رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل الحادي والثلاثون
مزيكة انهاردة أغنية جميلة أوي وقريبة لقلبي، ولقلب أنيسة. أغنية انت الحب لأم كلثوم، كلمات الشعر الرقيق أحمد رامي، وألحان محمد عبد الوهاب.
***
"في مدينة الإسكندرية، 'عروس البحر الأبيض المتوسط' وعاصمة مصر الثانية، جئت إلى العالم أنا، أنيسة، ابنة فؤاد أصلان، وذلك في شهر ديسمبر من عام 1945. كنت الابنة الصغرى لأبي، بعد شقيقي الأكبر أسعد، والحفيدة الصغرى المدللة لأنور باشا أصلان، الذي كان آنذاك أحد المستشارين المقربين للملك.
انتميتُ إلى عائلة أصلان، إحدى العائلات العريقة من باشاوات مصر القديرة. عائلة تمتلك كل شيء؛ الحسب والنسب، الجاه والأموال، والمكانة المرموقة في المجتمع الملكي الطبقي آنذاك. كان جدي، رئيس العائلة، رجلاً تركياً صارماً شديد التمسك بأصوله التركية، وقد عُرف بنظرته المتحفظة تجاه المصريين، رغم أنهم أصحاب الأرض التي عاش عليها.
ومع ذلك، كانت جدتي زينب فلاحة مصرية، وهي الزوجة التي أنجبت لجدي ابنه الوحيد وأصغر أبنائه بعد خمس فتيات من زواج سابق لجدي من تركية. جدتي زينب كانت سيدة حنونًا ودافئة القلب، وهو ما ورثه عنها أبي - رحمه الله - الذي عرف بطيبة قلبه وحنانه البالغ.
كان أبي الولد الوحيد والمدلل لجدي، الذي رزق به بعد طول انتظار لإنجاب الذكور. حرص جدي على تنشئته بعناية خاصة ليكون خليفته من بعده، وقد كبر أبي ليصبح شابًا جميل المظهر، وسيمًا، وابن باشا يحمل على عاتقه آمال والده الكبير.
ولكن على غير المتوقع، وقع أبي في حب شابة مصرية جميلة، وهو الأمر الذي شكّل صدمة كبيرة لجدي. اعترض بشدة على هذه العلاقة، فقد كان يرى أن ابنه يجب أن يتزوج من عائلة 'أرقى وأنظف' - كما كان يقول دائماً - تتناسب مع مكانة العائلة. إلا أن أبي، وعلى الرغم من طيبته وهدوئه، ورث عن جدي عناده الشديد. وبإصرار كبير، حقق رغبته في النهاية وتزوج من أمي، الآنسة نجاة، التي كانت تنتمي لعائلة مصرية متوسطة.
أمي كانت امرأة جميلة للغاية، متعلمة، وتعمل مدرسة موسيقى في إحدى المدارس الحكومية. تعرف أبي عليها بعد تخرجه حديثاً من كلية الهندسة، خلال إحدى الحفلات التي جمعت بينهما. ومن هناك، بدأت قصة حب رقيقة وجميلة بين ابن الباشا والبنت المصرية البسيطة.
تم الزواج في نهاية الأمر، لكن دون مباركة جدي، الذي وافق على مضض واشترط أن يعيشا معه في قصر العائلة الكبير. وعلى الرغم من هذا الشرط، لم تخلُ حياة والديّ من الحب العميق والسعادة والاحترام المتبادل. ومع ذلك، كان التوتر قائماً؛ فلم يترك جدي فرصة إلا ووجّه لأبي اللوم والعتاب على اختياره، ولم يتردد في إهانة أمي المسكينة بعبارات مغلّفة بالكبرياء والسخرية.
وسط هذه المعارك الباردة، كانت جدتي زينب، بقلبها الحنون وحكمتها البسيطة، هي حمامة السلام التي تهدئ الأجواء. كانت تتنقل بين الطرفين، تهدئ غضب جدي من ناحية، وتربّت على قلب أمي من ناحية أخرى، حريصة دائماً على ألا تفقد العائلة ترابطها ودفئها.
وبعد عام من زواجهما، أنجبا أخي الكبير، أسعد أصلان، الذي استقبله جدي أنور باشا بفرحة غامرة. أقام له حفلة سبوع كبيرة تحدث عنها أهل الإسكندرية ومصر المحروسة وقتها، وكأنه وُلد وريث العرش. كان جدي أنور باشا يكاد يطير من الفرح بقدوم هذا المولود الذي سيحمل اسم العائلة ويمكث معه في قصره الكبير. كان جدي يعلق عليه آمالًا عظيمة ليكون حامل الراية الجديد، تعويضًا عن خيبة أمله في ولده فؤاد الذي خرج عن طوعه وأحبط تطلعاته.
ظن أبي وأمي أن مجيء أسعد سيخفف من حدة جدي ويُلين قلبه القاسي تجاههما، لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا. زادت صرامته وتدخله في كل تفاصيل تربية أخي، حتى أصبح الأمر يثير التوتر ويزيد الأوضاع سوءًا. ولكن فجأة هدأ جدي عندما علم أن أمي تنتظر مولودًا جديدًا، وكأن هذا الخبر قد أيقظ فيه أملًا آخر.
وبعد سنتين من مجيء أسعد، وُلدتُ أنا، أنيسة أصلان، الحفيدة الصغرى للعائلة. كان جدي هو من اختار لي هذا الاسم كما حدث مع شقيقي أسعد، وكأنني هدية من السماء أرسلت لتلطيف أجواء القصر المشحونة. استقبلني بفرح غامر مبتهجًا بقدومي كمولودة صغيرة جميلة، وأغدق عليّ بحبه واهتمامه، حتى أصبحت مدللته الصغيرة، مدللة جدي وأبي وأمي ومحبوبة الجميع في المنزل.
