الجمعة، 24 يناير 2025

رواية المنزل: الفصل الخامس والثلاثون: حكاية أنيسة الجزء الخامس والأخير (نهاية الجزء الثالث) - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الخامس والثلاثون

"حكاية أنيسة" الجزء الخامس والأخير.

"حكاية أنيسة" الجزء الخامس والأخير.

كان عمري 29 عامًا عندما توفي كمال، وفي تلك اللحظة، اتخذت قرارًا حاسمًا لا رجعة فيه: لن أتزوج أبدًا، حتى مع الضغط المستمر من عائلتي وأقاربي. كنت على يقين تام أنني لن أجد السعادة التي كنت أتمناها مع رجل غيره. لقد رحل، وأخذ معه تلك العهود التي كانت تخصه وحده، ولم تكن أبداً لعقل أو قلب آخر. وأي رجل آخر سيأتي إلى حياتي، سيكون ظلمًا له ولنفسي.

حاولت كثيراً أن أحقق وصية كمال بمصالحة جدي وأخي. بدأت أولاً بإرسال رسائل، لكن جميعها عادت إليّ دون أن تُفتح. فكرت في زيارة المنزل، لكن كان الأمر صعباً للغاية بالنسبة لي. كنت خائفة من الرفض، ومن الطرد المهين الذي قد يصدر عن جدي. لذلك أخذت أؤجل تلك الخطوة.

حققنا فيما بعد النصر المنشود الذي ضحى فيه كمال وغيره من أبناء البلد بأرواحهم. ومرت ثلاث سنوات، وتوفي جدي لأمي، وتبعه رحيل جدتي. ثم نشب خلاف بين أخوالي حول الميراث الذي تمثل في البيت الذي كنا نعيش فيه. وفي النهاية، استقروا على بيعه وتوزيع حصصه على الجميع، فاستلمت ميراثي الصغير، بينما رفض أخي استلام حصته كما علمت منهم. بعد ذلك، وفي نهاية الأمر قررت يائسة الرحيل من الإسكندرية، تلك المدينة التي شهدت طفولتي، وأيام حبي، وحزني، وأيام الفراق المؤلمة.

كان اليوم الأخير قبل رحيلي مفعمًا بالحزن. قضيتُه على شاطئ البحر، أسترجع ذكرياتنا التي أصبحت في عيوني كالأطياف التي تمثلت في أنا وكمال، تذكرني بأيامي المشرقة والسعيدة. كان لا بد لي من الرحيل عن الإسكندرية، لم أستطع البقاء في تلك المدينة التي ستظل تذكرني وتفتح الجرح الذي أحاول جاهدًا أن أضمده.

وجئت إلى القاهرة لأبدأ صفحة جديدة من حياتي. استخدمت ميراثي في شراء شقة صغيرة جدًا، وبدأت في العمل كمعلمة للغة الفرنسية في مدرسة راقية، كما كنت في الإسكندرية، ومرت السنين تتساقط معها سنوات شبابي مثل أوراق الشجر في الخريف، وظللت في مهنة التعليم لمدة 15 عامًا. لكن عندما بدأت أشعر بتدهور مستوى التعليم، قررت الاستقالة. بدأت البحث عن عمل جديد حتى وجدت إعلانًا في الجريدة يطلب مشرفة للعمل في دار أيتام. كانت وظيفة غريبة في البداية، ولكن قررت التقدم لها، خاصة أنني كنت سأتعامل مع الأطفال الصغار ولن أتعامل مع البالغين.

تمت الموافقة عليّ، وكانت المشرفة السابقة تعتبرني مؤهلة لأنني كنت عزباء ولا أتحمل مسؤوليات عائلية. في الحقيقة لم أكن أهتم لشيء آخرى سوى الصغار. ووجدت عزاءً كبيرًا في هؤلاء الأطفال اليتامى، أحببتهم وغرقت في حياتهم ومشاكلهم. كانوا ملائكة أرى فيهم شيئاً مما فقدته.

حتى جاء ذلك اليوم الذي التقيت فيه بحبيبي وابني خالد. كنت حينها قد تجاوزت الخمسين من عمري، وأصبحت حياتي تقتصر على الروتين اليومي الممل، مقسمة بين شقتي الصغيرة الخالية وبين الدار التي أعمل فيها، أقضي وقتي في أداء واجباتي تجاه الأطفال. مع مرور السنين، شعرت ببرودة الوحدة تتسلل إلى قلبي، واحتجت إلى من يشاركني تلك الحياة الخالية من الدفء، ليؤنسني ويمحو عني شعور الوحدة الثقيلة.

ثم جاء خالد كهدية من السماء، أرسله الله لي ليكون الهدية التي تداوي جراح سنين الوحدة الطويلة. كان صغيراً، ضعيفاً ومسكيناً، فاقداً لذاكرته بسبب حادث سير مأساوي تعرض له. الحادث تسبب في سقوط الحافلة الصغيرة التي كان يستقلها في النيل، وكاد أن يغرق لولا أن الله كتب له النجاة. إلا أن ذاكرته لم تصمد أمام الحادث، ولم تتمكن الشرطة من التوصل إلى أي معلومات محددة عنه. لهذا السبب، تم إرساله إلى الدار ليبقى معنا حتى اكتمال التحقيقات ومحاولة التعرف على عائلته أو أي معلومات تربطه بماضيه.

وكما أخبرتك من قبل، منذ اللحظة الأولى التي رأيت فيها خالد، شعرت بمشاعر عميقة تتشكل في قلبي تجاهه. كانت هناك رابطة غامضة بدأت تتكون بيني وبينه، لم أفهم سرها حينها. لكن مع الوقت، أدركت أنني رأيت في ذلك الفتى انعكاسًا للوحدة التي أعيشها. تلك الوحدة التي أراها في عينيّ كلما نظرت إلى المرآة. خالد كان يميل إلى العزلة، يفضل الوحدة على اللعب مع أقرانه، يشبهني عندما كنت أبتعد إلى ركنٍ بعيد عن الجميع. ورغم أن جراحنا لم تكن واحدة، إلا أنها توافقت بطريقة ما جعلتني أشعر بارتباط خاص به.

وجدت نفسي أُحبه وكأنه قطعة مني. تخيلت أنه لو كنت متزوجة، لربما كان لدي ولد يشبه خالد. تلك الفكرة زرعت في قلبي رغبة شديدة لتبنيه، ليصبح ولدي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. حاولت التقرب منه، ورغم أنه كان صعب المراس في البداية، إلا أنه استجاب في النهاية لمشاعري الصادقة.

بعد ذلك، قررت أن أترك عملي في الدار حفاظًا على مشاعره، حتى لا يشعر بأي ارتباك أو تناقض في حياته. عدت إلى العمل كمدرسة في إحدى المدارس الخاصة بالراهبات، وبدأت أكرس حياتي له. ثم قررت تغيير الشقة التي كنت قد اشتريتها من قبل إلى شقة أكبر، تناسب احتياجاتنا وتوفر لنا مساحة أوسع لنعيش فيها حياتنا الجديدة. مرت السنين بهدوء، وبدأت أنا وخالد نعيش حياة طبيعية معًا كأم وابنها. كانت حياتنا مليئة باللحظات الصغيرة التي تجمعنا، أحيانًا كنا نتجادل وأحيانًا نتوافق، مثل أي عائلة عادية. ولكن في نهاية كل يوم كنا نجتمع على مائدة العشاء. نتشارك الطعام والحديث، ونتبادل الحكايات عن يومنا. كانت تلك اللحظات العائلية البسيطة هي ما جعلت الحياة بيننا دافئة ومليئة بالمحبة، وكأننا نعوض بعضنا عن كل ما فقدناه في الماضي.

بمرور السنين، بدأت ألاحظ ذكاء خالد الذي كان يكبر أمام عينيّ. تشكلت ميوله الدراسية بشكل واضح، وبدوري بذلت كل ما أستطيع لمساعدته حتى التحق بكلية الهندسة. تفوقه كان استثنائيًا لدرجة أدهشتني. لم يقتصر الأمر على تحصيله الدراسي، بل بدأ يحدثني عن أحلامه الكبيرة وطموحه بأن يصبح اسمًا لامعًا في مجال الهندسة المعمارية. شجعته من أعماق قلبي وآمنت بحلمه، ووجدت نفسي، دون أن أدري، احلم معه أحلامًا جديدة. وكأن طموحه أيقظ في داخلي رغبة في تحقيق أشياء لطالما ظننت أنها مستحيلة.

بدأت أحدثه عن رغبتي القديمة في بناء منزل كبير أعيش فيه معه ومع مجموعة من الأطفال الصغار الذين أربيهم وأرعاهم. حدثته أيضًا عن حلم كمال بدفيئة مليئة بالورود الجميلة تكون جزءًا من ذلك المنزل. ومع الوقت، أضفت حلمًا آخر: مكتبة صغيرة تُخصص لتعليم هؤلاء الأطفال. وكان خالد يستمع لكل أحلامي بهدوء، دون أن يبدي تعليقًا يُذكر.

حتى جاء اليوم الذي فاجأني فيه بعد تخرجه. دخل علي بابتسامة وقدم لي تصميمًا معماريًا للمنزل الذي طالما حلمت به. أخبرني أنه أراد أن يكون ذلك التصميم أول مشروع حقيقي له في عالم الهندسة المعمارية. استغرق العمل على التصميم عامًا كاملًا، ووضع فيه كل ما يملك من إبداع وموهبة. عندما أمسكت التصميم بين يدي، لم أصدق عيني وأنا أرى أحلامي مجسدة على الورق.

حينها، شجعني خالد على أن نبدأ معًا في تحويل هذا الحلم إلى واقع. ورغم دهشتي وقلقي، وجدت نفسي أترك له زمام الأمور. للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، شعرت أنني أستطيع التخلي عن عبء المسؤولية وأثق تمامًا بشخص آخر. وللمفاجأة، كان خالد على قدر المسؤولية، بل وأكثر.

قمنا ببيع شقتنا التي كنا نعيش فيها، بالإضافة إلى الفدادين الزراعية التي اشتريتها في وقت سابق واستثمرت فيها مدخراتي التي جمعتها على مدار سنوات طويلة قضيتها بمفردي دون أي مسؤوليات تُذكر.

اشترينا قطعة الأرض التي بُني عليها منزلنا الحالي، وانتقلنا بعدها إلى شقة صغيرة مؤجرة. هناك، عشنا ببساطة، نعمل جاهدين ونضع كل طاقتنا لتأسيس الحلم خطوة بخطوة. استغرق الأمر منا ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات من العمل المتواصل حتى انتهينا أخيرًا من بناء المنزل الذي نعيش فيه جميعًا الآن.

في الحقيقة، بعد بناء المنزل ونفاد كل مدخراتنا، تراجعت عن فكرة التبني في ذلك الوقت، فلم تكن ظروفنا المادية تسمح بتبني حتى طفل واحد. ورغم أن خالد لم يكن متحمسًا كثيرًا لفكرة التبني، إلا أنه شجعني بشكل لافت.

في أحد الأيام، شعرت بالحنين وقررت زيارة الدار التي كنت مسؤولة عنها سابقًا. لم تكن لدي نية للتبني حينها، بل كان مجرد فضول لرؤية المكان بعد سنوات طويلة. لكن ما رأيته أصابني بالذهول. كانت الدار في حالة سيئة للغاية، التمويل ضئيل، والمسؤولون يفتقرون إلى الكفاءة، والأطفال المساكين يعانون تحت وطأة تلك الظروف الصعبة التي لم تكن لهم يد فيها.

وبينما كنت أتجول في المكان، لفت نظري طفلان صغيران، ولد وفتاة، في نفس العمر تقريبًا، كانا يبدوان في السادسة أو السابعة من عمرهما. علِمت أنهما الوحيدان في هذا العمر، الذي يقل فيه إقبال الأسر على التبني بشكل كبير.

