الأربعاء، 28 مايو 2025

رواية المنزل: الفصل السادس والأربعون - ءَالَآء طارق

 


رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل السادس والأربعون


فضلاً، متنسوش الvote.

المزيكا انهاردة أغنية مدام تحب بتنكر ليه لأم كلثوم، وألحان القصبجي، كلمات الأغنية شاعري المفضل أحمد رامي.

مدام تحب بتنكر ليه

دا اللى يحب يبان فى عينيه

تصد عنى وتهجرنى واكلمك تهرب منى

وان غبت يوم تسأل عنى

واعرف هواك ساعة لقاك من طول جفاك

واللى يحب يبان فى عينيه مدام تحب بتنكر ليه

***

وجاء شهر رمضان المبارك، حاملاً معه أجواءً روحانيةً دافئةً كما اعتادوا كل عام، لكنه هذه المرة لم يكن كأي عام مضى. كان اليوم الأول مغمورًا بمشاعر مختلطة، إذ تسلل إلى البيت صمت خفيّ يفتقد تلك الابتسامة التي كانت تُضيء المكان، غابت أنيسة، وخلت زوايا البيت من حضورها الحنون الذي كان يمنح الأيام نكهة خاصة. ورغم الغصّة التي سكنت القلوب، مرّ اليوم بهدوء. بدأت الشمس في الانحدار نحو الغروب، وانطلقت رائحة الطعام تداعب الأنوف، حاملة معها ذكريات قديمة دافئة. اجتمع أفراد العائلة حول السفرة الكبيرة في صالة الطعام، وعلى وجوههم علامات التعب بعد يوم طويل من الصيام، ممزوجة بابتسامات بسيطة وامتنان صامت. ورغم الحنين الذي يسكن القلوب، جلسوا متقاربين، يضحكون أحيانًا ويتبادلون النظرات الدافئة.

كانت المائدة عامرة بأصناف شهية، أعدتها ذكية بمساعدة منى: أطباق الأرز المتبّل، الشوربة الساخنة، المحشي، السلطات الطازجة، وقطع السمبوسك، إضافة إلى المشروبات الباردة. وما إلى ذلك.

ساد المكان دفء من نوع آخر، مزيج من الحيوية والنهم، أصوات الملاعق والأطباق تملأ الفضاء، يتبادلون الأحاديث الصغيرة والضحكات الخفيفة، كأنهم يحاولون أن ينسجوا من هذا الجمع ما يُخفف وطأة الغياب.

وحلّت مع أيام رمضان نسمات هدوء جديدة، هدوء لم يكن كالسكون الحزين الذي خيّم على البيت بعد وفاة أنيسة، بل كان أشبه بسكينة نابعة من التصالح مع الغياب، ومحاولة خافتة لإعادة نبض الحياة إلى زوايا المكان. شعر الجميع بحاجة ملحّة لاستعادة الدفء، فصار كل فرد يبذل جهده، ولو بصمت، لإعادة الأجواء الجميلة، واللمسة اللطيفة التي لطالما كانت تسكن البيت.

أما سالي، فقد عادت لاكتشاف تلك العوالم الصغيرة. راحت تفتح نوافذ أرواح الصغار، تشاركهم اهتماماتهم، وتنصت إليهم بشغف، كما لو كانت تبحث في أعماقهم. كانت تؤمن أن لكل واحد منهم بذرة من الجمال، تحتاج فقط إلى رعاية كي تزهر. كانت ترغب، بعناد أن تشغلهم عن الحزن، وتدفعهم نحو النمو والتفتح.

فرح، بصوتها العذب، كانت تغني كل يوم بإشراف سالي، بينما كان رحيم يعزف إلى جوارها. كلاهما كان يملك طاقة فنية هائلة، بحاجة إلى من يمنحها الضوء.

أما حسن، فكان يقترب من موعد بطولة الجمهورية، وكان يتمرن بانتظام رغم التعب. في حين أن أحمد، وعلى الرغم من إصابته وكسوره، كان يكتفي بالمراقبة والتشجيع.

أميرة، تلك الفتاة التي كانت تتقلب بين الخوف والهدوء، كانت حالتها النفسية تشهد تحسنًا طفيفًا، وسالي كانت تمسك بيدها في هذا الطريق الشائك. كانت تشاركها القراءة، وتدفعها للكتابة، وتوجه تركيزها بعيدًا عن الهواجس التي كانت تنخر في عقلها الصغير. وفي المقابل أميرة ساعدت سالي كثيراً في مشكلة الأرق التي تعاني منها. كانت حقاً فتاة عبقرية وصارمة.

عبدالله، ذاك الطفل كان له مكانة خاصة في قلب سالي. رغم ما بينهما من سوء فهم سابق، إلا أنها كانت تعشق الحديث معه، تجد في كلماته بُعدًا نادرًا، يدهشها ويثير فضولها. وليان، الفتاة كثيرة الكلام، كانت تملأ البيت بحكاياتها غير المنتهية، لدرجة تُضحك الجميع وتمنحهم خفة اللحظة.

أما ليلى، فكانت تمسك أقلامها وتلوّن العالم كما تراه. كانت رسامة بارعة، تحمل في يدها موهبة حقيقية، تجعل الألوان تتحدث.

نور، الطفلة التي أبصرت العالم دون عينيها، كانت معلمتها الصامتة. لطالما أبهرت سالي بقدرتها على تمييز المكونات، وتقطيع الطعام ببراعة، مستعينة بحواسها الأخرى بطريقة مذهلة. على الرغم من إعاقتها، كانت نور تتألق في المطبخ، تعلم سالي الوصفات، وتفاجئها كل يوم بمهارات جديدة.

