رواية المنزل
ءَالَآء طارق
الخاتمة
في جلسة عائلية دافئة، جلست سالي تحيط بها وجوه الأولاد الذين طالما أحبتهم، وبدأت تحكي لهم عن السيدة أنيسة... عن المرأة التي جمعتهم تحت سقف واحد، وغرست في قلوبهم معنى العائلة والاحتواء.
لم يكونوا يعرفون الكثير عن ماضيها، لكن سالي فتحت أمامهم أبواب الحكاية. كانت أعينهم تتسع اندهاشًا. لم يدركوا من قبل كم كانت تلك السيدة عظيمة، كم ضحّت بسعادتها لأجلهم، وكم أخفت ماضيها الحزين خلف ابتسامة رضا.
راحت فرح تمسح دموعها بخفية، بينما اكتفى حسن بنظرة طويلة إلى الأرض. جلس خالد يراقب المشهد من بعيد، وابتسامة حزينة ترتسم على وجهه، كان يقول في سرّه:
'لو أنكِ هنا يا أمي، لعرفتِ أن رسالتك لم تذهب سدى.'
وبعد أيام قليلة، وبينما كانت العائلة مجتمعة كعادتها على طاولة الطعام، تحدث حسن فجأة وقال بصوته الثابت:
"بما أنني مقبل على الثانوية العامة، وكنتم دائمًا تسألونني عن طموحي... قررت أخيراً. أنا سأقدّم على الكلية الحربية. أريد أن أكون ضابطًا في الجيش."
ساد الصمت في اللحظة الأولى، كأن الجميع يحاول استيعاب الكلمات التي خرجت من فم حسن بهدوء وثقة.
نظرت إليه منى بدهشة، بينما بدت على ملامح سالي مفاجأة ممزوجة بإعجاب، أما خالد، فابتسم بفخر حقيقي، لكنه لم يقل شيئًا على الفور.
أكمل حسن بصوت هادئ لكنه حاسم:
"لطالما شعرت أني أحتاج إلى طريق واضح، إلى هدف أكبر من نفسي... أريد أن أكون شخصًا قويًا، وفخورًا بنفسي".
نطقت منى بصدمة:
"ولكن..."
وضع خالد يده على كتف الفتى وقال بعينين لامعتين:
"ونحن سنكون فخورين بك، دائمًا... لكن الأهم، أن تكون متأكدًا من رغبتك، لأن هذا القرار سيصنع منك رجلاً جديدًا."
قالت منى بصوت خافت، وقد علا الحزن ملامحها:
"أليس هذا خطيرًا؟"
أدار حسن نظره نحوها، وعيناه تمتلئان بالغموض. لم يُجب، فقط اكتفى بنظرة طويلة.
قبل أن يطول الصمت، قطعت فرح الهدوء بصوت حماسي:
"بما أننا نتحدث عن المستقبل... أريد أن أخبركم أنا أيضًا بقراري."
اعتدلت في جلستها، ثم نظرت حولها بعينين لامعتين، وقالت بثقة:
"قررت أن أدرس في المعهد العالي للموسيقى العربية. هذا هو طريقي، وهذا ما أريده حقًا."
ثم التفتت إلى سالي، وابتسمت ابتسامة امتنان، وأضافت:
"ساعدتني سالي كثيرًا في تحديد هدفي... جلسنا وتحدثنا مطولًا، واتفقنا معًا على ذلك".
رفعت ذكية عينيها عن الصحون، وهي تضع الطعام على الطاولة، وقالت بلهجة أم حنونة:
"هذا رائع يا فرح... أنا واثقة أن لكِ مستقبلاً مشرقًا."
تدخلت سالي برقة، وهي تنظر إلى رحيم بنظرة ملؤها الحنان:
"ويبدو أن رحيم يرغب في السير على خطى فرح، لكنني أظن أننا سنضمه إلى قسم الآلات، دون شك."
ابتسم رحيم بخجل، دون أن يجيب، بينما ظهرت على وجهه علامات الفخر والسرور.
وهنا، بدأ الأولاد يتحدثون واحدًا تلو الآخر عن أحلامهم ومواهبهم، بثقة غير معتادة، فامتلأ الجو بالحماسة.
