رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الخامس والثلاثون
"حكاية أنيسة" الجزء الخامس والأخير.
"حكاية أنيسة" الجزء الخامس والأخير.
كان عمري 29 عامًا عندما توفي كمال، وفي تلك اللحظة، اتخذت قرارًا حاسمًا لا رجعة فيه: لن أتزوج أبدًا، حتى مع الضغط المستمر من عائلتي وأقاربي. كنت على يقين تام أنني لن أجد السعادة التي كنت أتمناها مع رجل غيره. لقد رحل، وأخذ معه تلك العهود التي كانت تخصه وحده، ولم تكن أبداً لعقل أو قلب آخر. وأي رجل آخر سيأتي إلى حياتي، سيكون ظلمًا له ولنفسي.
حاولت كثيراً أن أحقق وصية كمال بمصالحة جدي وأخي. بدأت أولاً بإرسال رسائل، لكن جميعها عادت إليّ دون أن تُفتح. فكرت في زيارة المنزل، لكن كان الأمر صعباً للغاية بالنسبة لي. كنت خائفة من الرفض، ومن الطرد المهين الذي قد يصدر عن جدي. لذلك أخذت أؤجل تلك الخطوة.
حققنا فيما بعد النصر المنشود الذي ضحى فيه كمال وغيره من أبناء البلد بأرواحهم. ومرت ثلاث سنوات، وتوفي جدي لأمي، وتبعه رحيل جدتي. ثم نشب خلاف بين أخوالي حول الميراث الذي تمثل في البيت الذي كنا نعيش فيه. وفي النهاية، استقروا على بيعه وتوزيع حصصه على الجميع، فاستلمت ميراثي الصغير، بينما رفض أخي استلام حصته كما علمت منهم. بعد ذلك، وفي نهاية الأمر قررت يائسة الرحيل من الإسكندرية، تلك المدينة التي شهدت طفولتي، وأيام حبي، وحزني، وأيام الفراق المؤلمة.
كان اليوم الأخير قبل رحيلي مفعمًا بالحزن. قضيتُه على شاطئ البحر، أسترجع ذكرياتنا التي أصبحت في عيوني كالأطياف التي تمثلت في أنا وكمال، تذكرني بأيامي المشرقة والسعيدة. كان لا بد لي من الرحيل عن الإسكندرية، لم أستطع البقاء في تلك المدينة التي ستظل تذكرني وتفتح الجرح الذي أحاول جاهدًا أن أضمده.
وجئت إلى القاهرة لأبدأ صفحة جديدة من حياتي. استخدمت ميراثي في شراء شقة صغيرة جدًا، وبدأت في العمل كمعلمة للغة الفرنسية في مدرسة راقية، كما كنت في الإسكندرية، ومرت السنين تتساقط معها سنوات شبابي مثل أوراق الشجر في الخريف، وظللت في مهنة التعليم لمدة 15 عامًا. لكن عندما بدأت أشعر بتدهور مستوى التعليم، قررت الاستقالة. بدأت البحث عن عمل جديد حتى وجدت إعلانًا في الجريدة يطلب مشرفة للعمل في دار أيتام. كانت وظيفة غريبة في البداية، ولكن قررت التقدم لها، خاصة أنني كنت سأتعامل مع الأطفال الصغار ولن أتعامل مع البالغين.
تمت الموافقة عليّ، وكانت المشرفة السابقة تعتبرني مؤهلة لأنني كنت عزباء ولا أتحمل مسؤوليات عائلية. في الحقيقة لم أكن أهتم لشيء آخرى سوى الصغار. ووجدت عزاءً كبيرًا في هؤلاء الأطفال اليتامى، أحببتهم وغرقت في حياتهم ومشاكلهم. كانوا ملائكة أرى فيهم شيئاً مما فقدته.
حتى جاء ذلك اليوم الذي التقيت فيه بحبيبي وابني خالد. كنت حينها قد تجاوزت الخمسين من عمري، وأصبحت حياتي تقتصر على الروتين اليومي الممل، مقسمة بين شقتي الصغيرة الخالية وبين الدار التي أعمل فيها، أقضي وقتي في أداء واجباتي تجاه الأطفال. مع مرور السنين، شعرت ببرودة الوحدة تتسلل إلى قلبي، واحتجت إلى من يشاركني تلك الحياة الخالية من الدفء، ليؤنسني ويمحو عني شعور الوحدة الثقيلة.
ثم جاء خالد كهدية من السماء، أرسله الله لي ليكون الهدية التي تداوي جراح سنين الوحدة الطويلة. كان صغيراً، ضعيفاً ومسكيناً، فاقداً لذاكرته بسبب حادث سير مأساوي تعرض له. الحادث تسبب في سقوط الحافلة الصغيرة التي كان يستقلها في النيل، وكاد أن يغرق لولا أن الله كتب له النجاة. إلا أن ذاكرته لم تصمد أمام الحادث، ولم تتمكن الشرطة من التوصل إلى أي معلومات محددة عنه. لهذا السبب، تم إرساله إلى الدار ليبقى معنا حتى اكتمال التحقيقات ومحاولة التعرف على عائلته أو أي معلومات تربطه بماضيه.
وكما أخبرتك من قبل، منذ اللحظة الأولى التي رأيت فيها خالد، شعرت بمشاعر عميقة تتشكل في قلبي تجاهه. كانت هناك رابطة غامضة بدأت تتكون بيني وبينه، لم أفهم سرها حينها. لكن مع الوقت، أدركت أنني رأيت في ذلك الفتى انعكاسًا للوحدة التي أعيشها. تلك الوحدة التي أراها في عينيّ كلما نظرت إلى المرآة. خالد كان يميل إلى العزلة، يفضل الوحدة على اللعب مع أقرانه، يشبهني عندما كنت أبتعد إلى ركنٍ بعيد عن الجميع. ورغم أن جراحنا لم تكن واحدة، إلا أنها توافقت بطريقة ما جعلتني أشعر بارتباط خاص به.
وجدت نفسي أُحبه وكأنه قطعة مني. تخيلت أنه لو كنت متزوجة، لربما كان لدي ولد يشبه خالد. تلك الفكرة زرعت في قلبي رغبة شديدة لتبنيه، ليصبح ولدي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. حاولت التقرب منه، ورغم أنه كان صعب المراس في البداية، إلا أنه استجاب في النهاية لمشاعري الصادقة.