أما "العصابة الصغيرة"، أولئك الأطفال الصغار الذين كانوا يذهبون إلى الحضانة كل صباح، فقد كانوا الأحب إلى قلب سالي. كانت ترى فيهم البراءة الصافية، المبهجة، تلك التي تثير فيها رغبة غريزية في الحماية والرعاية. كانت تحملهم، تقبّل رؤوسهم الصغيرة، تتشاجر معهم أحيانًا ثم تصالحهم سريعًا، كما لو كانت أمًّا لهم دون أن تدرك.

ماريا، الصغيرة المدللة، كانت نجمة المنزل. بدأت تنطق كلمات متناثرة تدهش من حولها. كانت محبوبة الجميع، والكل يتغاضى عن شقاوتها بضحكة دافئة، فهي لا تزال في سن لا يعرف العتاب. وكانت أجمل لحظات سالي هي صباحاتها مع ماريا: تستيقظ باكرًا لتجد الصغيرة مستيقظة، تتناول فطورها بين يدي منى، فتتجه سالي لحملها والخروج معها إلى الحديقة، تلعبان وتغنيان، والطفلة تضحك، برائحتها الطفولية العطرة التي تملأ قلب سالي بنعومة لا تُوصف. كان البيت، رغم الغياب، ينبض مجددًا.. شيئًا فشيئًا، كانت الحياة تعود.

بدأت علاقة منى وسالي تتطور بهدوء. كانت منى، التي تحاول التماسك أمام الجميع، تنهار أحيانًا بين يدي سالي، تبكي بحرقة، تبوح بكل ما عجزت عن قوله أمام ابنها. وحين كانت تشعر أن صمت حسن يقتلها أكثر من أي كلمات، كانت تهرب إلى سالي، وكأنها تضع بين يديها قلبها المحترق، تطلب منها فقط أن تُشعره بوجودها. وسالي، رغم أنها لم تكن تود التدخل الآن في العلاقة المعقدة بين الأم وابنها، إلا أن وعدها لها بإصلاح الأمر جعلها تشعر أن عليها تحاول. لم يعد بإمكانها الوقوف متفرجة على هذا الجرح المفتوح ينزف بصمت. كانت ترى في عيني منى قهرًا لا تستطيع احتماله، وشيئًا من الذل الصامت، لأن الفتى الذي أنجبته يتعامل معها كأنها غريبة عنه.

وفي أحد تلك الأمسيات، بينما كان النسيم يمرّ بلطف فوق سطح المنزل، وجدت سالي نفسها تجلس إلى جوار حسن، الذي بدا شارداً كعادته، ينظر إلى الأفق وكأن فيه شيئًا ينتظره. قطع الصمت بصوته الخافت:

"هل تعرفين لماذا تركتني؟"

رفعت سالي نظرها إليه بهدوء، وأجابت بلطف:

"لقد حكت لي والدتك قصتها، وأعرف ظروف ولادتك.. لكن يا حسن، لا يكفي أن تسمع القصة من أحد، يجب أن تسمعها منها.. أن ترى عذابها وهي تحكيها بعينين دامعتين، ستشعر بشيء مختلف، شيء أقرب للتعاطف."

أدار وجهه بعيدًا عنها، احتضن ركبتيه وسند ذقنه عليهما، وقال بصوت خافت مشوب بالقلق:

"ما تقولينه.. يثير الخوف داخلي."

نظرت إليه سالي بتمعن وسألته برقة:

"الخوف من ماذا؟"

أجاب بعد لحظة صمت:

"من الحقيقة.. أخاف أن أعرف شيئًا.. لا يجب أن أعرفه، شيء يهزّني من الداخل."

اقتربت منه أكثر، وأردفت بصوت هادئ لكنه حازم:

"حسن، اسمعني جيدًا.. الحقيقة، حتى لو كانت موجعة، ستمنحك وضوحًا.. ستجعلك تلمس الألم بيدك وتفهمه، لا تهرب منه. قد تصدمك في البداية، نعم، لكن بعدها؟ بعدها قد تكون الخطوة الأولى نحو شفاء هذه العلاقة الممزقة. وهذا هو الهدف"

تنهّدت، ثم أردفت بصوت مشبع بالرجاء:

"ماذا لو أعطيت منى فرصة؟ لا لتكون أمًّا كما ينبغي — أعلم أن هذا كثير الآن — ولكن لتكون على الأقل إنسانة قريبة، صديقة، شخص يمكنك أن تتحدث معه مثلما تفعل الآن معي، شخص يمكنك أن تلقي عليه همومك دون خوف أو خجل. صدقني، هي أكثر من يستحق تلك الثقة."

سكت حسن قليلاً، ثم سأل بصوت مبحوح:

"كيف؟"

ابتسمت سالي بخفة وقالت:

"ابدأ بعدم تجاهلها. افتح الباب قليلاً.. فقط قليلاً. لا تحتاج أن تعانقها أو تتحدث كثيرًا، فقط.. اسمعها. حتى دون تعليق. مجرد أن تسمع، ستكون تلك هي الخطوة الأولى. العلاقات لا تتغير دفعة واحدة، بل تمشي خطوة.. خطوة."

ظل حسن صامتًا للحظات، وعيناه معلّقتان بالسماء، بينما كانت سالي تراقبه بصمت.

ولم تكن تلك التفاصيل اليومية تخفى عن خالد، فقد حرصت سالي أن تُشاركه كل صغيرة وكبيرة، تصارحه بخطواتها، أرادت أن تكون الصورة بينهما واضحة وصادقة، بلا غموض أو التباسات. في البداية، انتاب خالد شعور بالرغبة في التدخل شخصيًا لإصلاح العلاقة المتوترة بين منى وابنها، لكن العلاقة بينه وبين منى نفسها لم تكن على ما يرام مؤخرًا؛ مشحونة باتهامات وسوء تفاهم لم يُحلّ بعد. ولهذا، حين اقترحت سالي أن تكون هي الوسيطة، تجنّبًا لأي توترات إضافية، وافق خالد بصدر رحب، وإن بقيت في داخله مشاعر لم تفهمها سالي تمامًا بعد.

