي ما يخصك، وما يخصك هو منزلك، جدرانه وسقفه، أبيه خالد وماما أنيسة، أخوتك جميعاً، ذكرياتك، أفراحك، أحزانك، غرفتك الجميلة، وسريرك الدافئ، وكتبك ونافذتك، ماضيكِ وحاضركِ ومستقبلكِ، هذا هو منزلك الذي تدافعين عنه، وهو أيضاً وطنك الجميل الدافئ".
كانت عيون ليان تلمعان عندما ذكرت سالي كل تلك الأمور المحببة إليها، فقالت:
"نعم أنا لن أتركه يسرق مني منزلي".
التقطت سالي التابلت دون أن تعلم الطفلة ووضعته خلف ظهرها قائلةً:
"لدي فكرة لطيفة، اذهبي إلى غرفة الموسيقى وأحضري العود، ولنجتمع جميعاً في الأسفل لنغني قليلاً ".
نظرت سالي إلى ماريا اللطيفة وقالت:
"ما رأيك يا ماريا؟".
فصاحت الطفلة بابتسامة وهي تتلفظ ببعض الكلمات الجديدة التي تعلمتها بفخر. نظرت سالي إلى فرح وقالت:
"وأنت يا فرح، هيا معنا".
نظرت الفتاة إليها بتردد، فأومأت سالي إليها وهي تطمئنها.
كان على سالي أن تستغل هذا الموقف لتغرس داخل الأطفال من هذا الزمن قيمة المنزل والوطن، من خلال تلك القضية الإنسانية العادلة، التي تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة، قضية شعب يناضل منذ ثمانين عاماً من أجل حقه في الحرية والكرامة والعدالة. ليست مجرد صراع بين طرفين، بل هي نضال ضد الاحتلال والظلم المستمر منذ عقود. إن قضية فلسطين تُمثل رمزًا للمقاومة ضد الاستعمار والاضطهاد، وتجسد حقوق الإنسان الأساسية في تقرير المصير، والحياة بسلام وأمان.
وهكذا في أمسية من أمسيات المنزل التي لن تُنسى، وستشهد عليها جدران هذا المنزل، أمسكت سالي بالعود وهي تردد بصوتها المنخفض:
أصبح عندي الآن بندقية.. الى فلسطين خذوني معكم
الى ربىً حزينة.. كوجه المجدلية
الى القباب الخضر.. والحجارة النبيَّة
ثمانين عاماً.. وأنا أبحث عن ارضٍ وعن هوية
أبحث عن بيتي الذي هناك.. عن وطني المحاط بالأسلاك.
أبحث عن طفولتي.. وعن رفاق حارتي.
عن كتبي.. عن صوري.
عن كل ركن دافئ.. وكل مزهرية.
الى فلسطين خذوني معكم.. يا أيها الرجال.. أريد أن أعيش او أموت كالرجال.
أصبح عندي الآن بندقية.
كانت أنيسة تستمع إلى عزف سالي وصوتها المنخفض الحزين وتردد معها جملة 'أصبح عندي الآن بندقية' وذرفت دموع حزينة متألمة، مسحتها وهي تتأمل الأطفال الذين كانوا يستمعون إلى الأغنية التي صارت مُحمسة في النصف الثاني منها:
قولوا لمن يسأل عن قضيتي.. بارودتي صارت هى القضية.
اصبح عندي الآن بندقية.. أصبحت فى قائمة الثوار.
أفترشُ الأشواك والغبار.. وألبس المنيّة.
أنا مع الثوار.. أنا من الثوار.
من يوم أن حملت بندقيتي.. صارت فلسطين على أمتار.
يا أيها الثوار.. فى القدس.. فى الخليل.. فى بيسان.. فى الأغوار.. فى بيت لحم.
حيث كنتم أيها الأحرار.. تقدموا... تقدموا.
الى فلسطين طريق واحد.. يمر من فوهة بندقية.
كانت تلك قصيدة نزار قباني وألحان محمد عبدالوهاب وغناء أم كلثوم، كانت سالي تسمعهاً كثيراً في الانتفاضة الثانية، لطالما أثارت فيها مشاعرة الشجن والثورة تجاه تلك القضية، وها هنا اليوم تلك المشاعر تتجدد معها، ولكن وهي بالغة، والآن يقع على عاتقها نقل تلك المشاعر تجاه أجيال جديدة يانعة يحملون مزيجًا من البراءة والقوة، وفي يوم سيأتي دورهم ليحملوا الراية في وجه هذا العدو الأبدي إلى نهاية العمر.