وللأسف في بلدنا، الإحصائيات تشير إلى أن الرضع والأطفال دون سن الثالثة هم الأكثر طلبًا للتبني من قِبل الأسر البديلة، لأن العديد من الأسر تفضل رعاية طفل منذ سن مبكرة لتسهيل عملية التكيف والاندماج. أما الأطفال الأكبر سنًا، فيُتركون غالبًا في دور الرعاية حتى يبلغوا سن الثامنة عشرة، حيث تضيق فرص تبنيهم بشكل مأساوي.

رؤية الطفلين، وهما في عمر يتناقص فيه الاهتمام بالتبني، حرّكت شيئًا عميقًا في داخلي. شعرت أن هذا النظام لا ينصف الأطفال الأكبر سنًا الذين قد يحملون في قلوبهم شعورًا بالرفض فقط بسبب عمرهم.

ابتسمت أنيسة بحب وهي تتابع:

"الطفلين كانوا حسن وفرح، على الرغم من بؤسهما، إلا أنهما كانا ظريفين بشكل لا يُصدق. وعلى الرغم من أنهما لم يكن بينهما أي صلة قرابة، إلا أنهما كانا متمسكين ببعضهما بشكل أثار اهتمامي، وكأنهما، رغم كل شيء، وجدوا عزاء في بعضهما البعض".

تخيلت سالي على الفور حسن وفرح في هذا العمر، صورة لطفلين ظريفين بملامح بريئة وشقاوة الطفولة. وجدت نفسها تبتسم رغماً عنها.

لكن ابتسامة أنيسة تبدلت سريعاً، وحل محلها حزن عميق وهي تقول:

"لو رأيتهم وقتها، كنت ستشفقين عليهم من شدة بؤسهم. ليس هم فقط، بل كل الأطفال في أعمارهم. هؤلاء الصغار خرجوا من دائرة الاهتمام، ومع ذلك أعمارهم ما زالت صغيرة جداً. كانوا بحاجة ماسة للعناية والحنان، ولكن حتى مشرفي الدار لم يكونوا مؤهلين لتقديم هذا النوع من الاهتمام. كان الوضع مأساوياً".

وصلت مشاعر الحزن العميق من أنيسة إلى سالي التي استمعت بصمت وتأثر إلى بقية القصة الطويلة.

يومها، عدت إلى المنزل وأخبرت خالد بما رأيته في الدار. لاحظ على الفور اهتمامي بحسن وفرح أكثر من غيرهما، واقترح فوراً أن أقوم بكفالتهما. في البداية، ترددت. لكن صورة الطفلين، بعيونهما الواسعة ونظراتهما البريئة، وهما متمسكان ببعضهما البعض، لم تفارق خيالي. لم أستطع مقاومتها. وخلال ثلاثة أيام فقط، اتخذت قراري، وبدأت إجراءات كفالة حسن وفرح.

حسن كان عنيدًا بشكل لا يُصدق، ومتكبرًا على الرغم من ظروفه الصعبة. لم يكن سهل المراس، وخاض خالد معه الكثير من الشجارات العنيفة في البداية حتى استطاع أن يروضه. والآن، كما ترين، حسن صار نسخة مصغرة من خالد، بطريقة تجعلني أضحك كلما رأيتهما معًا.

أما فرح، كانت دائمًا طيبة ومطيعة، إلا أنها أثارت قلقي في الفترة الماضية بسبب مرحلة المراهقة التي تعيشها الآن، وأيضاً بعد تصرفها الطائش الأخير. وهذا ما جعلني أشعر بالحيرة والخوف عليها أكثر من أي وقت مضى. لا أعرف كيف يمكنني أن أساعدها لاستعادة توازنها من جديد.

وبعد شهور، كفلنا أحمد، ذلك الفتى اللطيف والمهذب الذي كان دائمًا مثالًا للهدوء والالتزام. لم يزعجني يومًا أو يسبب أي مشكلات كما يفعل معظم إخوته أحيانًا. هذا الولد الطيب أرى فيه مستقبلاً مشرقًا؛ وأعتقد أنه إذا استمر على هذا المستوى الدراسي المتميز، فسيصبح طبيبًا ناجحًا بلا شك.

ثم كفلنا نور، تلك الفتاة الجميلة الهادئة التي لطالما كانت تحمل براءة العالم في ملامحها. كانت نور طفلة صغيرة، والدها مصري الجنسية ووالدتها من غزة. خلال زيارة عائلية إلى غزة في عام 2014، اندلعت الحرب. كان ذلك في شهر يوليو، وأثناء تلك الفترة، تعرض المنزل الذي كانوا يقطنون فيه للقصف. مات والداها ومعظم أفراد عائلتها تحت الأنقاض، ونجت هي بأعجوبة، لكنها أصيبت في رأسها إصابة أثرت على العصب البصري. وبسبب التأخير في إنقاذها من تحت الأنقاض، فقدت بصرها. تم إرسالها إلى أعمامها هنا في مصر، لكنهم تخلوا عنها فيما بعد، معتبرين حالتها عبئًا لا يستطيعون تحمله. عندما سمعنا قصتها الحزينة، لم نتردد في كفالتها. تلك الطفلة المسكينة لم يكن لها نصيب في اسمها، إذ أطفأت الحرب نور عينيها. خالد، لم يقبل أبدًا بهذا الواقع. لطالما اصطحبها إلى أكبر الأطباء في البلاد، وكلهم نصحوه بالسفر بها إلى أوروبا، لعل هناك فرصة لإعادة ولو بصيص من النور إلى عينيها الضائعتين.

أما الطفل رحيم، فقد كان يعيش حياة سعيدة مع والديه وأخيه الصغير، حتى وقع حادث سير مأساوي أودى بحياة والديه معًا. ترك الحادث رحيم وأخاه في حالة صعبة للغاية، حيث توفي شقيقه بينما نجا هو، لكن بشلل دائم. ورغم معاناته، أظهر رحيم موهبة موسيقية رائعة منذ صغره. وأنا متأكدة أن الاهتمام بتطوير هذه الموهبة سيجعله في مكانة عالمية. وسيكون له مستقبل مشرق إذا ما تم توجيهه ورعايته كما ينبغي.

ثم جاء دور أميرة، التي كفلناها من دار أيتام في محافظة أخرى، بناءً على توصية من أحد المعارف الذين كانوا على دراية باهتمامنا بكفالة الأيتام. كانت أميرة في عمر الست سنوات عندما أتى بها إلى منزلنا. لا أتذكر أنها أثارت أية مشاكل، بل كانت دائمًا هادئة وملتزمة. في البداية كانت متحفظة وغير مرتاحة، ولكن مع مرور الوقت تأقلمت مثل باقي إخوتها. وقد ساعد في ذلك المكتبة الصغيرة التي أهداها لها خالد بعد أن لاحظ حبها للقراءة والكتب. هذه الفتاة لديها عقلية جبارة وذكاء فذ، ورغم أنني لا أعرف تمامًا توجهها المستقبلي، إلا أنها بالتأكيد مميزة. وأعتقد أنك قد لاحظت ذلك.

ثم جاءتنا ليلى، التي كانت في الرابعة من عمرها، يتيمة مجهولة النسب. وللأسف ليلى تتبع أميرة في كل خطوة. أعتقد أنها تعتمد قليلاً على أختها ولم تشعر بعد بالاستقلالية التامة، وهذا أمر يثير قلقي بشأن الطفلة. أخشى أن تكبر وتصبح معتمدة على الآخرين في كل شيء، وهذا ما أود أن أتجنب حدوثه. الطفلة بحاجة إلى أن تجد قوتها الداخلية وتتعلم كيف تتعامل مع الحياة بمفردها.

ثم جاءت ليان وبعدها عبدالله، كلاهما وصلا في عمر الثالثة، وكانوا صغاراً بالكاد يستطيعون التحدث والتعبير عن أنفسهم بوضوح. لكن ليان، تلك الطفلة خفيفة الظل، لا تعلمين كم أعشق النقاش معها ومجاراتها في الحديث. لديها مزاج رائع وحضور طاغي يجعلها مركز انتباه الجميع. أما عبدالله، فهذا الفتى الطيب القلب، لكن مشاكله التي بدأ يرتكبها مؤخراً أصبحت مصدر إزعاج لنا جميعاً. ومع ذلك، لا أستطيع إلا أن أشعر بالندم لأنني غفلت عنه طوال تلك الفترة ولم أفهم مشاعره البريئة، خاصة حبه وتعلقه بالحيوانات. أتمنى لو أتيحت لي الفرصة لتصحيح هذا الخطأ وأكون أكثر انتباهاً له.

ثم جاء هؤلاء الصغار الخمسة، تلك العصابة الصغيرة التي ملأت حياتنا. وكما أخبرتك من قبل، علي، حبيبي، وُلد بين أكوام النفايات، ووالدته حالياً في مصحة نفسية. حاولنا أن نتفاهم معها ونوفر لها مكاناً للعيش مع طفلها، ولكنها كانت فاقدة للصلاحية للاعتناء به. لذلك كفلناه في عمر السنتين، ولا زلنا نحاول بين الحين والآخر التواصل مع المستشفى لمعرفة تطورات حالتها.

أما التوأم، فقد تم كفالتهما في عمر الخمس شهور، ووقع الجميع في المنزل في حب هذا التوأم الظريف. ثم جاءت سارة في عمر السنة، تركتها امرأة لإحدى السيدات التي سلمتها للشرطة ثم إلى دار الأيتام. أما يحيى، الطفل الذي وصل في عمر التسع شهور، هذا الفتى شقيّ وخطير، أحذري منه.

كل هؤلاء الصغار، هم من كفلتهم بنفسي، ما عدا ماريا الصغيرة التي جاءت في شهرها الأول. أمها كانت تعمل في مصنع الألعاب الذي أسسه خالد. لا أرغب في الخوض في تفاصيل ولادتها، لكن المرأة استنجدت بخالد لأنها تعلم أننا نكفل الأيتام، فتخلت عن الطفلة له. في البداية، كنا قد قررنا التوقف وعدم كفالة المزيد من الأطفال، خاصة وأن خالد كان يشعر بحجم المسؤولية المتزايد بتزايد عدد الأطفال. لكن ماريا خطفت قلبه، وفجأة تفاجأنا به يدخل علينا ومعه ماريا بين ذراعيه، وأخبرنا أنه قد قام بالإجراءات الرسمية وتم كفالة الطفلة رسمياً. لذلك، ستلاحظين تلك الرابطة بين خالد وماريا. أراهم دائماً كأب وطفلته، ربما لأن خالد حملها بين ذراعيه وهي طفلة رضيعة لم يمر على ولادتها شهر، مما جعل العلاقة بينهما تنشأ بهذا الشكل.

عقدت أنيسة حاجبيها بتفكير عميق وقالت:

"لطالما تساءلت عن السبب الذي دفعني لتبني هؤلاء الصغار، تلك الرغبة الملحة التي صاحبتني لسنوات طويلة، حتى قبل أن أتبنى خالد. وجدت الكثير من الأسباب، لكن مؤخرًا فقط أدركت السبب الحقيقي. لقد كنت أشارك هؤلاء الأطفال شعورهم باليتم. أنا أيضًا كنت يتيمة. عرفت معنى الفقد وأنا صغيرة، خاصة في الأوقات التي كنت فيها بأشد الحاجة إلى أبي وأمي.

هل تعلمين؟ طوال حياتي كنت أفتقد أن أنادي 'بابا' و'ماما'. دائمًا كنت أتساءل عن شعور الأطفال الذين لم يفقدوا آباءهم، كيف يشعرون وهم ينادون بهذين الاسمين؟ هل يدركون تلك النعمة الثمينة التي حرم منها غيرهم؟

أصبحت رغبتي أن أهب هؤلاء الصغار ما افتقدته أنا في طفولتي. لا يمكنك تخيل شعوري بالامتنان لله عندما أسمعهم ينادونني 'ماما'. أشعر وكأنني قد مُنحت هدية عظيمة. الله جعلني سببًا لأكون 'ماما' في حياة هؤلاء الأطفال المساكين، كي لا يعانوا من فقدان تلك الكلمة كما عانيت أنا".