أحمد قرر أن يدرس الطب، ويحلم بأن يصبح طبيب عيون، ليتمكن يومًا من علاج نور التي ابتسمت بهدوء. أما عبدالله، فقد أعلن بكل حزم أنه يريد أن يكون مهندسًا معماريًا مثل خالد. ليان قالت بحماسة إنها ستمتهن الإعلام، لتصبح مذيعة، فيما ابتسمت ليلى وأعلنت أنها ستكون رسامة. أما أميرة، فلم تكن قد استقرت بعد على هدف بعينه، لكنها ألمحت إلى اهتمامها بمجال السياسة والاقتصاد. أما نور، فقد كانت واثقة جدًا من قرارها: ستكون طاهية ماهرة، وهذا ما تحبه بشدة.
أما الصغار، الستة، من بينهم ماريا التي أتمّت عامها الثاني منذ شهور. كانوا يتحدثون فيما بينهم بلغتهم الطفولية البريئة، محاولين مجاراة الكبار في أحاديثهم عن المستقبل.
رفعت سالي الصغيرة ماريا برفق، وأجلستها على ساقيها بحنو، ثم نظرت إلى عينيها الواسعتين وسألتها مبتسمة:
"وماذا عنكِ يا ماريا؟ ماذا تحلمين أن تصبحي حين تكبرين؟"
أجابت ماريا بصوت خافت وببراءة مطلقة:
"آكل."
ثم أشارت إلى الطعام أمامها، فقد كانت جائعة بالفعل، تحدّق في الأصناف بنظرات متلهفة. تعالت ضحكات الجميع تأثرًا بعفويتها، بينما انحنت سالي لتقبل خدها الصغير، ثم أحضرت لها ما تشتهيه من الطعام.
في تلك اللحظة، قال خالد وهو يرفع صوته قليلًا ليُسمع الجميع:
"أتتذكرون رحلة وادي الحيتان التي لم نذهب إليها؟ ما رأيكم أن تكون وجهتنا في الإجازة القادمة، كما اقترحت الدكتورة سالي؟"
التفتت إليه سالي، تبتسم بمكر خفيف وقالت مقترحة:
"لنصطحب معنا محمود وزينة، سيكونان قد تزوجا حينها."
ضحكت فرح بحماس وقالت:
"أنا متحمسة جدًا لتلك الرحلة!"
واندفع الأولاد يتحدثون بحيوية عن المغامرة المرتقبة، وتوالت أصواتهم المتداخلة والمتفائلة، فامتلأ البيت بصخب محبّب، يليق بعائلة كبيرة... وسعيدة.
جلس خالد يراقبهم بصمت ممتن، ثم نظر إلى سالي التي كانت تستمع إليهم بانتباه وسعادة صادقة. عرف في قرارة نفسه أنها لعبت دورًا كبيرًا في هذه اللحظة... بل في كل لحظة نضج فيها هؤلاء الصغار. كانت تؤمن بهم، وتمنحهم المساحة ليكونوا أنفسهم. كانت تؤدي رسالتها في الحب والرعاية والتعليم، وتفعل ذلك ببساطة مدهشة، دون ادعاء.
نظر إليها طويلًا، وكأن الزمن توقف لوهلة، وصادفت نظرتهما بعضها البعض. ابتسم كلاهما في اللحظة نفسها... ابتسامة هادئة، ممتنة، تشكر الله في السر على وجود الآخر.
***
جلست منى على سريرها في غرفتها تبكي. كان قرار حسن صادمًا؛ لم يكن هذا ما تمنّته لابنها. كانت تأمل له مستقبلًا هادئًا، مليئًا بالاستقرار، بعيدًا عن المخاطر.
سمعت طرقات خفيفة على الباب. تجاهلت الصوت أولًا، ظنًا منها أنه عابر، لكن الطرق استمر بإلحاح. نهضت أخيرًا وفتحت الباب... ولم تكن تتوقع أن تجد حسن واقفًا أمامها.
تأمل ملامحها الحزينة، وعيونها التي لم تجف بعد من البكاء، ثم قال بهدوء:
"هل أستطيع التحدث معك قليلاً؟"
تفاجأت منى. لم يسبق أن بادر حسن بالحديث معها من تلقاء نفسه. كان تواصلهما عاديًا، محدودًا، وهذه المرة الأولى التي يطلب فيها الجلوس معها بهذا الشكل... وقد كانت تنتظر لحظة كهذه منذ زمن.
