رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الفصل السادس عشر
[رسالة واردة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: مجهول
أود أن أوضح لك شيئًا مهمًا. عندما سألتك عن الأفلام، كان ذلك لأنني لاحظت أنك تتمتعين بحس عاطفي مميز. لكن بصراحة، لم أذهب إلى السينما منذ فترة طويلة. ومع ذلك، بعد حديثنا، شعرت برغبة في كسر هذا الجمود. والآن، دعينا ننتقل إلى موضوع آخر. كيف تتعاملين مع الاكتئاب؟]
***
في المنزل في غرفة المكتب جلست أنيسة تستمع لما حكاه خالد عن الأحداث التي حدثت مع نور مؤخراً. في وقت سابق تفاجئت أنيسة بخالد يعود إلى المنزل مع نور، والطفلة على وجهها غمامة سوداء، لم تجب على أي سؤال وُجه إليها، بل صعدت إلى غرفتها بهدوء وخمول وسط قلق الجميع. كان إحساس أنيسة تجاه تلك الطفلة بالقلق في محله، لم تكن نور على ما يرام، خاصة منذ دخولها للمدرسة مع اخوتها. قطع خالد أفكار أمه بسؤال:
"كيف أتصرف؟ هل اسايرها في رغبتها؟".
أجابت أنيسة رافضة رفض قاطع:
"بالطبع لا يا خالد، لا توافقها، تلك الطفلة عليها أن تواجه مشاكلها بنفسها، لا يجوز أن تهرب من واقعها، عليها أن تتكيف على مثل تلك المواجهات، لا أن تركض وتختبئ في أقرب جحر".
"ولكن كيف ستتحمل ما يحدث معها نفسياً، أخاف أن يتضرر تصالحها مع إعاقتها".
"ومن قال لك أنها تصالحت مع إعاقتها يا عزيزي، تلك الطفلة لم تتصالح مع إعاقتها، والدليل أمامك تريد الهرب".
"ربما تهرب بسبب الضغط الشديد عليها من زملائها، إنهم يتنمرون عليها، مع هذا الضغط العقلي والنفسي الشديد يتصرف الإنسان بفزع وخوف".
"لا تقلق با بني، نور قوية، أعطها فقط المزيد من الوقت".
نظر خالد إلى أنيسة بحيرة، فقالت وهي تدرك ما يدور داخل عقله:
"حبيبي أنا لا أقسو على الطفلة، بل أساعدها، من يعلم منا ماذا سيحدث معها في المستقبل؟ من يعلم منا من سيعيش ويبقى لأجلها؟ أينما ستذهب ستجد نور التنمر، المدرسة ليست المشكلة يا خالد، عليها أن تواجه الحياة بنفسها لا من خلالنا، هذا لا يعني أن ندعمها نحن سنكون دائماً خلفها، ولكن لا يجب أن نربي أطفالنا على الخوف والهروب، نحن لا نوفر لهم الحماية فقط بل نهديهم للطرق المثلى لمواجهة مشاكلهم"
تأملت أنيسة أبنها القلق وقالت بصوت هامس وهي تضع يدها على قبضته:
"عزيزي لم أرك يوماً بهذه الهشاشة العاطفية تجاه أحد من الأطفال"
نظر خالد إلى أمه بعينين تحملان التشتت والحيرة، ثم أجاب بصوت خافت:
"ربما لأني أشعر بضعفها الداخلي، أنا أعلم أن نور تحتاج إلى القوة، ولكنها أيضًا تحتاج إلى الحب والاحتواء".
ابتسمت أنيسة بحنان وقالت:
"هذا طبيعي يا بني، الأبوة تحمل معها هذا العبء من المشاعر المتضاربة. ولكن تذكر أن الحب ليس فقط في الحماية والرعاية، بل أيضًا في تعليمهم كيف يقفون على أقدامهم بأنفسهم. نحن لا نريد أن نحملهم فوق طاقتهم، ولكننا نريد أن نعدهم ليكونوا أقوياء بما يكفي لتحمل أعباء الحياة".
أومأ خالد برأسه ببطء وقال متنهداً:
"سأحاول أن أكون متوازنًا، سأمنح نور الوقت الذي تحتاجه، وسأحرص أيضًا على أن أكون لها الداعم والموجه. لا أريد أن أشعر يومًا أنني لم أفعل ما يكفي لأجلها".
شدت أنيسة على بيد ابنها بلطف وقالت:
"وأنا أثق بأنك ستفعل الصواب يا خالد. فقط تذكر أن الحب والقوة يسيران معًا، وأننا نزرع فيهم ما نتمنى أن نحصد في المستقبل".
صمت خالد للحظة، ثم قال:
"سأبدأ بالتحدث مع نور بلطف أكثر، وسأساعدها على التعامل مع ما يحدث في المدرسة بطريقة صحيحة. لن أسمح لها بالهرب، بل سأكون إلى جانبها في كل خطوة".
***
مدت فرح رأسها من باب غرفتها وهي تراقب الطرقة لتتأكد من عدم تطفل أحد، خاصة المجانين الصغار، وعندما شعرت بالأمان، أغلقت باب الغرفة بهدوء واتجهت إلى دولابها والتقطت كيس كبير أخرجت منه فستان أسود دون أكمام، وحذاء بكعب طويل جداً، فردت الفتاة المراهقة الفستان الذي بالكاد يغطي الركبتين وهي تتأمله بانبهار، كانت قد اشترته من الأموال التي ادخرتها في حصالتها لمدة سنة، بعد أن أقنعتها أميرة بالفكرة التي كانت مملة في نظرها، وها هنا الآن ظهرت فائدة الادخار. وضعت فرح الفستان على جسدها ودارت في غرفتها بسعادة وهي تتخيل نفسها أجمل فتاة في العشاء، كان عليها أن تتألق بشكل ملحوظ ويجذب أنظار الجميع إليها وإلى جمالها. وسيكون من الأروع لو صارت نجمة الأمسية بصوتها العذب، ارتدت الفتاة الفستان الأسود ووضعت بعض مستحضرات التجميل التي تخبئها من أمها، ووقفت أمام المرآة..