شعرت سالي بألم عميق وهي تحاول استيعاب حجم المعاناة التي عاشتها أنيسة طوال حياتها. ذلك الشعور باليتم، الذي لم يتركها حتى بعدما أصبحت امرأة عجوزًا على فراش المرض، بدا وكأنه جزء لا يتجزأ من كيانها.

كان سماع كلماتها يثقل قلب سالي بالشفقة، الشفقة على هذا القلب البائس المسكين، الذي فقد كل من أحبهم، ومع ذلك لم يتوقف عن العطاء، بل كان يسعى جاهدًا لأن يهب الأطفال اليتامى مشاعر الأمومة التي حُرم منها هو، كي لا يختبروا ما اختبرته هي من ألم الفقد، والاحتياج، والخذلان القاسي. كم هو عظيم أن يحمل الإنسان جروحه بصمت، ويختار رغم الألم أن يكون نوراً يضيء حياة الآخرين ويبدد ظلامهم، وأنيسة كانت هذا الإنسان العظيم الذي تجاوز جراحه، وحول ألمه إلى طاقة حب وعطاء ألقت بأشعتها على حياة صغار يتامى لا أهل لهم ولا أقرباء.

خرجت سالي من أفكارها وهي تنصت إلى حديث تلك المرأة العظيمة.

صغاري كلهم أضافوا البهجة إلى حياتنا، رأيتهم أطفالاً لم أنجبهم، ولكنهم أصبحوا قطعة من قلبي وروحي. ولو كنت قد تزوجت وأنجبت أولاداً، لكان هؤلاء الصغار في مثابة أحفادي. هم أغلى ما لدي في هذه الحياة، وهم الخطوة التي أضفت على باقي أيامي سعادة غامرة، عوضتني عن ألم الماضي وكل ما عشته من معاناة ووحدة. بالفعل مسؤوليتهم كانت ضخمة، ولكنني أعتقد أننا قمنا بواجبنا على أكمل وجه. على الأقل، هذا ما أشعر به الآن، وأنا المرأة العجوز التي لم يتبق لها في هذه الحياة سوى أيام معدودة. ومع ذلك، رغماً عني، لا أستطيع كبح شعور القلق الذي يرافقني. أخاف أن أتركهم بمفردهم دون أن أطمئن عليهم، دون أن أتأكد أنهم سيجدون من يسندهم إذا ما احتاجوا إلى ذلك. وأمنيتي الوحيدة أن أراهم جميعاً سعداء، متماسكين كعائلة واحدة.

"تلك المسؤولية سيحملها خالد من بعدي، وأنا واثقة تمامًا من قدرته على تحملها بكل جدارة. ومع ذلك، لا يسعني إلا أن أبوح لك برغبة في داخلي: أتمنى أن تكوني شريكة له في هذه الرحلة. ولكن، لا أريدك أن تعتقدي أنني أحاول وضع هذا العبء على عاتقك. فلو لم أرَ بعيني كم أنت إنسانة طيبة، مخلصة، وقبل كل شيء صادقة، لكنتِ بالنسبة لي مجرد طبيبة ستقضي وقتًا معنا ثم ترحل. لكنك يا سالي مختلفة، مختلفة عن أي شخص قابلته. لديك قلب عطوف وإرادة قوية، وهذا بالضبط ما يحتاجه هذا المنزل ليستمر في النبض بالحياة".

ثم، وبنظرة خبيرة، أكملت أنيسة بابتسامة خفيفة:

"أرى بأم عيني قصة صغيرة تلوح في الأفق بينك وبين خالد. أتمنى أن تكتمل تلك القصة بالسعادة التي تستحقانها. ومع ذلك، إن اخترتِ طريقًا آخر، فهذا حقك الكامل. عيشي حياتك بالطريقة التي تليق بك، ولا تلتفتي لأي شيء سوى ما يمليه عليك صدقك وقلبك النقي".

أشارت أنيسة إلى قلب سالي، التي اجتاحتها في تلك اللحظة مشاعر غريبة وغير مألوفة، وكأن أنيسة قد لمست بحديثها منطقة خفية في قلبها، أيقظت بداخلها مشاعر كانت نائمة منذ زمن بعيد.

وفجأة، قطعت المرأة أفكارها وقالت بصوت مزيج من الجدية والثقة:

"وبما أنني رويت لك قصة حياتي وكل ما لدي من أسرار، مازال هناك سر أريد أن أبوح به لك يا سالي".

همست سالي:

"تفضلي".

كانت عيون أنيسة مترددة وهي تقول:

"إنه سر مهم يتعلق بحسن، ولا يعرفه سوى ثلاثة أشخاص: أنا، خالد، والشخص الثالث هو السيدة منى. لأن هذا السر يخصها ويخص حسن".

رفعت سالي حاجبيها بتساؤل، ومال رأسها قليلاً وكأنها تستعد لاستيعاب ما سيُقال. تأملت أنيسة السقف بشرود، وكأنها تستجمع كلماتها بصعوبة، ثم أخذت نفسًا عميقًا، ونظرت إلى سالي مباشرة بعينيها الممتلئتين بالجدية:

"منى.. هي والدة حسن الحقيقية".

نزلت كلمات أنيسة كالصاعقة على سالي، لكنها ظلت هادئة بشكل لافت للنظر، وكأن عقلها يدور في دوامة محاولًا استيعاب ما سمعته. حدقت في أنيسة بصمت، منتظرة أن تحكي ما بجعبتها.

منذ عدة سنوات، عندما كان حسن في الحادية عشرة من عمره، كنا بحاجة إلى مربية لتعتني بالصغار. تقدمت إلينا منى للوظيفة، وبعد أن وجدناها مناسبة، قمنا بتوظيفها. ولكننا لاحظنا شيئًا غريبًا: كانت منى متعلقة بحسن بشكل ملفت للنظر. كانت تتبعه أينما ذهب، وتنظر إليه بنظرات غامضة أثارت شكوكنا. في البداية، خفنا أن تكون لديها نوايا سيئة، ربما خاطفة أو مجرمة تخطط لإيذاء الأطفال. عندما قرر خالد مواجهتها، انهارت منى واعترفت بكل شيء. قالت لنا إن حسن هو ابنها الذي أنجبته سرًا في ظروف صعبة، وإنها تركته في إحدى الدور، التي بدورها أوصلته إلى الدار التي كفلناه منها. وأضافت أنها كانت تتبعه بصمت منذ ذلك الوقت، دون أن تفصح عن هويتها الحقيقية له، حتى أنها لم تستطع في النهاية مقاومة شوقها إليه، مما دفعها للتقدم للوظيفة لتظل قريبة منه وتحت عينيها. كانت هذه الصدمة غير متوقعة، لكن خالد، الذي كان يشك في كلامها، أصر على التأكد عبر تحليل DNA. جاءت النتائج لتؤكد صدق منى؛ حسن كان ابنها بالفعل. في البداية، طلبت منا منى فقط أن نسمح لها بالبقاء قريبة من ابنها دون أن يعرف هويتها الحقيقية، مؤكدة أنها لن تطالب بأي شيء آخر. ولكن مع مرور الوقت، لم تستطع قلب الأم مقاومة الرغبة في مصارحة حسن بالحقيقة. كان الأمر معقدًا للغاية. حسن كان يكبر، وشخصيته العنيدة وصعبة المراس جعلت من مصارحته بأصله أمرًا محفوفًا بالمخاطر. لذلك، طلب خالد من منى التريث حتى يحين الوقت المناسب الذي يصبح فيه حسن قادرًا على استيعاب الحقيقة. لكنني أخشى أنه، حتى مع مرور الوقت، سيظل الأمر صعبًا على حبيبي حسن. معرفة الحقيقة في هذا العمر، مع كل ما حمله من أعباء نفسية، ستكون صدمة كبيرة قد تقلب حياته رأساً على عقب.

علقت أنيسة بصوت حزين:

"ولكنه في النهاية حق لكلٍ من الأم والولد، وضميرنا لا يعطينا الحق بإنكار هذا الحق أو فصل الأم عن طفلها، خاصة وهي تطالب به بشدة. لا يمكننا الاستمرار في تجاهل هذه الحقيقة إلى الأبد".

نظرت أنيسة إلى سالي بعينين يملؤهما الرجاء، وصوتها يتهدج بشعور من الخوف والقلق:

"أرجوكِ يا سالي، لو حدث شيء لي وظهرت الحقيقة بعد ذلك، ساعدي خالد في حل تلك المشكلة، ولا تتخلي عن حسن. كوني بجواره، أنا أعلم أنكما مقربان، وأرى أنه يثق بكِ كثيرًا. هذا الفتى يحمل بداخله عالمًا من الأفكار والمشاعر المخفية، وأخشى أن يضل طريقه. لا تتركيه وحده، خاصة مع أفكاره".

كانت سالي مصدومة من هذا السر الذي ألقي عليها فجأة. للحظة، شعرت أن الوقت توقف، وعادت بذاكرتها إلى ذلك اليوم الذي شاهدت فيه المشهد من نافذة غرفتها؛ حسن وهو يرفع صوته بغضب على السيدة منى، موجهًا إليها إهانة قاسية، بينما هي تحاول أن تسيطر على دموعها بصعوبة.

حينها، لم تستطع سالي أن تفهم لماذا همست منى بكلمات بالكاد تسمعها: 'أنت ابني..'. ومنذ ذلك الحين، وهي تشعر أن هناك سرًا كبيرًا يربط بين منى وحسن، لكن لم يخطر ببالها أبدًا أن يكون السر بهذه الجسامة.

صفت سالي حنجرتها، ثم وضعت يدها بحنان على يد أنيسة، ونظرت إليها بثبات وقالت أخيرًا بصوت مفعم بالعاطفة:

"إنه سر خطير بالفعل، ولكن لا تقلقي يا سيدتي، سأنفذ أمنيتك، وأعدك بأنني لن أترك حسن وحده. ولكن يجب أن تتأكدي أنه أقوى بكثير مما تتصورين، فلديه إرادة صلبة، وبالتأكيد سيجد طريقه لتجاوز أي صدمة. ومع ذلك، سأكون بجواره دائمًا، وسأدعمه حتى أتأكد أنه في أفضل حالاته.

أما بالنسبة للأطفال، فأنا لن أترك هذا المنزل إلا بعدما أكون قد قمت بواجبي معهم على أكمل وجه. هناك الكثير من الأفكار التي أريد استكشافها معهم، والكثير من الأوقات التي أرغب في مشاركتها معهم. هؤلاء الأولاد مختلفون عن أي أطفال قابلتهم في حياتي، وكنت دائمًا أتساءل عن السبب. واليوم، بعد أن استمعت إلى قصتك، أدركت السر.

لقد كانوا محظوظين لأنك كنت أمًا عظيمة لهم. هذا ما جعلهم مميزين. وربما لن يدركوا ذلك الآن، لكنهم بلا شك سيفهمونه عندما يكبرون، وعليهم أن يكونوا ممتنين لكل ما قدمته لهم. سيدتي لقد صنعت عائلة استثنائية ومختلفة عن أية عائلة أخرى، أنا حقاً ممتنة لأنني تعرفت عليكم جميعاً".

ضاقت عيون أنيسة بابتسامة دافئة ومال رأسها قليلاً وهي تهمس برفق:

"أنتِ حقاً طيبة القلب، يا ابنتي. كلامك هذا يجعلني أثق بكِ وبقراراتك مهما كانت، وأعلم أنني أثقل عليك كثيراً، لكني بحاجة إليك بشدة".