في تلك الليلة، بعد الإفطار، كان خالد جالسًا في شقته، على مكتبه الخشبي الأنيق الذي وضع بجانب نافذة تطل على الحديقة. كان الجو هادئًا، تتخلله أصوات خافتة من طيور تستعد للنوم، ومعها وقع خفيف لأوراق الشجر تتحرك مع نسمات المساء. أمامه كوب شاي ساخن يعلوه بخار خفيف، وقد كان يتأمل شاشة حاسوبه دون تركيز. وفجأة، ارتفعت نغمة هاتفه بإشعارٍ جديد. فتح الهاتف ليجد رسالة منها:

"مستر خالد، أريد الحديث معك قليلاً، أنا في الحديقة."

توقف للحظة، ثم نهض على الفور، ودفع الستارة جانبًا ليفتح نافذته. هناك، رآها تتمشى بهدوء بين أزهار الحديقة، تمسك بهاتفها، تتفقده بين لحظة وأخرى، كأنها تنتظر أن يصلها شيء. ابتسم خالد بخفة، بحنو لم يدركه حتى هو، ثم كتب لها ردًا سريعًا:

"أعطني 5 دقائق."

وما إن قرأت الرسالة حتى تبدل سكون جسدها، كأن الحركة دبت فيه فجأة، فابتسمت ووقفت تترقب. لاحظ ذلك، وابتسم بدوره، ثم استدار نحو مكتبه، وسحب الدرج ببطء.

داخل الدرج، كانت هناك علبة صغيرة من القطيفة الداكنة، فتحها بهدوء ليجد فيها الخاتم الذي أهدته له أنيسة في وقتٍ مضى. أمسك بالعلبة الصغيرة ووقف قرب النافذة، ينظر إلى الخاتم بتردد، ثم يرفع عينيه نحو سالي التي تنتظره بالخارج.

كانت لحظة ثقيلة.  كان يشعر برغبة جارفة أن يُقدم خطوة جديدة نحو هذه الشابة التي دخلت حياته بعفوية، وبلطف، لكنها تركت أثرًا كبيرًا. ومع ذلك، لم يكن هذا هو الوقت المناسب. هناك أمور كثيرة ما زالت عالقة، أوراق لم تُطوَ بعد. أهمها ميراث أنيسة. فقد كان عليه أن يحسم مصير المنزل، الذي كان شريكًا في ملكيته مع أنيسة، وأن يتعامل مع الإرث الذي حصلت عليه من عم أسعد — المال، الأملاك، المسؤوليات. لم يكن الأمر ماديًا بقدر ما كان أخلاقيًا. أراد أن يكون نقيًا، عندما يفتح قلبه تمامًا لسالي. أراد أن يدخل على حبٍّ جديد دون ثقل الماضي على كتفيه. تنهد وهو يغلق العلبة برفق، ثم دسّها في جيبه، وخرج من الغرفة متجهًا إلى الحديقة، حيث تنتظره من تحمل له شيئًا من الدفء.

كان الليل قد بدأ يلف الحديقة بسكينته، تتناثر أضواء خافتة من فوانيس رمضان المعلقة بين الأشجار، تتمايل على نسمات المساء اللطيفة، بينما جلس خالد وسالي على المقعد الخشبي قرب الزهور، يلفهما صمت مريح بعد يوم طويل.

قطع خالد هدوء اللحظة بنبرة مترددة:

"إذاً.. هل تعتقدين أن العلاقة بينهما ستتحسن؟"

أخذت سالي نفسًا عميقًا وهي تُشيح بنظرها نحو السماء، وكأنها تبحث عن إجابة فيها. ثم قالت بصوت هادئ:

"أنا أحاول، بكل ما أستطيع."

التفت خالد ببطء إلى الأمام، لم تكن نظرته ثابتة، بل شاردة كأنها تحفر في أعماقه، وكان القلق واضحًا في ملامحه. لاحظت سالي ذلك، فمالت نحوه قليلًا وسألته برقة:

"ما الذي يقلقك؟"

ظل صامتًا للحظة، ثم أجاب بنبرة خافتة امتزجت فيها الحيرة بالعزم:

"أشعر بأن هذا واجبي.. أريد أن أكون جزءًا من ذلك."

تغيرت تعابير سالي، وظهر على وجهها توتر خفيف، فأخفضت عينيها وقالت بصوت متردد:

"إذاً.. سأبتعد أنا. أترك لك المجال إن أردت.."

رفع خالد رأسه فجأة نحوها، وقال بسرعة:

"لا، لا.. لا تتخيلي أنني أكره تدخلك في هذه الأمور، بالعكس تمامًا.. وجودك يشعرني أنني لست وحدي في هذا المركب. أنا فقط..."

تردد قليلًا، ثم نظر في عينيها وأكمل:

"أشعر بالغيرة، والمسؤولية في آنٍ واحد. هذا واجبي أنا، كما أنني أخشى أن أكون قد ورطتك في مشاكل لا تخصك."

ابتسمت سالي بخفة، ومالت برأسها إلى الجانب وهي ترد عليه:

"لا تقلق، أنا أحب التعامل مع الأطفال ومشاكلهم. هذا شيء أجد نفسي فيه. لكن.. لو أردت أن أفسح لك المجال، إن شعرت أن وجودي يُزعجك، فأنت من يقرر."

نظر إليها مطولًا، وكأن كلماته التالية تائهة بين شفتيه، ثم قال بهدوء:

"وجودك.. لا يزعجني أبدًا. فقط.. يجعلني أسعى لأكون أفضل."