في تلك اللحظة التي وقف فيها على المسرح المظلم، شعرت فرح وكأن العالم قد توقف عن الدوران. كانت الأنفاس محبوسة في صدرها، والهدوء يخيم على المكان كأنه جزء من طقوسٍ سحرية. فجأة، انطلقت الأضواء بقوة، ساطعة، فملأت المسرح بضياء أشبه بشعاع الشمس مسلط عليها، ليتحول الظلام من حولها هي فقط إلى نور وكأنها هي من أضاءت الظلام بضيائها. ارتعش قلبها في صدرها، لكن صوتها كان ينتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر. بدأت تغني، وصوتها العذب شقّ السكون، لينساب كجدول ماء عذب في وادٍ هادئ. كانت تشعر بذبذبات النغمات تتردد في أذنيها، وبكل نغمة كانت ترسم لوحة من الأحلام أمامها. استطاعت أن تشعر بأعين زملائها تحاصرها؛ البعض كان ينبهر بجمال صوتها، يتردد فيهم صدى إعجاب صادق، بينما البعض الآخر وكانوا زميلاتها الحقودات اللاتي يتنمرن عليها، يحاولن إخفاء نظرات الحقد خلف أقنعة زائفة. لكنها لم تكن ترى إلا الضوء، ولم تكن تسمع إلا صوتها وأصداء النغمات التي تنسجها في الهواء. كان الجمهور أمامها أشبه بموجة تتمايل مع كل كلمة تخرج من فمها، ينسجون خيالاتهم على نغمات صوتها، ويتنفسون معها كل لحظة. كانت تلك اللحظة خاصة، لحظة تمتلك فيها العالم كله بين يديها، وتعلم أن قوة صوتها هي سلاحها وتفوقها على غيرها. ومع كل نظرة معجبة أو حقودة، كانت تزداد إصرارًا على أن تجعل تلك اللحظة من أجمل لحظات حياتها.
خرجت فرح من أحلامها وخيال المراهقة وهي تفكر بابتسامة، ستكون ضربة عظيمة على رؤوسهن هؤلاء الفتيات اللاتي لم يتركن مناسبة إلا ودعوها باللقيطة، هذا غير الضربة الأخرى التي ستوجهها إليهن قريباً، أقسمت فرح أنها ستجعلهم يندمون على تصرفاتهم الحقيرة معها. فكرت الفتاة، المشكلة الآن تكمن في كيفية الخروج من المنزل بتلك الملابس، لم يكن الأمر وأن الفستان غير محتشم ولكنها لم ترتدي هذا النوع من الملابس أبداً، أو بمعنى أدق لم تسمح لها أمها بارتدائه، بحجة أنها مازالت "بنت صغيرة" كما تقول دائماً، أخذت الفتاة المراهقة تعصر ذهنها للعثور على مخرج من مأزقها، وهي تتخيل رد فعل أمها وأبيه خالد عند رؤيتها، بالطبع لن يسمح لها أحدهم بالخروج من المنزل بهذا الشكل، حتى اهتدت أخيراً إلى فكرة كانت هيَّ الأنسب في مثل هذا الموقف.
***
كانت سالي تشتري بعض الاحتياجات المنزلية من المول بجوار منزلهم، وبينما وهي تخرج من الباب الخاص بالمول ويديها مُحملتين بالأكياس، سمعت صوتاً مألوفاً يناديها:
"سالي؟ أنتِ سالي؟".
التفتت سالي تلقائياً لمصدر الصوت، ورأت شخصاً لم تتوقع أن تقابله أبداً، كان هذا إسلام خطيبها السابق الذي وقف يتأملها بعينيه اللامعتين، بينما كان هناك طفل الصغير مستلقياً على كتفه يلامس خده بخفة بين الحين والآخر. كانت تلك اللحظة المُفاجئة مليئة بمزيج من المشاعر المعقدة، ذكريات الماضي التي تتقاطع مع الحاضر. ابتسمت سالي بحذر، وهي تلاحظ البريق الغريب في عينيه، بريق يذكرها بالأيام التي مضت. تأملته وهي تلاحظ التغيرات التي سيطرت على شكله، الهالات تحت عينيه، وزنه ازداد إلى حدٍ ما وهو في الأساس كان شاب رياضي، الحيوية التي كانت تسيطر على ملامح شبابه اختفت تقريباً وحلت محلها تعابير النضج وتحمل المسؤولية. قالت سالي بابتسامة غير متفاجئة:
"إسلام؟ كيف حالك؟".
"أنا بخير، وأنت؟".
رد عليها وفي عينيه بريق:
"بخير الحمد لله".
تقلى الرد المختصر منها وهو يتأملها وكأنه يراها للمرة الأولى في حياته، علق بعد ثوان من التأمل:
"لم أتوقع أن أراكِ هنا، مر وقت طويل كم مضى من الوقت؟".
"عدة سنوات، ربما أربع سنوات؟".
ردت سالي بابتسامة مجاملة وهي تتذكر أيامهما الخالية معاً، فقال هو:
"إذاً كيف تسير الأمور معكِ؟ مازلت في المستشفى؟".
"استقلت منها من شهر ونصف".
تفاجأ الرجل ولكنه سرعان ما ابتسم وقال:
"كنت دائماً أتوقع منك هذه الخطوة".
ابتسم وأكمل:
"يبدو أنك مازلت حالمة، أتمنى أن تكوني وجدتِ ما كنت تبحثين عنه".
أخفضت سالي بصرها إلى الأرض دون تعليق، كان هناك الكثير من الكلام المخفي تحت النظرات، كان هناك حديثاً قديماً لم ينتهي من قبل، وقصة لم يُكتب سطرها الأخير ولكن سالي قطعت الأوراق منذ زمن طويل، ولم تعد لديها أسئلة وبالتالي لا تنتظر إجابات وتبريرات، لذلك كان جوابها بقدر اسئلته، حتى سمعت صوت تذمر وتنهدات صادرة من الطفل الذي يحمله إسلام، لاحظ الرجل أنه لم يعرفها على الفتى الصغير الذي يبدو أنه في عمر يحيى:
"هذا إبني زين، هيا قل مرحباً".