أجابت سالي بصراحة ممزوجة ببعض التردد:

"بصراحة، أحياناً أشعر بالخوف من أنني قد لا أكون على قدر المسؤولية التي ترينها فيّ. لكن.. أريد حقاً أن أخوض هذه التجربة، مهما كانت التحديات".

ضحكت أنيسة بهدوء وقالت بنبرة واثقة:

"لو لم تكوني على قدرها، لما وضعتُ كل هذه الثقة فيك. أنا امرأة عجوز، ولي خبرة طويلة في الناس، وأنت عملة نادرة يا حبيبتي".

غمزت أنيسة بخفة، مما جعل سالي تبتسم وهي تقول بأمل:

"أتمنى أن أكون عند حسن ظنك".

"أنت كذلك بالفعل".

همست أنيسة ومدّت يديها وضمت سالي إلى صدرها، وكان جسدها الضعيف يرتعش قليلاً من الإرهاق. شعرت سالي بذلك، فابتعدت برفق وقالت بابتسامة دافئة:

"من الواضح أنك متعبة، يجب ترتاحي الآن. مستر خالد على وشك الوصول، وأنا أخاف أن يخفض راتبي لأنني أتعبك كثيراً!"

انطلقت ضحكة خفيفة بينهما قبل أن تجيب أنيسة بعاطفة مختلطة بالحزن:

"لا أريدك أن تحزني من كلامه، خالد أنقى رجل قد تقابلينه في حياتك. هو فقط مثقل بما حدث، والمسؤولية التي يحملها على عاتقه كبيرة جداً".

أحست سالي بتسارع ضربات قلبها، لكنها تجاهلت هذا الشعور سريعاً وقالت بجدية:

"أنا أمزح، صدقيني. لست مستاءة منه على الإطلاق. أنا أقدر موقفه تماماً وأحاول فهم ما يعانيه".

طمأنت سالي أنيسة التي نظرت إليها بحب وقالت بامتنان:

"أشكركِ لتفهمك يا سالي".

ساعدت سالي المرأة العجوز على الاستلقاء برفق، ووضعت الوسائد بعناية تحت رأسها لتشعر بالراحة. لكنها لم تستطع الهروب من دوامة الأفكار التي اجتاحت عقلها، ولا من الثقل الذي شعرت به في قلبها. مشاعر غامضة اجتاحتها فجأة، لم تفهم مصدرها، لكنها لم تستطع تجاهلها.

قطع شرودها دخول الممرضة لتفقد حالة أنيسة. أنهت الممرضة عملها سريعاً وغادرت، تاركة الغرفة في هدوء مهيب. كانت أنيسة تحدق في السقف، وعيناها تسبحان في الأفق البعيد، وكأنها تبحث عن شيء لا تراه سوى هي.

نظرت إلى سالي التي كانت تمسك بهاتفها محاولة إغلاق الموسيقى التي ملأت الجو بشجن خافت، فابتسمت بتعب وقالت بصوت واهن وهي تحاول جاهدة إدخال الهواء إلى رئتيها:

"لا تغلقيه.. كرريها من فضلك".

أومأت سالي برأسها بهدوء ونفذت طلب أنيسة، أعادت تشغيل الأغنية ووضعت هاتفها بجانب المرأة التي أغمضت عينيها وغرقت في ألحان المقدمة الموسيقية الطويلة. توجهت سالي إلى الأريكة وجلست تحتضن ساقيها، ظهرها موجه لأنيسة، بينما استسلمت للألحان التي تسللت إلى أعماقها. كانت تهز قدميها بخفة مع الإيقاع، وانجرفت في فخ تلك الموسيقى التي عزفت على أوتار شجنها. أغمضت عينيها، ورأسها يتمايل بخفة مع الأنغام، بينما تبحث بلا جدوى عن إجابة لتساؤلاتها ومشاعرها المشتتة.

سرعان ما اجتاحتها الذكريات، وعادت إلى تلك الليالي التي كانت تنام فيها بمفردها مع شقيقتها دون والدتهما. تذكرت بوضوح طفلةً تبلغ من العمر ثمان سنوات، تبكي بصمت في سريرها بعد توبيخ جدها لها بسبب خطأ ارتكبته، بينما شقيقتها الصغيرة تنام بسلام بجانبها. ثم عادت صورتها وهي تودع جدها، ذاك الرجل الذي كان مشجعها الأول. استحضرت صوته المرهق وتأوهاته من الألم وهو يواجه نهايته. أخفضت رأسها أكثر، ثم تذكرت أنيسة التي تجلس خلفها مباشرة، بوهن واضح على سرير المرض، وحكاية الحب الحزينة التي شاركتها معها. تنفست بعمق، محاوِلة استجماع شتات قلبها الذي ينبض بخفة غريبة، وهي تستعيد وجه خالد الذي شغل بالها مؤخراً.

قطعت أم كلثوم أفكارها فجأة، حين بدأت تغني بإلحاح العاشق، ليملأ صوتها الأجواء:

ياما قلوب هايمه حواليك.. تتمنى تسعد يوم برضاك.

وانا اللي قلبي ملك ايديك.. تنعم وتحرم زي هواك.

الليل عليّ طال.. بين السهر والنوح.

واسمع لوم العذّال.. اضحك وانا المجروح

تجمعت الدموع في عينيها، وحاولت مسحها بسرعة بظهر يدها، ولكن أم كلثوم أبت أن تعطيها تلك الفرصة وأكملت:

وعمري ما اشكي من حبك.. مهما غرامك لوعني.

لكن أغير من اللي يحبك.. ويصون هواك أكتر مني.

بكت بصمت، ودموعها تنساب على وجنتيها دون أن تثير انتباه أنيسة، التي ظلت غارقة بابتسامتها الشاحبة في عالم آخر من الذكريات والموسيقى. شعرت وكأن قلبها المثقل بالألم والشجن يكاد ينفجر تحت وطأة المشاعر المتزاحمة التي اجتاحت كيانها بلا رحمة.

تجري دموعي وأنت هاجرني.. ولا ناسيني ولا فاكرني.

وعمري ما اشكي من حبك.. مهما غرامك لوعني.

لكن أغير من اللي يحبك.. ويصون هواك أكتر مني.

استسلمت أخيراً للتعب، ونامت بهدوء شديد، وكأن النوم كان مهرباً أخيراً من كل ما يختلج بداخلها.

***


دخل خالد إلى الغرفة بهدوء، حيث خيمت الأضواء الخافتة وأضفت سكينة على المكان. تقدم بخطوات رصينة نحو سرير والدته، فوجدها تغط في نوم عميق، وعلى وجهها ابتسامة هادئة رغم علامات التعب والشحوب التي خطها المرض. تلك الابتسامة أضفت على ملامحها لمسة من العذوبة التي أراحت قلبه. مد يده بلطف ومسح على شعرها الأبيض الذي بدا باهتاً. ثم التفت، ووقعت عيناه على سالي التي كانت تجلس على الأريكة، تحتضن ساقيها وتغرق في نوم عميق. لاحظ خالد أثر التعب على ملامحها. تقدم نحوها ليوقظها، لكن حين اقترب، لمح آثار الدموع الجافة التي خطت مساراتها على وجنتيها. تأمل وجهها بصمت، وكأن الوقت توقف للحظات. رفع يده بحذر، لكنه تردد للحظة، ثم شد قبضته وسحبها سريعاً، وكأنه يقمع شعوراً عابرًا. أخيراً، ناداها بصوته الرخيم المنخفض:

"آنسة سالي..".

سمعت سالي الصوت المألوف يناديها من بعيد، فرمشت بعينيها وفتحتها بحيرة، لترى خالد يقف أمامها. عدلت وضعيتها بسرعة، أنزلت قدميها على الأرض، ومسحت وجهها بكفها وهي تسأل:

"مستر خالد، كم الساعة الآن؟". نظر خالد إلى ساعته ثم أجاب:

"الساعة التاسعة".  ثم أكمل هامساً:

"أعتذر على إيقاظك لكن الوقت تأخر ويجب أن تذهبي إلى المنزل".

نظرت سالي حولها ثم بدأت تجمع حاجاتها وقالت متمتة بهدوء ومتجنبة النظر المباشر إليه:

"لا بأس، أنا مستعدة للذهاب".

تأملها للحظات وهي تتحرك بعشوائية، ثم استفسر بفضول:

"كيف كان يومكم؟ هل واجهتي مشاكل؟".

نظرت سالي بعيون مثقلة بالحزن نحو أنيسة وقالت بصوت خافت:

"لا جديد في علاجها، فقط تحدثنا كثيراً وقضينا وقتاً لطيفاً".

لكن آثار الدموع الجافة على وجهها كانت تقول عكس ذلك، فعلق خالد بنبرة هادئة:

"أرى أنك مرهقة بعد هذا اليوم الطويل وتحتاجين إلى الراحة. محمود ينتظرك في السيارة، سيأخذك إلى المنزل، وأنا سأبقى هنا".

أكمل بعد لحظات:

"أشكرك على تعبك اليوم".

تمتمت وهي تتجنب النظر إليه:

"دعمي للسيدة أنيسة ليس شيئًا يستحق الشكر". نظرت إليه نظرة جانبية وأكملت:

"كما أن هذا عملي الذي اتلقى عليه راتبي كما هو اتفاقنا".

قالتها متعمدة وهي تختم كلامها ببطء. رأت اهتزاز عينيه للحظة ولاحظت الإرهاق الذي كان واضحاً على ملامحه؛ الهالات الداكنة تحت عينيه كانت أعمق من المعتاد، ورغم ذلك بدا مرتباً وكأنه مرّ على المنزل قبل أن يأتي. أبعدت خصلات شعرها بهدوء خلف أذنيها وقالت وهي تنظر للأرض:

"إذاً، أراك غداً".

وقفت بخفة واتجهت لتتفقد أنيسة، التي كانت تنام بهدوء ووظائفها الحيوية مستقرة نسبياً. التقطت هاتفها الموضوع بجوار أنيسة وفتحته، لتجد الأغنية التي انتهت منذ فترة. أغمضت عينيها للحظة وضيقت نظرتها نحو أنيسة بحزن، ثم لفت الشال حول جسدها واتجهت نحو الباب.

ألقت نظرة أخيرة على المرأة النائمة، ثم على خالد الذي كان يراقب حركاتها بصمت، عينيه تضيقان بغموض. شعرت بالتوتر وهي تقول قبل أن تغادر:

"إلى اللقاء".

أومأ برأسه بصمت، وخرجت هي وقدميها تكادان ترفضان المغادرة. مرّت على الممرضات في المستشفى، قدمت لهن تعليمات سريعة تخص راحة أنيسة، دون أن تتجاوز أوامر الطبيب المعالج الذي لم يكن موجوداً حينها.

اتجهت نحو السلالم، تنزل بخطوات بطيئة، لكن صوتًا مألوفًا أوقفها فجأة:

"دكتورة، من فضلك انتظري".

توقفت سالي تلقائيًا، والتفتت لترى خالد يقف خلفها، ملامحه مشحونة بمزيج من التردد والارتباك. عقدت حاجبيها باستغراب وسألته:

"نعم، مستر خالد، هل هناك شيء آخر تحتاجه؟".

بدا عليه التردد وكأنه يبحث عن الكلمات المناسبة، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه وقال بصوت يحمل نبرة اهتمام:

"أتمنى ألا أكون قد أثقلت عليكِ بالمسؤولية. أرجوكِ، إذا شعرتِ أنكِ مضغوطة أو مجبرة على أي شيء، أخبريني فورًا. لا أريد أن أكون سببًا في وضعك تحت ضغط، أو إلزامك بمهمة لا تقع ضمن نطاق عملك".