بعد ذلك، قررت أن أترك عملي في الدار حفاظًا على مشاعره، حتى لا يشعر بأي ارتباك أو تناقض في حياته. عدت إلى العمل كمدرسة في إحدى المدارس الخاصة بالراهبات، وبدأت أكرس حياتي له. ثم قررت تغيير الشقة التي كنت قد اشتريتها من قبل إلى شقة أكبر، تناسب احتياجاتنا وتوفر لنا مساحة أوسع لنعيش فيها حياتنا الجديدة. مرت السنين بهدوء، وبدأت أنا وخالد نعيش حياة طبيعية معًا كأم وابنها. كانت حياتنا مليئة باللحظات الصغيرة التي تجمعنا، أحيانًا كنا نتجادل وأحيانًا نتوافق، مثل أي عائلة عادية. ولكن في نهاية كل يوم كنا نجتمع على مائدة العشاء. نتشارك الطعام والحديث، ونتبادل الحكايات عن يومنا. كانت تلك اللحظات العائلية البسيطة هي ما جعلت الحياة بيننا دافئة ومليئة بالمحبة، وكأننا نعوض بعضنا عن كل ما فقدناه في الماضي.
بمرور السنين، بدأت ألاحظ ذكاء خالد الذي كان يكبر أمام عينيّ. تشكلت ميوله الدراسية بشكل واضح، وبدوري بذلت كل ما أستطيع لمساعدته حتى التحق بكلية الهندسة. تفوقه كان استثنائيًا لدرجة أدهشتني. لم يقتصر الأمر على تحصيله الدراسي، بل بدأ يحدثني عن أحلامه الكبيرة وطموحه بأن يصبح اسمًا لامعًا في مجال الهندسة المعمارية. شجعته من أعماق قلبي وآمنت بحلمه، ووجدت نفسي، دون أن أدري، احلم معه أحلامًا جديدة. وكأن طموحه أيقظ في داخلي رغبة في تحقيق أشياء لطالما ظننت أنها مستحيلة.
بدأت أحدثه عن رغبتي القديمة في بناء منزل كبير أعيش فيه معه ومع مجموعة من الأطفال الصغار الذين أربيهم وأرعاهم. حدثته أيضًا عن حلم كمال بدفيئة مليئة بالورود الجميلة تكون جزءًا من ذلك المنزل. ومع الوقت، أضفت حلمًا آخر: مكتبة صغيرة تُخصص لتعليم هؤلاء الأطفال. وكان خالد يستمع لكل أحلامي بهدوء، دون أن يبدي تعليقًا يُذكر.
حتى جاء اليوم الذي فاجأني فيه بعد تخرجه. دخل علي بابتسامة وقدم لي تصميمًا معماريًا للمنزل الذي طالما حلمت به. أخبرني أنه أراد أن يكون ذلك التصميم أول مشروع حقيقي له في عالم الهندسة المعمارية. استغرق العمل على التصميم عامًا كاملًا، ووضع فيه كل ما يملك من إبداع وموهبة. عندما أمسكت التصميم بين يدي، لم أصدق عيني وأنا أرى أحلامي مجسدة على الورق.
حينها، شجعني خالد على أن نبدأ معًا في تحويل هذا الحلم إلى واقع. ورغم دهشتي وقلقي، وجدت نفسي أترك له زمام الأمور. للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، شعرت أنني أستطيع التخلي عن عبء المسؤولية وأثق تمامًا بشخص آخر. وللمفاجأة، كان خالد على قدر المسؤولية، بل وأكثر.
قمنا ببيع شقتنا التي كنا نعيش فيها، بالإضافة إلى الفدادين الزراعية التي اشتريتها في وقت سابق واستثمرت فيها مدخراتي التي جمعتها على مدار سنوات طويلة قضيتها بمفردي دون أي مسؤوليات تُذكر.
اشترينا قطعة الأرض التي بُني عليها منزلنا الحالي، وانتقلنا بعدها إلى شقة صغيرة مؤجرة. هناك، عشنا ببساطة، نعمل جاهدين ونضع كل طاقتنا لتأسيس الحلم خطوة بخطوة. استغرق الأمر منا ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات من العمل المتواصل حتى انتهينا أخيرًا من بناء المنزل الذي نعيش فيه جميعًا الآن.
في الحقيقة، بعد بناء المنزل ونفاد كل مدخراتنا، تراجعت عن فكرة التبني في ذلك الوقت، فلم تكن ظروفنا المادية تسمح بتبني حتى طفل واحد. ورغم أن خالد لم يكن متحمسًا كثيرًا لفكرة التبني، إلا أنه شجعني بشكل لافت.
في أحد الأيام، شعرت بالحنين وقررت زيارة الدار التي كنت مسؤولة عنها سابقًا. لم تكن لدي نية للتبني حينها، بل كان مجرد فضول لرؤية المكان بعد سنوات طويلة. لكن ما رأيته أصابني بالذهول. كانت الدار في حالة سيئة للغاية، التمويل ضئيل، والمسؤولون يفتقرون إلى الكفاءة، والأطفال المساكين يعانون تحت وطأة تلك الظروف الصعبة التي لم تكن لهم يد فيها.
وبينما كنت أتجول في المكان، لفت نظري طفلان صغيران، ولد وفتاة، في نفس العمر تقريبًا، كانا يبدوان في السادسة أو السابعة من عمرهما. علِمت أنهما الوحيدان في هذا العمر، الذي يقل فيه إقبال الأسر على التبني بشكل كبير.
وللأسف في بلدنا، الإحصائيات تشير إلى أن الرضع والأطفال دون سن الثالثة هم الأكثر طلبًا للتبني من قِبل الأسر البديلة، لأن العديد من الأسر تفضل رعاية طفل منذ سن مبكرة لتسهيل عملية التكيف والاندماج. أما الأطفال الأكبر سنًا، فيُتركون غالبًا في دور الرعاية حتى يبلغوا سن الثامنة عشرة، حيث تضيق فرص تبنيهم بشكل مأساوي.
رؤية الطفلين، وهما في عمر يتناقص فيه الاهتمام بالتبني، حرّكت شيئًا عميقًا في داخلي. شعرت أن هذا النظام لا ينصف الأطفال الأكبر سنًا الذين قد يحملون في قلوبهم شعورًا بالرفض فقط بسبب عمرهم.
ابتسمت أنيسة بحب وهي تتابع:
"الطفلين كانوا حسن وفرح، على الرغم من بؤسهما، إلا أنهما كانا ظريفين بشكل لا يُصدق. وعلى الرغم من أنهما لم يكن بينهما أي صلة قرابة، إلا أنهما كانا متمسكين ببعضهما بشكل أثار اهتمامي، وكأنهما، رغم كل شيء، وجدوا عزاء في بعضهما البعض".
تخيلت سالي على الفور حسن وفرح في هذا العمر، صورة لطفلين ظريفين بملامح بريئة وشقاوة الطفولة. وجدت نفسها تبتسم رغماً عنها.