ابتسمت سالي بصدق وهي تتأمل الطفل الصغير الذي استيقظ ونظر إليها بعينين ناعستين قبل أن يخفي وجهه في كتف والده بحياء، كما تفعل ماريا معها:
"طفلك جميل، يشبهك كثيرًا".
التفت إلى طفله بحب وقال بفخر:
"شكراً لك، زين بلغ الثانية قبل شهرين".
نظر إلى إصبعها بفضول وسألها بتردد:
"وأنتي؟ ألم تتزوجي؟".
ابتسمت سالي براحة قائلة:
"لا، لم أتزوج".
نظر إليها الرجل وعلامات ندم مخفية وراء ملامحه، لمحتها سالي وقالت:
"حسناً سأذهب أنا، أتمنى لك السعادة في حياتك يا إسلام، مع السلامة".
"شكراً، سالي. أتمنى أن تظلي بخير دائماً".
التفتت سالي ورحلت وهي تشعر أن نظراته تكاد تخترق ظهرها، كان هذا لقاءاً قدرياً قصيراً جداً مع شخص بكت عليه يوماً من الأيام، وهذه المرة كانت هي الشخص الذي التفت ورحل وليس هو، رحلت بابتسامة جميلة صادقة دون أن تراودها أية مشاعر ندم، وهي تشعر بأن اللقاء كان بمثابة وداع نهائي للماضي. وهكذا هي الحياة غير مفهومة، أبطال الحكاية الواحدة، صار كل واحد منهم بطلاً لحكايته الخاصة سعيدة كانت أو تعيسة، ولم تعد هناك حكاية تجمعهم، ربما كان هذا اللقاء مجرد سطر في رواية كل بطل، سطر واحد ليس إلا.
***
أمام المرآة الكبيرة في غرفتها وقفت سالي وهي ترتدي فستان بسيط وأنيق باللون البني الخريفي، كانت أكمامه طويلة واسعة تنتهي عند منتصف المعصم، رتبت شعرها الأسود الطويل بشكل أنيق مما أضاف إليها سحراً خاصاً، وضعت القليل جداً من مستحضرات التجميل، التي لم تكن شغوفة إلا بالقليل منها، كانت تتأمل العالم من وراء الزجاج بشيء من الحزن والترقب. شعرها الطويل يتدلى بانسيابية على ظهرها، مجعدًا بخصلات ناعمة كالحرير. فستانها البني الطويل يعكس ملامحها الرقيقة، مُتماشياً مع بشرتها قمحية اللون الغامضة التي تشع منها جاذبية غامضة وسحر خفي. عيناها العميقتان تكشفان عن عوالم من المشاعر المختلطة، من التردد والخوف إلى الشجاعة والإصرار. هي تدرك أن لقاءها القادم مع العريس الذي لا ترغب فيه سيكون نقطة تحول في حياتها، ولكنها رغم ذلك، تقف بثبات.
بينما كانت سالي غارقة في تأملاتها العميقة، شعرت بخطوات خفيفة تتسلل إلى الغرفة. دخلت والدتها بهدوء، وكأنها لا تريد أن تزعجها. توقفت عند الباب للحظات، تنظر إلى ابنتها بنظرة مليئة بالفخر والحب. عينا الأم كانت تلمعان بتأمل وهي ترى جمال سالي الذي يزداد تألقًا كل يوم، جمالًا لا يعكس فقط ملامحها اللطيفة العادية ولكنه يعكس ما نمى داخل روحها من قوة ورقي على مر السنين. تقدمت والدتها ببطء نحوها، وعندما اقتربت بما يكفي، لم تستطع أن تمنع نفسها من مد يدها لتلمس شعر سالي برفق. كانت تشعر بنعومته تحت أصابعها، وتذكرت كيف كانت تسرح هذا الشعر الطويل عندما كانت سالي صغيرة، وهي تغني لها "الحنة" بينما تمشط خصلاتها السوداء. الآن، ابنتها الكبيرة تقف أمامها كأميرة ناضجة، جاهزة لمواجهة العالم، رغم ما يختلج في صدرها من قلق. كانت تدرك تمامًا ما يدور في ذهن سالي، فهي تعرف تلك النظرة في عينيها، نظرة التردد والخوف من المجهول. لكنها أيضًا تعرف أن سالي تمتلك القوة لتواجه ما ينتظرها، لأنها ابنتها، ولأنها كانت لديها تلك الصفات التي تجعل منها امرأة استثنائية. هكذا كانت مشاعر السيدة سهام لابنتها الكبيرة.
"سالي حبيبتي".
قالت الأم بصوت هادئ ومليء بالحب، وهي ترفع يدها لتمسح برفق على خد سالي مكملة كلامها:
"أنتِ اليوم أجمل مما كنتِ عليه في أي وقت مضى. أنا فخورة بكِ يا ابنتي، فخورة بكل ما أصبحتِ عليه".
ابتسمت سالي وهي تستعيد النقاش الذي لم ينتهي بينهما، شعرت وكأنه مازالت هناك فجوة بينها وبين والدتها، مازال هناك حديث لم يُقال، وأمها كانت تفهم ذلك وتحاول التغاضي عنه والهروب منه. أخفضت سالي رأسها دون أن ترد عليها، فقالت أمها:
"حبيبتي، كل ما أتمناه من الله أن تكوني سعيدة في بيتك الخاص بك".
على الرغم من تشتت سالي وحيرتها، ولكنها لمست مشاعر والدتها الدافئة رغماً عنها، تلك المشاعر الدافئة التي تحيطها مثل غطاء ناعم. في مثل هذا الوقت كان في تلك الكلمات قوة خفية تمنحها بعضًا من الطمأنينة. وضعت يدها على يد والدتها، وضغطت عليها برفق، وكأنها تقول لها:
"أنا بخير يا ماما، بغض النظر عما قد يحدث فيما بعد".
طرقت زينة الباب وهي تقول:
"هيا، ألن تذهبوا؟".