وكبرت في قصر أنور أصلان، وكنت طفلة شقية للغاية، أركض في أرجاء القصر وكأنني أطير، أبعثر الهدوء بنشاطي وصوتي العالي. لم أكن ألتزم بدروسي، وكنت أتهرب من جلسات الإتيكيت التي حرص جدي عليها بشدة منذ أن كنت في الرابعة من عمري. كان يقول لي دائماً بحزم يشوبه الفخر:
'حفيدة أنور باشا.. هانم حفيدة باشاوات، والهانم يجب أن تتعلم أصول اللباقة والرقي'.
لكنني، بشقاوتي وبراءتي الطفولية، كنت أعتبر تلك الدروس عبئًا يقيّد حريتي الصغيرة. كنت أتسلل كلما سنحت لي الفرصة، لأعيش طفولتي كما أريد، أركض، ألعب، وأثير الفوضى كيفما يحلو لي. ومع ذلك، مهما تهربت أو شاغبت، كان حب جدي لي دائمًا يتغلب على أي غضب أو انزعاج، فهو يرى فيّ شيئًا من الأمل ومن السعادة التي ربما فقدها وسط متاعب الحياة.
كبرتُ أنا وأخي ونحن نعرف أننا لست مجرد أحفاد، بل كان أخي أسعد وأنا أنيسة أصلان، زهور قصر أصلان، الأطفال اللذين جعلوا أنور أصلان يبتسم من بين قسوته.
وفي يوم من الأيام، طلب أبي من جدي أن يسمح له ولأمي بالسفر إلى فرنسا في رحلة استجمام. كان أبي قد أنهى مشروعًا هندسيًا كبيرًا وكان بحاجة إلى الراحة بعد شهور طويلة من العمل المتواصل، أما أمي، فقد كانت تشجعه على هذه الرحلة لتخفيف العبء عنه، كانت فرنسا تمثل حلمًا طالما راودهما معًا، مكانًا يمنحهما فرصة استعادة أنفاسهما بعيدًا عن الروتين القاسي وضغوط الحياة، وبالأخص بعيدًا عن صرامة جدي وتضييقه المستمر عليهما.
ووافق جدي على مضض، بشرط أن نبقى أنا وأخي معه، فهو لم يتحمل فكرة افتراقنا عنه ولو لأيام قليلة. سافر والداي على متن الطائرة، تاركين وراءهما وعود العودة السريعة وحضنًا دافئًا ينتظرنا. لكن الحياة لا تسير كما نخطط لها دائمًا. بعد يوم واحد فقط من وصولهما إلى باريس، وقع حادث مأساوي. بينما كانا يستقلان سيارة أجرة في طريقهما إلى نهر السين لقضاء وقت هادئ على ضفافه، فقد السائق السيطرة على السيارة بسبب الأمطار الغزيرة، فانزلقت واصطدمت بعنف بحاجز الطريق. وقد كانت الصدمة قاتلة، أخذت أرواحهما في لحظات.
رحل والداي في لحظة مباغتة، تاركين وراءهما فراغًا لا يمكن ملؤه. تلقي جدي الخبر عبر اتصال هاتفي في منتصف الليل، وكأنه صاعقة اخترقت قلبه. وكأن ما حدث أشبه بزلزال هز كيان العائلة بأكملها. انهار جدي أنور بالكامل، ولأول مرة في حياتي رأيته يبكي. الفاجعة ملأت المنزل الذي غرق في حزن ثقيل، وصدى صراخ جدتي المفجوع كان يُسمع في كل أرجاء المكان. فقدت ابنها الوحيد، سندها وأملها، دون أن تُمنح فرصة وداعه.
كان حزن جدي الرجل العجوز على فقدان ابنه الصغير عميقًا إلى حد أنه ترك أثرًا واضحًا على ملامحه وتصرفاته. لقد انكسر قلبه بطريقة لم يستطع إخفاءها، وأصبح الألم يرافقه أينما حلّ.
أما أنا، فكنت صغيرة لا أعي تمامًا حجم الكارثة التي حلّت بنا. كل ما رأيته كان أخي الأكبر، الذي يكبرني بعامين، يجلس في ركن بعيد ويبكي بصمت، ودموعه تتحدث عما لم أستطع فهمه. كنت أراقب الجميع بحيرة، وأطرح سؤالي البريء الذي كان يحمل في طياته أملًا:
'أين بابا وماما؟.
لكن ما إن يخرج السؤال من فمي حتى تكسو الوجوه حيرة وصمتًا كئيبًا. كانت الأصوات تنخفض، لا أسمع سوى التنهدات، والدموع المخفية خلف الأعين، ويد جدتي زينب التي تُربت على رأسي الصغير برفق وشفقة، وكأنها تحاول أن تعوضني عن غياب لم أكن أعي حجمه بعد.
حاول أجدادي من جهة أمي أخذنا للعيش معهم بعد وفاة والدتي، لكن جدي أنور، بشخصيته الصارمة، رفض الفكرة رفضًا قاطعًا. أصر على أن نبقى في كنفه، وبلغ به الأمر حدّ التهديد إذا فكروا في المطالبة بنا مجددًا. وبعد الكثير من النقاشات والدموع، انتهى الأمر باتفاق وحيد: زيارتنا لهم كل يوم خميس، تحت رقابة صارمة من جدي، الذي كان يعتبر أن مكاننا الوحيد هو منزله.
على الرغم من صرامة جدي أنور ومواقفه الحازمة، كان أحن الناس علينا، وكأنه يحاول جاهداً تعويضنا عن فقدان والدينا. ومع مرور السنوات، بدأت ألاحظ في عينيه نظرات من الندم كلما ذُكر اسم أبي وأمي. كان هذا الشعور يزداد وضوحاً مع تقدمي في العمر، وكأن الزمن قد أثقل كاهله بالذكريات والألم، والندم الشديد..