لكن ابتسامة أنيسة تبدلت سريعاً، وحل محلها حزن عميق وهي تقول:
"لو رأيتهم وقتها، كنت ستشفقين عليهم من شدة بؤسهم. ليس هم فقط، بل كل الأطفال في أعمارهم. هؤلاء الصغار خرجوا من دائرة الاهتمام، ومع ذلك أعمارهم ما زالت صغيرة جداً. كانوا بحاجة ماسة للعناية والحنان، ولكن حتى مشرفي الدار لم يكونوا مؤهلين لتقديم هذا النوع من الاهتمام. كان الوضع مأساوياً".
وصلت مشاعر الحزن العميق من أنيسة إلى سالي التي استمعت بصمت وتأثر إلى بقية القصة الطويلة.
يومها، عدت إلى المنزل وأخبرت خالد بما رأيته في الدار. لاحظ على الفور اهتمامي بحسن وفرح أكثر من غيرهما، واقترح فوراً أن أقوم بكفالتهما. في البداية، ترددت. لكن صورة الطفلين، بعيونهما الواسعة ونظراتهما البريئة، وهما متمسكان ببعضهما البعض، لم تفارق خيالي. لم أستطع مقاومتها. وخلال ثلاثة أيام فقط، اتخذت قراري، وبدأت إجراءات كفالة حسن وفرح.
حسن كان عنيدًا بشكل لا يُصدق، ومتكبرًا على الرغم من ظروفه الصعبة. لم يكن سهل المراس، وخاض خالد معه الكثير من الشجارات العنيفة في البداية حتى استطاع أن يروضه. والآن، كما ترين، حسن صار نسخة مصغرة من خالد، بطريقة تجعلني أضحك كلما رأيتهما معًا.
أما فرح، كانت دائمًا طيبة ومطيعة، إلا أنها أثارت قلقي في الفترة الماضية بسبب مرحلة المراهقة التي تعيشها الآن، وأيضاً بعد تصرفها الطائش الأخير. وهذا ما جعلني أشعر بالحيرة والخوف عليها أكثر من أي وقت مضى. لا أعرف كيف يمكنني أن أساعدها لاستعادة توازنها من جديد.
وبعد شهور، كفلنا أحمد، ذلك الفتى اللطيف والمهذب الذي كان دائمًا مثالًا للهدوء والالتزام. لم يزعجني يومًا أو يسبب أي مشكلات كما يفعل معظم إخوته أحيانًا. هذا الولد الطيب أرى فيه مستقبلاً مشرقًا؛ وأعتقد أنه إذا استمر على هذا المستوى الدراسي المتميز، فسيصبح طبيبًا ناجحًا بلا شك.
ثم كفلنا نور، تلك الفتاة الجميلة الهادئة التي لطالما كانت تحمل براءة العالم في ملامحها. كانت نور طفلة صغيرة، والدها مصري الجنسية ووالدتها من غزة. خلال زيارة عائلية إلى غزة في عام 2014، اندلعت الحرب. كان ذلك في شهر يوليو، وأثناء تلك الفترة، تعرض المنزل الذي كانوا يقطنون فيه للقصف. مات والداها ومعظم أفراد عائلتها تحت الأنقاض، ونجت هي بأعجوبة، لكنها أصيبت في رأسها إصابة أثرت على العصب البصري. وبسبب التأخير في إنقاذها من تحت الأنقاض، فقدت بصرها. تم إرسالها إلى أعمامها هنا في مصر، لكنهم تخلوا عنها فيما بعد، معتبرين حالتها عبئًا لا يستطيعون تحمله. عندما سمعنا قصتها الحزينة، لم نتردد في كفالتها. تلك الطفلة المسكينة لم يكن لها نصيب في اسمها، إذ أطفأت الحرب نور عينيها. خالد، لم يقبل أبدًا بهذا الواقع. لطالما اصطحبها إلى أكبر الأطباء في البلاد، وكلهم نصحوه بالسفر بها إلى أوروبا، لعل هناك فرصة لإعادة ولو بصيص من النور إلى عينيها الضائعتين.
أما الطفل رحيم، فقد كان يعيش حياة سعيدة مع والديه وأخيه الصغير، حتى وقع حادث سير مأساوي أودى بحياة والديه معًا. ترك الحادث رحيم وأخاه في حالة صعبة للغاية، حيث توفي شقيقه بينما نجا هو، لكن بشلل دائم. ورغم معاناته، أظهر رحيم موهبة موسيقية رائعة منذ صغره. وأنا متأكدة أن الاهتمام بتطوير هذه الموهبة سيجعله في مكانة عالمية. وسيكون له مستقبل مشرق إذا ما تم توجيهه ورعايته كما ينبغي.
ثم جاء دور أميرة، التي كفلناها من دار أيتام في محافظة أخرى، بناءً على توصية من أحد المعارف الذين كانوا على دراية باهتمامنا بكفالة الأيتام. كانت أميرة في عمر الست سنوات عندما أتى بها إلى منزلنا. لا أتذكر أنها أثارت أية مشاكل، بل كانت دائمًا هادئة وملتزمة. في البداية كانت متحفظة وغير مرتاحة، ولكن مع مرور الوقت تأقلمت مثل باقي إخوتها. وقد ساعد في ذلك المكتبة الصغيرة التي أهداها لها خالد بعد أن لاحظ حبها للقراءة والكتب. هذه الفتاة لديها عقلية جبارة وذكاء فذ، ورغم أنني لا أعرف تمامًا توجهها المستقبلي، إلا أنها بالتأكيد مميزة. وأعتقد أنك قد لاحظت ذلك.
ثم جاءتنا ليلى، التي كانت في الرابعة من عمرها، يتيمة مجهولة النسب. وللأسف ليلى تتبع أميرة في كل خطوة. أعتقد أنها تعتمد قليلاً على أختها ولم تشعر بعد بالاستقلالية التامة، وهذا أمر يثير قلقي بشأن الطفلة. أخشى أن تكبر وتصبح معتمدة على الآخرين في كل شيء، وهذا ما أود أن أتجنب حدوثه. الطفلة بحاجة إلى أن تجد قوتها الداخلية وتتعلم كيف تتعامل مع الحياة بمفردها.
ثم جاءت ليان وبعدها عبدالله، كلاهما وصلا في عمر الثالثة، وكانوا صغاراً بالكاد يستطيعون التحدث والتعبير عن أنفسهم بوضوح. لكن ليان، تلك الطفلة خفيفة الظل، لا تعلمين كم أعشق النقاش معها ومجاراتها في الحديث. لديها مزاج رائع وحضور طاغي يجعلها مركز انتباه الجميع. أما عبدالله، فهذا الفتى الطيب القلب، لكن مشاكله التي بدأ يرتكبها مؤخراً أصبحت مصدر إزعاج لنا جميعاً. ومع ذلك، لا أستطيع إلا أن أشعر بالندم لأنني غفلت عنه طوال تلك الفترة ولم أفهم مشاعره البريئة، خاصة حبه وتعلقه بالحيوانات. أتمنى لو أتيحت لي الفرصة لتصحيح هذا الخطأ وأكون أكثر انتباهاً له.