تأملته سالي بصمت، ثم ابتسمت بخفة وقالت بنبرة دافئة:

"في النهاية أنت الأفضل بالنسبة لهم، وجودك وحده كافٍ ليشعر الجميع بالأمان".

شعر خالد بكلماتها تسري إلى داخله كنسمة ناعمة، فنظر إليها مطولًا دون أن ينطق، كأن الصمت أبلغ من أي كلام. همس بعدها، وصوته يحمل وجعًا قديمًا:

"منذ رحلت ماما.. وأنا أحاول أن أكون كل شيء للجميع. الأب، والأخ، والداعم، والسند.. لكن المسؤولية ثقيلة.. أكبر مني أحيانًا."

هزّت سالي رأسها بتفهّم، وعيناها تلمعان بالتعاطف، ثم قالت برقة:

"لست خارقًا، ولا أحد يتوقع منك أن تكون كذلك. لا بأس من قبول بعض المساعدة.. فتحمل المسؤولية لا تتطلب أن تكون وحدك."

قالت عبارتها الأخيرة بتشجيع صادق، فيه دفء. وابتسمت بعدها ابتسامة صغيرة، خجولة بعض الشيء، لكن صادقة. وعاد الصمت بينهما، لكن هذه المرة لم يكن صمتًا محرجًا، بل كان مليئًا بالمعاني التي لم تُقال بعد، والقلوب التي بدأت تقترب، رويدًا.. وبصدق.

قطعت سالي الصمت بنبرة مفعمة بالحماس والتفاؤل:

"الأطفال حقًا رائعون.. أنت تمتلك في منزلك كنوزًا عظيمة."

رفع حاجبيه باستغراب، ونظر إليها باهتمام:

"كنوز؟ ماذا تقصدين؟"

ابتسمت سالي ابتسامة واسعة، وعيناها تلتمعان بالحماس:

"هؤلاء الأطفال، كل واحد فيهم يحمل بداخله موهبة مدهشة، شيء فريد.. لو أوليتهم الاهتمام الكافي، يمكن أن تصنع منهم أشخاصًا مذهلين. فقط يحتاجون من يراهم بصدق."

مال خالد بجسده نحوها قليلًا، وقد اشتعل فضوله:

"أرجوك.. احكي لي. أريد أن أفهم ما تقصدين."

أخذت نفسًا عميقًا وبدأت تشرح له كيف يحمل هؤلاء الصغار عوالماً كبيرة داخلهم. صمتت لحظة، ثم تابعت بنبرة أكثر رقة:

"أؤمن أن مراقبة الأطفال عن قرب، والاستماع إليهم، يمكن أن يفتح لنا أبوابًا لعوالم لا نهائية. كل طفل مشروع لإنسان عظيم.. إذا وجد من يؤمن به."

ابتسم خالد بخفة وقال:

"ألا تظنين أنك تبالغين قليلًا؟"

هزت رأسها بثقة وابتسامتها لا تفارق وجهها:

"على الإطلاق. الأطفال يولدون وفي داخلهم كنوز، لكن الأمر كله يتوقف على الأهل.. إما أن يكتشفوا هذه الكنوز ويصقلوها، أو أن يتركوها تُهمل وتضيع."

تسللت ذكرى أنيسة إلى ذهن خالد فجأة، تلك المرأة التي آمنت به ودعمته بكل ما أوتيت من حب وقوة، حتى صار الرجل الذي هو عليه اليوم.. مهندسًا ناجحًا يترك أثره في أعماله. شعر بغصة خفيفة وامتنان عميق، ثم أومأ برأسه ببطء وقال بصوت مفعم بالاقتناع:

"نعم.. أنتِ على حق."

ابتسمت سالي برقة، ثم تابعت، وكأن شيئًا ما انفتح داخلها فجأة:

"أتعلّم؟ التربية لا تعني فقط أن نُعلّم الطفل الفرق بين الصواب والخطأ.. بل أن نضعه وجهًا لوجه مع نفسه. أن نمنحه الأدوات، نرشده، نُخبره بما نعرف، نشاركه تجاربنا، وننصحه.. لكن الأهم أن نترك له مساحة لاكتشاف ذاته بنفسه، أن نساعده ليعرف من هو، وماذا يريد، ثم نتركه يختار، لا أن نفرض عليه الطريق."

توقفت لحظة، ثم أكملت بصوت أكثر دفئًا:

"وعندما يختار بنفسه.. يتعلم أن يتحمل نتائج قراراته، بوعي وحرية. وهنا، تبدأ المسؤولية الحقيقية. هكذا ينضج الطفل"

كانت كلمات سالي تنبع من أعماقها، بحرية لم تعهدها من قبل. لم يكن هناك خوف من حُكم، ولا شعور بالقيد. فقط إنسان يُصغي لها بصدق، وهذا وحده كان كافيًا لتشعر بأنها مرئية.. مسموعة.

وكان خالد ينصت إليها بكل جوارحه، كما لو أن كل حرف تنطقه يأسر انتباهه ويوقظ في داخله شيئًا دفينًا. لم يكن فقط مُعجبًا بأفكارها المتزنة، لا سيما حين تتحدث عن الأطفال، بل كان مأخوذًا بذلك الاتزان الذي يتقاطع مع دفء إنسانيتها. وهذا بالتحديد ما شدّه إليها أكثر من أي شيء.. ذلك المزيج النادر من العقل والقلب.

كل كلمة، كل إيماءة، كل لمحة على وجهها، كانت تؤكد له أنها ليست فقط امرأة مميزة، بل هي المرأة المناسبة.. الأنثى التي اختارها قلبه وعقله معًا، دون صراع بين الطرفين.

ومع هذا اليقين، كان الخوف يزحف إلى قلبه كظل ثقيل.. خوف من أن يُحمّلها أعباءه ومسؤولياته، أن تُصبح جزءًا من معاركه اليومية، من التزاماته الثقيلة. لكنه كان يخشى أكثر فكرة غيابها.. أن تختفي من حياته كما تختفي الأشياء الثمينة حين لا يُمسك بها جيدًا.