كانت كلماته غير متوقعة، تنضح بشيء خفي لم تفهمه سالي. ذكّرها أسلوبه اللطيف الآن ببروده الواضح في حديثهما بالأمس، وهو ما دفعها للبكاء حينها. شعرت بالتردد للحظة، لكنها سرعان ما أخذت نفسًا عميقًا وأجابت بثبات:

"أنت لم تثقلني بالمسؤولية، كما أنني لست مجبرة على فعل ما لا أريد. ولو شعرتُ بعدم الراحة لرفضتُ طلبك من البداية. وكما أوضحتُ سابقًا، أنا أقدر الست أنيسة كثيرًا، وأشعر بالامتنان لأنها منحتني فرصة الوقوف بجانبها في هذا الوقت الصعب">

كان ردها هادئًا لكنه حمل نبرة صارمة، جعلت خالد ينظر إليها بصمت للحظة، قبل أن يجيب بابتسامة خفيفة امتزجت بشيء من الحسرة:

"أنا سعيد لسماع ذلك، لكن أردت فقط أن أؤكد لكِ أن لكِ كل الحرية في التراجع عن هذه المسؤولية متى شئتِ".

رفعت سالي رأسها بثقة، وقالت بإصرار:

"لن أتخلى عنها في مثل هذا الوقت. هذا وعد قطعته ولن أخلفه".

كانت ملامح التعب البادية على وجه خالد تزداد وضوحًا، وفجأة أطلق زفيرًا ثقيلًا وقال بصوت منخفض:

"شكرًا على مشاعرك الصادقة... بخصوص حديثنا بالأمس..."

توقف للحظة، وكأن الكلمات تخونه أو التردد يثقل عليه. مسح على شعره بإرهاق، ثم تابع متنهدًا:

"أريد أن أعتذر منكِ إذا كان أسلوبي قد أزعجك. أتمنى أن تقبلي اعتذاري".

تفاجأت سالي باعتذاره غير المتوقع. للحظات، وجدت نفسها عاجزة عن الرد، لكنها سرعان ما استعادت هدوءها وقالت باختصار:

"لا داعي للاعتذار، وأتمنى ألا تقف عند هذا الموقف كثيراً".

بالفعل كانت سالي تشعر بالضيق من اسلوبه، ولو كان الوقت مناسبًا لعاتبته على أسلوبه البارد معها، لفعلت ذلك دون تردد. لكنها لم ترغب في تعقيد الأمور أكثر مما هي عليه، فالظروف الراهنة لا تتيح لها التركيز على مشاعرها الشخصية تجاه خالد. كان عليها أن تصب كامل اهتمامها على مرض أنيسة، وعلى مصلحة الأطفال الذين يعانون من ضغوط نفسية شديدة بسبب تدهور صحة والدتهم والتغيرات المفاجئة التي ألقت بظلالها الثقيلة على المنزل.

نظر خالد إلى وجهها بتمعن، وكأنه يحاول أن يقرأ ما وراء كلماتها، مما زاد من شعورها بالاستغراب. أخيرًا قال بصوت منخفض، يحمل شكًا:

"هل أنتِ متأكدة؟ أقصد.. أنني أرى شيئًا آخر".

مال رأسها بتردد، كأنها تحاول فك لغز إصراره الذي بدأ يربكها:

"نعم، أنا متأكدة تمامًا. لا داعي لقلقك. أقدر جيدًا موقفك ورغبتك في السيطرة على الأمور في هذا الوقت الحرج".

لكن خالد أصر مجددًا:

"ولكن..".

قاطعته، صوتها منخفض لكنه قاطع:

"أرجوك، كفى".

خفضت وجهها بينما الحزن أخذ يكسو ملامحها. تابعت بنبرة هادئة، مشوبة بالألم:

"ليس هناك داعٍ للحديث عن هذا الموضوع مجددًا. هناك أمور أكثر أهمية الآن، أمور تستحق اهتمامنا".

صمتت للحظة، ثم رفعت عينيها، تحمل نظرة حزينة وهمست:

"من فضلك، سأذهب الآن. لا أريد التأخر على مستر محمود".

شعر خالد للحظة بالعجز عن مقاومة رجائها الحزين، وكأن كلماته فقدت ثقلها أمام نظرتها. تحركت شفتيه ببطء وقال رغماً عنه:

"أراكِ غدًا".

تابعها وهي تبتعد عنه بإصرار، وأدرك في تلك اللحظة أنه فشل في كبح مشاعره المضطربة. تلك المشاعر التي لم تعرف الاستقرار منذ ذلك اليوم الذي أدرك فيه أن أمه تلفظ أنفاسها الأخيرة. كان الأمر أشبه بغريق يتخبط في المياه، عاجز عن العثور على سبيل للنجاة، والآن يشعر وكأنه يخذل نفسه الغارقة. مسح وجهه بيأس والتفت متجهاً إلى الغرفة حيث تستلقي أمه على فراش المرض.

سارت سالي في ممرات المستشفى، وهي تغرق في دوامة من التخبط واليأس. عندما مرت بجوار الزجاج العريض للباب الخارجي، استدارت دون وعي، وتوقفت فجأة. اقتربت من الزجاج الذي انعكس عليه وجهها بوضوح، فرأت آثار الدموع الجافة على وجنتيها. رفعت يدها ببطء لتمسح بقايا تلك الدموع، بينما تساؤل مؤلم يتردد في ذهنها: هل لاحظ خالد ما يكفي ليشفق عليها؟ هل أصبحت مثيرة للشفقة إلى هذه الدرجة؟

لكن قبل أن تجد الإجابة، انهمرت دموع جديدة، تحمل في طياتها اعترافًا مباغتًا بمشاعر لم تعِها من قبل. ربما، فقط الآن، بدأت تفهم حقيقة تلك المشاعر التي تجتاح قلبها.


نهاية الفصل الخامس والثلاثون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

أهلاً أعزائي القراء..

شكراً على صبركم

كاتبتكم ءَالَآء

سؤال الفصل: توقاعتكم للأحداث الجاية؟

***

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.


الاثنين، 20 يناير 2025

رواية المنزل: الفصل الرابع والثلاثون: حكاية أنيسة الجزء الرابع - ءَالَآء طارق

رواية المنزل: الفصل السابع والعشرون - ءَالَآء طارق

رواية المنزل

 ءَالَآء طارق

الفصل الرابع والثلاثون

المزيكا انهاردة المقدمة الموسيقية من أغنية انت الحب الحان الموسيقار محمد عبد الوهاب. وكلمات شاعري المفضل أحمد رامي رحمة الله عليهم جميعاً.

الأغنية دي بتوصف مشاعر الشجن في حكاية أنيسة الحزينة. اتمنى تستمتعوا.

"حكاية أنيسة" الجزء الرابع.

نظرت أنيسة إلى سالي بابتسامة دافئة وقالت:

"هل تعلمين كم هو لطيف أن تستمعي إلى الموسيقى مع شخص تحبينه؟".

ثم رفعت عينيها إلى السقف وتنهدت قليلاً، قبل أن تضيف بابتسامة مليئة بالتأمل:

"أنا وكمال كنا نتشارك الاستماع إلى الموسيقى في كل مرة كان يزورني فيها. نتناقش حول صوت المطرب، كلمات الأغنية، وألحانها، وأحيانًا نتعارك بسبب آرائنا".

ضحكت بلطف وأكملت:

"يالها من ذكريات!".

التفتت أنيسة إلى سالي وقالت:

"ما رأيك أن نستمع معًا إلى أغنية؟ بما أنني أحبك كما لو كنت ابنتي".

أمسكت سالي بهاتفها وسألت برقة:

"ما الذي تفضلين سماعه؟"

قالت أنيسة بتفكير:

"ممم، ربما نستمع معًا إلى أم كلثوم، اعذريني فهي مفضلتي".

سألت سالي:

"أنت الحب؟".

تفاجأت أنيسة قليلاً، ثم ابتسمت إبتسامة مشرقة وقالت:

"أنت الحب".

وبدأت الموسيقى تتصاعد من هاتف سالي الذي وضعته بالقرب من أنيسة، بعد أن خفضت الصوت قليلاً لتتيح للمرأة فرصة إكمال حديثها كما تشاء. وبعد دقائق من الاستماع إلى مقدمة الأغنية، بدأت أنيسة تسترجع باقي قصتها.

في صباح اليوم التالي، بعد أن رحلت سرًا في الليل من منزل جدي لأبي إلى منزل جدي لأمي، وصلتني رسالة قاسية وواضحة، حملها أحد الخدم الذين أرسلهم جدي:

[لا تعودي إلى هنا مرة أخرى. لم يعد لديك جدٌّ اسمه أنور أو أخٌ اسمه أسعد].

كنت على يقين أن هذا سيكون رد فعل جدي بعد هروبي، لكن عندما سمعت الرسالة، شعرت للحظة أنني قد ارتكبت خطأً كبيرًا بقراري الرحيل.

توقفت أنيسة عن الكلام فجأة، وبدت علامات الندم واضحة على وجهها، قبل أن تضيف:

"حتى الآن، لا أعلم إن كان تصرّفي الجريء بالهروب من منزل جدي تصرّفًا صحيحًا أم لا. نحن البشر نختار في لحظات ما نظنّه صوابًا، وقد اخترتُ ما رأيته صوابًا في تلك اللحظة. ولكن كان هروبي من بيت جدي مدمّرًا له؛ فقد علمتُ فيما بعد من إحدى الخادمات أنه كان منهارًا، رغم ما يظهره من قوة وتسلّط. لقد كان جدي إنسانًا في نهاية الأمر، وهروبي بالتأكيد كسره؛ فأنا حفيدته المحبوبة، وما فعلته يُعدّ إنكارًا لفضله عليّ".

نظرت أنيسة إلى سالي بحسرة وأضافت

"أعلم أنني كسرتُ قلبه، وهذا ما يؤلم قلبي حتى اليوم. ولكن، ماذا لو كان جدي أكثر رحمة بمشاعري؟ ماذا لو كان مرنًا ومتفهّمًا لتلك العواطف التي وُلدت في قلبي لأول مرة تجاه ذلك الشاب الذي كان حبي الأول؟ ماذا لو تركني أخوض التجربة وساندني؟ لكنه حوّل حبي لكمال إلى حرب لفرض رأيه. ولم تكن شخصيتي ضعيفة لأتقبّل تسلّطه وكبرياءه؛ فأنا إنسانة أفكّر بعقلي وأحكم على الأمور من خلال خبرتي التي كان جدي يراها قليلة".

تنهدت أنيسة وعلّقت:

"ربما كنا نحن الاثنين مخطئين في تصرّفاتنا؛ وهذا ما توصلتُ إليه بعد تلك السنين".

تأملت سالي ملامح التشتت والحيرة التي ارتسمت على وجه أنيسة. فمازالت عيونها الحزينة المشتتة تحمل تساؤلات لم تجد عليها إجابة شافية رغم مرور تلك السنين الطويلة.

حتى سالي نفسها، التي جلست تستمع إلى القصة الطويلة بكل اهتمام، لم تجد في داخلها تعليقًا أو حكمًا واضحًا على تصرف أنيسة. فهي لم تكن في موقفها، ولم تعش مشاعرها التي حملتها تجاه كمال أو عائلتها. ولهذا آثرت أن تلتزم موقعها كمستمع، دون أن تحاول وضع نفسها في موقع الحكم. فهذا لم يكن حقًا تدعيه، خصوصًا أمام تجربة شخصية وعواطف بهذا التعقيد والتشابك.

أفاقت أخيرًا من دوامة أفكارها، وعادت تُنصت باهتمام إلى بقية الحكاية.