ثم جاء هؤلاء الصغار الخمسة، تلك العصابة الصغيرة التي ملأت حياتنا. وكما أخبرتك من قبل، علي، حبيبي، وُلد بين أكوام النفايات، ووالدته حالياً في مصحة نفسية. حاولنا أن نتفاهم معها ونوفر لها مكاناً للعيش مع طفلها، ولكنها كانت فاقدة للصلاحية للاعتناء به. لذلك كفلناه في عمر السنتين، ولا زلنا نحاول بين الحين والآخر التواصل مع المستشفى لمعرفة تطورات حالتها.
أما التوأم، فقد تم كفالتهما في عمر الخمس شهور، ووقع الجميع في المنزل في حب هذا التوأم الظريف. ثم جاءت سارة في عمر السنة، تركتها امرأة لإحدى السيدات التي سلمتها للشرطة ثم إلى دار الأيتام. أما يحيى، الطفل الذي وصل في عمر التسع شهور، هذا الفتى شقيّ وخطير، أحذري منه.
كل هؤلاء الصغار، هم من كفلتهم بنفسي، ما عدا ماريا الصغيرة التي جاءت في شهرها الأول. أمها كانت تعمل في مصنع الألعاب الذي أسسه خالد. لا أرغب في الخوض في تفاصيل ولادتها، لكن المرأة استنجدت بخالد لأنها تعلم أننا نكفل الأيتام، فتخلت عن الطفلة له. في البداية، كنا قد قررنا التوقف وعدم كفالة المزيد من الأطفال، خاصة وأن خالد كان يشعر بحجم المسؤولية المتزايد بتزايد عدد الأطفال. لكن ماريا خطفت قلبه، وفجأة تفاجأنا به يدخل علينا ومعه ماريا بين ذراعيه، وأخبرنا أنه قد قام بالإجراءات الرسمية وتم كفالة الطفلة رسمياً. لذلك، ستلاحظين تلك الرابطة بين خالد وماريا. أراهم دائماً كأب وطفلته، ربما لأن خالد حملها بين ذراعيه وهي طفلة رضيعة لم يمر على ولادتها شهر، مما جعل العلاقة بينهما تنشأ بهذا الشكل.
عقدت أنيسة حاجبيها بتفكير عميق وقالت:
"لطالما تساءلت عن السبب الذي دفعني لتبني هؤلاء الصغار، تلك الرغبة الملحة التي صاحبتني لسنوات طويلة، حتى قبل أن أتبنى خالد. وجدت الكثير من الأسباب، لكن مؤخرًا فقط أدركت السبب الحقيقي. لقد كنت أشارك هؤلاء الأطفال شعورهم باليتم. أنا أيضًا كنت يتيمة. عرفت معنى الفقد وأنا صغيرة، خاصة في الأوقات التي كنت فيها بأشد الحاجة إلى أبي وأمي.
هل تعلمين؟ طوال حياتي كنت أفتقد أن أنادي 'بابا' و'ماما'. دائمًا كنت أتساءل عن شعور الأطفال الذين لم يفقدوا آباءهم، كيف يشعرون وهم ينادون بهذين الاسمين؟ هل يدركون تلك النعمة الثمينة التي حرم منها غيرهم؟
أصبحت رغبتي أن أهب هؤلاء الصغار ما افتقدته أنا في طفولتي. لا يمكنك تخيل شعوري بالامتنان لله عندما أسمعهم ينادونني 'ماما'. أشعر وكأنني قد مُنحت هدية عظيمة. الله جعلني سببًا لأكون 'ماما' في حياة هؤلاء الأطفال المساكين، كي لا يعانوا من فقدان تلك الكلمة كما عانيت أنا".
شعرت سالي بألم عميق وهي تحاول استيعاب حجم المعاناة التي عاشتها أنيسة طوال حياتها. ذلك الشعور باليتم، الذي لم يتركها حتى بعدما أصبحت امرأة عجوزًا على فراش المرض، بدا وكأنه جزء لا يتجزأ من كيانها.
كان سماع كلماتها يثقل قلب سالي بالشفقة، الشفقة على هذا القلب البائس المسكين، الذي فقد كل من أحبهم، ومع ذلك لم يتوقف عن العطاء، بل كان يسعى جاهدًا لأن يهب الأطفال اليتامى مشاعر الأمومة التي حُرم منها هو، كي لا يختبروا ما اختبرته هي من ألم الفقد، والاحتياج، والخذلان القاسي. كم هو عظيم أن يحمل الإنسان جروحه بصمت، ويختار رغم الألم أن يكون نوراً يضيء حياة الآخرين ويبدد ظلامهم، وأنيسة كانت هذا الإنسان العظيم الذي تجاوز جراحه، وحول ألمه إلى طاقة حب وعطاء ألقت بأشعتها على حياة صغار يتامى لا أهل لهم ولا أقرباء.
خرجت سالي من أفكارها وهي تنصت إلى حديث تلك المرأة العظيمة.
صغاري كلهم أضافوا البهجة إلى حياتنا، رأيتهم أطفالاً لم أنجبهم، ولكنهم أصبحوا قطعة من قلبي وروحي. ولو كنت قد تزوجت وأنجبت أولاداً، لكان هؤلاء الصغار في مثابة أحفادي. هم أغلى ما لدي في هذه الحياة، وهم الخطوة التي أضفت على باقي أيامي سعادة غامرة، عوضتني عن ألم الماضي وكل ما عشته من معاناة ووحدة. بالفعل مسؤوليتهم كانت ضخمة، ولكنني أعتقد أننا قمنا بواجبنا على أكمل وجه. على الأقل، هذا ما أشعر به الآن، وأنا المرأة العجوز التي لم يتبق لها في هذه الحياة سوى أيام معدودة. ومع ذلك، رغماً عني، لا أستطيع كبح شعور القلق الذي يرافقني. أخاف أن أتركهم بمفردهم دون أن أطمئن عليهم، دون أن أتأكد أنهم سيجدون من يسندهم إذا ما احتاجوا إلى ذلك. وأمنيتي الوحيدة أن أراهم جميعاً سعداء، متماسكين كعائلة واحدة.