***
طرقت فرح على باب غرفة أنيسة، وقالت قبل أن تفتح الباب:
"ماما، سأدخل".
دخلت فرح لتجد أنيسة تقف أمام الباب وعلى وشك أن تفتحه، لم تستطع فرح أن تنظر مُباشرةً إلى عيني أمها، فقالت وهي تمد يدها وفيها مظروف صغير مكتوب عليه [إلى ماما]، استلمت أنيسة المظروف بحيرة، ونظرت إلى فرح التي قالت بتردد وعينيها في الأرض:
"من فضلك اقرأي هذه الرسالة، وأتمنى أن تحققي أمنيتي فيها".
التفتت فرح وقالت وهي تخرج من الباب:
"تصبحين على خير".
أغلقت فرح الباب، وتركت أنيسة تقف أمام الباب وهي محتارة من تصرف الفتاة الغريب، فتحت المرأة الرسالة لتقرأ ما هو مكتوب فيها:
[ماما، هذه الرسالة أكتبها لك، لأعبر فيها ندمي من التصرفات التي صدرت مني مؤخراً وأثارت استياؤك، وفي الحقيقية ليست لدي أية مُبررات أرفقها مع كلامي، لأنني على اقتناع تام بسوء تصرفي غير المبرر له، وكلما تُقنعني نفسي بمبرر إلا أنني أتراجع فوراً. أتمنى منك أن تتقبلي مني اعتذاري الصادق وندمي، وأتمنى أن تُحققي لي الطلب التالي وتضعيه في عين الاعتبار حتى يكتمل اعتذاري. من فضلك تعالي إلى المدرسة غداً في الساعة السابعة والنصف، سأنتظرك مع أبيه خالد والدكتورة سالي.
فرح التي تحبك وتُقدرك].
سلمت فرح تلك الرسالة أيضاً إلى خالد، بنفس المضمون ونفس الطلب.
وفي صباح اليوم التالي، ذهبت سالي مع أنيسة وخالد إلى المدرسة بطلب من فرح. وفي طابور الصباح الخاص بالمدرسة، سلمت المعلمة المسؤولة عن الإذاعة الميكروفون إلى فرح التي وقفت أمام جميع طلاب مدرستها، ومعلماتها، ومديرتها، وخالد وأنيسة وسالي التي رافقتهم، واخوتها، لتبدأ في الحديث بصوتها الناعم المنخفض الخجول:
"صباح الخير جميعاً، أنا فرح من الصف الثاني الثانوي، وزميلتكم هنا في المدرسة، وهذه في الواقع ليست فقرة من فقرات الإذاعة المدرسية المعتادة، إنها فقرة مُختلفة تماماً، وعليّ أن أُقدمها بنفسي".
نظرت فرح إلى سالي التي وقفت من بعيد وهي تراقبها بابتسامة تشجيعية، فتنهدت بعمق مُستمدة الشجاعة منها وأكملت:
"أنا هنا اليوم، لأعترف أمامكم جميعاً بأنني قد ارتكبت خطأً فادحاً بحق زميلاتي في الفصل، وتسببت لهن بضرر كبير، ضرر مؤذي، نابع من غضبي وعدم السيطرة على تصرفاتي، مهما حاولت التبرير لخطأي لا أجد مُبرراً واحداً له، هذا الخطأ لم يطل فقط زميلاتي، بل طال عائلاتهن، ومدرستي وأسرتي. فكرت كثيراً في طريقة مُناسبة أصحح بها تصرفي، ولم أجد إلا طريقة واحدة، وهي الاعتراف بهذا الخطأ أمام الجميع، في الواقع الأمر صعب جداً، والوقوف أمامكم والاعتراف بكل صراحة، لهو أمر شاق على نفسي، ولكن واجب ولازم علي لأصحح خطاً ندمت عليه بشدة. زميلاتي، دينا و..".
عدت فرح أسماء زميلاتها جميعاً وأكملت:
"من فضلكم، تقبلوا اعتذاري".
نظرت إلى أنيسة وخالد:
"وإلى عائلتي الحبيبة والعزيزة والأغلى على قلبي، ماما أنيسة، وأبيه خالد، سامحوني".