نظرت الفتاة إلى شقيقتها الكبرى وهي تغمز لها موجهة كلامها لوالدتهم:
"ماما، ما رأيك في شعر سالي، أنا من صففه لها؟".
ابتسمت السيدة سهام لابنتها الصغرى بحب قائلةً:
"إنه رائع يا حبيبتي".
طبطبت المرأة على ظهر سالي:
"هيا يا سالي لقد حان الوقت. تذكري أن تفردي ظهرك ولا تحنيه".
وقفت هناك، بجانب والدتها، مستعدة لمواجهة ما سيأتي.
***
كان العائلة في المنزل مجتمعة على العشاء كالعادة، وأصوات الأطباق والملاعق تتخبط ممتزجة مع صوت همسات وضجيج الأطفال الصغار.
"فرح لا تأكلي وأنتِ ممسكة بهاتفك". قالتها أنيسة موبخه الفتاة المراهقة التي بدت وكأنها تراسل أحداً ما بحماس. أرسلت الفتاة رسالة إلى سالي:
[أين أنت الآن؟ هل قابلتيه؟].
[ليس بعد، لماذا أنت متحمسة الآن يا فرح، ألم تطلبي من الله ألا تتم الأمور].
كانت رسالة سالي فيها بعض السخرية الطريفة، فردت فرح عليها:
[أريد أن أراك، ماذا ترتدي؟ أرسلي لي صورة لك].
"فرح، اتركي هاتفك الآن!".
وفجأة لمعت عيون فرح بسعادة، ونهضت من مقعدها متجهة إلى أنيسة قائلةً بصوت متحمس:
"ماما! أنظري الدكتورة سالي كم هي جميلة!".
سمع الجميع أسم سالي وشعور بالفضول بدى على ملامحهم. وشعر خالد الذي سمع أسمها بأن دقات قلبه تسارعت، ولكنه أبدى ملامح الهدوء كعادته. أما أنيسة التي كانت توبخ فرح منذ لحظات قالت بحماس وهي تلتقط الهاتف من يد ابنتها:
"دعيني أرى يا فرح، يا إلهي، إنها جميلة!".
"ماما، انظري كم هو رقيق فستانها! ولونه إنه رائع!".
نهض الأطفال الصغار من مقاعدهم بفضول وتزاحموا ليروا الصورة، وبعد أن سيطرت أنيسة على أيادي الأطفال الفضولية الممتدة:
"أنظر يا خالد، أليست لطيفة".
كان خالد يضع ملعقته في فمه بهدوء محاولاً السيطرة على فضوله هو الآخر، وفاجأته أمه بأن وضعت الهاتف أمام عينيه مباشرة حتى كادت أن تقف اللقمة في حلقه فأمسك كوب الماء وشرب الماء وهو يتأمل الصورة. وهنا توقف الزمن من حوله.
كانت تقف بمفردها أمام نافذة، حيث تغمر أشعة الشمس الهادئة المكان بلمسات دافئة من النور الذهبي. شعرها الطويل الأسود ينساب على ظهرها مثل شلال من الحرير، متموجًا بخفة ورقة، يعكس الضوء المتسلل من النافذة في خطوط براقة تزيد من عمق سواده. فستانها البني كان يغمر جسدها برقة، محاكًا ليبرز منحنياتها بأسلوب بسيط وأنيق. أكمام الفستان المنتفخة تُعطيه لمسة من العراقة والرقي، وكأنها تنتمي لعالم آخر، عالم يغمره الهدوء والسكينة. حزام رفيع يلتف حول خصرها، مشدودًا بعناية ليُبرز خصرها النحيل، بينما أطراف الفستان تنساب برفق حول قدميها. كانت سالي في نظره تجسد كل ما هو غامض وساحر في تلك اللحظة. بشرتها القمحية كانت تجمع بين الغموض والجاذبية، تضفي عليها سحرًا خاصًا لا يمكن تجاهله. عيناها الكبيرتان، الغارقتان في عمق من الأسرار، كانتا تنظران إلى الكاميرا بتأمل، وكأنهما تبحثان عن مخرج من قدر محتوم. لم تكن مجرد امرأة جميلة؛ كانت لوحة حية تحمل في طياتها قصصًا لم تُروَ بعد، قصصًا مليئة بالصراع الداخلي بين الرغبة في الحرية والخوف من المجهول. وجهها الرقيق كان يعكس مزيجًا من القوة والضعف. شفتيها الممتلئتين، المحددتين بدقة، كانتا شبه مغلقتين، وكأنها تمنع نفسها من قول شيء ما. ربما كانت تلك الكلمة التي ستغير كل شيء. ملامحها كانت ترسم تعبيرًا من الهدوء المتأمل، لكنه كان هدوءًا يخفي تحته بحرًا من العواطف المكبوتة. سالي في تلك اللحظة كانت رمزًا لكل ما هو معقد في الحياة: جمال مختلط بالحزن، قوة ممزوجة بالخوف، وغموض لا يمكن لأي شخص أن يفهمه تمامًا.
"جميلة، أليس كذلك؟".
نظر خالد إلى أمه وهو يشعر بالتيه، ولكنه سرعان ما استرجع ثباته وهمهم قائلاً وهو يعبث في طعامه:
"نعم، جميلة".
نظرت أنيسة إلى ابنها وعلى محياها ابتسامة الصياد الذي أوقع فريسته.