"تلك المسؤولية سيحملها خالد من بعدي، وأنا واثقة تمامًا من قدرته على تحملها بكل جدارة. ومع ذلك، لا يسعني إلا أن أبوح لك برغبة في داخلي: أتمنى أن تكوني شريكة له في هذه الرحلة. ولكن، لا أريدك أن تعتقدي أنني أحاول وضع هذا العبء على عاتقك. فلو لم أرَ بعيني كم أنت إنسانة طيبة، مخلصة، وقبل كل شيء صادقة، لكنتِ بالنسبة لي مجرد طبيبة ستقضي وقتًا معنا ثم ترحل. لكنك يا سالي مختلفة، مختلفة عن أي شخص قابلته. لديك قلب عطوف وإرادة قوية، وهذا بالضبط ما يحتاجه هذا المنزل ليستمر في النبض بالحياة".
ثم، وبنظرة خبيرة، أكملت أنيسة بابتسامة خفيفة:
"أرى بأم عيني قصة صغيرة تلوح في الأفق بينك وبين خالد. أتمنى أن تكتمل تلك القصة بالسعادة التي تستحقانها. ومع ذلك، إن اخترتِ طريقًا آخر، فهذا حقك الكامل. عيشي حياتك بالطريقة التي تليق بك، ولا تلتفتي لأي شيء سوى ما يمليه عليك صدقك وقلبك النقي".
أشارت أنيسة إلى قلب سالي، التي اجتاحتها في تلك اللحظة مشاعر غريبة وغير مألوفة، وكأن أنيسة قد لمست بحديثها منطقة خفية في قلبها، أيقظت بداخلها مشاعر كانت نائمة منذ زمن بعيد.
وفجأة، قطعت المرأة أفكارها وقالت بصوت مزيج من الجدية والثقة:
"وبما أنني رويت لك قصة حياتي وكل ما لدي من أسرار، مازال هناك سر أريد أن أبوح به لك يا سالي".
همست سالي:
"تفضلي".
كانت عيون أنيسة مترددة وهي تقول:
"إنه سر مهم يتعلق بحسن، ولا يعرفه سوى ثلاثة أشخاص: أنا، خالد، والشخص الثالث هو السيدة منى. لأن هذا السر يخصها ويخص حسن".
رفعت سالي حاجبيها بتساؤل، ومال رأسها قليلاً وكأنها تستعد لاستيعاب ما سيُقال. تأملت أنيسة السقف بشرود، وكأنها تستجمع كلماتها بصعوبة، ثم أخذت نفسًا عميقًا، ونظرت إلى سالي مباشرة بعينيها الممتلئتين بالجدية:
"منى.. هي والدة حسن الحقيقية".
نزلت كلمات أنيسة كالصاعقة على سالي، لكنها ظلت هادئة بشكل لافت للنظر، وكأن عقلها يدور في دوامة محاولًا استيعاب ما سمعته. حدقت في أنيسة بصمت، منتظرة أن تحكي ما بجعبتها.
منذ عدة سنوات، عندما كان حسن في الحادية عشرة من عمره، كنا بحاجة إلى مربية لتعتني بالصغار. تقدمت إلينا منى للوظيفة، وبعد أن وجدناها مناسبة، قمنا بتوظيفها. ولكننا لاحظنا شيئًا غريبًا: كانت منى متعلقة بحسن بشكل ملفت للنظر. كانت تتبعه أينما ذهب، وتنظر إليه بنظرات غامضة أثارت شكوكنا. في البداية، خفنا أن تكون لديها نوايا سيئة، ربما خاطفة أو مجرمة تخطط لإيذاء الأطفال. عندما قرر خالد مواجهتها، انهارت منى واعترفت بكل شيء. قالت لنا إن حسن هو ابنها الذي أنجبته سرًا في ظروف صعبة، وإنها تركته في إحدى الدور، التي بدورها أوصلته إلى الدار التي كفلناه منها. وأضافت أنها كانت تتبعه بصمت منذ ذلك الوقت، دون أن تفصح عن هويتها الحقيقية له، حتى أنها لم تستطع في النهاية مقاومة شوقها إليه، مما دفعها للتقدم للوظيفة لتظل قريبة منه وتحت عينيها. كانت هذه الصدمة غير متوقعة، لكن خالد، الذي كان يشك في كلامها، أصر على التأكد عبر تحليل DNA. جاءت النتائج لتؤكد صدق منى؛ حسن كان ابنها بالفعل. في البداية، طلبت منا منى فقط أن نسمح لها بالبقاء قريبة من ابنها دون أن يعرف هويتها الحقيقية، مؤكدة أنها لن تطالب بأي شيء آخر. ولكن مع مرور الوقت، لم تستطع قلب الأم مقاومة الرغبة في مصارحة حسن بالحقيقة. كان الأمر معقدًا للغاية. حسن كان يكبر، وشخصيته العنيدة وصعبة المراس جعلت من مصارحته بأصله أمرًا محفوفًا بالمخاطر. لذلك، طلب خالد من منى التريث حتى يحين الوقت المناسب الذي يصبح فيه حسن قادرًا على استيعاب الحقيقة. لكنني أخشى أنه، حتى مع مرور الوقت، سيظل الأمر صعبًا على حبيبي حسن. معرفة الحقيقة في هذا العمر، مع كل ما حمله من أعباء نفسية، ستكون صدمة كبيرة قد تقلب حياته رأساً على عقب.
علقت أنيسة بصوت حزين:
"ولكنه في النهاية حق لكلٍ من الأم والولد، وضميرنا لا يعطينا الحق بإنكار هذا الحق أو فصل الأم عن طفلها، خاصة وهي تطالب به بشدة. لا يمكننا الاستمرار في تجاهل هذه الحقيقة إلى الأبد".
نظرت أنيسة إلى سالي بعينين يملؤهما الرجاء، وصوتها يتهدج بشعور من الخوف والقلق:
"أرجوكِ يا سالي، لو حدث شيء لي وظهرت الحقيقة بعد ذلك، ساعدي خالد في حل تلك المشكلة، ولا تتخلي عن حسن. كوني بجواره، أنا أعلم أنكما مقربان، وأرى أنه يثق بكِ كثيرًا. هذا الفتى يحمل بداخله عالمًا من الأفكار والمشاعر المخفية، وأخشى أن يضل طريقه. لا تتركيه وحده، خاصة مع أفكاره".
كانت سالي مصدومة من هذا السر الذي ألقي عليها فجأة. للحظة، شعرت أن الوقت توقف، وعادت بذاكرتها إلى ذلك اليوم الذي شاهدت فيه المشهد من نافذة غرفتها؛ حسن وهو يرفع صوته بغضب على السيدة منى، موجهًا إليها إهانة قاسية، بينما هي تحاول أن تسيطر على دموعها بصعوبة.