مرت لحظات من الصمت وفرح تُراقب وجوه الجميع. كانت أميرة التي ترى أختها تقف بشجاعة وتعتذر أمام الجميع، هذا جعلها ترفع كفيها وتصفق بصوت عال، ولم تمر لحظات حتى دوى صوت التصفيق في جميع أنحاء ساحة المدرسة. التصفيق بدأ خافتاً، ثم ما لبث أن تصاعد شيئاً فشيئاً، حتى تحول إلى موجة من التشجيع والدعم. فرح، التي كانت تشعر بالتوتر والخجل في البداية، بدأت تشعر بالارتياح والدفء يتسللان إلى قلبها. نظرت إلى الأرض للحظات محاولة أن تسيطر على دموعها، ثم رفعت رأسها مجدداً.
كانت أنيسة تقف في الصف الأول، والدموع تملأ عينيها وهي تبتسم بفخر. خالد، الذي بدا عليه التأثر، وقف بجانبها وهو يهز رأسه برضا. سالي كانت تتابع الموقف بابتسامة مشجعة، تشعر بالفخر أن فرح اتخذت خطوة شجاعة كهذه.
لم يكن من السهل على فرح أن تقف أمام كل هؤلاء الأشخاص وتعترف بخطئها، لكنها فعلت ذلك. وجدت في تلك اللحظة أن الاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية هو أقوى خطوة نحو التصحيح.
شعرت أنيسة التي اغرورقت عيونها بالدموع في هذا اليوم بأن فرح كبرت، على الرغم من صوتها المتوتر والخجول إلا أنه كان صادقاً وهادئاً بعمق وحكمة، وكأن الفتاة المراهقة التي ارتكبت أخطاءً عديدة منذ اسبوع، قد نضجت خلال هذا الأسبوع، واستوعبت بالفعل خطأها، وأدركت أنه لا فرار من الخطأ إلا بالاعتراف به، نظرت أنيسة إلى سالي التي كانت تقف وهي تشبك ذراعيها مُبتسمة بفخر، وأدركت أن تلك الشابة كان لها دور كبير في هذه الفقرة التي قدمتها فرح.
ما لم تكن فرح على علم به، هو أن أنيسة قد سامحتها من قلبها بعد تلك الصفعة العنيفة التي سقطت على خد الفتاة المراهقة، واليوم كان هدية جميلة منها، تقبلتها أنيسة بابتسامة مُحبة وطيبة، نظرت إلى خالد ورأته يتأمل فرح بفخر، نظر إليها مُبتسماً لتشعر أنيسة باطمئنان كان غريباً عنها منذ أيام طويلة.
نزلت فرح من المنصة واتجهت إليهم وهي تشعر بالخجل، ولم تدع لها أنيسة الفرصة واحتضنتها وقبلتها أمام الجميع، وهنا بدأت فرح تستوعب ما هو معنى الانتماء الذي تحدثت عنه سالي:
"الانتماء يا فرح هو شعور عميق بالاتصال والارتباط بجماعة أو مكان أو فكرة، وهو الإحساس بأنك جزء من شيء، وأنت بالفعل جزء من هذا المكان وتلك العائلة، أياً كانت علاقتكم ببعضكم البعض، ولكنكم في النهاية لبعضكم البعض، صدقيني أنتِ تستحقين الحب والاحترام، ولا أحد يمكنه أن يأخذ ذلك منكِ، أنتِ لست وحدك يا فرح. لديكِ أشخاص يحبونكِ ويهتمون بكِ، وأنا هنا من أجلك، لقد رجعت من أجلك، كل ما عليكِ فعله هو أن تكوني صادقة معهم. أخبريهم بما حدث، وكيف تشعرين حيال ذلك. أخبريهم بما دفعكِ لهذا التصرف، ولماذا شعرتِ بأنكِ مضطرة للقيام بما قمتِ به. قد يكون الأمر صعبًا في البداية، لكن الثقة والتواصل هما الأساس. إذا عرفوا كيف تشعرين بالفعل، سيكون بإمكانهم فهمك ومساعدتك بشكل أفضل".