على الرغم من أن تصرّفي فتح الطريق المسدود بيني وبين كمال، إلا أنني فوجئت بتأنيبه الشديد لي على هروبي. وصف قراري بالأحمق وغير المتزن، وطلب مني بوضوح أن أعود إلى منزل جدي فورًا. لكنني رفضت بشدة، مما أدى إلى خلاف حاد بيننا. ومع ذلك، هدأ كمال لاحقًا وطلب مني، بأسلوب أكثر هدوءًا، أن أمنح نفسي فرصة أخرى، وأن أحاول العودة إلى منزل جدي ومصالحته.

استجبت لنصيحته وحاولت بالفعل. أرسلت رسائل إلى جدي أطلب فيها الصفح وأسترضيه، لكن لم يصلني أي رد. حتى أخي أسعد تبنّى نفس موقف جدي، ولم يبدِ أي تجاوب. كنت أبحث عن أي إشارة تطمئنني وتشجعني على العودة، لكن كانت الإجابة دائماً لا رد.

وذات يوم، سمعت أنباء عن زواج أخي. لم أكن أصدق ما سمعت؛ أخي العزيز تزوّج دون أن يدعوني لحضور حفل زفافه. كنت مصدومة، وامتزج حزني بسخطي عليهم. شعرت بالخيانة والخذلان، ورفضت بشكل قاطع أي محاولة من كمال للحديث عنهم مرة أخرى. وكان كمال متفهّمًا لحزني العميق وواساني بعاطفته الصادقة. وفي ذلك اليوم، عرض عليَّ أن نعلن خطبتنا في أقرب وقت، ليكون ذلك بداية جديدة تمحو آلام السنين الماضية. لم أتردد في الموافقة، وتمت خطبتنا بالفعل بحضور عائلته وعائلة أمي.

في اللحظة التي وضع فيها كمال خاتم الخطبة في إصبعي، شعرت وكأنني أطير من الفرح. كانت تلك اللحظة التي طالما حلمت بها وانتظرتها لسنوات طويلة، لحظة غمرتني بالسعادة وبدت وكأنها تعوّض كل ما مررت به من ألم وعناء. لكن، وللأسف، لم تكن فرحتي مكتملة. كان غياب جدي وأخي عن هذه المناسبة المهمة كالجرح الذي لم يلتئم، حضورهم كان سيمنح تلك اللحظة الكمال الذي افتقدته.

 كان غياب جدي وأخي عن هذه المناسبة المهمة كالجرح الذي لم يلتئم، حضورهم كان سيمنح تلك اللحظة الكمال الذي افتقدته

ومرت الأيام وأنا أستعد لفرحتي المنتظرة، محاطة بدعم جدودي الذين كانوا يشاركونني كل التفاصيل بحب واهتمام. خلال تلك الفترة، حصل كمال على ترقيته من نقيب إلى رائد، مما زاد من حجم مسؤولياته بشكل كبير. أصبح غيابه عني أمرًا مألوفًا؛ كنا بالكاد نلتقي أيامًا معدودة في الشهر، وأحيانًا حتى في تلك الأيام لم نتمكن من رؤية بعضنا. كان وقته موزعًا بين مهامه العسكرية في حرب الاستنزاف، وأسرته في قريته، والإسكندرية حيث أعيش.

وفي عام 1973، حدّد كمال موعد زفافنا في شهر نوفمبر، وأصرّ على ذلك بشدة. إصراره كان غريبًا وأثار شكوكي للحظة، لكنني وافقت في نهاية الأمر، وبداخلي تمنيت أن يكون الموعد أقرب، فأنا لم أكن أرغب في المزيد من الانتظار، لكنني أقنعت نفسي أن الأهم هو أن يأتي ذلك اليوم، مهما طال الوقت.

في تلك الفترة، كانت حرب الاستنزاف تشتد ضراوتها بيننا وبين العدو، وكنت أعلم جيدًا أن كمال يشارك فيها بشكل مباشر. ومع ذلك، لم يتطرق أبدًا للحديث عن أي تفاصيل تخص عمله الحساس، وأنا احترمت ذلك. أو ربما، بمعنى أدق، كنت أهرب من سماع أي شيء يتعلق بعمله، لأنني كنت أدرك تمامًا أن كمال دائمًا ما يواجه خطر الموت.

كنت أبتعد عن متابعة الأخبار والجرائد التي تسرد أخبار استشهاد الضباط والجنود في عمليات المقاومة. كان مجرد التفكير في احتمال رؤية اسمه أو صورته بين تلك الصفحات أمرًا يفوق قدرتي على الاحتمال. ولم تكن ذكريات اعتقاله خلال النكسة تغيب عن ذهني، بل كانت تطاردني يوميًا ككابوس يقض مضجعي ويزيد من خوفي وقلقي عليه.

في كل مرة كنت ألتقي بكمال، كان يقول لي بأمل: 'هانت يا أنيسة'. كان ينطقها بعيون تشتعل حماسًا وجرأة، وكأنه يتوقع أن الغد قريب جدًا، ثم يذهب ويعود ليكرر نفس الجملة، وهكذا استمرت الأيام والشهور حتى جاء شهر سبتمبر.

ذهبنا معًا لنتفقد شقتنا التي كنا سنعيش فيها معًا، تلك الشقة التي جمعنا فيها كل قطعة بحب، تفقدناها ونحن نطّلع إلى اليوم الذي سيجمعنا فيها. كان كلانا متحمسًا بشدة، وكان الحماس الذي يتقد في عيونه يوحي لي بأن المستقبل سيكون أفضل. ولكن في قلبي كانت هناك غصة لا أدري من أين ولدت، فها نحن نعيش أسعد أيامنا، وكلانا متحمس وسعيد، فلماذا تعاودني تلك الغصة من لحظة إلى أخرى؟

حاولت أن أزيح تلك الغصة جانبًا وأركز على سعادتنا في تلك اللحظة. قضينا إجازته مستمتعين بالأجواء الصيفية اللطيفة، وأمام ذلك البحر الذي شهد مولد قصة حبنا. كنا نعيش اللحظة بكل تفاصيلها، وقطعنا وعودًا جميلة، وعودًا كانت تحمل أحلامنا المشتركة. ومن بين تلك الوعود، تعاهدنا أنه عندما ينعم الله علينا بالمال، سنشتري بيتًا صغيرًا بحديقة نزرعها بالورود الجميلة. فقد كان كمال يعشق الورود، وهذا العشق هو ما دفعني فيما بعد لإنشاء دفيئتي، التي أصبحت ذكرى حية لحبه الذي لم يغب عني يومًا.

وجاء يوم الرحيل أخيرًا، وكان ذلك اليوم مختلفًا تمامًا. شعرت من تصرفات كمال وكلماته أنه الوداع الأخير. كان كمال هذه المرة مختلفًا عن كل المرات السابقة، فقد ودعني بحرارة غير معهودة، وفي عينيه بريق غريب، بريق جعلني أشك للحظة، لا.. بل جعلني متأكدة مما هو قادم. في تلك اللحظة، ودعته وأنا واعية تمامًا، وربما متأكدة، أنني قد لا أراه مرة أخرى. كان ذلك الإحساس ينبع من أعماق قلبي، وكان هذا هو الفرق بين تلك المرة وكل ما سبقها — كنت أتوقع ما سيحدث، أو على الأقل كنت أخشاه. ورغم هذا الإحساس الخطير الذي غمرني، لم أظهر شيئًا. ودعته بأجمل ابتسامة أستطيع رسمها على وجهي. تأملته وقتها كما لو كنت أحاول حفر ملامحه في ذاكرتي للأبد، تلك الملامح التي لم تُمحَ أبدًا من ذهني، ولا من قلبي، طوال حياتي.

حاولت بعد رحيله وبطبيعة الإنسان في التغاضي والنسيان أن أطمئن قلبي وأمحو منه تلك التنبؤات المزعجة التي ظلت تطاردني. كنت أحاول إقناع نفسي أن ما شعرت به مجرد وهم، وأنه سيعود كما كان دائمًا، بابتسامته الواسعة وكلماته الدافئة.

إلى أن جاء يوم السبت، 6 أكتوبر، ذلك اليوم الذي لو حاولت نسيانه، تأتي الاحتفالات في ذكراه كل عام تذكرني بكل تفاصيله.

كنت في غرفتي في الساعة الثانية والربع بعد الظهر، منشغلة بأفكاري، حين سمعت جدي يصيح بجانب الراديو بصوت مفعم بالحماس والانتصار:

"لقد عبرنا، عبرنا القناة! حطمنا خط بارليف!".

التففنا جميعاً حول الراديو ونحن نسمع بيان العبور الأول، الذي بدأ فيه الجيش المصري بتنفيذ عملية العبور التاريخية لقناة السويس وتحطيم خط بارليف.

[نجحت قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس على طول المواجهة، وتم الاستيلاء على منطقة الشاطئ الشرقي للقناة، وتواصل قواتنا حاليًّا قتالها مع العدو بنجاح. كما قامت قواتنا البحرية بحماية الجانب الأيسر لقواتنا على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وقد قامت بضرب الأهداف الهامة للعدو على الساحل الشمالي لسيناء، وإصابتها إصابات مباشرة].

فور سماع البيان، خرج الناس إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة تدعم للجيش وتهلل بالإنجاز التاريخي. وتجمعوا أمام أجهزة الراديو والتلفزيون للاستماع إلى البيانات العسكرية ومشاهدة الأخبار العاجلة التي تصل من أرض الميدان. في ذلك اليوم.. اختلطت المشاعر بين الفرح والأمل في تحرير الأراضي المحتلة. وانتشرت الأغاني الوطنية التي ألهبت المشاعر. كانت حالة هائلة من الحماس والوطنية هزت البلد بأكملها. من لم يعايش تلك اللحظات على أرض الواقع قد يصعب عليه إدراك مدى اشتعال المشاعر حينها، وكيف تحول ذلك اليوم إلى مصدر فخر واعتزاز لكل من شهده وعاش تفاصيله.

وأنا كنت سعيدة، بل في قمة السعادة بتحرير أرضنا. وهل هناك شعور يضاهي شعور استعادة الحق المسلوب؟ كانت فرحتي عارمة، وفي غمرة تلك السعادة، نسيت للحظات أن كمال كان بالتأكيد هناك، وربما في الصفوف الأمامية، وأحد الأبطال الذين صنعوا هذا النصر. وعندما تذكرت، تبددت فرحتي سريعًا لتحل محلها غصة وقلق شديد. كيف حاله الآن؟ هل أصيب؟ هل أُسر كما حدث في السابق؟ أم.. هل استُشهد؟ لكن البيانات التي كانت تصلنا من الإذاعة في الأيام الأولى من الحرب كانت مطمئنة إلى حد كبير، فقررت أن أتمسك بالأمل وأتجنب سماع الأخبار التي قد تُذكر فيها أسماء الشهداء الذين ارتقوا في عملية التحرير.

مر الأسبوع الأول من الحرب دون أن تصلنا أي أخبار عنه، لا رسالة ولا مكالمة. كان جدي يشفق عليّ ويحاول مواساتي بمتابعة الجرائد والاستماع إلى الإذاعة بانتباه، لعل هناك ما يطمئنني. مع مرور الأيام، اشتدت شراسة المعارك. أتذكر يوم 14 أكتوبر بوضوح، حين وصلت الأنباء مساءاً عن المعركة الجوية الكبرى في المنصورة، المعروفة بـ"معركة المنصورة الجوية". في ذلك اليوم، حاولت القوات الجوية الإسرائيلية تدمير القواعد الجوية الرئيسية بدلتا النيل في طنطا والمنصورة والصالحية، ولكن الطائرات المصرية تصدت لها بشجاعة. كانت الأخبار في ذلك اليوم مشجعة ومليئة بالفخر، لكنني رغم ذلك لم أستطع التخلص من كوابيسي التي لم تفارقني سواء كنت مستيقظة أو نائمة.