***
وصلت سالي مع والدتها في الميعاد المناسب، وقد كانوا أول الواصلين، مع وصول والدها برفقة العائلة الأخرى تسارعت دقات قلبها وارتفع الأدرينالين في جسدها، وشعرت بالخوف والتوتر، ولكن ما وقفت عنده، هو أن والدها جاء رفقة العائلة الأخرى، ألم يكن من الواجب أن يكون برفقتهم هم. نظرت سالي إلى والدها نظرات مشبعة بالحزن والخذلان، وهي تقبض كفيها محاولةً السيطرة على مزيج مشاعرها من الحزن والخوف، وهو لاحظ هذا في عينيها ولكنه أشاح وجهه إلى الجهة الأخرى متحدثاً إلى صديقه ومديره. جلست العائلتين في مقابل بعضهما البعض وسالي تم حصارها بين والديها وأمام ثلاثة أزواج من العيون، كانت تريد الهروب بشدة، ولم تعلم ما هو السر الذي جعلها تتذكر الأطفال. في البداية كانت الأحاديث سطحية متنوعة بين الجميع لم تنطق سالي فيهم سوى بضع إجابات. نظرت إلى والدتها، لم تكن تتحدث كثيراً كانت فقط تجيب بهدوء ولطف على حديث المرأة الأنيقة التي تجلس أمامها. قارنت سالي الفرق بين السيدتين، وتألم قلبها وهي ترى والدتها تجلس بضعف أمام المرأة الواثقة والتي ترتدي أغلى وأرقى الملابس والمجوهرات. كانت أمها سيدة عادية جداً كغيرها من سيدات المجتمع، لم تكن مبهرة أو فائقة الأناقة، ولكنها كانت في نظر سالي أكثر من ذلك، كانت تستحق الأفضل وليس أن تكون في تلك الهيئة والصورة الضعيفة أمام أحد. نظرت سالي إلى والدها بغضب وشعرت أنها تريد تخريب هذه اللحظات عليه ولكنها تمالكت نفسها وضبطت أعصابها. وكان أحمد هذا الشاب الذي ينظر إليها بإعجاب، يحاول كسر جدار الصمت الذي أحاط بها. تحدث عن عمله وأحلامه وطموحاته، عن المشاريع التي يسعى لتحقيقها وعن الحياة التي يتخيلها مع شريكة حياته. لاحظت سالي أنه يرفع يده كل بضع دائق حتى تظهر الساعة الثمينة التي يرتديها، فابتسمت على تصرفه الغريب، أي شخص من حقه أن يتفاخر بما لديه ولكن ليس بهذا الوضوح. كان يتحدث عن نفسه بفخر وصل أحياناً إلى الغرور، وبدأت كلماته تتلاشى في عقل سالي وكأنها همسات بعيدة لا تصل إلى مسامعها. لم تكن تفكر فيما يقوله، بل كانت غارقة في دوامة من الأفكار المتشابكة.
"لم أكن أعلم أن ابنتك بهذه اللطافة يا إيهاب".
نظر إيهاب بامتنان إلى صديقه وقال:
"شكراً لك، ابنتي شابة ذكية وجميلة، أنا فخور بها".
سخرت سالي منه في سرها ولكنها لم تُبدِ هذا على وجهها، وأكتفت بابتسامة لطيفة، نظر أحمد إلى سالي بابتسامة واثقة وسألها أخيراً عن نفسها:
"أخبريني يا سالي، ما الذي تحبين فعله في وقت فراغك؟ ما هي هواياتك؟".
نظرت سالي إليه بابتسامة خفيفة تخفي استياءها من طول حديثه عن نفسه، وقالت بصوت هادئ:
"أحب الموسيقى، وأعزف على العود".
هز أحمد رأسه بإعجاب وأضاف وهو يشير إليها بيده التي يرتدي فيها الساعة الثمينة:
"هذا رائع! منذ متى وأنتِ تعزفين على العود؟".
"منذ عدة سنوات".
ابتسم أحمد قائلاً:
"يبدو أن لديكِ شغف بالموسيقى. هل فكرتِ يوماً في تقديم عرض موسيقي أو المشاركة في فعالية ثقافية؟".
ردت سالي بدبلوماسية:
"ربما. أستمتع بالعزف لنفسي وأصدقائي المقربين، لكنني لم أفكر بعد في الأمر على نطاق أوسع".
استطرد أحمد باهتمام وهو يسند ذقنه بإصبع مظهراً اهتمامه:
"هل لديكِ ملحنون مفضلون أو نوع موسيقي تفضلينه؟".
أخذت سالي نفساً عميقاً وقالت بابتسامة مهذبة:
"أحب الموسيقى الشرقية الأصيلة، وأجد نفسي أحياناً أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية أيضاً. لكل نوع جماله وروحه الخاصة."
شعر أحمد بأنها تحاول الحفاظ على مسافة معينة، فقرر أن يغير الموضوع قليلاً:
"حسنًا، ماذا عن عملكِ؟ سمعت من عمي أنك استقلت من المستشفى التي تعملين بها".
أجابت سالي بحذر:
"الطب مهنة تحتاج إلى الكثير من التفاني. وأعتقد أنني لم تعد لديّ الطاقة لأتفانى في عملي بالمستشفى".
تدخلت والدة أحمد:
"طاقة؟ أعتقد أنك مازلت صغيرة على تلك الجملة".
نظر أحمد إلى والدته وأومأ إليها برأسه حتى تسكت، ثم التفت إلى سالي وأشار إليها بيده مرةً أخرى قائلاً:
"أفهم ذلك تمامًا. أحيانًا تحتاج الحياة إلى قرارات جريئة. أين تعملين الآن؟".
"في دار للأيتام، كطبيبة مقيمة".
'أعتذر يا أولاد'.
اعتذرت سالي للأطفال في سرها فهذه المرة الثانية التي تكذب فيها مثل هذه الكذبة. نظر إليها والدها نظرة ذات مغزى ولكنه لم يعلق وأكمل نقاشه مع صديقه. سأل أحمد معلقاً:
"سمعت أن عملك في القاهرة".
أومأت سالي برأسها دون أن تعلق، فظهر على وجهه بعض الضيق، ولكنه سألها:
"هل الأمر مختلف عن المستشفى؟".
"بالتأكيد ضغط العمل أقل في معظم الآحيان".
"وما الذي تفكرين في ممارسته فيما بعد".
"الأمور ليست واضحة في الوقت الحالي، لذلك ليست لدي إجابة".