كان مجرد تخيل الحياة بدونها كافيًا لأن يزرع في صدره حزنًا مبهمًا، وخوفًا غير مألوف.. خوف لا يُشبه خوفه من الفقد العادي، بل كان أشبه بالرعب من أن يفقد شيئًا لم يعثر عليه إلا بعد طول انتظار.

 خوف لا يُشبه خوفه من الفقد العادي، بل كان أشبه بالرعب من أن يفقد شيئًا لم يعثر عليه إلا بعد طول انتظار

***


كانت أوقات السحور في ذلك المنزل تحمل شيئًا من الفوضى المحببة؛ الأولاد الكبار يستيقظون بتثاقل وعيون نصف مغمضة، والصغار يُفاجأون بالأصوات والضوء، فيتسللون من أسرّتهم، لتمتلئ أرجاء البيت بالضحكات والمشاكسات الخافتة. كان مشهدًا يتكرر كل ليلة، قبل أذان الفجر، ولكنه لم يفقد جماله أبدًا بالنسبة لسالي.

كانت تلك اللحظات من أحب الأوقات إلى قلبها؛ تسير بينهم بخفة وهي تتفقد الطعام، تطمئن أن كلاً منهم قد أكل ما يكفي ليصمد خلال ساعات الصيام الطويلة. لم تكن تقبل أعذارًا من أحد، وتستعين بمنى وذكية لإقناع المتكاسلين، بل وإجبارهم أحيانًا على تناول الطعام، بابتسامات ناعمة ولكن حاسمة. وبعد أن يرفع الأذان، يعود الأطفال إلى أسرّتهم ليناموا بضع ساعات قبل أن يستيقظوا مجددًا للمدرسة.

وفي صباح أحد أيام الجمعة، اقترحت ذكية أن يعيدوا تقليدًا قديمًا افتقدوه جميعًا؛ نشاطات الحديقة التي كانت تُقام قبل مرض أنيسة. تلك الفكرة أثارت فيهم الحنين، فبدأ الجميع في التحضير بحماس. نُصبت أدوات الشواء، وتجهزت اللحوم، وبدأت الروائح تملأ المكان، فيما الأطفال يركضون ويمرحون في أرجاء الحديقة.

جلست ماريا على ساقي خالد، تلهو بهاتفه، وقد فتحت إحدى أغاني الأطفال التي تردد صوتها العالي في الجو، فصارت تدندن معها بنغمتها الطفولية. لم يرد خالد أن يزعجها، لكنه تلقى اتصالاً مفاجئًا، فمال نحوها قائلاً بلطف:

"ماريا، حبيبتي.. أعطني الهاتف للحظات فقط."

لكن الطفلة تمسكت به أكثر، وعقدت حاجبيها بجدية طفولية. اضطر خالد لاستخدام القليل من القوة وانتزع الهاتف منها، فما كان منها إلا أن أطلقت صرخة عالية، ثم بدأت تبكي بحرقة، رافضة النظر إليه.

أسرع خالد بالرد على المكالمة، وما إن أنهى، حتى أعاد لها الهاتف معتذرًا، لكنها رمته أرضًا بحدة، بعينين ممتلئتين بالغضب والدموع. تجمد خالد للحظة، مذهولًا من ردة فعلها العنيفة، ثم حملها بين ذراعيه محاولًا تهدئتها، لكن ماريا بدت كأنها فقدت وهجها المعتاد. ومع مرور الوقت، تدهور مزاج الطفلة، ورفضت الطعام رغم محاولات ذكية الحنونة لإطعامها. بدا عليها الإرهاق، وبدأت تتنفس بصعوبة مع اقتراب المغرب. وبعد الإفطار، بلغت حالتها ذروتها.

ركضت منى نحو سالي وهي تحتضن ماريا بين ذراعيها، ووجهها شاحب، تصرخ بصوت مرتجف:

"دكتورة! ماريا لا تستطيع التنفس!"

تجمدت ملامح سالي للحظة، لكنها سرعان ما تماسكت. أخذت الطفلة من بين يدي منى، وقلبها ينبض بسرعة، وهرعت بها نحو العيادة الصغيرة. حيث كان هناك جهاز جلسات تنفس للأطفال لحالات الطوارئ.

وضعت الطفلة الصغيرة على الجهاز، وبدأت تُراقب أنفاسها المتقطعة بعين القلق، فيما تحاول في ذات الوقت أن تسأل وتفهم. التفتت إلى منى وذكية بنظرات حادة:

"أخبراني بسرعة، ماذا أكلت ماريا اليوم؟ هل تناولت شيئًا جديدًا؟ حلوى؟ عصير؟"

هزّت منى رأسها بحيرة، وبدأت تراجع اليوم في عقلها، بينما كانت ذكية تشعر بتأنيب الضمير وهي تقول:

"لا شيء غريب.. أكلت معنا نفس الطعام، بل القليل جداً، وشربت الحليب كالعادة."

لاحظت سالي أن جلد ماريا بدأ يميل إلى الاحمرار، وبقع صغيرة ظهرت على جسدها. كانت تحاول حكّ جسدها بضعف، ودموعها تختلط باللهاث.

أخفضت سالي رأسها نحو الطفلة، تمسح على جبينها بحنان، وعقلها الطبي يبحث بسرعة عن تفسير. ثم رفعت عينيها وقالت بهدوء مشوب بالحذر:

"هذه نوبة تحسس."