وبعد مرور عام أو أكثر على وفاة والديّ، اندلعت ثورة يوليو 1952، وكانت تلك صدمة أخرى قاسية على جدي، وعلى كل من هم مثله من الباشوات وأتباع النظام الملكي. أولئك الذين طالما استصغروا المصريين الفلاحين، وجدوا أنفسهم فجأة أمام واقع جديد، حيث جاء مجموعة من الضباط البسطاء الذين أطلقوا على أنفسهم "الضباط الأحرار"، وأسقطوا الملكية واستولوا على حكم مصر. كانت تلك الأحداث بالنسبة لجدي بمثابة فاجعة حقيقية، فلم يكتفِ الزمن بانتزاع ابنه الوحيد منه، بل انتزع كذلك مكانته وثرواته التي عاش فيها لسنوات طويلة.
تمت مصادرة معظم أملاك جدي، وفقد كل ما كان يمتلك تقريبًا، لولا تدخل أحد أصدقائه المخلصين، الذي ساعده على الاحتفاظ بأحد المنازل وبعض الأفدنة الزراعية. كان ذلك البيت، وإن لم يكن صغيرًا، أبسط بكثير من الفيلا الفخمة التي اعتدنا العيش فيها.
وعشنا مع جدي وجدتي في هذا المنزل، بينما اعتمد جدي في معيشته على ما تبقى له من دخل الأرض الزراعية. كان يقضي أيامه غارقًا في حزنه؛ حزن على ابنه الذي فقده، وعلى الملكية التي انتهت، وعلى ما اعتبره 'خرابًا' أحدثه الضباط الأحرار في البلاد – كما كان يردد دومًا. ظل جدي يحمل في قلبه مرارة الخسارة، يتأمل أيامه الماضية بشوق وحنين، وكأنها كانت تنتمي لعالم آخر لن يعود.
وفي خضم تلك الأحداث، كبرت وأنا أتابع ما يجري حولي بعيون الطفلة البريئة التي لم تكن تدرك حقيقة ما يحدث. وعلى الرغم من الانقلاب الكبير الذي شهدته حياتنا، حافظ جدي على تعليمي أنا وأخي أسعد فنون الإتيكيت وآداب التعامل، كأنه كان يتعهد لنفسه بأن ما جرى ليس سوى 'زوبعة في فنجان' وأن كل شيء سيعود إلى طبيعته؛ الملك سيعود أو على الأقل سيجلس ولي العهد على العرش تحت الوصاية. لكن أحلامه انتهت تمامًا حين أدرك أن الملكية قد سقطت بلا عودة، ولم يعد هناك ملك ولا ولي عهد ولا حتى ظل للنظام الذي لطالما اعتز به.
في تلك الفترة، كانت معلمة التاريخ في مدرستي – رحمها الله – هي من فتحت عينيّ على تاريخ مصر. كانت تتحدث عن هذا الوطن بحب وشغف لا مثيل لهما، وكأنها تسرد قصصًا عن أم عظيمة عانت وانتصرت. انتقل شغفها إليّ فأصبحت أقرأ في الخفاء عن هذا البلد العظيم".
قالت أنيسة موجهة حديثها لسالي بعيون فخورة:
"يا سالي، يا سالي.. التاريخ! كم كنت أذوب فيه كل يوم، أتصفح كتبه بنهم شديد، بعيدًا عن أعين جدي المتحجرة في ماضيه".
توقفت للحظة، كأنها تستعيد صورة محفورة في ذاكرتها، ثم أكملت:
"أتذكر يومًا بينما كنت أستمع إلى أغنية صوت الوطن 'مصر التي في خاطري' لأم كلثوم وأنا أقرأ كتابًا تاريخيًا..".
تنهدت أنيسة وأغمضت عينيها وكأنها تعيد كلمات الأغنية إلى مسامعها، ورددت بصوت متعب لكنه مليء بالحنين:
مصر التى فى خاطرى وفى فمى..
احبها من كل روحى ودمى..
يا ليت كل مؤمن بعزها يحبها..
حبي لها..
ثم عادت بنظراتها إلى سالي، وأكملت:
دخل جدي فجأة إلى غرفتي. انتزع الراديو من مكانه وكسره على الأرض بعنف هستيري، كأن الأغنية أشعلت في قلبه جرحًا لم يلتئم. كانت تلك الأغنية رمزًا لثورة يكرهها، لأنها في نظره كانت سببًا في انهيار عالمه. منذ ذلك اليوم، لم أسمع الأغنية مجددًا، لا خوفًا منه، بل خوفًا عليه وعلى قلبه المنكسر. ورغم ما كان يبدو عليه من قسوة وتسلط في هذا الموقف، إلا أنه كان يتبدل في ثانية ويصبح أحنّ الناس علينا. أتذكر جيداً أنه كان كلما رآني يقبّل رأسي ويدي ويناديني بحنان:
'آنستي أنيسة الجميلة'. كانت تلك الكلمات البسيطة كفيلة بأن تزرع في قلبي حبًا عميقًا له، مهما بدا قاسيًا مع الآخرين.
وكان أخي أسعد رفيق دربي، كان أخي وصديقي الوحيد، وملجأي في أوقات الحزن والهم. كنا نتشارك أحلامنا الصغيرة ونضحك معًا، حتى عندما تفرقنا بنا الأيام، ظل أخي حاضرًا في قلبي وروحي.