بدت ابتسامتها دبلوماسية، بينما كانت تحاول الحفاظ على توازن الحوار دون أن تفتح باباً للنقاش في تفاصيلها الشخصية. فهم أحمد أنها ليست مستعدة للغوص في محادثة أعمق، فقرر أن يترك الموضوع مفتوحًا لمدة، واستمرت أحاديثه مرةً أخرى عن نفسه بلا توقف. جالت سالي بنظرها تتفحص هذا الشاب الذي يكبرها بثلاثة سنين، كان أنيقاً كعادة الشباب هذه الأيام، ملامحه وتصرفاته وحتى اسلوب حديثة جعلوه شخص واثق بشكل جعلها غير مرتاحة، شكله كان مقبولاً لها، ولكنها شعرت بعدم الراحة في الحديث معه، مع أنها نحت جانباً كل مشاعرها تجاه والدها التي قد تؤثر على قراراها، وأيضاً رغبتها تجاه الأولاد استطاعت السيطرة عليها. تحدث الشاب مرةً أخرى عن عمله في التجارة مع والده، رحلاته وتجاربه، كان يحاول أن يظهر نفسه في أفضل صورة، مما جعل سالي تشعر بالاختناق. التقط أحمد نظرتها البعيدة ونظر إلى عينيها بعمق محاولاً جذب اهتمامها، سألها بفضول:
"هل هناك شيء يشغل بالك؟".
نظرت إليه سالي بعينين متعبتين، محاولة أن تجد الكلمات المناسبة لترد بها وهي تشعر وكأنها في دوامة لا مفر منها، محاصرة بين ما هو متوقع منها وما تريده حقًا. فأجابت بصوت خافت:
"لا، لا شيء.. فقط أفكر".
ابتسم أحمد ابتسامة خفيفة، وهو يشعر ببعد المسافة بينها. وبدأت سالي في نفس اللحظة تدرك أن هذا المكان لا يناسبها.
وبدأت جولة ثالثة في النقاش، وسالي تنصت إليه بانتباه مع بعض التعليقات الخفيفة حتى وصلها إشعار على هاتفها، فاستأذنت منه لترى الرسالة، كانت فرح قد أرسلت إليها فيديو، شعرت بالفضول لتراه وهي تفكر بأن هذا غير لائق، ولكنها دون أن تشعر فتحته ورأت لارا وسارة ترتديان ملابس كبيرة عليهم وأحذية ذات كعب طويل كبيرة جداً في أقدامهن ويقومون بعرض أزياء صغير في الغرفة، كانت الطفلتان تتجولان في الغرفة في محاولة لتقليد عارضات الأزياء مع تعليقات مضحكة من فرح وليلى. خرجت ضحكة خافتة من سالي، فنظر إليها الجميع باستغراب، فرفعت رأسها ببراءة ونظرت إليهم وأدركت أن صوتها كان عالٍ. اعتذرت بخجل وتركت الهاتف على الطاولة وهي ترجع انتباهها إلى الرجل أمامها، لكن الفيديو ظل يتكرر في عقلها والابتسامة لم تفارق شفتيها، هؤلاء الأشقياء! سألها الرجل بابتسامة مصطنعة فيها القليل من الفضول:
"يبدو أن هناك اخبار جيدة".
نظرت إليه سالي وهي تستغرب فضوله، فأجابت على مضض:
"رسالة من أحد الأطفال".
سألها وملامحة تظهر القليل من الضيق:
"من الواضح أنك تحبينهم؟".
"بالتأكيد!".
قالتها بحماس فاجأ الرجل أمامها ووالدها الذي كان ينصت إليهم سراً.
وضعت سالي كوب العصير الخاص بها على شفتيها وهي تستعيد الموقف المضحك، وبعد دقائق وصلتها رسالة رأتها على شاشة الهاتف دون أن تفتحها:
[هل هو وسيم؟]
سألها الرجل مشتتتاً انتباهها عن الهاتف الذي يهتز كل خمس دقائق:
"هذه الدار كم ستبقين فيها؟".
رفعت سالي رأسها عن الهاتف ونظرت إلى الرجل دون أن ترد، وجاءتها رسالة أخرى فيها علامة استفهام، رأتها ثم رفعت رأسها مجيبة:
"لا أعلم، ليست لدي النية لترك عملي الآن".
نظر الرجل إليها مستفهماً فتدخل والدها الذي استمع إلى الحديث سراً:
"سالي ستترك العمل في الدار قريباً".
تدخلت سالي قائلة:
"أنا لم أقرر بعد إن كنت سأتركه أم لا، حتى الآن أنا في عملي ولا نية لدي لتركه".
نظر إليها والدها بغضب مكبوت فتدخلت والدة أحمد التي لاحظت الحرب الباردة بين الأب وأبنته:
"لا بأس على الأقل الآن، افعلي ما تشائين عزيزتي ولا داع للتفكير الآن".
تدخل صديق والدها قائلاً:
"عندما يأتي الزوج والبيت والأطفال في مقارنة أمام العمل، المرأة بطبعها تختارهم بكل حب، لذلك لا بأس أن تشبع من عملها قبل أن تتزوج".
رد والدها:
"بالطبع هذا أمر طبيعي، ولكن هذا لن يمنعها من أن تعمل ولكن لعدد ساعات أقل، على الأقل حتى تشعر بذاتها".
ابتسمت سالي بلطف دون أن تلتفت إلى مقاصدهم ثم نظرت إلى والدها ببرود، ورأت أنه يجمع قبضتيه، بالتأكيد بسبب تصريحها بعدم تركها العمل في المنزل، فتجاهلته ونظرت إلى الشاب الذي يجلس مقابلها، ليبدأ نقاش آخر بين الطرفين ولكنه مختلف هذه المرة:
"بما أنهم فتحوا موضوع العمل، هل من الممكن أن تتخلي عن عملك وتكرسي وقتك لبناء البيت ورعاية الأسرة؟".
كان سؤالاً في نظر سالي روتينياً في أي جلسة من هذا النوع، فحاولت أن تفكر وتنتقِ إجابتها بعناية:
"أظن أنه من المبكر التحدث في أمر الزواج بعمق الآن، لكن بشكل عام، أرى أن الزواج هو شراكة بين شخصين، وكل طرف له أحلامه وطموحاته. العمل أياً كان مسماه بالنسبة لي ليس مجرد وظيفة بل هو جزء من هويتي".