وهكذا، مر يوم ثقيل آخر، تبعته يومان آخران كنت أحمد الله خلالهما على انقضائهما دون أن تصلني أي أخبار سيئة. ورغم أن الأخبار كانت تصل متأخرة في أغلب الأحيان، إلا أن مرور تلك الأيام الصعبة، التي كنا نعيشها في ترقب دائم للتحديثات، كان يمنحني شعورًا بالتفاؤل وأملًا بأن الأمور ستسير على ما يرام.

في يوم 17، استيقظت وأنا أشعر بثقل في قلبي بسبب كابوس مزعج رأيته في منامي. خرجت إلى العمل، لكن اليوم كان غريبًا للغاية؛ مشاعري كانت مضطربة وثائرة، ولا أستطيع أن أصفها إلا بعدم الاستقرار. في تلك الأثناء، كانت الصحف المصرية تركز بشكل أساسي على تعزيز الروح المعنوية للمواطنين والجنود، لكنني لم أكن أستطيع التخلص من شعوري بأن هناك شيئًا مقلقًا يحدث. أمسكت بالجرائد وبدأت أتصفحها بعينين قلقتين، وفي الوقت ذاته كنت أستمع إلى الإذاعة بانتباه طوال اليوم، لكن لم يكن هناك أي جديد.

"كنت أشعر بذلك يا سالي". أكملت أنيسة وهي تتنهد بثقل:

"أحسست أن هناك خطبًا ما يتعلق بكمال، لكن الأخبار كانت تصل متأخرة دائمًا. ومع ذلك، كان إحساسي هو دليلي الوحيد في ذلك اليوم. شعرت أن روحي تحترق، لم أكن على ما يرام أبدًا، وهذا الشعور زاد من توتري وتشتيتي".

ومرت ثلاثة أيام أعاني فيهم من نوم مليء بالأرق، وفي اليوم الرابع استيقظت لأستعد للذهاب إلى العمل، وعندما خرجت من غرفتي وجدت سكوناً ثقيلاً يعم أرجاء المنزل، والفطور الذي وضعته جدتي على الطاولة كما هو لم يمسه أحد حتى جدي الذي كان يستيقظ باكراً في مثل هذا الوقت، كانت حالة المنزل الهادئ مريبة تنذر بالسوء، وعندما ههمت بمناداتهم.. انتبهت إلى همسات صادرة من غرفتهم، كانت الهمسات غير طبيعية ويقطعها تنهدات جدتي وشهقاتها وصوت جدي المواسي الذي يحاول تهدئتها برفق وهو يهمس:

 "أرجوكِ اهدئي قليلاً.. أنيسة ستسمعنا!".

أجابت جدتي بصوت مختنق، وسط شهقاتها التي لم تستطع كبحها:

"كيف أهدأ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا أستطيع التصديق! ما زال شابًا، لم يلحق حتى بزفافه! حبيبتي أنيسة.. لم تكتمل فرحتها!".

سمعت جدي يرد عليها بصرامة، يحاول السيطرة على الموقف:

"اخفضي صوتك! أنيسة قد تسمعنا".

لكن جدتي لم تتراجع، وأجابت بنبرة يملؤها الحزن واليأس:

"لا داعي لإخفاء الخبر، فأنيسة ستعرف الحقيقة مهما حاولت إخفاءها".

حاول جدي أن يتمسك بالهدوء وهو يرد:

"لن نخفيها، لكن علينا أن نتصرف بحكمة ونفكر في الطريقة المناسبة لإخبارها. لا أريد أن يصدمها الخبر دفعة واحدة، أنيسة حساسة جدًا، والمفاجأة قد تحطمها".

قالت جدتي بصوت مخنوق يتخلله الأنين:

"حبيبتي.. كان الله في عونها! ماذا ستفعل الآن؟ لقد تركت كل شيء خلفها لأجله.. كيف ستتقبل الخبر؟".

تنهد جدي بحزن عميق، وأجاب بصوت خافت لكنه ثابت:

"هذا قضاء الله، ولا اعتراض على حكمه".

ردت جدتي وهي تكرر:

"ونِعم بالله.. ونِعم بالله..".

لكنها لم تستطع أن تخفي انهيارها وهي ترددها وسط دموعها.

 في تلك اللحظة، فتحت الباب بهدوء شديد، بينما كنت قد استنتجت الحقيقة من كلماتهم المتقطعة. وقفت أمامهم، وسمعت نفسي أسأل بصوت هادئ وثابت بشكل غير متوقع، كأنني أهيئ نفسي لما سأسمعه:

"ماذا حدث؟".

انهارت جدتي على الفور بالبكاء عند رؤيتي، بينما التفت جدي مرتبكًا، يتأملني بنظرة حذرة ومضطربة.

"أنيسة.. ابنتي.. أنتِ مستيقظة؟". قالها بصوت مرتجف.

كنت أحتاج أن أسمعها. أن أزيل أي أمل زائف من عقلي. وبعد لحظات بدت وكأنها دهر، تقدم جدي نحوي، ضمني إلى صدره وهو يبكي لأول مرة أراه بهذا الشكل:

"أنيسة، البقاء لله يا ابنتي.. كمال استُشهد".

برد جسدي فوراً عند سماع تلك الجملة التي لن أنساها أبدًا بصوت جدي المتهدج، خنقت كل صوت من حولي، وجعلت أنفاسي تتوقف للحظات بدت وكأنها أبدية، باستثناء صوت الصمت ممزوجًا بالأنفاس الثقيلة لمن حولي. شعرت بأن قدمي لم تعد تقويان على حملي، فألقيت حملي على جدي الذي أمسك بي بلطف وساعدني على السير حتى جلست على أقرب كرسي.

مرت دقائق طويلة شعرت فيها بخمول يسري في حواسي التي بدت وكأنها قد تخدرت تمامًا بعد سماع الخبر. ربما كان جدي وجدتي يحاولان مواساتي بكلماتهم، لكنني لم أسمع شيئًا. كانت أذناي مغلقتين تمامًا على جملة واحدة تتردد في عقلي: كمال استشهد.

عندما بدأ الواقع يعود تدريجيًا إلى محيطي، استعدت بعض انفاسي، ورفعت نظري إليهما. كان جدي يحاول مواساتي بهدوء، بينما كانت جدتي تبكي بصمت. سألت بصوت خافت، بالكاد أتعرف عليه:

"كيف عرفتم؟ أقصد.. من أين جاءكم الخبر؟".

نظر جدي إلى جدتي للحظة، ثم التقط جريدة كانت موضوعة على السرير. رفعها بحذر وقال:

"ورد اسمه في الجريدة الرسمية، استُشهد في معركة بالقرب من الدفرسوار".

مددت يدي المرتجفة لألتقط الجريدة منه. فتحتها ببطء، وعيني تدوران على الصفحة بترقب مخيف. كان هناك عنوان رئيسي ينعي الأبطال، وبدأت عيني تبحث عن اسمه بين القائمة. كان صغيرًا جدًا مقارنة بالعنوان الكبير. ولكن بالنسبة لي، كان أكبر من كل شيء. كان ذلك الاسم.. اسمه.

الاسم الذي يعني لي كل شيء، الاسم الذي كان يمثل حياتي، مكتوب الآن بخط صغير ضمن قائمة أسماء أخرى. لم أكن أرى شيئًا سواه. والآن اسمه بات يسبقه لقب الشهيد، ليؤكد حقيقة للجميع بما فيهم أنا، وهي رحيله الأبدي.

قلبي صدق هذه المرة ونال كمال الشهادة، ولكنِ في تلك اللحظة التي وصلني فيها الخبر المؤلم، كنت غائبة، فلم أبكِ أو أنهار، بل كنت متماسكة بشكل أثار استغراب الجميع من حولي، مما جعل جدتي تطلب مني أن أبكي:

"ابكي يا أنيسة، ابكي يا ابنتي.. أخرجي ما بداخلك ولا تكتميه".

صدقًا لم أستطع، ليس لأنني لم أصدق الخبر، بل لأنني كما قلت كنت غائبة، فلم أجد الدموع التي أبكي بها، وربما كانت الدموع أقل بكثير مما كان يعتمر داخل قلبي الملكوم. وربما راودني شعور بأنه سيعود كما عاد بعد النكسة، وأن خبر استشهاده ليس إلا خطأ سيتم تصحيحه قريباً بعودته حياً سالماً، كما حدث في المرة السابقة. وربما أيضًا لأن قلبي هذا كان يشعر بما سيحدث في تلك اللحظة التي ودعت فيها كمال آخر مرة رأيته فيها، مما مهد لي تقبل الخبر ببعض الثبات. الكثير من الاحتمالات التي يمكن أن تفسر ثباتي في تلك اللحظة الصعبة.

في الحقيقة أستطيع أن أصرح الآن بعد تلك السنين أنني عندما ودعته، كنت أعلم أن حياتي معه وأحلامي لم تكونا يومًا من نصيبي في هذه الحياة. وأن زواجي منه ربما لم يُكتب لي أبدًا. لكن فاجعة الرحيل تترك الإنسان في حالة من عدم الاستيعاب لهذا التغيير الكبير الذي عليه أن يتأقلم معه لبقية حياته.

عندما اصطحبني جدي إلى قرية كمال، مسقط رأسه، لتقديم واجب العزاء لعائلته، اكتشفت قصة البطل الذي كان يدعى الرائد كمال. كان يومها يوم 17 أكتوبر، الذي شهد اشتباكات عنيفة في منطقة الدفرسوار بين القوات المصرية والجيش الإسرائيلي الذي عبر القناة في الضفة الغربية لتعزيز وجوده هناك. في هذا اليوم، اندلعت معارك ضارية بين الجانبين، حيث تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة في المعدات والأرواح بفضل مقاومة الجيش المصري الشرسة. ولكن مع الأسف، تكبد الجيش المصري أيضاً خسائر جسيمة، وكان من بين الشهداء البطل كمال الذي ضحى بحياته في تلك المعركة.

في ذلك اليوم، تقدم قريبه إليّ وسلمني رسالة مكتوبة بخط يد كمال، أوصى أن تصلني في يوم عزائه، كما أوصى بأخرى لعائلته. ولم أفتح الرسالة إلا عند رجوعي إلى منزلي، وفي غرفتي الخاصة، فقد كانت تلك الرسالة تستحضر روح كمال، وأنا رغبت أن أكون بمفردي مع روحه الحبيبة.

[الثلاثاء، 2 أكتوبر 1973

عزيزتي وحبيبتي أنيسة،

كيف حالك يا غاليتي؟

وأنتِ تقرئين هذه الرسالة، ستكون روحي قد صعدت إلى السماء. وأكون، بأمر الله، قد استشهدت، كما تمنيتُ أنا ومن هم مثلي. فتلك الرسالة تم إعدادها لتُسلم إليكِ عندما يتم التأكد من خبر استشهادي وتتم إجراءات دفني.

تلك الرسالة أكتبها الآن في يوم وداعنا الأخير، وأنا أشعر بأنها ربما تكون رسالتي الأخيرة لكِ، بل أنا متأكد من ذلك. وأتمنى أن نكون في ذلك الوقت قد حققنا الانتصار الساحق، وهزمنا العدو بأشد هزيمة. فنحن نعد لهذا النصر منذ سنوات، وها قد حانت اللحظة أخيراً.

في البداية، أود أن أؤكد لكِ مكانتك الثمينة في قلبي، وأنني لم أحب أبداً امرأة كما أحببتكِ أنتِ. كنتِ طوال تلك السنين مؤنستي الغالية التي حلمت دائماً بمستقبل مشترك بيننا، في بيت دافئ يجمعنا معاً. وأعتقد أنه لو كان مكتوباً لي النجاة في هذه الحرب، لعدت على الفور لأكمل باقي عقد قراننا في منزلنا الذي بنيناه سوياً. ولكن، هذه الرسالة التي بين يديكِ هي بالتأكيد دليل على أن النجاة لم تكن من نصيبي.