قالت أنيسة تلك الكلمات وهي تتأمل السقف بعينيها، وكأنها تسترجع ذكرياتها القديمة. كانت الدموع تملأ عينيها ببطء، وكأنها تستوعب للمرة الأولى أنها عاشت عمرها كله دون أن يكون أسعد بجوارها، على الرغم من أنه ما زال على قيد الحياة. كانت المسافة بينهما أكبر من مجرد بُعد جسدي، كانت مسافة زمن وذكريات لم يعد لها مكان في الحاضر. أكملت وهي تمسح دموعها :
"وعلى هذا المنوال، عشت أيام صباي في الإسكندرية، تلك المدينة التي كانت ساحرتي ومعشوقتي الأولى. أمام بحرها المهيب الذي طالما غازلني بأمواجه، وتحت شتائها الغزير الذي كنت أركض تحت مطره وكأني أطير. أيام الصيف كنت أهرول على الكورنيش، أملأ رئتي بنسيم البحر العليل، وأيام الشتاء كنت أضحك وأنا أركض وسط المطر الذي يغسل روحي الصغيرة. كانت أيامي سعيدة وجميلة، أو هكذا كنت أراها بعيوني التي لم تعرف آنذاك معنى الخسارة الحقيقية".
وكبرت أنا، طفلة جدي الباشا المدللة، لأصبح 'الآنسة أنيسة الجميلة' كما كان يناديني. لا أمدح نفسي، لكنني كنت جميلة بالفعل بشهادة كل من حولي. كنت أرتدي أجمل الفساتين وأرقاها التي كان جدي يختارها لي بعناية ويبذخ في شرائها لحفيدته المدللة .
وفي صيف عام 1965، كنت في التاسعة عشرة من عمري، وقد أنهيت سنتي الأولى في كلية الآداب، قسم اللغة الفرنسية. كان صيفًا عاديًا كباقي صيفيات الإسكندرية الساحرة، لكن حدثًا بسيطًا في ذلك اليوم بدّل حياتي إلى الأبد.
كنت أمشي على شاطئ البحر تحت أشعة الشمس الذهبية الساطعة، أرتدي فستانًا أصفر منقوشًا بورود ملونة، تتمايل أطرافه مع نسيم البحر، وعلى رأسي قبعة صيفية كبيرة تظللني من حرارة الشمس. كنت شاردة الذهن، أستمع لصوت الأمواج وأستمتع بمشاهد البحر الممتد أمامي، حين قطع شرودي صوت يناديني من الخلف:
'يا آنسة! يا آنسة بالفستان الأصفر.. انتظري!'.
توقفت والتفت بحيرة، أدركت أنني المقصودة؛ فلم يكن هناك من يرتدي فستانًا أصفر سواي. رفعت يدي لأحجب عني وهج الشمس وأرى مصدر الصوت، لأفاجأ بشاب طويل جدًا، يكاد طوله يلامس السماء في خيالي آنذاك. لم أستطع رؤية ملامحه بوضوح في البداية بسبب أشعة الشمس الحارقة، لكن عندما اقترب أكثر، رأيت وجهًا أسمر اللون، بملامح جذابة وبسمة لطيفة تزين شفتيه. قال وهو يمد يده نحوي:
'لقد سقط منديلك'.
نظرت بحيرة بين وجهه وبين المنديل الذي كان يحمله بحرص وكأنه شيء ثمين. أخذ ينفض حبات الرمل العالقة به برفق ويطويه بعناية ثم يقدمه لي. كان كل شيء فيه هادئًا، مهذبًا، وكأنه مشهد مرسوم بعناية. مددت يدي وأخذت المنديل منه دون أن أتفوه بكلمة. كانت هناك جملة شكر عالقة في حلقي لم أستطع أن أنطق بها. بدا واضحًا أنه ينتظر مني كلمة ما، لكنني ظللت صامتة في حيرتي. ابتسم مجددًا ابتسامة اعتذار خفيفة وقال وهو يستدير:
'إذاً.. إلى اللقاء'.
راقبت خطواته تبتعد، وقبل أن أستوعب ما حدث، شعرت بوخزة غريبة في قلبي. كنت لا أريد أن يرحل هكذا، دون أن أشكره على الأقل. أردت أن أناديه، لكن لساني الخجول، الذي كان قد تجمد منذ البداية، خانني مرة أخرى. نطقت بصوت منخفض جدًا لا يكاد يُسمع:
'انتظر..!'.
لكنه كان قد ابتعد، وصار صوته وصورته مجرد ذكرى علقت في تلك اللحظة. كنت غاضبة من نفسي، كيف تركت الفرصة تفلت مني؟ كيف سمحت للخجل أن يتغلب على أبسط كلمات الشكر؟ لكنني في الوقت ذاته كنت أشعر بشيء مختلف.. شعور غامض لم أختبره من قبل، وكأن ذلك اللقاء القصير قد حمل معه سحرًا زرعه في قلبي دون أن أدري. كنت أعتقد أن القصة قد انتهت عند تلك اللحظة، لكنني لم أكن أعلم أن القدر كان قد رسم طريقًا جديدًا لي، طريقًا بدأ بمنديل سقط على الرمال وشاب غريب نادى على 'الآنسة بالفستان الأصفر'.
لم يغمض لي جفن تلك الليلة متمسكة بالمنديل في يدي، ظللت أتقلب فوق سريري، أفكر في هذا الشاب الذي اهداني منديلي بعيون ساهدة لا ترى سوى ملامحه التي حفرت صورتها في خيالي. كيف يمكن لشخص رأيته مرة واحدة فقط أن يقتحم تفكيري بهذا الشكل؟ يا إلهي.. يبدو أنني وقعت في غرامك أيها الشاب الأسمر دون أن أدري. هل يعقل أن تهيم فتاة بحب شخص لم يجمعها به سوى لقاء عابر؟ كنت مذهولة مما أشعر به، فأنا التي لم تعرف الحب من قبل، أجد نفسي فجأة أسيرة مشاعر جديدة وغريبة.