في طريق العودة إلى المنزل، كان محمود يقود السيارة وخالد وأنيسة يتحدثان، التفتت خالد تلقائياً إلى أنيسة عينيه وقعتا على سالي التي اشاحت وجهها بعند إلى النافذة، فنظرت أنيسة بريبة بينهما، ولكنها لم تُعلق. فكر خالد في تصرف سالي وموقفها العنيد والجِدي منه، كانت هذه أول مرةٍ يتم تجاهله بهذه الطريقة العينية، وهي كانت تتعمد تجاهله وإشاحة وجهها عنه، والتصرف بعدم انتباه أثناء حديثه، وهذا ضايقه أكثر من سبب خلافهما، وللأسف لم تكن هناك فرصة ليتحدث معها على انفراد. تأمل خالد النافذة ولاحظ أن الجو غائم قليلاً، ابتسم وهو يفكر في أنها ربما تكون السبب نظراً إلى عبوسها، ربما لو ابتسمت قليلاً لأشرقت الشمس مرةً أخرى.
خرجت أنيسة وسالي من السيارة، وودعت أنيسة خالد ومحمود اللذين رحلا إلى العمل، ونظرت بفضول إلى سالي، وسألتها:
"هل هناك ما يُضايقك من خالد؟".
تفاجأت سالي من السؤال قائلة:
"لا، ما الذي سيضايقني منه؟".
تمتمت المرأة قالت وهي تستند على ذراع سالي في اتجاههم إلى المنزل:
"لا أعلم، هيا بنا لندخل".
***
في الحديقة، وضعت أنيسة فنجان القهوة الخاص بها، وقالت بابتسامة:
"كنت أعلم ان لكِ دوراً في تصرف فرح اليوم".
"فرح لم تكن لتفعل ذلك لو لم تقتنع به، أنا فقط شجعتها على اتخاذ هذه الخطوة".
"لقد أرسلك الله إلينا يا دكتورة، أنا حقاً ممتنة لك".
ابتسمت سالي بخجل، ولم تمر ثوانٍ واكتست الجدية ملامحها وهي تقول:
"سيدة أنيسة أريد أن أتحدث معك بوضوح في مشاكل الأطفال التي لاحظتها منذ قدومي، وأتمنى أن تسمحي لي بالتدخل في مثل هذه الأمور".
"تفضلي يا دكتورة، أنا منصته لك".
سحبت سالي الهواء إلى رئتيها ثم أخرجته بسرعة، وبدأت حديثها:
"بدايةً، كلامي هذا ناتج من تجاربي الشخصية، ووجهات نظري التي كونتها من إحساسي بالنقص في بعض جوانب حياتي، إن قضية اليتيم - بالنسبة لهؤلاء الأطفال - تستولي على جانب كبير من طبيعة شخصيتهم وتفكيرهم، وكان لها بالطبع تأثير كبير على طريقة تفكير فرح، وعلى آليات الأمان النفسي لديها، خاصة في تجربتها مع زميلاتها، وهذا للأسف الشديد يحدث رغماً عنها وعن من هم مثلها، أمر نفسي لا يستطيعون السيطرة عليه نظراً إلى سنهم الصغير جداً، لذلك دعينا نضع هذه القضية جانباً الآن حتى يحين دورها لنتعامل معها. قضيتي الحقيقة هي الأطفال أنفسهم، أفكارهم، تصرفاتهم، حياتهم التي يعيشونها. الأطفال هنا رائعون، ولكني أشعر أنهم محبوسين في المنزل".
أشارت سالي بيدها إلى المحيط حولها، وأكملت:
"يتم رعايتهم والاعتناء بهم عناية فائقة، ولكن هناك نقص كبير في تنمية مهاراتهم، الأطفال يجب أن يخرجوا إلى المجتمع في سن صغيرة بداية من عمر ماريا. لقد لاحظت أن الصغار مجتمعهم هنا هو الحضانة، ولكن الحضانة لا يجب أن تكون هنا، بل في تجمع به أطفال آخرين من أعمار مختلفة، حيث يتعلمون التفاعل والتواصل مع الناس خارج نطاق الأسرة، وهذا ضروري لتنمية شخصيتهم وإعدادهم للحياة الواقعية. الأطفال يحتاجون إلى أن يختبروا مواقف اجتماعية متنوعة ليتعلموا كيف يتعاملون مع التحديات والمواقف الجديدة. إذا ظلوا هنا، محصورين في هذا المحيط الصغير والمغلق، ستظل أفكارهم محدودة وسلوكياتهم مقيدة. الطفل بحاجة إلى حرية استكشاف العالم من حوله، والتفاعل مع أقرانه الذين يختلفون عنهم في الشخصية والخلفية، حتى ينمو عندهم مفهوم التنوع والتقبل".