حينها، لم تستطع سالي أن تفهم لماذا همست منى بكلمات بالكاد تسمعها: 'أنت ابني..'. ومنذ ذلك الحين، وهي تشعر أن هناك سرًا كبيرًا يربط بين منى وحسن، لكن لم يخطر ببالها أبدًا أن يكون السر بهذه الجسامة.
صفت سالي حنجرتها، ثم وضعت يدها بحنان على يد أنيسة، ونظرت إليها بثبات وقالت أخيرًا بصوت مفعم بالعاطفة:
"إنه سر خطير بالفعل، ولكن لا تقلقي يا سيدتي، سأنفذ أمنيتك، وأعدك بأنني لن أترك حسن وحده. ولكن يجب أن تتأكدي أنه أقوى بكثير مما تتصورين، فلديه إرادة صلبة، وبالتأكيد سيجد طريقه لتجاوز أي صدمة. ومع ذلك، سأكون بجواره دائمًا، وسأدعمه حتى أتأكد أنه في أفضل حالاته.
أما بالنسبة للأطفال، فأنا لن أترك هذا المنزل إلا بعدما أكون قد قمت بواجبي معهم على أكمل وجه. هناك الكثير من الأفكار التي أريد استكشافها معهم، والكثير من الأوقات التي أرغب في مشاركتها معهم. هؤلاء الأولاد مختلفون عن أي أطفال قابلتهم في حياتي، وكنت دائمًا أتساءل عن السبب. واليوم، بعد أن استمعت إلى قصتك، أدركت السر.
لقد كانوا محظوظين لأنك كنت أمًا عظيمة لهم. هذا ما جعلهم مميزين. وربما لن يدركوا ذلك الآن، لكنهم بلا شك سيفهمونه عندما يكبرون، وعليهم أن يكونوا ممتنين لكل ما قدمته لهم. سيدتي لقد صنعت عائلة استثنائية ومختلفة عن أية عائلة أخرى، أنا حقاً ممتنة لأنني تعرفت عليكم جميعاً".
ضاقت عيون أنيسة بابتسامة دافئة ومال رأسها قليلاً وهي تهمس برفق:
"أنتِ حقاً طيبة القلب، يا ابنتي. كلامك هذا يجعلني أثق بكِ وبقراراتك مهما كانت، وأعلم أنني أثقل عليك كثيراً، لكني بحاجة إليك بشدة".
أجابت سالي بصراحة ممزوجة ببعض التردد:
"بصراحة، أحياناً أشعر بالخوف من أنني قد لا أكون على قدر المسؤولية التي ترينها فيّ. لكن.. أريد حقاً أن أخوض هذه التجربة، مهما كانت التحديات".
ضحكت أنيسة بهدوء وقالت بنبرة واثقة:
"لو لم تكوني على قدرها، لما وضعتُ كل هذه الثقة فيك. أنا امرأة عجوز، ولي خبرة طويلة في الناس، وأنت عملة نادرة يا حبيبتي".
غمزت أنيسة بخفة، مما جعل سالي تبتسم وهي تقول بأمل:
"أتمنى أن أكون عند حسن ظنك".
"أنت كذلك بالفعل".
همست أنيسة ومدّت يديها وضمت سالي إلى صدرها، وكان جسدها الضعيف يرتعش قليلاً من الإرهاق. شعرت سالي بذلك، فابتعدت برفق وقالت بابتسامة دافئة:
"من الواضح أنك متعبة، يجب ترتاحي الآن. مستر خالد على وشك الوصول، وأنا أخاف أن يخفض راتبي لأنني أتعبك كثيراً!"
انطلقت ضحكة خفيفة بينهما قبل أن تجيب أنيسة بعاطفة مختلطة بالحزن:
"لا أريدك أن تحزني من كلامه، خالد أنقى رجل قد تقابلينه في حياتك. هو فقط مثقل بما حدث، والمسؤولية التي يحملها على عاتقه كبيرة جداً".
أحست سالي بتسارع ضربات قلبها، لكنها تجاهلت هذا الشعور سريعاً وقالت بجدية:
"أنا أمزح، صدقيني. لست مستاءة منه على الإطلاق. أنا أقدر موقفه تماماً وأحاول فهم ما يعانيه".
طمأنت سالي أنيسة التي نظرت إليها بحب وقالت بامتنان:
"أشكركِ لتفهمك يا سالي".
ساعدت سالي المرأة العجوز على الاستلقاء برفق، ووضعت الوسائد بعناية تحت رأسها لتشعر بالراحة. لكنها لم تستطع الهروب من دوامة الأفكار التي اجتاحت عقلها، ولا من الثقل الذي شعرت به في قلبها. مشاعر غامضة اجتاحتها فجأة، لم تفهم مصدرها، لكنها لم تستطع تجاهلها.
قطع شرودها دخول الممرضة لتفقد حالة أنيسة. أنهت الممرضة عملها سريعاً وغادرت، تاركة الغرفة في هدوء مهيب. كانت أنيسة تحدق في السقف، وعيناها تسبحان في الأفق البعيد، وكأنها تبحث عن شيء لا تراه سوى هي.
نظرت إلى سالي التي كانت تمسك بهاتفها محاولة إغلاق الموسيقى التي ملأت الجو بشجن خافت، فابتسمت بتعب وقالت بصوت واهن وهي تحاول جاهدة إدخال الهواء إلى رئتيها:
"لا تغلقيه.. كرريها من فضلك".
أومأت سالي برأسها بهدوء ونفذت طلب أنيسة، أعادت تشغيل الأغنية ووضعت هاتفها بجانب المرأة التي أغمضت عينيها وغرقت في ألحان المقدمة الموسيقية الطويلة. توجهت سالي إلى الأريكة وجلست تحتضن ساقيها، ظهرها موجه لأنيسة، بينما استسلمت للألحان التي تسللت إلى أعماقها. كانت تهز قدميها بخفة مع الإيقاع، وانجرفت في فخ تلك الموسيقى التي عزفت على أوتار شجنها. أغمضت عينيها، ورأسها يتمايل بخفة مع الأنغام، بينما تبحث بلا جدوى عن إجابة لتساؤلاتها ومشاعرها المشتتة.
سرعان ما اجتاحتها الذكريات، وعادت إلى تلك الليالي التي كانت تنام فيها بمفردها مع شقيقتها دون والدتهما. تذكرت بوضوح طفلةً تبلغ من العمر ثمان سنوات، تبكي بصمت في سريرها بعد توبيخ جدها لها بسبب خطأ ارتكبته، بينما شقيقتها الصغيرة تنام بسلام بجانبها. ثم عادت صورتها وهي تودع جدها، ذاك الرجل الذي كان مشجعها الأول. استحضرت صوته المرهق وتأوهاته من الألم وهو يواجه نهايته. أخفضت رأسها أكثر، ثم تذكرت أنيسة التي تجلس خلفها مباشرة، بوهن واضح على سرير المرض، وحكاية الحب الحزينة التي شاركتها معها. تنفست بعمق، محاوِلة استجماع شتات قلبها الذي ينبض بخفة غريبة، وهي تستعيد وجه خالد الذي شغل بالها مؤخراً.