ابتعدت فورًا عن الباب وقالت بلهفة، وهي تحاول ضبط صوتها:
"تفضل يا بني... أقصد، يا حسن، ادخل."
دخل حسن بهدوء وجلس على أقرب كرسي، بينما جلست هي في مواجهته، تنظر إليه بعينين يملؤهما الترقّب:
"أخبرني... هل هناك ما تحتاجه؟"
نظر إليها، ثم إلى دموعها المتبقية، وسأل بنبرة خافتة:
"كنتِ تبكين؟"
سارعت بمسح عينيها وقالت:
"لا، لا، لماذا أبكي؟"
لكن فجأة، لم تعد قادرة على التحكم في نفسها. وكأن إنكارها استدعى كل ما بداخلها من حزن، فتدفقت دموعها من جديد، وخرج صوتها متهدجًا وهي تقول:
"نعم، أنا أبكي... أنا فقط خائفة عليك، أشعر أن لا دور لي في حياتك، لا في قراراتك ولا في مستقبلك. أعلم أنني لا أملك الحق، ولكن... لا أستطيع مقاومة هذه المشاعر. سامحني يا بني، أنا أحبك كثيراً وأخاف عليك."
صمت حسن قليلًا، تأمل الفراغ أمامه، ثم قال بهدوء وصدق:
"لا تخافي عليّ. أنا لست شخصًا قد يموت بسهولة. سأفعل المستحيل لأبقى بجواركم... لكن من فضلك، لا تمنعيني من قراري. لقد اتخذته بنفسي، وأنا لا أخاف منه. أريد أن أرسم لنفسي حياة مختلفة... حياة لها هدف سامٍ، وليس هناك هدف أسمى من ذلك."
نظرت إليه منى بدهشة. بدا لها فجأة أن هذا الفتى الصغير قد كبر كثيرًا... كبر بشكل مخيف وسريع. انسابت دموعها مجددًا وقالت بصوت يختنق بالوجع:
"لكن... ستبتعد عني طوال الوقت."
ابتسم حسن بدفء، ابتسامة تحمل محبة وطمأنينة، وقال:
"سنكون على تواصل دائم... أعدك."
ولأول مرة، شعرت منى بذلك الدفء الحقيقي الذي يربط بين أم وابنها. كأن حسن أخيرًا يفتح لها باب قلبه، يعترف دون أن يقول صراحة بأنه يراها، يشعر بها، ويضعها في حساباته. لم تكن كلماته مجرد دفاع عن قراره، بل كانت اعترافًا ضمنيًا بأهمية وجودها.
ابتسمت منى من بين دموعها، ثم قالت بصوت باكٍ ممزوج بالأمل:
"حسنًا... لقد وعدتني. لا تُخلف وعدك، أرجوك. أنا لا أملك في حياتي سواك"
همس حسن بصوت خافت:
"أنا دائمًا أفي بوعودي."
كان وعدًا صادقًا من حسن لأمه... وعدًا يليق بفتى قرر أن يصبح رجلاً في زمن التحديات. رجلًا يتأهب للانضمام إلى الصفوف الأمامية، إلى الجبهة، حيث يقف الشجعان في مواجهة الخطر المرتقب.
***
تمتمت لارا وهي تغالب النعاس:
"احكي لي حكاية قبل أن أنام."
همست سالي مبتسمة:
"حكاية؟"
أجابت الطفلة الصغيرة بإصرار:
"نعم."
تمتمت سالي معلقة:
"أنتِ حقًا تحبين الحكايات كثيرًا يا لارا."
تذكّرت الطفلة فجأة وقالت:
"أنتِ لم تُكملي لي حكاية الأميرة التي نقلتها الساحرة إلى عالمٍ آخر."
ابتسمت سالي وهي تتذكّر:
"آه نعم... لنكملها."
عانت الأميرة الحالمة في العالم الجديد الذي نُقلت إليه على يد تلك الساحرة الشريرة. كانت تبحث فيه عن سعادتها، تشتاق إلى عالمها القديم... إلى الشمس المشرقة، والأنهار الجارية، والمروج الخضراء، ونجوم السماء المتلألئة في الليل.