"أفهم ذلك، ولكن في النهاية، يجب أن تكون هناك تضحيات. أعتقد أن أي امرأة ستكون سعيدة بالتفرغ لرعاية بيتها وأسرتها، خاصة إذا كان زوجها يوفر لها كل ما تحتاجه. لا أرى أن العمل يجب أن يكون محور حياة المرأة".
شعرت سالي بأن سمات الأنانية الذكورية بدأت تظهر فيه قليلاً، لو كان هذا العريس قد تقدم إليها من شهرين ربما قد وافقة في كلامه حتى تقنع نفسها بالاستقالة دون خوف، ولكن الآن مع عملها في المنزل فالأمر بالتأكيد مختلف. لذلك كما قالت، العمل أياً كان مسماه فهو جزء من الهوية مادامت تحبه وتنغمس فيه، وهي قد وجدت أمراً مختلفاً في عملها كطبيبة مقيمة في المنزل. وهذا الأمر جذبها وجعلها تشعر بهوية مختلفة. فكرت، يبدو أنها استفزته بسلوكها المتحفظ معه، وتساءلت ماذا كان ينتظر منها في أول لقاء أن تقع في غرامه مثلاً؟ نظرت إلى ساعته وقالت لنفسها 'أم في غرام ساعته الثمينة التي يلوح بها منذ أن جاء'. لذلك قالت محاولة الحفاظ على هدوئها:
"التضحيات يجب أن تكون متبادلة، وليس هناك قاعدة ثابتة تقول إن المرأة هي من يجب أن تضحي فقط. يمكننا أن نبحث عن التوازن الذي يناسب الطرفين".
"هذا رأي منطقي، لكن ألا تعتقدين أن الأطفال بحاجة إلى وجود الأم بشكل دائم، خاصة في السنوات الأولى؟".
تذكرت سالي ماريا والأطفال الصغار المساكين:
"بالتأكيد، وجود الأم مهم جداً في السنوات الأولى، لكنني أرى أن الجودة في الوقت الذي نقضيه مع أطفالنا أهم من الكمية. الأمر ليس عن قضاء كل الوقت معهم، بل عن كيف نستثمر ذلك الوقت في تعليمهم ورعايتهم. وأيضاً، لا ننسى دور الأب المهم في حياتهم. يمكن للأب أن يكون جزءاً فعالاً في التربية، وأنا أؤمن أن الأبوة والأمومة هي شراكة متكاملة".
"هذا صحيح، لكن أليس من المهم أن يكون هناك توازن؟ أحيانًا قد يحتاج أحد الشريكين إلى التضحية ببعض الأمور من أجل الأسرة".
شبكت سالي يديها وقالت بصوت رزين:
"أنا أؤمن بالتخطيط والتفاهم. إذا كان لدينا تواصل جيد ووضوح في الأولويات، يمكننا أن نجد حلولاً تناسبنا معاً. قد يتطلب الأمر ترتيباً جديداً للأولويات أو بعض التنازلات، لكن هذا شيء يمكن مناقشته واتخاذ القرار بشأنه معًا، لا أرى أن دور المرأة محصور فقط في البيت. تربية الأطفال والاهتمام بالمنزل هما مسؤولية مشتركة بين الزوجين، وليس مجرد دور تقليدي للمرأة. يمكن لكل شخص أن يساهم بطرق مختلفة، بناءً على ما يناسبهم. العمل يعطي المرأة استقلالية وثقة، ويعزز من قدرتها على المساهمة بشكل أكبر في تربية أطفالها ومنحهم قدوة قوية في الحياة".
"أرى أن لديكِ نظرة متقدمة في هذا الأمر. لكن هل تعتقدين أن كل الرجال مستعدون لتلك الفكرة؟ الكثير من الرجال يفضلون أن تكون زوجاتهم متفرغات للأسرة، وبصراحة أنا منهم".
"ربما، ولكن الزواج الناجح لا يعتمد فقط على ما يفضله أحد الطرفين، بل على التفاهم والاحترام المتبادل. إذا لم يكن هناك توافق في الرؤى والأهداف منذ البداية، فقد يكون من الصعب بناء علاقة قوية ومستقرة. المهم أن يكون هناك تواصل وانفتاح بين الشريكين للتوصل إلى حلول تناسبهما معًا".
استمر الحديث بين العائلتين، وفي نهاية الأمسية شعرت سالي أنها غير منجذبة لهذا الشخص، كان شاباً جيداً، ولكنها شعرت أن طرقهما الفكرية لم تتلاقى أبداً، بالإضافة إلى أنها شعرت بمحاولاته لإظهار بأنه شخص مثالي دون أن يكون على طبيعته. ولاحظت سراً أنه من السهل استفزازه. هذا التباين في الانطباعات جعلها تدرك أن هذا اللقاء لا تريد أن يتبعه لقاء آخر. لم تكن تبحث عن الكمال بل عن الصدق والتوافق، وهذه الأمسية أكدت لها أن هناك اختلافًا جوهريًا بينهما لا يمكن تجاهله.
مع انتهاء اللقاء، كان هناك شعور بالراحة، وأيضاً تأهب للنقاش القادم مع والدها، نقاش لن يكون سهلاً بكل تأكيد.
***
لم يجلس خالد ولو لثانية منذ العشاء، حاول أن يشغل نفسه في مراجعة بعض أعماله وهو يتحرك في شقته بحيرة، ولكنه لم يستطع السيطرة على شروده، منذ أن رأى الصورة في هاتف فرح لم يتمكن من إبعادها عن ذهنه، وكأنها يحاول أن يحفظها في الذاكرة حتى لا تتلاشى، كانت مشاعره تتأرجح بين التوتر والخوف، يشعر بشيء غريب ينبض في قلبه، شيء لم يختبره من قبل. إنه في حالة اضطراب دائم، لا يعرف كيف يتعامل مع هذه المشاعر التي تتسلل إلى أعماقه ببطء. منذ متى بدأت تراوده مثل تلك الأحاسيس الغريبة، كان خائفاً، خائفاً من الغوص كثيراً فيها، حاول أن يمنع عقله من التفكير فيها حتى لا يصل إلى حقيقة يخاف منها. كانت مشاعره كالبحر الهائج. كلما حاول فهم ما يدور في داخله، وجد نفسه يغرق أكثر في أمواج من التساؤلات والارتباك. لم يكن يعرف لماذا تستحوذ عليه أفكارها بهذا الشكل، ولماذا يشعر باضطراب غير مريح كلما ذكرها أحد أمامه أو لمح اسمها في محادثة عابرة. كان ينظر إليها أحيانًا وكأنه يبحث عن شيء في ملامحها، شيء لا يستطيع تحديده أو تسميته، ولكنه يعرف أنه موجود.