قطعت أم كلثوم أفكارها فجأة، حين بدأت تغني بإلحاح العاشق، ليملأ صوتها الأجواء:
ياما قلوب هايمه حواليك.. تتمنى تسعد يوم برضاك.
وانا اللي قلبي ملك ايديك.. تنعم وتحرم زي هواك.
الليل عليّ طال.. بين السهر والنوح.
واسمع لوم العذّال.. اضحك وانا المجروح
تجمعت الدموع في عينيها، وحاولت مسحها بسرعة بظهر يدها، ولكن أم كلثوم أبت أن تعطيها تلك الفرصة وأكملت:
وعمري ما اشكي من حبك.. مهما غرامك لوعني.
لكن أغير من اللي يحبك.. ويصون هواك أكتر مني.
بكت بصمت، ودموعها تنساب على وجنتيها دون أن تثير انتباه أنيسة، التي ظلت غارقة بابتسامتها الشاحبة في عالم آخر من الذكريات والموسيقى. شعرت وكأن قلبها المثقل بالألم والشجن يكاد ينفجر تحت وطأة المشاعر المتزاحمة التي اجتاحت كيانها بلا رحمة.
تجري دموعي وأنت هاجرني.. ولا ناسيني ولا فاكرني.
وعمري ما اشكي من حبك.. مهما غرامك لوعني.
لكن أغير من اللي يحبك.. ويصون هواك أكتر مني.
استسلمت أخيراً للتعب، ونامت بهدوء شديد، وكأن النوم كان مهرباً أخيراً من كل ما يختلج بداخلها.
***
دخل خالد إلى الغرفة بهدوء، حيث خيمت الأضواء الخافتة وأضفت سكينة على المكان. تقدم بخطوات رصينة نحو سرير والدته، فوجدها تغط في نوم عميق، وعلى وجهها ابتسامة هادئة رغم علامات التعب والشحوب التي خطها المرض. تلك الابتسامة أضفت على ملامحها لمسة من العذوبة التي أراحت قلبه. مد يده بلطف ومسح على شعرها الأبيض الذي بدا باهتاً. ثم التفت، ووقعت عيناه على سالي التي كانت تجلس على الأريكة، تحتضن ساقيها وتغرق في نوم عميق. لاحظ خالد أثر التعب على ملامحها. تقدم نحوها ليوقظها، لكن حين اقترب، لمح آثار الدموع الجافة التي خطت مساراتها على وجنتيها. تأمل وجهها بصمت، وكأن الوقت توقف للحظات. رفع يده بحذر، لكنه تردد للحظة، ثم شد قبضته وسحبها سريعاً، وكأنه يقمع شعوراً عابرًا. أخيراً، ناداها بصوته الرخيم المنخفض:
"آنسة سالي..".
سمعت سالي الصوت المألوف يناديها من بعيد، فرمشت بعينيها وفتحتها بحيرة، لترى خالد يقف أمامها. عدلت وضعيتها بسرعة، أنزلت قدميها على الأرض، ومسحت وجهها بكفها وهي تسأل:
"مستر خالد، كم الساعة الآن؟". نظر خالد إلى ساعته ثم أجاب:
"الساعة التاسعة". ثم أكمل هامساً:
"أعتذر على إيقاظك لكن الوقت تأخر ويجب أن تذهبي إلى المنزل".
نظرت سالي حولها ثم بدأت تجمع حاجاتها وقالت متمتة بهدوء ومتجنبة النظر المباشر إليه:
"لا بأس، أنا مستعدة للذهاب".
تأملها للحظات وهي تتحرك بعشوائية، ثم استفسر بفضول:
"كيف كان يومكم؟ هل واجهتي مشاكل؟".
نظرت سالي بعيون مثقلة بالحزن نحو أنيسة وقالت بصوت خافت:
"لا جديد في علاجها، فقط تحدثنا كثيراً وقضينا وقتاً لطيفاً".
لكن آثار الدموع الجافة على وجهها كانت تقول عكس ذلك، فعلق خالد بنبرة هادئة:
"أرى أنك مرهقة بعد هذا اليوم الطويل وتحتاجين إلى الراحة. محمود ينتظرك في السيارة، سيأخذك إلى المنزل، وأنا سأبقى هنا".
أكمل بعد لحظات:
"أشكرك على تعبك اليوم".
تمتمت وهي تتجنب النظر إليه:
"دعمي للسيدة أنيسة ليس شيئًا يستحق الشكر". نظرت إليه نظرة جانبية وأكملت:
"كما أن هذا عملي الذي اتلقى عليه راتبي كما هو اتفاقنا".
قالتها متعمدة وهي تختم كلامها ببطء. رأت اهتزاز عينيه للحظة ولاحظت الإرهاق الذي كان واضحاً على ملامحه؛ الهالات الداكنة تحت عينيه كانت أعمق من المعتاد، ورغم ذلك بدا مرتباً وكأنه مرّ على المنزل قبل أن يأتي. أبعدت خصلات شعرها بهدوء خلف أذنيها وقالت وهي تنظر للأرض:
"إذاً، أراك غداً".
وقفت بخفة واتجهت لتتفقد أنيسة، التي كانت تنام بهدوء ووظائفها الحيوية مستقرة نسبياً. التقطت هاتفها الموضوع بجوار أنيسة وفتحته، لتجد الأغنية التي انتهت منذ فترة. أغمضت عينيها للحظة وضيقت نظرتها نحو أنيسة بحزن، ثم لفت الشال حول جسدها واتجهت نحو الباب.
ألقت نظرة أخيرة على المرأة النائمة، ثم على خالد الذي كان يراقب حركاتها بصمت، عينيه تضيقان بغموض. شعرت بالتوتر وهي تقول قبل أن تغادر:
"إلى اللقاء".
أومأ برأسه بصمت، وخرجت هي وقدميها تكادان ترفضان المغادرة. مرّت على الممرضات في المستشفى، قدمت لهن تعليمات سريعة تخص راحة أنيسة، دون أن تتجاوز أوامر الطبيب المعالج الذي لم يكن موجوداً حينها.
اتجهت نحو السلالم، تنزل بخطوات بطيئة، لكن صوتًا مألوفًا أوقفها فجأة:
"دكتورة، من فضلك انتظري".