سألت منى بقلق:

"تحسس؟ من ماذا؟"

أجابت سالي:

"أرجّح أنها ربما تكون حساسية تجاه نوع من أنواع الطعام التي تناولتها، ربما من الألبان، هذا أكثر ما تتناوله ماريا"

تحركت بسرعة نحو خزانة الأدوية بحثًا عن حقنة الطوارئ المضادة للتحسس، لكنّها لم تجدها، فتملّكها شعور بالذنب لعدم تجهيزها المسبق للعيادة بما يكفي. التفتت إلى ذكية وقالت باستعجال:

"من فضلك، أخبري مستر خالد أن يأتي فورًا. يجب أن ننقل ماريا إلى المستشفى حالًا."

قالت منى بدهشة:

"لكنها تشرب الحليب منذ شهور، ولم يظهر عليها شيء!"

أجابت سالي بثبات:

"ليس من الضروري أن تظهر الحساسية في الأشهر الأولى. في بعض الحالات، يتأخر الجهاز المناعي في التفاعل، وقد لا تظهر الأعراض إلا لاحقًا، حسب كمية البروتين وتكرار التعرض له."

كانت تمسح على رأس ماريا برفق وهي تضيف:

"لست واثقة بعد، لكنه تخمين مبدئي. نحن بحاجة لتحاليل دقيقة لتأكيد التشخيص. الأفضل أن تُنقل إلى المستشفى فورًا."

لم تمضِ دقائق حتى دخل خالد الغرفة بلهفة واضحة:

"ماذا يحدث؟"

شرحت له سالي الموقف بسرعة ودقة، فاقترب خالد من ماريا، حملها بين ذراعيه، وانطلقوا بها على الفور نحو المستشفى.

في المستشفى، تبيَّن أن تخمين سالي كان في محلّه. فقد تعاملت سابقًا مع حالات مماثلة في قسم الطوارئ، واكتسبت خبرة جعلتها تميّز الأعراض بسرعة.

أكد الأطباء بعد الفحص والتحاليل أن ماريا تعاني من حساسية تجاه بروتين الحليب، وهو ما يفسّر ما تعرّضت له من ضيق في التنفّس وتهيج في الجلد. وبقيت ماريا متصلة بجهاز التنفّس  تتنفس بصعوبة، وعيناها الصغيرتان مليئتان بالرجاء والخوف.

جلست سالي على المقعد بجوار سرير ماريا في المستشفى، تتأمل وجهها الصغير الذي بدأ يستعيد شيئًا من لونه الطبيعي. كانت الطفلة قد هدأت قليلًا، والتنفس عاد إلى صدرها بنغمة أكثر انتظامًا، لكن القلق لم يغادر عيني خالد، الذي وقف مستندًا إلى الجدار، مطويّ الذراعين. اقترب منها وسأل بصوت منخفض، كأنّه يخشى أن يوقظ الطفلة النائمة:

"دكتورة.. هل تدوم حساسية الألبان؟"

رفعت بصرها إليه، وابتسامة هادئة ترتسم على ملامحها المتعبة:

"غالبًا لا.. كثير من الأطفال يتعافون منها في سن مبكرة، وهناك أمل كبير أن تختفي مع الوقت."

أومأ رأسه ببطء، ثم جلس إلى جوارها، يحدّق في ماريا، ثم سأل مرة أخرى:

"ومتى نعيد إدخال الألبان إلى طعامها؟ هل بعد أن تتحسن؟"

هزّت سالي رأسها بحزم، وصوتها يحمل نبرة من الرقة:

"ليس الآن. يجب أن نجري اختبار يتم داخل المستشفى وتحت إشراف كامل. أي خطأ بسيط قد يعيدها إلى هذه الحالة."

ظلّ صامتًا للحظات، ثم سأل بسكون يُخفي عاصفة داخلية:

"وماذا لو استمرت معها هذه الحساسية؟ ماذا لو لم تختفِ؟"

أجابت سالي بنبرة دافئة، كأنها تحاول أن تمسح عن قلبه القلق:

"سنستمر في منعها.. لكن سنعوضها ببدائل غذائية آمنة. هناك حليب خالٍ من البروتين الحيواني، ومصادر أخرى للكالسيوم والعناصر الضرورية. هي فقط تحتاج منا أن ننتبه لما تتناوله."

كان خوف خالد على ماريا خوفاً حقيقياً، تجلى ذلك في الذعر الذي ارتسم على وجهه حين رآها تختنق، وفي القلق الذي لم يفارقه حتى بعد أن اطمأن الأطباء إلى حالتها. لم تكن نظراته عابرة، بل كانت ممتلئة بذلك الوجع الصامت الذي لا يحتاج إلى كلمات. لم يكن أبًا بالدم، لكنه كان أبًا بالروح، بالموقف، بالعينين اللتين لا تفارقان الصغيرة.

أكدت سالي لنفسها، هؤلاء الأطفال محظوظون، ليس لأنهم يعيشون في بيت دافئ فقط، بل لأنهم بين بالغين لا يخذلون، بالغين يُسارعون للوقوف في وجه الخطر، ويحملون عنهم الخوف والتعب. بيتٌ لا يخلو من الاضطراب، لكنّ فيه قلوبًا تعرف معنى المسؤولية، تعرف كيف تُحب.

في النهاية، مُنعت ماريا من تناول معظم الطعام الذي قد يُهيّج لها الحساسية، وبدأت سالي تضع قائمة دقيقة بالأطعمة المسموح بها، والأخرى التي ينبغي الابتعاد عنها. كانت تراجع كل وجبة تمر على الطفلة، تراقب مكوّناتها، وتحلل كل تفصيلة صغيرة، حتى لا تُكرر المأساة.

وكان مزاج الطفلة التي حُرمت من الكثير من أصناف الطعام، هائجًا متذمّرًا طوال الوقت، لا سيما في الأيام التي تلت الحادث مباشرة. كانت تبكي حين تُمنع من تناول ما تحبه، أو ترفض تناول البدائل حتى وهي جائعة. لم يكن من السهل على طفلة في هذا العمر أن تفهم لماذا يُؤخذ منها ما تُحب وتعودت عليه.