تمهلت سالي لثواني، ثم أكملت:
"بالإضافة إلى ذلك، الأنشطة البدنية والاجتماعية ضرورية لتفريغ الطاقة وتطوير مهارات العمل الجماعي والتعاون. فرح على سبيل المثال، كان يمكن أن تكون أكثر انفتاحًا ومرونةً لو تم تشجيعها منذ الصغر على الانخراط في نشاطات جماعية. كلما تأخرنا في هذا الأمر، كلما زادت حواجز الخوف والقلق الاجتماعي لديهم. المجتمع ليس مكاناً مخيفاً، بل هو حيز للتعلم والنمو، وعلينا أن نساعدهم على الدخول فيه بشكل صحيح ومدروس منذ البداية".
كانت أنيسة مفتونة بحديث سالي العقلاني وشعرت أن تلك الشابة الصغيرة لديها طاقة وعي أكبر، فابتسمت أنيسة في وجهها وقالت:
"أنا أتفق مع حديثك مئة بالمئة، ولكن أريد أن أنبهك لبعض الملاحظات التي واجهتنا نحن كعائلة حاضنة، ليست لطفل واحد، بل خمسة عشر طفلاً وطفلة".
تنهدت المرأة وأكملت:
"إن ما تقولينه منطقي جداً ومقبول لو كان لدينا هنا في المنزل 4 أو حتى خمسة أطفال، السيطرة عليهم ستكون بالتأكيد أهون من السيطرة على 15 عشر طفلاً وطفلة، لو لاحظتي ستجدين أن الأولاد الكبار كحسن وفرح وأحمد، كانت لديهم أنشطة في النادي، والدليل هنا حسن وأحمد هما من يمارسان لعبة قتالية كالملاكمة، ولكن مع قدوم المزيد من الأطفال أصبح أمر السيطرة عليهم في آن واحد صعب جداً، وصار من الإجبار أن نتخلى عن بعض النشاطات حتى نوحد بين جميع الأطفال".
"ست أنيسة أنا لا أريد اتهامكم بالتقاعس، ولكني فقط أحاول تحليل بعض الأمور، فرح وأخوتها عليهم أن يكونوا مُنفتحين أكثر من ذلك، عليهم أن يكثروا من ممارسة المهارات، الموسيقى، الرسم، الرياضة، القراءة، هؤلاء الأطفال من السهل الآن تغذية عقولهم بما يُفيدهم، بما يجعلهم ناضجين، وأكثر إبداعاً، يجب علينا أن نشغل الأطفال، خاصةً الفتيات حتى لا يلتفتن لأمور تافهة أو أمور أكبر من عمرهم، وفرح هي المثال الأقوى، فتاة مُراهقة، تم تغذية أفكارٍ خاطئة في ذهنها بسبب العزلة التي تعيشها. فرح فتاة ذكية، ولكنها بحاجة ماسة إلى الانخراط في أنشطة تشغل تفكيرها بشكل إيجابي. في مرحلة المراهقة، يميل الفتيات إلى التفكير الزائد والتحليل المستمر لكل موقف صغير، وإذا لم نساعدهن في تفريغ تلك الطاقة في شيء بناء، ستتحول الأمور إلى مشاعر سلبية مثل القلق أو الشعور بالنقص. فرح تشعر بالتوتر والضغط الاجتماعيين، وقد يكون هذا جزءًا من سبب تصرفاتها الأخيرة".
توقفت سالي للحظة، ثم نظرت إلى أنيسة وقالت بحزم:
"ما أقصده هنا هو أن الأطفال، خاصة في مثل هذه البيئة، بحاجة إلى مساحة للتعبير عن أنفسهم، وكذلك لتلقي التوجيه المناسب. يجب أن نتحدث معهم باستمرار، نفهمهم، ونستمع لما يدور في أذهانهم. أنا واثقة أن بإمكان فرح تجاوز هذه المرحلة، ولكن ذلك لن يحدث إذا استمرت في عزل نفسها. علينا أن نمنحها الأدوات لتدرك أن قيمتها ليست في رأي الآخرين بها، وإنما في نفسها وما تستطيع تحقيقه".