كان العالم الجديد في عينيها باهتًا رماديًا، وكأن ستارًا قد سقط فوق عينيها. حاولت أن تزيحه بكل الطرق، لكنها لم تستطع. بحثت كثيرًا عما يشبه عالمها، لكنها لم تجد. وبدأت روحها الصغيرة الحزينة تذبل مع الوقت.
وفي يومٍ من الأيام، سمعت صوتًا مألوفًا ينساب من الأعالي. رفعت رأسها بدهشة، فإذا بها ترى نجمة تعرفها من عالمها القديم، تتلألأ كما عهدتها.
سألتها الأميرة، وعيناها تتسعان بالدهشة:
"كيف أتيتِ إلى هذا العالم؟"
أجابت النجمة بنبرة هادئة:
"أنا نجمة، ومكاني في السماء دائمًا... لا أغيب عنكِ."
تأجج الشوق في قلب الأميرة، وذرفت دموعًا صامتة. اقترب صوت النجمة وسألها بلطف:
"ولماذا تبكين؟"
حكت الأميرة حكايتها، عن الغربة التي شعرت بها في ذلك العالم الرمادي، عن افتقادها للضوء والدفء والحياة.
أجابت النجمة بصوت دافئ كالحلم:
"لا تبكي يا أميرة... فالسر كان دائمًا بداخلك."
نظرت إليها الأميرة بتعجب وسألت:
"ماذا تعنين؟"
قالت النجمة:
"لماذا تبحثين عن عالمك القديم بينما هو يسكن قلبك؟ أنتِ قادرة على صنعه من جديد، بيديكِ وبروحكِ."
"وكيف أفعل ذلك؟"
ابتسمت النجمة وأجابت:
"افعلي كما كنتِ تفعلين من قبل، عندما كنتِ حرة في عالمك الجميل. افتحي قلبكِ للحياة... ابسطي أجنحتكِ كطائرٍ صغير، وحلّقي في هذا العالم واكتشفي أسراره. اقرئي في الثقافة والفنون، كما كنتِ تفعلين. اعزفي الموسيقى، وغني الأناشيد التي كنتِ تحبينها. تأملي السماء كل ليلة، كما كنتِ تفعلين، وازرعي قلبك بالأحلام والأمنيات. تذكّري دائمًا... العالم الذي تحبينه، لا يمكن أن يُنتزع منكِ ما دام حيًا في داخلكِ."
وبالفعل، بدأت الأميرة تُحيي العالم الجميل القابع داخل قلبها. شيئًا فشيئًا، أخذت الستارة الرمادية تنقشع عن عينيها، وبدأت ترى العالم من حولها بوضوح جديد، فإذا به مشرقٌ، نابضٌ بالحياة، لا يقل جمالًا وروعة عن عالمها الأول.
حينها فقط، أدركت الحقيقة: الساحرة لم تنقلها إلى عالمٍ آخر، بل أعمت بصيرتها، وجعلتها ترى العالم نفسه بلونٍ باهت وكئيب. أما الآن، وقد استعادت نور قلبها، فقد رأت أن العالم الرائع كان موجودًا طوال الوقت، يحيط بها، ينتظر فقط أن تراه بعينيها الحقيقيتين.
وهذه المرّة، عجزت الساحرة عن سلبها عالمها، لأنه كان يسكن قلبها منذ البداية. أينما مضت، كان يرافقها، نابضًا بالحياة، لا يمكن لأحد أن ينتزعه منها أبدًا.
أنهت سالي حكايتها، ثم نظرت إلى لارا تراقب أنفاسها المنتظمة وقد غفت بهدوء. ابتسمت سالي بحنان، ونهضت ببطء كي لا توقظها، ثم اطمأنت على باقي الفتيات وغادرت الغرفة بهدوء. في الخارج، كان خالد ينتظرها، فاقترب منها وهمس:
"هل ناموا؟"
أومأت سالي برأسها مبتسمة:
"نعم... هيا بنا نرتاح نحن أيضًا."
"هيا، فـ علي قد يستيقظ في أي وقت".
وضع خالد ذراعه على كتفها، وصعد الزوجان معًا إلى شقتهما بعد أن اطمأنوا على الأولاد جميعاً، وقد ملأ قلبيهما الدفء والرضا وطمأنينة المنزل.
***