عزيزتي أنيسة، لم يكن لدي خيار في تقرير مصيري. كان هذا الواجب الذي ظل يناديني منذ النكسة، وخاصة منذ خروجي من الأسر. الواجب الذي يحتم علي أن أقوم بدوري تجاه وطني وعقيدتي، دون أن أسمح لأي تقصير أن يجعلني فيما بعد أتحسر ندماً على ما فات. ربما حكيت لكِ القليل مما حدث في الأسر، ولكن لم أستطع أن أخبركِ كيف كانت حياتي وكيف كنت أمضي الليالي الطويلة وأنا أعد الأيام التي تقربني من ذلك اليوم الذي نسترجع فيه كرامتنا وأرضنا المحتلة. لقد كان ذلك شغفاً لي أن أقاتل، والمقاتل لا يهنأ له بال إلا عندما يسترجع ما كان له. والمعادلة كانت في نظري بسيطة: إما الانتصار أو الموت. لذلك، لم يكن لدي خيار أبداً يجعلني أترك كل شيء خلفي وأركض إليك، واضعاً حياتي بين يديك. صدقيني، لم يكن لدي الخيار لفعل ذلك. وأرجو منكِ ألا تتهميني بالأنانية، فأنا مشتت بين حبي لكِ وبين حبي لوطني، وتمسكي بالعقيدة والأصل. أرجو أن تتفهمي ذلك يا غاليتي.

هناك بعض النقاط التي أود أن أوضحها لك، حتى تتمكني من فهم الأمور المخفية التي لم أستطع مصارحتك بها، وأتمنى منكِ أن تغفري لي.

أولاً: أعلم أن تأخير عقد قراننا كان يسبب لكِ الضيق، لكن ضميري كان يواجهني في الآونة الأخيرة بسبب خوفي من أن أرحل وأترككِ وحيدة تحت لقب "أرملة". لهذا السبب، رغبت في أن أترك لكِ الفرصة للحفاظ على نقائكِ، وأن تستطيعي متابعة حياتكِ بشكل طبيعي. ربما بعد غيابي، ستلتقين بشخص طيب يساعدك على الحصول على الحياة التي تستحقينها. أنتِ شابة جميلة، من عائلة محترمة، ويحق لكِ أن تعيشي حياتكِ كما تستحقين. اتركي الماضي خلفكِ يا أنيسة، وتزوجي وكوني زوجة وأماً صالحة. في الحقيقة يملؤني شعور بالغيرة وأنا أكتب هذه الكلمات الصعبة، لكن لا يحق لي أن أطلب منكِ أكثر من ذلك؛ فلو فعلت، سأكون أنانياً وظالماً.

ثانياً: الحقيقة أنني لم أرغب أبداً أن أكون سبباً في انهيار علاقتك بجدك وشقيقك، وهذا ما جعلني أشعر بالذنب. كنت قد خططت لإعادة ربط الأواصر بينكم، حتى تعود العائلة كما كانت من قبل. حاولت تسريع تلك الخطوة قبل الحرب، ولكن للأسف لم يسعفني الوقت. لذلك، أرجوك يا أنيسة حاولي بنفسك أن تعودي إليهم وتصلحي ما بينكم. فهم في النهاية عائلتك التي نشأتِ بينها، ويعز علي أن أكون سبباً في قطع العلاقات بينكم. جدك وأخيك هما الأقرب إليك من أي شخص آخر، ولو كنت ما زلت على قيد الحياة، لكنت أكملت واجبي تجاهكم بكل حب وإخلاص.

ثالثاً: أرجو منك أن تبقي على تواصل مع أبي وأمي بين الحين والآخر. هما الآن حتماً يشعران بالحزن الشديد، وكل كلمة مواساة منك ستكون لها وقع كبير على قلوبهما، فأنت أعز إنسانة في حياتي، وهم يقدّرونك كثيراً. لطالما تمنوك زوجة لابنهم، وبالتأكيد وجودك سيكون عزاءً كبيراً لهم في هذه المحنة.

رابعاً: بالنسبة للشقة التي استأجرتها لتكون عش الزوجية، كنت أتمنى لو كانت ملكاً لي لأهديها لكِ بالكامل. لكنني أعتبر كل ما فيها من أثاث ملكك أنتِ يا أنيسة. افعلي بها ما تشائين، سواء قررتِ بيع الأثاث أو الاحتفاظ به، فالقرار يعود لكِ وحدك. ولكنني أتمنى أن تقومي بالتخلص منه وتفتحي صفحة جديدة في حياتك، إلا أنني أترك لكِ الحرية المطلقة للتصرف كما ترين مناسباً.

أخيراً، عزيزتي أنيسة، وأغلى ما لدي للأبد.. لقد ضاع من عمرك الكثير في الإنتظار، وهذا يكفي. أنا متأكد أن الزمن قادر على محو الضغائن والآلام. وأنتِ إنسانة نقية وصالحة، قادرة على التغلب على كل ما مررتِ به، وأنه بمرور الوقت ستجدين السلام الداخلي وتستعيدين قوتك. أرجوك احزني باعتدال. عيشي حياتك بسعادة، ولا تفرطي في عمرك بسبب الماضي. عيشي لحظتك بكل حب وإخلاص، واحلمي بما تريدين، واعملي على تحقيق أحلامك. كوني زوجة ثم أم، ثم جدة جميلة يغزو الشيب شعرك، وعندما يحدث ذلك، سأكون سعيدًا ومطمئنًا لأنني أعلم أنك ستعيشين الحياة التي تستحقينها.

أشكرك من أعماق قلبي على كل اللحظات الجميلة التي قضيناها معًا، وعلى حبك الذي منحني القوة، وستظل محبتك في قلبي إلى الأبد. وبإذن الله، سنلتقي في دار الخلود، حيث لا فراق ولا ألم، بل لقاء دائم في رحاب الله.

المخلص لك، كمال].

انهارت أنيسة باكية وهي تمسك بالرسالة التي أخرجتها من صندوق خشبي قديم:

انهارت أنيسة باكية وهي تمسك بالرسالة التي أخرجتها من صندوق خشبي قديم:

"وأنا أقرأ تلك الرسالة في غرفتي، بكيت لأول مرة. بكيت وأنا استوعب أخيراً ما حدث.. كمال استشهد في حرب 73، استشهد بالفعل وعرفت مصيره. وعلى الرغم من الفاجعة، شعرت بنوع من الاطمئنان، وكأن يقيني بما حدث قد أنهى عذاب الانتظار. واطمأننت على روحه، ولكن..".

سكتت فجأة، والدموع انحدرت بهدوء يعاكس العاصفة المستعرة داخلها. وبعد ثوانٍ واصلت بصوت يختلط بالحنين والألم:

"ذلك الاطمئنان لم يكن كافياً ليخفف عني ألم الفقد، مهما حاولت التماسك، لقد حطمني رحيله. رحيل كمال كسر قلبي، كسراً لم يلتئم حتى الآن. خمسون عاماً تقريباً مرت منذ تلك اللحظة، لكنني أشتاق إليه في كل يوم كما لو أنه رحل للتو.. يتجدد هذا الشوق في كل لحظة وأنا أتمنى أمنية واحدة.. أريد أن أراه، ولو للحظة واحدة فقط، أن أراه مرة أخرى".

بكت أنيسة كالطفلة الصغيرة، تلك المرأة التي عهدتها سالي قوية وصارمة في أوقات الجد، كانت في تلك اللحظة ضعيفة جدًا ومنكسرة. شعرت سالي بأن الدموع تتجمع في عينيها وهي تشاهد تلك المرأة المنكسرة تبكي رجلاً رحل عن الحياة منذ ما يقارب الخمسين عاماً. كان حباً صادقاً ونقياً، يحمل في أعماقه أسمى معاني الوفاء والإخلاص. تساءلت سالي متعجبة، هل هذا ما يفعله الحب بالإنسان؟ تلك المشاعر الصادقة وذلك الإخلاص الذي لا حدود لهما، هل كانا حقيقة؟ أم أن الزمن خفف من نقاء العواطف، فبات البشر يفتقدون البراءة والصدق اللذين يظهران الآن جلياً في هذا المشهد الحزين؟ لكن سالي، في هذا الموقف الجلل، شعرت بالصدق الذي تغلغل إلى كيانها وقلبها، وأجبر دموعها على الهبوط مرةً أخرى. أخفضت وجهها وهي تحيط بساقيها على الأريكة. وللعجب، رأت أمامها صورة، صورة وحيدة له.. خالد. تساءلت بحيرة لماذا هو من خطر على بالها الآن؟

وفي تلك اللحظة، تصاعد صوت أم كلثوم بصوت مليء بالشجن، وكأنها إجابة متسترة على حيرة سالي:

وعمرى ما اشكى من حبك مهما غرامك لوعنى.

شعرت سالي بالصدمة وهي تشعر بأن الإجابة بدأت تتسلل إلى قلبها الحائر. ولكن قطعها صوت أنيسة التي أكملت بحسرة على الحب الراحل:

"الرسالة التي أرسلها كمال لي بعد استشهاده جعلتني أدرك أنه كان أنبل وأصدق وأرقى إنسان عرفته في حياتي. لم أشكّ يوماً في صدق مشاعره نحوي، ولم أندم أبداً على حبي له. لو عاد بي الزمن، لأحببته مراراً وتكراراً حتى نهاية العالم. ندمي يتلاشى أمام إخلاصه الذي تجلّى في كلماته التي خطها بيده، ولو أُتيحت لي الفرصة لتكرار حياتي، لفعلت ما فعلته. ربما كنت سأحاول إصلاح علاقتي بجدي وأخي، لكن علاقتي بكمال لن تكون أبداً موضع ندم. لهذا السبب، أغلقت قلبي على حبي لهذا الرجل واخترت، بكامل إرادتي، أن أبقى عزباء طيلة حياتي. أنتظر اليوم الذي سألتقيه فيه مجدداً، وحينها سأكون له وإلى الأبد".

ابتسمت أنيسة وأكملت بفخر ممزوج بالحزن:

"تعلمت الكثير من هذا الرجل، تعلمت أن أعيش من أجل هدف عظيم، وأن قيمة الحياة لا يجب أن تكون محكومة بالماديات فقط، بل يجب أن تقوم على فكرة وغاية حقيقية وصادقة. ومن هنا يبدأ التأثير في حياة الناس. تلك الإرادة التي تحلى بها كمال هي من جعلته، مثلما فعل آخرون مثله، يحررون أرضنا ويكتبون التاريخ بأحرف من نور. تعلمت منه كيف يكون الإنسان شهماً في أخلاقه، راقياً في أفكاره، وكيف يكون معنى التضحية والإخلاص والوفاء بالعهد حقيقياً في كل تصرفاته. كل هذه الصفات التي جعلتني أقع في غرامه، غرستها في ابني خالد. لكن ما يؤلمني هو أنني لن أستطيع أن أراها في باقي الأطفال كما أردت. كان غرس تلك الصفات في صغاري هو هدفي العظيم، الهدف الذي تعلمت السعي وراءه بسبب كمال".

تمازج صوت أنيسة الحزين مع أنغام الموسيقى المنخفضة التي ملأت الأجواء بشجن عميق، ولم تستطع سالي أن تجد كلمات شافية تشفي قلب هذه المرأة المثقل بالأحزان، فاكتفت بالصمت، وهي تشاركها هذا الشعور الثقيل، بينما صوت أم كلثوم يتصاعد بشجن..

تجرى دموعى وأنت هاجرنى ولا ناسينى ولا فاكرني.

لتجري معها المزيد من الدموع وتتصاعد التنهدات من المرأة العجوز.

نهاية الفصل الرابع والثلاثون.

وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.

من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.

***

* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.

بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.

لينك الرواية على مدونتي:

https://alaatareks.blogspot.com

تابعوني على:

instagram: alaatareks

TikTok: alaatareks

x: alaatareks

متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.