شعرت أنيسة بثقل المسؤولية الملقى على عاتقها، لكنها أيضاً أدركت مدى أهمية كلام سالي. ابتسمت وقالت بصوت هادئ:
"أعتقد أن الوقت قد حان لإعادة التفكير في بعض الأمور. سنحاول إدخال تغييرات صغيرة في حياة الأطفال، وربما نبدأ بفرح، فقد تكون البداية المناسبة".
نظرت بحزم إلى سالي وقالت:
"ساعديني من فضلك يا سالي".
***
الأخبار التي وصلت في المساء من عنف العدوان الإسرائيلي المُحتل للأراضي الفلسطينية، كانت مُفجعة، والمقاطع التي عُرضت على الفضائيات أقل ما تُوصف به أنها مروعة ومؤلمة. مشاهد الأطفال يبكون وسط الدمار، المنازل المهدمة رمادية اللون، والأجساد الممزقة المُبعثرة في كل مكان وتحت الأنقاض كانت تفوق قدرة أي إنسان على التحمل. مقاطع تصف وحشية وحقارة العدو الغادر، قاتل الأطفال. عدو يمارس لعبته بخسة وحقارة. الصمت الذي خيم على الغرفة بعد عرض تلك المقاطع كان ثقيلاً، وكأن الجميع عاجز عن استيعاب حجم الكارثة. القلوب امتلأت بالغضب، والحزن على ما يحدث في تلك الأراضي المحتلة، التي لا يزال أهلها يعانون من الظلم والعنف منذ عقود.
الوجوه الشاحبة كانت تعكس الألم العميق، الهمس الحزين والأحاديث الجانبية بين جميع من في المنزل بدأت تدور حول العدالة المفقودة، وكيف أصبح العالم يتجاهل صوت الضحايا. الجميع كان متفقًا على شيء واحد: ما يحدث ليس مجرد عدوان، بل هو محاولة متكررة لكسر إرادة شعب صامد، وترويع الأبرياء لطمس هويتهم وسلب حقوقهم الأساسية. في زاوية الغرفة، جلست أنيسة تحدق في شاشة التلفاز بصمت، بينما كان قلبها يغلي بالحزن والغضب. لم تكن تلك المرة الأولى التي تشهد فيها مثل هذه المشاهد، لكنها لم تعتد قط على الألم الذي يعصف بها كلما رأت الدمار والمعاناة.
بدأت الأحاديث ترتفع تدريجيًا، تتحول من همسات إلى أصوات غاضبة تندد بالصمت الدولي والتخاذل أمام ما يحدث. كان الجميع يشعر بالعجز، قالت ذكية بصوت محشرج:
"على الفلسطينيين أن يبقوا صامدين على أرضهم، يجب ألا يسمحوا بالتهجير إلى سيناء أو إلى صحراء الأردن".
فكرت سالي وهي تستمع إلى كلام ذكية المنطقي، بالفعل كان عليهم أن يصمدوا فوق أرضهم وإلا ستتلاشى القضية إلى الأبد، يجب أن يرفضوا مُحاولات التهجير من أرضهم وإلا سيكون من الصعب العودة إليها فيما بعد، كان ذلك هو الشعور السائد في تلك اللحظة؛ فالقوة الحقيقية في تلك القضية حتى الآن تكمن في مقاومة الشعب نفسه والإيمان بعدالة القضية، رغم كل الألم والمعاناة.
شعرت سالي بالهم والحزن يملآن قلبها، فنهضت مُستأذنة، وقبل أن تصعد إلى غرفتها، سمعت صوت خالد يُناديها:
"دكتورة سالي".
انتفض جسدها من المفاجأة، ولكنها تنفست بعمق والتفتت إليه بحزم:
"نعم مستر خالد؟".
"هل تسمحين لي بالحديث معك؟".
تأملته قليلاً، وقبل أن ترد سبقها هو قائلاً:
"من فضلك؟".
كان هناك رجاء في عينيه، فتنهدت وقالت بصرامة:
"حسناً، ولكن لنتحدث في الحديقة".
كانت سالي تشعر بالاختناق وترغب في استنشاق بعض الهواء الصافي في الحديقة، فما رأته الآن في التلفاز جعلها ترغب في الاختلاء بنفسها وعدم الحديث إلى أحد.