سالي لم تكن في نظره الفتاة ذات الجمال الخارق؛ كانت شابة عادية كغيرها، ولكنها كانت تمتلك شيئًا آخر – سحرًا وغموضًا جذبا انتباهه بمرور الوقت. لم يكن جمالها مبتذلاً أو واضحاً، بل كان شيئاً يتسلل إلى الأعماق بهدوء وثقة، شيئاً استطاع أن يسلب لبه دون أن يلاحظ. الآن، وهو يدرك تدريجيًا ما يحدث، يشعر برعب حقيقي من تلك الأحاسيس. كانت حاضرة في ذهنه كظلال تتراقص في ضوء خافت؛ لا يستطيع الإمساك بها ولا يمكنه تجاهلها. هناك شيء في ابتسامتها الخجولة أو في نظراتها العميقة التي لا تُفصح عما بداخلها يجعله يشعر بعدم الارتياح. وكأن هناك سرًا صغيرًا تهمس به إلى روحه كلما التقت أعينهما، سرًا لا يدري ما هو، لكنه قادر على جعله يتوقف للحظة ليتأمل. لم يكن خالد يعرف إن كان إعجاباً أم فضولاً أم مجرد شعور عابر لا أكثر. لكنه كان يشعر بأن هناك شيئاً في سالي، شيء يتحدى كل محاولاته للفهم، يتركه واقفاً بين الحقيقة والخيال، بين ما يراه وما يشعر به، عاجزاً عن إيجاد وصف دقيق لما يعتمر في صدره. حاول خالد أن يشغل نفسه بالعمل، متنقلاً من مكان لآخر في شقته بحيرة، لكنه فشل في الهروب من التفكير المستمر في تلك الصورة. كلما حاول تجاهلها، تعود لتظهر في ذهنه بقوة أكبر، كأنها تملك قوة سحرية تجذبه نحوها. كان يحاول أن يحفظ ملامحها في ذاكرته وكأنها كنز لا يريد أن يفقده، ولكنه في الوقت نفسه كان خائفًا من قوة هذه المشاعر التي بدأت تتشكل داخله، ويحاول جاهداً أن يوقف عقله عن التفكير فيها.
وقف خالد شارداً غارقاً في أفكاره أمام النافذة، ثم التفت فجأة واتجه إلى باب شقته وخرج، ولأول مرة منذ زمن طويل يطرق باب غرفة الفتيات.
***
[رسالة صادرة بتاريخ ؟؟/؟؟/؟؟؟؟
المرسل: سالي
إن أردت بعض الترشيحات فأنا موجودة. أما بالنسبة للاكتئاب، فهذا أمر لم أجد له إجابة حتى الآن، هو موضوع حساس للغاية ويكثر فيه الحديث، ولكن أستطيع القول إنني أحياناً الجأ إلى القراءة والموسيقى لتكون عالمي الذي أختبئ فيه من قسوة الحياة. وبالطبع الروحانيات التي أمارسها في حياتي تكون خلاصاً في أصعب الأوقات. سؤالك صعب للأسف ويجعلني أشعر بالضيق لعدم إعطاءك إجابة واضحة، ولكن لا بأس من نقل خبرتي وتجربتي البسيطة إلى من يحتاجون المعونة، أحيانًا مجرد العلم بأننا لسنا وحدنا في هذه المشاعر يخفف من وطأة الأمر. لذا إن كنت بحاجة إلى شخص يستمع إليك أو يشاركك أنا هنا.
مع خالص الاحترام
سالي].
نهاية الفصل السادس عشر.
***
أهلا أعزائي القراء، بسبب تأخري كل مرة في تنزيل الفصول حاولت أنزلكم بالفصل 16 بسرعة. أخترت ليكم انهاردة مزيكا عمر خيرت من مسلسل وجه القمر بقالي فترة دايبة فيها ومقدرتش مشاركوش بيها.
فيه غلطة في الفصل اللي فات في اسم والد سالي صححتها. أسفة جداً.
وخليكم عارفين أنه جاري العمل على الفصل 17، وهحاول أنزله خلال أيام أقصاها اسبوع إن كانت ظروفي تسمح بكده.
طلب صغير منكم، عايزة يبقى فيه بينا تواصل ونقاشات بخصوص الرواية، وحابة ان ده يبقى على المدونة، من فضلكم تدخلوا على المدونة وتشتركوا فيها علشان يوصلكم اشعارات بالمواضيع الخاصة بالرواية والنقاشات على كل فصل من فصولها، وعايزة كل اسبوع يبقى فيه جلسة نقاش، نتفاعل فيها ونتعرف كمان على بعض. دي حاجة بجد هتساعدني على فهم عقول القراء واحتياجتهم. وأحياناً الفصول الجديدة هتنزل عليها قبل الواتباد.
ده لينك المدونة:
https://alaatareks.blogspot.com
وده شكل الاشتراك:
شكراً جزيلاً لكم أعزائي.
سؤال الفصل: هل أنيسة محقة في إصرارها على بقاء نور في المدرسة؟
***
* اعذروني على أية أخطاء أكيد أكيد غير مقصودة.
بشكركم جداً على صبركم عليا وانتظروا الأفضل بإذن الله.
لينك الرواية على مدونتي:
https://alaatareks.blogspot.com
تابعوني على:
instagram: alaatareks
TikTok: alaatareks
x: alaatareks
متنسوش تقرأوا قصصي القصيرة الخيالية، متأكدة انها هتعجبكم