توقفت سالي تلقائيًا، والتفتت لترى خالد يقف خلفها، ملامحه مشحونة بمزيج من التردد والارتباك. عقدت حاجبيها باستغراب وسألته:
"نعم، مستر خالد، هل هناك شيء آخر تحتاجه؟".
بدا عليه التردد وكأنه يبحث عن الكلمات المناسبة، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه وقال بصوت يحمل نبرة اهتمام:
"أتمنى ألا أكون قد أثقلت عليكِ بالمسؤولية. أرجوكِ، إذا شعرتِ أنكِ مضغوطة أو مجبرة على أي شيء، أخبريني فورًا. لا أريد أن أكون سببًا في وضعك تحت ضغط، أو إلزامك بمهمة لا تقع ضمن نطاق عملك".
كانت كلماته غير متوقعة، تنضح بشيء خفي لم تفهمه سالي. ذكّرها أسلوبه اللطيف الآن ببروده الواضح في حديثهما بالأمس، وهو ما دفعها للبكاء حينها. شعرت بالتردد للحظة، لكنها سرعان ما أخذت نفسًا عميقًا وأجابت بثبات:
"أنت لم تثقلني بالمسؤولية، كما أنني لست مجبرة على فعل ما لا أريد. ولو شعرتُ بعدم الراحة لرفضتُ طلبك من البداية. وكما أوضحتُ سابقًا، أنا أقدر الست أنيسة كثيرًا، وأشعر بالامتنان لأنها منحتني فرصة الوقوف بجانبها في هذا الوقت الصعب">
كان ردها هادئًا لكنه حمل نبرة صارمة، جعلت خالد ينظر إليها بصمت للحظة، قبل أن يجيب بابتسامة خفيفة امتزجت بشيء من الحسرة:
"أنا سعيد لسماع ذلك، لكن أردت فقط أن أؤكد لكِ أن لكِ كل الحرية في التراجع عن هذه المسؤولية متى شئتِ".
رفعت سالي رأسها بثقة، وقالت بإصرار:
"لن أتخلى عنها في مثل هذا الوقت. هذا وعد قطعته ولن أخلفه".
كانت ملامح التعب البادية على وجه خالد تزداد وضوحًا، وفجأة أطلق زفيرًا ثقيلًا وقال بصوت منخفض:
"شكرًا على مشاعرك الصادقة... بخصوص حديثنا بالأمس..."
توقف للحظة، وكأن الكلمات تخونه أو التردد يثقل عليه. مسح على شعره بإرهاق، ثم تابع متنهدًا:
"أريد أن أعتذر منكِ إذا كان أسلوبي قد أزعجك. أتمنى أن تقبلي اعتذاري".
تفاجأت سالي باعتذاره غير المتوقع. للحظات، وجدت نفسها عاجزة عن الرد، لكنها سرعان ما استعادت هدوءها وقالت باختصار:
"لا داعي للاعتذار، وأتمنى ألا تقف عند هذا الموقف كثيراً".
بالفعل كانت سالي تشعر بالضيق من اسلوبه، ولو كان الوقت مناسبًا لعاتبته على أسلوبه البارد معها، لفعلت ذلك دون تردد. لكنها لم ترغب في تعقيد الأمور أكثر مما هي عليه، فالظروف الراهنة لا تتيح لها التركيز على مشاعرها الشخصية تجاه خالد. كان عليها أن تصب كامل اهتمامها على مرض أنيسة، وعلى مصلحة الأطفال الذين يعانون من ضغوط نفسية شديدة بسبب تدهور صحة والدتهم والتغيرات المفاجئة التي ألقت بظلالها الثقيلة على المنزل.
نظر خالد إلى وجهها بتمعن، وكأنه يحاول أن يقرأ ما وراء كلماتها، مما زاد من شعورها بالاستغراب. أخيرًا قال بصوت منخفض، يحمل شكًا:
"هل أنتِ متأكدة؟ أقصد.. أنني أرى شيئًا آخر".
مال رأسها بتردد، كأنها تحاول فك لغز إصراره الذي بدأ يربكها:
"نعم، أنا متأكدة تمامًا. لا داعي لقلقك. أقدر جيدًا موقفك ورغبتك في السيطرة على الأمور في هذا الوقت الحرج".
لكن خالد أصر مجددًا:
"ولكن..".
قاطعته، صوتها منخفض لكنه قاطع:
"أرجوك، كفى".
خفضت وجهها بينما الحزن أخذ يكسو ملامحها. تابعت بنبرة هادئة، مشوبة بالألم:
"ليس هناك داعٍ للحديث عن هذا الموضوع مجددًا. هناك أمور أكثر أهمية الآن، أمور تستحق اهتمامنا".
صمتت للحظة، ثم رفعت عينيها، تحمل نظرة حزينة وهمست:
"من فضلك، سأذهب الآن. لا أريد التأخر على مستر محمود".
شعر خالد للحظة بالعجز عن مقاومة رجائها الحزين، وكأن كلماته فقدت ثقلها أمام نظرتها. تحركت شفتيه ببطء وقال رغماً عنه:
"أراكِ غدًا".
تابعها وهي تبتعد عنه بإصرار، وأدرك في تلك اللحظة أنه فشل في كبح مشاعره المضطربة. تلك المشاعر التي لم تعرف الاستقرار منذ ذلك اليوم الذي أدرك فيه أن أمه تلفظ أنفاسها الأخيرة. كان الأمر أشبه بغريق يتخبط في المياه، عاجز عن العثور على سبيل للنجاة، والآن يشعر وكأنه يخذل نفسه الغارقة. مسح وجهه بيأس والتفت متجهاً إلى الغرفة حيث تستلقي أمه على فراش المرض.
سارت سالي في ممرات المستشفى، وهي تغرق في دوامة من التخبط واليأس. عندما مرت بجوار الزجاج العريض للباب الخارجي، استدارت دون وعي، وتوقفت فجأة. اقتربت من الزجاج الذي انعكس عليه وجهها بوضوح، فرأت آثار الدموع الجافة على وجنتيها. رفعت يدها ببطء لتمسح بقايا تلك الدموع، بينما تساؤل مؤلم يتردد في ذهنها: هل لاحظ خالد ما يكفي ليشفق عليها؟ هل أصبحت مثيرة للشفقة إلى هذه الدرجة؟
لكن قبل أن تجد الإجابة، انهمرت دموع جديدة، تحمل في طياتها اعترافًا مباغتًا بمشاعر لم تعِها من قبل. ربما، فقط الآن، بدأت تفهم حقيقة تلك المشاعر التي تجتاح قلبها.
نهاية الفصل الخامس والثلاثون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء..
شكراً على صبركم
كاتبتكم ءَالَآء
سؤال الفصل: توقاعتكم للأحداث الجاية؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.