سار الأثنان متجاوران في الحديقة، وسمعته يقول بعد ثوانٍ:
"أشكرك على مُساعدتك لفرح، أنا مُتأكد أنك من دفعتيها لتتصرف هكذا. بصراحة لم أتوقع أن يحدث هذا".
وقف الرجل مما جعل سالي تقف بدورها وترفع رأسها ناظرة إليه، ضاقت عينيه قليلاً وقال بصدق:
"أنا آسف يا دكتورة عما بدر مني، لقد ضايقتك ولم يكن لي الحق في أن أمنعك عن تبرير موقفك، هذا اعتذار واجب مني".
نظرت سالي إلى الأرض بضيق وهي تتذكر ما حدث وقالت:
"مستر خالد، لا أخفي عنك سراً، لقد شعرت بالإهانة من اسلوبك، ولكن بالتفكير في الأمر، أعتقد أن لديك الحق لتشعر بالغضب".
نظر خالد إليها قليلاً، ثم رفع شعره بعجز، وسأل مُتنهدا:
"هل نتحدث بصراحة؟".
مال رأس سالي وقالت:
"بالطبع، تفضل".
رفع يده عن شعره، وقال وهو يكمل سيره وسالي تلحقه:
"لقد شعرت بأنه تم تنحيتي جانباً، واعتبار وجودي لا قيمة له، أعلم أنه ليس مُبرر لخطأي، ولكن هؤلاء الأولاد مسؤوليتهم على عاتقي، أنا في مقام الأخ الكبير أو الأب في نظرهم، حتى في نظر نفسي، لا أتخيلهم إلا أطفالي المسؤولين مني، لذلك انفعلت عندما وصلني شعور بأنه لا دور لي في مثل تلك المُشكلة الكبيرة التي تخص أحد الأولاد".
لم تتفاعل سالي مع كلامه فوراً، بل أخذت تُفكر في رد مُناسب للحظات، وقالت بعدها:
"أنا أتفهم موقفك يا مستر خالد. ولكن، إدمان فرح على تلك العادة الخطيرة كان أمراً حرجاً جداً في نظري، لم أستطع أن أُفشي سرها الذي ائتمنتني عليه، خفت أن أخبركم وأضعها تحت ضغط كبير يُجبرها على أذية نفسها بتلك العادة. فرح للأسف مُدمنة على عادة خطيرة. انا أعرف أن هناك ما يُسمى 'إيذاء النفس غير الانتحاري' ولكن هذه أول مرة في حياتي أرى مثل هذا التصرف النفسي على أرض الواقع".
"هل تستطيعين أن تشرحي لي عن مُشكلتها؟".
"إيذاء النفس غير الانتحاري هو سلوك يتمثل في إلحاق الشخص الأذى بجسده عمدًا دون نية الانتحار. يشمل هذا السلوك أشكالًا مثل الجروح، أو الخدوش، أو الحرق، أو القرص، أو ضرب الجسم بهدف إحداث الألم أو الأذى".
"ولكن ما سبب ذلك؟ ألم تكتسب فرح تلك العادة من زميلاتها؟ ربما تُقلدهم".
"بالنظر إلى ما سمعته منها، ربما كان الأمر في البداية مجرد تقليد لزميلاتها، ولكن فيما بعد أعتقد أن تحول إلى إدمان نفسي، إن أكثر الأسباب شيوعًا لإيذاء النفس غير الانتحاري تتعلق بتنظيم المشاعر الصعبة، حيث يلجأ البعض إلى هذا السلوك كوسيلة للتخفيف من التوتر، القلق، أو المشاعر السلبية التي يشعرون بعدم القدرة على التعامل معها بطرق صحية. يشعر بعض الأشخاص بالراحة المؤقتة بعد الإيذاء، لأن الألم الجسدي قد يصرف انتباههم عن الألم العاطفي أو الداخلي، وهذا ما حدث في حالة فرح للأسف".
كان القلق بادٍ على وجه خالد، فقالت سالي تطمئنه:
"لا تقلق، إيذاء النفس غير الانتحاري لا يرتبط بشكل مباشر بالرغبة في الانتحار".