لكنّ الجميع كان يتألّم من أجلها، حتى خالد، كان الأسى يرتسم على وجهه كلما رآها تمدّ يدها الصغيرة، بطمعٍ بريء، نحو طبق ممنوع.

كان المشهد يتكرر يوميًا: الطفلة تنظر بعينين واسعتين، متوسلتين، إلى صنفٍ يتناوله الجميع، وهي ممنوعة منه. ومنى تمسك يدها سريعًا، وتقول بحزم خافت:

"ماريا، هذا ليس لكِ يا حبيبتي."

وتسحب يد ماريا، التي يتقلب وجهها بين الغضب والحزن والدموع.

***


كان قد مضى أكثر من اثني عشر يومًا من رمضان، وبدأت سالي تستعد لتجهيز حقائبها لقضاء ما تبقى من الشهر مع أسرتها. كانت مشتتة بين طرفين: طرف على الهاتف، متحمّس لعودتها، وطرف أمامها مباشرة، حزين لرحيلها المؤقت، يتوسل إليها أن تبقى قليلًا بعد.

لكن كان عليها أن ترى والدتها وشقيقتها. كيف لها أن تتركهما كل هذه المدة؟ لم ترَهما كثيرًا في الفترة الماضية بسبب ظروف أنيسة، وكان الشوق قد أخذ منها مأخذًا، فقررت أن تدوس على قلبها وتُنفذ قرارها.

ذلك اليوم الذي سبق سفرها تحوّل إلى ما يشبه حفل وداع بسيط لسفرٍ مؤقت. لم ينم أحد في تلك الليلة. حتى خالد، ترك وراءه كل مسؤولياته ليكون معهم جميعًا.

شعر أنه بدأ يعتاد هذا الدفء، دفء الأطفال. في السابق، كان يقحم نفسه في العمل ويترك أمرهم لأنيسة، أما الآن، فقد صار حريصًا على تخصيص وقتٍ لهم، ولو ساعة كل يوم. كان يُراقبهم واحدًا تلو الآخر، يُحادثهم، ويُمارس دوره في هذا البيت. وربما ما شجعه أكثر هو وجود من يحب بينهم.. كان ذلك يملأه بدفءٍ من نوعٍ آخر، دفءٍ لذيذ وجميل.

في تلك الليلة، كانت سالي تمسك بالجيتار الخاص بها، تدرب فرح على واحدة من الأغاني الجميلة التي علمتها لها مؤخرًا: "مدام بتحب.. بتنكر ليه؟"

كان صوت فرح قد تحسّن بمرور الوقت، وأصبحت أكثر تحكمًا فيه، تعرف متى ترفعه ومتى تخفضه ليخرج بأجمل صورة ممكنة. وفي الحقيقة، كان صوت فرح يشجع سالي على بذل كل جهدها لأجلها. تلك الفتاة تحمل في حنجرتها شيئًا نادرًا... صوت جبار، فيه نبرة خاصة.

سالي كانت تعزف، وفي قلبها شعور بالحضور.. حضوره هو. كانت تعزف وهي تشعر بعينيه تراقبانها. وكانت، دون أن تقصد، ترسل رسالة خفية من بين نغماتها، ومن بين كلمات فرح. رسالة لا تُقال.. فقط تُعزف وتُسمع. أليس من المفترض أن يخبر الحبيب حبيبه بحبه؟ كانت تعرف أن بينهما أمرًا لا يمكن إنكاره أو التغاضي عنه.. لكن، إلى متى؟ إلى متى ستنتظر أمرًا يتوق إليه قلبها وبشدة؟ كان الأمر يذيب القلب ويؤلمه في الوقت ذاته.

كلما اقترب منها شعرت بالبعد يزداد، وكلما تحدث إليها، صمت عن أهم ما في قلبه. كان حضوره يملأ المكان، لكنها كانت تحتاج أكثر من الحضور. تحتاج كلمة، نظرة، أي شيء يقول لها: "أنا أراك.. كما تريني."

وفي لحظة صمت، بينما كانت أناملها تعزف آخر نغمة، رفعت عينيها نحوه بخفة.. نظرة خاطفة، لكنها ممتلئة بكل ما لا يُقال. ربما لم يكن الوقت مناسبًا، وربما لن يكون أبدًا. لكن قلبها كان هناك، كان هناك دائماً.. ينتظره بتوق.

لو كنت عايز تراضينى وتصالح النوم على عينى

كنت اشتكيلك تواسينى

وتشوف عنيا راضيه الاسيه تعطف عليا

واللى يحب يبان فى عنيه مدام تحب بتنكر ليه

لكن فؤادك يهوانى واعرف هواك من وجدانى

هو انت تقدر تسلانى

وانا بين يديك اشكى اليك واشوف عينيك

واللى يحب يبان فى عينيه مدام تحب بتنكر ليه

***


وقفت سالي أمام باب المنزل، كانت الوجوه الصغيرة ملتفة حولها، والدموع تلمع في عيونهم، لكنها سرعان ما انهارت على وجناتهم بحرقة لا تخفى. تقدمت سالي لتحتضنهم واحدًا تلو الآخر، تشدهم إلى صدرها حتى موعد اللقاء القادم. قالت بلطف وهي تمسح دموع أميرة بأطراف أصابعها:

"أعدكم أن نلتقي قريبًا... لن أتأخر."

رفعت أميرة وجهها نحوها، وعيناها غارقتان في الدموع، وهمست بحزن:

"ألن تقضي العيد معنا؟"

ابتسمت سالي برقة، تحاول أن تخفي غصة صوتها، وقالت:

"سأحاول يا أميرة أن أعود قبل أن ينتهي العيد.. إن شاء الله."