في صباح اليوم التالي، خرجت إلى الشاطئ، إلى نفس المكان الذي التقينا فيه، علّ الصدفة تجمعني به مجددًا. انتظرت طويلًا، أراقب المارة وأمواج البحر، لكنه لم يظهر. عدت في اليوم التالي أيضًا، واليوم الذي يليه، لكن دون جدوى. بدأت أشعر باليأس وأقول لنفسي إنه ربما لم يكن سوى عابر سبيل سيختفي من حياتي كما ظهر فيها.
وفي اليوم الثالث، بينما كنت أقف أمام البحر، غارقة في أفكاري ومتأملة الأفق المترامي، استدرت فجأة دون انتباه فاصطدمت بشخص. كدت أسقط على الأرض لولا أنه أمسك بذراعي برفق، مثبتًا خطواتي. رفعت رأسي ببطء وبتوتر شديد، بينما نظراتي تائهة تبحث عن شيء آخر كي تهرب من الموقف، وتمتمت بصوت مرتجف:
"عذراً.. لم أكن منتبهة".
سمعت صوته الهادئ والمألوف يرد:
'لا عليكِ.. يبدو أن البحر سرقكِ من هذا العالم كهذا اليوم الذي أوقعت فيه منديلك'.
رفعت عيني نحوه، لأجد نفسي أمامه مجددًا. الشاب ذاته.. بابتسامته التي لم تغادر خيالي، وملامحه التي أشعلت لياليَّ الساهرة. لثوانٍ لم أصدق أنه هو.
ابتسمت أنيسة متنهدة بحرارة أمام سالي، وعيناها تحملان بريقاً من الحنين، وقالت بعاطفة عميقة امتزجت بابتسامة عشق لا تخطئها العين:
"وقد كان هو يا سالي".
كانت سالي تجلس على الأريكة بجوار سرير أنيسة، ملتحفة بشال كثيف لتحتمي من برد الشتاء، وفي يدها كوب من الشاي الساخن. ملامحها تعكس اهتماماً عميقاً وتأثراً واضحاً بالحكاية التي تستمع إليها. عندما ابتسمت أنيسة لتأثرها، شعرت بأن القصة قد أخذت كلاً منهما إلى عالم آخر. أكملت أنيسة بنبرة مشوبة بالخجل والفرح، وكأنها تعيش تلك اللحظة من جديد:
سألته ببلاهة:
"عذراً؟".
ثم سمعت صوته الرخيم يجيب بلطف جعل دقات قلبي تتسارع أكثر:
"هل أنت بخير؟".
توقفت أنيسة للحظة وهي تنظر إلى سالي، ثم قالت بابتسامة شاردة:
"في تلك اللحظة، كنت متأكدة أنني وقعت في الحب. هل تعرفين ما هو الحب يا ابنتي؟ إنه يشبه الصدمة في ثوانيها الأولى، لا تدركين تماماً ما يحدث لكِ، ثم يبدأ شعور ساحر يتسلل إلى قلبك ويجعلك غير قادرة على التفكير بوضوح".
كانت كلماتها تخرج ببطء وكأنها تلمس كل حرف منها. ثم تابعت، وعينيها تتألقان من الذكرى:
كان قلبي يخفق بجنون وأنا أراه أمامي. شعرت بالخجل، وأخفضت رأسي وكأنني فقدت فجأة ثقتي في جمالي، ليقطع هو لحظات ارتباكي بصوته الدافئ قائلاً:
"إن اللون الأصفر كان أجمل عليك".
ضحكت أنيسة بخفة وكأنها تسمع كلماته لأول مرة من جديد، بينما كانت سالي تحدق فيها بابتسامة لا تخلو من دهشة وسعادة مختلطة بما شعرت به أنيسة ذات يوم. أكملت أنيسة:
رفعت رأسي بذهول، وعيناي تلتقطان بريق ابتسامته وهو يتأمل فستاني بلون اللافندر بعناية، قبل أن يكمل كلامه بصوت دافئ:
"هذا لا يعني أن هذا لا يليق بك، ولكن الأصفر كان يعطيك سحراً وحيوية أكثر من هذا".
لم أستوعب كلامه في البداية، وهو لاحظ أنه ربما تمادى قليلاً في حديثه، فقال بسرعة، بتوتر ظاهر وهو يعدل ساعته:
"أعتذر لو ضايقتك بحديثي، ولكن..".
قاطعته وتحدثت أخيراً بسرعة، بصوت خجول ومنخفض، بالكاد يُسمع:
"لا.. لا.. لم تضايقني".
ابتسم بلطف وأخفض رأسه قليلاً وكأنه يحاول أن يلتقط صوتي:
"إذاً هذا صوتك؟ تحدثي أكثر حتى أستطيع تمييزه".
ازداد خجلي بشكل واضح، فأطلق ضحكة خفيفة، وقال بمزاح:
"أنا أمزح معك".
كان يراقبني للحظة ثم مد يده بأناقة واضحة، وهو يقول بصوت يحمل شيئاً من الجدية الممتزجة بالود:
"اسمي كمال، وأنتِ؟".
نظرت إلى يده الممتدة نحوي بحيرة، وكأنني للحظة نسيت كل آداب اللياقة التي تعلمتها. شعرت بالارتباك، واستوعبت متأخرة أنه يتعرف علي. بسرعة، وكأنني أهرب من ذهولي، مددت يدي وأنا أتمتم بخجل:
"أنا.. أنا أنيسة".
كرّر اسمي بهدوء وكأنه يتذوقه:
"أنيسة؟ اسمك جميل يا آنسة".
ثم تابع بنبرة لطيفة مليئة بالثقة:
"هل تسمحين لي بالسير معك؟".