سكتت لثوانٍ وأكملت:
"ولكن يجب أن تفهم أن الأشخاص الذين يمارسونه قد يعانون من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب، القلق، أو اضطراب الشخصية. وأعتقد أن فرح ربما تمر بمشكلة نفسيه تدفعها إلى التصرف هكذا، لذلك من الضروري تقديم الدعم والعلاج المُناسب لها. وأمر آخر يجب أن تفهمه، وهو أن فرح بعد ممارسة هذه العادة الخطيرة تشعر بالذنب والندم، ثم تتحول تلك المشاعر إلى اكتئاب، وهذا يجعلها تدور في دائرة مُفرغة".
وقفت سالي وهي تنظر إليه مُباشرةً:
"مستر خالد، فرح تحتاج إلى الرفق بها، وهذه هي الخطوة الأولى لمساعدتها، وهذا ما حاولت فعله معها دون علمكم، كان عليّ أن أتقبل كل ما قالته لتبرر موقفها، وهذا لم يكن ليحدث معكم، اعذرني على هذا التصريح، ولكني كنت خائفة من انفعالكم لو علمتم سرها، خفت أن يكون تفاعلكم معها خاطئاً".
"اسمحي لي يا دكتورة أن أصحح لك نقطة، أنت الآن تظلميننا وتسيئين فهمنا، نحن في تربيتنا للأطفال لم نكن قساة عليهم أبداً، ربما كنت سأغضب من فرح في بداية الأمر، ولكني فيما بعد كنت سأتحدث معها بهدوء وأتفهم موقفها، نحن فقط نعطي الأمور حقها بصفتنا عائلتها، والعائلة عليها أن تُبدي الصرامة واللين في آن واحد حتى لا يميل الطفل كل الميل في اتجاه واحد، وهذا ليس في مصلحته أو مصلحتنا".
كان من حق خالد أن يُدافع عن نفسه، فقالت سالي مُتنهدة:
"إذاً كل ما علينا التفكير فيه الآن هو أن نُساعد فرح".
ابتسم خالد بهدوء وهو يتأملها:
"إذاً لنفعل ذلك معاً، أنا أطلب منك مساعدتنا يا دكتورة".
اتسعت عينا سالي قليلاً ثم أخفضت رأسها مُبتسمة لنفسها بحرارة، فقد كانت هذ ثاني مرة في هذا اليوم يتم طلب مساعدتها، وهذا بالتأكيد اعتراف ضمني بكونها موجودة هنا في المنزل، ولها دور وأثر أكبر بكثير من كونها مجرد طبيبة مُقيمة معهم ينتهي دورها بمجرد التئام الجروح، بل كانت قيمتها وأثرها أكبر من ذلك.
***
بعد ذهاب الأطفال إلى غرفهم، بقيت أنيسة في غرفة الجلوس قليلاً، تحاول التحكم في شعورها بالغثيان، حاولت المرأة النهوض بألم وصعدت على سلم المنزل ببطء، وعندما وصلت أمام باب غرفتها، نفدت كل قواها ولم تعد قدماها قادرتان على حملها مدة أطول من ذلك، ولكنها فجأة شعرت بيد أحدهم تدعمها وتمنعها عن السقوط، فنظرت المرأة من خلفها، لتجدها سالي. همست الطبيبة الشابة:
"استندي عليّ ست أنيسة".
وساعدت سالي المرأة على دخول غرفتها، وانتظرتها أمام باب الحمام حتى انتهت المرأة من استفراغ الطعام، وعندما خرجت أنيسة من الحمام بأنفاس متهدجة، ساعدتها سالي على تبديل ملابسها والاستلقاء على سريرها. نظرت المرأة إليها بألم وتعب وقالت:
"أشكرك يا ابنتي على مُساعدتك، تستطيعين الذهاب إلى غرفتك الآن".
كان وجه سالي مظلماً وكئيباً وهي تتأمل الأرض، فنظرت المرأة إليها بحيرة وقالت بتعب:
"سالي، ماذا بك؟".
رفعت سالي رأسها
"ست أنيسة، لا داعي لأن تخفي الأمر عني، أنا أعلم كل شيء عن مرضك".
نهاية الفصل الثاني والعشرون
وتُستكمل القصة في الفصل القادم بإذن الله
***
"القضية الفلسطينية هي قضية كل إنسان يؤمن بالحرية والعدالة".
***
أهلاً أعزائي، بعتذر عن التأخير، واتمنى الفصل يكون عجبكم، شكراً جداً على دعمكم المتواصل.
كاتبتكم ءَالَآء
***
سؤال الفصل: يا ترى موقف أنيسة من سالي هيكون أيه؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.