تقدمت فرح خطوة نحوها، وعيناها تفيض بالرجاء، أمسكت ثوبها وقالت بتوسل:

"أرجوكِ، لا تتأخري علينا يا سالي.."

أحنت سالي رأسها نحوها وقبلت وجنتها في حنان، ثم سمعت صوت خطوات حذرة تقترب منها، لترى أحمد، الذي بدأ مؤخرًا يقف على قدميه من جديد، يتقدم نحوها ببعض البطء، وعيناه تراقبانها بثقة وحزن. قال الفتى بصوت هادئ يحمل من القوة بقدر ما يحمل من الضعف:

"اعتني بنفسك..".

مدّت سالي يدها بلطف، وربّتت على كتفه في حنان:

"سأفعل يا أحمد.. وأنتَ أيضًا."

وقبل أن تتحرك خطوة، رفع عبدالله قطته الصغيرة "نونو" بين ذراعيه وقال بصوت بريء:

"نوّ نوّ ستشتاق إليكِ كثيرًا."

ضحكت سالي في دفء، واقتربت منه:

"وأنا أيضًا سأشتاق إلى نوّ نوّ.. وإلى صاحبها."

ثم شعرت بيد صغيرة تمسك بطرف تنورتها، فنظرت لتجد لارا، ذات الخمس سنوات، تحدّق فيها بعينين دامعتين وسؤال خافت:

"إلى أين ستذهبين؟"

انحنت سالي إلى مستواها وربتت على كتفها الصغير وهمست بلطف:

"سأذهب لأزور ماما وأختي، وسأعود بسرعة."

ثم جاءها صوت سارا، مليئًا بالقلق الطفولي:

"هل ستتأخرين؟"

هزّت سالي رأسها مطمئنة:

"لا يا حبيبتي، لن أتأخر."

نظرت سالي حولها، فرأت الحزن يلوح في وجوه رحيم ونور وليان وأميرة، فتقدّمت نحوهم واحدًا تلو الآخر، تهمس بكلمات وداع دافئة. ثم رفعت بصرها لترى منى واقفة خلف الأطفال، صامتة، تتأمل المشهد بعينين تفيض بالصدق. اقتربت منها منى بهدوء، وقالت بصوت خافت لكنه واضح:

"اعتني بنفسك.. وعودي مرةً أخرى."

ابتسمت سالي ابتسامة ممتنة، وأومأت برأسها:

"بالتأكيد."

ثم التفتت إليهم جميعًا، نظرت إليهم نظرة أخيرة قبل المغادرة، نظرة تجمع بين الفخر والحزن، بين الحنان والاشتياق، بينما كان خالد يفتح الباب خلفها ببطء.

وفي المحطة، ودّعت سالي حسن وهي تمازحه. ووقف خالد إلى جواره، يتأملها بعينين ساكنتين، ثم قال بصوت هادئ:

"اعتني بنفسك.. وبلغي تحياتي لوالدتكِ وأختكِ."

أومأت برأسها وأجابت بصوت خافت:

"سأفعل."

مدّت يدها نحوه وقالت:

"أراك قريبًا، مستر خالد.. انتبه على الأولاد."

ابتسم وأجاب بهدوء:

"بالتأكيد.. رافقتكِ السلامة."

ظلت يدهما متشابكة للحظات، كأنّ الزمن توقف بينهما، يتبادل فيها الصمتُ ما تعجز عنه الكلمات. كان في نظراتها رجاءٌ صامتة تقابلها نظرات هادئة واثقة.

ثم، وبشيء من التردد، سحبت سالي يدها ببطء، رفعت عينيها نحوه وابتسمت ابتسامة تخفي وراءها ألف شعور. استدارت بعدها، تسير بخطى ثابتة نحو الحافلة، تحمل في قلبها دفءَ الوداع وحنينًا صامتًا للقاء قادم.

***

في خضمّ تلك الأجواء، تسللت فكرة قديمة إلى ذهن سالي، فكرة كانت غائبة تمامًا عن وعيها في الفترة الأخيرة.. بيسان. تلك الفتاة التي كانت تراسلها من غزّة، صاحبة الكلمات العذبة والروح القوية. لم تتلقّ سالي منها أي رسالة منذ شهور، وربما كانت الرسائل قد توقفت تمامًا، أو تاهت في زحمة الأحداث. وهي بدورها، غابت طويلاً، انشغلت بأنيسة ومرضها، ثم رحيلها.. فلم يعد للحديث وقت. شعرت سالي بوخز في وجدانها، كأنها خذلت بيسان دون قصد، في وقت قد تكون فيه الفتاة بأمسّ الحاجة لصوت قريب، لصديقة من بعيد تواسيها.

[رسالة صادرة بتاريخ: ؟؟/؟؟/؟؟؟؟]

المرسل: سالي

عزيزتي بيسان، أعتذر عن غيابي الطويل، وعن صمتي الذي طال أكثر مما ينبغي..

لم أتعمّد الغياب، ولكن الحياة اجتاحتني بأحداثها الثقيلة، وظروفها التي لم تترك لي متسعًا حتى للكتابة.

مررتُ بأوقات صعبة، فقدت فيها نفساً قريبة إلى قلبي.. وربما لهذا السبب تاهت كلماتي، وانقطعت رسائلي.

لكني اليوم أكتب، وأنا أسألك بقلب متخوف، كيف حالك؟ كيف تمضين أيامك؟ وهل أنتِ بخير؟

أرجوكِ.. إن وصلت رسالتي، اكتبي لي، ولو بكلمة واحدة. أريد فقط أن أطمئن.

مع خالص الاحترام والمحبّة،

سالي

نهاية الفصل السادس والأربعون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادمبإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

شكراً على صبركم

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصلتوقاعتكم للأحداث الجاية؟

***

اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.