أومأت برأسي بخجل، وسرنا بجانب بعضنا على طول الشاطئ، حيث كان البحر في ذلك اليوم مهيبًا وساحرًا، والهواء منعشًا كأنه يحمل بين نسماته وعدًا جديدًا. كانت الأجواء مثالية لقصة حب تولد بين شخصين في لحظة عابرة، لكنها تحمل أثرًا عميقًا على حياتي.
كمال كان شابًا لبقًا ومهذبًا، تتحدث عيناه بلغة هادئة واثقة. بدأ يحدثني عن الإسكندرية، المدينة التي جاء إليها زائرًا، وعلمت منه أنه ليس من أهلها. كان ابن قرية صغيرة تابعة لمركز كفر الزيات في محافظة الشرقية. قالها ببساطة، "فلاح ابن فلاح"، ولكن بنبرة فخر متأصلة. أخبرني أنه يكبرني بخمس سنوات، وأنه تخرج حديثًا في الكلية الحربية، ليبدأ عمله كضابط في الجيش. كان كل شيء فيه يعكس ذلك؛ من بنيته القوية وجسده المشدود، إلى بشرته السمراء التي زادتها الشمس دفئًا وصلابة. أخبرني أنه في إجازة قصيرة لمدة أسبوعين، يقضيها مع عائلته هنا في الإسكندرية، كعادته كل صيف.
استرسلنا في الحديث عن أمور شتى، الوقت يمضي ونحن نتشارك قصصًا وأفكارًا كما لو كنا نعرف بعضنا منذ سنوات. لم أشعر بمرور الساعات إلا حين ألقيت نظرة خاطفة على ساعتي، واكتشفت أن الوقت قد تأخر. نظرت إليه بتردد، يجتاحني مزيج من شوق ولهفة ورغبة في البقاء، لكنني قلت بنبرة مشتاقة ممزوجة بالاعتذار:
"عليّ أن أذهب الآن، ولكن أتمنى أن أراك مجددًا".
لم أحتج إلى طلب صريح، فقد اقترح هو اللقاء في اليوم التالي قبل أن نفترق. تبادلنا أرقام الهواتف، لكنني حذرته بابتسامة خجولة ألا يحاول الاتصال إلا في الحالات الطارئة.
عدت إلى المنزل في ذلك اليوم وأنا أسير بخفة على أطراف ساقي وكأنني أطير، أعيش سعادة لا مثيل لها. دخلت البيت وأنا أشعر كأنني فراشة تهبط على كل زهرة تلتقيها. قبّلت جدتي وجدي وأخي أسعد، الذي كان طالبًا في سنته الثانية في كلية الهندسة، وحتى الخادمات لم يفلتن من فرحتي. كان قلبي يردد بهمس مبهج:
"لقد قابلت أخيرًا حب حياتي".
في تلك السنة، غنت أم كلثوم "إنت الحب". ربما لم تكن واحدة من أغانيها التي ترددت كثيرًا كغيرها، لكنها بالنسبة لي كانت الأقرب إلى قلبي. كنت أسمعها وكأنها تغنيها لي وحدي، كأنها تروي مشاعري الخفية التي لم أجرؤ على البوح بها لأحد.
كنت أنتظر بفارغ الصبر أن تعيد الإذاعة تلك الحفلة التي أدت فيها الأغنية. كان ترقبها يشبه انتظاري لرسالة من قلب بعيد، وعندما لا أسمعها، كنت أشعر بخيبة أمل تغمرني وكأن العالم قد أدار ظهره لي في تلك اللحظة.
يا ما قلوب هايمه حواليك
تتمنى تسعد يوم برضاك
وأنا اللى قلبى ملك ايديك
تنعم وتحرم زي هواك
الليل عليا طال بين السهر والنوح
اسمع لوم العزال
اضحك وانا المجروح
وعمري ما اشكى من حبك
مهما غرامك لوعنى
لكن أغير م اللى يحبك ويصون هواك أكتر مني
اول عنيه ما جت فى عنيك عرفت طريق الشوق بينا
وقلبى لما سألته عليك قاللى دى نار حبك جنه
صدقت قلبى فى اللى قالولي
لكن غرامك حيرنى وليل بعادك سهرنى
تجرى دموعى وأنت هاجرنى ولا ناسينى ولا فاكرني
وعمرى ما اشكى من حبك مهما غرامك لوعنى
لكن أغير م اللى يحبك ويصون هواك أكتر منى
ضحكت أنيسة بخفة وهي توجه كلامها لسالي:
"هل هناك حكاية كليشيه أكثر من تلك؟"
ابتسمت سالي، وبدت في عينيها لمعة اهتمام مشجعة، فأكملت أنيسة وهي تنظر نحوها بابتسامة ساخرة:
"ولكن، يا عزيزتي، أليس في الكليشيهات بعض السحر؟ تلك البساطة، تلك المشاعر الأولى التي تهز القلب وكأنها الحقيقة الوحيدة في العالم؟".
صمتت للحظة، ثم أضافت بنبرة هادئة:
"مهما بدت القصة مكررة، تظل مشاعرها دائمًا فريدة بالنسبة لمن عاشها".
ابتسمت أنيسة واسترسلت بعمق:
"لو سألتيني اليوم لماذا وقعت في حبه حينها، لن أستطيع أن أعطيك إجابة واضحة. كنت صغيرة جدًا، لا أملك خبرة كافية لتحليل مشاعري أو تفسيرها. أما فأنا لدي إجابة، نعم لقد وقعت كفتاة معدومة الخبرة في سحر اللحظة الأولى. لكنني رأيت في كمال بعدها شيئًا مختلفًا، مزيجًا عجيبًا وساحرًا. كان ذكيًا ولبقًا، يتحدث بثقة ويملك من العزة والكرامة والكبرياء ما لم أره في أحد من قبل. تلك الصفات كانت تتجلى بوضوح في وقت كانت فيه مصر تعيش انتكاستها. كان رجلاً حيوياً مليئاً بالطاقة أشبه ببطل أسطوري خرج من بين صفحات الحكايات التي كنت أعشق قراءتها. أعتقد أن عقلي حتى الآن مازال يعجز عن شرح حالة هذا الرجل".
ابتسمت المرأة بشجن:
"إذاً لنكمل حكايتنا..".
مرّت الأيام ومعها مرت إجازة كمال كأنها لحظة خاطفة، فقد كنت ألتقي به يوميًا خلال تلك الأيام التي حملت لي أجمل الذكريات.
لم أخبر أحدًا بعلاقتنا سوى جدتي العزيزة، التي كانت قلقة على الدوام وتنبهني من مقابلته سراً، لكنها في الوقت ذاته سعيدة لرؤية ابتسامتي وسعادتي. أتذكر نصائحها التي لم تخلُ من الحزم، إذ كانت ترفع إصبعها بجدية وتقول:
"إياكِ وتجاوز الحدود، يا طفلة! لا قبلات ولا تلك التصرفات الغير لائقة، وإلا ستأتي صفية وتخبرني".
كانت صفية، إحدى الخادمات في منزلنا، بالفعل تُرسل خلفي بأوامر من جدتي لتطمئن عليّ. أما أنا، فكنت سعيدة لنصائحها التي تخفي حبًا وخوفًا كبيرين.
في الحقيقة، كنت شابة واعية تمامًا بحدودي، أكثر صرامة حتى من جدتي القلقة. كان الحب الذي أحمله لكمال عاطفيًا، لكنه محكوم بعقليتي المتزنة التي تمنعني من الانجراف. لم أرغب سوى في قضاء لحظات جميلة برفقته، نستمع لبعضنا البعض، نتشارك الأيس كريم على الشاطئ، ونتحدث عن كل ما يدور حولنا. رغم ذلك، لم أنسَ أنه لم يصارحني بحبه بعد. كنت أنتظر اعترافه بصبر، دون أن أجرؤ على مطالبته به. فاكتفيت بتلك اللقاءات الحلوة التي جمعتنا.
وفي آخر يوم من إجازته، أمام شاطئ البحر، حدث ما كنت أنتظره طويلاً. أمسك كمال بيدي، وعيناه تشعان بالعاطفة، وقال بصوت ممتلئ بالصدق:
"اليوم هو آخر يوم لي في الأسكندرية. في الحقيقة لم يغمض لي جفن الليلة السابقة. لقد كنت أفكر فيك، أنت فقط لا أحد ولا شيء آخر. أعتقد أنني وقعت في غرامك. أنيسة أنا أحبك".
لم أصدق وقع الكلمة على أذني، فقد كانت كالصاعقة، ملأتني بالدهشة والسعادة في آنٍ واحد. لقد أعترف كمال أخيراً بحبه، الشاب المرح الذي عرفته تحوّل فجأة إلى رجل عاشق، عينيه الثابتتان المليئتان بالذكاء ارتجفتا تحت وطأة الحب. أما أنا، لم أستطع أن أتمالك نفسي، فابتسمت ابتسامة يملؤها الدمع. لقد كنت شابة صغيرة جداً لا أستطيع إخفاء عواطفي، وفهم كمال من تلك الابتسامة ما عجزت كلماتي عن البوح به.
"أنيسة، أنا صبور، لكني أرغب في سماع إجابتك قبل أن أرحل غدًا. إجابتك ستغير مسار حياتي، وستبدأ طريقًا جديدًا لنا معًا".
لكنني ترددت. لم يكن قلبي هو السبب، بل مخاوفي من جدي، الذي لطالما تحدث عن ضرورة الزواج من أبناء وأحفاد الباشوات السابقيين. كيف سيقبل أن حفيدته المدللة تحب شابًا ضابطًا في الجيش من عامة الشعب؟ تلك الأفكار كبحتني، وجعلتني عاجزة عن الرد.
رأى كمال ترددي، فقال بثبات واطمئنان:
"لا اريدك أن تقلقي من شيء. أنا رجل ملتزم بكلمتي، وسأنتظر قرارك. إذا وافقتِ، سأكون في بيت جدك فورًا لأطلب يدك".
نظرت حولي بخجل وأنا أخرج منديلاً من حقيبتي، هذا المنديل الذي كان السبب في بداية تلك القصة. نظرت إليه مُباشرة وأنا أضع منديلي في كفه:
"اعتبر تلك إجابة مبدئية، وسأخبرك بها صريحة في أول رسالة".
ابتسم كمال بحب، وقال:
"رغم أنني كنت أود سماعها منك الآن، إلا أنني سأنتظر رسالتك بفارغ الصبر".
وغادر كمال في اليوم التالي دون أن يحصل على إجابتي. بقيت نادمة طوال الوقت على صمتي، وعلى عدم اعترافي بحبي الذي بدأ منذ اللحظة الأولى التي التقينا فيها. ولكني كنت مشتتة جداً وخجلة، ولم تكن لدي خبرة في التعامل مع هذه المواقف.
ولكن كما وعدته أرسلت له رسالتي الأولى والتي بدأت كتباتها في ليلة اليوم الذي جمع آخر لقاء لنا..
[الأسكندرية، يوم الأحد، 5 سبتمبر 1965
عزيزي السيد كمال،
صباح الخير إن كنت تقرأ هذه الرسالة في الصباح،
ومساء الخير إن كنت تقرأها في المساء.
أبعث إليك سلاماتي وأشواقي الحارة، وأرجو أن تصلك هذه الرسالة وأنت بخير وعلى أحسن حال.
لقد مرَّت أيام الإجازة بسرعة شديدة، أليس كذلك؟ بالكاد استطعت أن أستوعب أنك غادرت الإسكندرية. في الحقيقة، كنت متلهفة لأن أكتب إليك هذه الرسالة، ربما منذ اللحظة التي ودَّعتك فيها. بداخلي الكثير من الندم لأنني تركتك ترحل دون أن أعطيك الإجابة التي كنت تنتظرها بشوق، الإجابة التي كنت قد طلبتها مني بكل صبر وأمل. صدقني، تلك الكلمة التي أردت سماعها كانت حاضرة على شفتي. أردت أن أخبرك بها في تلك اللحظة، لكن خجلي وترددي كبَّلاني. ربما كنت خائفة من أن أواجه مشاعري بكل هذا الوضوح، أو ربما كنت قلقة من ردة فعلك أو من المستقبل الذي لا أراه بوضوح. لهذا قررت أن أخطَّ هذه الرسالة لك، لتكون فرصتي لأخبرك بكل ما يجول في داخلي.
كمال، حياتي تغيرت كليًا منذ لقائنا. الجميع هنا في المنزل يلاحظون التغيير الذي طرأ عليَّ، وأنا أيضًا أشعر بذلك. لقد غيَّرت حياتي تمامًا منذ لقائنا الأول. أدركت بعد رحيلك أن أيامي قبلك كانت باهتة، بلا معنى حقيقي. كنت أعيشها، لكنني لم أكن أستشعر نبضها. الآن، بعد أن أصبحت جزءًا من حياتي، كل شيء يبدو مختلفًا.
حتى عاداتي تغيرت. أصبحت أرغب في النوم باكرًا، هل تعلم لماذا؟ لأحلم بك وأسترجع تلك اللحظات الجميلة التي عشناها معًا. أصبحت أميل للوحدة أكثر من ذي قبل، وأبتعد عن الجميع لأسرح في أفكاري التي دائمًا ما تدور حولك. مهما حاولت أن أشغل نفسي بأي شيء، أجدني دائمًا سارحة، أفكر فيك.. أنت فقط.
أما الراديو، فهو يعمل ليلًا ونهارًا، أملًا في أن تبث الإذاعة أغنية "أنت الحب" لأم كلثوم، الأغنية التي أصبحت تربطني بلحظاتنا السعيدة، من الكلمات التي كتبها أحمد رامي والتي تبدو كأنها تصف كل ما أشعر به:
يا ما قلوب هايمه حواليك
تتمنى تسعد يوم برضاك
وأنا اللي قلبي ملك إيديك
تنعم وتحرم زي هواك
يا لها من أغنية عذبة! هل استمعت إليها من قبل؟ إنها رائعة حقًا. أنا حقاً من عشاق أشعار أحمد رامي الصادقة والرقيقة. إن لم تكن قد استمعت إليها، فأنا أوصي بها لك بكل حب.
كمال، هل الحب يفعل كل هذا؟ هل يُغيِّر الإنسان بهذا الشكل؟ الإجابة التي اكتشفتها بعد لقائنا هي: نعم. الحب قادر على تغيير كل شيء. هذا هو جوابي، جوابي الذي كنت تنتظره.
أنا مغرمة بك يا كمال. أحببتك منذ اللحظة الأولى التي التقت فيها أعيننا. شغلت فكري وقلبي منذ ذلك اليوم الذي ابتسمت فيه لي وأعدت لي منديلي.
هل تعلم أن هناك تقليدًا في بعض الثقافات، تلقي فيه العروس منديلاً للرجل إذا وافقت عليه؟ عندما أعطيتك منديلي، كنت أقدم لك إجابتي المسبقة، حتى وإن لم أنطق بها في وقتها.
كمال، أنتظر يوم لقائنا القادم بفارغ الصبر. انتظرك بصبر وإخلاص شديدين، أتطلع لرؤيتك مجددًا، حيث نتلاقى وتتلاقى قلوبنا مرةً أخرى، أتطلع للتحدث معك، وللعيش مرةً أخرى في تلك اللحظات الجميلة التي باتت الأثمن في حياتي. سأحاول أن أمارس حياتي بشكل طبيعي، واعلم أنني هنا في الاسكندرية، مخلصة وصابرة، بانتظار رسالتك وردك على كلماتي. وبانتظار مقابلتك مرةً أخرى
المحبة والمخلصة لك دائمًا،
أنيسة].
وأرسلت له رسالتي الأولى التي كانت مليئة بالمشاعر الخصبة، وأعترفت فيها بحبي لأول مرة في حياتي. ولم أكن أعلم أن في ذلك الوقت أن قصة حبي مع كمال، ستبدل حياتي بالفعل، ليست حياتي فقط بل حياة عائلتي كلها.
نهاية الفصل الحادي والثلاثون.
وتُستكمل القصة في الفصل القادم. بإذن الله.
من فضلكم لا تنسوا Vote لو أعجبكم الفصل.
***
أهلاً أعزائي القراء.. أنا كنت دايماً بسأل نفسي امتى هوصل لحكاية أنيسة وأخيرا ًالحمدلله وصلتلها وبدأنا أخيراً حكايتها وماضيها المثير للاهتمام، قصة مليانة مزيج من مشاعر الحب والحزن والغضب، الفصل ده كتبته بسهولة، ومش دايماً الظروف بتبقى سهلة أوي كده، القصة دي كنت بحضرلها من زمان علشان كنت حساها أوي ومتلهفة أكتبها. الأيام بتجري أوي، أوي، وإن شاء نوصل مع بعض لليوم اللي هنقرأ فيه مع بعض نهاية قصة المنزل.. أتمنى تكونوا مستمتعين، متحسبوش الوقت، وعيشوا القصة من قلوبكم.. بشكركم من كل قلبي على صبركم..
كاتبتكم ءَالَآء
سؤال الفصل: يا ترى أنور باشا هيعمل ايه مع حفيدته أنيسة؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم.